Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all 560 articles
Browse latest View live

صناعة السفن / حكاية مدينة

$
0
0

 

تأليف : محمـد السويسي

تعتبر مدينة طرابلس الفيحاء  أهم مدينة في التاريخ القديم والمتوسط في صناعة السفن الحربية والتجارية التي كانت تعتبر سراً صناعياً أخذه الفنيقيون عن أهل طرابلس في صنع مراكب الصيد قبل خمسة الآف عام ثم طوروه لبناء سفن حربية ضخمة وتجارية كبيرة .

ورغم أن مواقع الفنيقيين التجارية امتدت على معظم مرافىء البحر المتوسط ، من كيليكيا حتى بلاد المغرب العربي ،  إلا أنهم ظلوا على صناعة سفنهم في مدينة طرابلس اللبنانية نظراً لبراعة أهلها في هذه الصناعة ، كما زيادة في الحرص على عدم كشف سر تصنيعها إن شاعت في اكثر من مرفأ ، بالإضافة لتوفر المواد الأولية فيها التي سآتي على ذكرها في السياق .

لقد اكتشف الفنيقيون سر صناعة السفن الطرابلسية بالصدفة لدقة ملاحظتهم وذكاءهم . إذ كان مرفأ طرابلس أحد أهم محطاتهم التجارية في البحر المتوسط لشراء ونقل البضائع المختلفة من الأقمشة والسمون والزيوت والعسل وحرير القز والمواشي المختلفة والجمال والخيول .

عدا الحمضيات والفواكه ، حيث كانت تشحن الى مرافىء سوريا وتركيا ومصر،  التي اشتهرت بها مدينة طرابلس الفيحاء  بسهولها الممتدة من الميناء حتى الرفاعية وحتى أطراف المنية والبحصاص .

ولكن مع ازدهار الصباغ الأرجواني من أصداف الموريكس ، الذي اكتشفه الفنيقيون وبرعوا به وأصبح له سوقاً رائجة في بلاد الرومان الذي انحصرت صباغته بثياب النبلاء الحريرية نظراً لكلفته العالية .

 اخذ الفنيقيون يتوسعون في البحث عن أصداف الموريكس على طول الشاطىء اللبناني ، خاصة في مدينة جبيل التي اتخذوا فيها قلعة  ووضعوا حامية عسكرية داخلها لحماية الباحثين عن هذه الأصداف وتجميعها ضمن القلعة .

ومع توطنهم في مدينة جبيل اتجهوا الى طرابلس للبحث عن مزيد من أصداف الموريكس عند شواطئها فاحتاجوا الى عدة مراكب صيد  صغيرة استأجروها للغطس بحثاً عن الاصداف .وقد فوجئوا بهذه المراكب ، إذ بدت وكأنها مصنوعة من قطعة واحدة من الخشب لعدم وجود اي فواصل داخلها او مادة صمغية من القطران أوالقار الاسود لمنع النش أو تسرب المياه لجوفها .

 ومع ذلك فقد كانت جافة تماماً من داخلها بما أثار عجبهم فشرعوا يبحثون عن سر ذلك . إلا أن أهل طرابلس كانوا حريصين على عدم فضح سر صناعتهم ، إذ كان الساحل السوري بأكمله حتى فلسطين بما فيها غزة يشتري مراكب الصيد من طرابلس نظراً لمتانتها  وحسن صناعتها وعدم تسرب المياه اليها .

لم يهدأ بال الفنيقيين بحثاً لمعرفة سر صناعة سفن الصيد  الطرابلسية ، إلا انهم شكّوا بأن تكون مصنعة من تجويف لإحدى انواع الشجر الضخم المجهول لديهم ، فأوصوا على سفينة تجارية كبيرة لنقل البضائع استلموها بعد عدة اشهر في عرض البحر  ليفاجأوا ايضاً بأنها مصنوعة بنفس مواصفات المراكب الصغيرة دون اي فواصل فيها او مادة صمغية داخلها مما زاد من دهشتهم لاستحالة وجود أشجار ضخمة بهذا الحجم لتجويفها ، ولتتأكد شكوكهم إثرها بأن هناك سرٌ ما وراء تصنيع هذه السفن السحرية ، خاصة وأنها كانت تتميز بصواريها الخشبية المتينة الصلبة  الرنانة كما وسورها اللماع .

عندها عرضوا الشراكة على صاحب مصنع هذه السفن بأن يشتروا كل إنتاجه السنوي دون انقطاع  ، من مراكب صيد صغيرة وبواخر كبيرة  بربح وفير ، شرط أن يسمح بمشاركة مجموعة من عمالهم بصناعة هذه السفن لتسريع العمل والإنتاج ، ودفعوا له خمسة الآف ليرة ذهبية مقدماً كعربون شراكة فوافق على الفور .

ليتبين لهم من خلال العمل  سر صناعة هذه السفن وليبدأوا بالإنتاج الوفير حيث أقاموا حوضاً جافاً ضخماً غرب مرفأ طرابلس الحالي مقابل جزيرة عبدالوهاب ليرتفع عدد العمال الى ثلاثمئة عامل لتبلية طلبات اليونان ومصر وسائر مدن البحر المتوسط للسفن التجارية  ومراكب الصيد الصغيرة بعد أن تعرفوا الى متانتها  .

ومع ازدهار صناعة السفن في طرابلس عمت شهرتها الآفاق ليرتادها  التجار وتزدهر تجارتها وخاناتها لاستقبال الزائرين والسياح والمهاجرين من مختلف الأمصار والبلدان القريبة والبعيدة مما زاد من ثراء سكانها مع لطف هواءها ومناخها وتوفر الغذاء فيها .

وقد عمت شهرتها في صناعة السفن حتى العهد الأموي حيث أوصى معاوية لشراء مئتي سفينة حربية من طرابلس فازداد عدد العمال بما يتناسب والتسريع في انتاج هذه البواخر ليتم تسليمها  الى الامويين خلال ثلاث سنوات تم ارسالها تباعاً الى مرافىء اللاذقية وطرطوس وجزيرة أرواد حيث انطلقت جميعها نحو بيزنطية لتنتصر على الروم في معركة ذات الصواري في العام 655 ميلادية ليصبح العرب سادة البحر على معظم الساحل الشرقي للبحر المتوسط .

ظلت صناعة السفة  التجارية والحربية سراً لدى الطرابلسيين في مقاومة تسرب المياه الى حين بدء حملة إبراهيم باشا منطلقاً من مصر نحو بلاد الشام غازياً في العام 1831. وكان همه الاول عندما وصل إلى طرابلس هومعرفة سر بناء السفن الطرابلسية .

 إذ كان والده محمد على باشا والي مصر قد انشأ قبل أعوام ترسانة في الإسكندرية لبناء السفن الحربية تعويضاً عن تلك التي فقدها في معركة نافارين التي كان قد اشترى معظمها من بلاد أوروبية وبعضها من صنع  مصر . إلا ان شهرة متانة السفن الطرابلسية جعلته يهتم بالأمر ويوصي ابنه الإستعانة بالطرابلسيين ومعرفة سر صناعتهم لهذه السفن .

بالفعل فإن ابراهيم باشا جاء خصيصاً الى طرابلس مع مجموعة من صناع السفن المهرة على رأس قوة عسكرية حيث اقتحموا موقعاً لصناعة هذه السفن . وبعد التحقيق اكتشفوا سر صناعتها  ، الذي احتفظ به الطرابلسيون لآلاف  السنين ، ليتبين أنها  كانت تصنع من أخشاب  شجرالسنط ، اي من شجر الجميز الضخمة التي كانت تزرع عند مداخل الميناء والمنية وباب الرمل والبداوي وشارع رياض الصلح ، الذي لازال يعرف حتى الآن بشارع الجميزات . وقد بلغ عدد أشجارالجميز  وقتذاك اكثر من ثلاثة آلاف شجرة . أما الصواري ودرابزين السفن التجارية والحربية والصواري فكانت تصنع من شجر الأرز الذي لايتأثر بملوحة البحر وكذلك خشب السنط .

وميزة أخشاب شجر السنط انها إذا رُبطت قطعتين منها  ونقعت في  الماء لعدة ايام فإنها تلحم مع بعضها وتتعشق بحيث تصبح قطعة واحدة لايمكن فصلها ، وبالتالي لايخترقها الماء .

وكان الطرابلسيون  يصنعون سفنهم من خشب السنط ثم يغطسونها بأكملها في بركة ماء  ضخمة  لعدة ايام لتلتحم ألواحها مع بعضها ولتصبح السفينة وكأنها قطعة واحدة  دون حاجة لأي مادة صمغية تطلى بها من الداخل .

ومع معرفة إبراهيم باشا بهذا السر الذي نقله الى مصر، أمر باقتطاع جميع اشجار الجميز من طرابلس والمنية وحمّلها بالبواخر الى مصانع الإسكندرية البحرية كما اقتطاع الآف أشجار الأرز من أجل صناعة الصواري لسفنهم .

ورغم ذلك فقد ظلت طرابلس على صناعة سفنها مواكبة التطور الحديث الى حين مرحلة الإستقلال حيث أهملت الدولة المدينة وبالتالي الحوض الجاف الذي كان بها لتتوقف هذه الصناعة إلا من سفن الصيد الصغيرة وبالتالي اختفاء أشجارالجميز منها نهائياً .

 

 


قصة ابن الخواجة

$
0
0

محمد بن إسماعيل المقدم

بسم الله الرحمن الرحيم

(1)

كانت البداية في أواخر القرن التاسع عشر.. كان الخواجة إبراهيم أفندي عبد الملك يعيش في منزله بحي الظاهر بالقاهرة.. ومن حوله أسرة كبيرة العدد من الأقرباء والأصهار.. فقد كان التقليد المتبع في تلك الأيام هو أن تتجمع الأصول والفروع في مساكن متقاربة.. تأصلت هذه العادة في القطر المصري وفي غيره من الأقطار العربية المجاورة.. وكان يميز حي الظاهر بأنه كان يسكنه أسر الناس القدامى في مصر.. وكان الخواجة إبراهيم عبد الملك يسكن منزلاً متوسطاً رقم 72 شارع الظاهر.. وكان لقب الخواجة حينئذٍ يطلق على وجهاء الأقباط ورجال الأعمال.. ومن هؤلاء كان إبراهيم أفندي عبد الملك الذي احترف تجارة الجملة والوكالة بالعمولة.. وكان قد اتخذ مقراً تجارياً بحي الجمالية يقضي به يومه كله.. فهو مشغول دائماً بأعماله الكثيرة لكسب رزقه ورزق أسرته الكثيرة العدد.. وهو لا يستقر في داره إلا يوماً واحداً هو يوم الأحد.. وفي هذا اليوم من كل أسبوع كان أفراد الأسرة كلهم يجتمعون إلى مائدة الغذاء بعد عودتهم من الكنيسة.. حتى الذين يقيمون في القاهرة بعيداً عن حي الظاهر كانوا حريصين على حضور هذا الاجتماع العائلي الدوري حرصهم على أغلى ما يملكون.. وكان الخواجة إبراهيم عبد الملك قد رزق بأربعة أبناء من الذكور هم بحسب ترتيب أعمارهم عبده (أكبرهم).. ونسيم وفهيم وسليم.. كما أنجب عدداً آخر من البنات اللاتي حرص على حسن تربيتهن حرصه على تعليم أولاده الذكور وإلحاقهم بالمدارس وتوفير ما يلزم لهم.. حتى اشتهر بين أقربائه بأنه رب أسرة كادح ناجح.. وكان عبده ابنه الأكبر مجتهداً ذكياً.. لم يتخلف في دراسته سنة واحدة.. حتى وصل إلى السنة الثالثة الثانوية.. التي صرفته فيها ظروف بالغة الخطر.. ترتب عليها أن تخلف للإعادة.. فكيف تخلف الطالب الذكي المجتهد عبده إبراهيم عبد الملك في امتحان البكالوريا وهو كان رمزاً للتفوق ومثالاُ يحتذى بين أقرانه؟.. ولماذا حدث ما حدث ولم يعهد عليه ضعف أو تراخٍ فضلاً عن الرسوب في الامتحان؟.. إن الإجابة على هذين السؤالين تضعنا على الطريق إلى صلب الموضوع..

(2)

كان بعض نظار الثانوية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.. كانوا يتبعون أسلوب الخلايا العلمية.. وهو أسلوب تربوي يقوم على أساس التآلف بين الطلاب .. وذلك دون تحديد عدد معين ودون محاولة الربط بين خلية وأخرى.. إذ كان القصد من ذلك هو مجرد تشجيع الطلاب على التجمع في صحبة أو مجموعة.. ليكون نشاطهم العلمي والاجتماعي أجدى من الناحية التربوية.. مما لو ترك الطالب في مرحلة المراهقة وأول النضج فريسة للوحدة في نزهته حبيساً في حجرة استذكاره بداره.. وهكذا اجتمع بقدر الله مجموعة من ثلاثة أشخاص.. اجتمع محمد توفيق صدقي .. و أحمد نجيب برادة .. و عبده إبراهيم عبد الملك.. في خلية واحدة تآلف أفرادها وانسجموا ثلاثتهم.. فانتظموا في عقد دراستهم من أول الدراسة الثانوية.. فما أن وصل ثلاثتهم إلى السنة الثالثة الثانوية.. حتى غدت أواصر المودة بينهم قوية تشد بعضهم إلى بعض.. حتى اشتهروا بين زملائهم بذلك وعرفوا بما يحملونه لبعضهم البعض من مشاعر الحب والإخلاص والاحترام.. وكان محمد توفيق صدقي أيسر حالاً من الجميع.. وتقع داره في جنينة (لاز) المتاخمة لجنينة (ناميش) بحي السيدة زينب.. وكان في الدار في المدخل من جهة اليسار منظرة (مضيفة أو غرفة ضيافة) تكاد تنفصل هي وجميع مرافقها عن البيت كله يسمونها حجرة الضيافة.. أما أحمد نجيب برادة فقد كان رقيق الحال.. كفله عمه بعد وفاة أبيه.. فلم يكن الصحب يغشون دار عمه في الحلمية إلا نادراً.. مع أن الدار كانت فسيحة على الطراز القديم ولها صحن فيه بئر ودلو.. لكنها في النهاية لم تكن دار برادة ولكنها دار عمه الذي يرعاه بديلاً عن أبيه.. أما عبده فقد كانت داره كما قلنا بالظاهر.. بعيدة عن السيدة زينب وكذلك عن الحلمية خاصة بمعايير المواصلات في ذلك العهد.. ذلك فضلاً عن وقوع حجرة عبده الخاصة في الطابق الثالث مع الأسرة.. هكذا وجد الثلاثة أنفسهم متفقين بغير اتفاق على تفضيل منظرة صدقي للقاء.. لقصد الاستذكار وما يصحبه من صخب الشباب أحياناً.. وقد زاد من كفة ترجيح هذه المنظرة قربها من المدارس الثانوية فضلاً عن المدارس العليا.. لكن الأمر لم يسلم برغم ذلك من أن الصحاب الثلاثة كانوا يغشون دار عم برادة بالحلمية أحياناً مضطرين لظرف أو آخر.. وكان في صحن الدار كما سبق بئر ودلو.. فكانوا إذا وجبت الصلاة قام صدقي وبرادة فتوضأ كل منهما بدوره ثم أقاما الصلاة.. وكان عبده من دونهما يرقبهما بعض الوقت وهما يصليان.. ويتشاغل عنهما بالنظر في أوراقه ما أتيح له ذلك.. وبتكرار هذه المواقف من وقت لآخر خلال السنتين الأولى والثانية من الدراسة الثانوية.. قام في نفس عبده تساؤل عنيف عن سلوك صاحبيه..

(3)

قام في نفس عبده تساؤل عنيف عن سلوك صاحبيه .. فقد رآهما كثيراً وهما يسعيان في اهتمام بالغ للتطهر حال سماعهما للأذان .. بل ربما قبله استعداداً للصلاة.. وهما يقفان في خشوع وخضوع مهيب أمام ربهم ثم يركعان ويخران للأرض سجداً في هيئة تدل على تمام عبوديتهما لربهما.. ثم إنهما يكرران ذلك بشكل إيماني رائع.. حتى إذا جلسا للتشهد وفرغا من الصلاة وسلما عن يمين وشمال.. أقبل كل منهما على أخيه يدعو له بقبول العبادة في محبة وود ورجاء.. فكان عبده في كل مرة يسأل نفسه ترى هل هما وفريق المسلمين على حق أم على باطل؟.. فإذا كانوا على الحق فما حقيقة دينه إذاً؟.. وإذا كانوا على الباطل فلماذا لا يصحح لهما عقيدتهما؟.. وكيف مرت الأيام هكذا وثلاثتهم يخلص لبعضهم من غير أن يناقشوا هذا الأمر؟.. وهل ساور زميليه نفس الخاطر الذي يساوره الآن فمنعهما الحياء؟.. فإذا كان ذلك كذلك فلماذا لا يبدأ هو بالحديث معهما؟.. وتشجع عبده فأفضى إليهما بقلقه من وجود خلاف بينهم كجماعة متحابة متماسكة في أمر جوهري كهذا؟.. وبخاصة أن هذا الخلاف لم يكن باختيار أحد منهم.. وإنما وجدوه بينهم بحكم التوارث فحسب.. فهو مثلاً لا يفعل كما يفعلون لأنه جاء إلى هذه الدنيا من أبوين يدينان بالنصرانية.. ولو أن أبويه كانا من أسرة مسلمة لما وجد هذا الخلاف.. ثم إنهما كذلك لا يذهبان إلى الكنيسة في يوم الأحد .. ولا يفكران في شيء من ذلك لأنهما ولدا في أسرتين مسلمتين ولو أنهما وجدا في محيط نصراني لما وجد هذا الخلاف.. قال عبده: ليس هذا ما ينبغي أن يكون عليه الشأن بين إخوة جمعهم رباط العلم وملأ قلوبهم مشاعر الحب والصفاء.. وإنه لمن الإخلال بواجب المودة الخالصة من الشوائب الموجودة بيننا أن تستمر الحال هكذا على ما بيننا في هذا الأمر الهام من خلاف.. فلا بد أن يكون زميلاي مخدوعين أو أن أكون أنا جاهلاً بما يؤمنان به.. نهض عبده من مجلسه وتقدم قريباً من البئر.. وتبعه صاحباه ينظران ما شأنه.. فقال أرياني كيف تفعلان؟.. وأعيناني كما تفعلان في رفع الماء من البئر وصبه على أطرافكما وهل لذلك قواعد وأصول عندكما؟.. فأجاباه إلى ما طلب وهما يعجبان مما فعل.. وأجرى عبده الماء على يديه ووجهه وذراعيه ورأسه وقدميه في تجربة بدائية.. لم يكن يستهدف منها إلا الوقوف على شيء غامض في داخله.. وربما وجد إجابة للسؤال الذي يحيره منذ حين.. وهو ما حكمة صب الماء على أطراف الجسم مع التكرار؟.. ولاحظ عبده من التجربة أن أول الآثار التي أصابته من جراء صب الماء على أطرافه أنه أحس بنوع لذيذ من الانتعاش واليقظة والانتباه ملأه ابتهاجاً وثقة بالنفس.. فعاد يسأل هل سبب ذلك الانتعاش وتلك الثقة هو ما أراه بعيني الآن من نظافة يدي ومنافذ وجهي وطهارة رجلاي وطيب رائحتهما.. إن في الأمر سراً خافياً عليه لا يزال .. لكن ما صنعه ليس مجرد عبث صغيرٍ كما كان يراه من قبل.. وإنه ليرى من وراء هذا الصنيع بعض المعاني الكبيرة التي لا يحزبها عنه أو يحزبه عنها إلا جهله بهذا الدين الإسلامي.. فطلب منهما أن يحدثاه عن حكمة الوضوء وأركانه وسننه ونواقضه.. وعن حكمة القيام والقعود والسجود وتكرارها.. ولم يكن صاحباه في هذا السن على قدر واسع من الإحاطة بفقه دينهما مما جعلهما يدركان بأنهما ليسا في منزلة تؤهلهما لإجابة شافية لسؤاله.. وقد أحس هو بذلك حين سكتا.. فقال: أنتما مقلدان وأنا مقلد.. ولا خير فينا جميعاً مالم ندرك فائدة وحقيقة ما نختار.. فهلا تعاهدنا جميعاً على البحث في حقائق الدين وأسباب الخلاف الذي نحن فيه.. برغم ما نحسه جميعاً من حب وود يجمعنا.. فكان العهد الوثيق الذي أخلص له كل من عبده وصدقي بصفة خاصة إخلاصاً صرفهما معظم أيام السنة الدراسية عن دروسهما.. أما برادة فأقتصد في الوفاء بهذا العهد لأنه كان يرى أن حاجته الكبرى كانت في اختصار الضيافة التي فرضتها الأحداث على عمه..

(4)

وهكذا استغرق عبده وصدقي في الاطلاع دون برادة في الاطلاع على ما وصلت إليه أيديهما .. من المراجع والكتب الباحثة في الدين وفروعه .. على حين توقف الثالث على كتبه دون كل شيء.. ليس غريباً إذن أن نرى برادة وحده يحصل على شهادة البكالوريا في ذلك العام على حين تخلف عبده وصدقي للإعادة.. وذلك بسبب انشغالهما بالبحث في الدين.. لا بد أن هذه الظاهرة المفاجئة لكل من عبده وصدقي قد أثارت الأقاويل والشبهات حولهما.. بل إن الأهل قد تهامسوا فيما بينهم بأن عبده وصدقي قد انحرفا وغلبت عليهما الأهواء.. وجد صدقي أن ثقافته في الدين ليست إلا قشوراً.. وشعر بأن وصف عبده له في البداية أنه مقلد هو أقل ما يقال في حقه.. فتعلق بدراسات شتى تقربه من معرفة دينه.. وبدأ يهتم بأخبار ندوات العلوم الدينية ومجالسها والمحاضرات العامة وأماكنها.. فنشأت بينه وبين فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله علاقة زادت مع الأيام ثباتاً وعمقاً.. وكان عبده كثيراً ما يصحب الشيخ في هذه المجالس ثم ينصرف بعدها إلى التأمل والموازنة بين ما حوته المراجع التي تتكلم عن الأديان من زاوية ثم غيرها من زاوية أخرى.. فدخل في مرحلة الشك من أمر اتباع دين معين لمجرد توارث هذا الدين في تتابع الأيام.. وناله من الهم ما لم يكن منه خلاص إلا بمزيد من البحث والتأمل.. وانقضى العام ونجح عبده وصدقي والتحقا بمدرسة الطب .. وزاد اقترابهما من شدة تمسكهما بالوفاء بعهدهما .. على حين قد سار برادة شوطاً حتى قارب نصف المسافة في دراسة القانون.. إذ كان قد التحق منذ حصوله على شهادة البكالوريا بكلية الحقوق..

(5)

لم ينفرط عقد الصحاب الثلاثة ولم يتنكر أحدهم للموثق الذي واثقوه.. وإنما اقترب اثنان منهما بحكم الزمالة في مجال واحد ومدرسة واحدة.. وفرض على الثالث أن يتفرغ لتخصص قائم بذاته.. كانت تجربة الرسوب مريرة فاعتزم الصاحبان أن ينصرفا عن كل راحة ولهو بريء.. وأن يقسما الوقت والجهد بين علوم الطب وعلوم الدين.. وتقدما من المقدمات التي تتحدث عن وظائف الأعضاء إلى ما هو أعمق في تخصصهما.. حتى حصلا على قدر من المعرفة بجسم الإنسان من دراسة التشريح.. وكان عبده بوجه خاص ينهل من المراجع العلمية.. ليروي ظمأه ويرفع غلته.. لا ليحصل على إجابة تفتح له باب المهنة والحصول على وظيفة.. بل لأنه كان يعاني من ظمأ قاتل.. لا يكسره إلا شيء من العلم بحقائق هذا الكون.. ولو في بعض ما احتواه.. كان يصعد النظر في السماء ويدور ببصره من حول هذه الأجرام.. التي يخطؤها عد الإنسان قطعاً.. ثم يرتد البصر حسيراً.. إذ تقوم بينه وبين حقائق هذه السماء الدنيا حجب من الجهل التام في فرع من المعرفة لا يستطيع أن يقترب منه.. ثم يعود إلى جسم الإنسان وقد تهيأت له ظروف الإمعان في دقائقه.. والغوص في خفاياه فيشبع نهمه إلى المعرفة هنا لعله يدرك من دراسة هذا المخلوق الذي يسمى الإنسان شيئاً لا يزال يجهله وهو قدرة الله سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان على هذه الصورة.. وقد كانت في نظره صورة مذهلة تدل على قدرة لا تحيط بها الأبصار.. وتعلقت آماله بأن يكو ن حقاً أن البصائر تدركها.. وهنا بدأ يفكر أن هذه الظاهرات المادية التي سمع عنها.. كالتجسد والميلاد وأكل الطعام والصلب.. يجوز أن تكون كلها أو بعضها مقبولة من حيث المبدأ إذا أضيفت إلى جسم الإنسان الحادث الزائل عن الوجود.. أما إضافة شيء من ذلك إلى خالق فذلك أمر يدفعه حاكم العقل بالفساد.. وتأباه الفطرة السليمة فضلاً عن القوة العاقلة المدبرة..

(6)

يقول أحمد نجيب برادة: لم يكن الإسلام بعيداً عن صاحبنا وزميلنا عبده.. منذ تفرغه لدراسة الأديان قبل اجتهاده لنيل الثانوية العامة، وأثناء دراسة الطب.. لكن دراسة التشريح نحواً من ثلاثين شهراً.. نقلته من حال إلى حال.. فقد تملكه خوف من لقاء الله وهو في جهالته وتردده بحقيقة البعث والتوحيد والثواب والعقاب.. لتعامله مع الجثث وبقائه مع الموتى.. فاجتمع إلى صاحبيه.. وقال بأنه آمن بالذي هما والمسلمون عليه.. وبأنه سيبدأ بما هو مستقر من إجراءات لتوثيق وشهر إسلامه.. فزع صاحباه من هذه العجلة.. وقالا له: استمع إلينا أيها الصديق جيداً.. أنت تعلم حبنا ووفاءنا لك.. وأننا سنخلص لك النصيحة حتماً.. وأنت الآن بينك وبين التخرج ومدة الامتياز عامان ونصف العام.. وهذا الأمر الذي أنت مقدم عليه متعجلاً .. ستكون له أثار خطيرة وشديدة على والديك وإخوتك وأهلك.. وأقل ما سيلحقونه بك من ضرر هو ضربك وطردك من البيت ومحاربتك.. وأنت بكل ذلك ستعرض مستقبلك للبوار.. وهذا الدين القويم الذي رغبت فيه يأمر بالحكمة والتعقل.. فالرأي عندنا أن تتمهل.. وأن تستخفي بدينك حتى تتخرج وتكون لك وظيفة تكسب من ورائها رزقاً.. ثم إنك في حاجة إلى مزيد من الدراسة والله يعلم صدق نيتك فيما تدعيه.. فأنت عند الله إن شاء الله من المقبولين ما دامت قد صحت نيتك.. فلا تتعجل التوثيق وشهر الدين الجديد.. حتى تكون العلانية مأمونة لك.. ورضخ عبده لهذه النصيحة.. لكنه وجد تعلقه بهذا الدين يشتد ويقوى لحظة بعد لحظة.. ويوماً بعد يوم .. وهو لا يستطيع كتمان هذا النور الذي بات يشعشع في مسامه.. وينير عقله وقلبه.. فعاد يتصرف دون الرجوع إلى صاحبيه.. حتى لا يشيرا عليه بما يكره من صبر وكتمان.. فعكف على القرآن يتلو آياته كلما وجد من الوقت فسحة وفراغاً.. وحرص أن يكون في جيبه دائماً.. وأخذ يؤدي من الصلوات ما تيسر له في خفاء خارج البيت أحياناً.. وفي حجرته داخل البيت إذا أمن على نفسه أحياناً أخرى.. ومضى عامان إلا قليلاً .. وهو يتعجل الأيام لتمضي وليتحقق حلمه.. وبدأت مدة الامتياز وهي أقل من عام.. وحل شهر رمضان..

(7)

وحل شهر رمضان.. بروحانياته وبركاته.. فاعتزم طبيب الامتياز أمراً.. وما عاد بعد الآن يستشير فيما وضح له من الحق أحداً أبداً.. كانت هناك عادة مقدسة في منزل والده إبراهيم عبد الملك أفندي وهي غداء الأحد.. الذي يتفرغ فيه الأب للاجتماع بجميع أولاده.. تخلف عبده عن حضور الغداء من يوم الأحد.. (لشهر رمضان).. على غير ما جرت به عادته وعادة الأسرة كلها.. وسأل عنه أبوه ظهراً وعصراً ومساءً.. ولكن عبده لم يحضر إلى داره إلا في ساعة متأخرة من الليل.. فقيل له إن الأسرة كلها قلقة لهذا التخلف.. وإن الظنون ذهبت بهم كل مذهب.. وكان رده أن الأعمال في قسم الاستقبال كانت كثيرة على غير المألوف والمتوقع لها.. وقد اعتذر عن الحضور زميلان له.. فقضى اليوم كله في مواجهة الحالات العاجلة التي كان ينبغي لهما استقبالهما لو حضرا.. وجاء الأحد الذي يليه.. وتوقف الخواجه إبراهيم عن أن يذوق طعاماً أو شراباً.. حتى يصل ابنه الطبيب.. وطال انتظاره له ساعات وساعات حتى غلبه النوم.. فقام إلى فراشه مكتئباً.. وقد داخله هم لا يعرف من أين أتاه.. أو هو يعرف ولكنه يناور نفسه هروباً من مواجهته.. حتى فزع بآماله إلى الكذب.. وعند منتصف الليل جاء الطبيب إلى الدار.. وعليه من آثار الإجهاد ما يظنه في نفسه شفيعاً.. واتجه إلى حجرته بخطوات متعبة.. وتبعته أمه وهي تقول له.. أين كنت اليوم بطوله يا بني.. إن أباك لم يذق طعاماً ولا شراباً اليوم.. لأنه يكره أن يكون مكانك خالياً من غداء الأحد.. وهذه هي المرة الثانية التي يتكرر فيها ذلك على التوالي.. فهلا ترفقت بنفسك وبأبيك وبنا جميعاً فيما تقبله من واجبات بسبب تخلف زملائك عن نوبات عملهم.. بل هلا رحمت أباك وترفقت به بعد أن تقدمت به السن.. وترفق عبده بأمه وهو يجيبها إلى ما سألته.. لكنها عادت تسأل وهو مرهق مجهد.. فقال لها: يا أماه.. وحشد لها من صنوف المعاذير ما يظنها اقتنعت به.. وهما لا يزالان في حوار.. وإذا بمساعده في المستشفى يطرق الباب.. ويطلب حضور الطبيب إلى المستشفى على عجل.. لوقوع حادث كبير تضاعفت بسببه الحالات لذا تعين استدعاء كل الأطباء.. وكان عبده لم يكن قد مضى على حضوره ساعة وبضع الساعة.. قضاها في حوار مرير مع أمه .. ولم ينل قسطه من الراحة ولا حتى بعضه.. ولكنه طلب من أمه أن تعينه على استبدال ملابسه ليمضي مع مساعده الذي لا يزال واقفاً بالباب.. ثم انصرف الطبيب مع مساعده ولفهما الليل.. ولف المكان سكون مبهم من ذلك النوع الذي ينبأ بقرب هبوب عاصفة قوية.. وفي الليلة الثانية جاء من المستشفى من يستدعي الطبيب عبده.. لأن الطبيب المناوب قد اعتذر فجأة.. وبعدها تكرر الطلب في جوف الليل من جديد مرة بعد مرة.. وتنوعت الأعذار.. حتى جاء يوم الأحد الثالث.. وأبوه يتابع ولا يتكلم.. فقد غشيه من الهم غاشية لا قبل له بها.. وعلى مائدة الغداء جلس ينتظر ابنه ساعات.. وبه من الهم والهواجس والشكوك مايهد كيانه ويزلزل وجدانه.. وتحامل الأب على نفسه وهو ينهض بعيداً عن المائدة فاختل.. لولا أن أعانه بنوه .. وأمرهم أن يجلسوه على مقعد مقرب لباب الدار.. وبقيت عينه شاخصة لكل قادم.. لكن ساعات طويلة مضت وهو على ما هو عليه حتى قارب الليل أن ينتصف.. وصارت الدار في سكون حزين مبهم.. وأقبل الطبيب الذي تخلف عن غداء الأحد ثلاثاً متواليات.. فألفى أباه جالساً لا يزال لدى مدخل الدار..

(8)

أقبل الطبيب الذي تخلف عن غداء الأحد ثلاثاً متواليات.. فألفى أباه جالساً لا يزال لدى مدخل الدار.. فتمالك نفسه وحياه.. ولكنه لم يرد التحية.. وبادره قائلاً: أين كنت طوال اليوم.. قال الطبيب متلطفاً: في المستشفى كعادتي يا أبي.. وساد بينهما الصمت فترة حتى تمالك الرجل نفسه.. وقال في هدوء مصطنع: إن أمرك يا بني لم يعد خافياً علي.. خاصة بعدما تكرر غيابك كل يوم أحد.. ولقد اجتمعت عندنا دلالات خطيرة عن سلوكك في العامين الأخيرين.. وهي دلالات قد أثارت في نفسي ظنوناً تكاد تقتلني حسرة على ما آل إليه أمرك.. وما صرت عليه من حال.. فهلا حدثتني بحقيقة الخبر.. وصدقتني القول.. فإني أجد الحقيقة مهما بلغ سوءها أرحم بي مما أنا فيه.. قال الطبيب الشاب: إني محدثك بالصدق يا أبي.. فما هي هذه الدلالات والظنون التي تشير إليها.. قال الوالد: كتاب المسلمين.. !! وجده الكواء في جيبك من نحو عامين.. وقد كتمت الأمر ظناً مني أنك سعود إلى صوابك ورشدك.. فتنتهي عما أنت فيه.. وها هو الكتاب فانظر إليه جيداً.. أليس هذا الكتاب يخصك.. أجب أيها الضال.. سكت الطبيب لحظة ثم قال: لا يا أبي.. الكتاب يخصني فعلاً.. فثارت ثائرة الأب لجرأته، وعاد يقول: وأخوك سليم.. لقد رآك من ثقب الباب وأنت تقوم وتقعد على غير هيئة الصلاة عندنا.. ولقد حدث أمه بما رأى فكذبته ونهرته.. لكنها راقبتك بنفسها.. وقد ثبت عندها صدق مقالة أخيك.. ألم تفعل هذا حقاً حين تخلو بنفسك في حجرتك بداري؟ سكت الطبيب وقد بدا له أن الأمر جد ما بعده جد، وعاد الأب يقول: لقد أصابني من ذلك ما لا قبل لبشر باحتماله، ولكني كنت أوثر الصمت وأحمل ذلك كله في حبك للعلم والمعرفة، حتى كان الأحد الذي مضى من ثلاثة أسابيع، ثم الذي بعده ثم هذا اليوم الأسود حين حصل غيابك اليوم كله، وتكرر غيابك بالليل، لقد ظننت أن هذا التتصرف الغريب من جانبك له صلة بهذا الشهر الذي يصومه المسلمون الآن.. والمسمى بشهر رمضان.. فهل أنت تفعل فعلهم أيضاً أم هي المصادفات؟ وفوجيء طبيب الامتياز الغارق في البحث والتطبيق العلمي والتدريب التطبيقي العملي .. بهذا الموقف من أبيه.. وما جره عليه اتخاذه القرارات بمعرفته منفرداً.. وإصراره على أداء العبادات قبل أن يستقل بحياته كما كان ينصحه صاحباه.. لكنه رأى وقد انكشف له الأمر أن قد آن له أيضاً أن يستريح..

(9)

فوجيء طبيب الامتياز الغارق في البحث والتطبيق العلمي والتدريب التطبيقي العملي .. بهذا الموقف من أبيه.. وما جره عليه اتخاذه القرارات بمعرفته منفرداً.. وإصراره على أداء العبادات قبل أن يستقل بحياته كما كان ينصحه صاحباه.. لكنه رأى وقد انكشف له الأمر أن قد آن له أيضاً أن يستريح.. وأن يفرغ من حالة القلق التي كان يعيشها منذ عامين أو يزيد.. وأن ينفض عن كاهله هذا العبء الذي أرهقه.. فأقبل على والده مشفقاً عليه وعلى نفسه وهو يقول له: لقد وعدتك يا والدي أن أكون صادقاً معك وألا أخفي عليك شيئاً مصيره إلى العلانية حتماً.. وإنما أردت أن أؤخر حديثي لك في هذا الشأن حتى تخف واجباتي في المستشفى ثم سكت لحظة عاد بعدها يقول: ولكن مادمت الآن تستعجل حقيقة الأمر فاعلم يا أبي هداني الله وهداك.. أني بالبحث الدقيق الواعي قد علمت أن هذا الدين الإسلامي هو الحق.. وأنه قد بعث نبي بالقرآن كما بعث الأنبياء قبله بالكتب.. قاطعه الوالد مستسلماً: ودينك الذي عليه آباؤك وأجدادك؟ كيف وجدته؟ وفي أي المراتب صنفته أيها المجنون العاق؟ لابد أنك قد فقدت عقلك أيضاً حين فقدت دينك، قال الشاب: أي ضير ياأبي يصيب الأديان السابقة إذا جاء دين يصحح ويتمم الذي جاءت به الأديان من قبل؟ وعاد أبوه يسأله: هل تعرف ما تتكلم عنه أيها الشيطان؟ أم أن في الأمر سراً نجهله؟ أم أنك على علاقة بفتاة مسلمة اشترطت ألا تدخل في دينها إلا إذا دخلت في دين الإسلام؟ إذا كان الأمر كذلك يا بني فترفق بي ولدينا من جميلات بنات النصارى ما يسرك؟ وكلهم عندنا طوع البنان، إن ما أحدثك فيه أمر سهل وطلبك فيه مجاز، أما أن تدعي على صغر سنك أنك قد تعلمت، ووازنت بين الأديان وهديت لما تراه الحق منها، فهذا جهل فاضح بتعاليم دينك، إن المسلمين يا بني لا يعرفون الأقانيم ولا يؤمنون بأن عيسى الرب المخلص، أبانا يسوع الذي في السماء، وهم لا يعترفون بالمسيح الحي وهم وهم وهم ... واستمر الوالد يعظ ابنه وهو يحسب أنه يجهل حقائق دينه، وصبر الطبيب برهة حتى أتم والده كلامه، وتقدم منه خطوة وقد استجمع ما تفرق من نفسه لحظة المفاجأة، وقال لوالده: والآن أرجو أن تستمع إلي ياأبتاه؟ لقد درست هذا كله وأنا في المرحلة الثانوية، ومعذرة إذا قلت لك بأن وقتك لا يسمح بالتعمق في شيء من ذلك، فأنت مشغول دائماً بكسب معاشنا جميعاً وأنا أكبر أبنائك، ولا أزال عبئاً عليك إلى وقتنا هذا، وأنا يا أبي أقدر لك جهادك من أجلنا، وأحبك لما أنت عليه من فناء في سبيل المحافظة علينا، وإن أقل ما أسديه لك من معروف ان اتولى عنك وعن إخوتي دراسة هذا الخلاف بين الأديان، وها أنا ذا قد فعلت واهتديت إلى الحق بإذن الله، وأنا كبير الأمل أن يهديك الله أنت والأسرة، فتنجون جميعاً من عذاب الله، ولست أظن أن والدتي وإخوتي يتخلفون عنك، أو يختارون طريقاً غير الذي تختار، هذا الأمل الكبير يا والدي هو الذي تعلقت به نفسي لإنني أكره أن أخالفكم إلى طريق ناجية، وأن تنتهي همتي عند إنقاذ نفسي فحسب، وإلا أكون جاحداً لفضلكم علي، وصبر الوالد ما صبر حتى انفجر في ولده الذي لم يكتفي فقط بمجاهرته بإسلامه بل تحول إلى داعية إلى دينه الجديد، وهو الذي كان يظن بفرضه الخاص أنه مجرد فرد ضل الطريق أو مجرد متهم بترك دينه ودين الآباء، وانفجر الأب في ثورة عارمة أيقظت كل من في الدار، فجاءوا جميعاً ينظرون،

(10)

ثار الأب يلعن ذلك اليوم الذي ابتلي فيه بهذا الابن الضال، الفاعل للعقوق والعصيان الجريء في ضلاله وبهتانه، وأحاط الأبناء والزوجة بالأب يهدأون من روعه بعدما رأوه من اشتداد غضبه وما هو عليه يقرر بالغضب ويلقي بالشتائم وينذر بالتهديدات، ويتوعد بالويل والثبور، وأدرك الولد بسرعة أن الأمر لن يقف عند هذا الغضب وأن العاقبة لابد وخيمة، وأنه في مصارحته للأب، قد ارتكب عدة أخطاء لا خطأً واحداً، فاندفع إلى خارج الدار لا يلوي على شيء، واندفعوا خلفه يسبونه ويقذفونه بالأحجار، ولم يكن ذلك ما يؤلمه رغم شدته، لكن ما آلمه أنه لم يحمل معه قلماً ولا قرطاساً، ولا شيئأً من لوازمه، وتنبه فإذا هو في الطريق العام، فسار مسرعاً جاد الخطوات لعله يبتعد عن حي الظاهر كله، وقد خشي أن يلاحقه أبوه وبعض إخوته وأهله، وإذ أوغل في الطريق واقترب من حي ساهر، كما اعتاد الناس في شهر رمضان أحس بحاجة ملحة إلى الهدوء، لعله يلتقط أنفاسه، وطرقه مقهى عامراً بالرواد، فتنحى منه ناحية، وجلس يتأمل أحداث هذه الساعة من الزمان، كيف بدأت وكيف انتهت إلى ما انتهت إليه، وتحسس جيبه ليعلم كم معه من نقود قليلة، وقفزت أمامه أسئلة شديدة الإلحاح، الكتب .. المراجع .. ملابسه .. أدوات مهنته .. مذكراته الخاصة .. إنها كلها في حجرته الخاصة، وهو لم يقترب من حجرته مجرد اقتراب في ليلته هذه. فماذا يكون من أمره غداً.. وبعد غد .. وما بعدها من شهور حتى ينهي دراسته ثم يلتحق بوظيفة تعينه على شؤون الحياة .. أدرك الطبيب الموقف على حقيقته بعد قليل من التأمل .. واتجه من فوره إلى بيت صدقي فوصله آخر الليل .. لكن السهر في رمضان شجعه على المضي حتى قابل صاحبه وأفضى إليه بتفصيل ما كان ..

(11)

اتجه عبده من فوره إلى بيت صدقي فوصله آخر الليل .. لكن السهر في رمضان شجعه على المضي حتى قابل صاحبه وأفضى إليه بتفصيل ما كان .. قال صدقي لصاحبه: هذه حجرتك من الآن .. وأراه المنظرة التي كانوا قد اعتادوا الجلوس فيها .. وفي غد إن شاء الله في طريقنا إلى المستشفى ننظر في هذا الموقف المفاجىء .. "إن عبده إبراهيم كان منقطع الصلة بالحياة العامة تماماً .. لانصرافه التام للدرس والتحصيل لمهنته .. وللدين الجديد الذي اعتنقه .. وقد كانت لهذه الحال آثارها في حياته الخاصة من يوم أن خرج من دار أبيه إلى أواخر أيامه بما في ذلك اختيار الوظيفة والبيئة التي تحيط به.. لكنه كان لزاماً أن يجتمع الأصدقاء الثلاثة في اليوم التالي لطرده من دار أبيه وأن يتدارسوا الموقف واحتمالاته.. كان لزاماً أن يجتمع الأصدقاء الثلاثة في اليوم التالي لطرده من دار أبيه وأن يتدارسوا الموقف واحتمالاته.. فمنها استمرار ثورة الخواجة إبراهيم على صدقي وبرادة بسبب اعتقاده بأنهما السبب في غوايته، ثم إنه ومن معه سيلاحقون عبده بالأذى في كل مكان يذهب إليه أو يعمل به أو يقيم فيه، فضلاً عن تسامع الجيران من النصارى بما حدث، وربما امتد السماع إلى الأحياء القريبة المجاورة من مسرح الأحداث، لذا يتوقع أن يكون في حي الظاهر لغط وشائعات، ولا بد أنه سيكون في حي الجمالية وحي السيدة زينب وربما اتسعت الدوائر حول هذه الأقطاب وانتشرت التعليقات والأقاصيص. لكن الخطر القريب هو الصدام المرتقب بين الخواجة إبراهيم وبين صدقي وبرادة، قالا لزميلهما: لقد تسرعت يا عبده في تصرفاتك الخاصة، وأخطأت بما ظننته في نفسك من قدرة على هداية أبيك، ومن بعده بقية أهلك، ولقد أوقعتنا بذلك في مأزق ماكان أغنانا وأغناك عنه في هذه الأيام، قالا ذلك والطبيب الشاب هادئ ساكن يتفكر في قول الله تعالى: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"ولما كان صدقي لم يزل غير صاحب دخل مادي، فقد كان الأستاذ أحمد برادة المحامي يدخر من إيراده ثلاثة جنيهات فرنسية شهرياً، وخصصها لصاحبه عبده، وقد استمرت الحال على ذلك عشرة أشهر حتى اكتمل الدين ثلاثين جنيهاً ردها الطبيب لبرادة بعد استقراره في أول وظيفة، وكان برادة حينئذ أيسر الثلاثة حالاً بعد أن كان الأرق حالاً، فقد سبق صاحبيه إلى التخرج، كذلك كان قد نشط في بعض الأعمال الخاصة بالإضافة إلى وظيفته فهو من تولى تمويلهم في هذه الأزمة، على كل حال حدث ما توقعه الجميع، فالغيورون من أهل عبده سواء منهم الأقربون والبعيدون قد بحثوا عنه حتى وجدوه، وحقاً لم يرهقهم البحث لأنهم يعلمون أنه لا ملجأ له إلا صديقيه وبالذات في المنظرة في منزل صدقي، توافدوا عليه زرافات ووحداناً، وتكررت مناقشاتهم معه وتواكبت ملاحقاتهم له في السكن والعمل، وأراد عبده أن يضع لهذه المناقشات والمطاردات نهاية حاسمة، بدلاً مما هو فيه من المتاعب كل يوم ولحظة، خاصة وأن مستقبله يوشك أن يبدأ على وجه يرضيه، فقال لهم: ما حاجتكم مني، وما هدفكم من مطارداتكم، قال أرشدهم وهو خاله: يا بني إنك فرد مرموق في أسرتنا، وفي جملة القبط كلهم خلقاً وسمعة، ثم إنك توشك أن تكون طبيباً، وهذا الذي فعلت خسارة لا نطيقها، فضلاً عن أنه فضيحة وعار لأسرتك، وللنصارى في مصر وغيرها من بلاد الله فهلا استمعت إلينا، قال: إني مستمع إليك لعلي بذلك أصل معكم إلى حل، يحفظ لي ولكم أوقاتنا ومصالحنا، قال أرشدهم: إن أباك يدعوك إلى الاستماع من رجال الدين إلى كلمة الحق، وهم لابد أقدر منا على تبيان أوجه الضلال الذي أوقعك فيه خصوم ديننا، قال الطبيب الشباب: ما أوقعني أحد في ضلال، فافهموا عني هذا وإنما هداني رب العالمين، قال قائل منهم: إن كنت مؤمناً بفعلتك هذه ببينة وحجة، فماذا عليك لو أنك واجهت علماءنا، قال: لكم ما تريدون، فسألوه عن المهلة فقال: أي موعد تضربونه، قالوا: فعد معنا الآن إلى دارك وهناك نضرب مع أبيك الموعد ليكون برضاه وفي حضوره،

(12)

وافق أن يذهب معهم إلى بيت أبيه .. وقبل أن يذهب توجه إلى الشيخ محمد رشيد رضا .. وكان يختلف إلى مجلسه من وقت لآخر .. ونفض إليه جملة الخبر .. فبين له الشيخ ما غاب عنه .. وأيده بالأدلة من الكتب القديمة بوجه خاص .. كإظهار الحق ومقامع الصلبان، وشروح أهل الكتاب، وكيف يرد على شبهاتهم .. وذهب في الموعد لدار أبيه .. لقد أنفق أبوه عن سخاء لإنقاذ ولده الأكبر عما هو فيه .. وليمنعه مما هو مقدم عليه .. إلى أن أتى الموعد المضروب لرجال اللاهوت .. فعجل والده بجلسة سريعة يمهد بها للجلسة الكبرى .. فربما يرجع الابن عن قريب .. بدأت الجلسة هادئة .. والكل ينصت لما يدور من قرع الحجة بالحجة .. والنصوص حاضرة تتلى من مراجعها .. على مسمع من الجميع .. ولم يعد كبير مجال للتهوين من تصرف الطبيب الشاب .. على أنه رأي فرد ضال كما ذكرمن قبل من أنه وقع تحت جو عام من الإغراء الذي أحاطه رفاقه به .. وأدرك الحاضرون أن الأمر في غاية الجد .. فشددوا هجومهم .. لكنهم وجدوا لكل سؤال جواباً .. ثم وجهت لهم منه أسئلة مضادة .. استشعروا وهم يجيبون عنها أن ألسنتهم كانت تلوك العبارات في غير وعي ولا تعقل .. و كانت مناقشة طويلة جداً جداً .. من أقوى المناظرات في نقد عقائد النصارى .. عكست مدى تعمقه في تلك الفترة في دراسة العقائد النصرانية وأيضاً في دراسة الإسلام .. و تكلم فيها كلاماً مفصلاً جداً وألجمهم فما استطاعوا أن يردوا عليه بكلمة واحدة .. ومما ناقشوه: التجسد، الأقانيم الثلاثة، البنوة، جرأتهم على الأنبياء، دعوى أبوة الجسد ليوسف النجار، الصلب وأصله الوثني، والقيامة .. وفي الإسلام: حقيقة الوحي، حقيقة القرآن، حيرة أهل الكتاب من إعجاز القرآن، وكان يسرد الكلام بأسانيد علمية في غاية القوة .. فأنهوا الجلسة ... واتفقوا أن يخرجوا بقرار هو أن يحشدوا له فريقاً من أكبر علمائهم حتى يناظره في جلسة تالية .. حتى بلغ من تأثير الطبيب عليهم أن باتت القضايا التي كانت عندهم يقيناً معلقة .. حيث قالوا عنها هذه معلقة لا نستطيع أن نرد عليك فيها .. واهتزت النصوص التي طالما حفظوها على شفاههم .. وعادت أسئلتهم من عنده بغير معنى .. وأيقنوا أن اللجنة قد عجزت .. فماذا كان الجواب؟؟ أعلنوا في هذه الجلسة على الجميع .. أن عبده إبراهيم عبد الملك ابن الخواجه إبراهيم عبد الملك من أسرة كذا التابعة لكنيسة كذا قد حلت عليه اللعنة الأبدية في هذه الكنيسة ما لم يرجع إلى رحمة أبينا يسوع المسيح مخلصنا وراعينا وأن اللجنة رحمة به وحنواً على أبيه المسكين قد منحته فرصة العودة إلى دين آبائه وأجداده بالحضور يوم الأحد في ذات المكان أمام عدد من الآباء لنصحه وهدايته نسأل إلهنا وأبانا ... إلى آخر كلامهم من الشرك والكفر .. لقد كان بعض الحاضرين من النصارى متشوقين إلى استمرار الجلسة .. من شدة تعطشهم إلى سماع إجاباته والاستزادة من علمه .. فقد سمعوا لأول مرة فكراً جديداً ونقاشاً فريداً ودفاعاً عنيداً .. جعلهم في شوق إلى معرفة نتيجة محددة .. خاصة لما رأوا القساوسة قد عجزوا أمام هذا الفرد .. الذي تخلف عن السير في موكب آبائه وأجداده .. فهاجوا وماجوا وتدافعوا وتصايحوا .. لكن كبير الجلسة نصحهم بالهدوء حتى لا يشرد منهم هذا الخروف الضال .. ووعدهم بأن يوم الأحد قريب .. وأنه جمع للمباهلة فحول علماء أهل الكتاب والمفسرين وخبراء التبشير الراسخين .. فهدأت ثائرتهم ولكن إلى حين .. وجاء يوم الأحد الموعود ..

(13)

جاء يوم الأحد الموعود.. واحتشد الأهل والأقارب .. وكل من يهمه الأمر ليرى هزيمة هذا الطبيب الذي خدع وصبأ عن دينه الحق .. إلى دين المسلمين .. وهم يهددونه ويتوعدونه لئن لم ينته عما هو مقدم عليه ليمزقنه إرباً .. ويصيرونه عدماً .. وأن هذه هي الفرصة الأخيرة ما لم ينصع إلى دين يسوع المسيح.. ثم انبرى كبير القساوسة في الجلسة .. وهو يتطاول في كرسيه يتيه على الحاضرين بما حفظه ولقنه قريباً في الكنيسة.. فقال من كلام الشرك والتثليث ما هو من دينه .. ثم رد عليه الطبيب الشاب فقال: بسم الله الرحمن الرحيم.. إله واحد .. فرد صمد .. لم يلد ولم يولد .. ولم يكن له كفواً أحد .. سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .. فضل المسلمين بالإيمان على جميع الأجناس .. وجعلهم خير أمة أخرجت للناس .. أوحد الله بموجبات توحيده .. وأمجده سبحانه حق تمجيده .. وأومن به وبملائكته وكتبه ورسله .. لا نفرق بين أحد من رسله .. ولا أشرك بعبادته سبحانه أحداً .. وأصلي وأسلم على من جاء بالهدى .. خالص أصفيائه وخاتم رسله وأنبيائه .. سيد ولد آدم .. بعثه ربه في الأميين .. ليخرج البشر من الظلمات إلى النور .. ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة .. وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .. صلى الله عليه وسلم من نبي كريم .. على خلق عظيم .. بعثه الله على فترة من الرسل .. موضحاً للسبل .. داعياً إلى خير الملل .. ملة إبراهيم .. ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه .. وما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً .. وما كان من المشركين .. وإن الدين عند الله الإسلام .. ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه .. وهو في الآخرة من الخاسرين .. فرد عليه أحد القساوسة: عجيب أمرك أيها الفتى الضال .. وعجيب أمر أصحابك الذين أضلوك عن كتابك .. فلقنوك من الكلام ما قد سمعناه منك الآن .. حتى صرت أشد منهم حماساً لدينهم، وأحفظ منهم لآيات كتابهم .. فأصبحنا نراك وأنك قد نسيت دينك ودين آبائك .. وهو الدين الذي عليه نشأت وترعرعت، فربى عقلك وأصلح فساد نفسك .. فرد عليه عبده: والله الفرد الصمد الواحد الأحد .. ما أضلني ولا أغواني منهم أحد .. وإنما هداني إليه ربي .. وساقني إليه فطرتي .. واختاره لي صحيح عقلي .. ودلني عليه عافية نفسي .. فرأيت فيه ما لم أره في غيره من الشرائع والأديان من النور والهدى والحق والصدق فتمسكت به .. ولزمته لأني وجدت فيه تمام عقلي وصلاح أمري .. ومنطلق فكري وشفاء روحي .. وجواباً راجحاً لكل سؤالي .. فليس هذا الدين كدينكم .. الذي يمجد الفقر .. ويسوغ الذل .. ويورث العقل الخلل .. ويحيل المرشد سفيهاً والمحسن مسيئاً .. لأن من كان في أصل عقيدته التي جرى نشوءه عليها الإساءة إلى الخالق .. والنيل منه بوصفه بغير صفاته الحسنى .. فأولى به أن يستحل الإساءة إلى المخلوق .. فكيف أترك ما هداني الله إليه من الكمال والنعمة .. بعدما بان لي من جهلكم وتحريفكم لدينكم .. ولست مجادلكم إلا بالتي هي أحسن .. فما في الإسلام من حث على مخاصمتكم ومعاداتكم .. بل هو أرحم عليكم وأحنى حتى من دينكم لكم .. فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم .. ألا نعبد إلا الله ولا نشرك بعبادة ربنا أحداً .. صاح أحدهم: بل نقرعك الحجة بالحجة .. فإن كانت لنا الغلبة عدت إلى دين الخلاص .. وإلا تركناك تتخبط فيما مسك من جنون .. فتكون من الخاسرين الذين تصيبهم لعنة الرب إلهنا يسوع .. قال الطبيب الشاب: قبلت التحدي .. ووالله إن ضلالاتكم قد سارت مسير الشمس .. وبواطلها قد لاحت لعيون الجن والإنس .. فوالله لا يخذلني الله أمامكم .. وأنتم قوم غيّرتم فغيّر بكم .. وأطعتم جهالاً من ملوككم .. فخلطوا عليكم في الأدعية .. فقصدتم البشر في التعظيم بما هو للخالق وحده .. فكنتم في ذلك كمن أعطى القلم مدح الكاتب .. على حين أن حركة القلم لا تكون بغير الكاتب .. وها أنا ذا على قصور سني وإغفال المطالعة أقبل منازلتكم .. فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين .. ......... ودار حوار طويل جداً .. لثلاثــــــــــــــــــــــــــــــــــــة أيـــــــــــــــــــام .. .........

(14)

لقد أحرجهم الطبيب جداً .. حتى كانوا كل جلسة يستعينوا بقساوسة جدد .. بعد أن وقعوا في حصار أسئلة لا يستطيعون الإجابة عليها .. وأمام حجة لا يملكون الصمود أمامها.. وفي نهاية الحوار .. قال عبده: فماذا أقول لكم .. وقد جئتم لتقولوا لي فقلتم وقلت .. وأضللتم وأوضحت .. وكذبتم وصدقت .. ودعوتم علي ودعوت لكم .. وأهنتم محمداً صلى الله عليه وسلم وعظمت عيسى عليه السلام .. وحاولتم طعن القرآن فما استطعتم .. وحاولتم ستر كتبكم فانكشفتم .. وأنهكتموني علّي أضل، وأنهكت نفسي علّكم تهتدون .. وقد آذيتموني بأيديكم وتلطفت معكم بكلامي.. وهاهو اليوم الثالث ينقضي .. وقد اهتزت في نفوسكم عقيدتكم .. وثبتت في نفسي عقيدة الإسلام .. وأنا أعلم مما علمنيه ربي في القرآن أنكم لن ترضوا عني حتى أتبع ملتكم .. ولكن كيف أبيع الهدى بالضلال، وأشتري الباطل بالحق .. ولكنكم أهلي وعشيرتي .. وقد أمرني ديني الجديد .. أن أصحبكم في الدنيا معروفاً .. فهلموا إلى دين الله لتربحوا .. قال تعالى: (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً )) أسأل الله أن يكشف ما بكم من الضلالة وأن يتلقاكم بالهداية .. وصدق الله تعالى إذ يقول (( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)) صدق الله العظيم .. وما كان الطبيب الشاب يفرغ من تلاوة الآية .. حتى أدرك الجميع أنه قد خرج من حظيرة الكنيسة .. إلى غير عودة .. فتدافعوا يفرطون في إيذائه .. ولم ينتهوا عنه إلا حين علا صوت الكاهن الكبير .. وهو يعلن فيهم أن اللجنة قد أيقنت بأن عبده إبراهيم عبد الملك ابن الخواجه إبراهيم أفندي عبد الملك من أسرة كذا التابعة لكنيسة كذا قد حلت عليه اللعنة الأبدية وأنه مطرود من رحمة أبينا، يسوع المسيح مخلصنا وراعينا، وأنه .. الخ من كلامهم الذي يقولونه في أمر كهذا .. ولكن مأساة الطبيب الشاب لم تنته بعد .. فقد ذاق (أمرّ) البلاء .. مع الطرف الآخر أيضاً .. مع (المسلميــــــــــــــن) فإلى جانب آخر من حياته ..

(15)

ما كاد الكاهن الكبير يلقي بيانه .. وقد تعلقت الأنفاس من رهبة الموقف .. حتى حل الهرج والمرج محل السكون والوقار .. وارتفع الصخب فجأة بأخلاط من الأصوات .. فهذا نحيب وهذا نواح وهؤلاء رجال أفزعهم المصير الذي ينتظر فتى كان من خيرة شبابهم .. الذين كانوا يباهون بهم المسلمين .. وتلك نسوة تجمع بين البكاء وبين أقبح الأصوات .. وإذا بالطبيب الشاب يشهد للمرة الثانية موقفاً مزعجاً في نفس المكان .. فقد كان فوجئ بقرار المحكمة قبل تمام المحاكمة .. ولذلك بقي في مكانه مشدوهاً حال تلاوة البيان .. وإذ بدأ الهرج والتدافع بالأيدي والمناكب .. تسلل من مجلسه إلى خارج الدار ثم إلى مسكنه المتواضع .. وقد تملكه شعور لم يكن يحس به من قبل .. فلقد رأى لأول مرة رجال الدين الذين يتخذون من الهداية والإرشاد وسيلة لكسب المعاش يتصرفون على نحو أذهله .. فخالطه شعور بالعطف على عامة الناس الذين يلتمسون عندهم الرشاد .. قال الطبيب لصاحبيه: لقد احترمت هؤلاء الناس حين ثبتوا ودافعوا عن أمور خيل إليهم أنها صواب .. وكان ذلك في أول لقاء لي معهم .. ولكن حقيقة أمرهم تكشفت لي في المجلس الثاني .. حين باهلتهم ثلاثة أيام طوالاً أقدم لهم الدليل تلو الدليل .. وأقرعهم الحجة الهزيلة عندهم بالحجة القوية عندي .. وقد كنت أظنهم بما يحملون من مناصب دينية عالية أهل حجة وأصحاب عقل ونظر .. لكنني فوجئت بهم يفرون من الميدان مخافة أن ينكشف ما هم عليه من جهل وصغار .. وإني لأعلم أنهم يأكلون السحت .. ويجعلون رزقهم أنهم يكذبون .. ألا ساء ما يزرون .. قال له صاحباه: أو لم يكف ما لقيته من دعوتك الناس إلى الرشاد، فجئت تخطب فينا .. قم الآن يا رجل إلى كتبك فأقدامك لم تثبت بعد على الطريق .. وعليك أن توفر ما بقي من مراحل في الحصول على الإجازة العلمية .. ومن ثم الوظيفة التي ستقيم أودك .. وكان ما نصحوه به .. فانقطع لدروسه بضعة أشهر كد فيها واجتهد .. حتى تخرج طبيباً يمارس المهنة الإنسانية .. ونظر الطبيب الشاب من حوله باحثاً عن مجتمع يعوضه عن أسرته التي لم تهتد .. فإذا النصارى يحوطونه بنظرات الحقد والمرارة .. وإذا المسلمون يترقبونه في حيطة وحذر .. فرغب في البعد عن الناس طلباً للهدوء .. ومزيد من الاطلاع، فلم يجد خيراً من أن تكون خدمته الوظيفية .. في السجــــــــــــــــــون ..

(16)

بدأ الطبيب الشاب عبده حياته الوظيفية عام 1905 .. طبيباً لبعض السجون بمديرية الجيزة .. فتهيأ له بذلك البعد عن المجتمعات من جهة .. وقربه من القاهرة من جهة أخرى .. كان يقضي ساعات العمل في مكتبة من مكتبات السجن .. وكانت له دار ملحقة بالمبنى ذاته .. وحول هذه الدار حديقة صغيرة .. وعاش حياته بين السجناء متعايشاً معهم .. لكنه كان في وحشة شديدة في دخيلة نفسه .. وأشار إلى زميله صدقي أنه يريد أن يستقر في دار وأسرة .. فإن رزقه الله بزوجة صالحة .. فإن حديقة السجن ستكون في تقديره جنة نعيم .. وقد ذكر لصاحبه مواصفات معينة يريدها في زوجته .. أخلف صاحباه شروطه ظناً منهم أن موضوع الزواج سيستمر .. عند اختيارهم لزوجة له ليست على ما اشترط .. فلما رآها نفر منها جداً .. وكان قد أعلن حفل الزواج بعد أيام قليلة .. هذا الحدث أحدث ردة فعل شديدة جداً على أهل خطيبته .. وبدأوا ينشرون إشاعات كثيرة جداً حوله انتقاماً منه .. وأشاعت أسرة الخطيبة أنها قد اكتشفت أن عبده كافر متلاعب .. وأن له زوجة وأولاد من دينه الأصلي .. وقد اكتشفوا ذلك وغيره مما لا يجب التكلم عنه، وهم لذلك رفضوه وطردوه .. تناقلت الأسر فيما بينهم هذه القصص والشائعات .. وكل من يسمعها كان ينقلها بعد أن يضيف عليها كل جديد وغريب .. وأنه كان أول من رأى وعاين وتأكد واكتشف بذكائه على غير ذلك مما يظن الرواة أنه يزيد الرواية غرابة وحبكة .. استفحلت الأقوال وحصل لصدقي وعبده إساءة شديدة في الحي والمنطقة .. وتناهت الأخبار مشبوهة إلى شيوخ الحي وأفاضل سكانه .. كان من هؤلاء الشيوخ البارزين والعلماء المعروفين .. الشيخ عبد الحميد مصطفى .. وكان قد درس العلم في الأزهر الشريف .. حتى خيف على بصره من شدة طلب العلم .. فتوقف عن الدراسة بأمر الأطباء واشتغل في المقاولات .. فلقي في عمله توفيقاً .. وقد اشتهر في حياته الخاصة بين أهل الحي بكرمه وكرامته وصدقه في معاملته وحسن عشرته للناس وصلاته .. وطبعاً وصلته الأخبار المشوهة والشائعات السيئة .. فاعتبرها عبثاً صغيراً من شباب غير مسؤول .. وعدها استهانة من صدقي بكرامة أسرة محافظة .. تعرضت بها سمعتهم للقيل والقال .. وأنه لا بد أن يعاقب هذا المستهتر هو وصاحبه على ما اقترفاه في حق الفتاة وفي حق أسرتها، باختصار شديد .. دبر موعد للشيخ عبد الحميد حتى يحل هذه المشكلة وينقذ سمعة البنت وأسرتها .. التي أساء إليها برفض الخطبة وإلغاء الزواج .. وكان كلما حاول الشيخ مقابلتهما كانا يمعنان في الهرب منه .. إلى أن أحكم الحصار وتمكن الشيخ من مقابلة صدقي .. فلم يبق مفر من المقابلة والحساب .. وأمسك الشيخ بيد الطبيب صدقي واقتاده إلى مكان معروف جلسا فيه لتصفية الحساب .. وقال له: كيف سمحت لنفسك ولزوجك أن تفعلا ما فعلتما؟ وأنت الآن طبيب مسؤول تؤتمن على خصائص الناس؟ بل إنك ربما عرفت بحكم تخصصك من أسرار الناس ما لا يعرفه غيرك؟ أية جناية هذه يا بني؟ وأي خطأ ارتكبته في حق أهلك وجيرانك من أجل صداقتك لهذا الكافر المارق؟ صبر الطبيب الناشيء صدقي لهذا .. وكان يحترم الشيخ لسنه ومكانته وصداقته لأسرته .. فقال له: عفواً سيدي الشيخ فهلا سمعت القصة كما وقعت؟ فشهدت لي بالبراءة مما أثاروه حولي وحول زوجتي وصاحبي .. وحسبي عقاباً لي في وساطتي ما وقع علي من ظلم في شائعاتهم.. قال الشيخ عبد الحميد: أجل أسمع منك .. على ألا تقول غير الحق ولا تنطق بغير الصدق .. وأنا أحذرك يا صدقي من محاولة خداعي فلست بالخب ولكن الخب لا يخدعني .. قال : بل أصدقك القول يا عم وكل ما أرجوه منك أن توسع لي في صدرك حتى أتم حديثي .. فنحن لم نجرب منك إلا العدل ..

(17)

شرح له صدقي القصة كاملة .. فقال له الشيخ: ما اسم صديقك؟ قال: اسمه عبده إبراهيم .. قال: وما كان اسمه قبل أن يشهر إسلامه؟ قال: عبده إبراهيم عبد الملك .. قال: أفلا اتخذ اسماً جديداً يدل على فضل الله عليه أن هداه للإسلام؟ قال: هذه فعلاً واحدة من نظراته الخاصة .. وقد نصحه بعض المحبين له وأنا منهم أن يتخذ له اسماً علماً شاهداً على إسلامه .. فاعتذر إلينا بأن الإيمان الحق إنما هو ما يستقر في القلوب وتصدقه الأعمال .. فلا يرى الإسلام أسماء ولا لافتات كعناوين الكتب والمتاجر .. فقال الشيخ: لو تأتيني بصديقك في الغد؟ وبالفعل أتاه به في موعد اللقاء .. وكان تعارف رائع أعقبته مقابلات مع الشيخ .. وكان يحصل حوارات بين الشيخ عبد الحميد وبين عبده إبراهيم في كل مرة .. وتنوعت الأحاديث والمناقشات والأبحاث العلمية .. وكان الشيخ كل مرة يكتشف في عبده صفات جديدة من الصفات الطيبة .. زاد التلطف من الشيخ والمحبة الوثيقة والمودة بينه وبينهما .. وقد كان الشيخ يثني عليه ثناءً عطراً أمام صدقي .. فلفت صدقي نظر عبده إلى ذلك .. وقال له: إني أراك قادراً على كسب ثقة الشيخ ومحبته .. ولئن كنت وصلت إلى هذا الحد من الود والثقة فإني لأرى لمشكلتك الكبيرة أحسن الحلول .. فضاق عبده بهذه الإشارات البعيدة .. فقال لصاحبه: كم من الوقت أضعنا في تأملاتك وفي الفروض والاحتمالات فأرجوك أن تفصح عما تريد أن تقوله .. قال صدقي: إن للشيخ ابنة في سن الزواج، وهي كالتي طلبت في شروطك .. ولئن قدر الله لك أن تحافظ على مودته واحترامه لك على ما أرى في لقاءاته الأخيرة .. فإنه لا يرفضك خاطباً فيما أظن .. فقال له: ما أراك إلا جننت، أي أمر هذا الذي يراودك .. وعلى أي أساس يجوز لي أن أفاتح رجلاً فاضلاً كهذا في أمر مصاهرتي له ... وبعد نقاش طويل .. تقدم عبده خاطباً بنت الشيخ .. وبدأت في حياته وحياة الشيخ صراعات .. ما كان عندهم لها حساب ..

(18)

تسامع الناس أن القبطي صاحب قصة الزواج الأولى قد أوقع الشيخ عبد الحميد في حبائل سحره هذه المرة، فحصل منه على وعد بالمصاهرة، وكان لرب الأسرة على هذا العهد أهبة عالية، لكن زوجة الشيخ ثارت عليه ثورة عارمة، فتركت له البيت وانطلقت إلى أهلها غاضبة، واجتمعت الأسرة بأصولها وفروعها، وألح الجميع على الشيخ أن يراجع نفسه فيما صدر منه من وعد بالقبول، وبدأت الشائعات تسري من جديد، وتوافد الخاطبون ومعهم الشفعاء، لإنقاذ الموقف بتعطيل هذه المصاهرة غير المتكافئة، وضاق الشيخ ذرعاً، فعجل بعقد القران والزفاف جميعاً، وتم ذلك في ليلة أحاط بها الغموض والترقب، وساعد على فتور المناسبة أنه حضر إليها منفرداً إلا من صاحبيه، كذلك قاطعت زوجة الشيخ الحفل وهي أم العروس، وجاملها أهلها فلم يحضر منهم أحد، والشيخ حازم في ما قرره ماض فيما عزم عليه، واتهم الناس الشيخ في عقله، إذ كيف يقبل هذه الصفقة وهو من هو من رجحان العقل والبصيرة، لكن الهدوء المشوب بالقلق ما لبث أن عاد للحي، بعدما تبين أن الشيخ قد أنفذ وعده ووفى بعهده وزوج ابنته للطبيب الشاب عبده، بل إن الناس كادوا ينسون ما حدث بعد سفر الزوجين إلى مقر عمل الطبيب حيث مسكنهما مرت سنة كاملة .. وكانت العادة أن المرأة إذا حملت تعود إلى بيت أهلها حتى تقوم والدتها بعنايتها عند الولادة .. وولدت زوجة عبده الوليد الأول .. وما كان اليوم الأول ينقضي حتى حضر الطبيب الشاب يهنؤها بولادتها .. وقد جلب لها من الهدايا كل جميل .. ولمولوده من الملابس واللعب كل نفيس رائع .. عاد بزوجته إلى المنزل ومضى ليسجل في سجلات الحكومة واقعة مولوده الأول .. ثم ما لبث أن عاد إلى بيته بشهادة ميلاد ابنه .. عيـــــــــــــــسى .. وأقبل على زوجته يرشدها إلى ما ينبغي عليها عمله من احتياطات .. وانصرف إلى عمله بعد أن اطمأن على زوجته وولده .. و جاء الشيخ ليطمأن على ابنته وولده .. فأخبرته بحضور عبده وانصرافه بعدما أثبت اسم الوليد في السجلات .. وسألها أبوها في فرحة .. فماذا اختار لابني من الأسماء .. فأجابته ابنته دون وعي : عيسى .. لكنها رأت من أبيها أمراً عجباً .. إذ ما لبث حين سمع الاسم أن ضرب كفاً بكف .. وقد تغير لونه وتقطب جبينه .. وظهر الغضب الشديد عليه وهو يقول: عيسى عيسى .. وا عجباً لهذا الرجل .. أو لم يجد في كل الأسماء التي خلقها الله اسماً جديراً بهذا المخلوق إلا هذا الاسم .. أستغفر الله العظيم .. أستغفر الله العظيم .. أستغفر الله العظيم .. وانطلق من عند ابنته وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله .. وأحست ابنته أن أمراً عظيماً قد حدث .. وأن خطأ لا يمكن إصلاحه قد وقع .. فما هكذا رأت أباها على طول ما عاشت ورأت .. وباتت فريسة لأفكارها وهواجسها .. أما الشيخ فقد اعتكف في داره أياماً لا يرى فيها أحداً .. وأما زوجته فقد كانت تغالب دموعها .. فقد تحقق للجميع أخيراً .. ظنها البصير بهذا الطبيب وألاعيبه .. وكانت إذا همت بالدخول على ابنتها .. كفكفت دموعها حتى لا تفجع ابنتها بما أسلمها أبوها له من مصير.. وما جناه عليها بعناده وغفلته .. وانخداعه بأساليب هذا الطبيب الذي سحره ... وفي اليوم السابع أضيئت الشموع ذراً للرماد في العيون .. وتمويها على الأم البائسة التي ارتبطت بزوج قيل أنه أسلم بل وحسن إسلامه .. فإذا به يعلن في غير حياء ولا مواربة .. أنه ما زال مخلصاً لماضيه .. ولدينه القديم .. وإلا .. بماذا نفسر اختياره لاسم عيسى اسماً لولده .. ولم يكن اليوم السابع هذا ينقضي .. حتى غرقت أسرة الشيخ في موجة من الهم والحزن فوق الذي كان قد تجمع لها من قبل .. ذلك أن بشيراً من أسرة الطبيب عبده .. جاء من حي الظاهر .. يهنيء الشيخ بمولود عبده الجديد .. عيسى .. ولم يكن بين أسرة الشيخ وأسرة عبده سابق ود ولا اتصال .. وقد كانت لهذه التهنئة منهم معانٍ غير خافية عليه .. لكن الشيخ تماسك واصطنع الثبات اصطناعاً .. حتى كان الغد .. فخرج من الفجر ليلحق بالطبيب عبده في داره .. قبل أن يغادرها إلى العمل .. فإن له معه شأناً ..

(19)

حين فتح الطبيب باب داره للشيخ .. فوجيء به يغلق الباب بعنف خلفه .. وهو يمسك بتلابيبه .. ويقول له : ما هذا الذي فعلت بابنتي أيها الزنديق ؟.. والله لا أفلتك من يدي حتى أعلم حقيقتك .. وقد سكتنا عن التزامك اسمك رغم اعتناقك الإسلام .. وكان يجب أن تغيره إلى ما يدل على إسلامك .. ولقد أحسنا الظن بك وبما سقته من حجج .. كانت تبدو لنا صادقة يوم نطقت بها .. أما وقد انكشف أمرك الآن بتسمية ولدك عيسى .. فاعلم أن اختيارك لولدك هذا الاسم .. له من المعاني ما لا يخفى على أحد .. ولقد كنت أعالج نفسي بالتصبر حتى ألقاك .. إلى أن جاءنا بشير من عند أبيك .. يحمل التهاني التي تنطوي على سخرية أبيك بعقولنا .. وشماتته بمصير ابنتي المسكينة .. التي جنيت عليها حين قبلت زواجك بها .. فتكلم بالحق وإلا قتلتك شر قتلة .. ورأى الطبيب أن الشيخ يهدر غاضباً .. والدماء تندفع إلى جبينه حمراء قاتلة .. والشرر يتطاير من عينيه .. يشير إلى ما في صدره من غليان براكين الثورة .. فبقي بين يدي الشيخ هادئاً ساكناً حتى تمر العاصفة .. لكن حالة الشيخ كانت تنبؤ أنه قد انتوى أمراً خطيراً .. وأنه قد يرتكب جرماً وحشياً تحت وطأة إحساسه بخيبة الرجاء .. إذ كان يبدو عليه أنه استنفد من الجهد ما أضناه .. وأنه سيتصرف مع الطبيب تصرف اليائس منه .. فبادره الطبيب قائلاً : ياعم .. أقسم لك أن الأمر كما علمته من حسن إسلامي .. ولقد أكرمتني بإحسانك إلي إذ قبلت مصاهرتي لك .. فكيف تصورت في نفسك ما نطق به لسانك الآن .. وهل تظن أن ما جرى لي بسبب إسلامي .. وملاحقة أهلي لي .. بالتهديد والويلات والأذى .. وطردهم لي من دار أبي .. وهجري لأهلي .. ولجوئي إلى الحق والهدى .. كان كله تمثيلا وعبثاً .. وهل قدمت لي منذ عرفتك إلا الخير والعون والحب .. فكيف تظنني أسيء إليك أو أجني على ابنتك .. وإذا كان ذلك مما يجوز لي وأنا على غير سبيل الحق .. فكيف أجيزه لنفسي .. وقد عرفت الله ورسوله والقرآن .. يا عم .. إن كنت أردت – بعد ما قلته لك والله على ما أقول شهيد – أن تزيدني إيماناً .. فها أنا ذا بين يديك .. ما تغيرت وما استبدلت .. فأنت صهري وعمي وأبي وأهلي .. وليس لي الآن بعد ولدي من هو أقرب إلي منك .. وستجدني طوع أمرك فيما تظنه صواباً .. وسأقبل حكمك أياً كان .. فهلا منحتني بعض ما قد يكون بقي عندك من صبر .. لعلي أحدثك بما بقي عندي من حكمة اختيار اسم عيسى لولدي .. كانت لهجة الطبيب هادئة .. رغم ما صبه عليه صهره من لوم وتقريع .. ورغم شناعة الصورة التي رسمها صهره .. من فزع أحاط الأسرة .. وأحداث جسام توشك أن تعصف بالجميع .. فلا الطبيب ناجٍ بصورته هذه .. ولا أصهاره سعداء بما يمكن أن يحدثوه به من انتقام لسمعتهم .. التي ألحق بها خزياً ما بعده خزي .. رغم كل ذلك .. قال له الشيخ : تكلم وقل ما عندك .. ولا تخفي عني شيئاً .. ولتعلم أنك قد ألقيتني في الجحيم .. جزاء صنيع المعروف معك .. فابتسم الطبيب وهو يقول : كأنك لا تريدني يا عم أن أتكلم .. قال : بل ها أنا ذا مصغٍ إليك .. واعٍ لما ستقول .. والله وحده يعينني على ما أنا فيه .. قال الطبيب الناشيء: إن بيني وبين ربي عهداً لا يعلمه إلا هو .. وإني أسير على الدرب لا أحيد .. وما وجدت من ربي إلا الفضل يتلوه الفضل .. وفي ظني والعلم عند الله جل شأنه .. أن هذا الحادث الذي أفزعكم حتى آذيتموني .. هو أكبر نعمة من بها الله علي بعد نعمة الإسلام .. تمتم الشيخ في صوت حزين: أكبر نعمة .. تقول أكبر نعمة .. اللهم إنك أنت السلام ومنك السلام .. اللهم أفرغ علينا صبراً من عندك .. ولا حول ولا قوة إلا بالله .. عاد الطبيب يقول: نعم .. قد يكون هذا التتابع في الأحداث بشيراً لي .. بأن الله قد سمع لدعائي فاستجاب .. فله الحمد في الأولى والآخرة .. ثم استطرد يقول .. إنني يا سيدي .. حين تمسكت بنفسي – بعد إسلامي- بالاسم .. الذي كان قد اختاره والدي .. وهو كما تعلم : عبده .. تعلق رجائي بأن يمتد بي الأجل .. حتى أكون كفؤاً لزوجة صالحة من بيت طيب .. وأن أرزق منها مولوداً يكون أول أولادي .. وأن أدعوه : عيــــــــــسى .. وها قد تحقق الرجاء بفضل من الله ونعمة .. وقاطعه الشيخ محتداً : وأي فضل تريدني أن أراه فيما ذكرت ..؟ فارتفع صوت الطبيب الشاب في نبرة تشبه الغضب .. وقال : يا سيدي .. صبراً .. فما أتممت الكلام بعد .. وأنت ترى أن هذه الأمور التي وقعت .. لا تستوقف نظرك .. ولا تثير فيك عجباً .. أما أنا .. فقد رأيت هذه الأمور قبل أن تقع .. آمالاً .. ترتفع يداي في كل لحظة بسببها إلى السماء بالدعاء .. آمالاً .. سهرت من أجلها الليالي الحالكة .. التي أحاطت بي لبضع سنوات مضت .. وإن الله الذي أنعم علي بهذا كله .. لأكرم من أن يرد ما بقي لي من رجاء عنده.. قال الشيخ : وما هذا الرجاء؟ قال الطبيب: إنه إن شئت رجاء .. وإنه إن شئت عهد وميثاق .. إذا نحن أمعنا النظر .. فلقد كنت عاهدت ربي .. إن هو رزقني بصبي .. لأحرصن على تنشئته تنشئة صالحة .. ولأدعون له بطول العمر .. وبالتوفيق إلى ما فيه رضا الله .. وبأن يكون له في حياته ومن بعد مماته .. أحسن الذكر على ألسنة العباد .. ضاق الشيخ ذرعاً باستطراد هذا الطبيب الحدث في سرد أحلامه .. فقاطعه قائلاً: وأي والد لا يرجو لولده مثلما رجوت وأملت .. وأية صلة بين هذا الرجاء .. وذلك الميثاق .. وبين اختيار المسيح عيسى ابن مريم ليكون علماً على ولدك ليكون خيراً كما تقول .. قال: يا عم .. إنني لا أحصي ثناءً على ربي .. ولا أقدر على حمده كفاء ما أنعم به علي .. ولذلك جعلت من وجود هذا الولد .. شهادة تنبض بالحياة .. ما بقيت له الحياة .. بأن (عيسى) .. (عبده) .. وماهو بولده .. وما هو بالإله .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .. فكلما ذكر ولدي الذاكرون غائباً أو حاضراً .. حياً أو ميتاً .. كان ذكرهم هذا شهادة مني بين يدي الله عز وجل .. بأن عيسى عبده .. وما هو بولده .. ولقد استجاب ربي لأول الدعاء .. وهاهو الولد الصغير حقيقة ماثلة بين يدي .. وشهادة مني بما آمنت به .. وإن الذي أسبغ علي هذه النعمة الكبرى .. لقادر على أن يمد في أجله .. وأن يهديه سواء السبيل .. حتى يكون أهلاً لهذه الشهادة .. التي فرقت في حياتي بين ضلال كنت فيه .. وهداية أرجو أن تزيد .. ياعم .. إن الغيب من ضنائن الرحمن .. وإنا لاندري أيكون هذا الصبي صالحاً أم غير صالح .. ولا ندري هل كتب له من العمر ما يطول .. أم كانت الأخرى .. ولكنني أعلم من الله أنه ما خذلني .. ولا أسلمني لأمر لا أحبه .. منذ سرى في أطرافي هذا الشوق من الوضوء أول مرة .. وأنا بعد صبي لا أميز بين عقيدة وأخرى .. يا عم .. إذا فرغت من الشهادة بتسمية عيسى التي أرجو أن تكون شفيعي عند الواحد الأحد .. على نحو ما عاهدت ربي .. فأي الأسماء بعد ذلك يتمم الشهادة .. وهل هناك من اسم يذكر بعد شهادة ألا إله إلا الله .. سوى محمد رسول الله .. لذلك فإني أرجو من الله أن يكون حفيدك الثاني ... (محمد عبده) .. ثم ضحك قائلاً : إن زوجتي لولود .. وإن غداً لناظره لقريب .. قال له الشيخ : انصرف إلى عملك يا رعاك الله .. وإنني عائد إلى حي السيدة زينب .. والله يعلم بما أنا فيه .. إنك تعيش في جو من الصفاء .. لا تعيش فيه كثرة الناس .. وإن أعمالك وأقوالك لا يفهمها .. إلا من أنار الله بصيرته .. وحاط بدين الله من كل جوانبه .. وما أقل هؤلاء في زماننا .. لكنك يا عبده .. قد أتعبتني منذ عرفتك .. ولا إخالك إلا هكذا ما حييت .. عفا الله عنك يا بني .. ثم شد الشيخ على يد صهره مودعاً .. وهو يقول : على إني لا أضيق بيوم التقينا فيه .. ولا أتمنى الآن غير الذي جرت به المقادير .. ثم انصرف .. مرت الأيام .. ورزق الله عبده ولده الثاني .. محمد .. ولم يكن الخواجة إبراهيم قد رأى يوماً أشد عليه من يوم الأحد .. الذي أعلنت فيه الكنيسة خروج عبده عن حظيرتها .. وقرر فيه رجال الكنيسة طرد ولده الأكبر من رحمة يسوع .. وبقيت صورته حاضرة أمام ناظريه .. وهو يهرول مسرعاً إلى خارج الدار .. والجميع يلاحقونه باللعنات والتهديدات .. حتى جاءه الخبر بأن ولده عبده .. قد سمى ولده الثاني محمد .. فكانت القاضية على ما كان بقي عنده من أمل ورجاء .. وفي يوم من الأيام .. عام 1909 .. والأسرة الصغيرة في حياتها الوادعة .. على مقربة من السجن .. والوقت بعد الظهيرة .. والحر قائظ .. والطبيب قد أنهى عمله .. وعاد إلى داره .. وإذا بواحد من مساعديه .. يصعد الدرج مسرعاً .. ويقترب منه .. ويهمس في أذنه كلاماً .. وبدا على وجه الطبيب أنه لا يصدق ما سمع ..

(20)

في يوم من الأيام .. عام 1909 .. والأسرة الصغيرة في حياتها الوادعة .. على مقربة من السجن .. والوقت بعد الظهيرة .. والحر قائظ .. والطبيب قد أنهى عمله .. وعاد إلى داره .. وإذا بواحد من مساعديه .. يصعد الدرج مسرعاً .. ويقترب منه .. ويهمس في أذنه كلاماً .. وبدا على وجه الطبيب أنه لا يصدق ما سمع .. ورفع الطبيب صوته قائلاً: وأين هو الآن .. ؟ قال إنه يقف بباب الدار ,, ونزل الطبيب الشاب مسرعاً من فوره .. وعاد ومعه ضيف من القاهرة .. كان هذا الضيف هو الخواجة إبراهيم .. والد الطبيب .. وقد وصل فجأة .. بعد قطيعة تامة ومتصلة .. منذ كان ولده في فترة الامتياز بالقصر العيني .. فانسحبت الزوجة والمربية والطفلان إلى داخل الدار .. وبقي الطبيب وولده .. لا يجدان عندهما ما يقال .. بعد أن كانا قد تبادلا التحية والمجاملة في اقتضاب .. قال الطبيب: كيف أنت يا أبي .. وكيف حال أمي وإخوتي .. وإذ هم الوالد بالجواب .. احتبست الألفاظ في صدره .. واعتمر رأسه بين يديه لحظة .. ثم انهارت بقية المقاومة .. التي كان يعانيها منذ وقت طويل مضى .. فانفجر ينتحب كالثاكلات .. ولم يحاول ابنه أن يمنعه .. بل تركه برهة .. وأخلى له المكان حتى يفرج عن نفسه وهمومه .. وأقبل عليه حين عاوده الهدوء .. وقال ماذا بك يا أبي .. وكيف أمي وإخوتي .. قال: إنهم بخير نحمد الرب .. ولكن أباك هو الذي على حافة الهاوية .. قال: هون عليك وأشركني فيما يؤودك حمله .. لعلي أكون في عونك .. قال: لهذا جئت إليك .. ولا أخفي عنك أنني ما سعيت إليك .. إلا بعد أن انسدت الدنيا كلها في وجهي .. وكادت الفضيحة أن تحطم حياتي .. ثم سكت لحظة .. عاد بعدها يقول .. وقد تهدج صوته من جديد .. يا عبده .. إن البيت الذي ولدت فيه ونشأت ... حتى أتممت معظم دراسة الطب .. هذا البيت الذي يؤوينا ويتسع لأسرتنا كلها .. سيباع في غد بأبخس الأثمان .. أمام دائرة البيوع بالمحكمة .. وفاء لدين كان للبنك صغيراً .. ولكن الفوائض ضاعفته ولله الأمر .. وأختك يا عبده .. أختك ماريبوه .. ابنتي الكبرى .. سيكون زواجها بعد أسبوع واحد .. ولا أعلم كيف أواري فضيحتي المالية .. وطردي من بيتي عن أصهاري الذين يحسنون بي الظن .. ومن أجل ذلك جاءوا للمصاهرة .. وأي مصير سيواجه شقيقاتك الأخريات .. إذا ما خاب زواج الأولى بسبب إعلان إفلاسي .. وأظلمت الدنيا في وجهه .. وخارت قواه .. فعاد يبكي وينتحب .. في مرارة شديدة .. وسأله ابنه: كم تبلغ القيمة .. قال: ثمانمائة جنيه .. والبيت كما تعلم يساوي أضعاف هذه القيمة .. ولكن جو البيع يسوده ألوان من المناورات والاحتكار البشع .. وإن موظفي البنك أنفسهم يحيطون هذه البيوع بإجراءات جهنمية .. تضمن لهم تسيير البيوع على هواهم .. قال الطبيب: إن هذا لعجيب .. أو ليست المحاكم تقوم من اجل العدل .. قال أبوه : يا بني .. إنك تعيش في برجك العادي بعيداً عما يدور في الأسواق من ظلم وفساد .. إن الدين يا بني يكفي للإطاحة بثروة كبيرة .. وبخاصة إذا مال الأمر لدائرة البيوع .. ومن حوله زبانية يتسمعون الأخبار .. و يتحايلون على كل واحد في المزاد حتى ينسحب .. قال الطبيب : لماذا لا ندفع جزءاً من الدين .. ثم نفكر كيف نتدبر أمر التصفية الشاملة .. قال الوالد : يا بني يا عبده .. قلت لك أن هذا كله قد فات أوانه .. إنني أواجه حكماً بنزع الملكية وفاءً لدين مقداره كذا وكذا .. عفواً يا بني .. لقد أفسدت عليك وقت الراحة .. والجو شديد الحرارة .. ولكن العذر واضح لك .. ولي معك كلمة أخيرة .. أقولها وأنا واثق من أن جميع إخوتك .. يؤيدونها راضين .. وأنت يا عبده أولى من الغريب .. فتعال معي في جلسة البيوع .. واشتر أنت البيت .. قبل جلسة المزاد .. لقاء دفع قيمة الحكم كاملة .. فلا يضع الغريب يده على دارنا .. ويسيء إلى أبيك وسائر أفراد أسرتك .. وأنت لن تلقي بأهلك إلى الطريق .. إن قصروا في دفع الإيجار .. قال الطبيب : لا عليك .. اصبر يا والدي .. وائذن لي بتركك برهة صغيرة .. ودخل إلى حجرته الخاصة .. ثم عاد يحمل شيئاً في يده .. ودفعه إلى أبيه .. وقال هذه ثمانمائة جنيه ذهباً .. هي لك يا أبي فتصرف فيها كيف تشاء .. دهش الوالد من هذا التحول من الجدال إلى الفعل الناجز .. وسأل في تكرار .. والدار؟ متى تحضر لإكمال اجراءات نقل ملكيتها إليك؟ قال: لا حاجة لي بها .. إلا أن تبقى داراً لك انت .. أنت والد الجميع .. ومن مركزك في الظاهر وفي الجمالية .. تستمد الأسرة كلها تقدير الناس .. وإني ليسرني ان تبقى محل ثقة الناس واحترامهم .. وضع الوالد كيس المال بجواره على الأريكة .. وأطرق وهو يقلب عصاه بين يديه .. ويقول في صوت خافت تتجاوب فيه أصداء من الشعور بالخجل والصغار: ماذا صنعت بك وأنا قادر عليك .. وماذا صنعت معي وأنت قادر علي .. وتساقط الدمع من عينيه في صمت ذليل .. حتى رق له قلب ولده فبكى لبكائه .. وانصرف الخواجة إبراهيم بالمال .. ونجا من ضائقة كادت تعصف به .. وعاد الطبيب إلى داره بعد فترة قصيرة .. قضاها في وداع أبيه إلى أن تحرك القطار .. كان الطبيب منهكاً وهو يعود إلى بيته .. وفي الطريق كان يمني نفسه بساعة من نوم عميق .. ولكنه أخطأ الحساب وأسرف في الأمل .. فما إن دخل داره التي تركها من برهة قصيرة .. وغادرها وهي هادئة ساكنة .. حتى سارت مسرحاً لأحداث غريبة تجري سراعاً ..

(21)

ما إن دخل الطبيب داره التي تركها من برهة قصيرة .. وغادرها وهي هادئة ساكنة .. حتى سارت مسرحاً لأحداث

غريبة تجري سراعاً . فها هو يرى المربية .. عاكفة على صرة ضخمة من لوازم الدار .. وملابس الصغار والكبار .. تلفف شيئاً من فوق أشياء .. وبجانبها صرة أخرى فرغت من شد وثاقها ... والصغيران قد وضعا في ثياب الزينة والزيارات .. وزوجته تذهب وتجيء في ركن من الدار إلى درج يؤدي إلى السطح .. وهو يراقب الأمر صامتاً .. حتى رفعت الزوجة ابنها الصغير على ذراعها .. وأمسكت بيد الولد الأكبر .. وحملت المربية صرة بعد أخرى .. واستعد الركب للرحيل .. وتقدمت الزوجة نحو الباب وهي ثابتة على صمتها .. وفي عينيها أثر واضح لدمع تغالبه .. وجاءت المربية من خلف سيدتها .. والطبيب الذي أنهكه عمله طول اليوم .. ومن بعده لقاؤه المثير لأبيه .. ساكت في ضيق وصبر .. فإن الوقت لم يكن مناسباً لإعلان الغضب .. تقدم مدخل الدار .. واعترض سبيل زوجته وهي توشك أن تنطلق .. فتوقف وقال: إلى أين؟ ولا جواب .. والصغير على كتفها .. والمربية تحمل الصرات .. والزوج لا يتحول عن مدخل الدار .. ولا يسمح لزوجته بالخروج .. وهذه حال لا يطول الصبر عليها .. فهبطت الأحمال التي على رأس المربية إلى أرض الصالة .. وتقدمت الزوجة من زوجها قائلة : ابتعد ولا تعترض طريقي .. قال: حتى أعرف إلى أين ؟ قالت: كنتُ واهمة كما أنت واهم الآن تماماً!! قال: كيف ؟ قالت : إن ما بيننا قد انتهى .. قال : وما الأسباب ؟ قالت: ما من سبب ولا غضب .. يكفي أن تعلم بأنك مجنون .. وأنا لا أعاشر المجانين .. لم يكن الطبيب قد سمع من زوجته الوديعة المهذبة كلاماً كهذا في أشد الأيام التي مرت بهما .. وبدا له أنها في حالة من الثورة النفسية .. التي لا يؤمن معها نقاش ولاحوار .. ولذلك لجأ إلى الحكمة .. وخلّى بينها وبين مدخل الدار .. وقبع في زاوية على أريكة يراقب التطورات .. انفجرت براكين الغضب الكامن في أعماق الزوجة .. وأغراها سكون الطبيب .. فسألته في حدة : أعرّفك لماذا أنت مجنون؟ إنك تصبح وتمسي ولا تذكر إلا الموت .. ولا حديث لك إلا عنه .. وأنه قريب من الآدمي .. وكلما خلوت بي .. أوصيتني بولديك خيراً .. إذا سبقت المنية إليك .. فكيف يا ترى تحقق وصيتك فيهم .. إن كنت تتلف المال بهذه الطريقة .. أما علمت أن هذا المال هو حصاد تدبيري طوال سنوات انقضت من عمرك .. في المهنة والوظيفة جميعاً .. ثم سكتت تغالب دمعها حتى ملكها الغضب من جديد .. فقالت: وإلى من دفعت المال؟.. إلى من يحترم أصهارك ويحب ولديك؟ .. إلى من يؤتمن على تربيتهما من بعدك ؟.. إذا وافاك الأجل صغيراً كما تظن ؟.. ثم أقبلت على زوجها .. وجلست في مواجهته وعلا صوتها .. وهي تقول: لقد نظرت في خزانتنا .. فما وجدت إلا حفنة من الدراهم .. وكل ما عندنا من مال للزمن ذهب به أبوك؟ .. فمن أبوك هذا ؟ .. لماذا لم يتذكرك إلا حين أظلمت في عينيه الدنيا؟ .. وسدت في وجهه أبواب الخلاص أوليس أبوك هذا هو الذي طردك من الدار ليلاً كما تقول ؟.. أو ليس هو الذي أغرى بك الكنيسة ليطاردوك .. ويلاحقوك بالأذى وسوء السمعة .. أو ليس هو الذي قاطعك خمس سنوات أو تزيد .. ولا يعلم شيئاً من أمرك .. إلا أن يكون شامتاً بك .. أو ساخراً من أبي الذي آواك .. وزوجك من ابنته .. واستمرت الزوجة تثير له شديد التقريع والتأنيب .. في غضبة جامحة .. والطبيب يتذرع بالصفح .. ويلوذ بالصمت .. وعلى حين كانت الزوجة لا تزال ترميه بحمم الغضب .. كان هو يتفكر في اللقاء الذي كان بينه وبين أبيه .. وقد شعر بأن حق الوالد كان مرعياً في هذا اللقاء .. ولكن ترى ما حال الحقوق الأخرى التي لأولاده عليه ؟.. تأمل الطبيب موقفه من جديد .. وهو يسائل نفسه .. ترى .. هل أصبت في هذا التصرف .. أم أنني قد أصبت في شيء واحد على حين غابت عني أشياء .. وذهبت الزوجة بعد ذلك .. غاضبة إلى بيت أبيها .. وتركته وحيداً .. وبعد ثلاثة أيام .. دخل عليه صهره الشيخ عبد الحميد .. ومعه الأسرة الصغيرة والمربية .. تحمل في العودة أضعاف ما حملته عند مغادرة الدار .. ودخلت الزوجة .. وهي تحمل ابنها الصغير .. وتمسك بالكبير .. وتتجه نحو غرفة النوم .. في صمت وخجل .. وهي تتجنب النظر إليه .. وتختصر في رد المقال عليه .. وانسحبت ومن معها بعد ذلك إلى الداخل .. وبقي الشيخ والطبيب يتحادثان .. قال الشيخ: ما عرفت عن ابنتي أنها كاذبة أبداً .. وإني لأحمد الله على ذلك حمداً كثيراً .. ولقد قصت علي كل ما جرى بينكما في الأيام الأخيرة .. وذكرت لي ما وجهته إليك من أقوال وأفعال .. وتصرفك معها .. ورأت بعد أن سكت عنها الغضب أنها أخطأت من الألف إلى الياء .. قال الطبيب : ما أظنها قد جرأت يا عم .. أن تنقل إليك ما ألقته في وجهي من قصائد المديح والثناء!!.. قال الشيخ: إنني لا أستبعد برغم فقهها .. أن تكون قد اقتصرت حياء مني حين أحست بخطئها .. وعلى أي حال .. فلقد كان القدر الذي ذكرته لي .. كافياً لإدانتها .. والحكم ببراءتك .. وما بك الآن حاجة إلى أحصاء المزيد من الوقائع .. وفي حالتك .. فأنت أدرى الناس بما حدث .. ثم إن والدك قد قاطعك لسنوات طويلة .. ولم يظهر فجأة في حياتك وحياة أولادك .. إلا ليستدر عطفك عليه وعلى أولاده فيما يمر به من محنة .. فبأي حق يطلب منك النجدة .. ولماذا جاء الآن فقط يطلب منك أن تنقذ بيته ومستقبل ابنته .. وهو يعلم أن الدين قد فرق بينه وبينك .. وأنك لن ترثه هو ولا أمك .. ولا أحد من سائر إخوتك .. كان الطبيب مطرقاً برأسه وهو يستمع .. ثم رفع رأسه وهو يقول: لقد أحسنت إلى أبي ياعم .. لحق الوصية التي فرضها له الملك الديان .. وبحق القرآن الذي آمنت به .. وجعلته دليلي إلى طاعة خالقي الذي هداني .. أو ليس قد جاء في القرآن قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي ع أو ليس قد جاء في القرآن قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ - وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }لقمان 14 -15 قال الشيخ: بلى .. وصدق الله العظيم .. قال الطبيب: أو ليس قد جاء في الكتب المحكم قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }العنكبوت8 قال الشيخ: بلى .. وصدق الله العظيم .. وساد الصمت بينهما برهة .. تدبر كل منهما معاني الآيات الكريمة .. وأهدافها النبيلة .. ثم ما لبث الطبيب أن قال: إن هذه الآيات .. يتلوها كل مسلم .. ويؤمن بها كل مهتد .. وما في ذلك من ريب .. ولكن حدثني بربك يا عم .. فأنت رجل علم وتجربة .. ألست ترى أن هذه الآيات تأخذ بناصيتي وبناصية كل عبد هداه الله .. من بين فئة كبيرة على الضلال .. فلقد جاهداني .. وأشهد الله .. ولعل أبي كان أشد قسوة .. لكن أمي كانت تراقبني .. وتجعل من يراقبني .. وتغري بي أبي .. وإخواني وإخوتي .. ظناً منها أن في هذه الملاحقة الخير لي .. ثم فرضت الأيام بيننا الحجاب .. وما أظنني على صواب فيما قد كان بيننا من قطيعة .. لأن الله جل وعلا يقول : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً }لقمان15 فأي معروف هذا .. وأنا لم أصاحبهما ..بل كنت وكانوا يصرون على قطع ما بيني وبينهما .. وأي صنيع سيء قد صنعت .. لو أنني تركت أبي يعود من زيارته لي .. ولم أنقذه على حين ظل المال راكداً في خزانتي .. أتظن يا عم أن المال .. هو الذي يصلح من شأن العيال .. بعد فقد عائلهم .. أعتقد أنك تعلم أن الأمر على خلاف ذلك .. أما الحق فهو ما أنبأنا به القرآن .. حيث يقول سبحانه في سورة الكهف: { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً }الكهف82 ألا ترى معي يا عم .. أن مجيء أبي إلى داري خاصة .. بعدما سمع بمولد محمد .. قد كان من جانبه .. كركوب أشد الأهوال وأقساها .. الا ترى أن مجيئه إلى بيت ولده الذي عرف حقيقة أمره .. هو نصر لي من عند الله .. إنني لا أنكر أن التصرف الذي صدر عني قد مس حقوق ولدي وزوجتي .. ولكن المغامرة .. كانت قضاء لا مفرمنه .. ولكننا يا عم .. إن يكتب الله لنا عمراً .. فسننظر فيما تأتي به المقادير .. إن شاء الله تعالى .. قال الطبيب ذلك وقد اعتزم في نفسه أمراً ..

(22)

نهض الشيخ يريد الانصراف .. بعدما سمع من دفاع ابنه الطبيب الشاب .. وإذا بابنته تعترضه .. وتتشبث به لتطيل بقائه .. ورفع الشيخ عصاه في وجه ابنته .. لكن الزوج كان قد أسرع إليه .. وقال له: ما هكذا يا عم .. علمتنا أن يكون الإقناع .. قال الشيخ لابنته : اسمعي يا هذه .. إنك هوجاء لا تعقلين .. إنك لا تعرفين قدر هذا الرجل الذي معه تعيشين .. فاحمدي الله أن رزقك بمثله .. ولتحذري بعد اليوم أي إساءة له .. أو سوء فهم لراشد تصرفاته .. كان هذا الموقف فاصلاً بين عهد لا يخلو من قلق وارتياب .. وعهد جديد ساده الاطمئنان .. إلى حسن إسلام الطبيب وصدق إسلامه .. وزاد الطبيب اقتراباً من الأسرة .. ومن كل الناس .. واتجه إلى الخروج من عزلته التي كان قد ضربها على نفسه .. وارتاح لها في خدمة السجون .. فالتحق بوزارة الصحة .. وأنجب ولدين آخرين .. هما محمود .. وإبراهيم .. وبقي طبيب أحد المراكز ., لأربعة أعوام .. ثم حملت زوجته من جديد .. فقال هو : علي أو علية .. فكانت علية .. التي توفي عنها أبوها وهي طفلة عمرها شهران .. وكانت جيوش الحلفاء الكبرى .. تنتقل في بعض مواقع محافظة الشرقية .. وكان قد انتشر بين الجنود .. وباء التيفوئيد .. فانتقلت العدوى إليه أثناء عمله في المخيمات .. وأحس الطبيب الشاب بدنو الأجل .. فقد كان رحمه الله صالحاً شفاف البصيرة .. وكأنما خاف على زوجته وأولاده مما سيلاقونه .. لو وافته المنية بعيداً عن الأهل .. فحزم حقائبه .. وأغلق داره .. واصحب زوجته وخادمه وأولاده .. وشغل إيواناً مستقلاً بالقطار .. حتى لا تنتقل العدوى منه إلى غيره ... حتى وصل إلى منزل صهره الشيخ الفاضل .. عبدالحميد مصطفى رحمه الله .. لكن إخلاص صهره .. وسهر زوجته .. وصغر سن أولاده .. ومهارة معالجيه من الأطباء .. لم تفلح جميعها في تأخير لحظة النهاية .. ووافاه أجله المحتوم .. بعد ستة أيام من مرضه .. وكان ذلك بعد مغرب يوم الثامن عشر من يوليو .. سنة ألف وتسعمائة وثمان عشرة .. بعد أن ضرب للبشر مثلاً سامياً في إصراره وشجاعته .. وحسن إسلامه .. وصدق إيمانه .. وقد منح رحمه الله للبشرية أبناء نافعين مؤمنين .. عاش منهم حتى خلد اسمه وذكره .. الدكتور: عيسى عبده ..العالم الاقتصادي الإسلامي المعروف .. وأحد من غذوا بدايات الصحوة الإسلامية .. والدكتور مهندس: محمد عبده .. أستاذ الهندسة المعروف بجامعات سويسرا .. ومن بعدهما أولادهما .. نفع الله بهم أمة المسلمين .. ورحم الله صاحب هذه القصة .. ومن أحبه وآواه ونصره .. ومن خلف من نسله ونسل أبنائه .. وآخر دعوانا أن احمد لله رب العالمين .. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : كنت تحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال قولاً حسناً، فقال فيما قال: (من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله مثل الذي لناوعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا) سنده حسن تمـــــــــــــــــــــــــــــــت

المصدر: محاضرة صوتة لفضيلة الشيخ: محمد بن إسماعيل المقدم من موقع طريق الإسلام ولم يكن لي جهد إلا بالنسخ والتعديل البسيط في السياق فقصته مكتوبة بكتاب ما .. لكن الشيخ لم يذكر اسم الكتاب وقد كان يقرأ القصة منه .. ولقد تأثرت بقصته كثيراً .. وكان لدي ما يدفعني دائماً إلى كتابتها رغم سماعي لها مرات ومرات أسأل الله أن ينفعني وأياكم .. ومن كان له فائدة يحب إضافتها فسأكون له من الشاكرين

الإنترنت مخزن كنوز المعرفة

$
0
0

بفضل الحاسوب أمامي ، فأنا يمكننى توجيه المزيد من المعلومات في ساعة ظهيرة مثل التى تم تخزينها في مكتبة الإسكندرية بكاملها، وهى مستودع اسطوري من المعرفة في العالم القديم.

تيرابايت بعد تيرابايت من البيانات توجد هنا، ومعظمها مجانى، وتحتاج إلى القليل من الجهد للعثور عليها. بنقرة وهناك الكتاب المقدس.

و بنقرة أخرى فإن كل ما دونه شكسبير ، وكتابات داروين ،و فرويد و نيوتن ، ناهيك عن feculent sewers التي تلوث المناطق السفلى من الفضاء الإلكتروني. كل النصوص قابلة للبحث ، مع الصور والصوت .

والادمان يصل إلى درجة عالية: فمستخدمي الانترنت يقضون حاليا نحو 12 ساعة في الأسبوع على الشبكة

ويبدو أن كل المعرفة الإنسانية هناك (كل ذلك لا يزال يخضع لحقوق التأليف والنشر على أية حال) ، وهذا التضخم الوحشي للبيانات هو يزداد تدفقا في كل دقيقة من كل يوم.

الانترنت تمثل ثورة فكرية من نوع لم يسبق له مثيل منذ اختراع المطبعة, أو ربما حتى منذ إختراع الكتابة في حد ذاتها. انها تعد بديمقراطية المعلومات في نهاية المطاف .

وبالنسبة للجزء الأكبر ، كان هذا ينظر اليه على انه شيء جيد. ولكن ليس من قبل الجميع. وقبل بضعة أعوام فإن التكنولوجي الأميركي 

نيكولاس كار

 كتب مقالا استفزازيا في أطلانتك مجازين بعنوان : هل جعلنا گوگل أغبياء؟

أطروحة كار ، والتي اتسع نطاقها الآن الى كتاب استفزازي على حد سواء ، هو أن هناك الجانب المظلم من الشبكة. ليست المواد الإباحية وغرف الدردشة فحسب-- تلك هي موثقة جيدا -- ولكن شيئا حتى الآن أكثر شرا وغير مرحب به- : شبكة الانترنت ، كما يقول ، تعلمنا أن نتوقف عن التفكير.

'وعلى مدى السنوات القليلة الماضية ،'وهو يكتب، 'لقد كان شعورا غير مريح أن شخصا ما ، أو شيء ما، يعبث في ذهني ، ويعيد تشكيل دوائرى العصبية ، ، و يعيد برمجة ذاكرتى.

'رأيي أنه --عقلى لن يذهب هكذا لكن الوضع يتغير. انا لم أعد أفكر بالطريقة التى ظننت أنى أفكر بها. 'الذى كان يقصده كار هو عدم قدرته على التركيز في أي شيء لأكثر من بضع لحظات في وقت واحد. وسأل رفاقه ووجد أنهم إتفقوا معه . وقد توقف بعضهم عن قراءة الكتب تماما.

وقال أحدهم ، وهو طبيب ، : 'لدي الآن تقريبا القدرة على القراءة واستيعاب مقال طويل قليلا على شبكة الإنترنت أو بالكتب مفقودة تماما .'

وتحدث آخر عن التفكير المتقطع لديه'. 'أنا لا أستطيع قراءة الحرب والسلام أكثر من ذلك. لقد فقدت القدرة على القيام بذلك. 'حدس كار -- بالمشاركة من قبل العديد من أصدقائه -- هو أن شيئا ما خطيرا يحدث لعقولهم ، والشك هو أن الإنترنت هو السبب. وإذ تدرك أنه قد اتهمت الشبكة بشكل غير متعمد لكثير أو قليل من الشر في المجتمع ، وأدرك كار انه بحاجة الى بعض الأدلة لدعم حدسه و إعتقاده. 

 

العلاقات التركية الروسية المستجدة

$
0
0
 تأليف : محمد السويسي
إسقاط الطائرة الحربية الروسية كانت اكبر مفصل في تاريخ تركيا الحديث لبناء تركية وطنية خارج الهيمنة الاميركية بتحرير جيشها ،من شعوبيين موالين لاميركا واليهود وإيران ، الى جيش وطني
عثماني.
إذ أن اميركا ، بإسقاط الطائرة بالتعاون مع إيران ، هدفت الى خلق هوة في العلاقات وحالة من العداء بين اردوغان وبوتين في تمهيد للإنقلاب حتى لايواجه باي إعتراض من روسيا فيما لو نجح .
ومع حالة العداء تلك اعلمت واشنطن موسكو عن توقعها بالإنقلاب قبل عشرة اسابيع من حدوثه لذا كان الخطاب الروسي متشدداً وقتذاك تجاه الاتراك تسريعاً للإنقلاب مع دعم الطيران الروسي للنظام السوري والإيرانيين لاسترداد كل مواقعهم التي خسروها تمهيداً للدخول الى حلب .
ولكن محاولة الإنقلاب الفاشلة وخطاب اردوغان الودي تجاه روسيا افشل كل الخطط الاميركية الإيرانية التي كان يعد لها ضد تركيا منذ بداية الازمة السورية لإسقاط نظامها وتقسيمها .
وقد رد بوتين الخطوة الإيجابية بخطوة مماثلة لاردوغان بتقديمه حلب هدية له كمنطقة نفوذ لتركيا معترف به دولياً.
لذا فتحسن العلاقات الروسية التركية سيكون حتماً على حساب العلاقات مع اميركا . إذ ان اردوغان يحتاج الى دعم روسيا في عهد بوتين القوى لإحداث التغييرات في الجيش ، لانه دون روسيا لايستطيع أردوغان مطلقاً ان يغير قيادات الجيش والمخابرات والطيران والبحرية من قيادات يهودية شعوبية علمانية الى قيادات مسلمة سنيّة وطنية إلا بدعم من دولة عظمى كروسيا .
كما وانه سيتكمن من تغيير مواقع المطارات العسكرية مع جميع طياريهاالشعوبيين و الثكنات والمواقع البحرية لينقلها من محيطها الشعوبي الموالي لإيران وأميركا الى مواقع تركية وطنية تحتاج حتماً الى تاييد الروس ودعمهم لمنع تدخل عسكري اميركي او إنقلاب آخر .
إذ ان الروس سيسهرون من الآن فصاعداً على امن تركيا من اي عدوان اميركي لما لهم من مصلحة لم يكونوا يحلمون بها لولا إسقاط الطائرة الحربية التي قلبت الامور في العلاقات راساً على عقب .
وهذا الإنفتاح الروسي التركي سيؤدي حتماً الى تقارب بين المملكة السعودية والروس ويعجل في إنهاء الازمة السورية خارج النفوذ الاميركي الإيراني ، إذ سيعمد اردوغان بما له من نفوذ الى تجميد نشاط كل الأحزاب والتنظمات الإسلامية ضد المملكة وبالتالي ضد مصر ، لانه يدرك تماماً ان تحركات هذه الأحزاب إنما تتم من خلال اميركا وإسرائيل وإيران لتقويض امن الدول العربية ، وقد اضحى يدرك الآن حجم المرارة من تحركات هؤلاء وخطرهم ضد الأمة الإسلامية وليس ضد العرب بعد العدوان عليه وما كان يُضمر له ولتركيا من خلالهم .
والأحزاب الإسلامية العربية اليوم التي لجأت الى تركيا هرباً من الانظمة العربية وظلت على تنسيق مع ايران فإنها أضحت في مأزق حقيقي ، فأما ان تستجيب لتعليمات اردوغان بالكف عن التدخل في شأن الدول العربية تنفيذا للمخططات الصهيونية الاميركية الإيرانية من اجل المال ، وإلا فإنها قد نواجه بمفاجأة متوقعة وهي بملاحقة اردوغان لقياداتها كما ملاحقته لغولن ، واعتقالهم وطردهم من البلاد او تسليمهم لدولهم إذا لم يستجيبوا لاوامره وظلوا على علاقتهم مع اميركا وبريطانيا وإيران .لانه اضحى الآن يدرك تماماً مدى الحقد الاميركي واليهود على الامة الإسلامية ، وأن إيران وهذه الاحزاب ليست سوى ادوات لاميركا والصهيونية العالمية ضد الامة العربية وألإسلام.

المملكة العربية السعودية ومحاولات الإصلاح

$
0
0

 

تأليف : محمد السويسي

إن الإحتلال الاميركي للعراق في العام 2003 وتسليمه لإيران مع السماح لها بالتمدد نحو الدول العربية للإطاحة بأنظمتها دون مبرر جعل الدولة المملكة العربية السعودية في موقع الحذر مع استهداف اميركا لنظامها ولدول الخليج  بقناعها الإيراني الظلامي باعتمادها اعمال القتل والإبادة للمسلمين  وتهجيرهم على اسس طائفية مذهبية كما هو جار في سوريا والعراق مع إعلام إيراني داخلي بان هذه الحرب هي رد على هزيمة القادسية وبالتالي للتسريع في إظهار المهدي المنتظر .

هذه الحرب الاميركية العدوانية ضد الامة العربية والإسلام جعل الملك عبدالله بن عبد العزيز يدرك ضرورة تطوير المجتمع السعودي بتحصينه من هذا الإرهاب الاميركي القادم بقبضته الإيرانية  بإقرار الضمانات الإجتماعية والصحية  وتعويضات البطالة ،  وتحديثه  بالتوسع بالتعليم بإرسال الطلاب للتعلم في الخارج ، خاصة إلى الولايات المتحدة الاميركية ،  بما زاد عن 300 الف مبتعث ، كما وتحرير المرأة من العادات القبلية المورثة بتوظيفها والتوسع في تعليمها لتأخذ دورها الى جانب الرجل في بناء الوطن .

هذه الإصلاحات في مضمونها  لم تكن سوى تحصينات لمواجهة حصار أميركي صهيوني للمملكة بهدف إسقاط نظامها لتقسيمها والإستيلاء على ثرواتها وثروات المنطقة ولوقف دعمها للقضية الفلسطينية وللشعب  المصري والخليج والأمة العربية كما وقف تمددها المالي المصرفي والإقتصادي والصناعي والزراعي  في أوروبا واميركا وآسيا وإفريقيا بما يعد منافسة للغرب واليهود في عقر دارهم ومراكز نفوذهم المالي  .

إعتقدت السعودية ان الامر قد استقر في المنطقة بإصلاحاتها السريعة ،إلا إن إعطاء الاذن من قبل باراك اوباما  لطهران بالتمدد نحو السعودية والبحرين واليمن في حصار للمملكة تمهيداً لإسقاطها زاد من تعقيدات المنطقة والخطر على المملكة . إلا أن الأمر لم يكن بهذا السهولة إذ كانت الرياض في حذر واستعداد تام للتدخلات الإيرانية ، فواجهتها بحزم في البحرين بما قلب جميع الخطط الاميركية راساً على عقب وقد فاجأهم الإستعداد العسكري السعودي في آذار 2011 ليعدلوا خططهم بتمدد إيران نحو سوريا واليمن واحتلالهما من خلال مليشياتها الإرهابية التكفيرية في عملية إبادة حقيقة للمسلمين بهدف تهجيرهم نحو المملكة والخليج تمهيداً لدخولها واحتلالها ، ولكن دون جدوى مع صلابة الموقف السعودي وتضامن باكستان ومصر والدول الإسلامية  والشعب العربي معها .

فكان على اميركا ان تعمد إلى إسقاط النظام المصري وإيصال قوى إسلامية على تفاهم مع بريطانيا وطهران بطرق ديمقراطية عربية بانتخابات  شعبية مولتها إيران بتاييد  عسكري من الجيش المصري الذي  كان يعترض على توريث السلطة لأحد ابناء حسني مبارك بما  سهل من وصول الإخوان المسلمين لرئاسة الجمهورية .

كان الامر مريحاً للإخوان وقد لقى ترحيباً من جماهيرالشعب العربي ومن المملكة بوصول حزب إسلامي في مواجهة النظام الإيراني الصفوي المعادي للأمة العربية والإسلام بدعم اميركي .

إلا ان التقارب الإيراني المصري ، بتشجيع من الرئيس الاميركي باراك اوباما عقب وصول الرئيس مرسي للسلطة ، في نقاط عدة معيبة تضمنت  منحة إيرانية بشكل هبة بقيمة  29 مليار دولار للإخوان مقابل السماح لطهران  بفتح مراكز للتشيع الصفوي  تحت عناوين ثقافية كما في سوريا والعراق ، بالإضافة لتعمد إهانة قيادات إخوانية لقيادة الجيش المصري التي اوصلت الإخوان للسلطة ، كما والدعوة الى حل الجيش المصري الذي اعتبره الإخوان في خطاب صريح انه جيش عبدالناصر  الذي يجب إزالته وتكوين مليشيات متعددة بديلاً عنه على نسق الحرس الثوري ، إذ إن دعوتهم لحل الجيش هي الخوف من إنقلاب مستقبلي ضدهم .

كما و إرسال رسالة ودية من القيادة المصرية الى القيادة الإسرائيلية بعنوان "عزيزي الرئيس "لم تكن في محلها لقصر نظرهم مع إرتفاع دعوة الشعب المصري إلى قطع العلاقات مع إسرائيل ، بما زاد من حدة السخط الشعبي المصري والعربي ضد قيادة الإخوان التي لم تحس تدبير امورها والإمساك بزمام السلطة ، خاصة مع بدء الحملات الإعلامية المصرية ضد المملكة العربية السعودية التي اخذت ترتفع في الإعلام الإخواني  رغم محنة المملكة  من محاصرة إيران لها على جبهات عدة بالدعوة الى إسقاطها دون مبرر . إذ كانت السعودية على الدوام الحاضنة لجميع القيادات الإخوانية المضطهدة من الانظمة العربية وأعضاءها منذ أربعينات القرن الماضي .

كان بمقدور  قيادة الإخوان ان تتحرر من كل التزاماتها السابقة مع إيران ، المعارضة لرأي الشعب المصري الذي انتخبها وفق المصلحة والمبادىء المصرية دون ان يدري ماكان يجري خلف الكواليس ، إلا  انها فضلت الإلتزام بتوجهات  اميركا وبريطانيا وإيران وفق حساباتها  الخاطئة لإعتقادها ان هؤلاء  ضمانتها في دوام السلطة وليس الجيش او الشعب المصري ، خاصة وان إيران بناء لتوجيهات اميركية بريطانية كانت تمول سابقاً على مدى سنوات طويلة  كل مكاتب الإخوان في الخارج وداخل مصر كما وتمول حركة حماس الإخوانية ضد السلطة الفلسطينية ووحدة الموقف الفلسطيني بما يقتضي ومصلحة إيران في تحالفها مع اميركا في العراق.

وقد ثبت خطأ هذا التصور الإخواني مع التحرك الشعبي ضدهم وقيام الجيش المصري بانقلاب عليهم ، إذ لم يعد الجيش يأمن على مصيره ومستقبله إزاء تصريحات قيادات الإخوان ضده وجر المشير طنطاوي وزميله الى التحقيق بما فيه من إهانة للجيش والشعب المصري معاً مما لم تحتمله القيادة العسكرية المصرية وقد سبق ان شهدت ماحل بالجيش الإيراني من إعدامات وتشريد عقب وصول الملالي إلى السلطة وبالجيش العراقي من تشريد وقتل واغتيالات عقب احتلال اميركا للعراق ، لذا كان لابد من الإنقلاب ضد الإخوان من قبل الجيش المصري  خوفاً من ان يلقى مصير جيشي إيران وبغداد .

كانت مصر في وضع مالي سيء جداً مع وصول الإخوان الى السلطة إلا ان اميركا كات تضغط عليهم لبيع مصر لإيران مقابل 29 مليار دولار . وقبل ان يتسنى للإخوان أعطاء الرأي في هذا الشأن  قام الإنقلاب العسكري ضدهم لتمد المملكة السعودية والخليج يد المساعدة الفورية للجيش المصري وشعبه ليكون سنداً لهم ضد التآمر الاميركي الإيراني مع قطع علاقة المملكة  نهائياً بالإخوان بعد ثلاثة ارباع قرن من الحب والود .

الإنقلاب المصري كان كالصاعقة على الرئيس باراك اوباما الذي خطط منذ استلام ولايته لإسقاط  الجيش المصري وحلّه وتشريده وملاحقته جزاء إنتصاره في معركة  اكتوبر ضد إسرائيل ، كما وإسقاط النظام السعودي بتمويل ودعم مليشياوي إيراني بما فيه من خدمة لإسرائيل والصهيونية العالمية .

وصول الملك سلمان الى عرش  المملكة السعودية خلفاً للملك عبدالله  في العام 2015 اظهرالقوة العسكرية  السعودية على حقيقتها بالدفاع عن اليمن  في غارات جوية  في مواجهة التحالف الاميركي الإيراني في حرب معلنة ضد السعودية والامة العربية والإسلام .

هذاالتصلب السعودي البطولي المقاوم في مواجهة الخطر الاميركي الصهيوني الإيراني وصده  دفع بالرئيس اوباما بالتعاون مع طهران والمالكي الى إنشاء تنظيم إرهابي تكفيري اعلن عنه اوباما في آب /اغسطس من العام 2014 واعترف به من البيت الابيض كدولة اطلق عليه "الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام  "وجعل عاصمتها مدينة الرقة السورية وحدد حدودها التي  تمتد حتى تخوم  بغداد . داعياً العرب الى الإعتراف بها كدولة امر واقع معلناً ولادة تقسميات جديدة بديلاً عن تقسيمات سايكس بيكو مؤكداً انه قد عفا عليها الزمن ولم تعد اميركا تعترف بها لصالح تقسيمات جديدة قادمة في الشرق الاوسط مدعياً ان داعش هي  تنظيم إسلامي بينما واقع الامر فإنها ليست سوى إحدى المليشيات الصفوية الإرهابية التكفيرية ، جاعلاً نواة جيشها من مساجين العراق المجرمين ، وقادتها من البريطانيين وضباط الموساد المستعربين الملثمين .

والقصد الاميركي الإسرائيلي من إنشاء ميليشيا داعش الفارسية الصفوية  بيافطتها الإسلامية السنيّة المخادعة هو لدعم اعمال الإبادة للحشد الشعبي العراقي الصفوي  وباقي المليشيات الصفوية العراقية  ولتبرير دخولها إلى المناطق الاسلامية والوطنية العراقية حيث يقوم داعش بتعويق تقدم قوى الثورة الوطنية وقتل المقاومين المسلمين وتحديد اماكنهم لقصفهم من الطيران الاميركي في العراق وسوريا.

الملك سلمان بن عبدالعزيز والإصلاحات :

أهم الإصلاحات التي قام بها الملك عبدالعزيز منذ خلف اخيه الملك عبدالله هو قيام الطيران الحربي  السعودي بالتصدي للتدخل الاميركي الإيراني في اليمن بقصف مواقع الحوثييين عملاء التحالف الاميركي الإيراني  نهاية آذار/ مارس من العام 2015 ، اي بعد اسابيع من توليه عرش المملكة بما قطع الامل من وضع طهران يدها على اليمن كنقطة إنطلاق لتمددها نحو اراضي المملكة والخليج لتعيث فيهم فساداً وقتلاً وتهجيراً كما حال سوريا والعراق لصالح اميركا وإسرائيل  .

نصرة المملكة لشعب اليمن وتحريره من تسلط الإيرانيين اذهلت الرئيس الاميركي  باراك أوباما وأحبطته ، إذ كان يريد ان ينهي عهده بخدمة الصهيونية العالمية بتفكيك المملكة والخليج لصالح إسرائيل الكبرى ، إذ ان المملكة الداعم الاول لصمود الشعب الفلسطيني ونصرته في سبيل إقامة دولته المستقلة على كامل الضفة والقدس والقطاع رغم كل محاولات إيران وإسرائيل لكسر مقاومة الشعب الفلسطيني وإعاقة وحدته وعرقلة العرب عن دعم قضيته .

كان التدخل السعودي ضروريا لحماية وحدة ارض المملكة والخليج وحماية الإنجازات السعودية التي تمت في فترات سابقة كما وحماية تطلعات ولي ولي العهد الامير محمد بن سلمان في رؤياه الممتدة حتى العام 2030 .

إذ ان الامير محمد يسعى في رؤياه تلك إلى إحداث نقلة كبيرة وسريعة في النهوض الإستثماري والصناعي في المملكة ، خاصة الصناعات العسكرية .وفي الإستثمار المالي يسعى إلى كسر الموانع والمحرمات السابقة بحيث سيتم تحريك الإقتصاد السعودي بتشكيل صندوق استثماري من خلال شركة  أرامكو القابضة للإستثمار في المشاريع أو الاصول  التابعة لها في المملكة والخارج  . كما تشجيع السياحة الداخلية وتشجيع فرص العمل الخاص بتقديم القروض للمشاريع المتوسطة والصغيرة وحصر الدعم بالطبقات الفقيرة والوسطى  دون الاغنياء وتحسين المواصلات وزيادة معدلات التوظيف ، وذلك ضمن ثلاث خطط خمسيّة متوالية بهدف اساسي وهو خلق موازنة مالية وطنية دون الإعتماد على النفط .

امام الهجمة الصهيونية الاميركية ضد الأمة العربية والإسلام بقناعها الإيراني فإن منعة المملكة العربية السعودية هي منعة للدول العربية والإسلامية كافة لان اميركا وإسرائيل يسعيان بدأب الى إسقاط المملكة لإسقاط الدين الاسلامي بما فيه من موانع لاقتصاد الفحش والفساد والنصب الذي تقوم عليه إستثمارات وول ستريت المالية .

وفي تقييم بسيط للخطة الإنمائية السعودية التي ستدخل في تفاصيل عديدة اثناء تنفيذها ، فإنه لابد من لفت النظر بأن نجاح المملكة ونهوضها وتقدمها يعتمد  على معطيات اساسية عدة منها :

أ‌-       تحقيق الضمانات الإجتماعية والصحية من ضمان شيخوخة وتعويضات بطالة للعاطلين عن العمل .

ب‌-  تعزيز دور المرأة وحمايتها وتحريرها من جاهلية العادات القبلية الموروثة باستعادة حريتها وحقوقها كما جاء في الفقه الإسلامي نظراً لأهمية دورها في بناء الاسرة والمجتمع والوطن على اسس اخلاقية متينة .

ت‌-  تحسين إداء الإدارة بالتدريب وتحصينها  من الفساد والرشوة بهيئات رقابية ولكن وفق تنظيمات جديدة مغايرة تماماً للنهج الحالي ، خاصة وان التنظيمات الحالية بإداءها الغربي الغير ملائم للمجتمع العربي هي اداة للرشوة والفساد خاصة من الهيئات الرقابية التي يقتصر دورها على إفساد الإدارة النشطة وإعاقتها وتحطيمها وفقاً للنصوص الإدارية  التي ترعاها .

ث‌-  تعزيز المواصلات العامة لتيسير النقل والإنتقال ببدل متدنٍ  رخيص لانها اداة في بناء الوطن ونهوضه  وليست للترف ، عدا انها تخفف من ازمة السير .وذلك يتطلب حفر الأنفاق (المترو) وتعزيز الباصات و القطارت السريعة بين المدن الرئيسية والأرياف .

ج‌-    تعزيز التعليم في كل مراحله خاصة التعليم المهني ليعتمد الوطن على ابنائه لوقف نظام السعودة التوظيفية المؤذية في نهوض الوطن . كما وقف الإبتعاث للخارج من قبل الدولة  إلا لمنح طلابية للمتفوقين وهم قلة من الأوائل في كل جامعة والإعتماد على التعليم المحلي بتعزيز التعليم الجامعي مع وفرة الاساتذة المتخصصين في العالم العربي الذين يمكن الإستعانة بهم في كل الإختصاصات بدلاً من إرسال مئات الآلاف للتعلم في الخارج بما لاحاجة له .

ح‌-    اخيراً لابد من لفت النظر بأن على المملكة ان تعيد النظر بسياستها الزراعية بالإعتماد على الداخل في زراعة القمح والأعلاف كمادة استراتيجة رئيسية ،باستجرار المياه من شمال المملكة مهما بلغت التكلفة إن من الأنهار او الينابع او من المياه الجوفية الممطرة ، وليس في ذلك من خوف ، لان الامطار تعيد ملء الأحواض الداخلية في عمق الارض مع كل فصل شتاء .مع العلم أن معظم سهول لبنان بزراعته الكثيفة يعتمد على المياه الجوفية في مناطق ممطره لاتلبث ان تمتلىء مع موسم الشتاء والأمطار .

خ‌-    إن المملكة تعاني من مشاكل وإعاقات جمة في استثماراتها الزراعية الخارجية في كل من مصر والسودان والحبشة واماكن آسيوية وأفريقية أخرى بفعل التدخلات الاميركية أو بسبب الفساد الإداري والسياسي في هذه الدول . ولقد كانت المملكة في وقت سابق مصدرة للقمح إلا انها اضطرت الى وقف زراعته بفعل الهجمة الاميركية بحجة حرصها على المياه الجوفية السعودية ، بينما تتآمر دون كلل  على الإطاحة بنظامها وتقويض أمنها واقتصادها وتفتيتها . لذا لابد من سياسية زراعية داخلية كجزء من تحصينها الداخلي في وجه المؤامرات الاميركية الإيرانية الصهيونية ضدها وضد الامة العربية والإسلام .

 

مبروك يا أيمن

$
0
0

أطيب الأمنيات للمدون النشيط، أيمن افندي زغلول، على الزواج  الميمون. ه

صاحب النظر البعيد ... قتلوه !!

$
0
0

 

صاحب النظر البعيد ... قتلوه !!

أتذكر منذ وقت ليس بعيد، مجرد شهور، أن المحاضر في مادة القانون والدين في جامعة هومبولدت وقف ليشرح طبيعة ونشأة الطائفة الدينية وفق أحكام الدستور الألماني الذي هو في الواقع لا يحوي أية أحكام مقيدة بالذات في شأن الأديان، بل بالعكس يشجع إنشاءها بأن أطلق النص عليها بلا أية قيود لا من مواده ولا من القانون.

وقد قال المحاضر وقتها أن الدولة لكي تري الطائفة الدينية (التي تتشكل وفق نظام أسهل حتي من نظام قانون الجمعيات إذ يكفي لإنشائها 3 اشخاص فقط) قال المحاضر أن الدولة لكي تري هذه الطائفة فلابد لها أن تكون علي شكل مسجل قريب من شكل الجمعية ولكن أسهل كثيرا في إنشائه. أي أن الشرط رغم وجوده إلا أنه سهل جدا في تحققه.

وهذا الوضع المميز للصورة القانونية ذكرني بأمر قديم ربما لم يأخذ حظه من إهتمام المؤرخين والمراقبين.

في عام 1972 وقبيل طرد الخبراء الروس من مصر عرض الرئيس السادات علي الفلسطينيين وبالذات علي ياسر عرفات أن يقيموا حكومة فلسطينية في المنفي لكي يكون ذلك بمثابة تمهيد للتفاوض مع إسرائيل. ولكنه بالطبع لم يذكر هذا الجزء الثاني من المقترح بل دعا فقط إلي الجزء الأول.

وبالطبع لأن الرئيس السادات لم يكن يؤخذ مأخذ الجد في تلك الفترة عقب فوات عام الحسم بلا أي حسم فقد فوّتت الصحافة المصرية القضية ولم تهتم بها.

والحقيقة أن هذا الإقتراح لم يلق أي صدي من جانب الرأي العام ولا الصحافة ولم يقم أحد بمناقشة مزاياه وعيوبه والنتائج التي قد تترتب عليه. حتي أنا شخصيا لم أقرأ عنه إلا في مجلة الحوادث اللبنانية التي كانت تباع في مصر بكل حرية ولكن لم تكن منتشرة مثل الأهرام مثلا أو آخر ساعة والمصور.

وقد قرأت أيامها حديثا للمجلة المذكورة مع ياسر عرفات قام فيه بالإستهزاء بالفكرة وصورها علي أنها توطئة لتصفية القضية والسير في ركاب الإمبريالية وتحقيق أهداف الحركة الصهيونية وخيانة القومية العربية وكل تلك الألفاظ المؤثرة صوتيا فقط والتي لا تعني شيئا في عالم الحقيقة. وبالطبع لم يكن الرئيس السادات علي إستعداد لتضييع مزيد من الوقت مع عرفات ولا غير عرفات واعتبر بطريقته البراجماتية الشهيرة أن الموضوع قد إنتهي وأنه قام بما يمليه عليه واجب النصح والتبصير وكان ما كان.

لكنني الآن عدت إلي هذه الدعوة القديمة للرئيس السادات وأعدت التفكير فيها.

فتجربة الحكومة في المنفي هي ليست بدعة جاء بها الرئيس السادات بل هو طريق متبع في كثير من الحالات كان أشهرها حالة الحكومة الفرنسية في المنفي في لندن عقب غزو فرنسا من جانب ألمانيا عام 1940. وكانت هذه الحكومة في المنفي برئاسة الجنرال ديجول هي نواة كل حركة المقاومة الفرنسية وهي التي تسلمت الحكم عقب إنزال النورماندي. كذلك كان للبولنديين حكومة في المنفي أيضا في لندن منذ قامت قوات هتلر بغزو بلادهم في أول يوم من أيام الحرب العالمية الثانية وظلت قائمة حتي عام 1990 حين سقط النظام الإشتراكي الشيوعي الذي كانت تقف منه موقفا مناهضا. والجزائر أيضا كان لها أيام حرب الإستقلال حكومة في المنفي توجه وتنظم وتفاوض وقت اللزوم.

ما هو الدور الذي يمكن لجومة في المنفي أن تقوم به؟ وما هي المثالب علي الفكرة؟

بالطبع هنا تأتي الإجابة علي السؤال الأول من قول المحاضر الذي ذكرته في البداية، فكما أن الدولة الألمانية تحتاج إلي صورة قانونية لكي "تري"الطائفة الدينية فالمجتمع الدولي يحتاج إلي حكومة أو تنظيم واضح يمثل الإقليم محل النزاع. وهذه ميزة ِعظمي في إقامة حكومة في المنفي. ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد.. فهناك المزيد بل الأهم..

كان الرئيس السادات في الفترة التي سبقت حرب أكتوبر مقلا في أحاديثه الصحفية متحفظا في خطابه الرسمي لا يكثرفيه ولا يخرج عن النصوص المكتوبة وأغلب الظن أنه كان يدري أن الناس لا تريد أن تعتبره زعيما قادرا علي الحسم بالسلاح. كذلك كانت مظاهرات الطلبة وأحيانا العمال والمشاحنات بين المسيحيين والمسلمين هي كلها ظواهر للحياة السياسية المصرية في الداخل تجعله عازفا عن الدخول في مناقشات. وبالتالي إمتد هذا العزوف إلي شأن الحكومة الفلسطينية وأصبح الموضوع خلال نهاية صيف 1972 نسيا منسيا وخصوصا بعد واقعة طرد خبراء الإتحاد السوفيتي من مصر في يوليو من ذلك العام الحاسم.

والذي بدأت أتفهمه في هذا السن المتاخر الآن هو أن الفكر السياسي والقانوني السائد في معظم بقاع العالم (حتي ظهور فكرة العولمة التدليسية) هو فكر يقدس كائن الدولة ولا يسمح تقريبا بمساءلتها. وبالطبع فإن رجلا مثل هنري كيسنجر ذا خلفية أوروبية ودراسة في الولايات المتحدة كان واحدا من هؤلاء المفكرين بهذه الطريقة.

والحقيقة أنه لا يمكن إفتراض أن فكرة الرئيس السادات بإقامة حكومة في المنفي مصدرها هنري كيسنجر لأن الفكرة علي ما هو واضح لنا جاءت قبل أن يبدأ الرئيس السادات في التفاوض السري مع كيسنجر عن طريق حافظ إسماعيل في الولايات المتحدة الأميركية، إذ أن هذا التفاوض لم يحدث إلا عقب قرار طرد الخبراء السوفيت.

ولكن ربما إشتم الرئيس السادات هذه الروح من خلال مستشاريه ومن ضمنهم بالطبع حافظ غانم الذي كان أستاذ قانون دولي عام في كلية الحقوق.

وعلي كل حال فالأحق بنسب هذه الفكرة إليه هو الرئيس السادات وحده إلي أن يثبت لنا خلاف ذلك.

المهم هو أن فكرة وجود تنظيم شبيه بالدولة أو حكومة ولو في المنفي هو في ذاته عاصم من  الزوال. وهذا هو الفضل الأعظم لفكرة الحكومة في المنفي. 

وهذا التحليل يقف معاكسا علي خط مستقيم للتحليل الذي قال به ياسر عرفات أيامها من أن الحكومة الفلسطينية في المنفي هي "تصفية"للقضية !!! ومن غير الواضح لي حتي اليوم كيف يجيء إنشاء حكومة في المنفي والإعلان عنها وتسمية أعضائها مساويا لتصفية القضية؟؟

ولو طبقنا مبدأ إعفاءالدولة دائما من عواقب كل ما تفعله علي كل ما نراه حولنا نجد أن إسرائيل تقوم بما تقوم به وتبرر ذلك دائما بأنه يقع في مصلحة الدولةraison d'etat

وليس هناك أي سبب يمنع من إفتراض أن الرئيس السادات كان يفكر بهذه الطريقة لكي يضع إسرائيل في خانة الضرورة إلي أن تعترف بأن للفلسطينيين حقوقا بدليل أن هناك دولة (أو حكومة ولو كانت في المنفي). بل أن هذا الإفتراض هو الأقرب للواقع. فكل ما جري بعد ذلك من أمر وحتي اليوم يثبت أن الرعب الإسارئيلي الكامل يقع في سيناريو إقامة دولة فلسطينية. وهذه الدولة كانت مطلبا مصريا قبل أو أثناء كامب ديفيد ولكنها رفضت وخرجت الإتفاقية الإطارية إلي النور بدونها. ثم كانت مطلبا فلسطينيا في بدايات التفاوض من أوسلو إلي كامب ديفيد الثانية ورفضت أيضا. وهي اليوم أبعد ما يمكن لها أن تكون عن القبول الإسرائيلي، رغم كل الكلام الذي يهدر في الزعم بأنها هي الهدف النهائي.. فالهدف النهائي لإسرائيل هو ليس قتل الفلسطينيين ولا حبسهم ولا أي شيء من ذلك، بل هو منع قيام الدولة، تماما مثلما كان ياسر عرفات يردد منذ 44 عاما مع الفارق أنه كان رجلا جاهلا يهذي ولا يعي ماذا يقول بينما إسرائيل تعرف جيدا ما تقول به.

بل أكثر من ذلك..

عندما هزمت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية ودخل الحلفاء إلي كامل إقليمها إحتلالا ووجب تقديم رجالها إلي المحاكمة، ماذا حدث؟ وكيف كان الموقف القانوني؟

كان الموقف القانوني هو إفتراض نهاية الدولة الألمانية (الرايش الثالث) نهاية بالضربة القاضية، ثم بعد فنرة 4 سنوات أنشئت دولة ألمانية جديدة هي جمهورية ألمانيا الإتحادية في الغرب إلي جانب دولة أخري ايضا جديدة هي جمهورية ألمانيا الديموقراطية في الشرق بينما وقع الجميع علي وثيقة وفاة الدولة القديمة، رغم بقاء نفس السكان ونفس الإقليم ونفس الثقافة.. فماذا يعني ذلك؟

إنه يعني نفس ما ذكرته منذ البداية، أن الدولة مقدسة وهي إما أن تعيش في قدسيتها أو تموت !!

خذ أيضا الحرب الأهلية في الولايات المتحدة مثالا آخرا علي ذلك.

كان إتفصال الولايات وخروجهم من إتفاق الإتحاد هو سبب قيام الحرب. والمدقق في الأمر يعرف أنه لم يكن هناك أي تنسيق بين الولايات المنفصلة (الكونفدرالية) وبعضها ولكنهم مع ذلك كانوا حريصين علي إعطاء هذا التجمع الغير متناسق مظهر الدولة المقابلة للدولة الإتحادية، فأنشأوا كيانا وهميا أسموه الكونفدراليين. ولماذا فعلوا ذلك؟ أظن من خلال هذه الأفكار أنهم كانوا يريدون الحماية التي تسبغها صفة الدولة علي كل ما تقوم به من خطايا بحيث لا تعاقب.

وأكثر من ذلك..

الولايات المتحدة نفسها قامت عقب إخراج الهنود من أراضيهم ثم إخراج بريطانيا من كامل إقليم الولايات مع الحرص علي توقيع الحاكم البريطاني علي وثيقة تفيد بأنه لم تعد هناك  لبريطانيا أي حقوق علي الأرض وأن علاقتها بها قد إنتهت قانونيا. وقد حكمت المحكمة العليا بعد ذلك بحوالي 50 عاما بأن عقود بيع الأرض من الهنود إلي غير الدولة الفيدرالية هي عقود باطلة لأن الدولة الفيدرالية لها حق الشفعة علي كامل الأراضي التي يتصرف فيها الهنود. والسبب في ذلك هو أن هذه الاراضي لم تكن خاضعة لسلطان الهنود الحمر في إطار دولة ولكن في إطار سائب لا نظام قانوني له، وبالتالي لم تكن علاقتهم بالارض علاقة ملكية كما نعرفه في مفهوم الدول، بل مجرد حق إستغلال لو اراد أن يتصرف فيه فعليه أن يسأل الدولة أولا. (حكم المحكمة العليا في قضية جونسون وجراهام ضد ماكنتوش من عام 1823)..

وفي هذا السياق لم يعد أحد يسأل عما جري للهنود وعن كيفية إنشاء الدولة الجديدة علي هذه الأرض.

وكل الاراضي الواقعة في العالم الجديد سواء كانت لاتينية أو أنجلوساكسون قد تم الحصول عليها بهذا الاسلوب، إنشاء دولة.

وقد كان هذا هو السند القانوني لقيام دولة بيضاء تماما في قلب أفريقيا السوداء، أن الأرض لم تكن مملوكة لأي طرف أو بمعني أصح كانت أرض جنوب أفريقيا أرضا سائبة لا سلطة لأي دولة عليها.

وإسرائيل نفسها لم تنشأ بطريقة مختلفة، بل كانت حريصة كل الحرص علي ألا تترك الأمور سائبة لحظة واحدة عقب النهاية الرسمية للإنتداب البريطاني يوم 14 مايو 1948 فأعلنت قيام الدولة لكي تصبح شرعية ولا ينبش أحد في ماضيها. بينما كان العرب ينامون في جهلهم تماما مثل ياسر عرفات عام 1972.

بل وأكثر من ذلك..  

 

القانون الدولي به قاعدة هامة تقول بعدم جواز ضم الأراضي المحتلة بالقوة (أراضي الغير).  وهذا النص يعني بمفهوم المخالفة أن الاراضي السائبة لا يوجد ما يمنع من ضمها لكونها غير محتلة، إذ لا صاحب لها.

وهذا الوضع السائب كان هو أساس حق الفتح الذي ذاع إستعماله في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والذي بمقتضاه إستولت الدول الأوروبية علي اراضي شاسعة عبر كل اصقاع العالم والذي ايضا بمقتضاه تتنافس دول معينة اليوم علي أراضي القطب الشمالي.

وأراضي فلسطين كانت بالضبط في هذا الوضع، سائبة ما بين 14 مايو ليلا وأول دقيقة من دقائق يوم 15 مايو عندما أعلن قيام إسرائيل. أي أنها لحظة قانونية ليس لها إمتداد حقيقي في الزمان ولكنها لازمة لانتقال السيادة من اليد البريطانية لليد الإسرائيلية. فبريطانيا لم تسلم اليهود شيئا وإنما مجرد تركت الارض ورحلت. وبعد رحيلها نشأت نظريا هذه اللحظة القانونية التي دخلت فيها إسرائيل قبل العرب وأعلنت دولتها علي الأرض السائبة.

ونفس هذا الوضع كان موجودا في الجزائر التي تولت فيها جبهة التحرير السلطة عقب مرور هذه اللحظة القانونية ذات الطول صفر.

وعلي ذلك لابد لكل أرض أن تكون ملحقة بطريقة ما بدولة حتي يكون لها وضع قانوني، وهذا يذكرنا بالضبط بما قاله أستاذ مادة الدين والقانون في محاضرته التي بدأت بها من أن الدولة تحتاج إلي "نظارة"أو جهاز رؤية لكي تري الطوائف الدينية وتتعامل معها وهذا الجهاز هو تنظيم الطائفة الدينية.

وبالقياس يمكن إعتبار أن النظام القانوني العالمي لا يستطيع رؤية أحقية ممارسة السلطة إلا من خلال نظارة أو جهاز رؤية إسمه الدولة.

والحقيقة أن رجلا فلاحا مصريا واحدا فهم هذه الحقائق وأدركها بفطرته بلا تعليم جامعي ولا دراسة قانون وهو أنور السادات، فكان حريصا جدا علي إلحاق أرض سيناء بأسرع وسيلة بالسيادة المصرية لكي لا يهبط بها الزمان إلي منزلة الارض السائبة فتصبح منهبا لكل من اراد.

ولأنه كان رجلا واعيا لم يعجب المصريين فقتلوه، إذ أنهم يميلون أكثر لرجل آخر جعجاع كاذب يتلاعب بأحلامهم ويدغدغ غرائزهم وفي النهاية يفقدهم أرضهم ولكنه يحافظ علي رمزهم..

الجبرتي كان رجلا لماحا ذكيا جدا على ما يبدو من كتاباته، فقد فطن قبل غيره إلى أهمية دور الدولة وسيادتها فوق كل شىء إذ يفرق بين حالين للفرنسيين
1. حال الإستقرار وعدم القلاقل وفيه يكون الفرنسيون أصحاب دولة عدل وقانون لا تمارس السخرة وتعطي لكل حق حقه وتنزل العقاب بالمذنبين "حتي ولو كانوا من جنسه أو من ملته"وهو هنا يتحدث عن نابليون حين أنزل عقوبات بالإعدام علي بعض جنوده بسبب "التسلق على الدور"أى السرقة من المنازل أو محاولة إغواء واغتصاب النساء الأرامل فى قول آخر من نفس نص الجبرتي..
2. والحال الثاني وهو حال الإستنفار والقلاقل والثورات إذ يتحول الفرنسيون إلى ممارسة الإرهاب والتنكيل الفظيع ولا يوقفهم واقف.

وهذا هو الفكر السائد حتي يومنا هذا فى معظم دول العالم، فكيان الدولة يسمو فوق كل الرؤوس وهي تحافظ على وجودها بالدم والمال والرجال ولا تعرف الرحمة فى مواقف الفتن. 

 

قارن بين موقف نابليون فى مصر منذ 215 عاما وموقف القوات الأمريكية فى العراق مثلا منذ 8 سنوات فقط وإعفاء الجنود بل والمتعاقدين الأمنيين من المساءلة القانونية..

والمؤكد هو أن ياسر عرفات قد فكر بالطريقة العربية العاطفية الطفولية التي إما أن تحصل علي كل شيء أو تمارسة عملية "القمص"باللغة المصرية الدارجة ويصبح العالم بأسره في عيونها مذنبا متآمرا. فالسبب الأول هو أن الحكومة الفلسطينية في المنفي كانت تعني بالنسبة لعقله عام 1972 أولا الإعتراف بإسرائيل كدولة لها "حق ما"في المنطقة، حق يجعلها صاحبة شرعية. ثانيا كان هذا الإنشاء للحكومة الفلسطينية سيفضي إلي توقف العلميات الفدائية التي كان ياسر عرفات يراها "كفاحا مسلحا ضروريا". وبالفعل في نفس ذلك العام في الخريف وقعت حادثة القرية الأوليمبية في ميونيخ والتي كانت تستهدف رياضيين من إسرائيل.  وهذه الحادثة في ميونيخ بالذات كانت هائلة الأثر في إستهجان العالم للقضية الفلسطينية ولمنظمة التحرير لأنها أظهرت القيادة الفلسطينية في مظهر سيئ للغاية أمام كل وفود العالم ونجم عنها توقف الدورة الأوليمبية في ميونيخ وقطع أحداثها بنهاية دموية.

والسببان هما من أغبي الأسباب التي قد يسوقها شخص مسؤول عن قضية سياسية واجتماعية، ولكن هؤلاء هم قادتنا من العرب. ومالم يكن ياسر عرفات قادرا علي فهمه بحكم تكوينه العاطفي هو أن مجرد كسب صفة الحكومة أو الدولة (حتي ولو منفية) يجعله قادرا علي الوقوف في وجه إسرائيل دبلوماسيا ويجعله يعامل من قبل المجتمع الدولي بطريقة أكثر إحتراما.

ولقد بح صوت الرئيس السادات في خطابه العام عقب الحرب وعقب إتفاقيتي فض الإشتباك مخاطبا العرب ومخاطبا الشباب (جيلنا ومن هم أكبر منا سنا خصوصا ربيبي منظمة الشباب الإشتراكي) بأن مصر قد إعترفت بالفعل بإسرائيل بمجرد قبول قرار 242 لعام 67 في عهد دبلوماسية عبد الناصر وأن نص القرار يقول بأن الإنسحاب يتم من الأراضي العربية مقابل حق كل "دول" المنطقة في العيش بسلام !! أي أن إسرائيل حصلت بموافقة مصرية عام 67 علي الحق في العيش بسلام.. ولكن أحدا لم يستمع إليه. تماما كما يحدث اليوم في معظم القضايا التي يشارك فيها العامة.

بمناسبة الحكومة في المنفي فإنه عند قرب نهاية الحرب العالمية الثانية ووضوح النصر إلي جانب الحلفاء وإنعقاد مؤتمر يالتا فقد طالب ونستون تشرشل الرئيس الأميركي روزفلت بترتيب المواقف قبل لقاء ستالين بما في ذلك تقسيم القطاعات التي تمنح لكل حليف من أراضي ألمانيا. واتقرح تشرشل قطاعا لكل من الدول الثلاث وقطاعا آخرا فرنسيا. وهنا تدخل روزفلت مندهشا بلهجة حادة قائلا: فرنسا؟ لماذا فرنسا؟ ماذا فعلت فرنسا حتي تستحق قطاعا؟ لقد كانت فرنسا دولة مهزومة تم غزوها ولم تقف في مواجهة هتلر بأي شكل من الاشكال ونحن الذين قمنا بتحريرها. إن فرنسا مثل بولندا ليس لها حق القسمة مع المنتصرين  الثلاثة. وبالطبع فقد تكهرب الجو ولم تحصل فرنسا علي شيئ إلا عقب وفاة روزفلت وانعقاد مؤتمر بوتسدام في يوليو 45 وفي سياقه نجح تشرشل في إقناع ترومان بقطاع فرنسي ولو صغير بينما لم ينجح في حشد الجهد الغربي لإجلاء السوفيت عن بولندا التي كانت هي سبب وقوع الحرب أصلا. إذ أن وضع بولندا المجاور للإتحاد السوفيتي يختلف جذريا عن وضع فرنسا البعيدة عنه جدا كما أن فرنسا كانت دولة كبري لها تاريخ عريق في العسكرية والسياسة والدبلوماسية والحضارة بينما بولندا لم يجد لها الحلفاء سببا لكي يساندوها ضد جار هائل القوة، فسقطت في الملك السوفيتي ولذلك ظلت حكومة المنفي قائمة في لندن حتي عام 1990. وعلي كل حال فإن تشرشل غادر مؤتمر بوتسدام مبكرا عن موعده بسبب سقوطه في الإنتخابات وجاء آتلي لكي يمثل بلاده في ذلك المؤتمر إستكمالا لما بدأه تشرشل، ولكن طبعا بخلفية أخري وخبرة أقل كثيرا من سلفه.. 

 

ومن نافلة القول أن  ديجول لو لم يكن موجودا بحكومة في المنفي في لندن لم يكن ليحصل علي أي شيء عقب الحرب، فالقسمة تقع فقط بين الأكفاء والنظراء، أي الدول وليس مع المنظمات، خصوصا لو أنها إشتهرت بالإرهاب.

 

حقائق تاريخية حول القضية الفلسطينية

$
0
0

سنحاول في هذه الورقة تقديم تأطير تاريخي يتضمن أهم المحطات التي عرفتها القضية الفلسطينية من قبيل سقوط الخلافة العثمانية، إلى إعلان قيام دولة إسرائيل سنة 1948. محاولين الوقوف على بعض الحقائق التاريخية المهمة، والسياقات الحقيقية للقضية الفلسطينية.

 

1- ما قبل الاحتلال البريطاني لفلسطين وسقوط الخلافة العثمانية:

 

- بدايات الأطماع الصهيونية.

 

تظهر الدراسات التاريخية، أن اليهود فقدوا صلتهم بفلسطين لمدة تصل إلى 1800 عام. ولم يفكروا حتى في سبل العودة إلى فلسطين، لأن رجال الدين اليهود كانوا يؤمنون أن اليهود يستحقون هذا "الشتاتلما ارتكبوه من آثام وخطايا، وأن عودتهم لن تتحقق إلا بعد مجيء "الماشياح"أو "المسيا" (Messiah/Mashiah) وهو الذي سيمكنهم من الاستقرار في فلسطين.

 

وعلى عكس الكنيسة الكاثوليكية التي تعتبر اليهود قتلة المسيح، فإن ظهور البروتستانتية في أوروبا منذ القرن السادس عشر في إطار حركة الإصلاح الديني، سيُكسب الصهيونية دعما أكبر، بين أتباع الإصلاح الديني، لإيمان البروتستانتية بالعهد القديم (التوراة) ومقولاته التي تتضمن عودة اليهود إلى فلسطين، إذ يؤمن البروتستانتيون بما يسمى "نبوءة العصر الألفي السعيد"، والتي تقول بظهور المسيح المنتظر بعد اجتماع اليهود بفلسطين، ليقوم بتنصيرهم، ثم يقودهم في معركة "آرمجدون"التي سينتصر فيها، ليبدأ عهد جديد من السعادة يدوم ألف عام.

 

ونظرا لانتشار البروتستانتية بأغلبية في بريطانيا والولايات المتحدة وهولندا، وبدرجة أقل في ألمانيا، فستصبح هذه الدول داعمة للمشروع الصهيوني بشكل تلقائي انطلاقًا من خلفيتهم الدينية.

 

وبشكل عام، تمتع اليهود بمزيد من الحريات والحقوق في أوروبا الغربية في ارتباط مع تأسيس الدول العلمانية بها، عكس ما عرفته روسيا من تضييق عليهم، بلغ أوجه سنة 1881 بعد اتهام اليهود باغتيال قيصر روسيا ألكسندر الثاني. وبدأت حملات التضييق والعداء لليهود، لتظهر حينها ما يعرف "بالمشكلة اليهودية"، والتي تتلخص ببساطة في عدم وجود وطن قومي لليهود، وبدء أعداد هائلة من اليهود في الهجرة من روسيا إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية والجنوبية، لتصبح الأجواء حينها مناسبة للحركة الصهيونية، للبروز إلى العلن، والحديث صراحة عن حل "المشكلة اليهودية"بإقامة وطن لهم في فلسطين؛ وهي الدعوة التي بدأت تحصد المزيد من الأتباع تدريجيا بين اليهود، خصوصا الفارين منهم من روسيا؛ وبين الغربيين أيضا والراغبين في توجيه تدفق الهجرة اليهودية إلى الخارج.

 

- تمسك الدولة العثمانية بفلسطين:

 

وفي هذا السياق، أصبحت الهجرة اليهودية القادمة من روسيا أكثر كثافة وتدفقًا منذ سنة 1882، مما أثار انتباه الدولة العثمانية، ودفعها إلى اتخاذ العديد من الإجراءات لمنع الاستيطان اليهودي في فلسطين. حتى أن السلطات العثمانية قامت سنة 1887 بفصل منطقة القدس عن ولاية سورية، وجعلتها تابعة للسلطة المركزية بشكل مباشر لتحظى بالمزيد من العناية والاهتمام.

 

وقد نجحت الجهود العثمانية في التصدي لذلك المد الاستيطاني، فمن بين مليونين و367 ألف مهاجر يهودي هاجروا من روسيا وأوروبا الشرقية في الفترة الممتدة من 1881 إلى 1914، لم ينجح سوى 55 ألفا منهم في الهجرة إلى فلسطين؛ وهي النسبة التي لم تتجاوز (2.32%).

 

ويحفظ التاريخ للدولة العثمانية، والسلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) مواقف مشرفة للدفاع عن فلسطين وحمايتها. إذ تعرض السلطان عبد الحميد للعديد من الضغوط والإغراءات للسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، وتمكينهم من حكمها تحت السيادة العثمانية، ووصلت الإغراءات إلى حد تقديم مبالغ مالية خيالية وأداء جميع ديون الدولة العثمانية في ظرفية صعبة كانت تعيشها هذه الأخيرة والتعهد ببناء أسطول لحمايتها، بل وتقديم قرض يصل إلى 35 مليون ليرة ذهبية إلى خزينة الدولة العثمانية.

 

غير أن السلطان عبد الحميد رفض كل ذلك، وتحدى مختلف الضغوط التي مورست عليه، وكان رده حاسما لهرتزل باستحالة بيعه لفلسطين لأنها ليست له، بل هي ملك للشعب؛ وبأنه سيدافع عنها مادام حيا، فإذا سقطت الإمبراطورية العثمانية، آنذاك يستطيع الصهاينة أخذها مجانا، وهي النبوءة التي لم تنتظر طويلا لتتحقق.

 

ولعل المواقف الصلبة للسلطان عبد الحميد، أنهت آمال الصهاينة في استيطان فلسطين مادام هذا الأخير على رأس الدولة العثمانية؛ ودفعتهم إلى المشاركة بقوة في إنهاء حكمه وإسقاط الدولة العثمانية، وهو ما نجحوا فيه بعدما تسربوا في لجنة الاتحاد والترقي، ووصلوا إلى مناصب قيادية سنة 1907، حيث شاركوا في الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني بتاريخ 27 أبريل 1909، وعزل هذا الأخير ووضعه تحت الإقامة الجبرية إلى حين وفاته سنة 1918.

 

وبعد الانقلاب، تغيرت الموازين لصالح اليهود، الذين تمتعوا بنفوذ كبير خصوصًا تحت حكم الاتحاد والترقي ما بين 1911 و 1914.. وانطلق البرنامج الصهيوني الاستيطاني بقوة من خلال الهجرة اليهودية الكثيفة إلى الأراضي الفلسطينية وشراء الأراضي بها.. إلى حين سقوط الدولة العثمانية رسميًا عام 1924 واستحواذ الجيوش البريطانية على فلسطين.

 

- تأسيس الحركة الصهيونية

 

جاء تأسيس الحركة الصهيونية كتتويج لمجموعة من المبادرات التي عمت أرجاء أوروبا، وأيضًا كنتيجة لمجموعة من التحولات الفكرية التي طالت القناعات الدينية اليهودية من خلال المساهمات الفكرية لمفكرين وحاخامات يهود، تحايلوا على التحريم الديني لعودة اليهود، والمشروط بمجيء "المسيا"مسيح اليهود، حيث تحايلوا على هذا التحريم وروجوا أن عودة اليهود إلى أرض الميعاد ستجبر المسيح على النزول.

 

وإذا كان مصطلح الصهيونية قد ظهر لأول مرة على يد الكاتب الألماني "ناثان برنباوم"سنة 1893، فإن الصهيونية السياسية قد برزت إلى العلن بتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية (WZO) كحركة سياسية منظمة بزعامة "ثيودور هرتزل"، والذي ترأس مؤتمرها الأول في بازل بسويسرا بتاريخ (29-31/08/1897). وقد كان مكان المؤتمر مقررا في البداية في مدينة ميونخ الألمانية، إلا أن فكرة المؤتمر لقيت معارضة شديدة من اليهود أنفسهم، ليتم نقل مكان المؤتمر إلى بازل السويسرية بحضور حوالي 200 مشارك.

 

وقد أعلن المؤتمر هدفه المتمثل في وضع حجر الأساس لوطن قومي لليهود، كما أكد المؤتمر على أهمية الدعم الدولي لتحقيق أهدافه، وعمل على إنشاء صندوق لتمويل شراء أراضي فلسطينية، وتمويل الاستيطان. وقد عرف المؤتمر الدعوة إلى إحياء اللغة العبرية رغم أن لغة المؤتمر كانت الألمانية واليديشية؛ كما قام المؤتمر بوضع مسودة البرنامج الصهيوني الذي عرف ببرنامج بازل .

 

ومن الحقائق التاريخية المهمة، أن الحركة الصهيونية لم تحسم في بداياتها في مكان إقامة الدولة اليهودية، بل إن هرتزل نفسه كان مستعدا لإقامتها في فلسطين أو الأرجنتين؛ كما أن بريطانيا قد اقترحت في وقت سابق على اليهود إقامة دولتهم في "أوغندا"وهو الاقتراح الذي قسم الحركة الصهيونية بين معارض ومؤيد، ليرفض المقترح لاحقا في المؤتمر الصهيوني السابع عام 1905، خصوصًا وأن اختيار فلسطين كان منسجمًا مع المخططات الاستراتيجية للقوى الاستعمارية في المنطقة العربية.

 

- فلسطين في قلب الأطماع الاستعمارية:

 

على المستوى الاستراتيجي، وجدت القوى الكبرى في أوروبا الغربية الأجواء مناسبة بعد ضعف الدول العثمانية لتقسيم العالم العربي، والتفوق عليه استراتيجيًا؛ وذلك لاستباق نهوض دولة إسلامية قوية بعد سقوط الخلافة العثمانية. وضعف هذه الأخيرة هو الذي شجع ظهور الحركة الصهيونية، رغم ما يحفظ للدولة العثمانية من دفاع عن فلسطين وأهلها.

 

كما أنه منذ القرن التاسع عشر، وفلسطين مركز الأطماع الاستعمارية الأوروبية، خصوصًا البريطانية منها: إذ كانت التنافس الاستعماري على أشده بين فرنسا وبريطانيا.. وفي هذا السياق، فكرت بريطانيا في فلسطين، كحاجز بين الجناحين الآسيوي والإفريقي للعالم الإسلامي. ومهمة هذا الحاجز هو منع واستباق أي محاولة توحيد للبلدان الإسلامية، والعمل على شغل هذه الأخيرة بنزاعات مفتعلة. وهنا نؤكد على الحقيقة التالية: إن الاحتلال الصهيوني لفسطين، هو في العمق احتلال لحلم الوحدة الإسلامي، وإجهاض لأي نهوض حضاري مستقبلي للأمة الإسلامية. وينبغي التعامل مع القضية الفلسطينية على هذا الأساس، وليس باعتبارها مشكلة للشعب الفلسطيني وحده.

 

وظلت فكرة الدولة الحاجزة كمخطط استراتيجي مأمول لبريطانيا، تحاول تحقيقه تدريجيًا؛ فافتتحت قنصلية لها بفلسطين عام 1838، وكانت أول مهمة للقنصل حماية اليهود هناك. وبعد نجاح بريطانيا في السيطرة على مصر سنة 1882، أصبحت في حاجة إلى حماية الجناح الشرقي لقناة السويس، والتي كانت ممرا استراتيجيًا للمواصلات التجارية مع آسيا والهند خصوصًا.

 

مع هذه التطورات، سيحظى المشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين بحافز مزدوج: ديني عند اليهود الصهاينة والمسيحيين البروتستانت؛ واستراتيجي عند الدول الغربية التي لا ترغب في دولة إسلامية موحدة، وعند بريطانيا لتحقيق نفس الهدف، وأيضًا لضمان تفوقها الاقتصادي والاستراتيجي على باقي القوى الاستعمارية.

 

وأثناء الحرب العالمية الأولى، كثفت بريطانيا جهودها لتحقيق مشروع الدولة الحاجزة، فشجعت مختلف الثورات العربية الهادفة للخروج عن الدولة العثمانية، كما عمدت إلى التفاوض مع المنظمات الصهيونية لاستخدام النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية للضغط على هذه الأخيرة لمشاركة في الحرب العالمية الأولى لصالح الحلفاء، وقد نجح اللوبي اليهودي الأمريكي في ذلك، لتنضم الولايات المتحدة إلى الحرب بدءا من آذار/مارس 1917.

 

ونتيجة لهذا الدعم الصهيوني لبريطانيا، حصل الصهاينة في المقابل على وعد مغر من وزير الخاريجية البريطاني "جيمس بلفور"الذي صرح في (2/11/1917) بتعهد بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين. وهو ما اشتهر تاريخيا "بوعد بلفور"، ومن غرابة هذا الوعد، تعارضه مع الاتفاقيات التي كانت بريطانيا قد التزمت بها، كما أنه وعد بمنح أراض لم تمتلكها بريطانيا بعد حينها!

 

ومنذ إعلان هذا الوعد عمت الاحتجاجات جميع أنحاء فلسطين وبعض الأقطار العربية، ولم يطل الوقت ببريطانيا لتنفيذ هذا الوعد، إذ دخلت جيوشها القدس بتاريخ (11 كانون الأول/ ديسمبر 1917) وحدثت على أثر ذلك صدامات بين العرب واليهود..

 

على مستوى آخر، كانت المفاوضات السرية تجري على قدم وساق بين بريطانيا وفرنسا (انضمت إليهما روسيا لاحقًا) لتقسيم المنطقة العربية بينهما؛ وهي المفاوضات التي أدارها كل من جورج بيكو عن فرنسا ومارك سايكس عن بريطانيا. وتوجت باتفاقية "سايكس- بيكو"بتاريخ أيار/ ماي 1916. وبموجب الاتفاقية، حصلت فرنسا على الشام (لبنان وسوريا) ومنطقة الموصل وجنوب الأناضول، بينما حصلت بريطانيا على معظم العراق والأردن ومنطقة حيفا في فلسطين؛ ونظرا لكون كل من فرنسا وبريطانيا تطمعان في الاستحواذ على فلسطين، فقد اتفقا على جعل فلسطين منطقة دولية.

 

2- من الاحتلال البريطاني لفلسطين إلى إعلان قيام إسرائيل (1918-1948):

 

- فرض الاحتلال البريطاني على فلسطين:

 

قامت بريطانيا باحتلال القدس الشريف وجنوب ووسط فلسطين سنة 1917، وهو احتلال يجمع بين البعدين الاستراتيجي الاستعماري، والديني؛ وهذا ما تؤكده القولة الشهيرة لقائد الجيش البريطاني "ألِنبي"الذي خطب في القدس قائلا: "والآن، انتهت الحروب الصليبية"، التي انطلقت قبل 800 عام خلت. وأتمت بريطانيا احتلال باقي الأراضي الفلسطينية في العام الموالي 1918. كما استصدرت قرارا دولية من عصبة الأمم سنة 1922 يعطيها شرعية الانتداب، وضمنته وعد بلفور أيضًا.

 

- العمليات الاستيطانية الصهيونية:

 

بدءا من أواخر سنة 1922، وضعت بريطانيا فلسطين تحت إدارة مندوبين سامين يهود، كان أولهم هربرت صامويل (1920-1925) الذي شرع في تنزيل المشروع الصهيوني على أرض الواقع، وكان وزيراً للداخلية البريطانية ومتعاطفاً مع الصهاينة... وكان أشرسَ المندوبين وأنجَحهم في تطبيق المشروع الاستيطاني هو "آرثر واكهوب" (1931-1932).

 

وطول الوقت كانت بريطانيا تضيق على الفلسطينيين سبل العيش وتضطهدهم وتذكي الانقسامات العائلية والطائفية، كما حرصت على نزع تسليح الفلسطينيين على بساطته. كل ذلك مقابل تشجيع الهجرة اليهودية، حيث انتقل عدد اليهود بفلسطين من 55 ألفا (8% من السكان) سنة 1918 إلى 646 ألفا (31% من السكان) سنة 1948. كما عمدت بريطانيا أيضًا إلى تسليح اليهود وتدريبهم، إذ وصل تعداد الجيش الإسرائيلي 70 ألفا سنة 1948. وحرص الصهاينة على إقامة مؤسسات اقتصادية واجتماعية وتعليمية، وتأسيس البنى التحتية للدولة اليهودية المستقبلية بدعم من بريطانيا.

 

عمومًا تعرض الشعب الفلسطيني لأبشع أنواع الظلم والاضطهاد على يد المستوطنين اليهود مدعومين من بريطانيا.

 

- المقاومة الفلسطينية:

 

رغم اختلال موازين القوى بشكل واضح لصالح المستوطنين الصهاينة، فإن هذا لم يمنع الفلسطينيين من مقاومة الاحتلال والتصدي له بكل قوتهم، رغم أن أجواء الدعم العربي لم تكن في المستوى المأمول، بسبب وقوع أغلب الدول العربية تحت الاستعمار.

 

هكذا قاوم الشعب الفلسطيني الاحتلال البريطاني والمشروع الاستيطاني منذ بداياتهما، فتأسست المقاومة الفلسطينية مبكرا، ونمثل لها بجمعية "الفدائية"وهي جمعية سرية تأسست سنة 1918، وضمت عدداً من رجال الشرطة الفلسطينية، كما أن المقامة الفلسطينية لم تقتصر على الفلسطينيين فقط، بل احتضنت كل من رغب في الدفاع عن فلسطين، مثل الشيخ المجاهد عز الدين القسام الذي قدم إلى حيفا من سوريا بعد انهيار الثورة السورية ضد فرنسا، وأسس حركة من أقوى الحركات الجهادية...

 

وهكذا أقامت الحركة الفلسطينية مؤتمرها الأول عام 1919 بالقدس الشريف، وهو المؤتمر الذي حمل أبعادا عربية وحدوية، سواء من خلال تسميته: "المؤتمر العربي الفلسطيني"، أو من حيث ما خلص إليه من رفض للتقسيم الاستعماري لبلاد الشام، واعتبار فلسطين جزءا منها. كما طالب المؤتمر باستقلال سوريا في إطار الوحدة العربية، وتشكيل حكومة فلسطينية مستقلة، وقد استمرت مؤتمرات الحركة الوطنية تباعا.

 

وقد تميزت المقاومة الفلسطينية بتوجهها السلمي إلى حدود سنة 1929، وذلك لأسباب عدة: على رأسها افتقار إلى موارد وإمكانات مادية، وتهيب الفلسطينيين من القوة البريطانية وقدراتها العسكرية الضخمة، بالإضافة إلى بعض الخلافات الداخلية على تزعم الحركة، وهي الخلافات التي حرصت بريطانيا على على إذكائها.

 

غير أن هذا لم يمنع من قيام ثلاث ثورات عكست احتجاج الفلسطينيين على الوضع القائم، وإن كانت تلك الثورات صبت جام غضبها على اليهود، وتحاشت المستعمر البريطاني، رغم أنه من تولى إخماد هذه الثورات. ويتعلق الأمر بثورة "موسم النبي موسى"في القدس ( ما بين 4 و 10/4/1920)، وثورة يافا (من 1 إلى 15/5/1921)، وثورة البراق (ما بين 15/8 و2/9/1929). وقد أخذت هذه الثورات طابعًا إسلاميًا ساهم في تأجيج المشاعر الوطنية.

 

ومنذ سنة 1929، تصاعدت حدة المقاومة الجهادية التي بدأت توجه أسلحتها نحو المستعمر البريطاني أيضا؛ كما تأسست العديد من الأحزاب الوطنية وحركات المقاومة المنظمة والتنظيمات الجهادية العسكرية بدءا من سنة 1933؛ والتي كان نشاطها في تزايد مستمر توازى مع تزايد اليأس الفلسطيني من استرجاع حقوقهم بالطرق السلمية والدبلوماسية.

 

وحرصت المقاومة الفلسطينية دائما على البعد العربي في برامجها، وعملت على التنسيق مع زعماء الحركات العربية الأخرى. وفي عام 1931، أخذت المقاومة طابعا إسلاميا إثر المؤتمر الإسلامي العام المنعقد في القدس، والذي استضاف علماء وشخصيات إسلامية مرموقة، مثل محمد إقبال، وعبد العزيز الثعالبي والشيخ محمد رشيد رضا وغيرهم...

 

وتعد حركة "الجهادية"من أقدم الحركات السرية الجهادية، إذ تأسست مبكرا سنة 1925، وكان لها دور بارز في ثورة "البراق"، كما كانت المحرك الأساسي للثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936؛ حيث أعلن الفلسطينيون حينها الإضراب العام في 20 أبريل/نيسان، والذي دام حوالي ستة أشهر (178 يوما) وهو أطول إضراب في التاريخ يقوم به شعب كامل.

 

وعرفت الثورة مواجهات عنيفة بين الجهاديين الذين دشنوا عمليات قوية مثل نجاح القساميين في اغتيال الحاكم البريطاني سنة 1937، وبين البريطانيين الذين نهجوا إجراءات قمعية قاسية.

 

وقد دفع نجاح المقاومة المستعمر البريطاني إلى القيام بإجراءات كبرى، مثل إرسال تعزيزات عسكرية ضخمة إلى فلسطين، تحت قيادة أفضل قادتها العسكريين؛ كما أعادت احتلال فلسطين من جديد، قرية قرية، لضمان القضاء على المقاومة... وهي الإجراءات التي نجحت في تخفيف حدة المقاومة تدريجيًا، رغم أن هذه الأخيرة نجحت بدورها في جر بريطانيا إلى طاولة الحوار، حيث اضطرت بريطانيا سنة 1939 إلى إعلان "الكتاب الأبيض"الذي يتضمن دعم بريطانيا لإقامة دولة فلسطينية مستقلة يقتسم فيها العرب السلطة مع اليهود، بالإضافة إلى إجراءات أخرى لصالح الفلسطينيين.

 

وباندلاع الحرب العالمية الثانية، عمدت المقاومة الفلسطينية إلى التحالف مع ألمانيا وإيطاليا للحصول على دعمهما. لكن فوز الحلفاء في الحرب أفشل خطط المقاومة. على عكس ذلك، كانت أجواء الحرب لصالح المنظمات الصهيونية التي استغلت ما تعرض له اليهود بألمانيا وأوروبا الشرقية لكسب التعاطف، والتأكيد على ضرورة إقامة وطن قومي بفلسطين؛ كما ركز اللوبي الصهيوني ضغطه على الولايات المتحدة الأمريكية، حيث فاز بكل الدعم المطلوب. ونجح الصهاينة على إثر ذلك في دفع البريطانيين إلى التخلي عن الكتاب الأبيض وما حفل به من وعود، وأدرجوا الولايات المتحدة كطرف أساسي وداعم لهم في كل ما يتعلق بمشروعهم الاستيطاني.

 

وسجلت سنة 1947 تحول القضية الفلسطينية إلى قضية دولية، حيث أصدرت الأمم المتحدة قرارها الجائر رقم (181) القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وهو القرار الذي تم تمرير بعد موجة من الضغوط والإغراءات التي تعرضت لها الدول التي كانت ترفضه.

 

وإثره اندلعت الحرب التي خاضها الفلسطينيون لوحدهم لمدة ستة أشهر كاملة، حيث رفضت الدول العربية إرسال جيوشها قبل خروج بريطانيا. ورغم ضعف الدعم العربي وافتقار المقاومة الفلسطينية للسلاح والموارد فقد تمكنت هذه الأخيرة من الحفاظ على 82% من الأراضي الفلسطينية، وأرعبت الصهاينة، بل ودفعت الولايات المتحدة إلى التفكير جديا في التراجع عن فكرة التقسيم في مارس/آذار 1948.

 

ورغم صدق المجاهدين العرب، فإن مشاركة الجيوش العربية كانت أقرب إلى المأساة، إذ لم يتجاوز تعداد الجيوش العربية المكونة من سبعة دول 24 ألف مقاوم، مقابل 70 ألفا من جيش العدو الصهيوني. كما عانى المجاهدون العرب من الأسلحة الفاسدة والقديمة، وضعف التدريب والتنسيق، خصوصًا وأن الجيوش العربية ضمت 45 ضابطا بريطانيا ضمن قاداتها، نظرا لكون بعض الدول العربية كانت لا تزال تحت النفوذ البريطاني؛ هذا بالإضافة إلى أن بعض الجيوش العربية عمدت أحيانًا إلى نزع سلاح الفلسطينيين بدل تسليحهم، كما ضيقت بعض السلطات العربية على المشاركين في المقاومة من أبنائها.

 

في ظل هذا التهافت، تمكن الصهاينة من هزيمة الجيوش العربية، واستولوا على (77%) من الأراضي الفلسطينية، وأعلنوا قيام دولة إسرائيل بتاريخ (14-5-1948).

 

ومن النتائج المأساوية لهذه الحرب، قيام العصابات الصهيونية بتشريد (58%) من الشعب الفلسطيني بالقوة من أراضيهم، ودمروا 478 قرية فلسطينية من أصل 585 قرية، وارتكبوا 34 مجزرة في حق المدنيين، من أشهرها مذبحة دير ياسين (9/4/1948). وإذا كانت المقاومة الفلسطينية قد نجحت لوحدها، وبجهودها الخاصة، ومواردها شبه منعدمة في التصدي لليهود الذين لم ينجحوا منذ قدومهم، وإلى حدود سنة 1948، في الاستحواذ إلا على (6%) من الأراضي الفلسطينية، وهي في معظمها أراض حكومية أو لإقطاعيين غير فلسطينيين؛ فإن حرب 1948 مزقت الشعب الفلسطيني واقتلعته من أرضه التي استقر بها آلاف السنين، وشتته ما بين مستعمَر مضطهد ولاجئ هائم.

 

3- خاتمة: ما ينبغي تذكره من حقائق

 

- يحفظ التاريخ للدولة العثمانية، والسلطان عبد الحميد الثاني خصوصًا مواقف مشرفة للدفاع عن فلسطين وحمايتها والتصدي للمد الاستيطاني الصهيوني.

 

- في تأسيس الحركة الصهيونية تحايل على التحريم الديني لعودة اليهود إلى فلسطين، والمشروط بمجيء "المسيا"مسيح اليهود المخلص، لذا لقيت فكرة المؤتمر الصهيوني الأول معارضة شديدة من اليهود أنفسهم.

 

- لم تكن فلسطين الهدف الأول للحركة الصهيونية، بل هي خيار بين خيارات متعددة شملت الأرجنتين وأوغندا أيضًا، غير أن اختيار فلسطين كان منسجما مع المخططات الاستراتيجية للقوى الاستعمارية في المنطقة العربية.

 

- الاحتلال الصهيوني لفسطين، هو في العمق احتلال لحلم الوحدة الإسلامي، وإجهاض لأي نهوض حضاري مستقبلي للأمة الإسلامية، باعتبار فلسطين في نظر الغرب حاجزا بين الجناحين الآسيوي والإفريقي للعالم الإسلامي.

 

- احتلال القدس الشريف سنة 1917 يجمع بين البعدين الاستراتيجي الاستعماري، والديني؛ وهذا ما تؤكده القولة الشهيرة لقائد الجيش البريطاني "ألِنبي"الذي خطب حين دخوله القدس قائلًا: "والآن، انتهت الحروب الصليبية".

 

- تميزت المقاومة الفلسطينية بتوجهها السلمي إلى حدود سنة 1929، غير أن هذا لم يمنع من قيام ثلاث ثورات عكست احتجاج الفلسطينيين على الوضع القائم، بعدها تصاعدت حدة المقاومة الجهادية.

 

- الإضراب العام الذي أعلنه الفلسطينيون في 20 أبريل/نيسان 1936، والذي دام حوالي ستة أشهر (178 يوما) هو أطول إضراب في التاريخ يقوم به شعب كامل.

 

- سنة 1947 أصدرت الأمم المتحدة قرارها الجائر رقم (181) القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية.

 

- مشاركة الجيوش العربية في حرب 1948 كانت أقرب إلى المأساة: إذ لم يتجاوز تعداد الجيوش العربية المكونة من سبعة دول 24 ألف مقاوم، مقابل 70 ألفًا من جيش العدو الصهيوني، كما عانى المجاهدون العرب من الأسلحة الفاسدة والقديمة، وضعف التدريب والتنسيق. لذا هزمهم الصهاينة واستولوا على (77%) من الأراضي الفلسطينية، وأعلنوا قيام دولة إسرائيل بتاريخ (14-5-1948).

 

- قامت العصابات الصهيونية بتشريد (58%) من الشعب الفلسطيني بالقوة من أراضيهم، ودمروا 478 قرية فلسطينية من أصل 585 قرية، وارتكبوا 34 مجزرة في حق المدنيين، من أشهرها مذبحة دير ياسين (9/4/1948).

 

المراجع المعتمدة:

 

- كتب:

 

- محسن محمد صالح، القضية الفلسطينية: خلفياتها التاريخية وتطوراتها المعاصرة، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، لبنان، طبعة مزيدة ومنقحة، 2012.

 

- عبد الوهاب المسيري، مقدمة لدراسة الصراع العربي الإسرائيلي: جذوره ومساره ومستقبله، دار الفكر، دمشق - دار الفكر المعاصر، بيروت، إعادة الطبعة الأولى 2003.

 

- مواقع إلكترونية:

 

- فلسطين: سؤال وجواب، موقع خاص بكل تفاصيل القضية الفلسطينية: http://www.palqa.com/

 

- المؤتمرات الصهيونية 1897 ـ 1903 (محمد سيف الدولة)، مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية: http://www.dctcrs.org/s7001.htm

 

- مدخل الى القضية الفلسطينية، المركز الفلسطيني للإعلام: صوت فلسطين إلى العالم.. وصوت العالم إلى فلسطين: http://www.palestine-info.com/arabic/qadhya/madkhal.htm


هيئات المجتمع المدني وبلدية طرابلس

$
0
0

تأليف : محمد السويسي
كانت بلدية طرابلس اللبنانية على الدوام موئلاً للمحسوبيات وموقعاً للنفوذ السياسي منذ الاستقلال  وحتى الآن . مما جعل ممارساتها موقع انتقاد دائم من قبل المواطنين مع المقارنة بين اداءها خلال فترة الانتداب وبعده.
فقد كان نشاط بلدية طرابلس في الماضي وفق ماتطالعنا به الكتب والمقالات  ومايرويه لنا الاباء ومن سبق من جيل الاربعينات، ان العمل البلدي كان شديد الانتظام في كل نواحي المدينة دون استثناء ، 
حيث كانت النظافة من الاولويات في الشوارع والأزقة  من الفجر حتى العصر مع رش الشوارع والحارات قبل الكناسة ، 
بالاضافة لغسلها بخراطيم المياه بصورة مستمرة لتبقى نظيفة على الدوام .
كما كان الباعة في سوق الخضار يمتثلون  لأوامر الشرطة البلدية في تواجدها الدائم بحيث لايسمح بإخراج اي صندوق خضار خارج عتبة المحل بأكثر من ١٠ سنتميترات اذا اضطر الأمر والا نظم به محضر مخالفة .
اما بالنسبة للبسطات والعربات فانه كان لايسمح لها بالعمل الا وفق ترخيص مسبق وفي امكنة محددة.
 وقد بلغ التنظيم البلدي من الدقة بحيث ان كل حمال يجب ان يحصل على ترخيص عمل مع ترقيم نحاسي يضعه على ثوبه الخارجي او على حبله العريض الملقى على كتفه.
ولكن مع بداية الاستقلال غاب كل هذا النشاط الذي كان يخضع لمراقبة سلطات الانتداب ،  اي من المحافظ مباشرة حيث كان المجلس البلدي واعماله تلاحق من قبله مباشرة دون القبول باي وساطات .
مع بداية الاستقلال فان الحال لم يختلف عليه عما هو عليه الان .
ان الترشح للمجلس البلدي  ، منذ الماضي، تحكمت به دائماً المصلحة والتزلف بحيث لم يكن من لائحة معلنة الا بدعم سياسي وبالتالي حزبي مع موالاة الاحزاب بمعظمها لبيت كرامي وعلى راسهم الحزب الشيوعي قائد الحركة الوطنية بما كان يقدمه من منح دراسية لجميع الاطراف الموالين له وتذاكر سفر ومؤتمرات للسياحة اكثر منها للعمل .
 كان الحزب الشيوعي واليسار يلوذ بالزعامات التقليدية لحماية تحركه وتظاهراته ، وكذلك كانت النقابات العمالية التي كانت تميل لليسار في نشاطها وتحركاتها وبالتالي كانت موالية الى بيت كرامي الى ان تغيرت الاحوال مع تعدد المرجعيات السياسية عقب حرب السنتين .
ومع تغير الاحوال السياسية في المدينة فان ممارسات المجتمع المدني ، من جمعيات  ونواد مختلفة ونقابات وشخصيات متعلمة ومثقفة نشيطة لم تختلف في تعاطيها بالشأن البلدي الأخير عمن سبقها في التقرب للمرجعيات السياسية التي اضحت متعددة مع زوال النشاط الحزبي الذي اضحى متزلماً عند السياسيين كما معظم هيئات المجتمع المدني الحالية .
ومع هذا التزلم لهيئات المجتمع المدني لعدم الثقة بأنفسهم  فقد فشلت هذه الهيئات على مدى عقود متوالية من تشكيل لائحة بلدية مستقلة كاملة عند كل استحقاق ، 
اذ كانت جميعها تسعى للإنضواء تحت جناح المرجعيات السياسية وفي ذلك امر غريب لانه  لافائدة مادية يجنيها عضو المجلس باستثناء الرئيس ونائبه الذين يتقاضون تعويضات مادية لقاء تفرغهم للعمل البلدي في سبيل خدمة المدينة .
والسؤال المطروح هو لما تتحمل المرجعيات السياسية وزر تقصير العمل البلدي في تدخلهم بتشكيل  اللوائح البلدية بما يتعارض مع حرية الرأي في اختيار المواطنين لما يرونه مناسباً للشأن البلدي ؟ .
 والجواب ان التدخل المعيب في الشأن البلدي من قبل السياسيين يتيح لهم توظيف اتباعهم والضغط لعقد صفقات الاشغال لازلامهم .
ولنا اكبر مثل في مشكلة توظيف الحراس البلديين  الأخيرة من قبل المجلس السابق ، الذين فازوا في المباراة ومع ذلك فقد تأخر تعيينهم لفترة طويلة بسبب الخلاف على توزيع الحصص بين هذه المرجعيات لقصر نظرهم ، وكأن هذا الحارس موظف لديهم وليس لدى المواطن الذي يدفع له راتبه .
مع كل هذه السلبيات استطاعت هيئات المجتمع المدني ان تشكل في العام ٢٠١٦ لائحة  بلدية مستقلة كاملة خارج اطار المرجعيات السياسية التقليدية التي هزمت هزيمة شنعاء امام عناد هيئات المجمتع المدني واستقلالها.
الا ان هذا النجاح اصاب هذا المجلس المنتصر بالشلل لعدم  مد يد المساعدة له من قبل السياسيين الخاسرين ولعشوائية انتقاء اعضاء هذا المجلس مع رفض اصحاب الكفاءة والخبرة الانضمام اليه منتظرين من المرجعيات السياسية ان تتصل بهم وتضمهم الى لائحتها ، 
وبذلك خسرت المدينة فرصة ذهبية بوصول مجلس كفؤ وخبير  الى موقع القيادة البلدية للنهوض بالمدينة وتحسين وضعها ليغرق المجلس الجديد في الضياع لفقدانه الممارسة الادارية والخبرة والمعرفة .
وللتاريخ فإن أسوأ ممارسة من السياسيين عند اعدادهم اللائحة البلدية الأخيرة الخاصة بهم إعلانهم  بانهم يسعون الى تشكيل لائحة بلدية من العائلات (الارستقراطية) ؟!
وفي ذلك أمر معيب يدل على قصر نظرهم اذ كان يجب ان يسعوا الى اصحاب العلم والخبرة لا  إحياء التمييز الطبقي والمجتمعي الذي ولى ولم يعد له مكان في العالم .

صوموا تصحوا

$
0
0




في العام 2008 وقبل التحاقي كطالب للدكتوراه في جامعة طوكيو للطب وطب الاسنان تلقيت دعوة من الجامعة لحضور حفل تخرج للطلاب الأجانب والذي سيقام في أحد فنادق طوكيو  وألح علي صديقي الهندي (انوب كومارAnoop Kumar) و عرفني  علي أستاذه ميزوشيما وسألني البروفيسور إن كنت مسلماً؟ وإذا كنت أقوم بصيام شهر رمضان؟ وأجبته بنعم!! وسؤالهُ الأخير كان "لماذا تصوم رمضان وهل تعرف هناك أي فائدة من الصيام؟"وكان جوابي إن الصيام من الجانب الديني هو للأحساس بمعاناة الفقراء ولتهذيب النفس بتجنب الشهوات وأما من الجانب الصحي فهناك قول منقول عن النبي محمد (ص) "صوموا تَصِحوا"وهنا استوقفني البروفيسور سائلا "كيف؟ كيف تصبحون بصحة جيدة؟"فأجبته "لا أعرف!"فأبتسم البروفيسور وقال مستغرباً "كيف تكونون بهذا العدد وتقومون بالصيام وأنتم لاتعرفون لماذا هو مفيد للصحة!!!"وبعدها إعتذر البوفيسور
عن مواصلة الحديث لأنشغاله بأعمال في الجامعة.
ذهب صديقي الهندي ليودع أستاذه وعاد إلي مهرولاً فوددت منه أن يبلغني ماهو المغزى من تلك المقابلة!؟ فأجابني مندهشاً "ألا تعرف من هو البروفيسور ميزوشيما!؟ وماهو تخصصه!؟"فقلت له "قطعاً لا أعرف!!!" (أكيد ما نعرف لأن ملتهين بالسنه والشيعة وهذا حلال وذاك حرام وگال الحجاب وحچه النقاب والخ...) فصعقني صديقي حين أخبرني بأن هذا البروفيسور هو واحد من أربعة في العالم, إثنان من أمريكا و إثنان من اليابان, يعملون في مجال الألتهام الذاتي للخلية (Autophagy) وأذا بصديقي يسأل كيف لي أن لا أعرف عن هذا الموضوع وعلاقته بالصيام!؟ وأرشدني بالبحث والأستقصاء عن الـ(Autophagy) على أن نلتقي بعد عطلة نهاية الأسبوع.
قمت بالبحث في (ScholarGoogle) مستفيداً من حسابي الجامعي الذي يسمح لي بتصفح وتحميل معظم الأبحاث المنشورة ولم أكمل صفحتين من أحد مراجعات البروفيسور ميزوشيما حتى عرفت علاقة الـ(Autophagy) بالصيام.
فالـ(Autophagy) يتحفز عن طريق الجوع (عن الغذاء والماء) ولمدة لاتقل عن 8 ساعات وذلك بشرط ان يكون الجسم في حالة نشاط (مو نايم الى ان يضرب الطوب) وعند التحفيز يقوم الجسم بتحديد الخلايا المريضة (سرطانية او غيرها) لكي تقوم بتحليل ذاتي لنفسها فيتم التخلص من تلك الخلايا وفي نفس الوقت توفير الغذاء للخلايا السليمة في الجسم! ولتحقيق اقصى فعل من هذه العملية يجب ان تكون متكررة (تراكمية) أي بمعنى أدق مستمرة لفتره من الزمن وايضاً ان لا يتخللها عملية إعادة بناء او تدعيم للخلايا المريضة عن طريق الأفراط في الطعام الذي يحتوي على الدهون والسكريات! 
بعد إنقضاء عطلة نهاية الأسبوع التقيت بصديقي وأخبرته بماحصل واذا به يعطيني الضربة القاضية عندما أخبرني بأن أستاذهُ يصوم شهر رمضان و كذلك يومين الى ثلاثة أيام في الأسبوع! فأبلغته بأن يوصل رسالة الى أستاذه مفادها أن النبي محمد (ص) كان يصوم يومي الأثنين والخميس من كل إسبوع!
رمضان مبارك وأعاده الله عليكم بالخير واليمن والبركات
* النشر مسموح مع ذكر المصدر
د. أحمد الحميّري
وهذه قائمة بسيطة عن كم الأبحاث المنشورة في مجلات علمية , عالمية, رصينة كالـ(Science و Cell و Nature وPNAS وNEJM) توضح اهمية وعلاقة الـ(Autophagy) بكثير من الأمراض وعلى رأسها السرطان وبعمليات الأيض والشيخوخة وغيرها:

 

أوسومي.. مكتشف آليات "الالتهام الذاتي"الفائز بنوبل

 
 
 

تاريخ و مكان الميلاد:

9 فبراير 1945 - فوكوكا

المهنة:

أستاذ بمعهد طوكيو للتكنولوجيا

الدولة:

اليابان

 

يوشينوري أوسومي عالم ياباني اشتغل أستاذا بكلية العلوم بجامعة طوكيو، ثم أستاذا بمعهد طوكيو للتكنولوجيا؛ أعلن في أكتوبر/تشرين الأول 2016 عن فوزه بجائزة نوبل للطب عن أبحاثه حول "الالتهام الذاتي للخلايا المتضررة".

المولد والنشأة
ولد أوسومي في مدينة "فوكوكا" باليابان يوم 9 فبراير/شباط 1945.

الدراسة والتكوين
التحق يوشينوري بجامعة طوكيو عام 1963، واختار منذ البداية التخصص في دراسة الخلايا، وبعد التخرج، ومع نهاية 1974 التحق يوشينوري بجامعة روكفلر بنيويورك لمواصلة دراسته وأبحاثه، ثم ما لبث أن عاد إلى اليابان عام 1977.

الوظائف والمسؤوليات
عمل يوشينوري أوسومي أستاذا مساعدا بكلية العلوم في جامعة طوكيو، وعمل أيضا أستاذا في "معهد طوكيو للتكنولوجيا".

نوبل للطب
فاز يوشينوري بجائزة نوبل للطب لعام 2016 وأعلن معهد "كارولينسكا"السويدي في ستوكهولم الاثنين 3 أكتوبر/تشرين الأول 2016 أن ذلك جاء عن أبحاثه حول "الالتهام الذاتي للخلايا المتضررة".

يعد يوشينوري أوسومي العالم رقم 107 الذي يفوز بالجائزة في فرع الطب منذ بدء منحها عام 1905.

وقالت لجنة منح جائزة نوبل، في حيثيات قرارها، إن "أوسومي حصل على الجائزة لاكتشافه آليات الالتهام الذاتي؛ حيث ساهمت أبحاثه في تفسير عملية تحلل الخلايا المتضررة، وكيفية قيام الخلية بإعادة تدوير مكوناتها".

وحسب اللجنة فإن "أبحاث الالتهام الذاتي لعبت دورا حاسما أيضا في فهم تجدد الخلايا، وردة فعل الجسم على الجوعوالالتهابات".

ويرتبط الالتهام الذاتي للخلايا بأمراض عديدة، منها "الباركسون" (الشلل الرعاش)، والسكري، والسرطان.

ورغم أن هذا المفهوم معروف منذ أكثر من 50 عاما، اكتشفت أهميته الفسيولوجية والطبية أبحاث رائدة أجراها الياباني أوسومي في تسعينيات القرن المنصرم.

ومُنحت جائزة نوبل في الطب للعام 2015 لثلاثة علماء بالمشاركة لتطويرهم علاجات لمرض "الملاريا"وأمراض أخرى تتعلق بالمناطق الحارة.

وسلمت جوائز نوبل في حفل يقام في استكهولم بالسويد في الـ10 ديسمبر/كانون الأول، وهو ذكرى وفاة رجل الصناعة ومخترع الديناميت السويدي، الفريد نوبل (1896-1833) الذي يعد الأب الروحي لجوائز نوبل، بينما يتم تسليم جائزة نوبل في السلام خلال حفل يُقام أوسلو.

المصدر : وكالة الأناضول,مواقع إلكترونية

 
 


Nutrient starvation elicits an acute autophagic response
http://www.pnas.org/content/108/12/4788.full.pdf

Autophagy: Renovation of Cells and Tissues 2011
http://www.cell.com/cell/abstract/S0092-8674(11)01276-1?_returnURL=http%3A%2F%2Flinkinghub.elsevier.com%2Fretrieve%2Fpii%2FS0092867411012761%3Fshowall%3Dtrue

Autophagy and Metabolism 2010
http://science.sciencemag.org/content/330/6009/1344

Autophagy fights disease through cellular self-digestion 2008
http://www.nature.com/nature/journal/v451/n7182/full/nature06639.html

Autophagy in the Pathogenesis of Disease 2008
http://www.cell.com/cell/abstract/S0092-8674(07)01685-6?_returnURL=http%3A%2F%2Flinkinghub.elsevier.com%2Fretrieve%2Fpii%2FS0092867407016856%3Fshowall%3Dtrue

Autophagy: process and function
http://genesdev.cshlp.org/content/21/22/2861.full2008

Autophagy in mammalian development and differentiation 2010
http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3127249/

Short-term fasting induces profound neuronal autophagy 2010
http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3106288/

Regulation of mammalian autophagy in physiology and pathophysiology. 2010
http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/20959619

The Role of Autophagy in Aging 2007
http://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1196/annals.1396.020/abstract;jsessionid=8EF2185080235DEA0C140E7B61458BC8.f04t03?userIsAuthenticated=false&deniedAccessCustomisedMessage=

Autophagy and Aging: The Importance of Maintaining "Clean" Cells 2005
http://www.tandfonline.com/doi/abs/10.4161/auto.1.3.2017

Autophagy Is Required to Maintain Muscle Mass 2009
http://www.cell.com/cell-metabolism/abstract/S1550-4131(09)00310-6?_returnURL=http%3A%2F%2Flinkinghub.elsevier.com%2Fretrieve%2Fpii%2FS1550413109003106%3Fshowall%3Dtrue

Autophagy inhibition induces atrophy and myopathy in adult skeletal muscles 2010
http://www.tandfonline.com/doi/abs/10.4161/auto.6.2.11137

Autophagy regulates lipid metabolism 2009
http://www.nature.com/nature/journal/v458/n7242/abs/nature07976.html

Fasting: Molecular Mechanisms and Clinical Applications 2014
http://www.cell.com/cell-metabolism/abstract/S1550-4131(13)00503-2?_returnURL=http%3A%2F%2Flinkinghub.elsevier.com%2Fretrieve%2Fpii%2FS1550413113005032%3Fshowall%3Dtrue

Fasting vs dietary restriction in cellular protection and cancer treatment: from model organisms to patients 2011
http://www.nature.com/onc/journal/v30/n30/abs/onc201191a.html

Autophagy as a therapeutic target in cancer 2011
http://www.tandfonline.com/doi/abs/10.4161/cbt.11.2.14622

Autophagy In Blood Cancers: Biological Role And Therapeutic Implications 2013
http://www.haematologica.org/content/98/9/1335.short

Autophagy regulation and its role in cancer 2013
http://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S1044579X13000588

Autophagy and tumorigenesis 2010
http://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0014579309010801

Role of Autophagy in Cancer Prevention 2011
http://cancerpreventionresearch.aacrjournals.org/content/4/7/973.short

Targeting the autophagy pathway for cancer chemoprevention 2010
http://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0955067409002427

Role of autophagy in cancer prevention, development and therapy 2013
http://essays.biochemistry.org/content/55/133

Autophagy in Human Health and Disease 2013
http://www.nejm.org/doi/full/10.1056/NEJMc1303158

صناعة السفن / حكاية مدينة

$
0
0

 

تأليف : محمـد السويسي

تعتبر مدينة طرابلس الفيحاء  أهم مدينة في التاريخ القديم والمتوسط في صناعة السفن الحربية والتجارية التي كانت تعتبر سراً صناعياً أخذه الفنيقيون عن أهل طرابلس في صنع مراكب الصيد قبل خمسة الآف عام ثم طوروه لبناء سفن حربية ضخمة وتجارية كبيرة .

ورغم أن مواقع الفنيقيين التجارية امتدت على معظم مرافىء البحر المتوسط ، من كيليكيا حتى بلاد المغرب العربي ،  إلا أنهم ظلوا على صناعة سفنهم في مدينة طرابلس اللبنانية نظراً لبراعة أهلها في هذه الصناعة ، كما زيادة في الحرص على عدم كشف سر تصنيعها إن شاعت في اكثر من مرفأ ، بالإضافة لتوفر المواد الأولية فيها التي سآتي على ذكرها في السياق .

لقد اكتشف الفنيقيون سر صناعة السفن الطرابلسية بالصدفة لدقة ملاحظتهم وذكاءهم . إذ كان مرفأ طرابلس أحد أهم محطاتهم التجارية في البحر المتوسط لشراء ونقل البضائع المختلفة من الأقمشة والسمون والزيوت والعسل وحرير القز والمواشي المختلفة والجمال والخيول .

عدا الحمضيات والفواكه ، حيث كانت تشحن الى مرافىء سوريا وتركيا ومصر،  التي اشتهرت بها مدينة طرابلس الفيحاء  بسهولها الممتدة من الميناء حتى الرفاعية وحتى أطراف المنية والبحصاص .

ولكن مع ازدهار الصباغ الأرجواني من أصداف الموريكس ، الذي اكتشفه الفنيقيون وبرعوا به وأصبح له سوقاً رائجة في بلاد الرومان الذي انحصرت صباغته بثياب النبلاء الحريرية نظراً لكلفته العالية .

 اخذ الفنيقيون يتوسعون في البحث عن أصداف الموريكس على طول الشاطىء اللبناني ، خاصة في مدينة جبيل التي اتخذوا فيها قلعة  ووضعوا حامية عسكرية داخلها لحماية الباحثين عن هذه الأصداف وتجميعها ضمن القلعة .

ومع توطنهم في مدينة جبيل اتجهوا الى طرابلس للبحث عن مزيد من أصداف الموريكس عند شواطئها فاحتاجوا الى عدة مراكب صيد  صغيرة استأجروها للغطس بحثاً عن الاصداف .وقد فوجئوا بهذه المراكب ، إذ بدت وكأنها مصنوعة من قطعة واحدة من الخشب لعدم وجود اي فواصل داخلها او مادة صمغية من القطران أوالقار الاسود لمنع النش أو تسرب المياه لجوفها .

 ومع ذلك فقد كانت جافة تماماً من داخلها بما أثار عجبهم فشرعوا يبحثون عن سر ذلك . إلا أن أهل طرابلس كانوا حريصين على عدم فضح سر صناعتهم ، إذ كان الساحل السوري بأكمله حتى فلسطين بما فيها غزة يشتري مراكب الصيد من طرابلس نظراً لمتانتها  وحسن صناعتها وعدم تسرب المياه اليها .

لم يهدأ بال الفنيقيين بحثاً لمعرفة سر صناعة سفن الصيد  الطرابلسية ، إلا انهم شكّوا بأن تكون مصنعة من تجويف لإحدى انواع الشجر الضخم المجهول لديهم ، فأوصوا على سفينة تجارية كبيرة لنقل البضائع استلموها بعد عدة اشهر في عرض البحر  ليفاجأوا ايضاً بأنها مصنوعة بنفس مواصفات المراكب الصغيرة دون اي فواصل فيها او مادة صمغية داخلها مما زاد من دهشتهم لاستحالة وجود أشجار ضخمة بهذا الحجم لتجويفها ، ولتتأكد شكوكهم إثرها بأن هناك سرٌ ما وراء تصنيع هذه السفن السحرية ، خاصة وأنها كانت تتميز بصواريها الخشبية المتينة الصلبة  الرنانة كما وسورها اللماع .

عندها عرضوا الشراكة على صاحب مصنع هذه السفن بأن يشتروا كل إنتاجه السنوي دون انقطاع  ، من مراكب صيد صغيرة وبواخر كبيرة  بربح وفير ، شرط أن يسمح بمشاركة مجموعة من عمالهم بصناعة هذه السفن لتسريع العمل والإنتاج ، ودفعوا له خمسة الآف ليرة ذهبية مقدماً كعربون شراكة فوافق على الفور .

ليتبين لهم من خلال العمل  سر صناعة هذه السفن وليبدأوا بالإنتاج الوفير حيث أقاموا حوضاً جافاً ضخماً غرب مرفأ طرابلس الحالي مقابل جزيرة عبدالوهاب ليرتفع عدد العمال الى ثلاثمئة عامل لتبلية طلبات اليونان ومصر وسائر مدن البحر المتوسط للسفن التجارية  ومراكب الصيد الصغيرة بعد أن تعرفوا الى متانتها  .

ومع ازدهار صناعة السفن في طرابلس عمت شهرتها الآفاق ليرتادها  التجار وتزدهر تجارتها وخاناتها لاستقبال الزائرين والسياح والمهاجرين من مختلف الأمصار والبلدان القريبة والبعيدة مما زاد من ثراء سكانها مع لطف هواءها ومناخها وتوفر الغذاء فيها .

وقد عمت شهرتها في صناعة السفن حتى العهد الأموي حيث أوصى معاوية لشراء مئتي سفينة حربية من طرابلس فازداد عدد العمال بما يتناسب والتسريع في انتاج هذه البواخر ليتم تسليمها  الى الامويين خلال ثلاث سنوات تم ارسالها تباعاً الى مرافىء اللاذقية وطرطوس وجزيرة أرواد حيث انطلقت جميعها نحو بيزنطية لتنتصر على الروم في معركة ذات الصواري في العام 655 ميلادية ليصبح العرب سادة البحر على معظم الساحل الشرقي للبحر المتوسط .

ظلت صناعة السفة  التجارية والحربية سراً لدى الطرابلسيين في مقاومة تسرب المياه الى حين بدء حملة إبراهيم باشا منطلقاً من مصر نحو بلاد الشام غازياً في العام 1831. وكان همه الاول عندما وصل إلى طرابلس هومعرفة سر بناء السفن الطرابلسية .

 إذ كان والده محمد على باشا والي مصر قد انشأ قبل أعوام ترسانة في الإسكندرية لبناء السفن الحربية تعويضاً عن تلك التي فقدها في معركة نافارين التي كان قد اشترى معظمها من بلاد أوروبية وبعضها من صنع  مصر . إلا ان شهرة متانة السفن الطرابلسية جعلته يهتم بالأمر ويوصي ابنه الإستعانة بالطرابلسيين ومعرفة سر صناعتهم لهذه السفن .

بالفعل فإن ابراهيم باشا جاء خصيصاً الى طرابلس مع مجموعة من صناع السفن المهرة على رأس قوة عسكرية حيث اقتحموا موقعاً لصناعة هذه السفن . وبعد التحقيق اكتشفوا سر صناعتها  ، الذي احتفظ به الطرابلسيون لآلاف  السنين ، ليتبين أنها  كانت تصنع من أخشاب  شجرالسنط ، اي من شجر الجميز الضخمة التي كانت تزرع عند مداخل الميناء والمنية وباب الرمل والبداوي وشارع رياض الصلح ، الذي لازال يعرف حتى الآن بشارع الجميزات . وقد بلغ عدد أشجارالجميز  وقتذاك اكثر من ثلاثة آلاف شجرة . أما الصواري ودرابزين السفن التجارية والحربية والصواري فكانت تصنع من شجر الأرز الذي لايتأثر بملوحة البحر وكذلك خشب السنط .

وميزة أخشاب شجر السنط انها إذا رُبطت قطعتين منها  ونقعت في  الماء لعدة ايام فإنها تلحم مع بعضها وتتعشق بحيث تصبح قطعة واحدة لايمكن فصلها ، وبالتالي لايخترقها الماء .

وكان الطرابلسيون  يصنعون سفنهم من خشب السنط ثم يغطسونها بأكملها في بركة ماء  ضخمة  لعدة ايام لتلتحم ألواحها مع بعضها ولتصبح السفينة وكأنها قطعة واحدة  دون حاجة لأي مادة صمغية تطلى بها من الداخل .

ومع معرفة إبراهيم باشا بهذا السر الذي نقله الى مصر، أمر باقتطاع جميع اشجار الجميز من طرابلس والمنية وحمّلها بالبواخر الى مصانع الإسكندرية البحرية كما اقتطاع الآف أشجار الأرز من أجل صناعة الصواري لسفنهم .

ورغم ذلك فقد ظلت طرابلس على صناعة سفنها مواكبة التطور الحديث الى حين مرحلة الإستقلال حيث أهملت الدولة المدينة وبالتالي الحوض الجاف الذي كان بها لتتوقف هذه الصناعة إلا من سفن الصيد الصغيرة وبالتالي اختفاء أشجارالجميز منها نهائياً .

 

 

قصة ابن الخواجة

$
0
0

محمد بن إسماعيل المقدم

بسم الله الرحمن الرحيم

(1)

كانت البداية في أواخر القرن التاسع عشر.. كان الخواجة إبراهيم أفندي عبد الملك يعيش في منزله بحي الظاهر بالقاهرة.. ومن حوله أسرة كبيرة العدد من الأقرباء والأصهار.. فقد كان التقليد المتبع في تلك الأيام هو أن تتجمع الأصول والفروع في مساكن متقاربة.. تأصلت هذه العادة في القطر المصري وفي غيره من الأقطار العربية المجاورة.. وكان يميز حي الظاهر بأنه كان يسكنه أسر الناس القدامى في مصر.. وكان الخواجة إبراهيم عبد الملك يسكن منزلاً متوسطاً رقم 72 شارع الظاهر.. وكان لقب الخواجة حينئذٍ يطلق على وجهاء الأقباط ورجال الأعمال.. ومن هؤلاء كان إبراهيم أفندي عبد الملك الذي احترف تجارة الجملة والوكالة بالعمولة.. وكان قد اتخذ مقراً تجارياً بحي الجمالية يقضي به يومه كله.. فهو مشغول دائماً بأعماله الكثيرة لكسب رزقه ورزق أسرته الكثيرة العدد.. وهو لا يستقر في داره إلا يوماً واحداً هو يوم الأحد.. وفي هذا اليوم من كل أسبوع كان أفراد الأسرة كلهم يجتمعون إلى مائدة الغذاء بعد عودتهم من الكنيسة.. حتى الذين يقيمون في القاهرة بعيداً عن حي الظاهر كانوا حريصين على حضور هذا الاجتماع العائلي الدوري حرصهم على أغلى ما يملكون.. وكان الخواجة إبراهيم عبد الملك قد رزق بأربعة أبناء من الذكور هم بحسب ترتيب أعمارهم عبده (أكبرهم).. ونسيم وفهيم وسليم.. كما أنجب عدداً آخر من البنات اللاتي حرص على حسن تربيتهن حرصه على تعليم أولاده الذكور وإلحاقهم بالمدارس وتوفير ما يلزم لهم.. حتى اشتهر بين أقربائه بأنه رب أسرة كادح ناجح.. وكان عبده ابنه الأكبر مجتهداً ذكياً.. لم يتخلف في دراسته سنة واحدة.. حتى وصل إلى السنة الثالثة الثانوية.. التي صرفته فيها ظروف بالغة الخطر.. ترتب عليها أن تخلف للإعادة.. فكيف تخلف الطالب الذكي المجتهد عبده إبراهيم عبد الملك في امتحان البكالوريا وهو كان رمزاً للتفوق ومثالاُ يحتذى بين أقرانه؟.. ولماذا حدث ما حدث ولم يعهد عليه ضعف أو تراخٍ فضلاً عن الرسوب في الامتحان؟.. إن الإجابة على هذين السؤالين تضعنا على الطريق إلى صلب الموضوع..

(2)

كان بعض نظار الثانوية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.. كانوا يتبعون أسلوب الخلايا العلمية.. وهو أسلوب تربوي يقوم على أساس التآلف بين الطلاب .. وذلك دون تحديد عدد معين ودون محاولة الربط بين خلية وأخرى.. إذ كان القصد من ذلك هو مجرد تشجيع الطلاب على التجمع في صحبة أو مجموعة.. ليكون نشاطهم العلمي والاجتماعي أجدى من الناحية التربوية.. مما لو ترك الطالب في مرحلة المراهقة وأول النضج فريسة للوحدة في نزهته حبيساً في حجرة استذكاره بداره.. وهكذا اجتمع بقدر الله مجموعة من ثلاثة أشخاص.. اجتمع محمد توفيق صدقي .. و أحمد نجيب برادة .. و عبده إبراهيم عبد الملك.. في خلية واحدة تآلف أفرادها وانسجموا ثلاثتهم.. فانتظموا في عقد دراستهم من أول الدراسة الثانوية.. فما أن وصل ثلاثتهم إلى السنة الثالثة الثانوية.. حتى غدت أواصر المودة بينهم قوية تشد بعضهم إلى بعض.. حتى اشتهروا بين زملائهم بذلك وعرفوا بما يحملونه لبعضهم البعض من مشاعر الحب والإخلاص والاحترام.. وكان محمد توفيق صدقي أيسر حالاً من الجميع.. وتقع داره في جنينة (لاز) المتاخمة لجنينة (ناميش) بحي السيدة زينب.. وكان في الدار في المدخل من جهة اليسار منظرة (مضيفة أو غرفة ضيافة) تكاد تنفصل هي وجميع مرافقها عن البيت كله يسمونها حجرة الضيافة.. أما أحمد نجيب برادة فقد كان رقيق الحال.. كفله عمه بعد وفاة أبيه.. فلم يكن الصحب يغشون دار عمه في الحلمية إلا نادراً.. مع أن الدار كانت فسيحة على الطراز القديم ولها صحن فيه بئر ودلو.. لكنها في النهاية لم تكن دار برادة ولكنها دار عمه الذي يرعاه بديلاً عن أبيه.. أما عبده فقد كانت داره كما قلنا بالظاهر.. بعيدة عن السيدة زينب وكذلك عن الحلمية خاصة بمعايير المواصلات في ذلك العهد.. ذلك فضلاً عن وقوع حجرة عبده الخاصة في الطابق الثالث مع الأسرة.. هكذا وجد الثلاثة أنفسهم متفقين بغير اتفاق على تفضيل منظرة صدقي للقاء.. لقصد الاستذكار وما يصحبه من صخب الشباب أحياناً.. وقد زاد من كفة ترجيح هذه المنظرة قربها من المدارس الثانوية فضلاً عن المدارس العليا.. لكن الأمر لم يسلم برغم ذلك من أن الصحاب الثلاثة كانوا يغشون دار عم برادة بالحلمية أحياناً مضطرين لظرف أو آخر.. وكان في صحن الدار كما سبق بئر ودلو.. فكانوا إذا وجبت الصلاة قام صدقي وبرادة فتوضأ كل منهما بدوره ثم أقاما الصلاة.. وكان عبده من دونهما يرقبهما بعض الوقت وهما يصليان.. ويتشاغل عنهما بالنظر في أوراقه ما أتيح له ذلك.. وبتكرار هذه المواقف من وقت لآخر خلال السنتين الأولى والثانية من الدراسة الثانوية.. قام في نفس عبده تساؤل عنيف عن سلوك صاحبيه..

(3)

قام في نفس عبده تساؤل عنيف عن سلوك صاحبيه .. فقد رآهما كثيراً وهما يسعيان في اهتمام بالغ للتطهر حال سماعهما للأذان .. بل ربما قبله استعداداً للصلاة.. وهما يقفان في خشوع وخضوع مهيب أمام ربهم ثم يركعان ويخران للأرض سجداً في هيئة تدل على تمام عبوديتهما لربهما.. ثم إنهما يكرران ذلك بشكل إيماني رائع.. حتى إذا جلسا للتشهد وفرغا من الصلاة وسلما عن يمين وشمال.. أقبل كل منهما على أخيه يدعو له بقبول العبادة في محبة وود ورجاء.. فكان عبده في كل مرة يسأل نفسه ترى هل هما وفريق المسلمين على حق أم على باطل؟.. فإذا كانوا على الحق فما حقيقة دينه إذاً؟.. وإذا كانوا على الباطل فلماذا لا يصحح لهما عقيدتهما؟.. وكيف مرت الأيام هكذا وثلاثتهم يخلص لبعضهم من غير أن يناقشوا هذا الأمر؟.. وهل ساور زميليه نفس الخاطر الذي يساوره الآن فمنعهما الحياء؟.. فإذا كان ذلك كذلك فلماذا لا يبدأ هو بالحديث معهما؟.. وتشجع عبده فأفضى إليهما بقلقه من وجود خلاف بينهم كجماعة متحابة متماسكة في أمر جوهري كهذا؟.. وبخاصة أن هذا الخلاف لم يكن باختيار أحد منهم.. وإنما وجدوه بينهم بحكم التوارث فحسب.. فهو مثلاً لا يفعل كما يفعلون لأنه جاء إلى هذه الدنيا من أبوين يدينان بالنصرانية.. ولو أن أبويه كانا من أسرة مسلمة لما وجد هذا الخلاف.. ثم إنهما كذلك لا يذهبان إلى الكنيسة في يوم الأحد .. ولا يفكران في شيء من ذلك لأنهما ولدا في أسرتين مسلمتين ولو أنهما وجدا في محيط نصراني لما وجد هذا الخلاف.. قال عبده: ليس هذا ما ينبغي أن يكون عليه الشأن بين إخوة جمعهم رباط العلم وملأ قلوبهم مشاعر الحب والصفاء.. وإنه لمن الإخلال بواجب المودة الخالصة من الشوائب الموجودة بيننا أن تستمر الحال هكذا على ما بيننا في هذا الأمر الهام من خلاف.. فلا بد أن يكون زميلاي مخدوعين أو أن أكون أنا جاهلاً بما يؤمنان به.. نهض عبده من مجلسه وتقدم قريباً من البئر.. وتبعه صاحباه ينظران ما شأنه.. فقال أرياني كيف تفعلان؟.. وأعيناني كما تفعلان في رفع الماء من البئر وصبه على أطرافكما وهل لذلك قواعد وأصول عندكما؟.. فأجاباه إلى ما طلب وهما يعجبان مما فعل.. وأجرى عبده الماء على يديه ووجهه وذراعيه ورأسه وقدميه في تجربة بدائية.. لم يكن يستهدف منها إلا الوقوف على شيء غامض في داخله.. وربما وجد إجابة للسؤال الذي يحيره منذ حين.. وهو ما حكمة صب الماء على أطراف الجسم مع التكرار؟.. ولاحظ عبده من التجربة أن أول الآثار التي أصابته من جراء صب الماء على أطرافه أنه أحس بنوع لذيذ من الانتعاش واليقظة والانتباه ملأه ابتهاجاً وثقة بالنفس.. فعاد يسأل هل سبب ذلك الانتعاش وتلك الثقة هو ما أراه بعيني الآن من نظافة يدي ومنافذ وجهي وطهارة رجلاي وطيب رائحتهما.. إن في الأمر سراً خافياً عليه لا يزال .. لكن ما صنعه ليس مجرد عبث صغيرٍ كما كان يراه من قبل.. وإنه ليرى من وراء هذا الصنيع بعض المعاني الكبيرة التي لا يحزبها عنه أو يحزبه عنها إلا جهله بهذا الدين الإسلامي.. فطلب منهما أن يحدثاه عن حكمة الوضوء وأركانه وسننه ونواقضه.. وعن حكمة القيام والقعود والسجود وتكرارها.. ولم يكن صاحباه في هذا السن على قدر واسع من الإحاطة بفقه دينهما مما جعلهما يدركان بأنهما ليسا في منزلة تؤهلهما لإجابة شافية لسؤاله.. وقد أحس هو بذلك حين سكتا.. فقال: أنتما مقلدان وأنا مقلد.. ولا خير فينا جميعاً مالم ندرك فائدة وحقيقة ما نختار.. فهلا تعاهدنا جميعاً على البحث في حقائق الدين وأسباب الخلاف الذي نحن فيه.. برغم ما نحسه جميعاً من حب وود يجمعنا.. فكان العهد الوثيق الذي أخلص له كل من عبده وصدقي بصفة خاصة إخلاصاً صرفهما معظم أيام السنة الدراسية عن دروسهما.. أما برادة فأقتصد في الوفاء بهذا العهد لأنه كان يرى أن حاجته الكبرى كانت في اختصار الضيافة التي فرضتها الأحداث على عمه..

(4)

وهكذا استغرق عبده وصدقي في الاطلاع دون برادة في الاطلاع على ما وصلت إليه أيديهما .. من المراجع والكتب الباحثة في الدين وفروعه .. على حين توقف الثالث على كتبه دون كل شيء.. ليس غريباً إذن أن نرى برادة وحده يحصل على شهادة البكالوريا في ذلك العام على حين تخلف عبده وصدقي للإعادة.. وذلك بسبب انشغالهما بالبحث في الدين.. لا بد أن هذه الظاهرة المفاجئة لكل من عبده وصدقي قد أثارت الأقاويل والشبهات حولهما.. بل إن الأهل قد تهامسوا فيما بينهم بأن عبده وصدقي قد انحرفا وغلبت عليهما الأهواء.. وجد صدقي أن ثقافته في الدين ليست إلا قشوراً.. وشعر بأن وصف عبده له في البداية أنه مقلد هو أقل ما يقال في حقه.. فتعلق بدراسات شتى تقربه من معرفة دينه.. وبدأ يهتم بأخبار ندوات العلوم الدينية ومجالسها والمحاضرات العامة وأماكنها.. فنشأت بينه وبين فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله علاقة زادت مع الأيام ثباتاً وعمقاً.. وكان عبده كثيراً ما يصحب الشيخ في هذه المجالس ثم ينصرف بعدها إلى التأمل والموازنة بين ما حوته المراجع التي تتكلم عن الأديان من زاوية ثم غيرها من زاوية أخرى.. فدخل في مرحلة الشك من أمر اتباع دين معين لمجرد توارث هذا الدين في تتابع الأيام.. وناله من الهم ما لم يكن منه خلاص إلا بمزيد من البحث والتأمل.. وانقضى العام ونجح عبده وصدقي والتحقا بمدرسة الطب .. وزاد اقترابهما من شدة تمسكهما بالوفاء بعهدهما .. على حين قد سار برادة شوطاً حتى قارب نصف المسافة في دراسة القانون.. إذ كان قد التحق منذ حصوله على شهادة البكالوريا بكلية الحقوق..

(5)

لم ينفرط عقد الصحاب الثلاثة ولم يتنكر أحدهم للموثق الذي واثقوه.. وإنما اقترب اثنان منهما بحكم الزمالة في مجال واحد ومدرسة واحدة.. وفرض على الثالث أن يتفرغ لتخصص قائم بذاته.. كانت تجربة الرسوب مريرة فاعتزم الصاحبان أن ينصرفا عن كل راحة ولهو بريء.. وأن يقسما الوقت والجهد بين علوم الطب وعلوم الدين.. وتقدما من المقدمات التي تتحدث عن وظائف الأعضاء إلى ما هو أعمق في تخصصهما.. حتى حصلا على قدر من المعرفة بجسم الإنسان من دراسة التشريح.. وكان عبده بوجه خاص ينهل من المراجع العلمية.. ليروي ظمأه ويرفع غلته.. لا ليحصل على إجابة تفتح له باب المهنة والحصول على وظيفة.. بل لأنه كان يعاني من ظمأ قاتل.. لا يكسره إلا شيء من العلم بحقائق هذا الكون.. ولو في بعض ما احتواه.. كان يصعد النظر في السماء ويدور ببصره من حول هذه الأجرام.. التي يخطؤها عد الإنسان قطعاً.. ثم يرتد البصر حسيراً.. إذ تقوم بينه وبين حقائق هذه السماء الدنيا حجب من الجهل التام في فرع من المعرفة لا يستطيع أن يقترب منه.. ثم يعود إلى جسم الإنسان وقد تهيأت له ظروف الإمعان في دقائقه.. والغوص في خفاياه فيشبع نهمه إلى المعرفة هنا لعله يدرك من دراسة هذا المخلوق الذي يسمى الإنسان شيئاً لا يزال يجهله وهو قدرة الله سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان على هذه الصورة.. وقد كانت في نظره صورة مذهلة تدل على قدرة لا تحيط بها الأبصار.. وتعلقت آماله بأن يكو ن حقاً أن البصائر تدركها.. وهنا بدأ يفكر أن هذه الظاهرات المادية التي سمع عنها.. كالتجسد والميلاد وأكل الطعام والصلب.. يجوز أن تكون كلها أو بعضها مقبولة من حيث المبدأ إذا أضيفت إلى جسم الإنسان الحادث الزائل عن الوجود.. أما إضافة شيء من ذلك إلى خالق فذلك أمر يدفعه حاكم العقل بالفساد.. وتأباه الفطرة السليمة فضلاً عن القوة العاقلة المدبرة..

(6)

يقول أحمد نجيب برادة: لم يكن الإسلام بعيداً عن صاحبنا وزميلنا عبده.. منذ تفرغه لدراسة الأديان قبل اجتهاده لنيل الثانوية العامة، وأثناء دراسة الطب.. لكن دراسة التشريح نحواً من ثلاثين شهراً.. نقلته من حال إلى حال.. فقد تملكه خوف من لقاء الله وهو في جهالته وتردده بحقيقة البعث والتوحيد والثواب والعقاب.. لتعامله مع الجثث وبقائه مع الموتى.. فاجتمع إلى صاحبيه.. وقال بأنه آمن بالذي هما والمسلمون عليه.. وبأنه سيبدأ بما هو مستقر من إجراءات لتوثيق وشهر إسلامه.. فزع صاحباه من هذه العجلة.. وقالا له: استمع إلينا أيها الصديق جيداً.. أنت تعلم حبنا ووفاءنا لك.. وأننا سنخلص لك النصيحة حتماً.. وأنت الآن بينك وبين التخرج ومدة الامتياز عامان ونصف العام.. وهذا الأمر الذي أنت مقدم عليه متعجلاً .. ستكون له أثار خطيرة وشديدة على والديك وإخوتك وأهلك.. وأقل ما سيلحقونه بك من ضرر هو ضربك وطردك من البيت ومحاربتك.. وأنت بكل ذلك ستعرض مستقبلك للبوار.. وهذا الدين القويم الذي رغبت فيه يأمر بالحكمة والتعقل.. فالرأي عندنا أن تتمهل.. وأن تستخفي بدينك حتى تتخرج وتكون لك وظيفة تكسب من ورائها رزقاً.. ثم إنك في حاجة إلى مزيد من الدراسة والله يعلم صدق نيتك فيما تدعيه.. فأنت عند الله إن شاء الله من المقبولين ما دامت قد صحت نيتك.. فلا تتعجل التوثيق وشهر الدين الجديد.. حتى تكون العلانية مأمونة لك.. ورضخ عبده لهذه النصيحة.. لكنه وجد تعلقه بهذا الدين يشتد ويقوى لحظة بعد لحظة.. ويوماً بعد يوم .. وهو لا يستطيع كتمان هذا النور الذي بات يشعشع في مسامه.. وينير عقله وقلبه.. فعاد يتصرف دون الرجوع إلى صاحبيه.. حتى لا يشيرا عليه بما يكره من صبر وكتمان.. فعكف على القرآن يتلو آياته كلما وجد من الوقت فسحة وفراغاً.. وحرص أن يكون في جيبه دائماً.. وأخذ يؤدي من الصلوات ما تيسر له في خفاء خارج البيت أحياناً.. وفي حجرته داخل البيت إذا أمن على نفسه أحياناً أخرى.. ومضى عامان إلا قليلاً .. وهو يتعجل الأيام لتمضي وليتحقق حلمه.. وبدأت مدة الامتياز وهي أقل من عام.. وحل شهر رمضان..

(7)

وحل شهر رمضان.. بروحانياته وبركاته.. فاعتزم طبيب الامتياز أمراً.. وما عاد بعد الآن يستشير فيما وضح له من الحق أحداً أبداً.. كانت هناك عادة مقدسة في منزل والده إبراهيم عبد الملك أفندي وهي غداء الأحد.. الذي يتفرغ فيه الأب للاجتماع بجميع أولاده.. تخلف عبده عن حضور الغداء من يوم الأحد.. (لشهر رمضان).. على غير ما جرت به عادته وعادة الأسرة كلها.. وسأل عنه أبوه ظهراً وعصراً ومساءً.. ولكن عبده لم يحضر إلى داره إلا في ساعة متأخرة من الليل.. فقيل له إن الأسرة كلها قلقة لهذا التخلف.. وإن الظنون ذهبت بهم كل مذهب.. وكان رده أن الأعمال في قسم الاستقبال كانت كثيرة على غير المألوف والمتوقع لها.. وقد اعتذر عن الحضور زميلان له.. فقضى اليوم كله في مواجهة الحالات العاجلة التي كان ينبغي لهما استقبالهما لو حضرا.. وجاء الأحد الذي يليه.. وتوقف الخواجه إبراهيم عن أن يذوق طعاماً أو شراباً.. حتى يصل ابنه الطبيب.. وطال انتظاره له ساعات وساعات حتى غلبه النوم.. فقام إلى فراشه مكتئباً.. وقد داخله هم لا يعرف من أين أتاه.. أو هو يعرف ولكنه يناور نفسه هروباً من مواجهته.. حتى فزع بآماله إلى الكذب.. وعند منتصف الليل جاء الطبيب إلى الدار.. وعليه من آثار الإجهاد ما يظنه في نفسه شفيعاً.. واتجه إلى حجرته بخطوات متعبة.. وتبعته أمه وهي تقول له.. أين كنت اليوم بطوله يا بني.. إن أباك لم يذق طعاماً ولا شراباً اليوم.. لأنه يكره أن يكون مكانك خالياً من غداء الأحد.. وهذه هي المرة الثانية التي يتكرر فيها ذلك على التوالي.. فهلا ترفقت بنفسك وبأبيك وبنا جميعاً فيما تقبله من واجبات بسبب تخلف زملائك عن نوبات عملهم.. بل هلا رحمت أباك وترفقت به بعد أن تقدمت به السن.. وترفق عبده بأمه وهو يجيبها إلى ما سألته.. لكنها عادت تسأل وهو مرهق مجهد.. فقال لها: يا أماه.. وحشد لها من صنوف المعاذير ما يظنها اقتنعت به.. وهما لا يزالان في حوار.. وإذا بمساعده في المستشفى يطرق الباب.. ويطلب حضور الطبيب إلى المستشفى على عجل.. لوقوع حادث كبير تضاعفت بسببه الحالات لذا تعين استدعاء كل الأطباء.. وكان عبده لم يكن قد مضى على حضوره ساعة وبضع الساعة.. قضاها في حوار مرير مع أمه .. ولم ينل قسطه من الراحة ولا حتى بعضه.. ولكنه طلب من أمه أن تعينه على استبدال ملابسه ليمضي مع مساعده الذي لا يزال واقفاً بالباب.. ثم انصرف الطبيب مع مساعده ولفهما الليل.. ولف المكان سكون مبهم من ذلك النوع الذي ينبأ بقرب هبوب عاصفة قوية.. وفي الليلة الثانية جاء من المستشفى من يستدعي الطبيب عبده.. لأن الطبيب المناوب قد اعتذر فجأة.. وبعدها تكرر الطلب في جوف الليل من جديد مرة بعد مرة.. وتنوعت الأعذار.. حتى جاء يوم الأحد الثالث.. وأبوه يتابع ولا يتكلم.. فقد غشيه من الهم غاشية لا قبل له بها.. وعلى مائدة الغداء جلس ينتظر ابنه ساعات.. وبه من الهم والهواجس والشكوك مايهد كيانه ويزلزل وجدانه.. وتحامل الأب على نفسه وهو ينهض بعيداً عن المائدة فاختل.. لولا أن أعانه بنوه .. وأمرهم أن يجلسوه على مقعد مقرب لباب الدار.. وبقيت عينه شاخصة لكل قادم.. لكن ساعات طويلة مضت وهو على ما هو عليه حتى قارب الليل أن ينتصف.. وصارت الدار في سكون حزين مبهم.. وأقبل الطبيب الذي تخلف عن غداء الأحد ثلاثاً متواليات.. فألفى أباه جالساً لا يزال لدى مدخل الدار..

(8)

أقبل الطبيب الذي تخلف عن غداء الأحد ثلاثاً متواليات.. فألفى أباه جالساً لا يزال لدى مدخل الدار.. فتمالك نفسه وحياه.. ولكنه لم يرد التحية.. وبادره قائلاً: أين كنت طوال اليوم.. قال الطبيب متلطفاً: في المستشفى كعادتي يا أبي.. وساد بينهما الصمت فترة حتى تمالك الرجل نفسه.. وقال في هدوء مصطنع: إن أمرك يا بني لم يعد خافياً علي.. خاصة بعدما تكرر غيابك كل يوم أحد.. ولقد اجتمعت عندنا دلالات خطيرة عن سلوكك في العامين الأخيرين.. وهي دلالات قد أثارت في نفسي ظنوناً تكاد تقتلني حسرة على ما آل إليه أمرك.. وما صرت عليه من حال.. فهلا حدثتني بحقيقة الخبر.. وصدقتني القول.. فإني أجد الحقيقة مهما بلغ سوءها أرحم بي مما أنا فيه.. قال الطبيب الشاب: إني محدثك بالصدق يا أبي.. فما هي هذه الدلالات والظنون التي تشير إليها.. قال الوالد: كتاب المسلمين.. !! وجده الكواء في جيبك من نحو عامين.. وقد كتمت الأمر ظناً مني أنك سعود إلى صوابك ورشدك.. فتنتهي عما أنت فيه.. وها هو الكتاب فانظر إليه جيداً.. أليس هذا الكتاب يخصك.. أجب أيها الضال.. سكت الطبيب لحظة ثم قال: لا يا أبي.. الكتاب يخصني فعلاً.. فثارت ثائرة الأب لجرأته، وعاد يقول: وأخوك سليم.. لقد رآك من ثقب الباب وأنت تقوم وتقعد على غير هيئة الصلاة عندنا.. ولقد حدث أمه بما رأى فكذبته ونهرته.. لكنها راقبتك بنفسها.. وقد ثبت عندها صدق مقالة أخيك.. ألم تفعل هذا حقاً حين تخلو بنفسك في حجرتك بداري؟ سكت الطبيب وقد بدا له أن الأمر جد ما بعده جد، وعاد الأب يقول: لقد أصابني من ذلك ما لا قبل لبشر باحتماله، ولكني كنت أوثر الصمت وأحمل ذلك كله في حبك للعلم والمعرفة، حتى كان الأحد الذي مضى من ثلاثة أسابيع، ثم الذي بعده ثم هذا اليوم الأسود حين حصل غيابك اليوم كله، وتكرر غيابك بالليل، لقد ظننت أن هذا التتصرف الغريب من جانبك له صلة بهذا الشهر الذي يصومه المسلمون الآن.. والمسمى بشهر رمضان.. فهل أنت تفعل فعلهم أيضاً أم هي المصادفات؟ وفوجيء طبيب الامتياز الغارق في البحث والتطبيق العلمي والتدريب التطبيقي العملي .. بهذا الموقف من أبيه.. وما جره عليه اتخاذه القرارات بمعرفته منفرداً.. وإصراره على أداء العبادات قبل أن يستقل بحياته كما كان ينصحه صاحباه.. لكنه رأى وقد انكشف له الأمر أن قد آن له أيضاً أن يستريح..

(9)

فوجيء طبيب الامتياز الغارق في البحث والتطبيق العلمي والتدريب التطبيقي العملي .. بهذا الموقف من أبيه.. وما جره عليه اتخاذه القرارات بمعرفته منفرداً.. وإصراره على أداء العبادات قبل أن يستقل بحياته كما كان ينصحه صاحباه.. لكنه رأى وقد انكشف له الأمر أن قد آن له أيضاً أن يستريح.. وأن يفرغ من حالة القلق التي كان يعيشها منذ عامين أو يزيد.. وأن ينفض عن كاهله هذا العبء الذي أرهقه.. فأقبل على والده مشفقاً عليه وعلى نفسه وهو يقول له: لقد وعدتك يا والدي أن أكون صادقاً معك وألا أخفي عليك شيئاً مصيره إلى العلانية حتماً.. وإنما أردت أن أؤخر حديثي لك في هذا الشأن حتى تخف واجباتي في المستشفى ثم سكت لحظة عاد بعدها يقول: ولكن مادمت الآن تستعجل حقيقة الأمر فاعلم يا أبي هداني الله وهداك.. أني بالبحث الدقيق الواعي قد علمت أن هذا الدين الإسلامي هو الحق.. وأنه قد بعث نبي بالقرآن كما بعث الأنبياء قبله بالكتب.. قاطعه الوالد مستسلماً: ودينك الذي عليه آباؤك وأجدادك؟ كيف وجدته؟ وفي أي المراتب صنفته أيها المجنون العاق؟ لابد أنك قد فقدت عقلك أيضاً حين فقدت دينك، قال الشاب: أي ضير ياأبي يصيب الأديان السابقة إذا جاء دين يصحح ويتمم الذي جاءت به الأديان من قبل؟ وعاد أبوه يسأله: هل تعرف ما تتكلم عنه أيها الشيطان؟ أم أن في الأمر سراً نجهله؟ أم أنك على علاقة بفتاة مسلمة اشترطت ألا تدخل في دينها إلا إذا دخلت في دين الإسلام؟ إذا كان الأمر كذلك يا بني فترفق بي ولدينا من جميلات بنات النصارى ما يسرك؟ وكلهم عندنا طوع البنان، إن ما أحدثك فيه أمر سهل وطلبك فيه مجاز، أما أن تدعي على صغر سنك أنك قد تعلمت، ووازنت بين الأديان وهديت لما تراه الحق منها، فهذا جهل فاضح بتعاليم دينك، إن المسلمين يا بني لا يعرفون الأقانيم ولا يؤمنون بأن عيسى الرب المخلص، أبانا يسوع الذي في السماء، وهم لا يعترفون بالمسيح الحي وهم وهم وهم ... واستمر الوالد يعظ ابنه وهو يحسب أنه يجهل حقائق دينه، وصبر الطبيب برهة حتى أتم والده كلامه، وتقدم منه خطوة وقد استجمع ما تفرق من نفسه لحظة المفاجأة، وقال لوالده: والآن أرجو أن تستمع إلي ياأبتاه؟ لقد درست هذا كله وأنا في المرحلة الثانوية، ومعذرة إذا قلت لك بأن وقتك لا يسمح بالتعمق في شيء من ذلك، فأنت مشغول دائماً بكسب معاشنا جميعاً وأنا أكبر أبنائك، ولا أزال عبئاً عليك إلى وقتنا هذا، وأنا يا أبي أقدر لك جهادك من أجلنا، وأحبك لما أنت عليه من فناء في سبيل المحافظة علينا، وإن أقل ما أسديه لك من معروف ان اتولى عنك وعن إخوتي دراسة هذا الخلاف بين الأديان، وها أنا ذا قد فعلت واهتديت إلى الحق بإذن الله، وأنا كبير الأمل أن يهديك الله أنت والأسرة، فتنجون جميعاً من عذاب الله، ولست أظن أن والدتي وإخوتي يتخلفون عنك، أو يختارون طريقاً غير الذي تختار، هذا الأمل الكبير يا والدي هو الذي تعلقت به نفسي لإنني أكره أن أخالفكم إلى طريق ناجية، وأن تنتهي همتي عند إنقاذ نفسي فحسب، وإلا أكون جاحداً لفضلكم علي، وصبر الوالد ما صبر حتى انفجر في ولده الذي لم يكتفي فقط بمجاهرته بإسلامه بل تحول إلى داعية إلى دينه الجديد، وهو الذي كان يظن بفرضه الخاص أنه مجرد فرد ضل الطريق أو مجرد متهم بترك دينه ودين الآباء، وانفجر الأب في ثورة عارمة أيقظت كل من في الدار، فجاءوا جميعاً ينظرون،

(10)

ثار الأب يلعن ذلك اليوم الذي ابتلي فيه بهذا الابن الضال، الفاعل للعقوق والعصيان الجريء في ضلاله وبهتانه، وأحاط الأبناء والزوجة بالأب يهدأون من روعه بعدما رأوه من اشتداد غضبه وما هو عليه يقرر بالغضب ويلقي بالشتائم وينذر بالتهديدات، ويتوعد بالويل والثبور، وأدرك الولد بسرعة أن الأمر لن يقف عند هذا الغضب وأن العاقبة لابد وخيمة، وأنه في مصارحته للأب، قد ارتكب عدة أخطاء لا خطأً واحداً، فاندفع إلى خارج الدار لا يلوي على شيء، واندفعوا خلفه يسبونه ويقذفونه بالأحجار، ولم يكن ذلك ما يؤلمه رغم شدته، لكن ما آلمه أنه لم يحمل معه قلماً ولا قرطاساً، ولا شيئأً من لوازمه، وتنبه فإذا هو في الطريق العام، فسار مسرعاً جاد الخطوات لعله يبتعد عن حي الظاهر كله، وقد خشي أن يلاحقه أبوه وبعض إخوته وأهله، وإذ أوغل في الطريق واقترب من حي ساهر، كما اعتاد الناس في شهر رمضان أحس بحاجة ملحة إلى الهدوء، لعله يلتقط أنفاسه، وطرقه مقهى عامراً بالرواد، فتنحى منه ناحية، وجلس يتأمل أحداث هذه الساعة من الزمان، كيف بدأت وكيف انتهت إلى ما انتهت إليه، وتحسس جيبه ليعلم كم معه من نقود قليلة، وقفزت أمامه أسئلة شديدة الإلحاح، الكتب .. المراجع .. ملابسه .. أدوات مهنته .. مذكراته الخاصة .. إنها كلها في حجرته الخاصة، وهو لم يقترب من حجرته مجرد اقتراب في ليلته هذه. فماذا يكون من أمره غداً.. وبعد غد .. وما بعدها من شهور حتى ينهي دراسته ثم يلتحق بوظيفة تعينه على شؤون الحياة .. أدرك الطبيب الموقف على حقيقته بعد قليل من التأمل .. واتجه من فوره إلى بيت صدقي فوصله آخر الليل .. لكن السهر في رمضان شجعه على المضي حتى قابل صاحبه وأفضى إليه بتفصيل ما كان ..

(11)

اتجه عبده من فوره إلى بيت صدقي فوصله آخر الليل .. لكن السهر في رمضان شجعه على المضي حتى قابل صاحبه وأفضى إليه بتفصيل ما كان .. قال صدقي لصاحبه: هذه حجرتك من الآن .. وأراه المنظرة التي كانوا قد اعتادوا الجلوس فيها .. وفي غد إن شاء الله في طريقنا إلى المستشفى ننظر في هذا الموقف المفاجىء .. "إن عبده إبراهيم كان منقطع الصلة بالحياة العامة تماماً .. لانصرافه التام للدرس والتحصيل لمهنته .. وللدين الجديد الذي اعتنقه .. وقد كانت لهذه الحال آثارها في حياته الخاصة من يوم أن خرج من دار أبيه إلى أواخر أيامه بما في ذلك اختيار الوظيفة والبيئة التي تحيط به.. لكنه كان لزاماً أن يجتمع الأصدقاء الثلاثة في اليوم التالي لطرده من دار أبيه وأن يتدارسوا الموقف واحتمالاته.. كان لزاماً أن يجتمع الأصدقاء الثلاثة في اليوم التالي لطرده من دار أبيه وأن يتدارسوا الموقف واحتمالاته.. فمنها استمرار ثورة الخواجة إبراهيم على صدقي وبرادة بسبب اعتقاده بأنهما السبب في غوايته، ثم إنه ومن معه سيلاحقون عبده بالأذى في كل مكان يذهب إليه أو يعمل به أو يقيم فيه، فضلاً عن تسامع الجيران من النصارى بما حدث، وربما امتد السماع إلى الأحياء القريبة المجاورة من مسرح الأحداث، لذا يتوقع أن يكون في حي الظاهر لغط وشائعات، ولا بد أنه سيكون في حي الجمالية وحي السيدة زينب وربما اتسعت الدوائر حول هذه الأقطاب وانتشرت التعليقات والأقاصيص. لكن الخطر القريب هو الصدام المرتقب بين الخواجة إبراهيم وبين صدقي وبرادة، قالا لزميلهما: لقد تسرعت يا عبده في تصرفاتك الخاصة، وأخطأت بما ظننته في نفسك من قدرة على هداية أبيك، ومن بعده بقية أهلك، ولقد أوقعتنا بذلك في مأزق ماكان أغنانا وأغناك عنه في هذه الأيام، قالا ذلك والطبيب الشاب هادئ ساكن يتفكر في قول الله تعالى: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"ولما كان صدقي لم يزل غير صاحب دخل مادي، فقد كان الأستاذ أحمد برادة المحامي يدخر من إيراده ثلاثة جنيهات فرنسية شهرياً، وخصصها لصاحبه عبده، وقد استمرت الحال على ذلك عشرة أشهر حتى اكتمل الدين ثلاثين جنيهاً ردها الطبيب لبرادة بعد استقراره في أول وظيفة، وكان برادة حينئذ أيسر الثلاثة حالاً بعد أن كان الأرق حالاً، فقد سبق صاحبيه إلى التخرج، كذلك كان قد نشط في بعض الأعمال الخاصة بالإضافة إلى وظيفته فهو من تولى تمويلهم في هذه الأزمة، على كل حال حدث ما توقعه الجميع، فالغيورون من أهل عبده سواء منهم الأقربون والبعيدون قد بحثوا عنه حتى وجدوه، وحقاً لم يرهقهم البحث لأنهم يعلمون أنه لا ملجأ له إلا صديقيه وبالذات في المنظرة في منزل صدقي، توافدوا عليه زرافات ووحداناً، وتكررت مناقشاتهم معه وتواكبت ملاحقاتهم له في السكن والعمل، وأراد عبده أن يضع لهذه المناقشات والمطاردات نهاية حاسمة، بدلاً مما هو فيه من المتاعب كل يوم ولحظة، خاصة وأن مستقبله يوشك أن يبدأ على وجه يرضيه، فقال لهم: ما حاجتكم مني، وما هدفكم من مطارداتكم، قال أرشدهم وهو خاله: يا بني إنك فرد مرموق في أسرتنا، وفي جملة القبط كلهم خلقاً وسمعة، ثم إنك توشك أن تكون طبيباً، وهذا الذي فعلت خسارة لا نطيقها، فضلاً عن أنه فضيحة وعار لأسرتك، وللنصارى في مصر وغيرها من بلاد الله فهلا استمعت إلينا، قال: إني مستمع إليك لعلي بذلك أصل معكم إلى حل، يحفظ لي ولكم أوقاتنا ومصالحنا، قال أرشدهم: إن أباك يدعوك إلى الاستماع من رجال الدين إلى كلمة الحق، وهم لابد أقدر منا على تبيان أوجه الضلال الذي أوقعك فيه خصوم ديننا، قال الطبيب الشباب: ما أوقعني أحد في ضلال، فافهموا عني هذا وإنما هداني رب العالمين، قال قائل منهم: إن كنت مؤمناً بفعلتك هذه ببينة وحجة، فماذا عليك لو أنك واجهت علماءنا، قال: لكم ما تريدون، فسألوه عن المهلة فقال: أي موعد تضربونه، قالوا: فعد معنا الآن إلى دارك وهناك نضرب مع أبيك الموعد ليكون برضاه وفي حضوره،

(12)

وافق أن يذهب معهم إلى بيت أبيه .. وقبل أن يذهب توجه إلى الشيخ محمد رشيد رضا .. وكان يختلف إلى مجلسه من وقت لآخر .. ونفض إليه جملة الخبر .. فبين له الشيخ ما غاب عنه .. وأيده بالأدلة من الكتب القديمة بوجه خاص .. كإظهار الحق ومقامع الصلبان، وشروح أهل الكتاب، وكيف يرد على شبهاتهم .. وذهب في الموعد لدار أبيه .. لقد أنفق أبوه عن سخاء لإنقاذ ولده الأكبر عما هو فيه .. وليمنعه مما هو مقدم عليه .. إلى أن أتى الموعد المضروب لرجال اللاهوت .. فعجل والده بجلسة سريعة يمهد بها للجلسة الكبرى .. فربما يرجع الابن عن قريب .. بدأت الجلسة هادئة .. والكل ينصت لما يدور من قرع الحجة بالحجة .. والنصوص حاضرة تتلى من مراجعها .. على مسمع من الجميع .. ولم يعد كبير مجال للتهوين من تصرف الطبيب الشاب .. على أنه رأي فرد ضال كما ذكرمن قبل من أنه وقع تحت جو عام من الإغراء الذي أحاطه رفاقه به .. وأدرك الحاضرون أن الأمر في غاية الجد .. فشددوا هجومهم .. لكنهم وجدوا لكل سؤال جواباً .. ثم وجهت لهم منه أسئلة مضادة .. استشعروا وهم يجيبون عنها أن ألسنتهم كانت تلوك العبارات في غير وعي ولا تعقل .. و كانت مناقشة طويلة جداً جداً .. من أقوى المناظرات في نقد عقائد النصارى .. عكست مدى تعمقه في تلك الفترة في دراسة العقائد النصرانية وأيضاً في دراسة الإسلام .. و تكلم فيها كلاماً مفصلاً جداً وألجمهم فما استطاعوا أن يردوا عليه بكلمة واحدة .. ومما ناقشوه: التجسد، الأقانيم الثلاثة، البنوة، جرأتهم على الأنبياء، دعوى أبوة الجسد ليوسف النجار، الصلب وأصله الوثني، والقيامة .. وفي الإسلام: حقيقة الوحي، حقيقة القرآن، حيرة أهل الكتاب من إعجاز القرآن، وكان يسرد الكلام بأسانيد علمية في غاية القوة .. فأنهوا الجلسة ... واتفقوا أن يخرجوا بقرار هو أن يحشدوا له فريقاً من أكبر علمائهم حتى يناظره في جلسة تالية .. حتى بلغ من تأثير الطبيب عليهم أن باتت القضايا التي كانت عندهم يقيناً معلقة .. حيث قالوا عنها هذه معلقة لا نستطيع أن نرد عليك فيها .. واهتزت النصوص التي طالما حفظوها على شفاههم .. وعادت أسئلتهم من عنده بغير معنى .. وأيقنوا أن اللجنة قد عجزت .. فماذا كان الجواب؟؟ أعلنوا في هذه الجلسة على الجميع .. أن عبده إبراهيم عبد الملك ابن الخواجه إبراهيم عبد الملك من أسرة كذا التابعة لكنيسة كذا قد حلت عليه اللعنة الأبدية في هذه الكنيسة ما لم يرجع إلى رحمة أبينا يسوع المسيح مخلصنا وراعينا وأن اللجنة رحمة به وحنواً على أبيه المسكين قد منحته فرصة العودة إلى دين آبائه وأجداده بالحضور يوم الأحد في ذات المكان أمام عدد من الآباء لنصحه وهدايته نسأل إلهنا وأبانا ... إلى آخر كلامهم من الشرك والكفر .. لقد كان بعض الحاضرين من النصارى متشوقين إلى استمرار الجلسة .. من شدة تعطشهم إلى سماع إجاباته والاستزادة من علمه .. فقد سمعوا لأول مرة فكراً جديداً ونقاشاً فريداً ودفاعاً عنيداً .. جعلهم في شوق إلى معرفة نتيجة محددة .. خاصة لما رأوا القساوسة قد عجزوا أمام هذا الفرد .. الذي تخلف عن السير في موكب آبائه وأجداده .. فهاجوا وماجوا وتدافعوا وتصايحوا .. لكن كبير الجلسة نصحهم بالهدوء حتى لا يشرد منهم هذا الخروف الضال .. ووعدهم بأن يوم الأحد قريب .. وأنه جمع للمباهلة فحول علماء أهل الكتاب والمفسرين وخبراء التبشير الراسخين .. فهدأت ثائرتهم ولكن إلى حين .. وجاء يوم الأحد الموعود ..

(13)

جاء يوم الأحد الموعود.. واحتشد الأهل والأقارب .. وكل من يهمه الأمر ليرى هزيمة هذا الطبيب الذي خدع وصبأ عن دينه الحق .. إلى دين المسلمين .. وهم يهددونه ويتوعدونه لئن لم ينته عما هو مقدم عليه ليمزقنه إرباً .. ويصيرونه عدماً .. وأن هذه هي الفرصة الأخيرة ما لم ينصع إلى دين يسوع المسيح.. ثم انبرى كبير القساوسة في الجلسة .. وهو يتطاول في كرسيه يتيه على الحاضرين بما حفظه ولقنه قريباً في الكنيسة.. فقال من كلام الشرك والتثليث ما هو من دينه .. ثم رد عليه الطبيب الشاب فقال: بسم الله الرحمن الرحيم.. إله واحد .. فرد صمد .. لم يلد ولم يولد .. ولم يكن له كفواً أحد .. سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .. فضل المسلمين بالإيمان على جميع الأجناس .. وجعلهم خير أمة أخرجت للناس .. أوحد الله بموجبات توحيده .. وأمجده سبحانه حق تمجيده .. وأومن به وبملائكته وكتبه ورسله .. لا نفرق بين أحد من رسله .. ولا أشرك بعبادته سبحانه أحداً .. وأصلي وأسلم على من جاء بالهدى .. خالص أصفيائه وخاتم رسله وأنبيائه .. سيد ولد آدم .. بعثه ربه في الأميين .. ليخرج البشر من الظلمات إلى النور .. ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة .. وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .. صلى الله عليه وسلم من نبي كريم .. على خلق عظيم .. بعثه الله على فترة من الرسل .. موضحاً للسبل .. داعياً إلى خير الملل .. ملة إبراهيم .. ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه .. وما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً .. وما كان من المشركين .. وإن الدين عند الله الإسلام .. ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه .. وهو في الآخرة من الخاسرين .. فرد عليه أحد القساوسة: عجيب أمرك أيها الفتى الضال .. وعجيب أمر أصحابك الذين أضلوك عن كتابك .. فلقنوك من الكلام ما قد سمعناه منك الآن .. حتى صرت أشد منهم حماساً لدينهم، وأحفظ منهم لآيات كتابهم .. فأصبحنا نراك وأنك قد نسيت دينك ودين آبائك .. وهو الدين الذي عليه نشأت وترعرعت، فربى عقلك وأصلح فساد نفسك .. فرد عليه عبده: والله الفرد الصمد الواحد الأحد .. ما أضلني ولا أغواني منهم أحد .. وإنما هداني إليه ربي .. وساقني إليه فطرتي .. واختاره لي صحيح عقلي .. ودلني عليه عافية نفسي .. فرأيت فيه ما لم أره في غيره من الشرائع والأديان من النور والهدى والحق والصدق فتمسكت به .. ولزمته لأني وجدت فيه تمام عقلي وصلاح أمري .. ومنطلق فكري وشفاء روحي .. وجواباً راجحاً لكل سؤالي .. فليس هذا الدين كدينكم .. الذي يمجد الفقر .. ويسوغ الذل .. ويورث العقل الخلل .. ويحيل المرشد سفيهاً والمحسن مسيئاً .. لأن من كان في أصل عقيدته التي جرى نشوءه عليها الإساءة إلى الخالق .. والنيل منه بوصفه بغير صفاته الحسنى .. فأولى به أن يستحل الإساءة إلى المخلوق .. فكيف أترك ما هداني الله إليه من الكمال والنعمة .. بعدما بان لي من جهلكم وتحريفكم لدينكم .. ولست مجادلكم إلا بالتي هي أحسن .. فما في الإسلام من حث على مخاصمتكم ومعاداتكم .. بل هو أرحم عليكم وأحنى حتى من دينكم لكم .. فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم .. ألا نعبد إلا الله ولا نشرك بعبادة ربنا أحداً .. صاح أحدهم: بل نقرعك الحجة بالحجة .. فإن كانت لنا الغلبة عدت إلى دين الخلاص .. وإلا تركناك تتخبط فيما مسك من جنون .. فتكون من الخاسرين الذين تصيبهم لعنة الرب إلهنا يسوع .. قال الطبيب الشاب: قبلت التحدي .. ووالله إن ضلالاتكم قد سارت مسير الشمس .. وبواطلها قد لاحت لعيون الجن والإنس .. فوالله لا يخذلني الله أمامكم .. وأنتم قوم غيّرتم فغيّر بكم .. وأطعتم جهالاً من ملوككم .. فخلطوا عليكم في الأدعية .. فقصدتم البشر في التعظيم بما هو للخالق وحده .. فكنتم في ذلك كمن أعطى القلم مدح الكاتب .. على حين أن حركة القلم لا تكون بغير الكاتب .. وها أنا ذا على قصور سني وإغفال المطالعة أقبل منازلتكم .. فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين .. ......... ودار حوار طويل جداً .. لثلاثــــــــــــــــــــــــــــــــــــة أيـــــــــــــــــــام .. .........

(14)

لقد أحرجهم الطبيب جداً .. حتى كانوا كل جلسة يستعينوا بقساوسة جدد .. بعد أن وقعوا في حصار أسئلة لا يستطيعون الإجابة عليها .. وأمام حجة لا يملكون الصمود أمامها.. وفي نهاية الحوار .. قال عبده: فماذا أقول لكم .. وقد جئتم لتقولوا لي فقلتم وقلت .. وأضللتم وأوضحت .. وكذبتم وصدقت .. ودعوتم علي ودعوت لكم .. وأهنتم محمداً صلى الله عليه وسلم وعظمت عيسى عليه السلام .. وحاولتم طعن القرآن فما استطعتم .. وحاولتم ستر كتبكم فانكشفتم .. وأنهكتموني علّي أضل، وأنهكت نفسي علّكم تهتدون .. وقد آذيتموني بأيديكم وتلطفت معكم بكلامي.. وهاهو اليوم الثالث ينقضي .. وقد اهتزت في نفوسكم عقيدتكم .. وثبتت في نفسي عقيدة الإسلام .. وأنا أعلم مما علمنيه ربي في القرآن أنكم لن ترضوا عني حتى أتبع ملتكم .. ولكن كيف أبيع الهدى بالضلال، وأشتري الباطل بالحق .. ولكنكم أهلي وعشيرتي .. وقد أمرني ديني الجديد .. أن أصحبكم في الدنيا معروفاً .. فهلموا إلى دين الله لتربحوا .. قال تعالى: (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً )) أسأل الله أن يكشف ما بكم من الضلالة وأن يتلقاكم بالهداية .. وصدق الله تعالى إذ يقول (( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)) صدق الله العظيم .. وما كان الطبيب الشاب يفرغ من تلاوة الآية .. حتى أدرك الجميع أنه قد خرج من حظيرة الكنيسة .. إلى غير عودة .. فتدافعوا يفرطون في إيذائه .. ولم ينتهوا عنه إلا حين علا صوت الكاهن الكبير .. وهو يعلن فيهم أن اللجنة قد أيقنت بأن عبده إبراهيم عبد الملك ابن الخواجه إبراهيم أفندي عبد الملك من أسرة كذا التابعة لكنيسة كذا قد حلت عليه اللعنة الأبدية وأنه مطرود من رحمة أبينا، يسوع المسيح مخلصنا وراعينا، وأنه .. الخ من كلامهم الذي يقولونه في أمر كهذا .. ولكن مأساة الطبيب الشاب لم تنته بعد .. فقد ذاق (أمرّ) البلاء .. مع الطرف الآخر أيضاً .. مع (المسلميــــــــــــــن) فإلى جانب آخر من حياته ..

(15)

ما كاد الكاهن الكبير يلقي بيانه .. وقد تعلقت الأنفاس من رهبة الموقف .. حتى حل الهرج والمرج محل السكون والوقار .. وارتفع الصخب فجأة بأخلاط من الأصوات .. فهذا نحيب وهذا نواح وهؤلاء رجال أفزعهم المصير الذي ينتظر فتى كان من خيرة شبابهم .. الذين كانوا يباهون بهم المسلمين .. وتلك نسوة تجمع بين البكاء وبين أقبح الأصوات .. وإذا بالطبيب الشاب يشهد للمرة الثانية موقفاً مزعجاً في نفس المكان .. فقد كان فوجئ بقرار المحكمة قبل تمام المحاكمة .. ولذلك بقي في مكانه مشدوهاً حال تلاوة البيان .. وإذ بدأ الهرج والتدافع بالأيدي والمناكب .. تسلل من مجلسه إلى خارج الدار ثم إلى مسكنه المتواضع .. وقد تملكه شعور لم يكن يحس به من قبل .. فلقد رأى لأول مرة رجال الدين الذين يتخذون من الهداية والإرشاد وسيلة لكسب المعاش يتصرفون على نحو أذهله .. فخالطه شعور بالعطف على عامة الناس الذين يلتمسون عندهم الرشاد .. قال الطبيب لصاحبيه: لقد احترمت هؤلاء الناس حين ثبتوا ودافعوا عن أمور خيل إليهم أنها صواب .. وكان ذلك في أول لقاء لي معهم .. ولكن حقيقة أمرهم تكشفت لي في المجلس الثاني .. حين باهلتهم ثلاثة أيام طوالاً أقدم لهم الدليل تلو الدليل .. وأقرعهم الحجة الهزيلة عندهم بالحجة القوية عندي .. وقد كنت أظنهم بما يحملون من مناصب دينية عالية أهل حجة وأصحاب عقل ونظر .. لكنني فوجئت بهم يفرون من الميدان مخافة أن ينكشف ما هم عليه من جهل وصغار .. وإني لأعلم أنهم يأكلون السحت .. ويجعلون رزقهم أنهم يكذبون .. ألا ساء ما يزرون .. قال له صاحباه: أو لم يكف ما لقيته من دعوتك الناس إلى الرشاد، فجئت تخطب فينا .. قم الآن يا رجل إلى كتبك فأقدامك لم تثبت بعد على الطريق .. وعليك أن توفر ما بقي من مراحل في الحصول على الإجازة العلمية .. ومن ثم الوظيفة التي ستقيم أودك .. وكان ما نصحوه به .. فانقطع لدروسه بضعة أشهر كد فيها واجتهد .. حتى تخرج طبيباً يمارس المهنة الإنسانية .. ونظر الطبيب الشاب من حوله باحثاً عن مجتمع يعوضه عن أسرته التي لم تهتد .. فإذا النصارى يحوطونه بنظرات الحقد والمرارة .. وإذا المسلمون يترقبونه في حيطة وحذر .. فرغب في البعد عن الناس طلباً للهدوء .. ومزيد من الاطلاع، فلم يجد خيراً من أن تكون خدمته الوظيفية .. في السجــــــــــــــــــون ..

(16)

بدأ الطبيب الشاب عبده حياته الوظيفية عام 1905 .. طبيباً لبعض السجون بمديرية الجيزة .. فتهيأ له بذلك البعد عن المجتمعات من جهة .. وقربه من القاهرة من جهة أخرى .. كان يقضي ساعات العمل في مكتبة من مكتبات السجن .. وكانت له دار ملحقة بالمبنى ذاته .. وحول هذه الدار حديقة صغيرة .. وعاش حياته بين السجناء متعايشاً معهم .. لكنه كان في وحشة شديدة في دخيلة نفسه .. وأشار إلى زميله صدقي أنه يريد أن يستقر في دار وأسرة .. فإن رزقه الله بزوجة صالحة .. فإن حديقة السجن ستكون في تقديره جنة نعيم .. وقد ذكر لصاحبه مواصفات معينة يريدها في زوجته .. أخلف صاحباه شروطه ظناً منهم أن موضوع الزواج سيستمر .. عند اختيارهم لزوجة له ليست على ما اشترط .. فلما رآها نفر منها جداً .. وكان قد أعلن حفل الزواج بعد أيام قليلة .. هذا الحدث أحدث ردة فعل شديدة جداً على أهل خطيبته .. وبدأوا ينشرون إشاعات كثيرة جداً حوله انتقاماً منه .. وأشاعت أسرة الخطيبة أنها قد اكتشفت أن عبده كافر متلاعب .. وأن له زوجة وأولاد من دينه الأصلي .. وقد اكتشفوا ذلك وغيره مما لا يجب التكلم عنه، وهم لذلك رفضوه وطردوه .. تناقلت الأسر فيما بينهم هذه القصص والشائعات .. وكل من يسمعها كان ينقلها بعد أن يضيف عليها كل جديد وغريب .. وأنه كان أول من رأى وعاين وتأكد واكتشف بذكائه على غير ذلك مما يظن الرواة أنه يزيد الرواية غرابة وحبكة .. استفحلت الأقوال وحصل لصدقي وعبده إساءة شديدة في الحي والمنطقة .. وتناهت الأخبار مشبوهة إلى شيوخ الحي وأفاضل سكانه .. كان من هؤلاء الشيوخ البارزين والعلماء المعروفين .. الشيخ عبد الحميد مصطفى .. وكان قد درس العلم في الأزهر الشريف .. حتى خيف على بصره من شدة طلب العلم .. فتوقف عن الدراسة بأمر الأطباء واشتغل في المقاولات .. فلقي في عمله توفيقاً .. وقد اشتهر في حياته الخاصة بين أهل الحي بكرمه وكرامته وصدقه في معاملته وحسن عشرته للناس وصلاته .. وطبعاً وصلته الأخبار المشوهة والشائعات السيئة .. فاعتبرها عبثاً صغيراً من شباب غير مسؤول .. وعدها استهانة من صدقي بكرامة أسرة محافظة .. تعرضت بها سمعتهم للقيل والقال .. وأنه لا بد أن يعاقب هذا المستهتر هو وصاحبه على ما اقترفاه في حق الفتاة وفي حق أسرتها، باختصار شديد .. دبر موعد للشيخ عبد الحميد حتى يحل هذه المشكلة وينقذ سمعة البنت وأسرتها .. التي أساء إليها برفض الخطبة وإلغاء الزواج .. وكان كلما حاول الشيخ مقابلتهما كانا يمعنان في الهرب منه .. إلى أن أحكم الحصار وتمكن الشيخ من مقابلة صدقي .. فلم يبق مفر من المقابلة والحساب .. وأمسك الشيخ بيد الطبيب صدقي واقتاده إلى مكان معروف جلسا فيه لتصفية الحساب .. وقال له: كيف سمحت لنفسك ولزوجك أن تفعلا ما فعلتما؟ وأنت الآن طبيب مسؤول تؤتمن على خصائص الناس؟ بل إنك ربما عرفت بحكم تخصصك من أسرار الناس ما لا يعرفه غيرك؟ أية جناية هذه يا بني؟ وأي خطأ ارتكبته في حق أهلك وجيرانك من أجل صداقتك لهذا الكافر المارق؟ صبر الطبيب الناشيء صدقي لهذا .. وكان يحترم الشيخ لسنه ومكانته وصداقته لأسرته .. فقال له: عفواً سيدي الشيخ فهلا سمعت القصة كما وقعت؟ فشهدت لي بالبراءة مما أثاروه حولي وحول زوجتي وصاحبي .. وحسبي عقاباً لي في وساطتي ما وقع علي من ظلم في شائعاتهم.. قال الشيخ عبد الحميد: أجل أسمع منك .. على ألا تقول غير الحق ولا تنطق بغير الصدق .. وأنا أحذرك يا صدقي من محاولة خداعي فلست بالخب ولكن الخب لا يخدعني .. قال : بل أصدقك القول يا عم وكل ما أرجوه منك أن توسع لي في صدرك حتى أتم حديثي .. فنحن لم نجرب منك إلا العدل ..

(17)

شرح له صدقي القصة كاملة .. فقال له الشيخ: ما اسم صديقك؟ قال: اسمه عبده إبراهيم .. قال: وما كان اسمه قبل أن يشهر إسلامه؟ قال: عبده إبراهيم عبد الملك .. قال: أفلا اتخذ اسماً جديداً يدل على فضل الله عليه أن هداه للإسلام؟ قال: هذه فعلاً واحدة من نظراته الخاصة .. وقد نصحه بعض المحبين له وأنا منهم أن يتخذ له اسماً علماً شاهداً على إسلامه .. فاعتذر إلينا بأن الإيمان الحق إنما هو ما يستقر في القلوب وتصدقه الأعمال .. فلا يرى الإسلام أسماء ولا لافتات كعناوين الكتب والمتاجر .. فقال الشيخ: لو تأتيني بصديقك في الغد؟ وبالفعل أتاه به في موعد اللقاء .. وكان تعارف رائع أعقبته مقابلات مع الشيخ .. وكان يحصل حوارات بين الشيخ عبد الحميد وبين عبده إبراهيم في كل مرة .. وتنوعت الأحاديث والمناقشات والأبحاث العلمية .. وكان الشيخ كل مرة يكتشف في عبده صفات جديدة من الصفات الطيبة .. زاد التلطف من الشيخ والمحبة الوثيقة والمودة بينه وبينهما .. وقد كان الشيخ يثني عليه ثناءً عطراً أمام صدقي .. فلفت صدقي نظر عبده إلى ذلك .. وقال له: إني أراك قادراً على كسب ثقة الشيخ ومحبته .. ولئن كنت وصلت إلى هذا الحد من الود والثقة فإني لأرى لمشكلتك الكبيرة أحسن الحلول .. فضاق عبده بهذه الإشارات البعيدة .. فقال لصاحبه: كم من الوقت أضعنا في تأملاتك وفي الفروض والاحتمالات فأرجوك أن تفصح عما تريد أن تقوله .. قال صدقي: إن للشيخ ابنة في سن الزواج، وهي كالتي طلبت في شروطك .. ولئن قدر الله لك أن تحافظ على مودته واحترامه لك على ما أرى في لقاءاته الأخيرة .. فإنه لا يرفضك خاطباً فيما أظن .. فقال له: ما أراك إلا جننت، أي أمر هذا الذي يراودك .. وعلى أي أساس يجوز لي أن أفاتح رجلاً فاضلاً كهذا في أمر مصاهرتي له ... وبعد نقاش طويل .. تقدم عبده خاطباً بنت الشيخ .. وبدأت في حياته وحياة الشيخ صراعات .. ما كان عندهم لها حساب ..

(18)

تسامع الناس أن القبطي صاحب قصة الزواج الأولى قد أوقع الشيخ عبد الحميد في حبائل سحره هذه المرة، فحصل منه على وعد بالمصاهرة، وكان لرب الأسرة على هذا العهد أهبة عالية، لكن زوجة الشيخ ثارت عليه ثورة عارمة، فتركت له البيت وانطلقت إلى أهلها غاضبة، واجتمعت الأسرة بأصولها وفروعها، وألح الجميع على الشيخ أن يراجع نفسه فيما صدر منه من وعد بالقبول، وبدأت الشائعات تسري من جديد، وتوافد الخاطبون ومعهم الشفعاء، لإنقاذ الموقف بتعطيل هذه المصاهرة غير المتكافئة، وضاق الشيخ ذرعاً، فعجل بعقد القران والزفاف جميعاً، وتم ذلك في ليلة أحاط بها الغموض والترقب، وساعد على فتور المناسبة أنه حضر إليها منفرداً إلا من صاحبيه، كذلك قاطعت زوجة الشيخ الحفل وهي أم العروس، وجاملها أهلها فلم يحضر منهم أحد، والشيخ حازم في ما قرره ماض فيما عزم عليه، واتهم الناس الشيخ في عقله، إذ كيف يقبل هذه الصفقة وهو من هو من رجحان العقل والبصيرة، لكن الهدوء المشوب بالقلق ما لبث أن عاد للحي، بعدما تبين أن الشيخ قد أنفذ وعده ووفى بعهده وزوج ابنته للطبيب الشاب عبده، بل إن الناس كادوا ينسون ما حدث بعد سفر الزوجين إلى مقر عمل الطبيب حيث مسكنهما مرت سنة كاملة .. وكانت العادة أن المرأة إذا حملت تعود إلى بيت أهلها حتى تقوم والدتها بعنايتها عند الولادة .. وولدت زوجة عبده الوليد الأول .. وما كان اليوم الأول ينقضي حتى حضر الطبيب الشاب يهنؤها بولادتها .. وقد جلب لها من الهدايا كل جميل .. ولمولوده من الملابس واللعب كل نفيس رائع .. عاد بزوجته إلى المنزل ومضى ليسجل في سجلات الحكومة واقعة مولوده الأول .. ثم ما لبث أن عاد إلى بيته بشهادة ميلاد ابنه .. عيـــــــــــــــسى .. وأقبل على زوجته يرشدها إلى ما ينبغي عليها عمله من احتياطات .. وانصرف إلى عمله بعد أن اطمأن على زوجته وولده .. و جاء الشيخ ليطمأن على ابنته وولده .. فأخبرته بحضور عبده وانصرافه بعدما أثبت اسم الوليد في السجلات .. وسألها أبوها في فرحة .. فماذا اختار لابني من الأسماء .. فأجابته ابنته دون وعي : عيسى .. لكنها رأت من أبيها أمراً عجباً .. إذ ما لبث حين سمع الاسم أن ضرب كفاً بكف .. وقد تغير لونه وتقطب جبينه .. وظهر الغضب الشديد عليه وهو يقول: عيسى عيسى .. وا عجباً لهذا الرجل .. أو لم يجد في كل الأسماء التي خلقها الله اسماً جديراً بهذا المخلوق إلا هذا الاسم .. أستغفر الله العظيم .. أستغفر الله العظيم .. أستغفر الله العظيم .. وانطلق من عند ابنته وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله .. وأحست ابنته أن أمراً عظيماً قد حدث .. وأن خطأ لا يمكن إصلاحه قد وقع .. فما هكذا رأت أباها على طول ما عاشت ورأت .. وباتت فريسة لأفكارها وهواجسها .. أما الشيخ فقد اعتكف في داره أياماً لا يرى فيها أحداً .. وأما زوجته فقد كانت تغالب دموعها .. فقد تحقق للجميع أخيراً .. ظنها البصير بهذا الطبيب وألاعيبه .. وكانت إذا همت بالدخول على ابنتها .. كفكفت دموعها حتى لا تفجع ابنتها بما أسلمها أبوها له من مصير.. وما جناه عليها بعناده وغفلته .. وانخداعه بأساليب هذا الطبيب الذي سحره ... وفي اليوم السابع أضيئت الشموع ذراً للرماد في العيون .. وتمويها على الأم البائسة التي ارتبطت بزوج قيل أنه أسلم بل وحسن إسلامه .. فإذا به يعلن في غير حياء ولا مواربة .. أنه ما زال مخلصاً لماضيه .. ولدينه القديم .. وإلا .. بماذا نفسر اختياره لاسم عيسى اسماً لولده .. ولم يكن اليوم السابع هذا ينقضي .. حتى غرقت أسرة الشيخ في موجة من الهم والحزن فوق الذي كان قد تجمع لها من قبل .. ذلك أن بشيراً من أسرة الطبيب عبده .. جاء من حي الظاهر .. يهنيء الشيخ بمولود عبده الجديد .. عيسى .. ولم يكن بين أسرة الشيخ وأسرة عبده سابق ود ولا اتصال .. وقد كانت لهذه التهنئة منهم معانٍ غير خافية عليه .. لكن الشيخ تماسك واصطنع الثبات اصطناعاً .. حتى كان الغد .. فخرج من الفجر ليلحق بالطبيب عبده في داره .. قبل أن يغادرها إلى العمل .. فإن له معه شأناً ..

(19)

حين فتح الطبيب باب داره للشيخ .. فوجيء به يغلق الباب بعنف خلفه .. وهو يمسك بتلابيبه .. ويقول له : ما هذا الذي فعلت بابنتي أيها الزنديق ؟.. والله لا أفلتك من يدي حتى أعلم حقيقتك .. وقد سكتنا عن التزامك اسمك رغم اعتناقك الإسلام .. وكان يجب أن تغيره إلى ما يدل على إسلامك .. ولقد أحسنا الظن بك وبما سقته من حجج .. كانت تبدو لنا صادقة يوم نطقت بها .. أما وقد انكشف أمرك الآن بتسمية ولدك عيسى .. فاعلم أن اختيارك لولدك هذا الاسم .. له من المعاني ما لا يخفى على أحد .. ولقد كنت أعالج نفسي بالتصبر حتى ألقاك .. إلى أن جاءنا بشير من عند أبيك .. يحمل التهاني التي تنطوي على سخرية أبيك بعقولنا .. وشماتته بمصير ابنتي المسكينة .. التي جنيت عليها حين قبلت زواجك بها .. فتكلم بالحق وإلا قتلتك شر قتلة .. ورأى الطبيب أن الشيخ يهدر غاضباً .. والدماء تندفع إلى جبينه حمراء قاتلة .. والشرر يتطاير من عينيه .. يشير إلى ما في صدره من غليان براكين الثورة .. فبقي بين يدي الشيخ هادئاً ساكناً حتى تمر العاصفة .. لكن حالة الشيخ كانت تنبؤ أنه قد انتوى أمراً خطيراً .. وأنه قد يرتكب جرماً وحشياً تحت وطأة إحساسه بخيبة الرجاء .. إذ كان يبدو عليه أنه استنفد من الجهد ما أضناه .. وأنه سيتصرف مع الطبيب تصرف اليائس منه .. فبادره الطبيب قائلاً : ياعم .. أقسم لك أن الأمر كما علمته من حسن إسلامي .. ولقد أكرمتني بإحسانك إلي إذ قبلت مصاهرتي لك .. فكيف تصورت في نفسك ما نطق به لسانك الآن .. وهل تظن أن ما جرى لي بسبب إسلامي .. وملاحقة أهلي لي .. بالتهديد والويلات والأذى .. وطردهم لي من دار أبي .. وهجري لأهلي .. ولجوئي إلى الحق والهدى .. كان كله تمثيلا وعبثاً .. وهل قدمت لي منذ عرفتك إلا الخير والعون والحب .. فكيف تظنني أسيء إليك أو أجني على ابنتك .. وإذا كان ذلك مما يجوز لي وأنا على غير سبيل الحق .. فكيف أجيزه لنفسي .. وقد عرفت الله ورسوله والقرآن .. يا عم .. إن كنت أردت – بعد ما قلته لك والله على ما أقول شهيد – أن تزيدني إيماناً .. فها أنا ذا بين يديك .. ما تغيرت وما استبدلت .. فأنت صهري وعمي وأبي وأهلي .. وليس لي الآن بعد ولدي من هو أقرب إلي منك .. وستجدني طوع أمرك فيما تظنه صواباً .. وسأقبل حكمك أياً كان .. فهلا منحتني بعض ما قد يكون بقي عندك من صبر .. لعلي أحدثك بما بقي عندي من حكمة اختيار اسم عيسى لولدي .. كانت لهجة الطبيب هادئة .. رغم ما صبه عليه صهره من لوم وتقريع .. ورغم شناعة الصورة التي رسمها صهره .. من فزع أحاط الأسرة .. وأحداث جسام توشك أن تعصف بالجميع .. فلا الطبيب ناجٍ بصورته هذه .. ولا أصهاره سعداء بما يمكن أن يحدثوه به من انتقام لسمعتهم .. التي ألحق بها خزياً ما بعده خزي .. رغم كل ذلك .. قال له الشيخ : تكلم وقل ما عندك .. ولا تخفي عني شيئاً .. ولتعلم أنك قد ألقيتني في الجحيم .. جزاء صنيع المعروف معك .. فابتسم الطبيب وهو يقول : كأنك لا تريدني يا عم أن أتكلم .. قال : بل ها أنا ذا مصغٍ إليك .. واعٍ لما ستقول .. والله وحده يعينني على ما أنا فيه .. قال الطبيب الناشيء: إن بيني وبين ربي عهداً لا يعلمه إلا هو .. وإني أسير على الدرب لا أحيد .. وما وجدت من ربي إلا الفضل يتلوه الفضل .. وفي ظني والعلم عند الله جل شأنه .. أن هذا الحادث الذي أفزعكم حتى آذيتموني .. هو أكبر نعمة من بها الله علي بعد نعمة الإسلام .. تمتم الشيخ في صوت حزين: أكبر نعمة .. تقول أكبر نعمة .. اللهم إنك أنت السلام ومنك السلام .. اللهم أفرغ علينا صبراً من عندك .. ولا حول ولا قوة إلا بالله .. عاد الطبيب يقول: نعم .. قد يكون هذا التتابع في الأحداث بشيراً لي .. بأن الله قد سمع لدعائي فاستجاب .. فله الحمد في الأولى والآخرة .. ثم استطرد يقول .. إنني يا سيدي .. حين تمسكت بنفسي – بعد إسلامي- بالاسم .. الذي كان قد اختاره والدي .. وهو كما تعلم : عبده .. تعلق رجائي بأن يمتد بي الأجل .. حتى أكون كفؤاً لزوجة صالحة من بيت طيب .. وأن أرزق منها مولوداً يكون أول أولادي .. وأن أدعوه : عيــــــــــسى .. وها قد تحقق الرجاء بفضل من الله ونعمة .. وقاطعه الشيخ محتداً : وأي فضل تريدني أن أراه فيما ذكرت ..؟ فارتفع صوت الطبيب الشاب في نبرة تشبه الغضب .. وقال : يا سيدي .. صبراً .. فما أتممت الكلام بعد .. وأنت ترى أن هذه الأمور التي وقعت .. لا تستوقف نظرك .. ولا تثير فيك عجباً .. أما أنا .. فقد رأيت هذه الأمور قبل أن تقع .. آمالاً .. ترتفع يداي في كل لحظة بسببها إلى السماء بالدعاء .. آمالاً .. سهرت من أجلها الليالي الحالكة .. التي أحاطت بي لبضع سنوات مضت .. وإن الله الذي أنعم علي بهذا كله .. لأكرم من أن يرد ما بقي لي من رجاء عنده.. قال الشيخ : وما هذا الرجاء؟ قال الطبيب: إنه إن شئت رجاء .. وإنه إن شئت عهد وميثاق .. إذا نحن أمعنا النظر .. فلقد كنت عاهدت ربي .. إن هو رزقني بصبي .. لأحرصن على تنشئته تنشئة صالحة .. ولأدعون له بطول العمر .. وبالتوفيق إلى ما فيه رضا الله .. وبأن يكون له في حياته ومن بعد مماته .. أحسن الذكر على ألسنة العباد .. ضاق الشيخ ذرعاً باستطراد هذا الطبيب الحدث في سرد أحلامه .. فقاطعه قائلاً: وأي والد لا يرجو لولده مثلما رجوت وأملت .. وأية صلة بين هذا الرجاء .. وذلك الميثاق .. وبين اختيار المسيح عيسى ابن مريم ليكون علماً على ولدك ليكون خيراً كما تقول .. قال: يا عم .. إنني لا أحصي ثناءً على ربي .. ولا أقدر على حمده كفاء ما أنعم به علي .. ولذلك جعلت من وجود هذا الولد .. شهادة تنبض بالحياة .. ما بقيت له الحياة .. بأن (عيسى) .. (عبده) .. وماهو بولده .. وما هو بالإله .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .. فكلما ذكر ولدي الذاكرون غائباً أو حاضراً .. حياً أو ميتاً .. كان ذكرهم هذا شهادة مني بين يدي الله عز وجل .. بأن عيسى عبده .. وما هو بولده .. ولقد استجاب ربي لأول الدعاء .. وهاهو الولد الصغير حقيقة ماثلة بين يدي .. وشهادة مني بما آمنت به .. وإن الذي أسبغ علي هذه النعمة الكبرى .. لقادر على أن يمد في أجله .. وأن يهديه سواء السبيل .. حتى يكون أهلاً لهذه الشهادة .. التي فرقت في حياتي بين ضلال كنت فيه .. وهداية أرجو أن تزيد .. ياعم .. إن الغيب من ضنائن الرحمن .. وإنا لاندري أيكون هذا الصبي صالحاً أم غير صالح .. ولا ندري هل كتب له من العمر ما يطول .. أم كانت الأخرى .. ولكنني أعلم من الله أنه ما خذلني .. ولا أسلمني لأمر لا أحبه .. منذ سرى في أطرافي هذا الشوق من الوضوء أول مرة .. وأنا بعد صبي لا أميز بين عقيدة وأخرى .. يا عم .. إذا فرغت من الشهادة بتسمية عيسى التي أرجو أن تكون شفيعي عند الواحد الأحد .. على نحو ما عاهدت ربي .. فأي الأسماء بعد ذلك يتمم الشهادة .. وهل هناك من اسم يذكر بعد شهادة ألا إله إلا الله .. سوى محمد رسول الله .. لذلك فإني أرجو من الله أن يكون حفيدك الثاني ... (محمد عبده) .. ثم ضحك قائلاً : إن زوجتي لولود .. وإن غداً لناظره لقريب .. قال له الشيخ : انصرف إلى عملك يا رعاك الله .. وإنني عائد إلى حي السيدة زينب .. والله يعلم بما أنا فيه .. إنك تعيش في جو من الصفاء .. لا تعيش فيه كثرة الناس .. وإن أعمالك وأقوالك لا يفهمها .. إلا من أنار الله بصيرته .. وحاط بدين الله من كل جوانبه .. وما أقل هؤلاء في زماننا .. لكنك يا عبده .. قد أتعبتني منذ عرفتك .. ولا إخالك إلا هكذا ما حييت .. عفا الله عنك يا بني .. ثم شد الشيخ على يد صهره مودعاً .. وهو يقول : على إني لا أضيق بيوم التقينا فيه .. ولا أتمنى الآن غير الذي جرت به المقادير .. ثم انصرف .. مرت الأيام .. ورزق الله عبده ولده الثاني .. محمد .. ولم يكن الخواجة إبراهيم قد رأى يوماً أشد عليه من يوم الأحد .. الذي أعلنت فيه الكنيسة خروج عبده عن حظيرتها .. وقرر فيه رجال الكنيسة طرد ولده الأكبر من رحمة يسوع .. وبقيت صورته حاضرة أمام ناظريه .. وهو يهرول مسرعاً إلى خارج الدار .. والجميع يلاحقونه باللعنات والتهديدات .. حتى جاءه الخبر بأن ولده عبده .. قد سمى ولده الثاني محمد .. فكانت القاضية على ما كان بقي عنده من أمل ورجاء .. وفي يوم من الأيام .. عام 1909 .. والأسرة الصغيرة في حياتها الوادعة .. على مقربة من السجن .. والوقت بعد الظهيرة .. والحر قائظ .. والطبيب قد أنهى عمله .. وعاد إلى داره .. وإذا بواحد من مساعديه .. يصعد الدرج مسرعاً .. ويقترب منه .. ويهمس في أذنه كلاماً .. وبدا على وجه الطبيب أنه لا يصدق ما سمع ..

(20)

في يوم من الأيام .. عام 1909 .. والأسرة الصغيرة في حياتها الوادعة .. على مقربة من السجن .. والوقت بعد الظهيرة .. والحر قائظ .. والطبيب قد أنهى عمله .. وعاد إلى داره .. وإذا بواحد من مساعديه .. يصعد الدرج مسرعاً .. ويقترب منه .. ويهمس في أذنه كلاماً .. وبدا على وجه الطبيب أنه لا يصدق ما سمع .. ورفع الطبيب صوته قائلاً: وأين هو الآن .. ؟ قال إنه يقف بباب الدار ,, ونزل الطبيب الشاب مسرعاً من فوره .. وعاد ومعه ضيف من القاهرة .. كان هذا الضيف هو الخواجة إبراهيم .. والد الطبيب .. وقد وصل فجأة .. بعد قطيعة تامة ومتصلة .. منذ كان ولده في فترة الامتياز بالقصر العيني .. فانسحبت الزوجة والمربية والطفلان إلى داخل الدار .. وبقي الطبيب وولده .. لا يجدان عندهما ما يقال .. بعد أن كانا قد تبادلا التحية والمجاملة في اقتضاب .. قال الطبيب: كيف أنت يا أبي .. وكيف حال أمي وإخوتي .. وإذ هم الوالد بالجواب .. احتبست الألفاظ في صدره .. واعتمر رأسه بين يديه لحظة .. ثم انهارت بقية المقاومة .. التي كان يعانيها منذ وقت طويل مضى .. فانفجر ينتحب كالثاكلات .. ولم يحاول ابنه أن يمنعه .. بل تركه برهة .. وأخلى له المكان حتى يفرج عن نفسه وهمومه .. وأقبل عليه حين عاوده الهدوء .. وقال ماذا بك يا أبي .. وكيف أمي وإخوتي .. قال: إنهم بخير نحمد الرب .. ولكن أباك هو الذي على حافة الهاوية .. قال: هون عليك وأشركني فيما يؤودك حمله .. لعلي أكون في عونك .. قال: لهذا جئت إليك .. ولا أخفي عنك أنني ما سعيت إليك .. إلا بعد أن انسدت الدنيا كلها في وجهي .. وكادت الفضيحة أن تحطم حياتي .. ثم سكت لحظة .. عاد بعدها يقول .. وقد تهدج صوته من جديد .. يا عبده .. إن البيت الذي ولدت فيه ونشأت ... حتى أتممت معظم دراسة الطب .. هذا البيت الذي يؤوينا ويتسع لأسرتنا كلها .. سيباع في غد بأبخس الأثمان .. أمام دائرة البيوع بالمحكمة .. وفاء لدين كان للبنك صغيراً .. ولكن الفوائض ضاعفته ولله الأمر .. وأختك يا عبده .. أختك ماريبوه .. ابنتي الكبرى .. سيكون زواجها بعد أسبوع واحد .. ولا أعلم كيف أواري فضيحتي المالية .. وطردي من بيتي عن أصهاري الذين يحسنون بي الظن .. ومن أجل ذلك جاءوا للمصاهرة .. وأي مصير سيواجه شقيقاتك الأخريات .. إذا ما خاب زواج الأولى بسبب إعلان إفلاسي .. وأظلمت الدنيا في وجهه .. وخارت قواه .. فعاد يبكي وينتحب .. في مرارة شديدة .. وسأله ابنه: كم تبلغ القيمة .. قال: ثمانمائة جنيه .. والبيت كما تعلم يساوي أضعاف هذه القيمة .. ولكن جو البيع يسوده ألوان من المناورات والاحتكار البشع .. وإن موظفي البنك أنفسهم يحيطون هذه البيوع بإجراءات جهنمية .. تضمن لهم تسيير البيوع على هواهم .. قال الطبيب: إن هذا لعجيب .. أو ليست المحاكم تقوم من اجل العدل .. قال أبوه : يا بني .. إنك تعيش في برجك العادي بعيداً عما يدور في الأسواق من ظلم وفساد .. إن الدين يا بني يكفي للإطاحة بثروة كبيرة .. وبخاصة إذا مال الأمر لدائرة البيوع .. ومن حوله زبانية يتسمعون الأخبار .. و يتحايلون على كل واحد في المزاد حتى ينسحب .. قال الطبيب : لماذا لا ندفع جزءاً من الدين .. ثم نفكر كيف نتدبر أمر التصفية الشاملة .. قال الوالد : يا بني يا عبده .. قلت لك أن هذا كله قد فات أوانه .. إنني أواجه حكماً بنزع الملكية وفاءً لدين مقداره كذا وكذا .. عفواً يا بني .. لقد أفسدت عليك وقت الراحة .. والجو شديد الحرارة .. ولكن العذر واضح لك .. ولي معك كلمة أخيرة .. أقولها وأنا واثق من أن جميع إخوتك .. يؤيدونها راضين .. وأنت يا عبده أولى من الغريب .. فتعال معي في جلسة البيوع .. واشتر أنت البيت .. قبل جلسة المزاد .. لقاء دفع قيمة الحكم كاملة .. فلا يضع الغريب يده على دارنا .. ويسيء إلى أبيك وسائر أفراد أسرتك .. وأنت لن تلقي بأهلك إلى الطريق .. إن قصروا في دفع الإيجار .. قال الطبيب : لا عليك .. اصبر يا والدي .. وائذن لي بتركك برهة صغيرة .. ودخل إلى حجرته الخاصة .. ثم عاد يحمل شيئاً في يده .. ودفعه إلى أبيه .. وقال هذه ثمانمائة جنيه ذهباً .. هي لك يا أبي فتصرف فيها كيف تشاء .. دهش الوالد من هذا التحول من الجدال إلى الفعل الناجز .. وسأل في تكرار .. والدار؟ متى تحضر لإكمال اجراءات نقل ملكيتها إليك؟ قال: لا حاجة لي بها .. إلا أن تبقى داراً لك انت .. أنت والد الجميع .. ومن مركزك في الظاهر وفي الجمالية .. تستمد الأسرة كلها تقدير الناس .. وإني ليسرني ان تبقى محل ثقة الناس واحترامهم .. وضع الوالد كيس المال بجواره على الأريكة .. وأطرق وهو يقلب عصاه بين يديه .. ويقول في صوت خافت تتجاوب فيه أصداء من الشعور بالخجل والصغار: ماذا صنعت بك وأنا قادر عليك .. وماذا صنعت معي وأنت قادر علي .. وتساقط الدمع من عينيه في صمت ذليل .. حتى رق له قلب ولده فبكى لبكائه .. وانصرف الخواجة إبراهيم بالمال .. ونجا من ضائقة كادت تعصف به .. وعاد الطبيب إلى داره بعد فترة قصيرة .. قضاها في وداع أبيه إلى أن تحرك القطار .. كان الطبيب منهكاً وهو يعود إلى بيته .. وفي الطريق كان يمني نفسه بساعة من نوم عميق .. ولكنه أخطأ الحساب وأسرف في الأمل .. فما إن دخل داره التي تركها من برهة قصيرة .. وغادرها وهي هادئة ساكنة .. حتى سارت مسرحاً لأحداث غريبة تجري سراعاً ..

(21)

ما إن دخل الطبيب داره التي تركها من برهة قصيرة .. وغادرها وهي هادئة ساكنة .. حتى سارت مسرحاً لأحداث

غريبة تجري سراعاً . فها هو يرى المربية .. عاكفة على صرة ضخمة من لوازم الدار .. وملابس الصغار والكبار .. تلفف شيئاً من فوق أشياء .. وبجانبها صرة أخرى فرغت من شد وثاقها ... والصغيران قد وضعا في ثياب الزينة والزيارات .. وزوجته تذهب وتجيء في ركن من الدار إلى درج يؤدي إلى السطح .. وهو يراقب الأمر صامتاً .. حتى رفعت الزوجة ابنها الصغير على ذراعها .. وأمسكت بيد الولد الأكبر .. وحملت المربية صرة بعد أخرى .. واستعد الركب للرحيل .. وتقدمت الزوجة نحو الباب وهي ثابتة على صمتها .. وفي عينيها أثر واضح لدمع تغالبه .. وجاءت المربية من خلف سيدتها .. والطبيب الذي أنهكه عمله طول اليوم .. ومن بعده لقاؤه المثير لأبيه .. ساكت في ضيق وصبر .. فإن الوقت لم يكن مناسباً لإعلان الغضب .. تقدم مدخل الدار .. واعترض سبيل زوجته وهي توشك أن تنطلق .. فتوقف وقال: إلى أين؟ ولا جواب .. والصغير على كتفها .. والمربية تحمل الصرات .. والزوج لا يتحول عن مدخل الدار .. ولا يسمح لزوجته بالخروج .. وهذه حال لا يطول الصبر عليها .. فهبطت الأحمال التي على رأس المربية إلى أرض الصالة .. وتقدمت الزوجة من زوجها قائلة : ابتعد ولا تعترض طريقي .. قال: حتى أعرف إلى أين ؟ قالت: كنتُ واهمة كما أنت واهم الآن تماماً!! قال: كيف ؟ قالت : إن ما بيننا قد انتهى .. قال : وما الأسباب ؟ قالت: ما من سبب ولا غضب .. يكفي أن تعلم بأنك مجنون .. وأنا لا أعاشر المجانين .. لم يكن الطبيب قد سمع من زوجته الوديعة المهذبة كلاماً كهذا في أشد الأيام التي مرت بهما .. وبدا له أنها في حالة من الثورة النفسية .. التي لا يؤمن معها نقاش ولاحوار .. ولذلك لجأ إلى الحكمة .. وخلّى بينها وبين مدخل الدار .. وقبع في زاوية على أريكة يراقب التطورات .. انفجرت براكين الغضب الكامن في أعماق الزوجة .. وأغراها سكون الطبيب .. فسألته في حدة : أعرّفك لماذا أنت مجنون؟ إنك تصبح وتمسي ولا تذكر إلا الموت .. ولا حديث لك إلا عنه .. وأنه قريب من الآدمي .. وكلما خلوت بي .. أوصيتني بولديك خيراً .. إذا سبقت المنية إليك .. فكيف يا ترى تحقق وصيتك فيهم .. إن كنت تتلف المال بهذه الطريقة .. أما علمت أن هذا المال هو حصاد تدبيري طوال سنوات انقضت من عمرك .. في المهنة والوظيفة جميعاً .. ثم سكتت تغالب دمعها حتى ملكها الغضب من جديد .. فقالت: وإلى من دفعت المال؟.. إلى من يحترم أصهارك ويحب ولديك؟ .. إلى من يؤتمن على تربيتهما من بعدك ؟.. إذا وافاك الأجل صغيراً كما تظن ؟.. ثم أقبلت على زوجها .. وجلست في مواجهته وعلا صوتها .. وهي تقول: لقد نظرت في خزانتنا .. فما وجدت إلا حفنة من الدراهم .. وكل ما عندنا من مال للزمن ذهب به أبوك؟ .. فمن أبوك هذا ؟ .. لماذا لم يتذكرك إلا حين أظلمت في عينيه الدنيا؟ .. وسدت في وجهه أبواب الخلاص أوليس أبوك هذا هو الذي طردك من الدار ليلاً كما تقول ؟.. أو ليس هو الذي أغرى بك الكنيسة ليطاردوك .. ويلاحقوك بالأذى وسوء السمعة .. أو ليس هو الذي قاطعك خمس سنوات أو تزيد .. ولا يعلم شيئاً من أمرك .. إلا أن يكون شامتاً بك .. أو ساخراً من أبي الذي آواك .. وزوجك من ابنته .. واستمرت الزوجة تثير له شديد التقريع والتأنيب .. في غضبة جامحة .. والطبيب يتذرع بالصفح .. ويلوذ بالصمت .. وعلى حين كانت الزوجة لا تزال ترميه بحمم الغضب .. كان هو يتفكر في اللقاء الذي كان بينه وبين أبيه .. وقد شعر بأن حق الوالد كان مرعياً في هذا اللقاء .. ولكن ترى ما حال الحقوق الأخرى التي لأولاده عليه ؟.. تأمل الطبيب موقفه من جديد .. وهو يسائل نفسه .. ترى .. هل أصبت في هذا التصرف .. أم أنني قد أصبت في شيء واحد على حين غابت عني أشياء .. وذهبت الزوجة بعد ذلك .. غاضبة إلى بيت أبيها .. وتركته وحيداً .. وبعد ثلاثة أيام .. دخل عليه صهره الشيخ عبد الحميد .. ومعه الأسرة الصغيرة والمربية .. تحمل في العودة أضعاف ما حملته عند مغادرة الدار .. ودخلت الزوجة .. وهي تحمل ابنها الصغير .. وتمسك بالكبير .. وتتجه نحو غرفة النوم .. في صمت وخجل .. وهي تتجنب النظر إليه .. وتختصر في رد المقال عليه .. وانسحبت ومن معها بعد ذلك إلى الداخل .. وبقي الشيخ والطبيب يتحادثان .. قال الشيخ: ما عرفت عن ابنتي أنها كاذبة أبداً .. وإني لأحمد الله على ذلك حمداً كثيراً .. ولقد قصت علي كل ما جرى بينكما في الأيام الأخيرة .. وذكرت لي ما وجهته إليك من أقوال وأفعال .. وتصرفك معها .. ورأت بعد أن سكت عنها الغضب أنها أخطأت من الألف إلى الياء .. قال الطبيب : ما أظنها قد جرأت يا عم .. أن تنقل إليك ما ألقته في وجهي من قصائد المديح والثناء!!.. قال الشيخ: إنني لا أستبعد برغم فقهها .. أن تكون قد اقتصرت حياء مني حين أحست بخطئها .. وعلى أي حال .. فلقد كان القدر الذي ذكرته لي .. كافياً لإدانتها .. والحكم ببراءتك .. وما بك الآن حاجة إلى أحصاء المزيد من الوقائع .. وفي حالتك .. فأنت أدرى الناس بما حدث .. ثم إن والدك قد قاطعك لسنوات طويلة .. ولم يظهر فجأة في حياتك وحياة أولادك .. إلا ليستدر عطفك عليه وعلى أولاده فيما يمر به من محنة .. فبأي حق يطلب منك النجدة .. ولماذا جاء الآن فقط يطلب منك أن تنقذ بيته ومستقبل ابنته .. وهو يعلم أن الدين قد فرق بينه وبينك .. وأنك لن ترثه هو ولا أمك .. ولا أحد من سائر إخوتك .. كان الطبيب مطرقاً برأسه وهو يستمع .. ثم رفع رأسه وهو يقول: لقد أحسنت إلى أبي ياعم .. لحق الوصية التي فرضها له الملك الديان .. وبحق القرآن الذي آمنت به .. وجعلته دليلي إلى طاعة خالقي الذي هداني .. أو ليس قد جاء في القرآن قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي ع أو ليس قد جاء في القرآن قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ - وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }لقمان 14 -15 قال الشيخ: بلى .. وصدق الله العظيم .. قال الطبيب: أو ليس قد جاء في الكتب المحكم قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }العنكبوت8 قال الشيخ: بلى .. وصدق الله العظيم .. وساد الصمت بينهما برهة .. تدبر كل منهما معاني الآيات الكريمة .. وأهدافها النبيلة .. ثم ما لبث الطبيب أن قال: إن هذه الآيات .. يتلوها كل مسلم .. ويؤمن بها كل مهتد .. وما في ذلك من ريب .. ولكن حدثني بربك يا عم .. فأنت رجل علم وتجربة .. ألست ترى أن هذه الآيات تأخذ بناصيتي وبناصية كل عبد هداه الله .. من بين فئة كبيرة على الضلال .. فلقد جاهداني .. وأشهد الله .. ولعل أبي كان أشد قسوة .. لكن أمي كانت تراقبني .. وتجعل من يراقبني .. وتغري بي أبي .. وإخواني وإخوتي .. ظناً منها أن في هذه الملاحقة الخير لي .. ثم فرضت الأيام بيننا الحجاب .. وما أظنني على صواب فيما قد كان بيننا من قطيعة .. لأن الله جل وعلا يقول : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً }لقمان15 فأي معروف هذا .. وأنا لم أصاحبهما ..بل كنت وكانوا يصرون على قطع ما بيني وبينهما .. وأي صنيع سيء قد صنعت .. لو أنني تركت أبي يعود من زيارته لي .. ولم أنقذه على حين ظل المال راكداً في خزانتي .. أتظن يا عم أن المال .. هو الذي يصلح من شأن العيال .. بعد فقد عائلهم .. أعتقد أنك تعلم أن الأمر على خلاف ذلك .. أما الحق فهو ما أنبأنا به القرآن .. حيث يقول سبحانه في سورة الكهف: { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً }الكهف82 ألا ترى معي يا عم .. أن مجيء أبي إلى داري خاصة .. بعدما سمع بمولد محمد .. قد كان من جانبه .. كركوب أشد الأهوال وأقساها .. الا ترى أن مجيئه إلى بيت ولده الذي عرف حقيقة أمره .. هو نصر لي من عند الله .. إنني لا أنكر أن التصرف الذي صدر عني قد مس حقوق ولدي وزوجتي .. ولكن المغامرة .. كانت قضاء لا مفرمنه .. ولكننا يا عم .. إن يكتب الله لنا عمراً .. فسننظر فيما تأتي به المقادير .. إن شاء الله تعالى .. قال الطبيب ذلك وقد اعتزم في نفسه أمراً ..

(22)

نهض الشيخ يريد الانصراف .. بعدما سمع من دفاع ابنه الطبيب الشاب .. وإذا بابنته تعترضه .. وتتشبث به لتطيل بقائه .. ورفع الشيخ عصاه في وجه ابنته .. لكن الزوج كان قد أسرع إليه .. وقال له: ما هكذا يا عم .. علمتنا أن يكون الإقناع .. قال الشيخ لابنته : اسمعي يا هذه .. إنك هوجاء لا تعقلين .. إنك لا تعرفين قدر هذا الرجل الذي معه تعيشين .. فاحمدي الله أن رزقك بمثله .. ولتحذري بعد اليوم أي إساءة له .. أو سوء فهم لراشد تصرفاته .. كان هذا الموقف فاصلاً بين عهد لا يخلو من قلق وارتياب .. وعهد جديد ساده الاطمئنان .. إلى حسن إسلام الطبيب وصدق إسلامه .. وزاد الطبيب اقتراباً من الأسرة .. ومن كل الناس .. واتجه إلى الخروج من عزلته التي كان قد ضربها على نفسه .. وارتاح لها في خدمة السجون .. فالتحق بوزارة الصحة .. وأنجب ولدين آخرين .. هما محمود .. وإبراهيم .. وبقي طبيب أحد المراكز ., لأربعة أعوام .. ثم حملت زوجته من جديد .. فقال هو : علي أو علية .. فكانت علية .. التي توفي عنها أبوها وهي طفلة عمرها شهران .. وكانت جيوش الحلفاء الكبرى .. تنتقل في بعض مواقع محافظة الشرقية .. وكان قد انتشر بين الجنود .. وباء التيفوئيد .. فانتقلت العدوى إليه أثناء عمله في المخيمات .. وأحس الطبيب الشاب بدنو الأجل .. فقد كان رحمه الله صالحاً شفاف البصيرة .. وكأنما خاف على زوجته وأولاده مما سيلاقونه .. لو وافته المنية بعيداً عن الأهل .. فحزم حقائبه .. وأغلق داره .. واصحب زوجته وخادمه وأولاده .. وشغل إيواناً مستقلاً بالقطار .. حتى لا تنتقل العدوى منه إلى غيره ... حتى وصل إلى منزل صهره الشيخ الفاضل .. عبدالحميد مصطفى رحمه الله .. لكن إخلاص صهره .. وسهر زوجته .. وصغر سن أولاده .. ومهارة معالجيه من الأطباء .. لم تفلح جميعها في تأخير لحظة النهاية .. ووافاه أجله المحتوم .. بعد ستة أيام من مرضه .. وكان ذلك بعد مغرب يوم الثامن عشر من يوليو .. سنة ألف وتسعمائة وثمان عشرة .. بعد أن ضرب للبشر مثلاً سامياً في إصراره وشجاعته .. وحسن إسلامه .. وصدق إيمانه .. وقد منح رحمه الله للبشرية أبناء نافعين مؤمنين .. عاش منهم حتى خلد اسمه وذكره .. الدكتور: عيسى عبده ..العالم الاقتصادي الإسلامي المعروف .. وأحد من غذوا بدايات الصحوة الإسلامية .. والدكتور مهندس: محمد عبده .. أستاذ الهندسة المعروف بجامعات سويسرا .. ومن بعدهما أولادهما .. نفع الله بهم أمة المسلمين .. ورحم الله صاحب هذه القصة .. ومن أحبه وآواه ونصره .. ومن خلف من نسله ونسل أبنائه .. وآخر دعوانا أن احمد لله رب العالمين .. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : كنت تحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال قولاً حسناً، فقال فيما قال: (من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله مثل الذي لناوعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا) سنده حسن تمـــــــــــــــــــــــــــــــت

المصدر: محاضرة صوتة لفضيلة الشيخ: محمد بن إسماعيل المقدم من موقع طريق الإسلام ولم يكن لي جهد إلا بالنسخ والتعديل البسيط في السياق فقصته مكتوبة بكتاب ما .. لكن الشيخ لم يذكر اسم الكتاب وقد كان يقرأ القصة منه .. ولقد تأثرت بقصته كثيراً .. وكان لدي ما يدفعني دائماً إلى كتابتها رغم سماعي لها مرات ومرات أسأل الله أن ينفعني وأياكم .. ومن كان له فائدة يحب إضافتها فسأكون له من الشاكرين

الإنترنت مخزن كنوز المعرفة

$
0
0

بفضل الحاسوب أمامي ، فأنا يمكننى توجيه المزيد من المعلومات في ساعة ظهيرة مثل التى تم تخزينها في مكتبة الإسكندرية بكاملها، وهى مستودع اسطوري من المعرفة في العالم القديم.

تيرابايت بعد تيرابايت من البيانات توجد هنا، ومعظمها مجانى، وتحتاج إلى القليل من الجهد للعثور عليها. بنقرة وهناك الكتاب المقدس.

و بنقرة أخرى فإن كل ما دونه شكسبير ، وكتابات داروين ،و فرويد و نيوتن ، ناهيك عن feculent sewers التي تلوث المناطق السفلى من الفضاء الإلكتروني. كل النصوص قابلة للبحث ، مع الصور والصوت .

والادمان يصل إلى درجة عالية: فمستخدمي الانترنت يقضون حاليا نحو 12 ساعة في الأسبوع على الشبكة

ويبدو أن كل المعرفة الإنسانية هناك (كل ذلك لا يزال يخضع لحقوق التأليف والنشر على أية حال) ، وهذا التضخم الوحشي للبيانات هو يزداد تدفقا في كل دقيقة من كل يوم.

الانترنت تمثل ثورة فكرية من نوع لم يسبق له مثيل منذ اختراع المطبعة, أو ربما حتى منذ إختراع الكتابة في حد ذاتها. انها تعد بديمقراطية المعلومات في نهاية المطاف .

وبالنسبة للجزء الأكبر ، كان هذا ينظر اليه على انه شيء جيد. ولكن ليس من قبل الجميع. وقبل بضعة أعوام فإن التكنولوجي الأميركي 

نيكولاس كار

 كتب مقالا استفزازيا في أطلانتك مجازين بعنوان : هل جعلنا گوگل أغبياء؟

أطروحة كار ، والتي اتسع نطاقها الآن الى كتاب استفزازي على حد سواء ، هو أن هناك الجانب المظلم من الشبكة. ليست المواد الإباحية وغرف الدردشة فحسب-- تلك هي موثقة جيدا -- ولكن شيئا حتى الآن أكثر شرا وغير مرحب به- : شبكة الانترنت ، كما يقول ، تعلمنا أن نتوقف عن التفكير.

'وعلى مدى السنوات القليلة الماضية ،'وهو يكتب، 'لقد كان شعورا غير مريح أن شخصا ما ، أو شيء ما، يعبث في ذهني ، ويعيد تشكيل دوائرى العصبية ، ، و يعيد برمجة ذاكرتى.

'رأيي أنه --عقلى لن يذهب هكذا لكن الوضع يتغير. انا لم أعد أفكر بالطريقة التى ظننت أنى أفكر بها. 'الذى كان يقصده كار هو عدم قدرته على التركيز في أي شيء لأكثر من بضع لحظات في وقت واحد. وسأل رفاقه ووجد أنهم إتفقوا معه . وقد توقف بعضهم عن قراءة الكتب تماما.

وقال أحدهم ، وهو طبيب ، : 'لدي الآن تقريبا القدرة على القراءة واستيعاب مقال طويل قليلا على شبكة الإنترنت أو بالكتب مفقودة تماما .'

وتحدث آخر عن التفكير المتقطع لديه'. 'أنا لا أستطيع قراءة الحرب والسلام أكثر من ذلك. لقد فقدت القدرة على القيام بذلك. 'حدس كار -- بالمشاركة من قبل العديد من أصدقائه -- هو أن شيئا ما خطيرا يحدث لعقولهم ، والشك هو أن الإنترنت هو السبب. وإذ تدرك أنه قد اتهمت الشبكة بشكل غير متعمد لكثير أو قليل من الشر في المجتمع ، وأدرك كار انه بحاجة الى بعض الأدلة لدعم حدسه و إعتقاده. 

 

العلاقات التركية الروسية المستجدة

$
0
0
 تأليف : محمد السويسي
إسقاط الطائرة الحربية الروسية كانت اكبر مفصل في تاريخ تركيا الحديث لبناء تركية وطنية خارج الهيمنة الاميركية بتحرير جيشها ،من شعوبيين موالين لاميركا واليهود وإيران ، الى جيش وطني
عثماني.
إذ أن اميركا ، بإسقاط الطائرة بالتعاون مع إيران ، هدفت الى خلق هوة في العلاقات وحالة من العداء بين اردوغان وبوتين في تمهيد للإنقلاب حتى لايواجه باي إعتراض من روسيا فيما لو نجح .
ومع حالة العداء تلك اعلمت واشنطن موسكو عن توقعها بالإنقلاب قبل عشرة اسابيع من حدوثه لذا كان الخطاب الروسي متشدداً وقتذاك تجاه الاتراك تسريعاً للإنقلاب مع دعم الطيران الروسي للنظام السوري والإيرانيين لاسترداد كل مواقعهم التي خسروها تمهيداً للدخول الى حلب .
ولكن محاولة الإنقلاب الفاشلة وخطاب اردوغان الودي تجاه روسيا افشل كل الخطط الاميركية الإيرانية التي كان يعد لها ضد تركيا منذ بداية الازمة السورية لإسقاط نظامها وتقسيمها .
وقد رد بوتين الخطوة الإيجابية بخطوة مماثلة لاردوغان بتقديمه حلب هدية له كمنطقة نفوذ لتركيا معترف به دولياً.
لذا فتحسن العلاقات الروسية التركية سيكون حتماً على حساب العلاقات مع اميركا . إذ ان اردوغان يحتاج الى دعم روسيا في عهد بوتين القوى لإحداث التغييرات في الجيش ، لانه دون روسيا لايستطيع أردوغان مطلقاً ان يغير قيادات الجيش والمخابرات والطيران والبحرية من قيادات يهودية شعوبية علمانية الى قيادات مسلمة سنيّة وطنية إلا بدعم من دولة عظمى كروسيا .
كما وانه سيتكمن من تغيير مواقع المطارات العسكرية مع جميع طياريهاالشعوبيين و الثكنات والمواقع البحرية لينقلها من محيطها الشعوبي الموالي لإيران وأميركا الى مواقع تركية وطنية تحتاج حتماً الى تاييد الروس ودعمهم لمنع تدخل عسكري اميركي او إنقلاب آخر .
إذ ان الروس سيسهرون من الآن فصاعداً على امن تركيا من اي عدوان اميركي لما لهم من مصلحة لم يكونوا يحلمون بها لولا إسقاط الطائرة الحربية التي قلبت الامور في العلاقات راساً على عقب .
وهذا الإنفتاح الروسي التركي سيؤدي حتماً الى تقارب بين المملكة السعودية والروس ويعجل في إنهاء الازمة السورية خارج النفوذ الاميركي الإيراني ، إذ سيعمد اردوغان بما له من نفوذ الى تجميد نشاط كل الأحزاب والتنظمات الإسلامية ضد المملكة وبالتالي ضد مصر ، لانه يدرك تماماً ان تحركات هذه الأحزاب إنما تتم من خلال اميركا وإسرائيل وإيران لتقويض امن الدول العربية ، وقد اضحى يدرك الآن حجم المرارة من تحركات هؤلاء وخطرهم ضد الأمة الإسلامية وليس ضد العرب بعد العدوان عليه وما كان يُضمر له ولتركيا من خلالهم .
والأحزاب الإسلامية العربية اليوم التي لجأت الى تركيا هرباً من الانظمة العربية وظلت على تنسيق مع ايران فإنها أضحت في مأزق حقيقي ، فأما ان تستجيب لتعليمات اردوغان بالكف عن التدخل في شأن الدول العربية تنفيذا للمخططات الصهيونية الاميركية الإيرانية من اجل المال ، وإلا فإنها قد نواجه بمفاجأة متوقعة وهي بملاحقة اردوغان لقياداتها كما ملاحقته لغولن ، واعتقالهم وطردهم من البلاد او تسليمهم لدولهم إذا لم يستجيبوا لاوامره وظلوا على علاقتهم مع اميركا وبريطانيا وإيران .لانه اضحى الآن يدرك تماماً مدى الحقد الاميركي واليهود على الامة الإسلامية ، وأن إيران وهذه الاحزاب ليست سوى ادوات لاميركا والصهيونية العالمية ضد الامة العربية وألإسلام.

المملكة العربية السعودية ومحاولات الإصلاح

$
0
0

 

تأليف : محمد السويسي

إن الإحتلال الاميركي للعراق في العام 2003 وتسليمه لإيران مع السماح لها بالتمدد نحو الدول العربية للإطاحة بأنظمتها دون مبرر جعل الدولة المملكة العربية السعودية في موقع الحذر مع استهداف اميركا لنظامها ولدول الخليج  بقناعها الإيراني الظلامي باعتمادها اعمال القتل والإبادة للمسلمين  وتهجيرهم على اسس طائفية مذهبية كما هو جار في سوريا والعراق مع إعلام إيراني داخلي بان هذه الحرب هي رد على هزيمة القادسية وبالتالي للتسريع في إظهار المهدي المنتظر .

هذه الحرب الاميركية العدوانية ضد الامة العربية والإسلام جعل الملك عبدالله بن عبد العزيز يدرك ضرورة تطوير المجتمع السعودي بتحصينه من هذا الإرهاب الاميركي القادم بقبضته الإيرانية  بإقرار الضمانات الإجتماعية والصحية  وتعويضات البطالة ،  وتحديثه  بالتوسع بالتعليم بإرسال الطلاب للتعلم في الخارج ، خاصة إلى الولايات المتحدة الاميركية ،  بما زاد عن 300 الف مبتعث ، كما وتحرير المرأة من العادات القبلية المورثة بتوظيفها والتوسع في تعليمها لتأخذ دورها الى جانب الرجل في بناء الوطن .

هذه الإصلاحات في مضمونها  لم تكن سوى تحصينات لمواجهة حصار أميركي صهيوني للمملكة بهدف إسقاط نظامها لتقسيمها والإستيلاء على ثرواتها وثروات المنطقة ولوقف دعمها للقضية الفلسطينية وللشعب  المصري والخليج والأمة العربية كما وقف تمددها المالي المصرفي والإقتصادي والصناعي والزراعي  في أوروبا واميركا وآسيا وإفريقيا بما يعد منافسة للغرب واليهود في عقر دارهم ومراكز نفوذهم المالي  .

إعتقدت السعودية ان الامر قد استقر في المنطقة بإصلاحاتها السريعة ،إلا إن إعطاء الاذن من قبل باراك اوباما  لطهران بالتمدد نحو السعودية والبحرين واليمن في حصار للمملكة تمهيداً لإسقاطها زاد من تعقيدات المنطقة والخطر على المملكة . إلا أن الأمر لم يكن بهذا السهولة إذ كانت الرياض في حذر واستعداد تام للتدخلات الإيرانية ، فواجهتها بحزم في البحرين بما قلب جميع الخطط الاميركية راساً على عقب وقد فاجأهم الإستعداد العسكري السعودي في آذار 2011 ليعدلوا خططهم بتمدد إيران نحو سوريا واليمن واحتلالهما من خلال مليشياتها الإرهابية التكفيرية في عملية إبادة حقيقة للمسلمين بهدف تهجيرهم نحو المملكة والخليج تمهيداً لدخولها واحتلالها ، ولكن دون جدوى مع صلابة الموقف السعودي وتضامن باكستان ومصر والدول الإسلامية  والشعب العربي معها .

فكان على اميركا ان تعمد إلى إسقاط النظام المصري وإيصال قوى إسلامية على تفاهم مع بريطانيا وطهران بطرق ديمقراطية عربية بانتخابات  شعبية مولتها إيران بتاييد  عسكري من الجيش المصري الذي  كان يعترض على توريث السلطة لأحد ابناء حسني مبارك بما  سهل من وصول الإخوان المسلمين لرئاسة الجمهورية .

كان الامر مريحاً للإخوان وقد لقى ترحيباً من جماهيرالشعب العربي ومن المملكة بوصول حزب إسلامي في مواجهة النظام الإيراني الصفوي المعادي للأمة العربية والإسلام بدعم اميركي .

إلا ان التقارب الإيراني المصري ، بتشجيع من الرئيس الاميركي باراك اوباما عقب وصول الرئيس مرسي للسلطة ، في نقاط عدة معيبة تضمنت  منحة إيرانية بشكل هبة بقيمة  29 مليار دولار للإخوان مقابل السماح لطهران  بفتح مراكز للتشيع الصفوي  تحت عناوين ثقافية كما في سوريا والعراق ، بالإضافة لتعمد إهانة قيادات إخوانية لقيادة الجيش المصري التي اوصلت الإخوان للسلطة ، كما والدعوة الى حل الجيش المصري الذي اعتبره الإخوان في خطاب صريح انه جيش عبدالناصر  الذي يجب إزالته وتكوين مليشيات متعددة بديلاً عنه على نسق الحرس الثوري ، إذ إن دعوتهم لحل الجيش هي الخوف من إنقلاب مستقبلي ضدهم .

كما و إرسال رسالة ودية من القيادة المصرية الى القيادة الإسرائيلية بعنوان "عزيزي الرئيس "لم تكن في محلها لقصر نظرهم مع إرتفاع دعوة الشعب المصري إلى قطع العلاقات مع إسرائيل ، بما زاد من حدة السخط الشعبي المصري والعربي ضد قيادة الإخوان التي لم تحس تدبير امورها والإمساك بزمام السلطة ، خاصة مع بدء الحملات الإعلامية المصرية ضد المملكة العربية السعودية التي اخذت ترتفع في الإعلام الإخواني  رغم محنة المملكة  من محاصرة إيران لها على جبهات عدة بالدعوة الى إسقاطها دون مبرر . إذ كانت السعودية على الدوام الحاضنة لجميع القيادات الإخوانية المضطهدة من الانظمة العربية وأعضاءها منذ أربعينات القرن الماضي .

كان بمقدور  قيادة الإخوان ان تتحرر من كل التزاماتها السابقة مع إيران ، المعارضة لرأي الشعب المصري الذي انتخبها وفق المصلحة والمبادىء المصرية دون ان يدري ماكان يجري خلف الكواليس ، إلا  انها فضلت الإلتزام بتوجهات  اميركا وبريطانيا وإيران وفق حساباتها  الخاطئة لإعتقادها ان هؤلاء  ضمانتها في دوام السلطة وليس الجيش او الشعب المصري ، خاصة وان إيران بناء لتوجيهات اميركية بريطانية كانت تمول سابقاً على مدى سنوات طويلة  كل مكاتب الإخوان في الخارج وداخل مصر كما وتمول حركة حماس الإخوانية ضد السلطة الفلسطينية ووحدة الموقف الفلسطيني بما يقتضي ومصلحة إيران في تحالفها مع اميركا في العراق.

وقد ثبت خطأ هذا التصور الإخواني مع التحرك الشعبي ضدهم وقيام الجيش المصري بانقلاب عليهم ، إذ لم يعد الجيش يأمن على مصيره ومستقبله إزاء تصريحات قيادات الإخوان ضده وجر المشير طنطاوي وزميله الى التحقيق بما فيه من إهانة للجيش والشعب المصري معاً مما لم تحتمله القيادة العسكرية المصرية وقد سبق ان شهدت ماحل بالجيش الإيراني من إعدامات وتشريد عقب وصول الملالي إلى السلطة وبالجيش العراقي من تشريد وقتل واغتيالات عقب احتلال اميركا للعراق ، لذا كان لابد من الإنقلاب ضد الإخوان من قبل الجيش المصري  خوفاً من ان يلقى مصير جيشي إيران وبغداد .

كانت مصر في وضع مالي سيء جداً مع وصول الإخوان الى السلطة إلا ان اميركا كات تضغط عليهم لبيع مصر لإيران مقابل 29 مليار دولار . وقبل ان يتسنى للإخوان أعطاء الرأي في هذا الشأن  قام الإنقلاب العسكري ضدهم لتمد المملكة السعودية والخليج يد المساعدة الفورية للجيش المصري وشعبه ليكون سنداً لهم ضد التآمر الاميركي الإيراني مع قطع علاقة المملكة  نهائياً بالإخوان بعد ثلاثة ارباع قرن من الحب والود .

الإنقلاب المصري كان كالصاعقة على الرئيس باراك اوباما الذي خطط منذ استلام ولايته لإسقاط  الجيش المصري وحلّه وتشريده وملاحقته جزاء إنتصاره في معركة  اكتوبر ضد إسرائيل ، كما وإسقاط النظام السعودي بتمويل ودعم مليشياوي إيراني بما فيه من خدمة لإسرائيل والصهيونية العالمية .

وصول الملك سلمان الى عرش  المملكة السعودية خلفاً للملك عبدالله  في العام 2015 اظهرالقوة العسكرية  السعودية على حقيقتها بالدفاع عن اليمن  في غارات جوية  في مواجهة التحالف الاميركي الإيراني في حرب معلنة ضد السعودية والامة العربية والإسلام .

هذاالتصلب السعودي البطولي المقاوم في مواجهة الخطر الاميركي الصهيوني الإيراني وصده  دفع بالرئيس اوباما بالتعاون مع طهران والمالكي الى إنشاء تنظيم إرهابي تكفيري اعلن عنه اوباما في آب /اغسطس من العام 2014 واعترف به من البيت الابيض كدولة اطلق عليه "الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام  "وجعل عاصمتها مدينة الرقة السورية وحدد حدودها التي  تمتد حتى تخوم  بغداد . داعياً العرب الى الإعتراف بها كدولة امر واقع معلناً ولادة تقسميات جديدة بديلاً عن تقسيمات سايكس بيكو مؤكداً انه قد عفا عليها الزمن ولم تعد اميركا تعترف بها لصالح تقسيمات جديدة قادمة في الشرق الاوسط مدعياً ان داعش هي  تنظيم إسلامي بينما واقع الامر فإنها ليست سوى إحدى المليشيات الصفوية الإرهابية التكفيرية ، جاعلاً نواة جيشها من مساجين العراق المجرمين ، وقادتها من البريطانيين وضباط الموساد المستعربين الملثمين .

والقصد الاميركي الإسرائيلي من إنشاء ميليشيا داعش الفارسية الصفوية  بيافطتها الإسلامية السنيّة المخادعة هو لدعم اعمال الإبادة للحشد الشعبي العراقي الصفوي  وباقي المليشيات الصفوية العراقية  ولتبرير دخولها إلى المناطق الاسلامية والوطنية العراقية حيث يقوم داعش بتعويق تقدم قوى الثورة الوطنية وقتل المقاومين المسلمين وتحديد اماكنهم لقصفهم من الطيران الاميركي في العراق وسوريا.

الملك سلمان بن عبدالعزيز والإصلاحات :

أهم الإصلاحات التي قام بها الملك عبدالعزيز منذ خلف اخيه الملك عبدالله هو قيام الطيران الحربي  السعودي بالتصدي للتدخل الاميركي الإيراني في اليمن بقصف مواقع الحوثييين عملاء التحالف الاميركي الإيراني  نهاية آذار/ مارس من العام 2015 ، اي بعد اسابيع من توليه عرش المملكة بما قطع الامل من وضع طهران يدها على اليمن كنقطة إنطلاق لتمددها نحو اراضي المملكة والخليج لتعيث فيهم فساداً وقتلاً وتهجيراً كما حال سوريا والعراق لصالح اميركا وإسرائيل  .

نصرة المملكة لشعب اليمن وتحريره من تسلط الإيرانيين اذهلت الرئيس الاميركي  باراك أوباما وأحبطته ، إذ كان يريد ان ينهي عهده بخدمة الصهيونية العالمية بتفكيك المملكة والخليج لصالح إسرائيل الكبرى ، إذ ان المملكة الداعم الاول لصمود الشعب الفلسطيني ونصرته في سبيل إقامة دولته المستقلة على كامل الضفة والقدس والقطاع رغم كل محاولات إيران وإسرائيل لكسر مقاومة الشعب الفلسطيني وإعاقة وحدته وعرقلة العرب عن دعم قضيته .

كان التدخل السعودي ضروريا لحماية وحدة ارض المملكة والخليج وحماية الإنجازات السعودية التي تمت في فترات سابقة كما وحماية تطلعات ولي ولي العهد الامير محمد بن سلمان في رؤياه الممتدة حتى العام 2030 .

إذ ان الامير محمد يسعى في رؤياه تلك إلى إحداث نقلة كبيرة وسريعة في النهوض الإستثماري والصناعي في المملكة ، خاصة الصناعات العسكرية .وفي الإستثمار المالي يسعى إلى كسر الموانع والمحرمات السابقة بحيث سيتم تحريك الإقتصاد السعودي بتشكيل صندوق استثماري من خلال شركة  أرامكو القابضة للإستثمار في المشاريع أو الاصول  التابعة لها في المملكة والخارج  . كما تشجيع السياحة الداخلية وتشجيع فرص العمل الخاص بتقديم القروض للمشاريع المتوسطة والصغيرة وحصر الدعم بالطبقات الفقيرة والوسطى  دون الاغنياء وتحسين المواصلات وزيادة معدلات التوظيف ، وذلك ضمن ثلاث خطط خمسيّة متوالية بهدف اساسي وهو خلق موازنة مالية وطنية دون الإعتماد على النفط .

امام الهجمة الصهيونية الاميركية ضد الأمة العربية والإسلام بقناعها الإيراني فإن منعة المملكة العربية السعودية هي منعة للدول العربية والإسلامية كافة لان اميركا وإسرائيل يسعيان بدأب الى إسقاط المملكة لإسقاط الدين الاسلامي بما فيه من موانع لاقتصاد الفحش والفساد والنصب الذي تقوم عليه إستثمارات وول ستريت المالية .

وفي تقييم بسيط للخطة الإنمائية السعودية التي ستدخل في تفاصيل عديدة اثناء تنفيذها ، فإنه لابد من لفت النظر بأن نجاح المملكة ونهوضها وتقدمها يعتمد  على معطيات اساسية عدة منها :

أ‌-       تحقيق الضمانات الإجتماعية والصحية من ضمان شيخوخة وتعويضات بطالة للعاطلين عن العمل .

ب‌-  تعزيز دور المرأة وحمايتها وتحريرها من جاهلية العادات القبلية الموروثة باستعادة حريتها وحقوقها كما جاء في الفقه الإسلامي نظراً لأهمية دورها في بناء الاسرة والمجتمع والوطن على اسس اخلاقية متينة .

ت‌-  تحسين إداء الإدارة بالتدريب وتحصينها  من الفساد والرشوة بهيئات رقابية ولكن وفق تنظيمات جديدة مغايرة تماماً للنهج الحالي ، خاصة وان التنظيمات الحالية بإداءها الغربي الغير ملائم للمجتمع العربي هي اداة للرشوة والفساد خاصة من الهيئات الرقابية التي يقتصر دورها على إفساد الإدارة النشطة وإعاقتها وتحطيمها وفقاً للنصوص الإدارية  التي ترعاها .

ث‌-  تعزيز المواصلات العامة لتيسير النقل والإنتقال ببدل متدنٍ  رخيص لانها اداة في بناء الوطن ونهوضه  وليست للترف ، عدا انها تخفف من ازمة السير .وذلك يتطلب حفر الأنفاق (المترو) وتعزيز الباصات و القطارت السريعة بين المدن الرئيسية والأرياف .

ج‌-    تعزيز التعليم في كل مراحله خاصة التعليم المهني ليعتمد الوطن على ابنائه لوقف نظام السعودة التوظيفية المؤذية في نهوض الوطن . كما وقف الإبتعاث للخارج من قبل الدولة  إلا لمنح طلابية للمتفوقين وهم قلة من الأوائل في كل جامعة والإعتماد على التعليم المحلي بتعزيز التعليم الجامعي مع وفرة الاساتذة المتخصصين في العالم العربي الذين يمكن الإستعانة بهم في كل الإختصاصات بدلاً من إرسال مئات الآلاف للتعلم في الخارج بما لاحاجة له .

ح‌-    اخيراً لابد من لفت النظر بأن على المملكة ان تعيد النظر بسياستها الزراعية بالإعتماد على الداخل في زراعة القمح والأعلاف كمادة استراتيجة رئيسية ،باستجرار المياه من شمال المملكة مهما بلغت التكلفة إن من الأنهار او الينابع او من المياه الجوفية الممطرة ، وليس في ذلك من خوف ، لان الامطار تعيد ملء الأحواض الداخلية في عمق الارض مع كل فصل شتاء .مع العلم أن معظم سهول لبنان بزراعته الكثيفة يعتمد على المياه الجوفية في مناطق ممطره لاتلبث ان تمتلىء مع موسم الشتاء والأمطار .

خ‌-    إن المملكة تعاني من مشاكل وإعاقات جمة في استثماراتها الزراعية الخارجية في كل من مصر والسودان والحبشة واماكن آسيوية وأفريقية أخرى بفعل التدخلات الاميركية أو بسبب الفساد الإداري والسياسي في هذه الدول . ولقد كانت المملكة في وقت سابق مصدرة للقمح إلا انها اضطرت الى وقف زراعته بفعل الهجمة الاميركية بحجة حرصها على المياه الجوفية السعودية ، بينما تتآمر دون كلل  على الإطاحة بنظامها وتقويض أمنها واقتصادها وتفتيتها . لذا لابد من سياسية زراعية داخلية كجزء من تحصينها الداخلي في وجه المؤامرات الاميركية الإيرانية الصهيونية ضدها وضد الامة العربية والإسلام .

 


مبروك يا أيمن

$
0
0

أطيب الأمنيات للمدون النشيط، أيمن افندي زغلول، على الزواج  الميمون. ه

صاحب النظر البعيد ... قتلوه !!

$
0
0

 

صاحب النظر البعيد ... قتلوه !!

أتذكر منذ وقت ليس بعيد، مجرد شهور، أن المحاضر في مادة القانون والدين في جامعة هومبولدت وقف ليشرح طبيعة ونشأة الطائفة الدينية وفق أحكام الدستور الألماني الذي هو في الواقع لا يحوي أية أحكام مقيدة بالذات في شأن الأديان، بل بالعكس يشجع إنشاءها بأن أطلق النص عليها بلا أية قيود لا من مواده ولا من القانون.

وقد قال المحاضر وقتها أن الدولة لكي تري الطائفة الدينية (التي تتشكل وفق نظام أسهل حتي من نظام قانون الجمعيات إذ يكفي لإنشائها 3 اشخاص فقط) قال المحاضر أن الدولة لكي تري هذه الطائفة فلابد لها أن تكون علي شكل مسجل قريب من شكل الجمعية ولكن أسهل كثيرا في إنشائه. أي أن الشرط رغم وجوده إلا أنه سهل جدا في تحققه.

وهذا الوضع المميز للصورة القانونية ذكرني بأمر قديم ربما لم يأخذ حظه من إهتمام المؤرخين والمراقبين.

في عام 1972 وقبيل طرد الخبراء الروس من مصر عرض الرئيس السادات علي الفلسطينيين وبالذات علي ياسر عرفات أن يقيموا حكومة فلسطينية في المنفي لكي يكون ذلك بمثابة تمهيد للتفاوض مع إسرائيل. ولكنه بالطبع لم يذكر هذا الجزء الثاني من المقترح بل دعا فقط إلي الجزء الأول.

وبالطبع لأن الرئيس السادات لم يكن يؤخذ مأخذ الجد في تلك الفترة عقب فوات عام الحسم بلا أي حسم فقد فوّتت الصحافة المصرية القضية ولم تهتم بها.

والحقيقة أن هذا الإقتراح لم يلق أي صدي من جانب الرأي العام ولا الصحافة ولم يقم أحد بمناقشة مزاياه وعيوبه والنتائج التي قد تترتب عليه. حتي أنا شخصيا لم أقرأ عنه إلا في مجلة الحوادث اللبنانية التي كانت تباع في مصر بكل حرية ولكن لم تكن منتشرة مثل الأهرام مثلا أو آخر ساعة والمصور.

وقد قرأت أيامها حديثا للمجلة المذكورة مع ياسر عرفات قام فيه بالإستهزاء بالفكرة وصورها علي أنها توطئة لتصفية القضية والسير في ركاب الإمبريالية وتحقيق أهداف الحركة الصهيونية وخيانة القومية العربية وكل تلك الألفاظ المؤثرة صوتيا فقط والتي لا تعني شيئا في عالم الحقيقة. وبالطبع لم يكن الرئيس السادات علي إستعداد لتضييع مزيد من الوقت مع عرفات ولا غير عرفات واعتبر بطريقته البراجماتية الشهيرة أن الموضوع قد إنتهي وأنه قام بما يمليه عليه واجب النصح والتبصير وكان ما كان.

لكنني الآن عدت إلي هذه الدعوة القديمة للرئيس السادات وأعدت التفكير فيها.

فتجربة الحكومة في المنفي هي ليست بدعة جاء بها الرئيس السادات بل هو طريق متبع في كثير من الحالات كان أشهرها حالة الحكومة الفرنسية في المنفي في لندن عقب غزو فرنسا من جانب ألمانيا عام 1940. وكانت هذه الحكومة في المنفي برئاسة الجنرال ديجول هي نواة كل حركة المقاومة الفرنسية وهي التي تسلمت الحكم عقب إنزال النورماندي. كذلك كان للبولنديين حكومة في المنفي أيضا في لندن منذ قامت قوات هتلر بغزو بلادهم في أول يوم من أيام الحرب العالمية الثانية وظلت قائمة حتي عام 1990 حين سقط النظام الإشتراكي الشيوعي الذي كانت تقف منه موقفا مناهضا. والجزائر أيضا كان لها أيام حرب الإستقلال حكومة في المنفي توجه وتنظم وتفاوض وقت اللزوم.

ما هو الدور الذي يمكن لجومة في المنفي أن تقوم به؟ وما هي المثالب علي الفكرة؟

بالطبع هنا تأتي الإجابة علي السؤال الأول من قول المحاضر الذي ذكرته في البداية، فكما أن الدولة الألمانية تحتاج إلي صورة قانونية لكي "تري"الطائفة الدينية فالمجتمع الدولي يحتاج إلي حكومة أو تنظيم واضح يمثل الإقليم محل النزاع. وهذه ميزة ِعظمي في إقامة حكومة في المنفي. ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد.. فهناك المزيد بل الأهم..

كان الرئيس السادات في الفترة التي سبقت حرب أكتوبر مقلا في أحاديثه الصحفية متحفظا في خطابه الرسمي لا يكثرفيه ولا يخرج عن النصوص المكتوبة وأغلب الظن أنه كان يدري أن الناس لا تريد أن تعتبره زعيما قادرا علي الحسم بالسلاح. كذلك كانت مظاهرات الطلبة وأحيانا العمال والمشاحنات بين المسيحيين والمسلمين هي كلها ظواهر للحياة السياسية المصرية في الداخل تجعله عازفا عن الدخول في مناقشات. وبالتالي إمتد هذا العزوف إلي شأن الحكومة الفلسطينية وأصبح الموضوع خلال نهاية صيف 1972 نسيا منسيا وخصوصا بعد واقعة طرد خبراء الإتحاد السوفيتي من مصر في يوليو من ذلك العام الحاسم.

والذي بدأت أتفهمه في هذا السن المتاخر الآن هو أن الفكر السياسي والقانوني السائد في معظم بقاع العالم (حتي ظهور فكرة العولمة التدليسية) هو فكر يقدس كائن الدولة ولا يسمح تقريبا بمساءلتها. وبالطبع فإن رجلا مثل هنري كيسنجر ذا خلفية أوروبية ودراسة في الولايات المتحدة كان واحدا من هؤلاء المفكرين بهذه الطريقة.

والحقيقة أنه لا يمكن إفتراض أن فكرة الرئيس السادات بإقامة حكومة في المنفي مصدرها هنري كيسنجر لأن الفكرة علي ما هو واضح لنا جاءت قبل أن يبدأ الرئيس السادات في التفاوض السري مع كيسنجر عن طريق حافظ إسماعيل في الولايات المتحدة الأميركية، إذ أن هذا التفاوض لم يحدث إلا عقب قرار طرد الخبراء السوفيت.

ولكن ربما إشتم الرئيس السادات هذه الروح من خلال مستشاريه ومن ضمنهم بالطبع حافظ غانم الذي كان أستاذ قانون دولي عام في كلية الحقوق.

وعلي كل حال فالأحق بنسب هذه الفكرة إليه هو الرئيس السادات وحده إلي أن يثبت لنا خلاف ذلك.

المهم هو أن فكرة وجود تنظيم شبيه بالدولة أو حكومة ولو في المنفي هو في ذاته عاصم من  الزوال. وهذا هو الفضل الأعظم لفكرة الحكومة في المنفي. 

وهذا التحليل يقف معاكسا علي خط مستقيم للتحليل الذي قال به ياسر عرفات أيامها من أن الحكومة الفلسطينية في المنفي هي "تصفية"للقضية !!! ومن غير الواضح لي حتي اليوم كيف يجيء إنشاء حكومة في المنفي والإعلان عنها وتسمية أعضائها مساويا لتصفية القضية؟؟

ولو طبقنا مبدأ إعفاءالدولة دائما من عواقب كل ما تفعله علي كل ما نراه حولنا نجد أن إسرائيل تقوم بما تقوم به وتبرر ذلك دائما بأنه يقع في مصلحة الدولةraison d'etat

وليس هناك أي سبب يمنع من إفتراض أن الرئيس السادات كان يفكر بهذه الطريقة لكي يضع إسرائيل في خانة الضرورة إلي أن تعترف بأن للفلسطينيين حقوقا بدليل أن هناك دولة (أو حكومة ولو كانت في المنفي). بل أن هذا الإفتراض هو الأقرب للواقع. فكل ما جري بعد ذلك من أمر وحتي اليوم يثبت أن الرعب الإسارئيلي الكامل يقع في سيناريو إقامة دولة فلسطينية. وهذه الدولة كانت مطلبا مصريا قبل أو أثناء كامب ديفيد ولكنها رفضت وخرجت الإتفاقية الإطارية إلي النور بدونها. ثم كانت مطلبا فلسطينيا في بدايات التفاوض من أوسلو إلي كامب ديفيد الثانية ورفضت أيضا. وهي اليوم أبعد ما يمكن لها أن تكون عن القبول الإسرائيلي، رغم كل الكلام الذي يهدر في الزعم بأنها هي الهدف النهائي.. فالهدف النهائي لإسرائيل هو ليس قتل الفلسطينيين ولا حبسهم ولا أي شيء من ذلك، بل هو منع قيام الدولة، تماما مثلما كان ياسر عرفات يردد منذ 44 عاما مع الفارق أنه كان رجلا جاهلا يهذي ولا يعي ماذا يقول بينما إسرائيل تعرف جيدا ما تقول به.

بل أكثر من ذلك..

عندما هزمت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية ودخل الحلفاء إلي كامل إقليمها إحتلالا ووجب تقديم رجالها إلي المحاكمة، ماذا حدث؟ وكيف كان الموقف القانوني؟

كان الموقف القانوني هو إفتراض نهاية الدولة الألمانية (الرايش الثالث) نهاية بالضربة القاضية، ثم بعد فنرة 4 سنوات أنشئت دولة ألمانية جديدة هي جمهورية ألمانيا الإتحادية في الغرب إلي جانب دولة أخري ايضا جديدة هي جمهورية ألمانيا الديموقراطية في الشرق بينما وقع الجميع علي وثيقة وفاة الدولة القديمة، رغم بقاء نفس السكان ونفس الإقليم ونفس الثقافة.. فماذا يعني ذلك؟

إنه يعني نفس ما ذكرته منذ البداية، أن الدولة مقدسة وهي إما أن تعيش في قدسيتها أو تموت !!

خذ أيضا الحرب الأهلية في الولايات المتحدة مثالا آخرا علي ذلك.

كان إتفصال الولايات وخروجهم من إتفاق الإتحاد هو سبب قيام الحرب. والمدقق في الأمر يعرف أنه لم يكن هناك أي تنسيق بين الولايات المنفصلة (الكونفدرالية) وبعضها ولكنهم مع ذلك كانوا حريصين علي إعطاء هذا التجمع الغير متناسق مظهر الدولة المقابلة للدولة الإتحادية، فأنشأوا كيانا وهميا أسموه الكونفدراليين. ولماذا فعلوا ذلك؟ أظن من خلال هذه الأفكار أنهم كانوا يريدون الحماية التي تسبغها صفة الدولة علي كل ما تقوم به من خطايا بحيث لا تعاقب.

وأكثر من ذلك..

الولايات المتحدة نفسها قامت عقب إخراج الهنود من أراضيهم ثم إخراج بريطانيا من كامل إقليم الولايات مع الحرص علي توقيع الحاكم البريطاني علي وثيقة تفيد بأنه لم تعد هناك  لبريطانيا أي حقوق علي الأرض وأن علاقتها بها قد إنتهت قانونيا. وقد حكمت المحكمة العليا بعد ذلك بحوالي 50 عاما بأن عقود بيع الأرض من الهنود إلي غير الدولة الفيدرالية هي عقود باطلة لأن الدولة الفيدرالية لها حق الشفعة علي كامل الأراضي التي يتصرف فيها الهنود. والسبب في ذلك هو أن هذه الاراضي لم تكن خاضعة لسلطان الهنود الحمر في إطار دولة ولكن في إطار سائب لا نظام قانوني له، وبالتالي لم تكن علاقتهم بالارض علاقة ملكية كما نعرفه في مفهوم الدول، بل مجرد حق إستغلال لو اراد أن يتصرف فيه فعليه أن يسأل الدولة أولا. (حكم المحكمة العليا في قضية جونسون وجراهام ضد ماكنتوش من عام 1823)..

وفي هذا السياق لم يعد أحد يسأل عما جري للهنود وعن كيفية إنشاء الدولة الجديدة علي هذه الأرض.

وكل الاراضي الواقعة في العالم الجديد سواء كانت لاتينية أو أنجلوساكسون قد تم الحصول عليها بهذا الاسلوب، إنشاء دولة.

وقد كان هذا هو السند القانوني لقيام دولة بيضاء تماما في قلب أفريقيا السوداء، أن الأرض لم تكن مملوكة لأي طرف أو بمعني أصح كانت أرض جنوب أفريقيا أرضا سائبة لا سلطة لأي دولة عليها.

وإسرائيل نفسها لم تنشأ بطريقة مختلفة، بل كانت حريصة كل الحرص علي ألا تترك الأمور سائبة لحظة واحدة عقب النهاية الرسمية للإنتداب البريطاني يوم 14 مايو 1948 فأعلنت قيام الدولة لكي تصبح شرعية ولا ينبش أحد في ماضيها. بينما كان العرب ينامون في جهلهم تماما مثل ياسر عرفات عام 1972.

بل وأكثر من ذلك..  

 

القانون الدولي به قاعدة هامة تقول بعدم جواز ضم الأراضي المحتلة بالقوة (أراضي الغير).  وهذا النص يعني بمفهوم المخالفة أن الاراضي السائبة لا يوجد ما يمنع من ضمها لكونها غير محتلة، إذ لا صاحب لها.

وهذا الوضع السائب كان هو أساس حق الفتح الذي ذاع إستعماله في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والذي بمقتضاه إستولت الدول الأوروبية علي اراضي شاسعة عبر كل اصقاع العالم والذي ايضا بمقتضاه تتنافس دول معينة اليوم علي أراضي القطب الشمالي.

وأراضي فلسطين كانت بالضبط في هذا الوضع، سائبة ما بين 14 مايو ليلا وأول دقيقة من دقائق يوم 15 مايو عندما أعلن قيام إسرائيل. أي أنها لحظة قانونية ليس لها إمتداد حقيقي في الزمان ولكنها لازمة لانتقال السيادة من اليد البريطانية لليد الإسرائيلية. فبريطانيا لم تسلم اليهود شيئا وإنما مجرد تركت الارض ورحلت. وبعد رحيلها نشأت نظريا هذه اللحظة القانونية التي دخلت فيها إسرائيل قبل العرب وأعلنت دولتها علي الأرض السائبة.

ونفس هذا الوضع كان موجودا في الجزائر التي تولت فيها جبهة التحرير السلطة عقب مرور هذه اللحظة القانونية ذات الطول صفر.

وعلي ذلك لابد لكل أرض أن تكون ملحقة بطريقة ما بدولة حتي يكون لها وضع قانوني، وهذا يذكرنا بالضبط بما قاله أستاذ مادة الدين والقانون في محاضرته التي بدأت بها من أن الدولة تحتاج إلي "نظارة"أو جهاز رؤية لكي تري الطوائف الدينية وتتعامل معها وهذا الجهاز هو تنظيم الطائفة الدينية.

وبالقياس يمكن إعتبار أن النظام القانوني العالمي لا يستطيع رؤية أحقية ممارسة السلطة إلا من خلال نظارة أو جهاز رؤية إسمه الدولة.

والحقيقة أن رجلا فلاحا مصريا واحدا فهم هذه الحقائق وأدركها بفطرته بلا تعليم جامعي ولا دراسة قانون وهو أنور السادات، فكان حريصا جدا علي إلحاق أرض سيناء بأسرع وسيلة بالسيادة المصرية لكي لا يهبط بها الزمان إلي منزلة الارض السائبة فتصبح منهبا لكل من اراد.

ولأنه كان رجلا واعيا لم يعجب المصريين فقتلوه، إذ أنهم يميلون أكثر لرجل آخر جعجاع كاذب يتلاعب بأحلامهم ويدغدغ غرائزهم وفي النهاية يفقدهم أرضهم ولكنه يحافظ علي رمزهم..

الجبرتي كان رجلا لماحا ذكيا جدا على ما يبدو من كتاباته، فقد فطن قبل غيره إلى أهمية دور الدولة وسيادتها فوق كل شىء إذ يفرق بين حالين للفرنسيين
1. حال الإستقرار وعدم القلاقل وفيه يكون الفرنسيون أصحاب دولة عدل وقانون لا تمارس السخرة وتعطي لكل حق حقه وتنزل العقاب بالمذنبين "حتي ولو كانوا من جنسه أو من ملته"وهو هنا يتحدث عن نابليون حين أنزل عقوبات بالإعدام علي بعض جنوده بسبب "التسلق على الدور"أى السرقة من المنازل أو محاولة إغواء واغتصاب النساء الأرامل فى قول آخر من نفس نص الجبرتي..
2. والحال الثاني وهو حال الإستنفار والقلاقل والثورات إذ يتحول الفرنسيون إلى ممارسة الإرهاب والتنكيل الفظيع ولا يوقفهم واقف.

وهذا هو الفكر السائد حتي يومنا هذا فى معظم دول العالم، فكيان الدولة يسمو فوق كل الرؤوس وهي تحافظ على وجودها بالدم والمال والرجال ولا تعرف الرحمة فى مواقف الفتن. 

 

قارن بين موقف نابليون فى مصر منذ 215 عاما وموقف القوات الأمريكية فى العراق مثلا منذ 8 سنوات فقط وإعفاء الجنود بل والمتعاقدين الأمنيين من المساءلة القانونية..

والمؤكد هو أن ياسر عرفات قد فكر بالطريقة العربية العاطفية الطفولية التي إما أن تحصل علي كل شيء أو تمارسة عملية "القمص"باللغة المصرية الدارجة ويصبح العالم بأسره في عيونها مذنبا متآمرا. فالسبب الأول هو أن الحكومة الفلسطينية في المنفي كانت تعني بالنسبة لعقله عام 1972 أولا الإعتراف بإسرائيل كدولة لها "حق ما"في المنطقة، حق يجعلها صاحبة شرعية. ثانيا كان هذا الإنشاء للحكومة الفلسطينية سيفضي إلي توقف العلميات الفدائية التي كان ياسر عرفات يراها "كفاحا مسلحا ضروريا". وبالفعل في نفس ذلك العام في الخريف وقعت حادثة القرية الأوليمبية في ميونيخ والتي كانت تستهدف رياضيين من إسرائيل.  وهذه الحادثة في ميونيخ بالذات كانت هائلة الأثر في إستهجان العالم للقضية الفلسطينية ولمنظمة التحرير لأنها أظهرت القيادة الفلسطينية في مظهر سيئ للغاية أمام كل وفود العالم ونجم عنها توقف الدورة الأوليمبية في ميونيخ وقطع أحداثها بنهاية دموية.

والسببان هما من أغبي الأسباب التي قد يسوقها شخص مسؤول عن قضية سياسية واجتماعية، ولكن هؤلاء هم قادتنا من العرب. ومالم يكن ياسر عرفات قادرا علي فهمه بحكم تكوينه العاطفي هو أن مجرد كسب صفة الحكومة أو الدولة (حتي ولو منفية) يجعله قادرا علي الوقوف في وجه إسرائيل دبلوماسيا ويجعله يعامل من قبل المجتمع الدولي بطريقة أكثر إحتراما.

ولقد بح صوت الرئيس السادات في خطابه العام عقب الحرب وعقب إتفاقيتي فض الإشتباك مخاطبا العرب ومخاطبا الشباب (جيلنا ومن هم أكبر منا سنا خصوصا ربيبي منظمة الشباب الإشتراكي) بأن مصر قد إعترفت بالفعل بإسرائيل بمجرد قبول قرار 242 لعام 67 في عهد دبلوماسية عبد الناصر وأن نص القرار يقول بأن الإنسحاب يتم من الأراضي العربية مقابل حق كل "دول" المنطقة في العيش بسلام !! أي أن إسرائيل حصلت بموافقة مصرية عام 67 علي الحق في العيش بسلام.. ولكن أحدا لم يستمع إليه. تماما كما يحدث اليوم في معظم القضايا التي يشارك فيها العامة.

بمناسبة الحكومة في المنفي فإنه عند قرب نهاية الحرب العالمية الثانية ووضوح النصر إلي جانب الحلفاء وإنعقاد مؤتمر يالتا فقد طالب ونستون تشرشل الرئيس الأميركي روزفلت بترتيب المواقف قبل لقاء ستالين بما في ذلك تقسيم القطاعات التي تمنح لكل حليف من أراضي ألمانيا. واتقرح تشرشل قطاعا لكل من الدول الثلاث وقطاعا آخرا فرنسيا. وهنا تدخل روزفلت مندهشا بلهجة حادة قائلا: فرنسا؟ لماذا فرنسا؟ ماذا فعلت فرنسا حتي تستحق قطاعا؟ لقد كانت فرنسا دولة مهزومة تم غزوها ولم تقف في مواجهة هتلر بأي شكل من الاشكال ونحن الذين قمنا بتحريرها. إن فرنسا مثل بولندا ليس لها حق القسمة مع المنتصرين  الثلاثة. وبالطبع فقد تكهرب الجو ولم تحصل فرنسا علي شيئ إلا عقب وفاة روزفلت وانعقاد مؤتمر بوتسدام في يوليو 45 وفي سياقه نجح تشرشل في إقناع ترومان بقطاع فرنسي ولو صغير بينما لم ينجح في حشد الجهد الغربي لإجلاء السوفيت عن بولندا التي كانت هي سبب وقوع الحرب أصلا. إذ أن وضع بولندا المجاور للإتحاد السوفيتي يختلف جذريا عن وضع فرنسا البعيدة عنه جدا كما أن فرنسا كانت دولة كبري لها تاريخ عريق في العسكرية والسياسة والدبلوماسية والحضارة بينما بولندا لم يجد لها الحلفاء سببا لكي يساندوها ضد جار هائل القوة، فسقطت في الملك السوفيتي ولذلك ظلت حكومة المنفي قائمة في لندن حتي عام 1990. وعلي كل حال فإن تشرشل غادر مؤتمر بوتسدام مبكرا عن موعده بسبب سقوطه في الإنتخابات وجاء آتلي لكي يمثل بلاده في ذلك المؤتمر إستكمالا لما بدأه تشرشل، ولكن طبعا بخلفية أخري وخبرة أقل كثيرا من سلفه.. 

 

ومن نافلة القول أن  ديجول لو لم يكن موجودا بحكومة في المنفي في لندن لم يكن ليحصل علي أي شيء عقب الحرب، فالقسمة تقع فقط بين الأكفاء والنظراء، أي الدول وليس مع المنظمات، خصوصا لو أنها إشتهرت بالإرهاب.

 

حقائق تاريخية حول القضية الفلسطينية

$
0
0

سنحاول في هذه الورقة تقديم تأطير تاريخي يتضمن أهم المحطات التي عرفتها القضية الفلسطينية من قبيل سقوط الخلافة العثمانية، إلى إعلان قيام دولة إسرائيل سنة 1948. محاولين الوقوف على بعض الحقائق التاريخية المهمة، والسياقات الحقيقية للقضية الفلسطينية.

 

1- ما قبل الاحتلال البريطاني لفلسطين وسقوط الخلافة العثمانية:

 

- بدايات الأطماع الصهيونية.

 

تظهر الدراسات التاريخية، أن اليهود فقدوا صلتهم بفلسطين لمدة تصل إلى 1800 عام. ولم يفكروا حتى في سبل العودة إلى فلسطين، لأن رجال الدين اليهود كانوا يؤمنون أن اليهود يستحقون هذا "الشتاتلما ارتكبوه من آثام وخطايا، وأن عودتهم لن تتحقق إلا بعد مجيء "الماشياح"أو "المسيا" (Messiah/Mashiah) وهو الذي سيمكنهم من الاستقرار في فلسطين.

 

وعلى عكس الكنيسة الكاثوليكية التي تعتبر اليهود قتلة المسيح، فإن ظهور البروتستانتية في أوروبا منذ القرن السادس عشر في إطار حركة الإصلاح الديني، سيُكسب الصهيونية دعما أكبر، بين أتباع الإصلاح الديني، لإيمان البروتستانتية بالعهد القديم (التوراة) ومقولاته التي تتضمن عودة اليهود إلى فلسطين، إذ يؤمن البروتستانتيون بما يسمى "نبوءة العصر الألفي السعيد"، والتي تقول بظهور المسيح المنتظر بعد اجتماع اليهود بفلسطين، ليقوم بتنصيرهم، ثم يقودهم في معركة "آرمجدون"التي سينتصر فيها، ليبدأ عهد جديد من السعادة يدوم ألف عام.

 

ونظرا لانتشار البروتستانتية بأغلبية في بريطانيا والولايات المتحدة وهولندا، وبدرجة أقل في ألمانيا، فستصبح هذه الدول داعمة للمشروع الصهيوني بشكل تلقائي انطلاقًا من خلفيتهم الدينية.

 

وبشكل عام، تمتع اليهود بمزيد من الحريات والحقوق في أوروبا الغربية في ارتباط مع تأسيس الدول العلمانية بها، عكس ما عرفته روسيا من تضييق عليهم، بلغ أوجه سنة 1881 بعد اتهام اليهود باغتيال قيصر روسيا ألكسندر الثاني. وبدأت حملات التضييق والعداء لليهود، لتظهر حينها ما يعرف "بالمشكلة اليهودية"، والتي تتلخص ببساطة في عدم وجود وطن قومي لليهود، وبدء أعداد هائلة من اليهود في الهجرة من روسيا إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية والجنوبية، لتصبح الأجواء حينها مناسبة للحركة الصهيونية، للبروز إلى العلن، والحديث صراحة عن حل "المشكلة اليهودية"بإقامة وطن لهم في فلسطين؛ وهي الدعوة التي بدأت تحصد المزيد من الأتباع تدريجيا بين اليهود، خصوصا الفارين منهم من روسيا؛ وبين الغربيين أيضا والراغبين في توجيه تدفق الهجرة اليهودية إلى الخارج.

 

- تمسك الدولة العثمانية بفلسطين:

 

وفي هذا السياق، أصبحت الهجرة اليهودية القادمة من روسيا أكثر كثافة وتدفقًا منذ سنة 1882، مما أثار انتباه الدولة العثمانية، ودفعها إلى اتخاذ العديد من الإجراءات لمنع الاستيطان اليهودي في فلسطين. حتى أن السلطات العثمانية قامت سنة 1887 بفصل منطقة القدس عن ولاية سورية، وجعلتها تابعة للسلطة المركزية بشكل مباشر لتحظى بالمزيد من العناية والاهتمام.

 

وقد نجحت الجهود العثمانية في التصدي لذلك المد الاستيطاني، فمن بين مليونين و367 ألف مهاجر يهودي هاجروا من روسيا وأوروبا الشرقية في الفترة الممتدة من 1881 إلى 1914، لم ينجح سوى 55 ألفا منهم في الهجرة إلى فلسطين؛ وهي النسبة التي لم تتجاوز (2.32%).

 

ويحفظ التاريخ للدولة العثمانية، والسلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) مواقف مشرفة للدفاع عن فلسطين وحمايتها. إذ تعرض السلطان عبد الحميد للعديد من الضغوط والإغراءات للسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، وتمكينهم من حكمها تحت السيادة العثمانية، ووصلت الإغراءات إلى حد تقديم مبالغ مالية خيالية وأداء جميع ديون الدولة العثمانية في ظرفية صعبة كانت تعيشها هذه الأخيرة والتعهد ببناء أسطول لحمايتها، بل وتقديم قرض يصل إلى 35 مليون ليرة ذهبية إلى خزينة الدولة العثمانية.

 

غير أن السلطان عبد الحميد رفض كل ذلك، وتحدى مختلف الضغوط التي مورست عليه، وكان رده حاسما لهرتزل باستحالة بيعه لفلسطين لأنها ليست له، بل هي ملك للشعب؛ وبأنه سيدافع عنها مادام حيا، فإذا سقطت الإمبراطورية العثمانية، آنذاك يستطيع الصهاينة أخذها مجانا، وهي النبوءة التي لم تنتظر طويلا لتتحقق.

 

ولعل المواقف الصلبة للسلطان عبد الحميد، أنهت آمال الصهاينة في استيطان فلسطين مادام هذا الأخير على رأس الدولة العثمانية؛ ودفعتهم إلى المشاركة بقوة في إنهاء حكمه وإسقاط الدولة العثمانية، وهو ما نجحوا فيه بعدما تسربوا في لجنة الاتحاد والترقي، ووصلوا إلى مناصب قيادية سنة 1907، حيث شاركوا في الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني بتاريخ 27 أبريل 1909، وعزل هذا الأخير ووضعه تحت الإقامة الجبرية إلى حين وفاته سنة 1918.

 

وبعد الانقلاب، تغيرت الموازين لصالح اليهود، الذين تمتعوا بنفوذ كبير خصوصًا تحت حكم الاتحاد والترقي ما بين 1911 و 1914.. وانطلق البرنامج الصهيوني الاستيطاني بقوة من خلال الهجرة اليهودية الكثيفة إلى الأراضي الفلسطينية وشراء الأراضي بها.. إلى حين سقوط الدولة العثمانية رسميًا عام 1924 واستحواذ الجيوش البريطانية على فلسطين.

 

- تأسيس الحركة الصهيونية

 

جاء تأسيس الحركة الصهيونية كتتويج لمجموعة من المبادرات التي عمت أرجاء أوروبا، وأيضًا كنتيجة لمجموعة من التحولات الفكرية التي طالت القناعات الدينية اليهودية من خلال المساهمات الفكرية لمفكرين وحاخامات يهود، تحايلوا على التحريم الديني لعودة اليهود، والمشروط بمجيء "المسيا"مسيح اليهود، حيث تحايلوا على هذا التحريم وروجوا أن عودة اليهود إلى أرض الميعاد ستجبر المسيح على النزول.

 

وإذا كان مصطلح الصهيونية قد ظهر لأول مرة على يد الكاتب الألماني "ناثان برنباوم"سنة 1893، فإن الصهيونية السياسية قد برزت إلى العلن بتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية (WZO) كحركة سياسية منظمة بزعامة "ثيودور هرتزل"، والذي ترأس مؤتمرها الأول في بازل بسويسرا بتاريخ (29-31/08/1897). وقد كان مكان المؤتمر مقررا في البداية في مدينة ميونخ الألمانية، إلا أن فكرة المؤتمر لقيت معارضة شديدة من اليهود أنفسهم، ليتم نقل مكان المؤتمر إلى بازل السويسرية بحضور حوالي 200 مشارك.

 

وقد أعلن المؤتمر هدفه المتمثل في وضع حجر الأساس لوطن قومي لليهود، كما أكد المؤتمر على أهمية الدعم الدولي لتحقيق أهدافه، وعمل على إنشاء صندوق لتمويل شراء أراضي فلسطينية، وتمويل الاستيطان. وقد عرف المؤتمر الدعوة إلى إحياء اللغة العبرية رغم أن لغة المؤتمر كانت الألمانية واليديشية؛ كما قام المؤتمر بوضع مسودة البرنامج الصهيوني الذي عرف ببرنامج بازل .

 

ومن الحقائق التاريخية المهمة، أن الحركة الصهيونية لم تحسم في بداياتها في مكان إقامة الدولة اليهودية، بل إن هرتزل نفسه كان مستعدا لإقامتها في فلسطين أو الأرجنتين؛ كما أن بريطانيا قد اقترحت في وقت سابق على اليهود إقامة دولتهم في "أوغندا"وهو الاقتراح الذي قسم الحركة الصهيونية بين معارض ومؤيد، ليرفض المقترح لاحقا في المؤتمر الصهيوني السابع عام 1905، خصوصًا وأن اختيار فلسطين كان منسجمًا مع المخططات الاستراتيجية للقوى الاستعمارية في المنطقة العربية.

 

- فلسطين في قلب الأطماع الاستعمارية:

 

على المستوى الاستراتيجي، وجدت القوى الكبرى في أوروبا الغربية الأجواء مناسبة بعد ضعف الدول العثمانية لتقسيم العالم العربي، والتفوق عليه استراتيجيًا؛ وذلك لاستباق نهوض دولة إسلامية قوية بعد سقوط الخلافة العثمانية. وضعف هذه الأخيرة هو الذي شجع ظهور الحركة الصهيونية، رغم ما يحفظ للدولة العثمانية من دفاع عن فلسطين وأهلها.

 

كما أنه منذ القرن التاسع عشر، وفلسطين مركز الأطماع الاستعمارية الأوروبية، خصوصًا البريطانية منها: إذ كانت التنافس الاستعماري على أشده بين فرنسا وبريطانيا.. وفي هذا السياق، فكرت بريطانيا في فلسطين، كحاجز بين الجناحين الآسيوي والإفريقي للعالم الإسلامي. ومهمة هذا الحاجز هو منع واستباق أي محاولة توحيد للبلدان الإسلامية، والعمل على شغل هذه الأخيرة بنزاعات مفتعلة. وهنا نؤكد على الحقيقة التالية: إن الاحتلال الصهيوني لفسطين، هو في العمق احتلال لحلم الوحدة الإسلامي، وإجهاض لأي نهوض حضاري مستقبلي للأمة الإسلامية. وينبغي التعامل مع القضية الفلسطينية على هذا الأساس، وليس باعتبارها مشكلة للشعب الفلسطيني وحده.

 

وظلت فكرة الدولة الحاجزة كمخطط استراتيجي مأمول لبريطانيا، تحاول تحقيقه تدريجيًا؛ فافتتحت قنصلية لها بفلسطين عام 1838، وكانت أول مهمة للقنصل حماية اليهود هناك. وبعد نجاح بريطانيا في السيطرة على مصر سنة 1882، أصبحت في حاجة إلى حماية الجناح الشرقي لقناة السويس، والتي كانت ممرا استراتيجيًا للمواصلات التجارية مع آسيا والهند خصوصًا.

 

مع هذه التطورات، سيحظى المشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين بحافز مزدوج: ديني عند اليهود الصهاينة والمسيحيين البروتستانت؛ واستراتيجي عند الدول الغربية التي لا ترغب في دولة إسلامية موحدة، وعند بريطانيا لتحقيق نفس الهدف، وأيضًا لضمان تفوقها الاقتصادي والاستراتيجي على باقي القوى الاستعمارية.

 

وأثناء الحرب العالمية الأولى، كثفت بريطانيا جهودها لتحقيق مشروع الدولة الحاجزة، فشجعت مختلف الثورات العربية الهادفة للخروج عن الدولة العثمانية، كما عمدت إلى التفاوض مع المنظمات الصهيونية لاستخدام النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية للضغط على هذه الأخيرة لمشاركة في الحرب العالمية الأولى لصالح الحلفاء، وقد نجح اللوبي اليهودي الأمريكي في ذلك، لتنضم الولايات المتحدة إلى الحرب بدءا من آذار/مارس 1917.

 

ونتيجة لهذا الدعم الصهيوني لبريطانيا، حصل الصهاينة في المقابل على وعد مغر من وزير الخاريجية البريطاني "جيمس بلفور"الذي صرح في (2/11/1917) بتعهد بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين. وهو ما اشتهر تاريخيا "بوعد بلفور"، ومن غرابة هذا الوعد، تعارضه مع الاتفاقيات التي كانت بريطانيا قد التزمت بها، كما أنه وعد بمنح أراض لم تمتلكها بريطانيا بعد حينها!

 

ومنذ إعلان هذا الوعد عمت الاحتجاجات جميع أنحاء فلسطين وبعض الأقطار العربية، ولم يطل الوقت ببريطانيا لتنفيذ هذا الوعد، إذ دخلت جيوشها القدس بتاريخ (11 كانون الأول/ ديسمبر 1917) وحدثت على أثر ذلك صدامات بين العرب واليهود..

 

على مستوى آخر، كانت المفاوضات السرية تجري على قدم وساق بين بريطانيا وفرنسا (انضمت إليهما روسيا لاحقًا) لتقسيم المنطقة العربية بينهما؛ وهي المفاوضات التي أدارها كل من جورج بيكو عن فرنسا ومارك سايكس عن بريطانيا. وتوجت باتفاقية "سايكس- بيكو"بتاريخ أيار/ ماي 1916. وبموجب الاتفاقية، حصلت فرنسا على الشام (لبنان وسوريا) ومنطقة الموصل وجنوب الأناضول، بينما حصلت بريطانيا على معظم العراق والأردن ومنطقة حيفا في فلسطين؛ ونظرا لكون كل من فرنسا وبريطانيا تطمعان في الاستحواذ على فلسطين، فقد اتفقا على جعل فلسطين منطقة دولية.

 

2- من الاحتلال البريطاني لفلسطين إلى إعلان قيام إسرائيل (1918-1948):

 

- فرض الاحتلال البريطاني على فلسطين:

 

قامت بريطانيا باحتلال القدس الشريف وجنوب ووسط فلسطين سنة 1917، وهو احتلال يجمع بين البعدين الاستراتيجي الاستعماري، والديني؛ وهذا ما تؤكده القولة الشهيرة لقائد الجيش البريطاني "ألِنبي"الذي خطب في القدس قائلا: "والآن، انتهت الحروب الصليبية"، التي انطلقت قبل 800 عام خلت. وأتمت بريطانيا احتلال باقي الأراضي الفلسطينية في العام الموالي 1918. كما استصدرت قرارا دولية من عصبة الأمم سنة 1922 يعطيها شرعية الانتداب، وضمنته وعد بلفور أيضًا.

 

- العمليات الاستيطانية الصهيونية:

 

بدءا من أواخر سنة 1922، وضعت بريطانيا فلسطين تحت إدارة مندوبين سامين يهود، كان أولهم هربرت صامويل (1920-1925) الذي شرع في تنزيل المشروع الصهيوني على أرض الواقع، وكان وزيراً للداخلية البريطانية ومتعاطفاً مع الصهاينة... وكان أشرسَ المندوبين وأنجَحهم في تطبيق المشروع الاستيطاني هو "آرثر واكهوب" (1931-1932).

 

وطول الوقت كانت بريطانيا تضيق على الفلسطينيين سبل العيش وتضطهدهم وتذكي الانقسامات العائلية والطائفية، كما حرصت على نزع تسليح الفلسطينيين على بساطته. كل ذلك مقابل تشجيع الهجرة اليهودية، حيث انتقل عدد اليهود بفلسطين من 55 ألفا (8% من السكان) سنة 1918 إلى 646 ألفا (31% من السكان) سنة 1948. كما عمدت بريطانيا أيضًا إلى تسليح اليهود وتدريبهم، إذ وصل تعداد الجيش الإسرائيلي 70 ألفا سنة 1948. وحرص الصهاينة على إقامة مؤسسات اقتصادية واجتماعية وتعليمية، وتأسيس البنى التحتية للدولة اليهودية المستقبلية بدعم من بريطانيا.

 

عمومًا تعرض الشعب الفلسطيني لأبشع أنواع الظلم والاضطهاد على يد المستوطنين اليهود مدعومين من بريطانيا.

 

- المقاومة الفلسطينية:

 

رغم اختلال موازين القوى بشكل واضح لصالح المستوطنين الصهاينة، فإن هذا لم يمنع الفلسطينيين من مقاومة الاحتلال والتصدي له بكل قوتهم، رغم أن أجواء الدعم العربي لم تكن في المستوى المأمول، بسبب وقوع أغلب الدول العربية تحت الاستعمار.

 

هكذا قاوم الشعب الفلسطيني الاحتلال البريطاني والمشروع الاستيطاني منذ بداياتهما، فتأسست المقاومة الفلسطينية مبكرا، ونمثل لها بجمعية "الفدائية"وهي جمعية سرية تأسست سنة 1918، وضمت عدداً من رجال الشرطة الفلسطينية، كما أن المقامة الفلسطينية لم تقتصر على الفلسطينيين فقط، بل احتضنت كل من رغب في الدفاع عن فلسطين، مثل الشيخ المجاهد عز الدين القسام الذي قدم إلى حيفا من سوريا بعد انهيار الثورة السورية ضد فرنسا، وأسس حركة من أقوى الحركات الجهادية...

 

وهكذا أقامت الحركة الفلسطينية مؤتمرها الأول عام 1919 بالقدس الشريف، وهو المؤتمر الذي حمل أبعادا عربية وحدوية، سواء من خلال تسميته: "المؤتمر العربي الفلسطيني"، أو من حيث ما خلص إليه من رفض للتقسيم الاستعماري لبلاد الشام، واعتبار فلسطين جزءا منها. كما طالب المؤتمر باستقلال سوريا في إطار الوحدة العربية، وتشكيل حكومة فلسطينية مستقلة، وقد استمرت مؤتمرات الحركة الوطنية تباعا.

 

وقد تميزت المقاومة الفلسطينية بتوجهها السلمي إلى حدود سنة 1929، وذلك لأسباب عدة: على رأسها افتقار إلى موارد وإمكانات مادية، وتهيب الفلسطينيين من القوة البريطانية وقدراتها العسكرية الضخمة، بالإضافة إلى بعض الخلافات الداخلية على تزعم الحركة، وهي الخلافات التي حرصت بريطانيا على على إذكائها.

 

غير أن هذا لم يمنع من قيام ثلاث ثورات عكست احتجاج الفلسطينيين على الوضع القائم، وإن كانت تلك الثورات صبت جام غضبها على اليهود، وتحاشت المستعمر البريطاني، رغم أنه من تولى إخماد هذه الثورات. ويتعلق الأمر بثورة "موسم النبي موسى"في القدس ( ما بين 4 و 10/4/1920)، وثورة يافا (من 1 إلى 15/5/1921)، وثورة البراق (ما بين 15/8 و2/9/1929). وقد أخذت هذه الثورات طابعًا إسلاميًا ساهم في تأجيج المشاعر الوطنية.

 

ومنذ سنة 1929، تصاعدت حدة المقاومة الجهادية التي بدأت توجه أسلحتها نحو المستعمر البريطاني أيضا؛ كما تأسست العديد من الأحزاب الوطنية وحركات المقاومة المنظمة والتنظيمات الجهادية العسكرية بدءا من سنة 1933؛ والتي كان نشاطها في تزايد مستمر توازى مع تزايد اليأس الفلسطيني من استرجاع حقوقهم بالطرق السلمية والدبلوماسية.

 

وحرصت المقاومة الفلسطينية دائما على البعد العربي في برامجها، وعملت على التنسيق مع زعماء الحركات العربية الأخرى. وفي عام 1931، أخذت المقاومة طابعا إسلاميا إثر المؤتمر الإسلامي العام المنعقد في القدس، والذي استضاف علماء وشخصيات إسلامية مرموقة، مثل محمد إقبال، وعبد العزيز الثعالبي والشيخ محمد رشيد رضا وغيرهم...

 

وتعد حركة "الجهادية"من أقدم الحركات السرية الجهادية، إذ تأسست مبكرا سنة 1925، وكان لها دور بارز في ثورة "البراق"، كما كانت المحرك الأساسي للثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936؛ حيث أعلن الفلسطينيون حينها الإضراب العام في 20 أبريل/نيسان، والذي دام حوالي ستة أشهر (178 يوما) وهو أطول إضراب في التاريخ يقوم به شعب كامل.

 

وعرفت الثورة مواجهات عنيفة بين الجهاديين الذين دشنوا عمليات قوية مثل نجاح القساميين في اغتيال الحاكم البريطاني سنة 1937، وبين البريطانيين الذين نهجوا إجراءات قمعية قاسية.

 

وقد دفع نجاح المقاومة المستعمر البريطاني إلى القيام بإجراءات كبرى، مثل إرسال تعزيزات عسكرية ضخمة إلى فلسطين، تحت قيادة أفضل قادتها العسكريين؛ كما أعادت احتلال فلسطين من جديد، قرية قرية، لضمان القضاء على المقاومة... وهي الإجراءات التي نجحت في تخفيف حدة المقاومة تدريجيًا، رغم أن هذه الأخيرة نجحت بدورها في جر بريطانيا إلى طاولة الحوار، حيث اضطرت بريطانيا سنة 1939 إلى إعلان "الكتاب الأبيض"الذي يتضمن دعم بريطانيا لإقامة دولة فلسطينية مستقلة يقتسم فيها العرب السلطة مع اليهود، بالإضافة إلى إجراءات أخرى لصالح الفلسطينيين.

 

وباندلاع الحرب العالمية الثانية، عمدت المقاومة الفلسطينية إلى التحالف مع ألمانيا وإيطاليا للحصول على دعمهما. لكن فوز الحلفاء في الحرب أفشل خطط المقاومة. على عكس ذلك، كانت أجواء الحرب لصالح المنظمات الصهيونية التي استغلت ما تعرض له اليهود بألمانيا وأوروبا الشرقية لكسب التعاطف، والتأكيد على ضرورة إقامة وطن قومي بفلسطين؛ كما ركز اللوبي الصهيوني ضغطه على الولايات المتحدة الأمريكية، حيث فاز بكل الدعم المطلوب. ونجح الصهاينة على إثر ذلك في دفع البريطانيين إلى التخلي عن الكتاب الأبيض وما حفل به من وعود، وأدرجوا الولايات المتحدة كطرف أساسي وداعم لهم في كل ما يتعلق بمشروعهم الاستيطاني.

 

وسجلت سنة 1947 تحول القضية الفلسطينية إلى قضية دولية، حيث أصدرت الأمم المتحدة قرارها الجائر رقم (181) القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وهو القرار الذي تم تمرير بعد موجة من الضغوط والإغراءات التي تعرضت لها الدول التي كانت ترفضه.

 

وإثره اندلعت الحرب التي خاضها الفلسطينيون لوحدهم لمدة ستة أشهر كاملة، حيث رفضت الدول العربية إرسال جيوشها قبل خروج بريطانيا. ورغم ضعف الدعم العربي وافتقار المقاومة الفلسطينية للسلاح والموارد فقد تمكنت هذه الأخيرة من الحفاظ على 82% من الأراضي الفلسطينية، وأرعبت الصهاينة، بل ودفعت الولايات المتحدة إلى التفكير جديا في التراجع عن فكرة التقسيم في مارس/آذار 1948.

 

ورغم صدق المجاهدين العرب، فإن مشاركة الجيوش العربية كانت أقرب إلى المأساة، إذ لم يتجاوز تعداد الجيوش العربية المكونة من سبعة دول 24 ألف مقاوم، مقابل 70 ألفا من جيش العدو الصهيوني. كما عانى المجاهدون العرب من الأسلحة الفاسدة والقديمة، وضعف التدريب والتنسيق، خصوصًا وأن الجيوش العربية ضمت 45 ضابطا بريطانيا ضمن قاداتها، نظرا لكون بعض الدول العربية كانت لا تزال تحت النفوذ البريطاني؛ هذا بالإضافة إلى أن بعض الجيوش العربية عمدت أحيانًا إلى نزع سلاح الفلسطينيين بدل تسليحهم، كما ضيقت بعض السلطات العربية على المشاركين في المقاومة من أبنائها.

 

في ظل هذا التهافت، تمكن الصهاينة من هزيمة الجيوش العربية، واستولوا على (77%) من الأراضي الفلسطينية، وأعلنوا قيام دولة إسرائيل بتاريخ (14-5-1948).

 

ومن النتائج المأساوية لهذه الحرب، قيام العصابات الصهيونية بتشريد (58%) من الشعب الفلسطيني بالقوة من أراضيهم، ودمروا 478 قرية فلسطينية من أصل 585 قرية، وارتكبوا 34 مجزرة في حق المدنيين، من أشهرها مذبحة دير ياسين (9/4/1948). وإذا كانت المقاومة الفلسطينية قد نجحت لوحدها، وبجهودها الخاصة، ومواردها شبه منعدمة في التصدي لليهود الذين لم ينجحوا منذ قدومهم، وإلى حدود سنة 1948، في الاستحواذ إلا على (6%) من الأراضي الفلسطينية، وهي في معظمها أراض حكومية أو لإقطاعيين غير فلسطينيين؛ فإن حرب 1948 مزقت الشعب الفلسطيني واقتلعته من أرضه التي استقر بها آلاف السنين، وشتته ما بين مستعمَر مضطهد ولاجئ هائم.

 

3- خاتمة: ما ينبغي تذكره من حقائق

 

- يحفظ التاريخ للدولة العثمانية، والسلطان عبد الحميد الثاني خصوصًا مواقف مشرفة للدفاع عن فلسطين وحمايتها والتصدي للمد الاستيطاني الصهيوني.

 

- في تأسيس الحركة الصهيونية تحايل على التحريم الديني لعودة اليهود إلى فلسطين، والمشروط بمجيء "المسيا"مسيح اليهود المخلص، لذا لقيت فكرة المؤتمر الصهيوني الأول معارضة شديدة من اليهود أنفسهم.

 

- لم تكن فلسطين الهدف الأول للحركة الصهيونية، بل هي خيار بين خيارات متعددة شملت الأرجنتين وأوغندا أيضًا، غير أن اختيار فلسطين كان منسجما مع المخططات الاستراتيجية للقوى الاستعمارية في المنطقة العربية.

 

- الاحتلال الصهيوني لفسطين، هو في العمق احتلال لحلم الوحدة الإسلامي، وإجهاض لأي نهوض حضاري مستقبلي للأمة الإسلامية، باعتبار فلسطين في نظر الغرب حاجزا بين الجناحين الآسيوي والإفريقي للعالم الإسلامي.

 

- احتلال القدس الشريف سنة 1917 يجمع بين البعدين الاستراتيجي الاستعماري، والديني؛ وهذا ما تؤكده القولة الشهيرة لقائد الجيش البريطاني "ألِنبي"الذي خطب حين دخوله القدس قائلًا: "والآن، انتهت الحروب الصليبية".

 

- تميزت المقاومة الفلسطينية بتوجهها السلمي إلى حدود سنة 1929، غير أن هذا لم يمنع من قيام ثلاث ثورات عكست احتجاج الفلسطينيين على الوضع القائم، بعدها تصاعدت حدة المقاومة الجهادية.

 

- الإضراب العام الذي أعلنه الفلسطينيون في 20 أبريل/نيسان 1936، والذي دام حوالي ستة أشهر (178 يوما) هو أطول إضراب في التاريخ يقوم به شعب كامل.

 

- سنة 1947 أصدرت الأمم المتحدة قرارها الجائر رقم (181) القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية.

 

- مشاركة الجيوش العربية في حرب 1948 كانت أقرب إلى المأساة: إذ لم يتجاوز تعداد الجيوش العربية المكونة من سبعة دول 24 ألف مقاوم، مقابل 70 ألفًا من جيش العدو الصهيوني، كما عانى المجاهدون العرب من الأسلحة الفاسدة والقديمة، وضعف التدريب والتنسيق. لذا هزمهم الصهاينة واستولوا على (77%) من الأراضي الفلسطينية، وأعلنوا قيام دولة إسرائيل بتاريخ (14-5-1948).

 

- قامت العصابات الصهيونية بتشريد (58%) من الشعب الفلسطيني بالقوة من أراضيهم، ودمروا 478 قرية فلسطينية من أصل 585 قرية، وارتكبوا 34 مجزرة في حق المدنيين، من أشهرها مذبحة دير ياسين (9/4/1948).

 

المراجع المعتمدة:

 

- كتب:

 

- محسن محمد صالح، القضية الفلسطينية: خلفياتها التاريخية وتطوراتها المعاصرة، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، لبنان، طبعة مزيدة ومنقحة، 2012.

 

- عبد الوهاب المسيري، مقدمة لدراسة الصراع العربي الإسرائيلي: جذوره ومساره ومستقبله، دار الفكر، دمشق - دار الفكر المعاصر، بيروت، إعادة الطبعة الأولى 2003.

 

- مواقع إلكترونية:

 

- فلسطين: سؤال وجواب، موقع خاص بكل تفاصيل القضية الفلسطينية: http://www.palqa.com/

 

- المؤتمرات الصهيونية 1897 ـ 1903 (محمد سيف الدولة)، مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية: http://www.dctcrs.org/s7001.htm

 

- مدخل الى القضية الفلسطينية، المركز الفلسطيني للإعلام: صوت فلسطين إلى العالم.. وصوت العالم إلى فلسطين: http://www.palestine-info.com/arabic/qadhya/madkhal.htm

هيئات المجتمع المدني وبلدية طرابلس

$
0
0

تأليف : محمد السويسي
كانت بلدية طرابلس اللبنانية على الدوام موئلاً للمحسوبيات وموقعاً للنفوذ السياسي منذ الاستقلال  وحتى الآن . مما جعل ممارساتها موقع انتقاد دائم من قبل المواطنين مع المقارنة بين اداءها خلال فترة الانتداب وبعده.
فقد كان نشاط بلدية طرابلس في الماضي وفق ماتطالعنا به الكتب والمقالات  ومايرويه لنا الاباء ومن سبق من جيل الاربعينات، ان العمل البلدي كان شديد الانتظام في كل نواحي المدينة دون استثناء ، 
حيث كانت النظافة من الاولويات في الشوارع والأزقة  من الفجر حتى العصر مع رش الشوارع والحارات قبل الكناسة ، 
بالاضافة لغسلها بخراطيم المياه بصورة مستمرة لتبقى نظيفة على الدوام .
كما كان الباعة في سوق الخضار يمتثلون  لأوامر الشرطة البلدية في تواجدها الدائم بحيث لايسمح بإخراج اي صندوق خضار خارج عتبة المحل بأكثر من ١٠ سنتميترات اذا اضطر الأمر والا نظم به محضر مخالفة .
اما بالنسبة للبسطات والعربات فانه كان لايسمح لها بالعمل الا وفق ترخيص مسبق وفي امكنة محددة.
 وقد بلغ التنظيم البلدي من الدقة بحيث ان كل حمال يجب ان يحصل على ترخيص عمل مع ترقيم نحاسي يضعه على ثوبه الخارجي او على حبله العريض الملقى على كتفه.
ولكن مع بداية الاستقلال غاب كل هذا النشاط الذي كان يخضع لمراقبة سلطات الانتداب ،  اي من المحافظ مباشرة حيث كان المجلس البلدي واعماله تلاحق من قبله مباشرة دون القبول باي وساطات .
مع بداية الاستقلال فان الحال لم يختلف عليه عما هو عليه الان .
ان الترشح للمجلس البلدي  ، منذ الماضي، تحكمت به دائماً المصلحة والتزلف بحيث لم يكن من لائحة معلنة الا بدعم سياسي وبالتالي حزبي مع موالاة الاحزاب بمعظمها لبيت كرامي وعلى راسهم الحزب الشيوعي قائد الحركة الوطنية بما كان يقدمه من منح دراسية لجميع الاطراف الموالين له وتذاكر سفر ومؤتمرات للسياحة اكثر منها للعمل .
 كان الحزب الشيوعي واليسار يلوذ بالزعامات التقليدية لحماية تحركه وتظاهراته ، وكذلك كانت النقابات العمالية التي كانت تميل لليسار في نشاطها وتحركاتها وبالتالي كانت موالية الى بيت كرامي الى ان تغيرت الاحوال مع تعدد المرجعيات السياسية عقب حرب السنتين .
ومع تغير الاحوال السياسية في المدينة فان ممارسات المجتمع المدني ، من جمعيات  ونواد مختلفة ونقابات وشخصيات متعلمة ومثقفة نشيطة لم تختلف في تعاطيها بالشأن البلدي الأخير عمن سبقها في التقرب للمرجعيات السياسية التي اضحت متعددة مع زوال النشاط الحزبي الذي اضحى متزلماً عند السياسيين كما معظم هيئات المجتمع المدني الحالية .
ومع هذا التزلم لهيئات المجتمع المدني لعدم الثقة بأنفسهم  فقد فشلت هذه الهيئات على مدى عقود متوالية من تشكيل لائحة بلدية مستقلة كاملة عند كل استحقاق ، 
اذ كانت جميعها تسعى للإنضواء تحت جناح المرجعيات السياسية وفي ذلك امر غريب لانه  لافائدة مادية يجنيها عضو المجلس باستثناء الرئيس ونائبه الذين يتقاضون تعويضات مادية لقاء تفرغهم للعمل البلدي في سبيل خدمة المدينة .
والسؤال المطروح هو لما تتحمل المرجعيات السياسية وزر تقصير العمل البلدي في تدخلهم بتشكيل  اللوائح البلدية بما يتعارض مع حرية الرأي في اختيار المواطنين لما يرونه مناسباً للشأن البلدي ؟ .
 والجواب ان التدخل المعيب في الشأن البلدي من قبل السياسيين يتيح لهم توظيف اتباعهم والضغط لعقد صفقات الاشغال لازلامهم .
ولنا اكبر مثل في مشكلة توظيف الحراس البلديين  الأخيرة من قبل المجلس السابق ، الذين فازوا في المباراة ومع ذلك فقد تأخر تعيينهم لفترة طويلة بسبب الخلاف على توزيع الحصص بين هذه المرجعيات لقصر نظرهم ، وكأن هذا الحارس موظف لديهم وليس لدى المواطن الذي يدفع له راتبه .
مع كل هذه السلبيات استطاعت هيئات المجتمع المدني ان تشكل في العام ٢٠١٦ لائحة  بلدية مستقلة كاملة خارج اطار المرجعيات السياسية التقليدية التي هزمت هزيمة شنعاء امام عناد هيئات المجمتع المدني واستقلالها.
الا ان هذا النجاح اصاب هذا المجلس المنتصر بالشلل لعدم  مد يد المساعدة له من قبل السياسيين الخاسرين ولعشوائية انتقاء اعضاء هذا المجلس مع رفض اصحاب الكفاءة والخبرة الانضمام اليه منتظرين من المرجعيات السياسية ان تتصل بهم وتضمهم الى لائحتها ، 
وبذلك خسرت المدينة فرصة ذهبية بوصول مجلس كفؤ وخبير  الى موقع القيادة البلدية للنهوض بالمدينة وتحسين وضعها ليغرق المجلس الجديد في الضياع لفقدانه الممارسة الادارية والخبرة والمعرفة .
وللتاريخ فإن أسوأ ممارسة من السياسيين عند اعدادهم اللائحة البلدية الأخيرة الخاصة بهم إعلانهم  بانهم يسعون الى تشكيل لائحة بلدية من العائلات (الارستقراطية) ؟!
وفي ذلك أمر معيب يدل على قصر نظرهم اذ كان يجب ان يسعوا الى اصحاب العلم والخبرة لا  إحياء التمييز الطبقي والمجتمعي الذي ولى ولم يعد له مكان في العالم .

صوموا تصحوا

$
0
0




في العام 2008 وقبل التحاقي كطالب للدكتوراه في جامعة طوكيو للطب وطب الاسنان تلقيت دعوة من الجامعة لحضور حفل تخرج للطلاب الأجانب والذي سيقام في أحد فنادق طوكيو  وألح علي صديقي الهندي (انوب كومارAnoop Kumar) و عرفني  علي أستاذه ميزوشيما وسألني البروفيسور إن كنت مسلماً؟ وإذا كنت أقوم بصيام شهر رمضان؟ وأجبته بنعم!! وسؤالهُ الأخير كان "لماذا تصوم رمضان وهل تعرف هناك أي فائدة من الصيام؟"وكان جوابي إن الصيام من الجانب الديني هو للأحساس بمعاناة الفقراء ولتهذيب النفس بتجنب الشهوات وأما من الجانب الصحي فهناك قول منقول عن النبي محمد (ص) "صوموا تَصِحوا"وهنا استوقفني البروفيسور سائلا "كيف؟ كيف تصبحون بصحة جيدة؟"فأجبته "لا أعرف!"فأبتسم البروفيسور وقال مستغرباً "كيف تكونون بهذا العدد وتقومون بالصيام وأنتم لاتعرفون لماذا هو مفيد للصحة!!!"وبعدها إعتذر البوفيسور
عن مواصلة الحديث لأنشغاله بأعمال في الجامعة.
ذهب صديقي الهندي ليودع أستاذه وعاد إلي مهرولاً فوددت منه أن يبلغني ماهو المغزى من تلك المقابلة!؟ فأجابني مندهشاً "ألا تعرف من هو البروفيسور ميزوشيما!؟ وماهو تخصصه!؟"فقلت له "قطعاً لا أعرف!!!" (أكيد ما نعرف لأن ملتهين بالسنه والشيعة وهذا حلال وذاك حرام وگال الحجاب وحچه النقاب والخ...) فصعقني صديقي حين أخبرني بأن هذا البروفيسور هو واحد من أربعة في العالم, إثنان من أمريكا و إثنان من اليابان, يعملون في مجال الألتهام الذاتي للخلية (Autophagy) وأذا بصديقي يسأل كيف لي أن لا أعرف عن هذا الموضوع وعلاقته بالصيام!؟ وأرشدني بالبحث والأستقصاء عن الـ(Autophagy) على أن نلتقي بعد عطلة نهاية الأسبوع.
قمت بالبحث في (ScholarGoogle) مستفيداً من حسابي الجامعي الذي يسمح لي بتصفح وتحميل معظم الأبحاث المنشورة ولم أكمل صفحتين من أحد مراجعات البروفيسور ميزوشيما حتى عرفت علاقة الـ(Autophagy) بالصيام.
فالـ(Autophagy) يتحفز عن طريق الجوع (عن الغذاء والماء) ولمدة لاتقل عن 8 ساعات وذلك بشرط ان يكون الجسم في حالة نشاط (مو نايم الى ان يضرب الطوب) وعند التحفيز يقوم الجسم بتحديد الخلايا المريضة (سرطانية او غيرها) لكي تقوم بتحليل ذاتي لنفسها فيتم التخلص من تلك الخلايا وفي نفس الوقت توفير الغذاء للخلايا السليمة في الجسم! ولتحقيق اقصى فعل من هذه العملية يجب ان تكون متكررة (تراكمية) أي بمعنى أدق مستمرة لفتره من الزمن وايضاً ان لا يتخللها عملية إعادة بناء او تدعيم للخلايا المريضة عن طريق الأفراط في الطعام الذي يحتوي على الدهون والسكريات! 
بعد إنقضاء عطلة نهاية الأسبوع التقيت بصديقي وأخبرته بماحصل واذا به يعطيني الضربة القاضية عندما أخبرني بأن أستاذهُ يصوم شهر رمضان و كذلك يومين الى ثلاثة أيام في الأسبوع! فأبلغته بأن يوصل رسالة الى أستاذه مفادها أن النبي محمد (ص) كان يصوم يومي الأثنين والخميس من كل إسبوع!
رمضان مبارك وأعاده الله عليكم بالخير واليمن والبركات
* النشر مسموح مع ذكر المصدر
د. أحمد الحميّري
وهذه قائمة بسيطة عن كم الأبحاث المنشورة في مجلات علمية , عالمية, رصينة كالـ(Science و Cell و Nature وPNAS وNEJM) توضح اهمية وعلاقة الـ(Autophagy) بكثير من الأمراض وعلى رأسها السرطان وبعمليات الأيض والشيخوخة وغيرها:

 

أوسومي.. مكتشف آليات "الالتهام الذاتي"الفائز بنوبل

 
 
 

تاريخ و مكان الميلاد:

9 فبراير 1945 - فوكوكا

المهنة:

أستاذ بمعهد طوكيو للتكنولوجيا

الدولة:

اليابان

 

يوشينوري أوسومي عالم ياباني اشتغل أستاذا بكلية العلوم بجامعة طوكيو، ثم أستاذا بمعهد طوكيو للتكنولوجيا؛ أعلن في أكتوبر/تشرين الأول 2016 عن فوزه بجائزة نوبل للطب عن أبحاثه حول "الالتهام الذاتي للخلايا المتضررة".

المولد والنشأة
ولد أوسومي في مدينة "فوكوكا" باليابان يوم 9 فبراير/شباط 1945.

الدراسة والتكوين
التحق يوشينوري بجامعة طوكيو عام 1963، واختار منذ البداية التخصص في دراسة الخلايا، وبعد التخرج، ومع نهاية 1974 التحق يوشينوري بجامعة روكفلر بنيويورك لمواصلة دراسته وأبحاثه، ثم ما لبث أن عاد إلى اليابان عام 1977.

الوظائف والمسؤوليات
عمل يوشينوري أوسومي أستاذا مساعدا بكلية العلوم في جامعة طوكيو، وعمل أيضا أستاذا في "معهد طوكيو للتكنولوجيا".

نوبل للطب
فاز يوشينوري بجائزة نوبل للطب لعام 2016 وأعلن معهد "كارولينسكا"السويدي في ستوكهولم الاثنين 3 أكتوبر/تشرين الأول 2016 أن ذلك جاء عن أبحاثه حول "الالتهام الذاتي للخلايا المتضررة".

يعد يوشينوري أوسومي العالم رقم 107 الذي يفوز بالجائزة في فرع الطب منذ بدء منحها عام 1905.

وقالت لجنة منح جائزة نوبل، في حيثيات قرارها، إن "أوسومي حصل على الجائزة لاكتشافه آليات الالتهام الذاتي؛ حيث ساهمت أبحاثه في تفسير عملية تحلل الخلايا المتضررة، وكيفية قيام الخلية بإعادة تدوير مكوناتها".

وحسب اللجنة فإن "أبحاث الالتهام الذاتي لعبت دورا حاسما أيضا في فهم تجدد الخلايا، وردة فعل الجسم على الجوعوالالتهابات".

ويرتبط الالتهام الذاتي للخلايا بأمراض عديدة، منها "الباركسون" (الشلل الرعاش)، والسكري، والسرطان.

ورغم أن هذا المفهوم معروف منذ أكثر من 50 عاما، اكتشفت أهميته الفسيولوجية والطبية أبحاث رائدة أجراها الياباني أوسومي في تسعينيات القرن المنصرم.

ومُنحت جائزة نوبل في الطب للعام 2015 لثلاثة علماء بالمشاركة لتطويرهم علاجات لمرض "الملاريا"وأمراض أخرى تتعلق بالمناطق الحارة.

وسلمت جوائز نوبل في حفل يقام في استكهولم بالسويد في الـ10 ديسمبر/كانون الأول، وهو ذكرى وفاة رجل الصناعة ومخترع الديناميت السويدي، الفريد نوبل (1896-1833) الذي يعد الأب الروحي لجوائز نوبل، بينما يتم تسليم جائزة نوبل في السلام خلال حفل يُقام أوسلو.

المصدر : وكالة الأناضول,مواقع إلكترونية

 
 


Nutrient starvation elicits an acute autophagic response
http://www.pnas.org/content/108/12/4788.full.pdf

Autophagy: Renovation of Cells and Tissues 2011
http://www.cell.com/cell/abstract/S0092-8674(11)01276-1?_returnURL=http%3A%2F%2Flinkinghub.elsevier.com%2Fretrieve%2Fpii%2FS0092867411012761%3Fshowall%3Dtrue

Autophagy and Metabolism 2010
http://science.sciencemag.org/content/330/6009/1344

Autophagy fights disease through cellular self-digestion 2008
http://www.nature.com/nature/journal/v451/n7182/full/nature06639.html

Autophagy in the Pathogenesis of Disease 2008
http://www.cell.com/cell/abstract/S0092-8674(07)01685-6?_returnURL=http%3A%2F%2Flinkinghub.elsevier.com%2Fretrieve%2Fpii%2FS0092867407016856%3Fshowall%3Dtrue

Autophagy: process and function
http://genesdev.cshlp.org/content/21/22/2861.full2008

Autophagy in mammalian development and differentiation 2010
http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3127249/

Short-term fasting induces profound neuronal autophagy 2010
http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3106288/

Regulation of mammalian autophagy in physiology and pathophysiology. 2010
http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/20959619

The Role of Autophagy in Aging 2007
http://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1196/annals.1396.020/abstract;jsessionid=8EF2185080235DEA0C140E7B61458BC8.f04t03?userIsAuthenticated=false&deniedAccessCustomisedMessage=

Autophagy and Aging: The Importance of Maintaining "Clean" Cells 2005
http://www.tandfonline.com/doi/abs/10.4161/auto.1.3.2017

Autophagy Is Required to Maintain Muscle Mass 2009
http://www.cell.com/cell-metabolism/abstract/S1550-4131(09)00310-6?_returnURL=http%3A%2F%2Flinkinghub.elsevier.com%2Fretrieve%2Fpii%2FS1550413109003106%3Fshowall%3Dtrue

Autophagy inhibition induces atrophy and myopathy in adult skeletal muscles 2010
http://www.tandfonline.com/doi/abs/10.4161/auto.6.2.11137

Autophagy regulates lipid metabolism 2009
http://www.nature.com/nature/journal/v458/n7242/abs/nature07976.html

Fasting: Molecular Mechanisms and Clinical Applications 2014
http://www.cell.com/cell-metabolism/abstract/S1550-4131(13)00503-2?_returnURL=http%3A%2F%2Flinkinghub.elsevier.com%2Fretrieve%2Fpii%2FS1550413113005032%3Fshowall%3Dtrue

Fasting vs dietary restriction in cellular protection and cancer treatment: from model organisms to patients 2011
http://www.nature.com/onc/journal/v30/n30/abs/onc201191a.html

Autophagy as a therapeutic target in cancer 2011
http://www.tandfonline.com/doi/abs/10.4161/cbt.11.2.14622

Autophagy In Blood Cancers: Biological Role And Therapeutic Implications 2013
http://www.haematologica.org/content/98/9/1335.short

Autophagy regulation and its role in cancer 2013
http://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S1044579X13000588

Autophagy and tumorigenesis 2010
http://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0014579309010801

Role of Autophagy in Cancer Prevention 2011
http://cancerpreventionresearch.aacrjournals.org/content/4/7/973.short

Targeting the autophagy pathway for cancer chemoprevention 2010
http://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0955067409002427

Role of autophagy in cancer prevention, development and therapy 2013
http://essays.biochemistry.org/content/55/133

Autophagy in Human Health and Disease 2013
http://www.nejm.org/doi/full/10.1056/NEJMc1303158

Viewing all 560 articles
Browse latest View live