كانت الغارة اليابانية قد نتجت عن عملية خداع دبلوماسى أقل ما يوصف به هو الغدر والكذب.
فقد كانت المفاوضات الدبلوماسية دائرة بين الطرفين عبر سفارة اليابان فى واشنطن. وقبيل وقوع الغارة أبلغت السفارة الحكومة الأمريكية أنها سوف تسلمها ردا على مقترحاتها وأن هذا ارد سوف يجىء من طوكيو ويشمل 14 صفحة. وبعد ذلك تم تسليم المذكرة ولكن فقط من 13 صفحة. وبعد وقوع الغارة قالت السفارة أنها أخطأت وقامت بتسليم الصفحة الناقصة والتى يبين فيها أنه لن يوجد إتفاق. وهذه بالطبع خديعة قذرة حيث أن الحكومات لا تفعل ذلك إلا مع أعدائها وليس مع حكومات لها بها سفارات.
وبالطبع فإن موقفا كهذا يجعل الحنق الأمريكى على اليابان بلا حدود. والتاريخ ملىء بقصص الخديعة والغدر ولكن هذه المرة كانت بلا سابقة حيث أن التعامل الدبلوماسى يفترض كما فى كل الإتفاقيات حسن النية والإخلاص. وهذه الواقعة كانت بالتأكيد فى ذهن الرئيس روزفلت عندما جلس إلى مكتبه يريد وضع بيان الحرب الذى سيتقدم به فى صباح اليوم التالى إلى الكونجرس لطلب الموافقة.
والحرب بمفهوم تلك الدول لا تعنى مجرد طلاء فوانيس السيارات باللون الأزرق أو إقامة جدار من الطوب على مدخل كل منزل، بل هى حرب تتغلغل إلى كافة مناح الحياة ويتحول الإقتصاد فيها إلى إقتصاد حرب يتيح للدولة أن تفعل ما تراه مناسبا للحفاظ على ثبات الوضع العسكرى والإستراتيجى للبلاد. وهذا الأمر يعنى أن من يقوم بدفع ثمنه فى النهاية هو المواطن العادى الذى سوف يسدد ضريبتى الدم والمال.
ومنذ بدء الحرب كان الرئيس يتحرق شوقا لدخولها حتى يتيح لبلاده أن تقرر مصير العالم عقب النصر فيها. ولكن لم تكن لديه ذريعة يستطيع بها أن يبرر دخوله الحرب إلى جانب الحلفاء طبعا ضد الفاشية التى رآها خطرا يهدد الولايات المتحدة. فلو أن الفاشية قد إنتصرت لن يصبح للولايات المتحدة مكان فى عالم ما بعد الحرب لأنها مجتمع متعدد الأعراق به زنوج وبه هسبانيك ولا يمكنه أن يسير بالطريقة الفاشية التى سوف تنتج حربا أهلية جديدة. وقد كانت داخل أمريكا حركات تدفع بعدم وجود مصلحة أمريكية فى حرب أوروبية حيث أن أمريكا لا تحتاج إلى أحد وهذه الحركات كان أهمها حركة أمريكا أولا.
وحركة أمريكا أولا هذه كانت ممثلة فى عدد من الولايات وكان لها كثير من الأنصار من أهمهم الطيار الأمريكى الذى كان أول من عبر الأطلنطى بطائرته تشارلز لندبرج. وكان يغلب عليها الطابع الجمهورى إلا أن بعض الديموقراط كانوا أيضا من المنضوين تحت لوائها. وظلت هذه الحركة عالية الصوت مناوئة صريحة لموقف الرئيس روزفلت إلى أن وقعت واقعة بيرل هاربور مما أفقدها سبب وجودها.
وتتجلى عبقرية هذا الرجل فى طريقة علاجه للموقف فى ذات يوم الغارة. إذ أنه ظل محتفظا بهدوئه الخارجى رغم هول ما جرى للقوات المسلحة الأمريكية التى تعد فخر البلاد. وقد شرع فى كتابة الخطاب الذى سيلقيه فى اليوم التالى أمام مجلسى الكونجرس ثم عرضه على وزيري الخارجية والدفاع وأبدي كل منهم إعتراضه على الأسلوب حيث أنه قصير للغاية وليس به أي تفاصيل عن خلفيات الخلاف بين الولايات المتحدة واليابان إذ كان كل منهما يرغب فى خطاب تبريري يعرض لتاريخ الخلاف على طريقة القانونيين. إلا أنه بعد أن وعدهما بتعديله غير فيه جملة واحدة جاء في تعديلها أن اليوم سوف يدخل التاريخ بصفته أحد أيام الخزي infamy. والمقصود هو الخزي على الجانب اليابانى حيث أن تصرف الحكومة اليابانية لم يكن متفقا مع أي مبدأ يمكن القبول به. ولكن روزفلت تركها هكذا مفتوحة لكي يفهمها كل على هواه. فمن الخزي أن تكون الولايات المتحدة على هذا القدر من الضعف وعدم الإستعداد. ومن الخزي أن تخدع السفارة اليابانية الخارجية الأمريكية بهذه الطريقة. ومن الخزي كذلك أن يكون رد فعل الجنرال ماك أرثر هو اللا عمل رغم تلقيه تحذيرا واضحا من حكومته بشأن الفليبين التى كان يقود القاعدة الأمريكية فيها.
وهكذا خرج البيان الرئاسى أمام الكونجرس مقتضبا لا يزيد عن 7 دقائق قال فيه أن الولايات المتحدة قد تعرضت لعدوان بحرى وجوى بدون أى إستفزاز من جهتها وأن الرئيس قد وجه القوات المسلحة لرد العدوان بكل الطرق الممكنة وهو يطلب من الكونجرس الموافقة على ذلك. ولم يفسح المجال لأى دفوع قانونية أو تفاصيل سياسية حول المفاوضات ولم يذكر الخدعة التى تعرضت لها حكومته من قبل السفارة ولم يذكر شيئا عن ضحايا العدوان ولا عن الخسائر المادية ولا عن أسباب القصور الأمريكى فى التنبؤ بالغارة.
وبالطبع جاءت هذه المهارة فى الصياغة لصالحه إذ أنها كانت ببساطتها وقصرها تناسب عقلية البسطاء من العمال الذين سيتجهون لميادين القتال بعد تجنيدهم إجباريا وتدريبهم عسكريا. وأشرف الرئيس على تحويل الإقتصاد اللأمريكى من الإنتاج المدني الذى كان عليه إلى الإنتاج الحربى بكثافة. فالولايات المتحدة لم تكن دولة غزيرة الإنتاج الحربى مثل فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا، بل على العكس كان الإنتاج الحربى فيها متأخرا جدا على قائمة الأولويات. ولهذا كان على الحكومة أن تعمل بسرعة على تحويل كافة مصانع السيارات والأجهزة وتجهيز المواد إلى أماكن لإنتاج ما يحتاجه الدفاع عن البلاد. وهذه كانت مهمة جيمس بيرنز الذى بدأت به هذه الملاحظات فى منصبه كرئيس هيئة إعداد الدولة للحرب.
وتعاطف الناس مع فكرة الثأر من اليابانيين وأصبح المجهود الحربى محل ترحيب من كافة الطبقات وانتهت حركة أمريكا أولا من الوجود مما أضعف الحزب الجمهورى الذى كان شبه محتضنا لها. واحتفظ الحزب الديموقراطى بالبيت الأبيض لمدة 20 عاما متصلة حتى جاء الرئيس الجمهورى آيزنهاور عام 52 ولم يحمله إلى هذا المنصب سوى أداؤه كقائد عموم القوات المتحالفة فى أوروبا.
أما عن كيفية إلقاء الخطاب أمام الكونجرس فقد كانت معاناة وقوة إرادة من الرئيس حيث أنه حرص على المشى على ساقيه من مكان جلوسه إلى المنصة ليلقى الخطاب وجاء ذلك بمساعدة إبنه ضابط البحرية. ولكنه لم يستقل الكرسى المتحرك بل إتكأ على العصا وعلى ذراع إبنه. ولعله أراد بذلك التلويح بأنه ليس رئيسا ضعيفا وأنه قد قبل التحدى اليابانى وأنه أهل له.
والواقع أن روزفلت كان سعيد الحظ جدا بخصومه السياسيين. فقد كان متفوقا عليهم رغم مرض شلل الأطفال الذى اصابه فى منتصف العمر وأقعده عن الحركة. وقد كان ذكاؤه وقوة ملاحظته وبعد نظره وقدرته التحليلية عوضا كبيرا عن القدرة عن الحركة. كما أنه كان يحسن الحديث ويجيد إجتذاب السامعين. أما خصومه فلم يكنوا على مستواه العقلى والثقافى والفكرى ولم تكن لهم بصيرته النافذة.
وحركة أمريكا أولا هذه هي خير دليل على ضعف هؤلاء الخصوم وتدنيهم فى مواجهته. فقد كان أحد زعمائها هو السيناتور جيرالد ناى الذى كان يخطب فى كل مكان مناديا بأن الحرب العالمية القائمة فى أوروبا ليس لأمريكا فيها لا ناقة ولا جمل. (شىء مشابه لذلك قال به شيخ الأزهر وقتها الشيخ المراغى عن مصر، مع أن الحرب كانت تدور على أرض مصر ومحل التصارع كان هو بالضبط حيازة مصر)!!!
ومساء يوم ضرب ميناء بيرل هاربور كان هذا السيناتور على موعد مسبق لإلقاء خطاب من خطاباته النارية على جمع من المواطنين. وعندما أخبره أحد الصحفيين بما حدث فى صباح اليوم نفسه لم يلق إلى ذلك بالا واستمر فى خطابه المعادى لدخول أمريكا الحرب وكأنه لم يسمع شيئا !!!
وهذه هى نماذج الغباء السياسى التى كانت أمريكا تعيشها فى زمن فرانكلين روزفلت، فكيف لا يبزهم جميعا ويصبح هو الأقوى طوال 12 عاما قضاها فى السلطة؟
وقد كان كما رأينا سياسيا يستغل كل شىء لخدمة ما يريد أن يصل إليه. فالقبض على اليابانيين هو إجراء غير دستورى ولكنه لجأ إليه. ومحاولات إختراع قصص حوادث قصف بالغواصات لسفن أمريكية مع إدعاء أن تلك الغواصات هى قطع بحرية ألمانية ليبرر دخول الحرب هى أيضا مما لجأ إليه. (كان هذا هو سبب دخول أمريكا الحرب عام 1917 متأخرة 3 سنوات عن بدايتها وربما لذلك لم تحصل على أى مركز ممتاز بعد تلك الحرب.
إلا أنه قد خطا خطوة أبعد من ذلك كثيرا فى الحصول على ما يريد. فهو قد تعاون مع المافيا الإيطالية أو سمح بالتعاون معها من جانب الحكومة الأمريكية لسببين يتعلقان بالحرب ذاتها.
السبب الأول هو تأمين ميناء نيويورك من المحاولات التخريبية التى كان يفترض أنها سوف تقع.
والسبب الثانى هو خفض خسائر القوات الأمريكية عند إنزالها على سواحل صقلية عام 1943
↧
3- Little Boy and Fat Man
↧