فالدولة هى الحارس الحقيقى لمصلحة المواطن فى أوروبا، أو على الأقل نظريا.. وحرص المواطن على وجود الدولة نابع من خبرة طويلة مع الدولة – على الأقل فى حربه ضد تسلط الكنيسة فى القرون التى سبقت الثورة الفرنسية. فالدولة مهما بلغ من تسلطها وجبروتها فهى أرحم مرات عديدة من تسلط الكنيسة الذى كانت تمارسه حتى منتصف القرن الثامن عشر. هذا من ناحية التاريخ.. أما من ناحية التنظيم فإن المواطن الأوروبى معتاد على وجود جهة ما يذهب ليعترض لديها على ما يحيق به من مظالم، أى معتاد على وجود القضاء.. والقضاء لابد له من دولة تحميه وتنفذ أحكامه.. كذلك فإن مستودع الخبرة الذى تملكه الدول الأوروبية كان دائما هو حائط الصد ضد كل ما حاق بتلك الدول من مخاطر..
ففى عام 1989 سقط حائط برلين وأصبح فى إمكان 17 مليون من سكان ألمانيا الشرقية السفر بسهولة إلى الغرب.. وبالتالى نشأت حركة هجرة مكثفة أخافت الحكومة الألمانية من إمكانيات تصاعدها وبالتالى كان من مصلحة ألمانيا أن تتوقف تلك الحركة ولكن عن غير الطريق الأمنى البحت، فالدستور يعتبر مواطنى ألمانيا الشرقية مواطنين ألمان لهم نفس حقوق وواجبات المواطنين فى الغرب.. فما هو الحل الذى إهتدى إليه مستودع الخبرة الغربى؟
جيّش الغرب أسطولا هائلا من سيارات النقل يفوق الأرمادا لكى ينقل إلى الشرق فورا كل البضائع الجذابة التى توجد فى الغرب وأقامت البلديات أسواقا مؤقتة فى الساحات والأماكن المتسعة لبيع المنتجات التى كان الشرقيون يتوقون شوقا إليها..فانقطع سيل الهجرة حيث أصبح القيام بها غير مجد. وفى غمرة حماسى أنا شخصيا ودهشتى مما يجرى سألت أحدهم عما إن كان ذلك الوضع سوف يفضى إلى نقص فى إمدادات الغرب من الغذاء كالدقيق مثلا أو السكر أو اللحوم، فضحك صاحبى وقال لى أننا لدينا دولة قوية وحسنة التنظيم وسوف تنجح فى ضبط الأمور فلا تخش شيئا ولا تشتر بغرض التخزين فكل شىء موجود وسيظل موجودا.. ومضى فى طريقه ربما ضاحكا من سذاجتى..
وصاحبى هذا لا يعمل فى الدولة ولا هو عارف بأى معلومات داخلية أو حتى عامة ولكنه يثق فى قدرة الدولة التى يدفع لها الضرائب لكى تؤدى مثل هذه المهام..
وواقع الأمر أن مظاهرات ألمانيا الشرقية كانت مظاهرات طعام، فرفوف المحلات كانت قد أصبحت شبه خاوية قرب النهاية وكان الإقتصاد قد قارب نقطة التوقف عن الحياة، إلا أن مستودع الخبرة الغربى قاد الإنتقال بهدوء بحيث لم يشعر أحد أنها مظاهرات طعام..
كذلك فإن الدور التمويلى للدولة فى أوروبا أقوى منه كثيرا من الدور التمويلى للدولة فى أمريكا مثلا.. فالقطاع المصرفى المملوك للدولة متوغل فى الحياة الإقتصادية الأوروبية توغلا عميقا، بل أن الدولة تملك مثلا أسهما فى شركة فولكس فاجن، وتعطى الدولة مساعدات لمالكى المنازل والشقق حتى تساهم فى إتساع رقعة الملكية حفظا للسلام الإجتماعى، فمن يملك بيته يصبح له مصلحة فى الحفاظ عليه وعلى النظام الديموقراطى المسالم الذى لا يسعى إلى الحروب..
والدولة تحدد المسار التمويلى عن طريق البنك المركزى وتحديد سعر الفائدة وبالتالى التحكم فى التضخم وفى كمية النقد المتوافر بالاسواق، ومحاربة التضخم هى مهمة من مهمات البنك المركزى الأوروبى وليست مهمة من مهمات مجلس الإحتياط الفيدرالى فى الولايات المتحدة.. والدولة ضامنة لصندوق المعاشات العمومى كما هو الحال أيضا فى مصر..
أما ما لا تفعله الدولة الألمانية – خلافا للدولة الفرنسية – فهو فتح الطريق إلى الأسواق العالمية أمام المنتجات الألمانية فالمذهب الألمانى يعتبر أن ذلك من فضائل السوق الحر حيث أن البضاعة الجيدة تفرض نفسها..
والدولة هى محتكرة القوة وحمل السلاح حيث أن النظام فى أوروبا لا يسمح بالتوسع فى حمل السلاح على غرار النموذج الأمريكى.. وهذا يجعل من الدولة مسئولة عن تنفيذ القانون والأحكام حتى لا تسود العدالة الخاصة بالقبضة الذاتية.. وهذه كلها منافع عامة توفرها الدولة وهى منافع أضحت ركيزة للإقتصاد الوطنى يصعب تصور الحياة بدونها.. ولهذا فالدولة فى أوروبا تتمتع باحترام وتقدير يصل لعنان السماء..
ولدينا فى الوطن العربى حالة فريدة من نظام الدولة.. فالدولة لدينا لا تزال على حالها كما كانت منذ مينا أو بختنصر أو حمورابى، فهى دولة شخص.. إن كان الشخص جيدا تكون الدولة كذلك وإن كان سيئا فلا مناص من تحول الدولة إلى الشر، وهذا هو الحال الغالب فى كل الأقطار العربية..
كما أن صلة المواطن بالدولة ضعيفة للغاية وفى بعض الأحيان منعدمة.. فحتى وقتنا هذا لا يزال يوجد أفراد من الشعب المصرى لا تعرف عنهم الدولة شيئا، فهم غير مسجلين ولا معروفين لجهاز الدولة بل وبعضهم بلا شهادة ميلاد..
والمواطن عندنا تربى على ألا يتوقع أى خير من الدولة.. فلا يأته منها سوى الخراب أوالمتاعب..
ورغم قدم الدولة فى مصر قدما يضرب فى عمق التاريخ، إلا أن الدولة المصرية كانت دائما مرتبطة بالقهر الضريبى والبوليسى.. ولم يبدل حالها كثيرا محاولات التحديث التى قام بها محمد على وإسماعيل ولا المحاولة التى قام بها شباب ما بعد ثورة عرابى عندما أمسكوا بالسلطة فى فترة ما بعد ثورة 1919. صحيح أنها أخذت الطابع الأوروبى من تقسيم للسلطة إلى تشريعية وتنفيذية وقضائية ولكن لم تكد الدولة تمسك زمام الحكم كاملا بنفاذ معاهدة مونترو فى عام 1949 حتى دب حال قريب من الفوضى.. فتعرض مصر للمؤثرات الخارجية أدى مبكرا إلى قيام حزب شيوعى تزامن مع إنشاء كل من جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الفاشية المصرية.. وكانت الجامعات والمدارس والمصانع مسرحا لهذا التطاحن بين الأحزاب مما أفضى إلى إنقلاب 1952 وحكم العسكر على الطريقة المملوكية والذى إستمر حتى اليوم.. وكان كل جناح من هؤلاء يحاول فرض نظريته عن طريق هذه المؤسسات التعليمية أو الإنتاجية.. وقد كتب توفيق الحكيم رجل القانون يوما أن كل الدول قامت حتى الآن إما على قوة العسكر وإما على قوة الدين.. والطريق الثالث الذى يقوم على حكم القانون لم تعرفه مصر حتى اليوم.. وهو ما تحاول مصر العثور عليه فى مجهود لم يكلل بالنجاح.. وهذا الطريق لا يزيد عمره فى كل العالم عن 300 عاما على أقصى تقدير بقيام ثورة كرومويل فى إنجلترا أولا ثم ثورة أمريكا وثورة فرنسا..
وبناء الدول ليس أمرا سهلا لأنه يتطلب جهدا كبيرا فى البداية ثم حفاظ على المسار لمدة طويلة حتى يعتاد الناس.. وفى البداية لابد من كثير من القسوة حتى لا يخرج خارج عن سلطة الدولة.. وهذه التجارب قامت بها كل الدول فى مرحلة الإنشاء..
كذلك لابد من وجود إرادة حديدية ورؤية مستقبلية وقلب لا يعرف التردد.
وقد شاهدت مرة على إحدى الفضائيات شابا مصريا لا يزيد عمره عن 28 عاما يقف فى ميدان التحرير زاهيا بنفسه ومباهيا بقوته صائحا أمام الكاميرا بكل ثقة: "نحن نريد هدم الدولة لكى نعيد بناءها من جديد" !! وهذا الشاب لا يعرف عم يتحدث وفى الغالب هى كلمات سمعها من غيره ويرددها كالأحمق.. فلا هو متعلم من الأصل أى تعليم يسمح له ببناء أى شىء، ولا أعتقد أنه حتى يحسن كتابة جملتين بلغة سليمة، وهو غالبا لم يعمل فى حياته من قبل وليس لديه أية خبرة فى الحياة... با أننى أزعم أنه لم يقرأ سطرا واحدا فى تاريخ مصر أو أى تاريخ.. لكنه نزق السباب الذى يجعله يهذى بتلك الكلمات الكبيرة مقاسا ومعنى..
والدول جميعها تحارب بشدة حالات الفوضى حتى لا تمتد فى الزمان.. فامتداد حال الفوضى فى الزمان هو خطر شديد للغاية لأن الناس لا تريد بعد ذلك العودة إلى منازلها أو أعمالها.. فحالات الثورة لها سحر خاص تماما كحالات الأجازة، ولا يريد كثيرون لها أن تنتهى.. وكل الدول الديموقراطية التى تقوم على الحرية لا ولم ولن تسمح لهذه الجماعات بأن تنشر هذه الأفكار عن هدم الدولة.. حتى فى روسيا بعد الشيوعية عندما تحول المجتمع بأسره من النظام الشمولى إلى النظام المتعدد لم يقل أحد بأن هدم الدولة هو هدفه.. فالذى يهدم هى الحكومة وليس الدولة كتنظيم لا علاقة له بشخص الجالس على الكرسى الأعلى..
وألمانيا التى عانت من أمثال هذه الدعوات فى الستينات والسبعينات – رغم خفوت صوتها وعدم شعبيتها وانعدام أثرها على حياة الناس – حاربت تلك الجماعات بمنتهى الشدة وقصمت ظهرها بلا هوادة.. فالمصلحة العليا للناس تقع فى الحفاظ على تنظيم الدولة مع إنشاء نظام يكفل تعبير الحكومة عن إرادة الشعب الذى يقرر فى حرية ودون مؤثرات سببها لقمة العيش مثلا..
↧
3- الدولة وسنينها
↧