تأليف : محمد السويسي
تتميز مدينة طرابلس القديمة بأنها إحدى أهم المدن العربية القديمة على شاطئ البحر المتوسط بما تحويه من أثار تشهد على عظمة أهميتها الاقتصادية والعلمية منذ مئات السنين. وقد لقبت في سير الرحالة بمدينة العلم والعلماء.
يعود بناؤها الحالي إلى العصر المملوكي نهاية القرن الثالث عشر ميلادي.وهي تضم أسواقاً تجارية وحارات وأزقة وخانات وحمامات ومساجد وأقبية وأقواس ومواقع أثرية عدة تدل على عظمتها وعمق حضارتها .
1 -أسواق طرابلس القديمة:
تنطلق الأسواق من مدينة طرابلس القديمة , وفقاً لتخطيط العمارة الإسلامية , من محور رئيسي هو الجامع المنصوري الكبير , في حي النوري , وتتفرع لنواح عدة . وكان لكل سوق منها تجارة خاصة به , واقترن أسمه بنوع البضائع والسلع التي تحتويه . ولا زالت هذه الأسواق محافظة على طابعها وتجارتها كما كانت عليه عندما أنشئت ونستعرضها وفقاً لأهميتها كالتالي :
سوق الكندرجية : ويؤدي إلى خان الصابون ومتفرعاته من الأزقة القديمة ومسجد الرفاعية والسراي القديمة والتل .
سوق الصاغة : وهو الأقرب إلى المسجد المنصوري الكبير , كان ولا يزال مركزاً تجارياً مهماً لبيع الذهب والمصاغ المشغول على أنواعه .
سوق العطارين : تدلف إليه من الباب الخلفي للجامع المنصوري , وهو يتميز ببيع العطارات و العطورات العربية والمسك والبخور والأعشاب الطبية , ولا يزال مقصداً لمن يتعاطى الطب العربي . كما كان امتداده مقصداً لأهل العلم لكثرة ماضم من مكتبات دينية وأدبية ومدرسية .
سوق السمك :ويؤدي إلى جامع "سيدي عبد الواحد"وبعض أضرحة الأولياء وإلى قلعة طرابلس من خلال طلعة سوق السمك التي كان يباع بها سمكاً حتى مطلع الستينات لتستقر بالمحافظة على أطيب أنواع الحلويات التي عرفت بها طرابلس منذ تأسيسها والتي تضاهي حلويات العالم أجمع وتصنع من الرز والقشطة ك"حلاوة الرز"و"حلاوة الشميسة""والجزرية"على أنواعها بالجوز واللوز والفستق . وأنواع أخرى شهية لامجال لتعدادها تخصصت بها مدينة طرابلس منذ القدم واشتهرت بها .. وأجمل ما فيها أن بعضا من أصنافها يصنع على مرأى من الزبائن كحلاوة الجبن.
سوق البازركان :لايزال على وضعه العمراني والتجاري كما أسس كبزار للأقمشة والألبسة الشرقية والحديثة . ويتفرع إلى حمام عزالدين وجامع البرطاسية على نهر أبو علي وخان الخياطين .
سوق النجارين : وهو متفرع من سوق النحاسين ويعرف بسوق التربيعة وفيه تقوم أعمال النجارة وصنع الموبيليا التي اشتهرت بها طرابلس منذ القدم ولا تزال لمن ينشدون الدقة والمتانة في الصناعة ورخص الأسعار.
سوق النحاسين : وكانت تجري فيه كل أعمال النحاس والتطريق من قدور وصوان وحلل ومناقل وثريات وسيوف عربية ,مزخرفة ومطعمة بالذهب والفضة, وخلافه من لوازم المنازل .
2 ـ أبوابها القديمة:
كانت أبواب مدينة طرابلس تقفل مساء كل يوم حفاظاً على أهلها من أي مفاجآت ليلية , كعادة العديد من المدن العربية وقتذاك وأهمها :
باب التبانة : وهو مدخل طرابلس الشمالي ويقوم فيه سوق الخضار . وفيه الكثير من الخانات التي كانت بمثابة فنادق للوافدين . ويعتبر المركز التجاري الأساسي للمدينة .
باب الرمل: وهو مدخل طرابلس الجنوبي وفيه مقابر أهل المدينة. وبه تجمع سكاني كبير .
باب الرمانة : وهو من أقدم الأحياء السكنية , يؤدي إلى سوق النحاسين , ومنه تتفرع زواريب وأزقة عدة .
باب تحت القلعة :ويقع في منتصف درج يتفرع من أول باب العطارين ويؤدي إلى القلعة مباشرة ولا تزال قواعده قائمة حتى الآن . ويتفرع من زاوية هذا الباب زقاق طويل ينتهي إلى أول سوق الصاغة بعد انحرافه شمالاً , وفيه الكثير من الأقبية والسيباطات . وهو منطقة سكنية هادئة .
3 ـ مبانيها القديمة:
تعتبر مدينة طرابلس القديمة إحدى روائع العصر المملوكي المعماري بتنوع العمائر السكنية وجمال واجهات المساجد المرتفعة والمزخرفة بأبوابها المتميزة بدقة صناعتها وزخرفتها الفنية العالية, كما تمتاز مآذنها المملوكية برشاقتها , وهي ذات قاعدة مكعبة مزينة بمقرنصات , يعلوها مثمن,ثم ذروة علوية أسطوانية الشكل .
وتتقارب مباني المدينة القديمة بعضها من بعض بحيث تتكتل لأميال عدة فصفوف متلاصقة . وتتفاوت ارتفاعات مبانيها , عن عمد , بما يؤدي إلى تظليل أجزاء كبيرة من أسقف هذه المباني وحمايتها من أشعة الشمس وما ينتج عنها من طاقة حرارية ضاغطة خلال النهار .
فأحياؤها لازالت تحتفظ بطابع المدينة الإسلامية العربية , التي لم يكن من حواجز تفصل بين مبانيها , حتى لتحسب المدينة بناءاً واحداً من حيث تماسك الأبنية وضيق شوارعها والتداخل في الجدران والأسقف , بحيث أنك تستطيع الانتقال من سطح منزل إلى آخر لحي أو لشارع كامل . وسبب ضيق شوارعها هولمنع تعرضها لوقت طويل من أشعة الشمس , كما وأنه متناسب مع وسائل الانتقال في ذلك الوقت ( الدواب والطنابر أو العربات التي تجرها البغال ) التي لم تكن تتطلب شوارع ذات عرض أكبر .
ويتميز سوق البازركان بظاهرة تسقيفه لحماية سلعه من المطر والغبار. كما تتميز الأحياء الداخلية والمقفلة بتعدد السيباطات . وهناك حي يعرف باسم "تحت السيباط "لكثرة السيباطات فيه
4 ـ ميزات عمائرها :
لقد تميزت طرابلس خلال عهدها القديم بتعدد العمائر والمباني الدينية فيها لتشمل الجوامع والمساجد والمدارس والخانقاوات والأربطة والتكايا والمشاهد والأضرحة والتكايا والأسبلة والكتاتيب . وأهم ماتميزت به هذه المباني وزادها رونقاً هوالتالي :
المشربية : تميزت بعض المنازل في الحارات القديمة بالمشربيات الخشبية , وهي معالجة معمارية عربية إسلامية تسمح بدخول أشعة الشمس وتغطي المظهر الخارجي للشبابيك أو الشكيمة التي تستعمل للجلوس في الداخل , وهي تسمح لمن في المنزل أن يروا خارجه دون ملاحظتهم , وفي ذلك نوع من الخصوصية لأصحاب المنزل .
كما نلحظ أسلوب معماري آخر في تصميم بعض النوافذ وهو مايطلق عليه أسم "الشعرية "وهو عبارة عن عيدان من الخشب متشابكة ومتعارضة , توضع على النوافذ فتسمح بدخول الهواء والنور المخفف وتحجب داخل المنزل من أنظار المتتطفلين , بينما يمكن من خلالها رؤية مايجري خارجه . وقد تكون الشعرية جزءاً من مشربية
الحارات : تدلف إليها من الأسواق لتستقبلك فسحات واسعة تتمتع بالإضاءة والتهوية بما يتلائم مع وظيفتها كمنطقة سكنية . تتطلع إلى مبانيها علواً فترى بروزات متراكبة على واجهات المباني حيث يشكل الطابق السفلي قطعة الأرض بكامل مسطحها, وبنيت مبانيها من الحجر الرملي الذي يبدو بارزاً في الدور الأولى , وفي الدور العليا غطيت الجدران باللبن أو الجص كطبقة عازلة بينها وبين المطر, ولتقويتها بما يحميها من عوامل التفسخ والانهيار ويطيل من دوامها .
الحمامات : أما في تشييد الحمامات فلقد لجأت العمارة الإسلامية المملوكية إلى استعمال "المضاوي ", واحدتها مضوى , وهي فتحة صغيرة في أعلى الجدار أو السقف أو القباب تسد ببلاطة لغرض الإضاءة دون التهوية . ومن أشهر الحمامات في طرابلس , حمام النوري وحمام عزالدين وهما يحتاجان إلى إعادة صيانة وترميم ليفتحا للزائرين كمواقع سياحية هامة نظراً لجمالهما.
الوكالة: وهي عبارة عن مبنى متسع الأرجاء يستعمل للتجارة والسكن ونزول المسافرين, وهي كالخان , وظيفة وتخطيطاً, كانت تسكنها أسر مختلفة من عامة الشعب. والوكالة بصفة عامة تتكون من مخازن منفصلة ( حواصل ) في الدور الأرضي وتطل على فناء داخلي مفتوح ووحدات فندقية في الأدوار العليا تشرف على الفناء الداخلي , وكانت هذه الوكالات مخصصه لإقامة صغار التجار في مواسم الاتجار ممن كانوا يحضرون من مختلف القرى والبلاد الأخرى مع عائلاتهم للمدن الكبرى , فيقيم كل تاجر وعائلته بالحواصل الموجودة في دورها الأرضي . ( سوق القمح وجواره) . وكان مقصداً للحواصل السورية من سهل حمص حتى النهر الكبير جنوباً مروراً بتلكلخ , و شمالاً حتى "بوكساريا"على حدود تركيا.
لقد اعتمد المعمار في تصميمه على مبدأ الانفتاح على الداخل حيث تقوم عناصر الوكالة على فناء أوسط مكشوف واسع تلتف حوله مخازن الدور الأرضي والأول , ولها مدخل رئيسي يتوسط واجهة الوكالة الرئيسية , ويلحق بالدور الخدمات والمرافق وإسطبل لدواب التجار وجمالهم , وسكن علوي له مدخل خاص موجود في أقصى الواجهة .
الخانات: الخان لفظة فارسية الأصل أطلقت على مبيت المسافرين. ونجد خانات طرابلس في قلب الأسواق القديمة وبجوار الحمامات والمساجد . وكانت وظيفة الخان استقبال التجار من باعة الجملة ومراسلي المستوردين حيث تتكدس في الصحن البالات والصناديق المعدة للتصدير , وتلك المستوردة للسوق المحلية .كما كان لكل بضاعة ومهنة خان يرتبط اسمه بها , كخان الخياطين وخان الصابون
قلعة طرابلس : تعتبر هذه القلعة إحدى المعالم الرئيسية لمدينة طرابلس , إذ انها لازالت محافظة على مظهرها الخارجي كما بنيت قبل سبعمائة عام . وهي تقع على تلة أبي سمراء مشرفة على مدينة طرابلس بأكملها حتى البحر . وتعرف بقلعة "صنجيل " . وقد بناها الصليبيون عند احتلالهم لبلاد الشام من حجر رملي بهندسة جميلة . ويظهر أهميتها وجمالها من الناحية الخلفية المطلة على نهر أبو علي الذي يخترق المدينة ليتجه نحو البحر ليضحى كساقية صغيرة .
New layer...
New layer...
طرابلس التاريخ والحضارة في لبنان
حول كتاب إساءة اقتباس يسوع لبارت إيرمان-1
الإنجيل بحسب بارت
إن أي كتاب عن النقد النصى، يُعتبر مُمل جداً، لأغلب طُلاب العهد الجديد. فما يحتويه من تفاصيل مملة لا يُمكن ان يكون ضمن الكتب الأكثر مبيعاً. لكن منذ نشره فى 1 نوفمبر 2005، فإن كتاب "سوء إقتباس يسوع" كان يصعد أعلى و أعلى نحو قمة موقع آمازون. و منذ أن ظهر بارت إيرمان، أحد نُقاد النص الرئيسيين فى أميركا الشمالية، فى برنامجين فى الإذاعة الوطنية العامة (برنامج ديانا ريم و الهواء النقى مع تيرى جروس) فى نفس الإسبوع، فقد أصبح ضمن أعلى خمسين كتاب مبيعاً فى آمازون. فى خلال ثلاثة شهور، بِيع منه أكثر من مئة ألف نسخة. حينما ظهر حوار نيلى توكر مع إيرمان فى واشنطن بوست فى 5 مارس من هذه السنة، إرتفعت مبيعات كتاب إيرمان الى الأعلى. الأستاذ توكر تكلم عن إيرمان بوصفه:"عالم أصولى حدّق فى أصول المسيحية، حتى انه فقد إيمانه". بعد تسعة أيام، كان إيرمان ضيف برنامج جون ستيوارت، اللقاء اليومى. قال ستيوارت أن رؤية الكتاب المقدس كشىء تم إفساده بحرية من قِبل النُساخ الأرثوذوكس، جعلت الكتاب المقدس:"أكثر متعة...على الأغلب أكثر إلهية فى بعض النواحى". أنهى ستيوارت الحوار قائلاً:"انا حقيقى اهنئك، أنه كتاب فى قمة الروعة". فى خلال 48 ساعة، إنطلق سوء إقتباس يسوع نحو مقدمة آمازون، حتى لو كان ذلك لمجرد دقيقة واحدة. بعد شهرين، كان الكتاب يُحلق مُرتفعاً، باقياً ضمن أعلى 25 كتاباً مبيعاً. لقد:"أصبح واحدا من أعلى الكتب مبيعاً التى لا مثيل لها فى السنة". ليس سيئاً لكتاب أكاديمى حول موضوع "مُمل
طرائف باعة السمك
تأليف : محمد السويسي
يعتبر تسوق اللحوم والأسماك من أعقد الأمور لرب البيت لما تتطلب من خبرة ومعرفة لما يتخللها من أعمال الغش بما لايطاق ، ويليها الخضار والفواكه التي تتطلب التفحص وحسن الإختيار مع القليل من المعرفة لبعض الأنواع للتمييز بين الجيد والأجود كالليمون أو الرمان والدراق ، أما البطيخ فيحتاج الى خبرة كبيرة . ويلي هذه الأصناف الأجبان ومشتقاتها ومن ثم زيت الزيتون والعسل . وسوف آتي فيما بعد في مقالات أخرى إلى تفصيل كل منها على حدة في التمييز والإنتقاء بين السيء والجيد ضمن حكايا طريفة ، على أن ابدأ بالحكاية عن بائعي الأسماك .
طرائف باعة السمك : لقد بدأت مقالتي بالرواية عن الأسماك لأنها الأصناف الأصعب في تسوقها إذ تتطلب خبرة ومعرفة كبيرة في إنتقائها والتمييز بين الأسماك الطازجة وبين تلك المجلدة أوالمبردة . والفرق بين السمكة المجلدة والمبردة ، أن الأولى تأتي من بلدان بعيدة وقد اصطيدت من أعالي البحار لتجلد لفترة طويلة تصل لأشهر عدة ومن ثم تصدر للخارج ، وتكون اسعارها في العادة متدنية جداً قياساً بأسعار المبردة بما يتيح لصاحب المسمكة أو السوبرماركت أن يبيعها على هواه بأرباح عالية ، اما السمكة المبردة أو المثلجة فأنها تأتي من الجوار او بالأحرى من موانىء البحر المتوسط في سيارات أو أوعية مبردة ، خاصة من سوريا وتركيا ومصر ، فيعرضها البائع في برادات وقد غطيت بالثلج . وتكون أسعارها دائماً أقل من نصف أسعار الأسماك الطازجة المصطادة محلياً على الأقل ،إلا أن طعمها ونكهتها تختلف عن مثيلتها المحلية لاختلاف المرعى بين بلد وآخر .
ومن هنا يتطلب شراء السمك الخبرة والحذر إذ قد يعمد البائع الى خلط السمك الطازج والمبرد معاً بالإضافة للمثلج بعد أن يزيل تجلده بالنقع بالماء ليعرضه كسمك طازج أو مبرد . لذا فإن الزبون الذي لايملك الخبرة ولا ملكة التمييز بين هذه الأصناف الثلاث ، قد يتعرض للغش عند الشراء رغم سهولة الأمر لصاحب المعرفة . والذي لايمكنه معرفة صلاحية السمك وجودته منذ النظرة الأولى فيجب أن لايتورط بالتفرس والسؤال والإستسفسار من البائع الذي من المستحيل أن ينصحه إلا بالأسوأ مع إصرار شديد المدعم بحلف اليمين الكاذب على أنه طازج وبأنه الأجود والأفضل ؟! إذ أن هذه المهنة قائمة على الغش المبرم ، وأقول ذلك عن خبرة طويلة وأورد بعضاً من أمثلة طريفة حدثت معي في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم كالآتي :
توجهت يوماً لأتغدى في مطعم تربطني معرفة بصاحبه فطلبت نوعاً معيناً من السمك لايستساغ إلا مشوياً على الفحم بعد تشطيبه بالسكين ، ومن ثم يعصر عليه الحامض بعد الإستواء ، إذ يتعذر شوائه في البيت رغم تدني أسعاره إلا أن إعداده يتطلب خبرة كبيرة ، وقد قدم لي صاحب المطعم الوجبة بأفضل مما كنت أتوقع فطلبت التعرف إلى معد الطبق فجاء به ، فإذا هو سمّاك إبن سمّاك ولم يتعد الثلاثين من العمر ليقول لي أنه بائع سمك أيضاً مع اخوته في المسمكة الفلانية فشكرته على خبرته ووعدته بزيارة ونسيت الموضوع ، إلى أن كنت ماراً بعد عدة أسابيع من أمام إحدى المسامك دون الإلتفات إلى داخلها ، متجهاً نحو سيارتي ، لأسمع صوتاً يناديني بإسمي فالتفت نحو مصدر الصوت مستغرباً وقد إقترب صاحبه مني دون أن اعرفه ليتبين لي أنه صاحب السمك المشوي في المطعم بعد أن ذكرني بذلك . فقلت خيراً ، قال ألا تريد أن تشتري سمكاً من عندي وأنا على أستعداد ان اعده لك في البيت إن أردت بأفضل مايمكن ، وقد أغراني بهذا العرض ، فتوجهت معه الى الداخل حيث فتح ثلاجة مستطلية ضخمة تعج بالسمك المدفون بالثلج ، إلا من رأسه وبعض بدنه ، ليمد يده بخفة وينتقي منها سمكة"لقّز"بوزن ثلاثة ارباع الكيلو تقريباً ، وكانت هي الأسوأ في كل البراد ، ويرفعها بحركة بهلوانية قائلاً :هذه السمكة قد انتقيتها لك ولاأرى أفضل منك لأبيعه إياها وقد سبق أن تعرفت عليك ، فنظرت اليها وهي بيده ثم تفرست في الثلاجة فهالني مارأيت ، فأجبته ولكن ليس لدي هرّة في البيت ، ثم ومن قال لك أنه لو كان لدي هرة تقبل أن تأكل من هذه السمكة المعفنة وقد مر عليها أكثر من ثلاثة أسابيع !! ألا تخجل .. ؟ثم تطلعت الى داخل البراد لأنظر فوجدت أن لديه سمكة "مسقار"طازجة واحدة بوزن نصف كيلو تقريباً ، فنظرت اليه وقلت له سأحذّرك حزّورة إن عرفتها فقد أشتري من عند أخيك إن كان لديه سمكاً طازجاً في ثلاجته ، وقد سبق أن عرفني عليه عند دخولي ، فلم يرد أو ينبس ببنت شفة وقد اعتراه الذهول والخجل ..سألته هناك سمكة طازجة وحيدة في البراد دلني عليها وستربح ؟ فمد يده وأخرج "المسقارة "قائلاً اعذرني ، هي الوحيدة لدي اليوم ، إذ لم يخطر ببالي أبداً أنك تعرف بالسمك إذ يندر أن يأتينا شخص من المدينة له خبرة بالسمك . قلت وأنا متجه نحو براد أخيه ،ويحك هذا شهر ايلول وفيه أطيب انواع السمك الذي افضله ، لأشتري بعض السمك "الصفرني " إذ لم يكن لديه أي نوع آخر طازج غيره . ومع أنه لم يكن طلبي لصغر حجمه إلا أنني اشتريته على مضض إذ عرف أخوه الحزّورة .
طرفة أخرى إذ جاءني أحدهم بلحية قد غشني بها لتتلائم وغش السمك الذي يحمله وعندي ضيوف فبادرني قائلاً ، أن جاري قد أوصاه على بعض السمك "الجربيدة" الطازج وقد اصطادهم اليوم بيده من الصبح حتى العصر وأحضرهم له بعد أن نظفهم جيداً ولايحتاجون الا للقلي وأنه لم يجده ولايعرف ماذا يفعل وقد شارف النهار على الغروب ولم يبع شيئاً حتى الآن ليشتري شيئاً لعائلته على العشاء وقد تركهم دون غداء ؟ ! وإن شئت يبيعني إياهم ليحضر لجاري غيرهم غداً ، أي أنه وضع كل فنون الإحتيال في القول في ديباجة واحدة ، فأجبته أقترب وافتح الكيس لأرى ، فنظرت سمكاً لماعاً دون أن أتفحصه كما جرت العادة إذ غطى حذري وخبرتي ثقتي بلحيته والقلنسوة الصغيرة البيضاء التي يضعها على رأسه ، عدا عن تمسكنه في حديثه ، فنقدته ثمنهم كما طلب وقد أشفقت عليه بدلاً من أشفق على نفسي وقد "شربت المقلب " ثم غادرت بعد قليل إلى البيت لأعدهم في اليوم التالي على الغداء وما أن بدأت زوجتي بتفريغهم في مصفاة في المطبخ حتى قلت لها توقفي وأعيديهم الى الكيس كما كانوا وناديت الناطور ، بعد أن أفهمتها مشكلتهم ، لأعطيه إياهم قائلاً له لقد أشتريت هذا السمك على انه طازج ليتبين لي أنه سمك مجلد وليس لي من صحبة معه فأما أن تأخذهم أو تطعمهم لقطط الحي ، فأجابني بل أن هذا النوع من السمك هو صاحبي ومنية عمري وغرامي ولن أفرط بهم فأخذهم ليأكلهم وعائلته ، فضحكت إذ ذكرني بحكاية أشعب والسمك .
والسؤال المثار الأن هو أين المقلب في ذلك ؟ المقلب الأول هو انني دفعت ثمن هذا السمك على اساس أنه طازج ليتبين لي منذ النظرة الأولى عند إعداده على أنه سمك مجلد ومحلول بالماء ليطرى ، وقد باعني إياه بما يساوي اربعة أضعاف ثمنه على أساس أنه طازج ، والمقلب الثاني هو أنني لاأحب السمك المجلد ، إذ لاأجد لذة في تناوله أوطيبة .
وفي رواية طريفة أخرى ، وقد فاض السوق بسمك "الجربيدة "المبرد المصري المستورد ، كما أنواع أخرى كثيرة من الأسماك من مختلف البلدان ، إلا انني كنت ولاأزال أفضل السمك المحلي ، خاصة الجربيدة ، عن كل أنواع الأسماك الأخرى لما أجد فيه من لذة وطيبة في طعمه تميزه عن الأسماك المستوردة وفقاً لمرعاه ، وقد توجهت باكراً الى بائع السمك الذي اعتدت الشراء من عنده لأبتاع حاجتي من السمك لديه ، إلا أنه كان عليّ أن لاأكتفي بالنظر فقط بل التفحص بيدي أيضاً لأتأكد أنه سمك محلي وليس مستورد ، فبدات أنتقي من السمك على البسطة أمامي وأضعه في كفة الميزان ، إذ كانت كلها أسماكاً طازجة من موقع واحد ، وفيما أنا أنتقي جاء شريك له وقد حمل صندوقاً من السمك بين يديه ليرفعه ويفرغه دفعة واحدة فوق الأسماك التي أنتقي منها ، فدهشت ونظرت اليه قائلاً ومستنكراً ماهذا ؟! أجابني باستنكار أكبر ماذا في الأمر ؟! .. قلت هذه سمك مصري مبرد من شكله ولونه وأنت تريد أن تبيعني إياه ضعفين ونصف عن السمك البلدي فكيف ذلك ؟أأصبحت غشاشاً ؟ فكان جوابه أنه سمك بيروتي وقد وصل الآن ! ..ولم أجادل إذ أن معظم سمك بيروت يأتي من تجار طرابلس وعكار ،فاكتفيت بما وضعت في كفة الميزان ونقدته الثمن ولم أعد للشراء من عنده مطلقاً .
أكتفي بذلك إذ أن حكايتي مع محاولات الشطارة والغش من باعة السمك لاتنتهي ، وقد أوردت بعضها ليحذر الآخرين ممن ليس لديهم خبرة عند الشراء بأن لايثقون ببائع السمك مطلقاً إذ أنه وكشيش الحمام سواء في حلف القسم الكاذب من أجل الإقناع والمخادعة .
«هارتبليد» جريمة كاملة تقتل «زمن البراءة» على الإنترنت
انتهى عصر البراءة. لم تكن ثغرة «هارتبليد» الرقمية هي السهم الأول. لعلها «رصاصة الرحمة» التي تضع حدّاً نهائياً لزمن الحرية والثقة والاطمئان على الإنترنت. قبلها، أصيبت الإنترنت بطلقات وسهام لا حصر لها. كانت الطلقة الأقرب إلى الذاكرة هي الفضيحة التي فجّرها خبير المعلوماتية الأميركي إدوارد سنودن الذي رسم الإنترنت على هيئة الانكشاف التام أمام أعين «وكالة الأمن القومي الأميركي». قالت فضيحة الإنترنت ان الإنترنت والشبكات المتصلة بها ليست سوى شاشات تُعَرّي الناس على امتداد الكرة الأرضية أمام الاستخبارات الأميركية.
لا أحد بمنأى عن الانكشاف بمجرد دخوله الى فضاء الإنترنت. ولم يعد التذرّع بالبراءة مقبولاً، بل إن التصرف من دون حذر بات خديعة للذات ومشاركة غير بريئة في جريمة انكشاف الناس، أفراداً وشركات ومجموعات ومؤسّسات، على الشبكة العنكبوتية الدولية وكل ما يتصل بها من شبكات.
لا جريمة كاملة في العالم الفعلي. إذ تترك الجريمة أثراً يكتشف بعد زمن يطول أو يقصر. وسجّلت ثغرة «هارتبليد» أنها جريمة رقمية كاملة أولى تماماً. ربما هناك اختفاءات «كاملة» في العالم الفعلي على غرار الطائرة الماليزية وسرب طائرات «الرحلة 15» لمقاتلات الأسطول الأميركي في مثلث «برمودا» (1945)، وطائرة «بوينغ 727» الأنغولية (2003). هناك اختفاء، لكن لا جريمة كاملة فعليّاً. وأثبتت «هارتبليد» أن الإنترنت تختلف عن العالم الفعلي بأنها جريمة كاملة كليّاً... لحد الآن.
«تمكّنا من مهاجمة أنفسنا. ضربنا كومبيوتراتنا وخوادمنا التي اقتحمناها من ثغرة «هارتبليد». ولم نترك أثراً وراءنا». بتلك الكلمات، وصفت شركة «كودنوميكون» المتخصّصة في أمن الشبكات، وضع ثغرة «هارتبليد»، وهي نقطة ضعف في تقنيّات التشفير المستخدمة بكثافة عبر الإنترنت. وبقول آخر، إذا سرقت كلمات المرور التي تستعملها، وجرى سطو بياناتك وأرقام حساباتك المصرفية وكلمات مرورك، فإنك لن تشعر بذلك.
اكتُشِفَت ثغرة «هارتبليد» عبر جهود مشتركة من محرك البحث «غوغل» وشركة «كودنوميكون» ووزارة الداخلية الأميركية توصلت إلى أن تقنيّات التشفير المستخدمة في الإنترنت والشبكات الرقمية المتّصلة بها (خليوي، «واي- فاي»...) تتضمن نقطة ضعف تتيح اختراق الشيفرات والحصول على المعلومات التي يفترض أن التشفير يحميها.
استطراداً، لا فائدة ترجى من الحماية عبر كلمات المرور وبرامج الأمن المعلوماتي وتقنيات «جدران النار» («فاير وول» Fire Wall) وغيرها. والأنكى أن خبراء المعلوماتية يرون أن لا شيء يمكن فعله حاضراً لأن ثغرة «هارتبليد» موجودة في برامج يستعملها ما يزيد على ثلثي الخوادم التي تؤمّن الاتصال مع الإنترنت في أرجاء الكرة الأرضيّة.
ويزيد في تعقيد الأمر أن الخبراء الذين اكتشفوا «هارتبليد» يعتقدون أنها كانت موجودة منذ ما يزيد على السنتين من دون ان تكتشف. وفي المقابل، لا يعني اكتشاف الثغرة أن مشكلتها انتهت، بل لعل العكس هو الصحيح. إذ أكّدت شركة «أف سكيور» للأمن الإلكتروني أنه ليس بوسع الخبراء فعل أي شيء حيال «هارتبليد».
وفي غمار التخبّط، أعربت الحكومة الأميركية عن شكوكٍ لديها بأن «دولة ما» كثفت عمل فرقها المعلوماتية بهدف مسح الشبكات الرقمية الدوليّة لتحري ثغرات الضعف فيها. وفي السياق نفسه، عبّرت شركة «كاسبارسكي لاب»، وهي قريبة من روسيا، عن اعتقادها أن «دولة ما» أطلقت العنان لمتمرسين في اختراق الكومبيوتر، بهدف اكتشاف نقاط ضعف تمكنها من مهاجمة معظم الشبكات الرقميّة!
مع نهاية عصر البراءة على الإنترنت، لا جدوى من الحديث عنها كمساحة حُرّة وآمنة تشبه سهباً أخضراً مديداً. لا جدوى حتى من التحوّط القليل الحيلة، كتغيير كلمات المرور وتفقّد البطاقات المصرفيّة ومتابعة أحوال الحواسيب والأجهزة الذكية والشخصية. الأرجح أنه يجب الذهاب خطوة أبعد من ذلك تبدأ بأسئلة مثل «لماذا يجب أن أضع هذه المعلومة على الإنترنت؟».
الكاتب الناقد السيد عبد الصمد
الكاتب الناقد السيد عبد الصمد
عندما كنت فى المدرسة الثانوية كنت أكثر من سماع الإذاعات حتى خلال المذاكرة. وكان من بين هذه الإذاعات التى تشدنى إذاعة صوت أمريكا بلغتيها العربية والإنجليزية التى كانت شبه مدرسة لتعليمى كثير من الكلمات وطريقة نطقها حيث أنهم كانوا يتعمدون الحديث ببطء ووضوح لكى يفهم الأجانب مثلى.
وفى تلك الأيام كثر الحديث عن السيدألكساندر سولجينتسينالمعارض الروسى للحكم السوفيتى والذى كان أديبا وكاتبا. وكان شديد النقد للنظام السوفيتى وقد قضى جزءا طويلا من حياته فى معتقلات الجولاج أو معسكرات العمل الإجبارى فى سيبيريا أيام حكم جوزيف ستالين ولكنه صمد ولم ينجح النظام فى كسر إرادته حتى نجح فى النهاية فى منتصف السبعينات فى الخروج من الإتحاد السوفيتى بترحيله إلى ألمانيا ومنها للولايات المتحدة الأمريكية.
كانت تلك أول مرة أسمع فيها إسمه عندما حصل على إذن مغادرة البلاد ثم إحتفى به الغرب فترة من الزمان وما لبث أن إنزوى فى غياهب النسيان ولم يعد له ذكر. وبعد ذلك ببضع سنوات أيام حكم الرئيس كارتر عاد سولجينتسين إلى الأضواء من جديد حين أدلى بحديث أو تصريح قال فيه ما معناه أن الغرب منحل ثقافيا وأخلاقيا وأن الحياة فيه لم تعد تعجبه. وبالطبع فتصريح كهذا يقلب عليه الدنيا ولا يقعدها حتى أن إمرأة صامتة بطبعها لا تتحدث تقريبا قد خرجت عن صمتها - رغم كون زوجها هو الرئيس الأمريكى جيمى كارتر - فانتقدت روزالين كارتر هذا التصريح وقالت أن مجتمعنا ليس منحلا ولا مفككا وعلى من لا يعجبه أن يتركه، أو شىء مقارب من ذلك..
وهكذا عاش الأديب الروسى فى حالة عدم رضا طوال فترة إقامته بالغرب حتى إنهار الإتحاد السوفيتى فى عهد جورباتشيف وأعفى عنه فعاد بمجرد صدور ذلك العفو إلى بلاده ونسى كل الغرب ومغامراته.
وقد مات منذ عدة أعوام فى روسيا إذ أننى قرأت نعيا له فى صفحة الأدب فى جريدة ألمانية منذ سنوات قليلة.
وهذا الرجل المصرى عبد الصمد يذكرنى بألكساندر سولجينتسين، مع وجود فارق هام هو أن سولجنتسين دفع ثمنا غاليا لمعارضته، إذ أن قضاء أسبوع واحد فى تلك المعسكرات اللعينة كفيل بدفع المرء إلى الإنتحار.. فقد كانت معسكرات العمل فى سيبيريا أسوأ 4996545343 مرة من جوانتانامو.
ويكفى أن يعرف المرء أن عدد العائدين من الأسرى الألمان من تلك المعسكرات كان حوالى 10000 جندى فقط من أصل مئات الألوف ممن أسروا فى معارك ستالينجراد وحدها. فالطعام كان قليلا وسيئا والتدفئة كانت شبه منعدمة وساعات العمل كانت طويلة للغاية والمعاملة كانت قاسية ولم تكن توجد رعاية طبية.. وقد قصصت لكم من قبل عن جد إحدى زميلاتى الذى أصيب بدودة الإنكلستوما ولم يكن هناك أى علاج أو طبيب فأشار عليه زملاؤه بأن يصنع بنفسه شرابا كحوليا ثقيل الأثر ثم يشربه بكمية كبيرة حتى تضعف مقاومة الدودة فى بطنه وتخف وطأة قبضة أسنانها على أمعائه وعندما يذهب لقضاء الحاجة يشدها بيده من مؤخرته ويخرجها من جسمه حيث أن هذا هو الطريق الوحيد المتاح.. وقد قام بتلك العملية بالفعل ونجح فى إخراجها وعاش حتى عاد مع القلة العائدة من الجنود الأسرى عام 1955 أى بعد قضاء 12 عاما فى الجحيم.
تذكرت تلك الأحداث القديمة عندما كنت أشاهد برنامج على التليفزيون الألمانى كان أحد ضيوفه هو السيد/ حامد عبد الصمد الكاتب المصرى الأصل والألمانى الجنسية الذى يعيش منذ حوالى 20 عاما فى ألمانيا. وهو قد تخصص فى العلوم السياسية ومحل تخصصه هو إظهار فاشية الدين الإسلامى ونزعته التسلطية وسوف أعود إلى هذا الشأن بعد هذا العرض التاريخى لحالات الكتاب الذين إتجهوا لمخاطبة الغرب فى محاولة للتعبير عن أفكار ممنوعة فى بلادهم.
فى كتاب زيارة جديدة للتاريخ يقص محمد حسنين هيكل عن لقائه بالرئيس السوفيتى يورى أندروبوف عندما كان رئيسا للمخابرات السوفيتية. وأظن أن تاريخ هذا اللقاء هو أيضا نفس الفترة التى بدأ فيها سولجينتسين حياة اللجوء فى الغرب، أى منتصف السبعينات من القرن الماضى.
ودار الحديث عن أندريه زاخاروف عالم الطبيعة الروسى الذى كان العقل الباحث خلف برنامج القنبلة النووية السوفيتية فى عهد الرئيس خروتشيف. وزخاروف قد قام فى زمنه بتخفيض قوة القنبلة التى فجرها الإتحاد السوفيتى على الساحل الشمالى فى عام 1961 وتعد أقوى إنفجار نووى عرفته البشرية حتى يومنا هذا. وقد قام زخاروف بتخفيض القوة التفجيرية لهذه القنبلة إلى النصف خوفا من اثرها على الحياة والطبيعة ومع ذلك التخفيض ظلت حتى اليوم أعتى قنبلة فى التاريخ الإنسانى.
وبعد نجاح هذا التفجير تحول زاخاروف إلى رجل سلام يدعو لنزع السلاح وتصفية الترسانات النووية على جانبى الستار الحديدى وفى نفس الوقت تحول إلى معارض للنظام السوفيتى.
وفى لقاء هيكل بأندروبوف عرض هيكل لموضوع زاخاروف على ما أذكر ولموضوع المنشقين بصفة عمومية فرد عليه أندروبوف أن هؤلاء المنشقين إن لم تعجبهم حياتنا الإشتراكية فعليهم أن يغيروا من فكرهم أو أن يتركوا الإتحاد السوفيتى. ونحن لا نتمسك بأحد ليبقى هنا ضد رغبته.
وإن كان الغرب هو نموذجهم المفضل وغايتهم المنشودة فليتفضلوا بالذهاب إليه بدون عوائق من طرفنا.
وبالطبع فقد كان هذا إتجاه غير مألوف فى الفكر السياسى السوفيتى وبالفعل فقد خرج كثير من المنشقين السوفيت من الإتحاد السوفيتى فى فترة الحكم القصيرة لأندروبوف أذكر منهم شارانسكى الذى إتجه إلى إسرائيل - بحكم يهوديته – وهو من مواليد فترة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أي أنه كان شابا عندما خرج من الاتحاد السوفيتي في منتصف الثمانينات.
وأظن انه هو صاحب فكرة الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط وليس أحدا من إدارة الرئيس جورج بوش كما شاع لفترة طويلة. وهو صاحب فكرة فرض النظم الديموقراطية علي دول الشرق الأوسط بدلا من دعم نظم قهرية حليفة للغرب. هو أحد كبار المخططين لمستقبل الشرق الأوسط الجديد.
أما حامد عبد الصمدهذا فهو رجل جاء من ريف مصر وأظن أن عمل والده كان الوعظ الدينى.
والغرب يحسن دائما صناعة النجوم ولكنه لا يحسن الإبقاء عليها لامعة.. بل هو لا يريدها لامعة إلا بقدر محدود جدا فى الزمان. وكم من نجوم صنعهم الغرب ورفعهم إلى السماء ثم هوى بهم بعد ذلك مباشرة إلى حضيض الأرض بكل سرعة. وأكبر مثال على ذلك هى الفتاة أنستاسيا التى قيل عنها فى الثلاثينات أنها إبنة قيصر روسيا الأخير نيكولاى الثانى وأنها قد هربت من الإعدام السوفيتى وجىء بها إلى الولايات المتحدة وصنع منها نجم هائل التلألؤ ثم عندما مل القراء من سيرتها هوت بها الوسائل الإعلامية ذاتها والتى كانت تهلل لها منذ أسبوع واحد، هوت بها إلى الحاجة والفاقة والمذلة.
والفتاة الباكستانية ملالا التى تعرضت منذ عام لمحاولة قتل أثناء ذهابها للمدرسة لا أتوقع لها أنا شخصيا مصيرا مختلفا. فقد أفسدت عليها وسائل الإعلام صباها وأصبحت نجمة قبل الأوان وقد شاهدت لها عدة لقاءات تليفزيونية ولاحظت كيف أنها تستمتع بهذا الزخم الإعلامى ولكننى أعرف أنه سوف ينحسر عنها فجأة بعد أن تكون قد وصلت إلى حد الإدمان. وربما تنتحر بسبب ذلك التدليل الذى لن يستمر أكثر من ذلك.
نعود للسيد عبد الصمد بدلا من التيه بين الحوادث التاريخية..
أما عبد الصمد فقد إتخذ موقفا شبيها بمواقف الناشطات النسائيات فى سبعينات القرن العشرين فى أوروبا من اللاتى كن يحاربن من أجل إباحة الإجهاض الذى كان ممنوعا بنص المادة 218 من قانون العقوبات الألمانى مثلا أو نصوص مشابهة فى كل الدول الأوروبية والولايات المتحدة.
فهؤلاء النساء قمن فى عام 1973 على ما أذكر باللجوء إلى طبيب نساء أو عدد من أطباء النساء بعد أن حملن وطلبن منه إجراء عملية إجهاض لهن جميعا فقام بذلك ثم أدلين بحديث جماعى لمجلة شتيرن كان هو عنوان الغلاف وقد كتب عليه "نعم، نحن أجرينا عملية الإجهاض".. مع صور ما لا يقل عن 22 سيدة هن الآن جميعا فى سن الجدات. وقد كان فى ذلك ما فيه من تحدى للنيابة العامة إذ أنه إعتراف بارتكاب جريمة يعاقب عليها القانون.. ولكن ما أريد الوصول إليه هو أن أصحاب هذه الدعوة ربما كن وقتها على حق أو على بعض حق، إلا أن الزمان قد عفا عليهن وأصبحت قضيتهن غير مطروحة أصلا لأن القانون قد ألغي.
فعبد الصمد يسبح الآن على موجة محاربة وتعرية وكشف الفكر الإسلامى الفاشى. وهذا الفكر لا شك فى أنه موجود فى الإسلام الذي نعرفه اليوم بشكل واضح المعالم فى عصرنا التعس هذا. وأنا متفق معه تماما فى ذلك. فإهدار الدم والدعوة للقتل بسبب التكفير واضطهاد النساء وسوء معاملة الأقليات واحتقار الثقافات الأخرى والبحث عن الرجل القوى هى كلها مع غيرها كثير جدا من مظاهر الروح الفاشية التى ركبت الإسلام التعس الذى أصبح اليوم هو التيار الرئيسي. ولكن هذا الفكر هو مثل أى فكر نتاج عصر وظروف معينة.
إلا أن عبد الصمد يعود بالفاشية رجوعا إلى عصر الرسول شخصيا وتصرفات الرسول شخصيا وأقوال الرسول شخصيا. وأى شخص درس شريعة أو حتى قرأ عنها سوف يكتشف لأول وهلة أن هذا المعروف اليوم من الشريعة بالضرورة مبناه أفكار وأقوال وتفسيرات نشأت جميعا فى عصور أعقبت حياة الرسول بزمن طويل.
ففكرة الحاكم مثلا لم نسمع أنها كانت موجودة فى عهد الرسول. وفقه الحكم والخلافة والإعتراض والولاية وطريقة الحكم وتطبيق القانون والمشورة وكل هذه الأمور بدىء فى بحثها عقب وفاة الرجل الذى نسب إليه تابعوه كل أفكارهم المنحرفة والطيبة على السواء، إن حديثا أو سنة أو رواية.
ومن قرأ تاريخ الإنسانية فى فترة الرسول وإلى نهاية القرن التاسع عشر لابد له لو طبق منطق السيد/ عبد الصمد أن يخرج بنتيجة واحدة هى أن كل من كان فى الحكم والمسئولية فى ذلك الزمان والمكان المتسعين جدا كان فاشيا. فمن الصين إلى روما ومن روسيا إلى غابات ساكسونيا لم يعرف التاريخ إلا مذابح يقوم بها الحكام لتوطيد حكمهم والقضاء على المعارضة أو لنشر فكرة معينة دينية أو إجتماعية بالقهر والغصب على الشعوب. فعصور الشهداء المسيحيين إستمرت 300 عام ثم عندما آمن الإمبراطور بها فعلت الدولة نفس الشىء فيمن لا يريد أن يؤمن. والمذبحة التى قام بها كارل الأعظم ل 4500 شخص من كل الأعمار ومن الجنسين فى غابة بجوار هانوفر لا تزال آثارها حتى اليوم باقية.
فهل بذلك يمكن القول بأنه هو وغيره ممن سبقوه ومن لحقوا به كانوا جميعا فاشيين؟ وهى بالطبع نتيجة لا تتفق مع العقل ولا هى منطقية ولا تساندها وقائع التاريخ المعروف.والحقيقة أننى لا أنتقد السيد عبد الصمد بسبب أننى مؤمن أن الرسول شخصية مقدسة حيث ليس لأحد قداسة فى نظرى فى الدين الإسلامى.
ولا لأننى أعتقد أنه معصوم إذ أنه لم يكن معصوما إلا فى مجال رواية القرآن فقط، وتاريخه يشهد بأنه لم يكن معصوما بل وجاءه عتاب إلهى فى القرآن نفسه.
ولكننى أنتقد عبد الصمد لأن الرسول كان بمقاييس العصر الذى عاش فيه أبعد ما يمكن عن الفاشية.
أعترض على ما قال به لأنه يتناقض مع العدالة الواجب الحفاظ عليها فى الحديث عن أشخاص تاريخية لا تملك الدفاع عن نفسها بسبب الموت.
فعلى سبيل المثال يروى عبد الصمد أن الرسول يوم فتح مكة حين قال لخصومه عقب الهزيمة ما تظنون أنى فاعل بكم؟ فردوا عليه أخ كريم وابن أخ كريم.. وهنا جاء رده الذى سجله الزمان بعبارة إذهبوا فأنتم الطلقاء.. ولكن هذه الرواية قد قرأها عبد الصمد بطريق مخالف للطريق المباشرالقصير، إذ أنه يقول أن الرسول عندما قال إذهبوا فأنتم الطلقاء كان يقصد هذا ولكن بشروطى وعلى اساس الدخول فى الدين كرها !!!
ولست أدرى من أين أتى السيد عبد الصمد بهذا التفسير الغريب فى بابه وما هو دافعه لتغيير مسار الأحداث؟؟
أن لفظ الطلقاء نفسه لا يمكن تفسيره لغويا إلا بافتراض الحرية الكاملة "المطلقة" وإلا لما كان هذا اللفظ مستعملا إستعمالا صحيحا.
ولم يأت فى ذكر حوادث هذا اليوم أن هؤلاء المنهزمين قد أسلموا أو نطقوا بالشهادة أو أعلنوا دخولهم الدين ولو حتى بدفع جزية.. بل هم قالوا له أخ كريم وابن أخ كريم.. ولفظ الكريم هذا يعنى من يعفو.. والعفو هو عند المقدرة على إنزال العقوبة. ولو أنهم كانوا قد أسلموا أمامه وأبلغوه بذلك لما كان للرسول عليهم حق القتل أو إنزال أى عقوبة لأن الإسلام يجب ما قبله كما قال هو شخصيا. بمعنى أن الدخول فى الإسلام يمنحهم سجلا جنائيا جديدا نظيفا لا يحمل أية سوابق يمكن محاكمتهم عليها. أى أن الإحتمال الأكثر غلبة هو أنهم لم يسلموا فى ذلك اليوم أمام الرسول وربما يكونوا قد أسلموا بعد ذلك، وربما لا.. وهو فى الغالب لم يسألهم عن ذلك لأن الإيمان هو إعتقاد داخلى لن يمكن الكشف عنه، أيضا كما قال هو نفسه من قبل فى مناسبة مشابهة مستنكرا: أو قد شققت صدره؟
ومسيلمة الذى أطلق عليه فيما بعد الكذاب كان معاصرا للرسول عقب فتح مكة وكان فى اليمامة وأعلن عن أنه نبى وكان يقلد الرسول ولكن الرسول لم يتخذ فى شأنه أى إجراءات سواء زجرية أو عسكرية.
والرسول ملتزم بطبيعة الحال بما جاء هو به من نصوص. وأهم هذه النصوص هى لا إكراه فى الدين. وهذه العبارة بها تعارض صريح لا مراء فيه مع الممارسات الفاشية، لو أن الفاشية كانت قد عرفت فى ذلك الزمان المتقدم. فالإكراه هو من أساسيات الفكر الفاشى.
والسيد عبد الصمد لم أقرأ له أى كتاب ولا رأيته فى حياتى سوى مرة واحدة فى يوتيوب ولم يعجبنى كلامه لهذه الأسباب الآنف ذكرها.
والسؤال التالى هو: لماذا يفعل ذلك؟
منذ سقوط حائط برلين وانهيار الشيوعية لم يعد هناك من عدو يصلح تجسيدا للشر الذى يشحذ الغرب ضده الهمم الصناعية والمالية والثقافية والفكرية. وفى تلك الظروف الغريبة فى التاريخ كان الدين الإسلامى الذى كانت قد سبقت عسكرته للإستخدام كسلاح فى المواجهة ضد الشيوعية، وهى العسكرة التى قام بها الغرب منذ الخمسينات، كان قد تشدد وتطرف وأصبح حمل السلاح من قبل المؤمنين بهذا الدين أمرا عاديا.
وتزامن هذا الظرف التاريخى مع دخول فكر العولمة وتنازل الدولة القومية عن كثير من سلطاتها لقوى السوق العالمى مما أفقر الكثيرين فى الدول الغير صناعية والنامية. وبالتالى أصبح كثير من شباب هذه الدول يبحث عن مخرج من تلك الأزمة الإقتصادية المستمرة والتى لا تبشر الشواهد بوجود حل قريب لها. وفى نفس الوقت كان الغرب يتحول فى رؤيته للإسلام من حليف عسكرى إلى خصم مسلح يمتلىء قلبه بالحسد والغيظ والرغبة فى الإقتسام.
وهكذا منذ بداية التسعينات بدأت جوائز الأدب تنهال على كل العرب والمسلمين ممن يتخذون موقفا ناقدا أو مهاجما أو شاتما أو لاعنا للإسلام. وعرف الناس أسماء سلمان رشدى وتسليمة نسرين والمرنيسى والسعداوى وكثيرين غيرهم.
وأظن أن عبد الصمد لا يعدو أن يكون أحد هذه الشخصيات التى تتكسب من ركوب موجة الإنتقاد الجارح لدين يؤمن به على الأقل 1000 مليون شخص فى العالم.
وأنا ليس عندى إعتراض على أن ينتقد، ولكننى معترض على تبديل الحقائق وإختلاق الوقائع.
والسيد عبد الصمد يعرف أن هجومه سوف ينكسر دائما على دفاع المسلمين بأن الإسلام الحقيقى برىء من عيوب التطبيق..لهذا فهو يهاجم مصدر الإسلام نفسه مباشرة فيصوب سهامه نحو شخص الرسول.
ولكن هذا لا ينفى وجود ملامح فاشية واضحة جدا فى الإسلام الذى نعرفه اليوم فى القرن الحادى والعشرين. وأنا أعترض بشدة على كل هذه الملامح التى حولت التيار الرئيسي للإسلام إلى هذه الصورة الغير حضارية. إلا أن هذه الملامح تتناقض بصورة صارخة مع ما يروى عن سيرة الرسول وأعماله وتصرفاته، خصوصا ما كان من هذه التصرفات متعلقا بمعاملة الأقليات والمختلفين فى العقيدة.
وهذه الملامح الفاشية هى ما اضافته الضرورات السياسية عبر القرون الطويلة على هذا الدين الذى هو فى جوهره بسيط.
وعبد الصمد يعرف أنه فى حملته هذه إنما يسيرعلى نفس خط الناشطات النسائيات اللاتى فقدن الإتصال بالواقع بمرور الزمن حيث أن المجتمع بالفعل قد تغير ولم تعد مطالبهن محل جدل لأنها قد تحققت. أى أن الزمن يسير على خط ضد خط عبد الصمد. ولهذا أشتبه فى أنه قد إختلق قصة إختطافه فى مصر أيام حكم الإخوان ثم ظهوره فجأة وإنكار حدوث أذى عليه وكلها عمليات ربما يكون مصدرها البحث عن الشهرة وعدم الدخول فى عالم النسيان الذى دخل إليه قبله سولجينتسين وأنستاسيا وتسليمة نسرين وكثيرون ممن أغوتهم الدعاية الإعلامية فى الغرب.
إنه ظاهرة فقاعية غالبا سوف تختفى بعد وقت قليل ولا أظن أن كتبه ناجحة إلى حد كبير.
السيد هانز ليتن Hans Litten هو محام شاب يهودى الديانة من مواليد بداية القرن العشرين.
وقد كان مؤمنا بالشيوعية يتبنى قضايا العمال ضد أصحاب الأعمال وينشر آراءه فى المجلات المتخصصة فى هذا الشأن.
ويهوديته هذه كانت بناءا على قرار شخصى منه عن إقتناع إذ أن والده اليهودى كان قد نحول إلى المسيحية مما جعل الإبن ينتقده بشدة ويتهمه بالإنتهازية لأنه كان يشغل إلى جانب عمادة كلية الحقوق فى مدينة كونيجسبرج الألمانية فى شرق بروسيا (أصبحت الآن كالينجراد فى روسيا) منصب المستشار القانونى لحكومة هذه المقاطعة.
وهو بهاتين الصفتين (الشيوعية واليهودية) قد تحول إلى عدو واضح للحركة القومية الإشتراكية التى يطلق عليها النازية فى نهايات العشرينات من القرن الماضى.
وفى عام 1930 وقعت أحداث شغب فى برلين بين المعسكرين المتصارعين على السلطة، النازيين والشيوعيين مما نتج عنه إصابات تستدعى تحقيقات للنيابة. وكان الطرف المهاجم هم النازيين إذ هجموا على محل يرتاده الشيوعيون مما أوقع إصابات فى صفوفهم وكان ليتن ذو السبع وعشرين عاما هو محام المصابين كمدعى فرعى إلى جانب النيابة التى هى المدعى الأصلى.
ونظرت الدعوى فى عام 1931 وكان أن طلب محام المصابين إستدعاء رئيس الحزب النازى أدولف هتلر للمثول أمام المحكمة للإدلاء بشهادته عن الوقائع. وعنما حضر هتلر إستجوبه ليتن كشاهد وسأله إن كان ما جرى من إعتداء على العمال يقع فى نطاق الأعمال الخارجة عن القانون.. ولكنها كانت مصيدة وقع فيها هتلر إذ إحمر وجهه وتعصب بشدة وتساءل عن جرأة المحام على الشعور القومى للبلاد وأن يصفه بالأعمال المعادية للقانون. وبالطبع حينما بدأ هتلر ينفعل تصور نفسه - تماما كما عهدنا كثيرا من المتعصبين الذين نعرفهم عندما ينفعلون - تصور نفسه على منصة الخطابة وأخذ يرفع عقيرته وينتقد الأحوال القانونية التى قد تفسرعلى أن الوطنية هى أعمال معادية للقانون.
وهنا تدخل المحام ليتن مشيرا إلى أدولف هتلر بيده أن يصمت وقال له: "المحكمة تستطيع سماع صوتك بوضوح، لماذا ترفع صوتك؟ نحن لسنا فى مؤتمر جماهيرى بل فى صالة محكمة"!!
وأسقط فى يد هتلر ولم يحر جوابا وانتهت شهادته أمام المحكمة بطريقة مهينة لرجل يرأس حزبا ويسعى إلى السلطة وخرج حانقا على المحام ليتن أشد ما يكون الحنق.
وطبيعى أن إعتقال ليتن كان من أوائل الخطوات التى إتخذها هتلر بعد ذلك بعامين عندما وصل للحكم حتى قبل أن ينجح فى إصدار قانون التمكين الذى أعطاه سلطات مطلقة.
وظل المحام ليتن معتقلا لا يعرف أحد أين ولا يجرؤ أحد على التساؤل عن ظروفه إلى أن عرفت أسرته عام 1938 أنه قد فارق الحياة منتحرا فى معتقل داخاو بالقرب من ميونيخ بعد أن أصيب باكتئاب حاد نتيجة فقدان نظره وأسنانه فقام بشنق نفسه فى عمر الخامسة والثلاثين ليتخلص من العذاب..
واليوم يقف فى مدخل محكمة جنايات وسط برلين والتى شهدت وقائع تلك المحاكمة والتى تقع فى شارع أصبح يحمل إسمه، يقف تمثال نصفى لهانز ليتن للعبرة والتذكرة بما يمكن للفاشية أن تفعله فى المجتمعات التى تسمح بقيام الحكم فيها على أساس من تلك المدرسة المريضة فكرا وتطبيقا.
والسيد عبد الصمد غالبا لا يعرف أمثال هذه القصص وأرجح الظن أنه لم يقرأ تاريخ تلك الحركة جيدا حتى يستطيع التمييز بينها وبين ممارسات الرسول الذى يريد إلصاق تهمة الفاشية به.
حول كتاب إساءة اقتباس يسوع لبارت إيرمان-2
إفتراءات يوصم بها الإسلام
إفتراءات يوصم بها الإسلام. من هذه الإفتراءات التكفير والأمر بالقتل , وفيما يلى رأى الفقهاء:
فقد درس مجلس (هيئة كبار العلماء) بالمملكة العربية السعودية- في دورته التاسعة والأربعين – المعنقدة بالطائف ، ابتداء من تاريخ (2/4/1419) ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية – وغيرها – من التكفير والتفجير ، وما ينشأ عنه من سفك الدماء ، وتخريب المنشآت .
ونظراً إلى خطورة هذا الأمر، وما يترتب عليه من إزهاق أرواح بريئة ، وإتلاف أموال معصومة ، وإخافة للناس ، وزعزعة لأمنهم واستقرارهم : فقد رأى المجلس إصدار بيان يوضح فيه حكم ذلك ؛ نصحا لله وعباده ، وإبراء للذمة ، وإزالة للبس في المفاهيم – لدى من اشتبه عليه الأمر في ذلك.
فنقول وبالله التوفيق - :
أولا: التكفير حكم شرعي ، مرده إلى الله ورسوله ؛ فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب : إلى الله ورسوله ، فكذلك التكفير .
وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل ، يكون كفرا أكبر مخرجا عن الملة .
ولما كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله ، لم يجز أن نكفر إلا من دل الكتاب والسنة على كفره – دلالة واضحة - ، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن ؛ لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة .
وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات – مع أن مما يترتب عليها أقل مما يترتب عل التكفير - ، فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات .
ولذلك حذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر ، فقال ( أيما امرئ قال : لأخيه يا كافر فد باء بها أحدهما ، إن كان كما قال ، وإلا رجعت عليه ) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول ، أو العمل ، أو الاعتقاد كفر ، ولا يكفر من اتصف به ؛ لوجود مانع يمنع من كفره .
وهذا الحكم ، كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها ، وانتقاء موانعها ، كما في الإرث ، فسببه القرابة – مثلا – وقد لا يرث بها ؛ لوجود مانع كاختلاف الدين ، وهكذا الكفر يُكره عليه المؤمن ، فلا يكفر به .
وقد ينطق المسلم بكلمة الكفر ؛ لغلبة فرح ، أو غضب ، أو نحوهما ، فلا يكفر بها ؛ لعدم القصد ، كما في قصة الذي قال : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ) رواه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
والتسرع في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة ، من استحلال الدم والمال ، ومنع التوارث ، وفسخ النكاح ، وغيرها مما يترتب على الردة ، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة ؟!
وإذا كان هذا في ولاة الأمور: كان أشد ؛ لما يترتب عليه من التمرد عليهم ، وحمل السلاح عليهم ، وإشاعة الفوضى ، وسفك الدماء ، وفساد العباد والبلاد ؛ ولهذا منع النبي - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – من منابذتهم ، فقال : ( ... إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان ) متفق عليه من حديث عبادة رضي الله عنه .
- فأفاد قوله عليه الصلاة والسلام : "إلا أن تروا "أنه لا يكفي مجرد الظن والإشاعة .
- وأفاد قوله عليه الصلاة والسلام : "كفرا "أنه لا يكفي الفسوق – ولو كبر - ، كالظلم ، وشرب الخمر ، ولعب القمار ، والاستئثار المحرم .
- وأفاد قوله عليه الصلاة والسلام : "بواحا "أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح ، أي : صريح ظاهر .
- وأفاد قوله عليه الصلاة والسلام : "عندكم فيه من الله برهان "أنه لا بد من دليل صريح ، بحيث يكون صحيح الثبوت ، صريح الدلالة ، فلا يكفي الدليل ضعيف السند ، ولا غامض الدلالة .
- وأفاد قوله عليه الصلاة والسلام : "من الله " : أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة ، إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله ، أو سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - .
وهذه القيود تدل على خطورة الأمر.
وجملة القول : أن التسرع في التكفير له خطره العظيم ؛ لقول الله – عزوجل - : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) الأعراف / 32 .
ثـانـيـاً : ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء ، وانتهاك الأعراض ، وسلب الأموال الخاصة والعامة ، وتفجير المساكن والمركبات ، وتخريب المنشآت ، فهذه الأعمال – وأمثالها – محرمة شرعا – بإجماع المسلمين - ؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة ، وهتك لحرمات الأموال ، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار ، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم ، وغدوهم ورواحهم ، وفيه هتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها .
وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم ، وأعراضهم ، وأبدانهم ، وحرم انتهاكها ، وشدد في ذلك ، وكان من آخر ما بلغ به النبي – صلى الله عليه وسلم – أمته ، فقال في خطبة حجة الوادع : ( إن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ؛ عليكم حرام : كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ثم قال – صلى الله عليه وسلم - : ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد ) متفق عليه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه .
وقال – صلى الله عليه وسلم - : ( كل المسلم على المسلم حرام دمه ، وماله ، وعرضه ) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
وقال – عليه الصلاة والسلام - : ( اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ) رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه .
وقد توعد الله – سبحانه – من قتل نفسا معصومة بأشد الوعيد ، فقال – سبحانه – في حق المؤمن : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جنهم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) النساء / 93 .
وقال سبحانه في حق الكافر - الذي له ذمة - إذا قتل الخطأ : ( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ) النساء / 92 .
فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه دية والكفارة ، فكيف إذا قتل عمدا ؟! فإن الجريمة تكون أعظم ، و الإثم يكون أكبر .
وقد صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : ( من قتل معاهداً ، لم يرح رائحة الجنة ) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
ثـالـثـا : إن المجلس إذ يبين حكم التكفير الناس – بغير برهان من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ، وخطورة إطلاق ذلك ؛ لما يترتب عليه من شرور وآثام - ، فإنه يعلن للعالم : أن الإسلام برئ من هذا المعتقد الخاطئ ، وأن ما يجري في بعض البلدان من سفك للدماء البريئة ، وتفجير للمساكن والمركبات ، والمرافق العامة والخاصة وتخريب للمنشآت : هو عمل إجرامي ، والإسلام منه برئ ، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر برئ منه ، وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف ، وعقيدة ضالة ، فهو يحمل إثمه وجرمه ، فلا يحتسب عمله علي الإسلام ، ولا علي المسلمين المهتدين بهدي الإسلام ، المعتصمين بالكتاب والسنة ، المستمسكين بحبل الله المتين ، وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة ؛ ولهذا جاءت نصوص الشريعة بتحريمه ؛ محذرة من مصاحبة أهله :
قال تعالى : ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) البقرة / 204 .
والواجب على جميع المسلمين – في كل مكان – التواصي بالحق ، والتناصح ، والتعاون على البر والتقوى ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ؛ كما قال الله – سبحانه وتعالى- : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) البقرة / 2 .
وقال – سبحانه- : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) التوبة / 71 .
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( الدين النصيحة [ ثلاثا ] ، قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه .
وقال – عليه الصلاة والسلام - : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ؛ اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما .
والآيات والأحاديث – في هذا المعنى – كثيرة .
نسأل الله سبحانه ـ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ـ أن يكف البأس عن جميع المسلمين ، وأن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد ، وقمع الفساد والمفسدين ، وأن ينصر بهم دينه ، ويعلى بهم كلمته ، وأن يصلح أحوال المسلمين – جميعا – في كل مكان ، وأن ينصر بهم الحق إنه ولي ذلك ، والقادر عليه .
وصلى الله على نبينا محمد ، وآله ، وصحبه "انتهى . والله أعلم
إفتراءات يوصم بها الإسلام-2 اضطهاد النساء
الشبهة القائلة بإضطهاد النساء فى الإسلام وسلبهن حقوقهن
د. نهى قاطرجي
يكثر الحديث في هذه الأيام عن حقوق المرأة وحريتها حيث يحاول العلمانيون أن يشوهوا صورة المرأة في الإسلام ويظهروها وكأنها مسلوبة الحقوق مكسورة الجناح ، فالإسلام بنظرهم فرّق بينها وبين الرجل في الحقوق وجعل العلاقة بينهما تقوم على الظلم والاستبداد لا على السكن والمودة، الأمر الذي يستدعي من وجهة نظرهم قراءة الدين قراءة جديدة تقوم على مراعاة الحقوق التي أعطتها الاتفاقيات الدولية للمرأة ومحاولة تعديل مفهوم النصوص الشرعية الثابتة كي تتوافق مع هذه الاتفاقيات . في البدء من المفيد الإشارة إلى أن الإسلام كان ولا زال سباقاً فى إعطاء الإنسان حقوقه كاملة ، فأهلية التملك ثابتة للجنين في بطن أمه ومنذ أن يولد يكون عضواً كاملاً في المجتمع ، يحتمل ويحمل يملك ويهب وَفْقَ قواعد معينة ، وإن كان صغيراً يتولى عنه وليه ذلك ، وستبقى كلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدوية : "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ "، وستبقى القاعدة الفقهية قائمة : "الحُرُّ لا يقع تحت اليد"، فالإنسان له حق الحياة وحق الإرث وحق الاعتقاد وحق التملك وكثير من الحقوق التي نادت بها جماعات وطّبقتها على بعض الناس دون بعض . إن الدعوة إلى تعديل التشريعات السماوية ليست دعوة حديثة بل هي من طروحات التي رُوج لها منذ مطلع القرن الحالي وهي لا تخرج عن إطار الطروحات الغربية التي يدعو لها المستشرقون وحكوماتهم ، وقد انبرى علماء الإسلام منذ تلك الفترة إلى الرد على هؤلاء بردود لا تزال تصلح لهذا اليوم لأنها ما تغيرت وما جاءت بجديد ، ومن العلماء الذين ردوا على المستشرقين وأسيادهم وأتباعهم الدكتور علي عبد الواحد وافي والدكتور مصطفى السباعي و الدكتور البهي الخولي وغيرهم رحمهم الله تعالى دنيا وآخرة . ولقد ردَّ العلماء على كل من سوَّلت له نفسه التهجم على الدين عبر الدعوة إلى إعادة النظر في تشريعه المستمد من الكتاب والسنة وعبر المطالبة بفتح باب الاجتهاد في مسائل يرى المهاجمون أن الزمن قد تعداها ، ومن هذه المسائل : حق تأديب المرأة ولا سيما ضربها . صيغة الطلاق المعطاة للرجل . سلطة الزوج ( القوامة ) . تعدد الزوجات . الإرث الشهادة وسنقوم بعرض لهذه الأفكار ومن ثمَّ الرد عليها إن شاء الله ، ولكن في البداية لا بد من توضيح النقاط العامة التالية : -1- إن الإسلام نظام عالمي لكل الأزمنة والأمكنة وأي إساءة في استخدام هذا التشريع لا تعود للتشريع نفسه وإنما تعود للأشخاص الذين يسيئون فهمه أو يجهلون أحكامه ،"فالإسلام أقام دعامته الأولى في أنظمته على يقظة ضمير المسلم واستقامته ومراقبته لربه ، وقد سلك لذلك سبلاً متعددة تؤدي ، إذا روعيت بدقة وصدق ، إلى يقظة ضمير المسلم وعدم إساءته ما وُكِلَ إليه من صلاحيات وأكبر دليل على ذلك أن الطلاق لا يقع عندنا في البيئات المتدينة تديناً صحيحاً صادقاً إلا نادراً ، بينما يقع في غير هذه الأوساط لا فرق بين غنيِّها وفقيرها " . من هنا فإن إساءة استعمال التشريع الرباني لا يقتضي إلغاءه وإعادة النظر فيه وإنما يقتضي منع تلك الإساءة عبر تنشيط الوازع الديني الذي يؤدي إلى ذلك. -2- إن فتح باب الاجتهاد الذي يتستر وراءه البعض هو أمر غير مقبول لكون الذين يدعون لهذا المطلب أصحاب أهواء يفتقدون لأدنى صفات المجتهد من جهة ولكونهم يهدفون إلى ضرب النصوص الشرعية الثابتة في القرآن والسنة خدمة لمصالح غربية معلنة في إعلانات عالمية تهدف إلى تقويض عرى الأسرة الإسلامية من جهة أخرى ، وهذا واضح في "إعلان القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة "الذي أورد في مادته السادسة عشر أهم أسس تساوي الرجل والمرأة والتي منها: "أ – نفس الحق في عقد الزواج . ب- نفس الحق في حرية اختيار الزوج ، وفي عدم عقد الزواج إلا برضاها الحر الكامل . ج- نفس الحقوق والمسؤوليات أثناء الزواج وعند فسخه . د- نفس الحقوق والمسؤوليات كوالدة ، بغض النظر عن حالتها الزوجية ، في الأمور المتعلقة بأطفالها ؛ وفي جميع الأحوال ، تكون مصالح الأطفال هي الراجحة . هـ- نفس الحقوق في أن تقرر بحرية وبشعور من المسؤولية عدد أطفالها والفترة بين إنجاب طفل وآخر ، وفي الحصول على المعلومات والتثقيف والوسائل الكفيلة بتمكينها من ممارسة هذه الحقوق . و- نفس الحقوق والمسؤوليات فيما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم ، أو ما شابه ذلك من الأنظمة المؤسسية الاجتماعية … ز- نفس الحقوق الشخصية للزوج والزوجة بما في ذلك الحق في اختيار اسم الأسرة والمهنة والوظيفة. إن هذه البنود تخالف الشريعة الإسلامية في معظمها إلا في البند ( ب ) الذي ينص على حرية المرأة في اختيار الزوج ، أما في باقي البنود فإنها تتعارض مع الشريعة الإسلامية التي أعطت للمرأة والرجل حقوقاً أثناء الزواج تقوم على المبادئ التالية : 1- المساواة : قال تعالى : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة : 228] ، إي أن كل حق وواجب للمرأة يقابله حق وواجب للرجل ، وكلما طالبها بأمر تَذَكَّر أنه يجب عليه مثله ، عدا أمر واحد هو القوامة ، وتقسم الواجبات حسب طبيعة كل منهما. 2- القوامة : معناها القيام بشؤون الأسرة ورئاستها وحماية أفرادها وسيتم الحديث عن هذا الموضوع فيما بعد إن شاء الله تعالى . 3- التشاور في شؤون الأسرة ويستمر التشاور حتى بعد الطلاق في شؤون الأولاد . 4- التعامل بالمعروف وحسن المعاشرة لقوله تعالى : ( وعاشروهن بالمعروف ) 5- على المرأة حضانة طفلها في سنواته الأولى والإشراف على إدارة البيت والخدم وطاعة زوجها في المعروف. 6- على الزوجين التعاون في تربية الأولاد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ). 7- على الرجل معاونة زوجته في أعمال البيت ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاون زوجاته . هذا باختصار تلخيص لحقوق المرأة أثناء الزواج كما يقره الإسلام ، أما المطالبة بالمساواة في الحقوق بين المرأة والرجل التي يدعو إليها بعض دعاة التحرر من أتباع الإعلانات العالمية فيعود لجهلهم بحقوق المرأة في الإسلام وتجاهلهم للاختلافات البيولوجية بين الرجل والمرأة مما دفعهم إلى اعتبار أن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تماثل لا علاقة تكامل ، فتجدهم يصدِّقون ما يقوله غيرهم عن حرمان المرأة في الإسلام من حقوقها ، أو يصدقون ما يقوله المستشرقون من ضرورة تأويل النصوص التي لا تتوافق مع الواقع الراهن رافعين بذلك شعار "تاريخية النصوص "أو شعار "التعبير عن واقع حال "بهدف تحويل المضامين وإلباسها اللباس الغربي ، وهكذا تصبح قوامة الرجل على بيته وحقه في تأديب زوجته الناشز وحقه في الطلاق مجرد "عبارات تاريخية "أساء الفقهاء تأويلها بهدف "تقييم دور الرجل ". وبالعودة إلى الردود الجزئية على الطروحات العلمانية نقول ما يلي : -1- حق تأديب الزوجة ولا سيما ضربها يستند الداعون إلى إبطال صيغة الضرب الموجودة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة إلى أن قاعدة حق تأديب المرأة "ولا سيما ضربها هي عبارة تاريخية كان لها فعالية جمّة لنقل الذهنية الجاهلية من قتل المرأة إلى التساؤل حول ضربها "وليست قاعدة شرعية . وللرد على هذا الأمر نورد في البداية بعض الآيات والأحاديث التي ذكرت هذا الأمر ، ثم نورد بعد ذلك الرد إن شاء الله تعالى ، يقول عز وجل : {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان علياً كبيراً } . ويقول عليه الصلاة والسلام في حَجَّة الوداع : ( ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هنَّ عوانٌ عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً ، إلا أن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطِئن فُرُشَكم من تكرهون ولا يأْذَنَّ في بيوتكم من تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ) . والملاحظ أن هؤلاء الأشخاص تحت شعار إنسانية المرأة وكرامتها يأخذون من الآية ما يريدون فقط وهي كلمة الضرب وينسون التسلسل الذي ورد في الآية حيث ورد في البداية مدحٌ للمرأة المؤمنة الحافظة لحدود الزوج ومن ثَمَّ ورد ذكر الناشز ، فالكلام إذاً يتعلق بنوع خاص من النساء وليس كل النساء ، والمعروف أن طبائع الناس تختلف من شخص لآخر وما ينفع الواحد لا ينفع الثاني، ومن عدالة الإسلام أنه أورد العلاج لكل حالة من الحالات ، فما دام "يوجد في هذا العالم امرأة من ألف امرأة تصلحها هذه العقوبة ، فالشريعة التي يفوتها هذا الغرض شريعة غير تامة ، لأنها بذلك تُؤثِر هدم الأسرة على هذا الإجراء وهذا ليس شأنه شريعة الإسلام المنزلة من عند الله " . والواقع أن "التأديب لأرباب الشذوذ والانحراف الذين لا تنفع فيهم الموعظة ولا الهجر أمر تدعو إليه الفِطَر ويقضي به نظام المجتمع ، وقد وَكَلته الطبيعة من الأبناء إلى الآباء كما وكلته من الأمم إلى الحكام ولولاه لما بقيت أسرة ولا صلحت أمة . وما كانت الحروب المادية التي عمادها الحديد والنار بين الأمم المتحضرة الآن إلا نوعاً من هذا التأديب في نظر المهاجمين وفي تقدير الشرائع لظاهرة الحرب والقتال " . قال تعالى : { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } . إضافة إلى ذلك فإن الضرب الوارد في الآية مشروط بكونه ضرباً غير مبرح وقد فسر المفسرون الضرب غير المبرح بأنه ضرب غير شديد ولا شاق ، ولا يكون الضرب كذلك إلا إذا كان خفيفاً وبآلة خفيفة ، كالسواك ونحوه . ولا يكون القصد من هذا الضرب الإيلام وإطفاء الغيظ ولكن التأديب والإصلاح والتقويم والعلاج ، والمفترض أن التي تتلقى الضرب امرأة ناشز ، لم تنفع معها الموعظة والهجر ، لذلك جاء الضرب الخفيف علاجاً لتفادي الطلاق ، خاصة أن نشوز بعض النساء يكون عن غير وعيٍ وإدراكٍ لعواقب خراب البيوت وتفتت الأسرة . إن سعي بعض الداعي لإبطال مفعول آية الضرب تحت حجة المساواة لن يفيد في إيقاف عملية الضرب إذ إن المراة ستبقى تُضرب خِفْية كما يحصل في دول العالم الغربي الحافل بالقوانين البشرية التي تمنع الضرب ، وتشير إحدى الدراسات الأميركية التي أجريت عام 1987 إلى أن 79% من الرجال يقومون بضرب النساء … ( هذا عام 87 فكيف النسبة اليوم ) ويقدر عدد النساء اللواتي يُضربن في بيوتهن كل عام بستة ملايين امرأة . فإذا كان هذا العدد في تزايد في تلك الدول التي تحرّم الضرب ، فلماذا لا يوجد في بيئاتنا الإسلامية هذا العدد مع أن شريعتنا تبيح الضرب ؟ أليس لأن قاعدة السكن والمودة هي الأساس بينما العظة والهجران والضرب هي حالات شاذة تُقَدَّر بضوابطها وكما قال تعالى في نهاية الآية : { فإن أطعنكم فليس لكم عليهن سبيلاً } . -2- صيغة الطلاق المعطاة للرجل يعترض كثير من المعاصرين على كون الطلاق بيد الرجل ويرون في التشريع التونسي حلاً حيث جاءت المادة 31 منه لتقول : "إن المحكمة هي التي تعلن الطلاق بناء لطلب أحد الزوجين بسبب ما حصل له من ضرر ويُقضى لمن تضرر من الزوجين بتعويض عن الضرر المادي والمعنوي الناجم عن الطلاق " . ويرى أنصار هذا القانون "أنه أكثر ملاءمة باعتباره أكثر إنصافاً . إنه يحرر المرأة من حق يتمسك به الزوج ، أصبح جائراً جداً بحقها " . والواقع أن هذه الطروحات حول الطلاق لا تخرج كثيراً عن ما يدعو إليه علماء الغرب وأتباعهم من الكتاب الذين يريدون بذلك تنفيذ القانون المدني الفرنسي ، وهنا من المفيد الإشارة إلى النقاط التالية : -1- إن قبول الزوجين الارتباط الإسلامي يفرض عليهما الالتزام بأحكام الشرع التي لا تخلو من بعض الحقوق التي يمكن للزوجة الخائفة على نفسها من الزوج أن تحمي بها نفسها كأن تجعل العصمة بيدها وأن تشترط في عقد الزواج شروطاً خاصة . -2- إن حصر الإسلام الطلاق في يد الزوج إنما يعود لعدة أسباب أهمها كونه المتضرر الأول من الطلاق من الناحية المادية فهو الذي يجب عليه المهر والنفقة لمطلقته ولعياله طوال فترة العدة والحضانة ، هذا الأمر يجعله أكثر ضبطاً لنفسه من المرأة التي قد لا يكلفها أمر رمي يمين الطلاق شيئاً. -3- إن حصر الطلاق بيد الزوج وعدم إعلانه للقاضي إلا في حالات قصوى إنما يعود لمبدأ التستر الذي يدعو إليه الإسلام لأن "معظم أسباب الطلاق تتمثل في أمور لا يصح إعلانها ، حفاظاً على كرامة الأسرة وسمعة أفرادها ومستقبل بناتها وبنيها " . كما أن حصر الطلاق بيد القاضي أمر أثبتت التجارب عدم جدواه وذلك من نواح عدة منها : 1- الفشل في التقليل من نسب الطلاق وهذا أمر أثبتته إحصائيات الطلاق التي سجلت في تونس حيث أن العدد لم ينقص بل على العكس من ذلك فلقد ارتفع ارتفاعاً ملحوظاً "رغم أن المبرر الذي قُدِّم لانتزاع سلطة الطلاق من يد الزوج وإيكاله إلى القاضي هو حماية الأسرة بإتاحة فرصة للقاضي ليراجع فيها الزوجين ويحاول الصلح بينهما، فإن الواقع يثبت أن نسبة المصالحات الناجحة ضئيلة جداً، فمن بين 1417 قضية طلاق منشورة في المحكمة الابتدائية بتونس في الموسم القضائي 80-81 لم يتم المصالحة إلا في عشر منها ، بينما كان الاعتقاد أن تعدد الزوجات وجعل العصمة الزوجية بيد الرجل وعدم تغريمه لفائدة الزوجة هي الأسباب الرئيسية للطلاق وأن القضاء عليها سيقلل من نسب الطلاق ، والإحصائيات تثبت أن شيئاً من ذلك لم يحدث " . 2- لجوء بعض المحاكم الغربية التي تتوكل بنفسها أمور الطلاق في محاولة منها إلى خفض نسبة الطلاق إلى رفض التطليق إذا لم يكن بسبب الزنى لذلك كثيراً ما يتواطأ الزوجان "فيما بينهما على الرمي بهذه التهمة ليفترقا ، وقد يلفقان شهادات ووقائع مفتعلة لإثبات الزنى حتى تحكم المحكمة بالطلاق. فأي الحالتين أكرم وأحسن وأليق بالكرامة ؟ أن يتم الطلاق بدون فضائح ؟ أم أن لا يتم إلا بعد الفضائح ؟ " . -3- سلطة الزوج ( القوامة ) يعترض المخالفون للشريعة الإسلامية على مبدأ القوامة الذي يطلق البعض عليه لفظ "قيمومية "قاصدين بذلك تعريف القوامة بأنها "تقييم دور الرجل "، فيتساءلون: "إن هذه الحقوق الممنوحة للزوج والتي تدعم هذه السلطة أعطته إياها النصوص القرآنية أو أنها تشكل تحديداً "لحالات واقعية "تترجم فكرة "الدور "الخاص بالرجل والذي لا بد من حمايته ؟" . إن التخليط في فهم مفهوم القوامة إنما يعود لاعتبارهم رئاسة الرجل على المرأة رئاسة تقوم على الاستبداد والظلم ، بينما هي في الحقيقة رئاسة رحمة ومودة وحماية من الخوف والجوع ، إنه لو كان في الأمر استبداد وتسلط من الرجل على المرأة لكان يحق للرجل أن يمد يده إلى مال زوجته أو يمنعها من أن تتاجر بمالها والإسلام يمنعه من ذلك ، أو أن يجبرها على تغيير دينها والمعروف ان الإسلام أباح للمسلم أن يتزوج النصرانية واليهودية مع احتفاظ كل منهما بدينه . إن هذه القوامة مبنية على كون الرجل "هو المكلف الإنفاق على الأسرة ، ولا يستقيم مع العدالة في شيء أن يكلَّف فرد الإنفاق على هيئة ما دون أن يكون له القيام عليها والإشراف على شئونها ، وعلى هذا المبدأ قامت الديمقراطيات الحديثة ، ويلخص علماء القانون الدستوري هذا المبدأ في العبارة التالية : "من ينفق يشرف "أو "من يدفع يراقب " . هذا هو الأصل ، الزوج ملزم بالعمل والمرأة ليست كذلك ، إذا أحبت عملت وإذا كرهت جلست ، وما أجمل ما قالته إحدى الكاتبات المشهورات "أجاتا كريستي "حيث قالت : "إن المرأة مغفلة : لأن مركزها في المجتمع يزداد سوءاً ، يوماً بعد يوم ، فنحن النساء نتصرف تصرفاً أحمق ، لأننا بذلنا الجهد الكبير خلال السنين الماضية للحصول على حق العمل … والمساواة في العمل مع الرجل، والرجال ليسوا أغبياء فقد شجعونا على ذلك معلنين أنه لا مانع مطلقاً من أن تعمل الزوجة وتضاعف دخل الزوج . ومن المحزن أننا أثبتنا ، نحن النساء، أننا الجنس اللطيف ، ثم نعود لنتساوى اليوم في الجَهْدِ والعرق اللذين كانا من نصيب الرجل وحده " . -4- تعدد الزوجات يعترض أنصار حقوق المرأة على نظام تعدد الزوجات الذي يقره الإسلام ويعتبرون أن فيه إهداراً لكرامة المرأة وإجحافاً بحقها واعتداءً على مبدأ المساواة بينها وبين الرجل ، إضافة إلى أن في هذا الأمر مدعاة للنزاع الدائم بين الزوج وزوجاته وبين الزوجات بعضهن مع بعض فتشيع الفوضى ويشيع الاضطراب في حياة الأسرة ، ولذلك هم يَدعون إلى التأسي بتركيا وتونس اللتان ألغتا نظام التعدد وفرضتا نظام آحادية الزواج ، مع أن هؤلاء الأشخاص لو اطلعوا على إحصاءات المحاكم في هاتين الدولتين لبدلوا رأيهم أو بعضاً من آرائهم . إن أبرز نتائج إلغاء نظام التعدد نورده على لسان الغربيين أنفسهم الذين يؤكدون على الخلل الذي أصاب المجتمع نتيجة تزايد عدد النساء بشكل عام حيث تزايد هذا العدد إلى ثمانية ملايين امرأة في أميركا، وقد أرسلت فتاة أميركية اسمها "ليندا "رسالة إلى مجلس الكنائس العالمي تقول فيها :"إن الإحصاءات قد أوضحت أن هناك فجوة هائلة بين عدد الرجال والنساء فهناك سبعة ملايين وثمانية آلاف امرأة زيادة في عدد النساء عن عدد الرجال في أميركا ، وتختم رسالتها قائلة : أرجوكم أن تنشروا رسالتي هذه لأنها تمس كل النساء ، حتى أولئك المتزوجات ، فطالما أن النسبة بين الرجال والنساء غير متكافئة ، فالنتيجة الأكيدة هي أن الرجال سيخونون زوجاتهم ، حتى ولو كانت علاقتهم الزوجية قائمة على أساس معقول " . إن تزايد عدد النسوة عن عدد الرجال له مبررات عدة منها ما هو طبيعي ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو خاص . أما المبررات الطبيعية فتتمثل في القوانين التي تخضع لها الفصيلة الإنسانية فيما يتعلق بالنسبة بين الذكور والإناث ، فيما ترجع أهم المبررات الاجتماعية إلى أمرين : أحدهما يعود إلى أعباء الحياة الاجتماعية وتوزيع الأعمال بين الجنسين وكل ذلك يجعل الذكور أكثر تعرضاً للوفاة من الإناث وأقصرَ منهن أعماراً ، وثانيهما أن الرجل لا يكون قادراً على الزواج بحسب الأوضاع الإجتماعية إلا إذا كان قادراً على نفقات المعيشة لزوجته وأسرته وبيته في المستوى اللائق به...على حين أن كل بنت تكون صالحة للزواج وقادرة عليه بمجرد وصولها إلى سن البلوغ . بينما تتمثل المبررات الخاصة فيما يطرأ أحياناً على الحياة الزوجية من أمور تجعل التعدد ضرورة لازمة فقد تكون الزوجة عقيماً ، أو قد تصير إثر إصابتها بمرض جسمي أو عصبي أو بعاهة غير صالحة للحياة الزوجية . فأي الأمور أصلح للزوجة أن تَطَلَّق وهي مريضة تحتاج إلى العناية والاهتمام وينعت الرجل حينذاك بالصفات الدنيئة من قلة الوفاء والخِسَّة ، والمثل المعروف يقول "أكلها لحمة ورماها عظمة "أم يكون من الأشرف للزوجة أن يتزوج عليها مع احتفاظها بحقوقها المادية كافة ؟ إن نظام التعدد نظامٌ اختياريٌ وليس إجبارياً وهو لا يكون إلا برضا المرأة ، هذا الرضا الذي يحاول كثير من الناس أن ينزعه عن الفقه الإسلامي مدعين بأن الإسلام حرم المرأة من حقها في اختيار الزوج ، إلا أن نظرةً إلى هذا الفقه تشير إلى اتفاق الفقهاء على أن المرأة البالغة الثيّب يُشترط إذنها ورضاها الصريحين قبل توقيع العقد ، وهذا النوع من النساء هن في الغالب من يرتضين أن يكن زوجات ثانيات ، أما المرأة البالغة غير الثيِّب فقد اتفق الفقهاء على أن سكوتها المنبئ عن الرضا يجزئ في صحة العقد ، أما إذا كان هناك قرينة على رفضها فهناك خلاف بين الفقهاء ، يقول الأحناف أنه لا يجوز لوليها أن يزوجها ، بينما قال الشافعية أنه يجوز لولي الإجبار وهو ( الأب أو الجد ) أن يزوجها ولكن بشروط منها : 1-أن لا يكون بينه وبينها عداوة . 2-أن يزوجها من كفء ، والكفاءة معتبرة في الدين والعائلة والمستوى الاجتماعي . 3- أن يكون الزوج قادراً على تسليم معجل المهر . كل هذا يصح به العقد وإن كان يفضل أن يتخير لها الولي من ترتضيه. أما بالنسبة للزوجة الأولى فإن الإسلام لم يحرمها رضاها بالزوجة الثانية إذ أباح لها الإسلام إذا كرهت زواج زوجها عليها أن تشترط ذلك عند العقد ، فتحمي بذلك نفسها من التجربة . هذا من وجهة النظر الشرعية أما من ناحية الواقع فإن "الإحصاءات التي تنشر عن الزواج والطلاق في البلاد العربية الإسلامية تدل على أن نسبة المتزوجين بأكثر من واحدة نسبة ضئيلة جداً لا تكاد تبلغ الواحد بالألف . والسبب في ذلك واضح ، وهو تطور الحياة الاجتماعية ،وارتفاع مستوى المعيشة،وازدياد نفقات الأولاد في معيشتهم وتعليمهم والعناية بصحتهم "، إضافة إلى خوف الزوج وخاصة المتدين من عدم العدل بين الزوجات ، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ( خديه ) ساقط ) . وفي ختام موضوع تعدد الزوجات نؤكد على أن طرح رفض تعدد الزوجات إنما يخدم أهدافاً غربية تقوم على تحديد النسل بغية إضعاف أمة الإسلام وتقليل عدد أبنائها بحيث لا يشكلون قوة لا يستهان بها في المستقبل . 5-الإرث إن المطالبة بالمساواة في الإرث بين الرجال والنساء أمر غير غريب على الإسلام بل إن بوادر هذا الأمر بدأت منذ نزول الوحي ، فقد جاء في إحدى الروايات عن أسباب نزول الآية 32 من سورة النساء في قوله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ، واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما ) أن أم سلمة رضي الله عنها قالت "يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث " . فلأول وهلة قد يبدو أن الإسلام ظلم البنت إذ جعل لها نصف حظ أخيها من تَرِكَة الأب ، إلا أن هذا الأمر ينافي الواقع إذ إن الإسلام كلف الرجل بما لم يكلف به المرأة فهو المسؤول عن نفقتها ونفقة عياله وحتى أخواته إذا لم يكن لهن معيل ، بينما لم يكلف الشرع المرأة بأية مسؤوليات ، فالمال الذي ترثه من أبيها يبقى لها وحدها لا يشاركها فيه مشارك ، فنصيب الابن "معرض للنقص بما ألقى عليه الإسلام من التزامات متوالية متجددة ، ونصيب البنت معرض للزيادة بما تقبض من مهور وهدايا" . أما حجة نساء اليوم بأن المرأة تعمل وتنفق على بيتها كالزوج وتشاركه في الأعباء فلهذا انتفى الحكم التاريخي لهذه الآية ، هذا القول هو أمر مرفوض شرعاً حتى لو اتفق الزوجين على كتابة شرط عمل المرأة في العقد صح العقد وبطل الشرط بخلاف بعض القوانين الغربية ومنها القانون الفرنسي الذي يشترط مساهمة الزوجة في النفقة . ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن قاعدة التنصيف في الإرث المبنية على قوله تعالى : ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) ليست قاعدة مطردة ، لأن هناك حالات يتساوى فيها الذكر والأنثى كما في حال تساوي نصيب الأب وهو ذكر مع نصيب الأم وهي أنثى في ميراث ابنهما . 6- الشهادة تطالب الجمعيات النسائية بتعديل القانون اللبناني منسجماً مع الاتفاقيات الدولية التي تدعو إلى إعطاء المرأة الأهلية الكاملة في مركزها وحقوقها القانونية ، وهم يرون أن الإسلام يقف عائقاً أمام تساوي الرجل والمرأة في الشهادة معتبرين أن "قضية الشهادة هذه منافية لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة ، وأنها مظهر آخر من مظاهر الدونية للمرأة في الشريعة الإسلامية"وللرد على مزاعمهم نؤكد على أن التمييز في الشهادة بين الرجل والمرأة ليست مطلقة بل هي تختلف من حالة إلى أخرى ، وهي على أقسام : 1- شهادة التي لا يقبل فيها شهادة المرأة مطلقاً وهي شهادة القصاص والحدود ذلك لأن هذه القضايا تثير موضوعاتها عاطفة المرأة ولا تقوى على تحملها. 2- شهادة المبايعة والمداينة وهي التي يُطلب فيها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين بناء على قوله تعالى : (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما تذكر إحداهما الأخرى ) وهذا التمييز في هذا النوع من الشهادة ليس تمييزاً عبثياً وإنما يعود إلى الفوارق الفطرية والطبيعية بين الرجل والمرأة ، حيث أن المرأة لقلة اشتغالها بالمبايعات معرضة أكثر من الرجل للضلال الذي هو نسيان جزء وتذكر جزء آخر ، ويعود سبب ضلال المرأة أكثر من الرجل إلى طبيعة تركيبة جسمها الذي يجعلها تتأثر بسرعة مما يعرضها لعدم الثبات. 3- شهادة اللعان التي تتساوى فيها شهادة الرجل وشهادة المرأة كما في حال اللعان، وهي الحالة التي يحصل فيها اتهام بالخيانة الزوجية ، قال تعالى : (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ) . 4- شهادة الولادة وإحقاق النسب للمولود والرضاعة كلها شهادات التي تنفرد فيها المرأة دون الرجل ، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "فقد روي عن عقبة بن الحارث، أنه تزوج أم يحيى بنت أبي أهاب . فجاءت امرأة وقالت : "لقد أرضعتكما "فسأل عقبة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كيف وقد قيل ؟ ففارقها عقية ، فنكحت زوجاً غيره " . يتبين لنا مما سبق أن وجوب وجود امرأتين في الشهادة مع رجل واحد ، هو أمر خاص في المداينة فقط دون سائر أنواع الشهادات مما ينفي وجود تمييز في الحقوق بين الرجل والمرأة ومما ينفي المساس بكرامة المرأة بل جُلَّ ما في الأمر أن الدين الحنيف يهدف إلى توفير الضمانات في الشهادة وزيادة الاستيثاق لإيصال الحق إلى أصحابه . الخاتمة إن الإسلام أعطى المرأة حقوقاً وفرض عليها واجبات يجب عليها مراعاتها عندما تطالب بأي حق يمكن أن لا يتناسب مع ما فرضه عليها الإسلام ، من هذه الحقوق تلك التي تطالب الاتفاقيات الدولية بها والتي يتعارض تطبيقها مع الشريعة الإسلامية في عدة نواح منها: 1- كونها لا ترضي المرأة المسلمة لأن جُلَّ ما تطالب به من حقوق قد مارستها المرأة المسلمة منذ أربعة عشر قرناً . 2- إن الحقوق التي شرعها الإسلام للمرأة هي ثابتة لأنها موثقة بآيات قرآنية وبأحاديث نبوية شريفة وهي بالتالي ملزمة للرجل والمرأة على حد سواء . 3- إن هذه الاتفاقيات أغفلت ناحية هامة هي الناحية الروحية والعقائدية . 4- إن حقوق المرأة في الاتجاهات الدولية هي حقوق غير ثابتة لأنها من وضع الإنسان . 5- إن هذه الاتفاقيات بمجمل موادها أغفلت الخصائص المميزة لكل شطر من شطري النفس الواحدة أعني الذكورة والأنوثة والاختلافات الجسدية والفيزيولوجية منها . في الختام ، ندعو الله سبحانه وتعالى أن يثبت المرأة المسلمة على دينها ويهديها إلى ما يحاك لها من مؤامرات تهدف إلى تدميرها عبر تدمير أسرتها ودفعها إلى مخالفة فطرتها، فالاتفاقيات الدولية لا تهتم بسعادة المرأة أو شقائها وإنما تهتم بقضايا أكبر تطال الدول الكبرى التي وضعتها والتي من أهمها تحديد النسل في الدول النامية حتى لا تشكل في المستقبل قوة تشكل خطراً عليها ، وهذا الأمر أكد عليه "هنري كيسنجر "مستشار الرئيس الأميركي الأسبق عام 1974م. عندما قال : "إن هناك 13 دولة من بينها ست دول مسلمة ذات كثافة سكانية عالية وللولايات المتحدة فيها مصالح سياسية واستراتيجية ، لهذا لا بد من تنفيذ سياسات لخفض سكانها حتى لا تصبح أكثر قوة مما هي عليه الآن " . هذا ما يخطط لنا فهل من يسمع أو يعتبر ... والسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.
إفتراءات يوصم بها الإسلام-3 حد الردة
حد الردة بين أئمة المسلمين وشبهات المحدَثين
عبد الرحمن بن صالح السديس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وسلم، أما بعد فترى بين الفينة والأخرى حديثا عن حكم قتل المرتد، وتشكيكا في هذا الحكم وإيرادا للشبهات عليه، وهذه إشارة لطيفة لبعض الأدلة في الموضوع ربما لم يطلع عليها البعض.1- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة » رواه البخاري ومسلم وغيرهم.2- وعثمان بن عفان رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل دم المسلم، إلا بثلاث: إلا أن يزني وقد أحصن فيرجم، أو يقتل إنسانا فيقتل، أو يكفر بعد إسلامه فيقتل» رواه عبد الرزاق والنسائي بإسناد صحيح، وجاء أيضا معناه عن عائشة رضي الله عنها.وهما نصان ظاهران في أن المرتد حلال الدم.2- وعن عكرمة، أن عليا رضي الله عنه، حرَّق قوما، فبلغ ابن عباس رضي الله عنهما فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعذبوا بعذاب الله»، ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه». رواه البخاري وغيره.وهذا نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المرتد مأمور بقتله، وفي هذه الرواية تطبيق أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لهذا الحكم بمحضر من الصحابة التابعين، وإقرار من ابن عباس لقتلهم لكن بغير التحريق.3- في صحيح البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى الأشعري رضي الله عنه واليا إلى اليمن، ثم اتبعه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فلما قدم عليه ألقى أبو موسى وسادة لمعاذ، وقال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال معاذ: ما هذا؟ قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله ـ ثلاث مرات ـ فأمر به فقتل».وهذا نص أيضا أنه حكم الله ورسوله، وتطبيق له من أئمة علماء الصحابة.4- عن أبي هريرة، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه وحسابه على الله»، فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر: «فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق» رواه البخاري ومسلم وغيرهم.وهذا إجماع من الصحابة في استحقاق المرتدين عن بعض شرائع الإسلام كالزكاة للقتال، فكيف بمن رفض الدين كله.5- عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن أبيه ، قال: أخذ ابن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق؛ فكتب فيهم إلى عمر فكتب إليه: «أن اعرض عليهم دين الحق, وشهادة أن لا إله إلا الله فإن قبلوها = فخل عنهم ، وإن لم يقبلوها = فاقتلهم ، فقبلها بعضهم = فتركه ، ولم يقبلها بعضهم = فقتله» هكذا رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح، وروي نحوه أنه كتب لعثمان.وهذا نص أيضا من عمل أئمة علماء الصحابة وتطبيق للحكم بلا نكير.6- وعن أبي عمرو الشيباني، قال: أتي علي بشيخ كان نصرانيا؛ فأسلم ، ثم ارتد عن الإسلام ، فقال له علي: «لعلك إنما ارتددت لأن تصيب ميراثا ، ثم ترجع إلى الإسلام؟» قال: لا ، قال: «فلعلك خطبت امرأة فأبوا أن يزوجوكها ، فأردت أن تزوجها ، ثم تعود إلى الإسلام؟» قال: لا ، قال: «فارجع إلى الإسلام» قال: لا ، أما حتى ألقى المسيح فلا ، قال: «فأمر به فضربت عنقه ..» رواه عبد الرزاق. بإسناد صحيح، وجاء معناه من عدة طرق.وغيرها من النصوص والآثار عن الصحابة والتابعين تركتها اختصارا، في أن حكم المرتد، القتل بعد الاستتابة إن لم يرجع للإسلام.فهذه نصوص صحيحة صريحة متواترة المعنى على هذا الحكم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطبيقات له من خلفائه الراشدين وأئمة الصحابة وعلمائهم، وغيرها مما تركت نقله عن التابعين والأئمة، وفي أزهى عصور الإسلام وأكملها وأشدها قوة وانتشارا وعزة ورفعة.وقد نقل إجماع العلماء على ذلك جمع من أكابر أهل العلم، قال ابن عبد البر: «من ارتد عن دينه حل دمه وضربت عنقه والأمة مجتمعة على ذلك»، وقال ابن قدامة: «أجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد»، وغيرهم ممن نقل الإجماع.إذا تقرر هذا من نصوص النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل خلفائه، والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين على مر الأعصار، ومختلف الأمصار = تبين لك أن هذا هو الحق بلا مرية.وأنه لا يمكن أن يكون الحق غائبا عن الأمة والأئمة كل هذه الدهور، وكانت الأمة التي هي خير الأمم وأهداها في ضلال عن حكم الله، حتى جاء بعض المعاصرين فاكتشف أن هذا القول باطل، وأنهم لم يفهوا القرآن وأن هذا الحكم مخالف لنص قطعي الدلالة، وهو قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)!سبحان الله كيف تكون قطعية الدلالة، ويجمع العلماء على ترك العمل بها؟!نعم هي قطعية الدلالة على أنه لا يُكره أحد على الدخول في الإسلام، فهذا محل إجماع بين العلماء.لكن مسألتنا هنا غير هذه، فالكلام في عقوبة من دخل في الإسلام، ثم ارتد عنه، لا في أنه لا يجبر أحد في الدخول فيه، فهذا ليس في الآية دلالة عليه لا قطعية ولا ظنية.والنصوص متكاثرة جدا في إثبات معاقبة المسلم الذي يترك الواجبات؛ كالصلاة والزكاة والصيام، أو يفعل المحرمات كالزنا وشرب الخمر، أفيعاقب على هذه المحرمات ولا يعاقب على الكفر الذي هو أشد منها وأعظم بالإجماع؟! أي تناقض هذا؟!ثم ذهبوا يحشدون من الشبهات على هذا الحكم حشدا، ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ قال: «اعلم أنه ما من: حق ودليل إلا ويمكن أن يرد عليه شُبه سوفسطائية؛ فإن السفسطة: إما خيال فاسد، وإما مُعاندة للحق، وكلاهما = لا ضابط له؛ بل هو بحسب ما يخطر للنفوس من: الخيالات الفاسدة، والمعاندات الجاحدة».وصدق وبر، فكل حكم ودليل يستطيع المجادل أن يشغب عليه بأنواع من الاعتراضات تغر بعض من يتأثر بالضجيج، ومن ليس عنده تأصيل علمي.فإن قيل فما الحكمة من حد الردة؟ فالجواب:أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه.."فهذا المرتد كان قد عصم دمه بالتوحيد؛ فإذا فارقه رجع دمه كما كان، والردة أعظم الجرائم وأشنعها، ومجاهرته بهذه الجريمة، واستخفافه بهذه العقيدة، ونقضه للعهد الذي التزمه، وثباته على الردة وعدم رجعوه إذا استتي = يجعله مستحقا لأعظم عقوبة، فإن جنايته هذه أيضا تشككك ضعاف المسلمين في دينهم، وتجرأ الناس على الإنسلاخ منه، كما أن تجرأ منافقي الكفار بإعلان الإسلام ثم الارتداد عنه إن لم تكن هناك عقوبة، قال تعالى:{وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (72) سورة آل عمران.ويكفي المسلم العاقل أن يقف دقيقة ويتأمل:هل يمكن أن يغيب الحق عن الأمة المشهود لها بالخيرية على مر عصورها، حتى يكتشفه من ليس له قدم صدق في الأمة: علما ولا عملا، بل عامتهم ممن يضيق بالأحكام التي لا ترضي كفرة الغرب، فيتسلطون عليها بالتأويل الذي هو من جنس تأويل الرافضة والقرامطة وسائر أصناف أهل البدع لشرائع الإسلام؟!هذه إشارة، والموضوع قد كتب فيه كثيرا.والله أعلم.
إفتراءات يوصم بها الإسلام-4 قردة زانية
قِرْدَةٌ زَانِيَةٌ
يحيى بن موسى الزهراني
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه .
تزوج قرد ! وماذا تعتقدون أنه تزوج ، أكيد مقرودة مثله ، قردة طبعاً ، يعني راح يتزوج غزالة مثلاً ، المهم حصل الزواج ، وفي يوم من الأيام والقردة في أحضان زوجها القرد ، جاءها قرد شاب صغير شقي لعَّاب ، وغمزها ، فانتبهت ، فأشار إليها _ يعني الحقي بي _ فانسلت بهدوء من بين أحضان الزوج الغافل النائم ، ولحقت بذلك القرد الشاب ، فهربا بعيداً جداً ، حيث حصلت الخيانة الزوجية هناك ، فزنيا _ والعياذ بالله _ ثم عادت إلى زوجها ، وأخذت مضجعها بين يديه ، وبينما هي تفعل ذلك ، إذ انتبه الزوج لها ، فاستيقظ من نومه ، وإذا به يشم رائحة غريبة ، فصاح وصرخ مستنجداً بمن حوله ، فأتت القرود من كل حدب وصوب ، وبدأت القرود في التحقيق مع القردة الزانية حتى اعترفت بفعلتها الشنيعة ، ثم أتوا بالقرد الذي زنا بها ، وحفروا لهما حفرة فوضعوهما فيها ، وقام الجميع برميهم بالحجارة حتى الموت .
هذه القصة ليست من نسج الخيال ، أو ضرب من الأمثال ، بل هي قصة صحيحة موجودة في صحيح البخاري مختصرة ، وفي غيره مطولة ، رواها عمرو بن ميمون رضي الله عنه ، وهو صحابي جليل ، والصحابة كلهم عدول ، كما هو معلوم عند العلماء وغيرهم ، حتى قال عمرو بن ميمون رضي الله عنه : لقد رجمتهما مع القرود ، وإليك حديث البخاري :
عن عمرِو بن مَيمونٍ رضي الله عنه قال : "رأيتُ في الجاهليةِ قِردةً اجتمعَ عليها قِرَدةٌ قد زَنَت فرَجموها، فرَجمتها معهم " [ أخرجه البخاري ] .
وللعلماء مع هذا الحديث كلام ، ولي مع هذه القصة وقفات :
الوقفة الأولى : تحريم الزنا :
الزنا حرام ، وفيه تعد لحدود الله تعالى ، وهو جريمة بشعة ، فيه اختلاط الأنساب ، وضياع الأسر ، وتفرق الأبناء ، ولم يُحل في ملة قط ، لفظاعته وبشاعته وقذارته ، ولقد جاءت الأدلة من كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإجماع الأمة على تحريمه ، وتجريم فاعله ومرتكبه .
قال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } [ الإسراء32 ] ، وانظر إلى قوله تعالى : { ولا تقربوا الزنى } ، ولم يقل سبحانه : { ولا تزنوا } ، لأن التحذير من قرب الزنا ودواعيه ودوافعه أبلغ في الزجر والنهي .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان68 ] .
فالذين يوحدون الله ، ولا يدعون ولا يعبدون إلهًا غيره ، ولا يقتلون النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بما يحق قتلها به : من كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد زواج ، أو قتل نفس عدوانًا ، ولا يزنون ، بل يحفظون فروجهم , إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، ومن يفعل شيئًا من هذه الكبائر يَلْقَ في الآخرة عقابًا أليماً شديداً .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ " [ متفق عليه ] .
قال ابن المنذر رحمه الله في كتاب الإجماع : "وأجمعوا _ أي العلماء _ على تحريم الزنا " [ 160 ] .
الوقفة الثانية : عقوبة الزاني والزانية في الدنيا :
نظراً لأن الزنا كبيرة من كبائر الذنوب ، وعظيمة من عظائم الخطوب ، فإن جل وعلا رتب عليه عقوبة في الدنيا ، فالزاني إما أن يكون أعزباً أو متزوجاً .
فإن كان أعزباً وزنا فإنه يقام عليه الحد ، بجلده مائة جلدة ، ويسجن ويبقى في غياهب السجن مدة من الزمن كما يحكم عليه القضاء ، فإن تكرر منه الفعل فإنه يرجم .
قال تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ النور2 ] .
أما إذا كان الزاني _ الزانية _ متزوجاً فإنه يرجم حتى الموت .
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ : رَأَيْتُ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ جِيءَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، رَجُلٌ قَصِيرٌ أَعْضَلُ ، لَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ ، فَشَهِدَ عَلَىٰ نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ زَنَىٰ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : "فَلَعَلَّكَ ؟ "قَالَ : لاَ وَاللّهِ إنَّهُ قَدْ زَنَى الأَخِرُ ، قَالَ : فَرَجَمَهُ ، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ : "أَلاَ كُلَّمَا نَفَرْنَا غَازِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ، خَلَفَ أَحَدُهُمْ لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التَّيْسِ، يَمْنَحُ أَحَدُهُمُ الْكُثْبَةَ، أَمَا وَاللّهِ إنْ يُمْكِنِّي مِنْ أَحَدِهِمْ لأُنَكِّلَنَّهُ عَنْهُ " [ أخرجه مسلم ] .
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " [ أخرجه مسلم ] .
ففي الزنا تحد لقوة الله وقدرته وجبروته وبطشه ، وارتكاب نهيه ، فمن حكمة الله تعالى أنه لا يأخذ بالذنب لأول وهلة ، وأول مرة ، بل يملي للظالم لعله يتوب ويرجع عن غيه وفساد قلبه ، وانتكاس فطرته ، فإن لم يعد فقد أنزل الله بالعالم اليوم بلاءً يعرفه كل إنسان ، هذا البلاء سببه جريمة الزنا واللواط والشذوذ الجنسي عند الجنسين ، فما داء الإيدز إلا نذير للبشر ، لمن شاء أن يتوب أو يقع في المقدَّر ، وكم هي الإحصاءات العالمية التي تشير إلى ارتفاع معدل الإيدز في العالم نتيجة ارتكاب فاحشة الزنا _ أعاذانا الله منها _ فهذه العقوبة الدنيوية بسبب تعد الحدود الإلهية ، وفعل الفواحش الشهوانية ، والنزوات الشيطانية ، وارتكاب الجرائم البشعة الجنسية .
فقارن أيها المسلم بين لذة دقائق أو ثوان ، وعقوبة مئات السنين أو آلافها في نار جهنم ؟
وتأمل هذا الحديث العظيم في خطورة الزنا على الأمم والأفراد ، عن ابنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عنهُمَا قال : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ :"يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ! خَمْسٌ خِصَالٌ إذا ابتليتم بهن ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ : لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا ، إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلاَفِهِمْ الَّذِين مَضَوْا . . . " [ أخرجه ابن ماجة وغيره وصححه الحاكم والذهبي ، وذكره الألباني في صحيح الجامع برقم 7978 ] .
وربما سأل سائل فقال : ليس في القرآن آية تدل على الرجم ؟
والجواب : أن آية الرجم كانت موجودة في كتاب الله تعالى ، ثم نُسخت لفظاً وبقيت حكماً ، وهي قوله تعالى : { والشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذَا زَنَيا فارْجُمُوهُمَا البَتَّةَ نَكَالاً مِنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيم } [ كانت موجودة في سورة الأحزاب ثم نُسخت أي رفعت لفظاً ، وحكمها باق إلى يوم القيامة ] .
وقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَىٰ مِنْبَرِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : "إنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ ، فَكَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا ، فَرَجَمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ ، فَأَخْشَىٰ ، إنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللّهِ ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللّهُ ، وَإنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَاب اللّهِ حَقٌّ عَلَىٰ مَنْ زَنَىٰ إذَا أَحْصَنَ ، مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، إذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الإِعْتِرَافُ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
ثم اعلم أيها المسلم أن السنة جاءت لتدل على ما أجمله القرآن ، وتفسر ما أُبهم من الكتاب العزيز ، وجاءت مكملة لكثير من الأحكام التفصيلية ، ومما جاء فيها وجوب الرجم على الزاني والزانية المتزوجين ، وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً ، والغامدية ، وصاحبة العسيف رضي الله عنهم أجمعين ، ورجم اليهودي ، ثم رجم أصحابه من بعد ، وهكذا تقبلت الأمة هذا الحكم بالتنفيذ والسمع والطاعة ، وهذا محل إجماع بين العلماء لم يخالف فيه أحد البتة .
فهذا الدين محفوظ بحفظ الله له ، لا يستطيع التشكيك فيه إنسان أو جان أو شيطان ، لأن الله تعالى أنزله وتكفل بحفظه ، فلله الحمد والفضل والمنة .
فائدة مهمة :
من وقع في فاحشة الزنا ، ثم تاب وأقيم عليه الحد رجماً أو جلداً ، فهذا الحد كفارة له يوم القيامة بألا يمسه العذاب بإذن الله تعالى ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ _ صلى الله عليه وسلم _ فِي مَجْلِسٍ ، فَقَالَ : "تُبَايِعُونِي عَلَىٰ أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللّهِ شَيْئاً ، وَلاَ تَزْنُوا ، وَلاَ تَسْرِقُوا ، وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ ، فَمَنْ وَفَىٰ مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ ، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئاً مِنْ ذٰلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئاً مِنْ ذٰلِكَ فَسَتَرَهُ اللّهِ عَلَيْهِ ، فَأَمْرُهُ إلَىٰ اللّهِ ، إنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ ، وَإنْ شَاءَ عَذَّبَهُ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
الوقفة الثالثة : عقوبة الزاني والزانية في القبر :
كما أسلفت أن الزنا جريمة بشعة ، وتغيير للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها ، في الزنا إرضاء للشيطان ، وإغضاب للرحمن ، ولهذا رتب على فعل الزنا عقوبة شديدة في القبر ، وذلك بوضع الزُناة والزواني في تنور _ فرن _ أعلاه ضيق ، وأسفله واسع ، ومن أراد تشبيهاً له ، فليذهب لفرن الخبز _ التميس _ ولينظر شكله في الدنيا ، لكن فرن القبور يختلف شدة وحرارة ، فيوضع فيه أهل الزنا ، ويأتيهم اللهب من كل مكان ، يصرخون ويستغيثون ، ولكن هيهات هيهات أن ينقذهم أحد من العالمين ، ويستمر بهم العذاب إلى قيام الساعة ، فإذا قامت القيامة ، فالساعة أدهى وأمر .
عن سَمُرَة بن جنْدب رضيَ الله عنه قال : "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعني مما يكثرُ أَن يقول لأصحابِهِ : هل رأى أَحدٌ منكم من رُؤيا ؟ قال : فيَقصُّ عليه ما شاء الله أن يَقصَّ ، وإِنه قال لنا ذاتَ غَداةٍ : إِنَّه أتاني الليلةَ آتِيان وإِنهما ابتعثاني وإِنهما قالا لي : انطلِق ، وإِني انطلقتُ معهما ، وإِنا أَتينا على رجل مَضْطجع . . . إلى أن قال : "فانطلقنا فأتَينا على مثل التنُّور "، قال : وأَحسِبُ أَنه كان يقول : فإِذا فيه لَغَطٌ وأَصواتٌ ، قال : فاطلعْنا فيه فإذا فيه رجالٌ ونساء عراةٌ ، وإِذا هم يأتيهم لَهَبٌ من أسفلَ منهم ، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوا _صرخوا _ قال : قلتُ لهما : ما هؤلاء ؟ قال : قالا لي : انطلِق انطلق . . . إلى أن قال : "وأما الرجالُ والنساءُ العراةُ الذين في مثلِ بناءِ التنور فهمُ الزُّناة والزواني " [ أخرجه البخاري واللفظ له ، ومسلم ] .
ألا فاعلم أيها المسلم ، وأيتها المسلمة ، أن الوقوع في مثل هذه الجرائم العظام ، كالزنا واللواط والربا وغيرها من الكبائر ، ما هي إلا طريق سهل ميسر ومُعَبَّدٌ إلى نار جهنم والعياذ بالله ، فالنار محفوفة بالشهوات ، فمن وقع في الشهوات وقع في النار ، عَنْ أنسٍ رضي الله عنه قالَ : قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم : "حُفَّتِ الجنةُ بالمكارِهِ ، وحُفَّتِ النارُ بالشهواتِ " [ متفق عليه واللفظ لمسلم ] .
الوقفة الرابعة : عقوبة الزاني والزانية في الآخرة :
ونأتي إلى نهاية المشوار البشري منذ خليقته وحتى مماته ، ثم بعثه ونشره وحشره ، فالزاني في الدنيا إما أن يُرجم ، وإما أن يجلد ، وفي القبر مصيره تنور فيه نار محرقة تحرق الجلود والأبدان ، وتتأثر منها الأفئدة والقلوب ، وفي نهاية المشوار ، استقرار في نار جهنم إلى أمد يريده الله عز وجل ، لا يعلم مداه إلا هو سبحانه ، فربما استمر مئات السنين أو ملايين السنين ، ومع ذلك ، فالله عز وجل لا ينظر إلى الزناة يوم القيامة ، ولا يلقي لهم بالاً ، ومن لا ينظر الله إليه ، فمن يرحمه ، ومن ينقذه من النار ، وغضب الجبار .
قال تعالى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } [ الفرقان68_79 ] .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم : "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ، وَلاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : شَيْخٌ زَانٍ _ رجل كبير _ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ " [ رواه مسلم ] .
ورواه الطبراني في الأوسط ولفظه : "لاَ يَنْظُرُ اللَّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الشَّيْخِ الزَّانِي ، وَلاَ الْعَجُوزِ الزَّانِيَةِ " .
الوقفة الخامسة : أخذ الحيطة والحذر :
فأخذ الحيطة والحذر هو السبيل بإذن الله تعالى إلى إصلاح المنزل وأهله ، وفي مقابل ذلك الحذر من الشك ، فإن الشك دمار ، لاسيما إذا لم يكن له سبب ، فعلى رب الأسرة أن يسعى جاهداً لتفقد أسرته ، ولا يترك لهم الحبل على الغارب ، تسرح الأم ، ويسرحن البنات ، بلا زاجر ولا رادع .
فمن النساء من تقول لزوجها : أنها ذاهبة لزيارة جارتي ، وبعد ذلك سأسهر مع فلانة ، وإذا تأخرت اخلد أنت للنوم ، وسوف آتي متأخرة ، وربما قالت البنت مثل كلام أمها ، فهذا الأب مسؤول عما يحصل لزوجته وابنته أمام الله تعالى عن هذه الأمانة الملقاة على عاتقه ، أحفظ أم ضيع ؟
وما يدريك أيها الزوج أين تذهب زوجتك ، ومع من تتحدث ، ومن ستقابل ، وكذلك ابنتك ؟
ولا شك أن ذلك غشٌ للرعية التي بين يديه ، وسيعاقب عليها يوم القيامة عقاباً أليماً ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً ، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ ، وَهُوَ غَاشٌّ رَعِيَّتَهُ إلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ "، وفي رواية : "فَلَمْ يَحُطْهَا بِنُصْحِهِ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ " [ رواه البخاري ومسلم ] .
وكم قبضت الهيئات على نساء وبنات وهن في حالة خلوة غير شرعية مع رجال أجانب لا يمتون لهن بصلة ، فأين القوامة ؟ وأين الغيرة ؟ وأين الخوف من الله ؟
الوقفة السادسة : التحذير من أقارب الزوج والزوجة :
هناك من الأزواج من يدمر بيته بيديه ، وذلك بإدخال أقاربه أو أقارب زوجته إلى بيته في غيبته ، ولا ريب أن ذلك خطر عظيم ، فهناك من الأزواج من يأتي بأخيه ليدرس عنده ، أو يكمل جامعته ، أو غير ذلك ، ثم يقع ما لم يكن في الحسبان ، ولهذا جاء الشرع القويم ، بالتحذير من مغبة وخطورة هذا الوضع القائم في كثير من بيوت المسلمين اليوم ، بقصد العفة والشرف والثقة ، وإذا بالأمور تنتكس فطرها ، وتتغير أوضاعها ، فيجد الزوج زوجته وهي بين أحضان أخيه والعياذ بالله ، فيقول : معقول ؟ أخي ، وزوجتي ، فنقول له : نعم أخوك وزوجتك ، وما الذي يمنعهما من ارتكاب الفاحشة ، إذا وفرت أسبابها ، وأُغلقت عليهم الدور أبوابها ، وكان الشيطان ثالثهما ، وقد ضجَّتِ الصحف بخبر ذلك الرجل ، الذي أنجبت زوجته خمسة من الأبناء ، وكان أخوه يسكن معه مدة طويلة من الزمن في بيت واحد ، وفي يوم من الأيام احتاج الزوج أن يذهب إلى المستشفى لأجراء بعض الفحوصات الطبية ، ويا للمفاجأة ، فعندما هو مع الطبيب يتحدثان إذ دخل عليه أولاده عند الطبيب ، فسأله الطبيب من هؤلاء ؟ قال : أبنائي ، قال الطبيب : لا يمكن ، لأنك عقيم لا تنجب ، وعندما أُخذت عينه من الأطفال والزوج وأخوه ، اتضح أن الأبناء للأخ ، وليسوا للزوج ، وهذه قصة حقيقية وليست خرافية .
فلو أننا تتبعنا زواجر الشريعة ، وحمايتها للأسرة المسلمة ، وعنايتها بها ، وأغلقنا باب الحرام ومداخلة لسلمنا من أمور كثيرة ، ولهذا جاء في الحديث ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَىٰ النِّسَاءِ "فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ ؟ قَالَ : "الْحَمْوُ الْمَوْتُ " [ متفق عليه ] ، أتدرون من الحمو : إنه قريب الزوج ، فالأخ هو الموت هو المصيبة هو الطامة .
وربما قال قائل : أنا أُحسن إلى أخي ، بل أنت تسيء إلى أخيك ، وتعين الشيطان عليه وعلى زوجتك وقريبتك .
نعم أيها الأخوة هناك من الأزواج من بلغت به السذاجة مبلغها ، حتى أدخل على زوجته أخوه ، وابن عمه ، وابن خاله ، وابن عمها ، وابن خالها ، وغيرهم ممن هم في سن المراهقة أو أكثر منها ، فيذهب لعمله أو يخرج من بيته ويترك النار مع البنزين ، ونسي المسكين أن للشيطان مداخل ، ولهذا جاءت النصوص الشرعية بالتحذير من ذلك ، وسد الباب أمام الفواحش كي لا تقع ، قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [ الأحزاب 53 ] .
وعن بريدة رضي الله عنه قال : قاَل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : "لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ، فَإنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا " [ أخرجه الطبراني ] .
الوقفة السابعة : التحذير من دواعي الزنا :
للزنا دواع كثيرة ، ومثيرات وفيرة ، فمن أعظم ذلك الخلوة بين الرجال والنساء الأجانب .
ومن ذلك تعطر المرأة وخروجها من بيتها وهي متعطرة متطيبة .
ومن ذلك خروج المرأة من بيتها دون محرم ، لاسيما وهي بكامل زينتها .
ومن ذلك تحدثها مع الرجال الأجانب بتكسر وميوعة وخلاعة .
ومن ذلك ضحك المرأة في الهاتف مع الرجال الأجانب .
مشاهدة النساء والرجال عبر التلفاز ، فهذه المشاهد تسبب فتنة كبيرة ، وعواقب وخيمة .
ومن أعظم ذلك مشاهدة الأفلام الخليعة الفظيعة التي تجلب الشر للناس ، وتحرك مكامن غرائزهم وشهواتهم .
ومن ذلك خروج المرأة مع السائق لوحدها دون محرم ولو كان لعدة أمتار ، فالشيطان معهما وهو ثالثهما .
الخلوة بين الرجال والنساء في العمل ، ولقد أثبتت الوقائع والحوادث خطورة الوضع القائم اليوم في المستشفيات وغيرها .
وختاماً ، يا أيها الزاني ! أقلع عن الذنوب ، فلعل الله عليك يتوب ، أما تستحي حين زنيت بأمته ، أما خفت حين انتهاكك لحرمته ؟ أظننت أنك لا توقف بين يديه ؟ أم زعمت أنك لا تعرض عليه ؟ كلا ، فإنك مسؤول عن ذلك ، ومطلع على تلك المهالك .
أسأل الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وفقت في هذا الموضوع الحساس ، لتذكير من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، لينتبه لنفسه ، ويأطرها على الحق أطراً ، ويحذرها من عاقبة فعل الزنا .
ونسأل الله الثبات على دينه ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله ، والحمد لله رب العالمين .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
بأثر من قانون يحمي ملكيته الفكرية، "ميكي ماوس"يساهم في تخلف الكتاب الإلكتروني!
وعن الأشخاص الذين يسعون لتحقيق حلم جعل الانترنت مكتبة رقمية عامية، يمكن التطلّع إلى البروفسور الأميركي هارولد فارمُس، الحائز على جائزة نوبل للطب 1989. وأثناء ترؤسه "المعاهد الوطنية للصحّة" (وهي المؤسسة الأضخم عالمياً للبحوث الطبية) في تسعينيات القرن الماضي، حاول جعل الدوريات العلمية الأميركية مفتوحة أمام جمهور الإنترنت، بداية من مرور أقل من سنة على ظهورها. لكنه جوبِهَ بمقاومة شرسة، لم تُفِد إزائها المساندة التي قدمها الرئيس كلينتون. كان منطق فارمُس بسيطاً: معظم ما تنشره تلك الدوريات تأتي من بحوث تدعمها الأموال الفيدرالية العامة (أي أموال المواطنين) وتموّل علماءها أيضاً، وبالتالي يحقّ للحكومة أن تجعل تلك البحوث ملكيّة عامة، عبر تجميعها في مكتبة رقمية عامة ومفتوحة الوصول للجميع. عبثاً حاول فارمس. عبثاً سانده كلينتون. إنها قوة المال وقوة شركات الطباعة والنشر، التي تمثّل مؤسسات ضخمة. وللحديث بقيّة.
الأمير المجاهد
تأليف : محمد السويسي
أكمل الصف الخامس الإبتدائي دون نجاح وترك المدرسة وقد ملّ منها ليتعلم مهنة حدادة السيارات ولم يتم الرابعة عشرة من عمره . إلا أنه بعد عام انتقل منها الى مهنة الطرش والبويا التي لم يستمر بها أكثر من سنتين لضألة الأجر وقلة العمل ،فأشار عليه بعض رفاقه أن يلتحق معهم في أعمال العتالة في سوق الخضار في تفريغ الشاحنات وتحميلها حيث لابطالة فيها ومردودها عال .
فأعجبته الفكرة وشاركهم في مهنتهم وداوم عليها لعدة سنوات حيث كانوا يذهبون ليلاً الى مقاه داخلية يتعاطون الأركيلة والمخدرات التي أدمنها ليصبح بعد سنوات عدة عاجزاً عن القيام بمهنته في أعمال العتالة ، فأجّر عربة لبيع الخضار ، إلا أنه ظل على إدمانه المخدرات ليعتقل من قبل الشرطة في وكر خارج المدينة ليسجن وقد اتهم بالتجارة بها .
وأفرج عنه بعد ثلاث سنوات ليهيم على وجهه وقد تعافى من الإدمان الذي قرر ألا يعود اليه وقد تسبب له بالبلاء من إعتلال صحته وسجن حريته فعاد الى أعمال العتالة بعد أن قويت بنيته مع إقلاعه عن المخدرات ، إلا أنه سرعان ماترك العتالة التي أضنته ليحمل بعض المسابح بين يديه ليزاول مهنة جديدة في بيعها ويرتاد المساجد وقد أطلق لحيته مع قدوم شهر رمضان وأسبل شعره كما ابا ليلى المهلهل ، واجتهد عصراً ليستمع الى دروس رمضانية ظهر كل يوم من إمام المسجد .
إلا أنه بعد رمضان قرر ان يمتهن بيع المسابح بشكل واسع ليبتاع العديد منها مع بعض مواسير العطورات وكراسات الادعية الدينية ليستبدل ثيابه المدنية المحلية بالزي الباكستاني وقلنسوة بيضاء متخذا موقعاً له على حائط الجبانة القريبة من بيته وقد فرش بضاعته على صندوق خشبي وجده في زاوية ملقى من أحد التجار في السوق .
وظل على هذه الحال قانعاً بعمله لسنوات عدة إلى أن حلت الحروب والتقاتل في المنطقة فجاءه من فاقه لحية وطول شعر اشترى منه بعض المسابح والأذكار ونقده ثمنها خمسة أضعاف ماطلب ، فطار لبه وكاد يفقد صوابه فرحاً ، ليدعوه الى لقائه في مسجد الحي عند الغروب إن شاء .
وقد ذهب فعلاً والتقاه بعد الصلاة حيث دعاه للبقاء والإستماع الى درس ديني يلقيه أحد اصدقائه من الملتحين . وظلوا هكذا حتى العشاء وخرجا من المسجد ليتمشيا قليلاً فدعاه الضيف الى الجهاد ، فلم يمانع ، ليهديه حقيبة كانت بيده ضمت بعض الكتب الإسلامية مع ألف دولار نقداً وضعها بيده قائلاً له : أعود بعد عدة اسابيع فدع عنك بسطة المسابح وداوم في البيت ولكن أقم الصلاة في المسجد في الأوقات الخمسة منذ الفجر حيث ستجد صديقنا الذي استمعت لدرسه اليوم ، فأقرأ القرأن وتعلم قراءته وتفسيره على يديه واستمع لدروسه الدينية عند مساء كل يوم إلى أن اعود .
وافق دون تردد وقد سرته الألف دولار التي لم يسبق أن حصل عليها دفعة واحدة في حياته وودعه متوجهاً إلى بيته فرحاً ليطالع أحدى الكراسات التي وجدها في الحقيبة ليفتح أحدها عشوائياً ويقرأ عن العقيقة في ذبح كبشين للطفل بعد أيام من ولادته تقرباً من الله ، فاندهش وذهب بفكره الى ايام البسط والإنشراح في المحششة حيث كان يرنّم مع أغاني التلفزيون "على العقيقة اجتمعنا" لصباح فخري . ولم يستطع أن يميز الفرق بين عقيقة الذبيحة للطفل المولود وعقيقة المغني وتاه في الأمر حتى الصباح ؟!
عاد الشيخ بعد تسعة اسابيع وقد وجد في بائع المسابح شخصاً جديداً في البسملة والحمد عند البدء في كل قول أو حديث عدا التسبيح الدائم مع فكر جهادي اكتسبه من مواظبته طوال المدة مع مدرس الدين الذي أوكله به ، فأعجب بفكره وسلوكه أيمّ إعجاب ودعاه للمغادرة معه بعد ايام ثلاث ، على أن يلزم بيته دون حراك منذ الصباح ليأتيه احدهم من طرفه ويدعوه للذهاب ، وقد اعطاه كلمة السر للمغادرة معه ، ونقده ألف دولار أخرى ليعطيها لأهله في رحلة وداع قد تطول .
لم يطل الأمر وجاء الرجل على الموعد المحدد بعد العشاء ، الذي لم يكن قد تعرف إليه قبلاً ، ليأخذه عند الشيخ صاحبه في رحلة برية ليلية في سفر طويل قضاه صعوداً ونزولا داخل سيارة لم يدرك سبيلها واتجاهها ، إلى أن وصلا بعد مشقة مع تباشير الصباح الى المكان الموعود بين مجموعة من المسلحين بالبنادق واللحى ومختلف أنواع الأسلحة ليبيت مع رفيق سفره في بيت أرضي قروي شبه مهدم حيث تحدثا طويلاً لساعات قبل النوم طلباً للراحة من مشقة السفر . في صباح اليوم التالي ذهب به في طريق وعرة إلى الشيخ الذي جنده ، فإذا به أمير المنطقة "أبو القعقاع "فاستقبله وضمه قائلاً اهلاً "ابا الدرداء"، فكان هذا لقبه الجديد الذي عرف به في التنظم .
وفي اليوم التالي ارسله الى معسكربعيد للتدرب على فنون القتال لعدة اسابيع ومن ثم عاد إلى أميره الذي سر به فاختار له زوجة من الجوار ومن ثم عينه أميراً ومفتياً على ناحية تضم بعض القرى والبلدات ، وقاضياً وقائداًعسكرياً ليدير المعارك ضد أهل الكفر والضلال .
الإصلاحات السعودية وتأثيراتها الإقتصادية والإجتماعية
تأليف : محمد السويسي
إن المتغيرات التي شهدتها وتشهدها المنطقة العربية من ثورات شعبية على الفقر والتخلف والعوز دفعت المملكة العربية السعودية بقيادة الملك عبدالله بن عبد العزيز إلى إتخاذ تدابير مالية سريعة لتلافي وصول هذا المد الإعصاري الشعبي المدمر إليها بإقرار بعض الإصلاحات الضرورية بسخاء ظاهر وفق أوامر ملكية ملزمة .
هذه الإصلاحات لم تكن في الواقع سوى مطالب مزمنة ومحقة تم تجاهلها لعقود طويلة من الحكومات المتعاقبة ومجلس الشورى رغم حالة البؤس الظاهرة لكل زائر للمملكة التي كانت تبعث على الإستغراب من هذا التجاهل في تأمين أدنى الضمانات الإجتماعية والصحية والإيواء اللائق لفئة كبيرة المواطنين في دولة غنية بعائدات نفطها ، بما يتعارض ودستورها الإسلامي والنص القرآني في قوله تعالى : (والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم ) ]سورة المعارج : 24-25 [ .
كما ورد هذا التأكيد لإعانة فقراء المسلمين في سور عدة منها : البقرة ، الحشر ، الإنسان ، التوبة ،المؤمنون ، الأنفال ..وغيرها كثير ؛ عدا آيات الزكاة التي تحض على أعمال الخير بإعانة الفقراء والمحتاجين من المسلمين .
ولكن لابد من التساؤل عن الأسباب التي أدت إلى التأخر في إقرار هذه الإصلاحات الإجتماعية المهمة حتى الآن ، رغم التعليمات الإسلامية والنصوص القرآنية الواضحة الملزمة في هذا الشأن ؟!
لنكن منصفين ، لابد من العودة قليلاً إلى الوراء عندما تولى الملك عبد الله ولاية العهد في زمن أخيه الملك فهد بن عبد العزيز إذ دعا حينه مجلس الشورى وبعض العلماء والفعاليات الإقتصادية والمالية والعلمية للبحث في ضرورة مكافحة الفقر بدفع تعويضات بطالة للعاطلين عن العمل لقطع الطريق على تفشي الإرهاب في المملكة ، إلا أن جواب المجتمعين كان مذهلاً ومعيباً في القول بأن الإرهاب ليس من عمل الفقراء يل من عمل المتمولين الأغنياء . وقد ضلوا بهذا الرأي وزادوا الأمر سؤاً ، كالذي يقول "لاتقربوا الصلاة "، ليحرف الناس عن القيام بفرض ملزم لهم ، مع تجاهله المتعمد لبقية الآية "وأنتم سكارى " .
والواقع أن من ينادي بالإرهاب ويموله هم الأغنياء فعلاً من الدول أو المنظمات أو الأفراد ، إلا أن أعضاء مجلس الشورى نسوا أو تناسوا أن أدواته هم من الفقراء ، إذ لولا هذه البطون الجائعة لما وُجد من يحمل السلاح لقتل الناس ، بما يخالف تعاليم الإسلام وعقيدة الجهاد ، بعمل كافر صريح لشدة حاجتهم وفقرهم بما ينطبق عليه القول "كاد الفقر أن يكون كفراً"وقد أضحى كفراً فيما رأينا من أعمال إرهابية ضد بلاد المسلمين من أشخاص لايفقهون في الدين ، وإلا لما تجرأوا على الله بقتل إخوانهم من المسلمين وقد كفّروهم ، متبعين خطوات الخوارج في فجر الإسلام ، حقداً على الأنظمة والحكام بدافع الجوع والعوز وقد وجدوا لهم السند والتمويل من بعض الجهات المتعاطفة معهم مستغلين سؤ تصرف الحكام وتقصيرهم وظلمهم .
كما قرأنا وشاهدنا واستمعنا إلى ندوات ومحاضرات عدة ، لاتغنى ولا تسمن من جوع في فحواها لاقتصارها على القول دون الفعل في مكافحة الإرهاب ، إذ كانت تقوم على التثقيف والتوعية والدعوة إلى الأمن الإجتماعي دون أن يقترح أحداً من المشاركين بضرورة إقرار الضمانات الإجتماعية ودفع تعويضات البطالة للعاطلين عن العمل ، بل ومعارضة ذلك بادعاء عدم الحاجة لهذا التدبير !. وليس هذا التصرف أو الراي سوى نوع من النفاق والمخادعة لأصحاب الشأن في غير محله ،إعتقاداً منهم بأنهم بذلك يوفرون المال على الخزينة ليرضى عنهم أولي الأمر في الإستمرار بمناصبهم "حسداً من عند أنفسسهم "لمواطنيهم دون أن يدروا بأنهم بهذه المواقف الخاطئة إنما كانوا يزيدون من مخاطر الإرهاب المحتملة ضد المجتمع السعودي والوطن بتفريخ أدواته من الفقراء وإعاقة النهوض الإقتصادي في البلاد الذي من أسسه توفير السيولة والمقدرة الشرائية لدى المواطنين بدفع تعويضات البطالة أو التوظيف للعاطلين عن العمل وتأمين كافة التقديمات الإجتماعية لمن يحتاج من كافة شرائح المجتمع .
لذا فإن خطوات جلالة الملك عبدالله ،الصادرة في الصحف بتاريخ 19/3/2011 بإقرار حزمة من التأمينات الإجتماعية ، من تعويضات البطالة للعاطلين عن العمل ورفع الحد الأدنى للأجور وبناء نصف مليون وحدة سكنية للفقراء ومحدودي الدخل ، إنما كانت خطوة شخصية ذكية شجاعة وواعية من الملك تدل على حصافة وبعد نظر وقد وضعت حداً لإخفاق مجلس الشورى والمستشارين من البطانة لعدم كفاءتهم ومقدرتهم على اللحاق بموكب العصر وجهلهم بتعاليم الإسلام ومقاصد الشريعة مع معارضتهم لهذا الأمر بدعاوى مضللة وقد عرض الأمرعليهم لمرات عدة في وقت سابق ، مما يدل على خطل رأيهم في أمور كثيرة أخرى وعدم كفاءتهم كمستشارين وناصحين للنهوض بالوطن وتقدمه .
الإصلاحات والتضخم : إن أكثر دعاوى الرفض للإصلاحات الإجتماعية ودفع تعويضات البطالة وإقرار الضمان الصحي لجميع المواطنين كانت تغلف بالخوف من التضخم المالي في المملكة ، وكان يقود هذا الرأي مستشاري الملك وبعض اصحاب المال ومعظم الكتاب الصحافيين من بني جهل من المتزلفين والمتسلقين من موزعي الألقاب المجانية مع فقدانهم الوازع الوطني والديني . أما أسوأ الآراء فكانت تأتي من مجلس الشورى مع إنعدام الإحساس بالمسؤولية الوطنية لديه وعدم الإختصاص .
أما المتخصصين من حملة الشهادات العليا من الجامعات الأمريكية أو الغربية فكانوا الأسوأ بإهمالهم ، إذ لم يتقدموا على مدى عقود بأي مقترح مفيد لنهوض الوطن . ولذا فإن تخويفهم اولي الأمر من التضخم في حال إقرار التقديمات الإجتماعية وتعويضات البطالة فيدل على جهلهم المطبق وعدم إستيعابهم العلوم التي تلقوها في الإقتصاد وتقيدهم بنصوصه الجامدة دون فهم أبعادها لفقدانهم ملكة الإستنباط والبراعة في التخطيط الإقتصادي . وهم في تصرفهم هذا كما صاحب البذلة المستوردة من الخارج بقياس معين يريد إلباسها لكل الأجسام والأحجام ؟ فهل بالإمكان ذلك ؟ بالطبع لا ، إلا إذا تم تعديل قياساتها من رجل إلى آخر .
وكذلك علم الإقتصاد الذي هو علم مرن قائم بذاته ، وليس نصاً جامداً كما يعتقد البعض ، يحتاج إلى معالجة وتطوير وتعديل في كل وقت ومرحلة بما يتلائم والحاجات والمتغيرات وإلا كان الأمر سلباً في نتائجه .
إن التضخم المالي لايمكن أن ينشأ إلا بعد إشباع في مجتمع علمي وصناعي . ورغم توفر العائدات المالية السنوية للمملكة من النفط إلا أنها تفتقر إلى النهوض الصناعي وفائض الإنتاج وتنوعه بحيث أن الميزان التجاري في عجز دائم لصالح الإستيراد - إذا استثنينا النفط كسلعة نقدية مضمونة في عائداتها تستخرج دون جهد نسبياً – لذا فإن الإعتقاد الخاطىء من البعض بخطر التضخم المالي من تأثيرات هذه التقديمات الإجتماعية الملكية فأمر خاطىء يدل على عدم الكفاءة والقصور وفقدان الرؤيا .
حتى وإن تسببت هذه التدابير بالتضخم فإن الأمر قابل للمعالجة ، كما السهول العطشي إن سكبت بها كوب من الماء لإرواء عطشها فالأمر سيان إذ تحتاج إلى دفق كبير من الماء أو نهر لإشباعها لكبر حجمها واتساعها . وكذلك المجتمع السعودي بما فيه من بطالة وفقر ، فإنه لن تعيق خزينته العامة هذا التقديمات أبداً ، بل انها ستنعكس إيجاباً على كل الصعد الإقتصادية والنواحي المعيشية والحياتية . ومع ذلك فإنه لايمكن الركون لهذا الواقع المستجد، مع مرور الوقت وتغير الظروف والأحوال ، أوفي حال تراجع قيمة الصادرات النفطية إن اقتضت المصالح الغربية تخفيض أسعارالبترول للنهوض بصناعاتها .
لذا كان لابد من تحصين الوضع الإقتصادي والمالي للمملكة بانتهاج نظام ضرائبي تصاعدي ملائم في مطارحه بجباية الأموال من الأغنياء دون الفقراء بترافق مع التقديمات الأخيرة سريعاً قبل فوات الأوان من اعتياد المواطن عليها واعتبارها كمسلمات غير قابلة للإنتقاص في أي تدبير ضريبي مستقبلاً .
وهذا النظام الضريبي يجب أن يستتبعه تحصيل أموال الزكاة كفرض عين سنوياً على كل قادر بالطريقة التي اتبعها الرسول الكريم وأصر عليها أبي بكر ومن ثم الخلفاء الراشدون ومن اتبع نهجهم السليم فيما بعد . أما تركها لصاحب المال يوزعها كيفما يشاء فإنه قد ينتقص من حجمها ويسىء توزيعها على غير مقاصدها ولو بحسن نية .
وعدم تحصيل أموال الزكاة مباشرة من قبل الدولة فيه إهمال وترك لركن من أركان الدولة الإسلامية ومخالفة صريحة للسنّة النبوية التي وضعها الرسول الكريم في طريقة وأسلوب جبايتها وضمها إلى بيت مال المسلمين لتوزيعها على الفقراء وأصحاب الحاجة وفق نصوص قرآنية صريحة متعددة . إذ كان الرسول الكريم يبعث الجباة في أرجاء الجزيرة العربية لاستيفاء الزكاة من الموسرين القادرين عليها لتوزيعها وفقاً للنص القرآني الغير قابل للجدل . وقد اتبع الخلفاء الراشدون سنة الرسول في هذا الأمر ، مما يدل على أنه عمل من شأن الحاكم لرفد خزينة الدولة للنهوض بالمجتمع الإسلامي وانتشاله من الفقر والعوز والحاجة ، بحيث يتساوى الناس في الكرامة والإعتزاز في الكفاية المادية بما يبعث على الإطمئنان واستقرار الذهن بعدم الإنشغال بالأمور الدنيوية المعيشية للتفرغ لعبادة الله الواحد القهار .
إن التشدد في الجباية، من ضريبة عادية وتصاعدية ، مباشرة وغير مباشرة ،بالإضافة للزكاة، هي وسيلة فعالة لمنع التضخم المالي مستقبلاً بما يحفظ من قوة النقد ودوام التقديمات الإجتماعية واستقرار الأمن وانحسار الجريمة . إلا أن الإقتصار عليها غير كاف لبناء دولة عصرية حديثة للحاق بالدول المتقدمة ، إذ أن ذلك يقتضي تطوير الإدارة الرسمية بتفعيل دور مجلس الخدمة المدنية في إعداد وتدريب الموظفين القياديين وبالتالي تفعيل الرقابة بشكل مغاير للإسلوب المتبع حالياً لأن عملها بما نراه على أرض الواقع لم يؤد إلى النتيجة المتوخاة في وقف الفساد واستئصاله، بل زاد الأمر تفاقماً وأضحى الأمر سائباً .
لذا كان من الضروري إعادة وضع خطط جديدة للرقابة وإصلاح الإدارة وإعادة تأهيل المراقبين على أسس جدية حديثة فعالة وتطوير دورهم في مساعدة الإدارة على السلوك الإداري السليم وليس الإقتصار على العقوبات فقط . ولايمكن النجاح في تحديث الإدارة بدءاً ،إلا بالتشدد في مراقبة الدوام وتطبيقه لأنه المدخل الأساسي لحثه على الإنتظام الإداري وحسن السلوك ، كا لا يمكن تحقيق ذلك الإصلاح من داخل الإدارة لعجزها عن إدارة نفسها ، لذا كان من الأفضل خصخصة قطاع الرقابة الإدارية أو الإستعانة بالعسكريين المتقاعدين ، على أن ترفع نتائج العمل بتقارير للمحافظ الذي يتولى بدوره رفعها إلى المراجع المختصة لاتخاذ الإجراء اللازم .
المواصلات :كما ينبغي لمزيد من رفاهية المواطن وتحديث المجتمع وتطويره أن يصار إلى تحسين وسائل المواصلات باستحداث باصات نقل عام مشترك في كل المدن الر ئيسية بشكل عصري متطور ، لما في ذلك من أهمية في تسهيل عمل المواطن والتخفيف من حدة السير وكثافته بالإضافة لخط سكة حديد يربط بين المدن الرئيسية والبلدات لنقل الركاب والبضائع بما يخفض كلفة نقلها وبالتالي إنخفاض أسعارها ، وفي ذلك تعزيز لنهوض الطبقة الوسطى في تيسير أعمالها ونشاط تجارتها .
الطبقة الوسطى : إن نجاح اي خطط إنمائية للدولة والنهوض بها يعتمد بشكل كثير على نجاح أعمال الطبقة الوسطى وتسهيل عملها لميزات عدة ، إذ أنها الوعاء الأوسع لأستيعاب الأيدي العاملة والأقدر على إدارة المشاريع وإنجاحها في القطاع الخاص الذي تملكه نظراً لملكة التطور والمقدرة لديها على ضبط موظفيها وحثهم على العمل لغياب الروتين الإداري الفاسد عن إدارتها مع سرعة اتخاذ القرارات دون أي من المعوقات التي تعرف بها الإدارات الرسمية الجامدة بخلاف القطاع الخاص الذي هو في تطور دائم . لذا كان من الضروري إعتناء الدولة بهذه الطبقة بتسهيل أعمالها في التطوير وحمايتها من تعسف الإدارة الفاسدة .
الأسواق المالية أو البورصة : هنا تكمن العلة في تطور المجتمعات أو تدهورها إقتصادياً و إجتماعياً قياساً لنشاط البورصة وطرق عملها سلباً أو إيجاباً . إذ أن البورصة هي الباب الأساسي للتضخم المالي إن لم يحسن إدارتها وتنظيمها بما يحقق للمسيطرين عليها من خلف الكواليس الأرباح الطائلة بما يفيض عن حاجاتهم وبالتالي إحداث حالة من التضخم غيرمقبولة بما يعيق نهضة البلاد مع تكديس الأموال بيد فئة قليلة جعلت همها التربح من أعمال البورصة وقد جعلت من ردهاتها صالات للقمارفي أسلوب عملها بما يشبه النهب المنظم الذي يؤدي إلى شل إمكانيات الطبقة الوسطى المساهمة الرئيسية في البورصة ، وبالتالي تنامي البطالة وعرقلة النهوض الإقتصادي الوطني .
لذا فإنه لا يمكن تحقيق إصلاح البورصة إلا بالتخلي عن الأساليب البالية المتبعة في النظم الغربية كما بورصة نيويورك التي تعتمد التلاعب بأسعار الأسهم الذي يجرى بفساد معلن بقصد الربح الفاحش لصالح المهيمنين من أصحاب القرار في أسواق البورصة بأعمال الدعاية والتضليل المقصود بحيث تضيع أموال المساهمين . وبورصة نيويورك تتحمل المسؤولية المالية الأساسية في التراجع الإقتصادي في أمريكا وإفلاس المصانع وتضخم والأجور .
ولن تتمكن أمريكا من إستعادة وضعها الإقتصادي أو المالي وتقليص البطالة فيها وإعادة النهوض بصناعاتها إلا بتثبيت أسعار الأسهم عند طرحها ومنع التلاعب أو المقامرة بها حتى لايضيع مال صغار المساهمين . وهذا مايجب أن تفعله الدول العربية بتثبيت أسعار الأسهم لديها إذا كانت تسعى للنهوض بإقتصادها على كل الصعد ، وهو قرار ليس هين إذ أن كبار الأغنياء بما جمعوا من مال بمختلف الأساليب الفاسدة وشراكتهم مع الطبقة الحاكمة في أغلب الأحيان ،فإنهم ما زالوا أصحاب القرار الأقوى في الضغط من أجل مصالحهم في إبقاء أسواق البورصة على ماعليه من فساد ونهب لأموال المساهمين غير عابئين لابالشعب او الوطن ، وتلك علة وتركة ثقيلة في إبقاء الدول العربية على حالة من التخلف لن تعرف نهايتها .
صفيّة وبائع الغريبة / حكاية مدينة
تأليف : محمد السويسي
كان الباعة الجائلين او الجوالين من الذين يحملون بضاعتهم على العربة أو في صدور نحاسية أو فرش خشبية على رؤوسهم ، كثرٌ في المدينة ، ينشطون من الصبح حتى الظهر ، وبعضهم حتى العصر إلى أن ينفقوا بضاعتهم ليعود كل منهم الى موقعه الذي انطلق منه ليعد بضاعة جديدة يعرضها في اليوم التالي . وهكذا دواليك لتأمين قوته وقوت عياله يوماً بعد يوم .
وسأقتصر في الحديث عن "شكيب "بائع الغريبة الشهير في طرابلس الفيحاء وقتذاك ، من خمسينات القرن المنصرم ، الذي كان يبدأ ببيع بضاعته من "الغريبة" بدءاً من الساعة العاشرة صباحاً ، على صدر كبير هو عبارة عن صينية واسعة من النحاس يرفعه على رأسه منادياً "هون الطيب هون ".
و"الغريبة"التي كان ينادي عليها هي نوع طيب من الحلويات بشكل اقراص صغيرة مفرطحة دائرية مصنوعة من دقيق القمح الأبيض والسمن والسكر ، وفي وسط كل قرص منها حبة صنوبر محمرة من حرارة النار وسط محيط ذهبي لذيذ الطعم مقرمش .
وكان يبدأ جولته من ساحة الدفتار بلباسه القروي حيث مسكنه في زقاق "الحمّص"منطلقاً نحو الأسواق مروراً بشارع الحتّة متابعاً سيره بمحاذاة الرفاعية ليتوقف كل بضعة أمتار لدقائق ، ينزل خلالها بضاعته عن رأسه ويضعها على محمل خشبي مربع القاعدة على قوائم أربع مستديرة عند الأعلى، متابعاً معزوفته اللازمة "هون الطيب هون " .."يالّلا بفرنك ".
وهكذا دواليك إلى أن يصل بركة الملاّحة مخترقاً سوق البازركان نهاية جولته ، حيث ينفق بضاعته ظهراً ويعود إلى مركز عمله حيث دكان صغير كان يبيت فيه إذ لاعائلة لديه .
وكان أكثر مايطيل وقفته عند منتصف سوق الصاغة حيث كانت إمرأة تطل عليه من الشباك وتناديه أن ينتظرها لشراء قرص من الغريبة ، وتنزل اليه ليعطيها قرصاً أو قرصين يلفهما في ورقة رقيقة دون أن يأخذ ثمنهما ، مما جعلها زبونة دائمة لديه تنتظره عند زاوية الزقاق الذي تسكن فيه قبل ساعة من وصوله أكثر الأحيان .
والزبونة تلك كانت إمرأة ساذجه تسكن وحيدة في بيت علوي ترقى إليه بدرج حجري ، حيث يزورها كل اسبوع تقريباًبعض النسوة من أهلها يحملون إليها الطعام ويعطونها بعض الدراهم لتشتري ماتحتاجه إن تأخروا عنها لسبب ما .
مرت سنوات على هذه الحال قبل ان تتعرف "صفيّة "على بائع الغريبة ، ولكن بعد أشهر من توطد علاقتها به بما يحسن به اليها من الغريبة ، تورّم بطنها وانتفخ ، مما أثار علامات الإستفهام والإستغراب في السوق ولدى أهلها الذين قلقوا عليها ليخبرهم الطبيب المختص انها حبلى ؟! فطار صوابهم وأقاموا الدعوى لدى مخفر الشرطة ضد مجهول ، لتأتي المباحث للتحقيق في السوق على مدى أسابيع دون جدوى ؛ إذ كانت صفيّة على سذاجتها لاتفقه معنى الأسئلة الموجهة اليها وترفض الإجابة عليها ملتزمة الصمت ، مما زاد من الحيرة .
إلا أن أحد رجال التحري كان ملحاً في اكتشاف سر هذه المرأة فانتظر حتى أغلق السوق ليأتي اليه مراقباً مدخل منزلها عن بعد جالساً على الأرض كالمتسولين ، إلى أن رأى أحدهم يدلف في العتمة في الزقاق ويصعد في السلم نحو بيت صفيّة ليدق عليها الباب طرقاً خفيفاً لتفتح له ويدلف الى الداخل دون أن ينتبه أنه مراقَب .
لم يحرك التحري ساكناً ، إلا أنه صعد منطلقاً في العتمة واستند الى الحائط بجانب باب البيت دون حراك لساعة من الوقت إلى أن خرج الرجل ليمسك به التحري من خناقه ويعيده من حيث خرج ، ولتصرخ صفّية به محاولة تخليصه منه صارخة : أترك زوجي ؟؟
ولم يتلق الرجل أكثر من صفعة واحدة ليقر ويعترف انه صاحب حملها ، وليتبين أنه "شكيب"بائع الغريبة ؟.ولما لم يكن الرجل يحمل اي وثيقة تثبت زواجه منها فقد أخذه التحري إلى المخفر لأنتهاك عرض إمرأة مستغلاً سذاجتها .
ولكن في الصباح انتهى الأمر بالزواج بشكل رسمي بحضور أهلها وأفرج عن شكيب لتلد صفيّة صبياً ربّته بمفردها لغياب أبوه الذي اختفى بعد اسابيع من هذه الواقعة .
قال الله تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونوا أَمْثَالَكُمْ) محمد : 38
(وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد : 38].
أوربا واليابان وروسيا بدأت تنقرض
فراس نور الحقمدير موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
قال الله تعالى :( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ)[ يس: 68].
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه : 124].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم) .صحيح الجامع قال الألباني عنه أن صحيح.
وقال الله تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد : 38].
ورد في تفسير الطبري حول تفسير الآيات السابقة : وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم. به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فترتدّوا راجعين عنه(يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) يقول: يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلا منكم يصدّقون به، ويعملون بشرائعه( ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) يقول: ثم لا يبخلوا بما أُمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يُؤمرون به.
لقد أرسل الله سبحان وتعالى الرسل إلى الناس وأرسل معهم الشرائع ليكونوا سعداء في الدنيا والآخرة وكان آخر هؤلاء الرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله رحمة للعالمين فمن أعرض عن هدي الله تعالى ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم عاش في ضنك وعذاب حتى يلقى الله وهو عليه غاضب وفي الآخرة عذاب أليم.
حديثنا اليوم عن الغرب الأوربي وروسيا واليابان هذه الدول التي أخذت بأسباب القوة فتقدمت وأصبحت تمسك بناصية الاقتصاد العالمي، ولكن للأسف مع كل هذا فهي تعيش في ضنك وهي مرشحة إلى الانقراض والزوال، ذلك بسبب التناقص الحاد في عدد السكان.
في الحقيقة لما تقرأ الإحصائيات تجد أنهم يسيرون نحو الهاوية والانقراض نعم الانقراض مثل ما انقرضت الديناصورات وذلك بسبب تناقص إجمالي عدد العدد السكان بشكل سنوي، طبعاً هذا ليس كلامي بل كلامهم وكلام مراكز أبحاثهم كما سوف نرى بعد قليل.
وصدق الله العظيم لما قال وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).
أسباب تناقص إجمالي عدد السكان في الغرب:
ـ انتشار الفواحش مم نتج عنها أمراض خطيرة كالايدز والسفلس وغيرها.
ـ عزوف الشباب عن الزواج حتى لا يتحملوا المسؤوليات التي تنتج عنه.
ـ إجهاض الأجنة وهي لا تزال في الأرحام للتخلص من أطفال الزنا ففي كلمة له حذر البابا بينديكت السادس عشر بابا الفاتيكان بأن القارة الأوربية سوف تموت وتنقرض إذا بقي المجتمع يتقبل الإجهاض(1) (2).
ـ عدم الرغبة في الإنجاب خوفاً من مشاركة الأولاد آبائهم في الرزق.
ـ انتشار الجريمة وعصابات السلب والقتل.
ـ انتشار أمراض السرطان بسبب أكل الخضراوات المعدلة وراثياً ذلك بعد تغير فطرة الله التي خلقها عليها.
الأرقــام تتكـلـم:
فرنسا
بلغ معدل المواليد في فرنسا 1.9 طفل لكل امرأة وهي نسبة منخفضة جداً إلى حد ما بالمقارنة مع متوسط الولادات في الاتحاد الأوروبي التي بلغت حوالي 1.5لكل امرأة.
وفي دول مثل ايطاليا واسبانيا والمانيا وبولندا تظهر البيانات أن المعدل منخفض إلى حد يبلغ 1.3
ولقد صرح رئيس الوزراء الفرنسي دو فيلبان أنه حين يتوقف أحد الأبوين عن العمل ليرعى ثلاثة أطفال فسيحصل على 750 يورو (915.6 دولار) شهريا لمدة عام وهو ما يزيد بحوالي 50 في المئة عن المبلغ الشهري الذي تحصل عليه الأُسر التي لديها طفلان لمدة ثلاث سنوات(السؤال الذي يطرح في ذهني لماذا فرنسا ودول أوربا تقدم المعونات والمساعدات للنساء عندهم للبقاء في البيوت لرعاية الأبناء والإنجاب ويطلبون من نساء العالم الإسلامي تحديد النسل والخروج إلى العمل).
وأصدرت المفوضية الأوروبية تقريراً في عام 2006 تتوقع فيه أن عدد السكان الذين هم في سن العمل في الاتحاد الأوروبي سينخفض حوالي 48 مليون نسمة أي حوالي 16 ٪ ما (بين عام 2010 وعام 2050) ، في حين أن عدد السكان المسنين سيزداد بواقع 58 مليون نسمة أي بنسبة 77 ٪. وبحلول عام 2050 سوف تنخفض نسبة الأوربيين الذين هم في سن العمل حوالي 50 ٪ أي اثنين من العمال بدلا من أربعة(3).
بوابة من القرون الوسطى هي أحد المعالم الأثرية في جنوة الإيطالية التي وصلت نسبة الوفيات فيها إلى أعلى النسب على مستوى أوربا
إيطاليا
أما إيطاليا فتقول الإحصائيات أن حوالي 25% من نساء إيطاليا لا أولاد لهم، و25% من النساء لديهم طفل واحد فقط(4).
فمدينة في شمال غرب إيطاليا اسمها ليغوريا Liguria فيها أكبر نسبة للمسنين في العالم، حيث تم مؤخراً إغلاق حوالي 10% من المدارس بسبب تناقص عدد الولادات أما مدينة جنوة Genoa الإيطالية ففيها أكبر معدل وفيات على مستوى أوربا حيث وصلت نسبة الوفيات إلى 13.7 لكل 1000 نسمة سنوياً أما معدل الولادات فهو 7.7 لكل 1000نسمة سنوياً أي أن معدل الوفيات ضعف معدل الولادات وتحاول الحكومة جاهدة تشجيع النمو السكاني بتقديم 500 يوروا أي حوالي 700دولار شهرياً لكل أسرة عندها طفلين لتشجيع النساء على الولادة والرعاية الأبناء(5)
(لقد شجع الإسلام على الولادة وإكثار النسل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم) وقال عمر بن الخطاب (وَاللَّهِ إِنِّى لأُكْرِهُ نَفْسِى عَلَى الْجِمَاعِ رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنِّى نَسَمَةً تُسَبِّحُ).
أوربا الشرقية
أما دول أوربا الشرقية فقد أصدر البنك الدولي تقريرا في 20 يونيو 2007 توقع فيه انخفاض عدد سكان جورجيا بنسبة 17 ٪ وأوكرانيا بنسبة 24 ٪ بين عامي (2007 و 2027)(6).
الشيخوخة في روسيا
أما عدد سكان روسيا فقد تناقص (من 149 مليون نسمة إلى 143مليون نسمة ) ما بين (عام 1990 إلى عام 2005) أي بمعدل 4 ٪.
البنك الدولي يتوقع أن عدد السكان سوف يتناقص إلى 111 مليون نسمة بحلول عام 2050 ، أي ينخفض حوالي 32 مليون نسمة أي 22 ٪ من السكان(7).
مخطط يوضح انخفاض عدد سكان روسيا ما بين عامي 1992 وعام 2006
وهناك دراسات أخرى تتوقع انخفاض عدد السكان بنسبة قد تصل إلى 30% في عام 2050م(8).
فمعدل الولادة في روسيا أنخفض بالمقارنة مع معدل الوفيات الذي زاد، تقول الإحصائيات (مقابل كل 100 حالة ولادة هناك 170 وفاة)(9).
تحاول الحكومة الروسية تقديم منح ومعونات للنساء لتشجيعهم على الولادة.
ويعزوا بعض الخبراء الروس سبب انخفاض الولادات إلى دخول المرأة معترك العمل.
اليابان
أما اليابان ففيها أكبر نسبة لكبار السن على مستوى العالم حيث أن 21.5 ٪ من الشعب الياباني مسن أي يزد أعمارهم عن 65 عاماً ولقد ارتفعت هذه النسبة من 26.5 مليون في عام 2006 إلى 27.4 مليون في عام 2007 أي بزيادة 7%.
مخطط يوضح التغيرات في عدد سكان اليابان والذي يشير إلى تناقص حاد في عدد السكان بدأ من عام 2005م
وزارة الصحة اليابانية توقعت أن إجمالي عدد سكان اليابان سوف ينخفض بنسبة 25 ٪ أي( من 127.8 مليون نسمة في عام 2005 إلى 95.2 مليون نسمة بحلول عام 2050) (10).
مخطط يوضح تزايد عدد الوفيات بمقارنة مع عدد الولادات الذي تناقص بشكل حاد
عند ذلك يجب على اليابان رفع سن التقاعد إلى 77 أو قبول 10 مليون مهاجر سنوياً بين عامي 2000 و 2050 وذلك سبب انخفاض نسبة عدد العمال والتقاعد.
كما أن نسبة عدد المسنين سوف يصل إلى 40 ٪ بحلول 2055.(11)
بيزنس التطرف (1)
بيزنس التطرف
أظن أن هذا النشاط أصبح من أكبر القطاعات الاقتصادية في العالم الغربي وبالذات في الولايات المتحدة حيث أن حجم المال الذي يدور في هذا المجال هو حجم خرافي.
شبكات تليفزيونية وصحف ودور نشر وإذاعات وكتب منشورة ودراسات وندوات وتبرعات الخ...
في حملة عام 1964 كان المرشح الجمهوري باري جولدووتر يمثل الاتجاه اليميني المتطرف الذي يحمل جزءا ملحوظا من العنصرية. وبالطبع فإنه في أجواء حركة الحقوق المدنية للسود وفي إطار الحرب الباردة التي كان الانتصار فيها هو الهدف الاسمي والأكثر أهمية بالنسبة للمجتمع الأمريكي قد تواري فكر التيار الرجعي العرقي المحافظ خلف أهمية لم الشمل في مواجهة خطر الحرب الباردة.
إلا أنه في عهد نيكسون وكيسنجر جاءت سياسة الوفاق بما جاءت به من قيم ونتائج جديدة تجلت علي أشدها في المرحلة الأخيرة من حرب أكتوبر حين تراجع الاتحاد السوفيتي عن إرسال قواته الي الشرق الأوسط، تلبية لدعوة الرئيس السادات للقوتين العظميين لإرسال قواتهما لمراقبة تنفيذ وقف القتال. وجاء هذا التراجع السريع عقب إعلان نيكسون حالة التأهب القصوى للقوات المسلحة الأمريكية في كل العالم بما فيها قاذفات القنابل النووية (لم تكن الصواريخ قد تطورت بعد كما هي اليوم).
الذي يهمنا هو أن هذه الحادثة قد نبهت الأنظار المحافظة في الولايات المتحدة الي ان الاتحاد السوفيتي يعاني من خلل هيكلي داخل بنيته يجعله يتحاشي أي مواجهة مع الغرب.
ومن تلك النقطة بدأ المحافظون يركزون جهدهم علي إرهاق الاتحاد السوفيتي واستنزافه لأنهم تأكدوا انه لن يحارب. وجرت الأحداث كما جرت وكما عشناها وشهدها جيلنا الي ان تم النصر للغرب عام 1991 بانقضاء إمبراطورية الشر الي غير رجعة.
فماذا كان تأثير ذلك علي تيار المحافظة في داخل امريكا؟
أظن أن أول بادرة من بوادر التعديل فى موقف التيار المحافظ داخل الولايات المتحدة كان فى التغير السريع فى النظر إلى السيد/ أوليفر نورث الذى كان يعمل فى البيت الأبيض وإستغل إتصاله بالرئيس ريجان لكى يتفق على صفقة تمويل ثوار الكونترا بأموال يحصل عليها من إيران لقاء سلاح تشتريه الأخيرة من أمريكا أو بموافقة أمريكية. وقد أثارت هذه القضية فى حينها عام 1985 زوبعة صحفية وتشريعية لأنه قد ثبت من خلالها أن إدارة الرئيس ريجان الذى بدأ عهده بالوعد والوعيد ضد حكم آية الله خمينى إن هم لم يفرجوا عن الرهائن فورا وقبل تنصيبه فى 20 يناير فجاء الإفراج بالفعل قبلها بساعات. وهذا الرئيس المستأسد يصل به الحال فى النهاية إلى عقد الصفقات الخفية مع نفس هذا النظام أولا لكى يمول نشاط جماعات الكونترا فى نيكاراجوا وثانيا كما قيل وقتها لكى يعمل على الإفراج عن رهائن أمريكيين محتجزين فى لبنان من قبل جماعات تأتمر بأمر إيران.
(ومن سخرية الأقدار أن من كان يرأس لجنة التحقيق مع نورث كان هو السناتور جون كيرى وزير الخارجية الحالى الذى عليه الآن بعد 25 عاما أن يدافع هو نفسه عن أعمال هيئة الأمن القومي فى مواجهة جميع دول العالم تقريبا وعلى الأخص فى مواجهة حلفاء الولايات المتحدة فى أوروبا على الأقل بسبب تورطها فى عمل مخابراتى آخر من نوعية أشد وطأة من عملية نورث !!).
وانتهي الأمر بتقديمه للمحاكمة بعدة جنح ثبت منها ثلاثة فقط وذلك لأسباب إجرائية وحكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ.
ولكن ما حدث بعد ذلك هو أن الرأي العام أصبح يري في نورث بطلا قوميا، رغم أنه معترف بكذبه ومعترف أيضا بأنه اتلف عمدا مستندات لكي يخفي تورطه في أعمال غير قانونية.
وبعد تحقيق النصر فى الحرب الباردة تنبهت شبكة فوكس نيوز التى تعد سفينة العلم فى حملة المحافظين الإعلامية عبر كل العالم، تنبهت فجأة إلى أن أوليفر نورث يصلح لكى يكون وجها قوميا كخبير إستراتيجى ومؤرخ ومعلق وصاحب برامج له شعبيته. رغم أن أداءه العلنى فى جلسات الإستماع فى الكونجرس وفى أثناء محاكمته كشف عن مستوى متواضع من الثقافة ومن الذكاء والمعرفة حيث أنه ذو خلفية عسكرية من سلاح المارينز الذين ينفذون الأوامر بحذافيرها بلا تفكير.
والحقيقة أن المرء يندهش من قدرة المجتمع الأمريكى على تغيير وتعديل إتجاهه فى غاية السرعة.
فالرئيس نيكسون كذب أيضا وخادع الشعب كله أمام التليفزيون وخرق القواعد القانونية ولم ينجه من السجن سوى العفو الشامل الذى أصدره الرئيس التالى له جيرالد فورد كأول قرار له فى الحكم.
ومع ذلك فقد إستغرقت إعادة تأهيل نيكسون عقدا كاملا من الزمان بل وأكثر من ذلك كانت إعادة تأهيل غير مكتملة حيث ظل كثيرون معتقدين بأنه مجرم لا يمكن قبول توبته.
أما نورث فقد ترشح فى الإنتخابات التشريعية ولكنه هزم من منافسه الديموقراطى ولم يثر أحد مسألة ماضيه وما فعل من قبل.
والواضح أنه منذ نهاية الشيوعية بسقوط الإتحاد السوفيتى فى عام 1991 وحل حزب وارسو قبلها بعام فإن الوجه المحافظ فى أمريكا قد أصبح سافرا بطريقة لم تكن موجودة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
فالسيد/ ريتشارد بيرل مساعد وزير الخارجية فى عهد جورج بوش الإبن ثبت عليه تقاضى رشاوى من إحدى شركات الإتصالات ومع ذلك لم يسمع أحد جزءا من ألف مما سمعه الناس عن فضيحة مونيكا لوينسكى مع الرئيس كلينتون قبل ذلك بعدة سنوات. رغم أن ما فعله كلينتون يقع فى باب الحياة الخاصة التى لا دخل لأحد بها سوى زوجته.
والسيد/ بول فولفوفيتز تم طرده من الإدارة وتعيينه رئيسا للبنك الدولى ومع ذلك فلم يكف عن ممارساته الغير قانونية إذ ثبت عليه ترسية أعمال على عشيقته ومنحها أموال طائلة بحكم وظيفته. ولم نسمع أى تشهير به كالذى سمعه الناس عن محل ميلاد أوباما وديانته، رغم أن هذين الأمرين أيضا لا دخل لأحد بهما.
واليوم تحول التيار المحافظ إلى تسونامى جارف فى الحياة الأمريكية وتحولت فوكس نيوز ومن يسير فى ركابها إلى رافد أساسى فى الإعلام الأمريكى وطالعتنا أشكال من نوعية سارة بيلن وآن كولتر وغيرهما ممن يتربحون من هذا التيار إما سياسيا وإما ماليا.
والواقع أن المرء لا يسعه سوى أن يتساءل عن صدق القائلين بهذه التظرات فى السياسة والإجتماع والقانون والتشريع.
فقد تولد لدى كثيرين - أنا واحد منهم بالطبع - أن هذه الأقوال والتصريحات ليس مقصودا منها التطبيق الفعلى فى الحياة عن طريق التشريع والتنفيذ ولكن المقصود منها هو التربح المالى عن طريقة إثارة الزوابع وتقليب الخواطر.
وأكبر مثال على تلك الظاهرة هى الكاتبة والناشطة والقانونية والمتحمسة الدعائية آن كولتر من مدينة نيويورك. ولا يكاد المرء يراها فى أى لقاء إلا وفى يدها أحد كتبها تشرحه وتزيد توضيح أفكاره بالتفصيل الممل وهى تعطى المشاهد الإنطباع أن شراء الكتاب فى حد ذاته وتدفق المال فى خزنة دار النشر هو أهم من معرفة ما تنادى به أو ما يقول به الكتاب. وهى فى طريقة عرضها عدائية هجومية مستفزة باللفظ والصوت وتعبيرات الوجه بل وربما بحركات الجسم.
وقد وصفت الرئيس الأمريكى بالمتخلف فى تغعريدة لها على تويتر منذ عام أثناء الحملة الإنتخابية.
وقد صرحت فى لقاء قريب أنها تنصح يهود أمريكا باعتناق الدين المسيحى حتى "يكتمل إيمانهم"حيث أنهم قد توقفوا عند "العهد القديم"ولم يكملوا دينهم بالإيمان "بالعهد الجديد".
والفكرة ليست جديدة بل نحن المسلمون نعرفها جيدا جدا منذ عهود طويلة للغاية.
ولكن الجديد هو أن تطرح بهذه الجرأة الغير مألوفة فى الولايات المتحدة أو فى الغرب عموما فى ظل قوانين تعترف بل وتفرض إحترام حرية العقيدة.
وعلى قدر ما يشعر المرء بالتقزز من الطريقة التى تعمل بها شبكات التليفزيون والصحف المحسوبة على هذا التيار، على قدر ما يتمادى أعضاؤه فى التوغل فى هذا الطريق الديماجوجى الذى يخاطب غرائز البقاء والحفاظ على النوع والتخوف من كل ما هو مختلف.
وهذا التيار متواجد أيضا فى أوروبا وله صحفه وله أحزابه، إلا أنه ليس متوغلا فى تطرفه الفكرى كمثيله الأمريكى. كما أن إرتباطه بالدين فى أوروبا أخف كثيرا جدا من إرتباط التيار الأمريكى بالدين.
فالتيار المحافظ المعادى للأجانب لا يقيم خطابه فى أوروبا على أساس كنسى أو إنجيلى أو حتى دينى، بل هو يحاجج دائما بالأسباب الإقتصادية كأكبر حجة ويدفع بنسبة ضئيلة بالأسباب القومية والحفاظ على الهوية الوطنية والخوف عليها من الذوبان. ولذلك الإختلاف أسبابه حيث أن دور الدين فى أوروبا قد حسم منذ وقت طويل ولم يعد متداخلا فى السياسة وأسس الحكم.
فلن يستطيع أحد فى ألمانيا مثلا أن يهاجم المستشار أو أحد الوزراء لأنه "مسلم متخف"كما فعل البعض مع أوباما من قبل. ولن يجرؤ أحد أن يقول أن المستشار أو أحد الوزراء لا يعرف القيم الأمريكية لأنه تربى خارج أمريكا، كما قال سونونو عن أوباما. فأنجيلا ميركل قضت 34 عاما من حياتها فى الطفولة والدراسة والشباب والعمل تحت نظام شيوعى لا علاقة له بالديموقراطية، ولم يأخذ عليها أحد ذلك.
ورئيس حزب الأحرار السابق وشريكها فى الحكم حتى سبتمبر الماضى كان أصله طفل فيتنامى تبنته عائلة روسلر الألمانية بعد نهاية حرب فيتنام وأعطته إسمها.
ونيقولا ساركوزى لم يولد على أرض فرنسا ولا هو فرنسى الوالدين ولكنه جاء إلى فرنسا طفلا صغيرا هاربا من الجيش السوفيتى الذى غزا المجر عام 1956 بسبب الثورة التى كان أبوه أحد زعمائها.
ولكن هذه الممارسات الأمريكية فى الإعلام وجدت وتجد لها حتى اليوم مثيلا عربيا بكل أسف.
كانتا رتقاً ففتقناهما
تأليف : محمد السويسي
إن السؤال الفضولي الملح من قبل عامة الناس هو هل هناك من شمس أو شموس أخرى في الفضاء الكوني غير شمسنا ؟ وهل أن هناك من قمر آخر غير قمرنا ؟ ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً وأكثر فضولاً هو هل أن هناك أرضاً مأهولة غير ارضنا أو مخلوقات أخرى أو بشر آخرين غيرنا؟
إنها أسئلة دائمة تراودنا منذ صغرنا ولا نجد لها إلا أجوبة غير شافية في الأفلام الخيالية والقصص الخرافية دون أن تطفىء تلهفنا وشوقنا الى معرفة حقيقة الأمروالإقتناع به .
ورغم أهمية تلك الأسئلة فإن الإجابة عنها ليس بالأمر الصعب أو المعقد ولكن السؤال الأهم ، مع هذا التطور في علوم الفضاء والإكتشافات العلمية الباهرة في هذا الحقل وفهمنا لآلية التوسع الكوني ونظامه ، هو لماذا يجب الاٌ يكون هناك شمس أخرى أو قمر آخر ؟ .
أما بشأن إمكانية وجود بشر آخرين في هذا الفضاء الواسع ،فإنه من الصعب الإجابة عن هذا السؤال بشكل قاطع ، بل ومن المستحيل ، وفق الإمكانيات العلمية الحالية مع وجود الفراغ الكوني الهائل الغير القابل للإختراق ، الذي يلي سماؤنا مباشرة بظلام حالك لايعرف منتهاه ولا يمكن اقتحامه بأي أجهزة راديوية أو أي إشارات لاسلكية قصيرة كانت أم طويلة ، إلا أن هذا الفراغ وفقاً لطبيعته السلبية المانعة الكثيفة يدل بل ويكاد يؤكد أن هناك أرض أو أراض أخرى شبيهة بأرضنا تعلو بعضها فوق بعض طباقاً حتى تبلغ سبعة أراض ، يسبق كل واحدة منها فراغ كوني مترامي الأطراف لاحدود له ليفصل كل سماء عن الأخرى بما يجعلها مستقلة بنفسها وطبيعتها غير متأثرة بالتي تليها مما يحفظ كيانها ووحدتها واستقلاليتها ، إلا أن كل واحدة منها تشد بأزرالأخرى وتعاضدها في شد وجذب مغناطيسي سلبي إيجابي هائل لئلا تتناثرالأكوان السبعة في الفضاء الفسيح وينهار الكون ، حيث تلعب السماء الثالثة في الوسط الدورالأكبر في معادلة هذا التوازن الكوني العظيم حيث يفترض أن يكون حجمها ضخماً وكبيراً معادلاً للسموات الستة الأخرى لتمسك بها بمغناطيسيتها الهائلة بأمر الله ، ومن أجل هذا خلقهن سبع سموات لا ستة.
ورغم وجود أراض أخرى شبيهة بأرضنا فإننا لم نتعرف إليها إلا بإخبار الله لنا عنها في كتابه الكريم ، فأضحى وجودها لنا يقيناً إيمانياً ، لكننا مع ذلك نسعى لاكتشافها من باب الفضول وحب الإطلاع ليس إلا . ومع وجود تلك الأراضي الشبيهة بأرضنا فإنه يحتمل أن يكون بشراً آخرين مشابهين لنا يشغلونها ، إلا أنه مع عجزنا وتعذر قدرتنا على التواصل معهم ، وفقاً للإمكانيات العلمية الحالية ، إلا أنه قد لايكون مستحيلاً إمكانية الإتصال بهم مستقبلاً مع وجود مخلوقات أخرى في الفضاء الذي نعيشه بين الكواكب المنظورة منا. وهذه المخلوقات الشبيهة بالبشر تأكد وجودها من خلال التمعن بالصور التي بثها ويبثها مرصد هابل بعد تكبيرها .
ومن خلال تحليل تلك الصور فإن تلك المخلوقات قريبة الشبه بالبشرأيضاً في مجتمعاتها العائلية إلا أن حضارتها ونمط حياتها وبيئتها وعاداتها مختلفة ومتأخرة عن الحضارة الإنسانية البشرية . وإن نجح علماء "ناسا"في الإتصال والتواصل مع هذه المخلوقات التي تعيش في مواقع معينة في الفضاء ، وهم يسعون الى ذلك فيما يرشح ، فأنه قد يكون بالإمكان من خلالهم التواصل مع بشر أخرين في فضاء كوني آخر، لما لهؤلاء من قدرة على التنقل والإنتقال والسفر بشكل سريع يعجز عنه الإنسان رغم تقدمه الحضاري ، إلا أن ذلك يظل من باب التكهنات ليس إلا ، إلى أن يعلنوا ذلك رسمياً خارج التسريبات الصحافية.
إن تعددية الخلق من بشر وحيوان ونبات ، بكل أشكاله ومظاهره ، هو تأكيد لوحدانية الله بأنه أحد أحد . وما التأمل والتناسل والتماثل والتشابه في الخلق والمخلوقات إلا تأكيد على الوحدانية الإلهية المثالية بأن ليس كمثله شىء . وتأكيداً لهذه الوحدانية فإن التعدد في الخلق لم ينطلق من الأحادية بل انطلق من الثنائية بما خلق من كل زوجين اثنين ، وبذلك تعالى الله عن خلقه فتميز بوحدانيته . وجعل التعدد ليس في التشابه فحسب بل وفي النوع ، وفي ذلك تأكيد بأن ليس له كفؤاً أحد .
الإسترسال هو للتأكيد على أن الوحدانية قد خصها الله تعالى حصراً في ذاته وميزها عما خلق عندما جعل التعدد ضرورياً وملزماً في سواه مما خلق، وان مجرد الإعتقاد بوجود مخلوق ، من جماد أو حياة ، فرداً لامثيل له فإن ذلك يعتبر باطلاً لأنه لايأتلف مع الوحدانية الإلهية ومثاليتها . لذلك فإن عقائد بعض الشعوب الوثنية القديمة في عبادة الشمس على أساس أنها كوكب عظيم وحيد تبين خطلها مع التطور العلمي بعد التأكد من أن هناك من الشمس شموس ، ومن القمر أقمار ، ومن الأرض أراض ، ومن زحل زحول ، بالملايين إن لم يكن بالمليارات ، مما ينفي عنها الوحدانية أو الفردية، ونكتفي بذلك مثلاً .
ولكن السؤال الرئيس الذي هو موضوع عنوان مقالتنا هو كيف أن السموات والأرض كانتا رتقاً فانفتقتا ؟.. ونزيد بأن الشمس والأرض كانتا أيضاً رتقاً فانفصلتا! ولكن كيف استقام ذلك ؟ احداهما من نار والأخرى من تراب وحجارة وصخور وشجر وخضار ومياه وحياة ؟ سؤال وجيه نجيب عليه بالعودة الى الإنفجار الكبير قبل خمسة عشر مليار عاماً ، حينها لم تكن الأرض موجودة ولا الشمس ولا النور بل شظايا نارية ملتهبة ، وسط ظلام دامس ، تتناثر بقذف شديد بعيداً عن مركز الإنفجار المحاط بالغبار والحجارة الآخذة بالتجمع والتحول الى ثقوب سوداء ليتلقف إحداها شظية نارية ضخمة ملتهبة طائشة في الفضاء.
وهذه الشظية المقذوفة مإان حلت في داخل الثقب الأسود حتى التفت حول نفسها بمغناطيسية مضادة فأحدثت إعصاراً هائلاً داخل الثقب الذي أخذ ت عناصره من الغبار الذري تتجمع وتلتف حول الكتلة النارية الطارئة لتجعلها نواة لها تدور في فلكها ، إلا أن هذه الكتلة الملتهبة مع دورانها حول نفسها بفعل التجاذب المغناطيسي الذي وجدت نفسها فيه داخل الثقب الأسود سرعان ماانفتقت عنها وتشظت ، مع تفاعل الهليوم داخلها ، كتلة نارية شكلت الكرة الأرضية بدءاً ، ليليها ، بعد بضعة سنين إنشطار وانفتاق شظايا نارية أخرى شكلت على التوالي ، المريخ والزهرة ثم عطارد والمشتري وأورانوس ثم زحل ، وكل كرة سابحة في الفضاء حولها.
ولكن التساؤل الذي يراودنا على الفور هو ماالذي يؤكد لنا أن الأرض هي أول الكواكب التي انفصلت أوانفتقت عن كوكب الشمس وليس المريخ أو عطارد أو أي من الكواكب الأخرى ؟ تساؤل في محله ، إلا أن جوابه نجده في طبيعة العناصر التي تشكلت منها الكرة الأرضية. ولنبدأ في عرض ذلك تدريجاً ليصبح الموضوع قريباً من الفهم والقبول .
فالأرض تشكلت من كتلة نارية من الهليوم إنفتقت عن الشمس داخل الثقب الأسود بالقرب منها ، فأخذت تدور حول نفسها بشدة بفعل مغناطيسيتها السلبية المضادة جاذبة نحوها ومستولية ، قبل غيرها، على معظم عناصرالأوكسجين والنتروجين والأركون بالإضافة لعنصر الصوديوم ، بنسب متفاوتة وملائمة لبعث الحياة على الأرض ، من نبات وحيوان وبشر .
وعنصر الصوديوم هذا كان الأساس في تواجد المياه باتحاده مع العناصرالأخرى ومكونات غازية تفتقدها الكواكب والنجوم لتجري الحياة فيها. ومع تشكل الأرض لم يتبق في الثقب الأسود من هذه العناصر الأساسية سوى كميات قليلة منها لم تكن كافية لبعث الحياة على كواكب أخرى ضمن الثقب الأسود الذي توالدت عنه ، ولذا كان المريخ والكواكب حوله في نظامنا الشمسي خالين من الحياة ، إنما لكل كوكب منهم طبيعة جولوجية تختلف عن الأخرى وفقاً لتشكله ؛ إذ لا يمكن أن يتوالد كوكب مثل آخر إن في الحجم أو المكونات الذرية أو المغناطيسية ، لإن هذه الكواكب تتشكل عشوائياً ،في مكوناتها، وفق نظام معين شبه نمطي داخل الثقب الأسود . وفيما يلي نعرض طريقة تشكل الكواكب والنجوم بشكل موجز ومبسط لتصبح أقرب للفهم وأكثر تحديداً بما يشبه المعادلات الجبرية .
عندما يتشكل الثقب الأسود بما يتخلف عن التوسع الكوني من حجارة وغبار وغازات كونية فلابد من أن يحتوى على كتل نارية ملتهبة عدة من الهليوم مختلفة الأشكال والأحجام . والثقب الأسود الذي يفتقد لغازالهليوم أو الكتل النارية فإنه سرعان مايتلاشى وينتهي ،لأنه عندها يكون مجرد كتلة غبارية متراكمة لامعنى لوجوده ولاحياة له ليستمر، وهذا أمر نادر الحصول ، إذ سرعان ماتلتهمه ثقوب سوداء أخرى بسبب افتقاره الى المقومات الأساسية لاستمراه وهو الحقل المغناطيسي المطلوب لتفعيل دوران الكتل النارية داخله بما يؤهله ليكون مصنعاً للكواكب والنجوم .
إذ أنه لايمكن ، بل ومن المستحيل أن يتواجد كوكب أو نجم أو شمس أو قمر إلا من خلال الثقب الأسود ، لأن أي جرم يسبح في الفضاء يحتاج الى هندسة وتنسيق ، أشبه بعملية تكون الجنين داخل رحم الثقب الأسود ليولد بالغاً لامعاً وينطلق في الفضاء على الشكل الذي نراه في السماء . حتى الشمس لاتتشكل إلا من خلال الثقب الأسود رغم استقلالية مغناطيسيتها عنه وطغيانها على مكوناته الغازية ، ولكن الى حد ما وفق آلية معينة . وبشكل أكثر تحديداً ، إن كل نجم لابد أن يتشكل ويولد من داخل الثقب الأسود ، ولذا فمن الضروري لكل ثقب أسود أن تتوالد منه النجوم السابحة في الفضاء ، حتى المجرات ، وإلا كان عبارة عن كتلة من الغبار وليس ثقباً أسود .
ولكن ليس بالضرورة أن تتوالد الشمس عن كل ثقب أسود لأن شروط تكون الشمس تختلف عن شروط تكون الكواكب والنجوم . فتكوٌن الشمس يِفترض (بفتح الياء وكسر الراء) شرطاً معيناً لحصوله وهو مدى حجم الكتلة النارية البسيطة بالنسبة لحجم الثقب الأسود الضخم الذي يحتويها . ولنفترض أن هذه النسبة هي واحد على مليون ، عندها تكون الشمس جزءاً من مليون أي بحجم نقطة ماء في برميل ضخم مملؤ ، علماً أن هذه النسبة المفترضة ثابتة وغير قابلة للتعديل ، إن نقصت عن معدلها فلا شموس تتوالد من الثقب الأسود بل كواكب ونجوم فقط . ولكن هذا يطرح سؤالاً مهماً ، إذا كان هناك من معدل نسبي ثابت يربط بين حجم الكتلة النارية وحجم الثقب الأسود فكيف إذن تكونت شموس أخرى غير شمسنا ، وفقاً للإكتشافات العلمية مؤخراً ، فهل أن توالدها يعتمد على الصدفة والمعجزة ؟ أم أن الأمر أضحى أحجية ؟
الرد ،لاهذا ولاذاك فالجواب سهل وبسيط للغاية وهو أن الحمم والغبار، التي تقذفها كتلتي الإنفجار الكوني بتوسعهما وتباعدهما السريع ، تتلقفها فوراً الثقوب السوداء النهمة ، وهذه الحمم النارية المقذوفة إن كان حجمها اكبر من النسبة المفترضة لحجم الثقب الأسود فإنها تتناسل بسرعة الى أن تتخذ الحجم الملائم وتوجد لنفسها حقلاً معناطيسياً سلبياً لايمكن اختراقة ، إلا أنه يساعد في تشكل الكواكب والنجوم الأخرى ضمن الثقب الأسود بإيجابية ممتازة ويزيد من سرعة توالدها وضبط إيقاعها وبالتالي الإنتهاء الى تكوُن نظام شمسي شبيه بنظامنا الذي نعيش فيه .
أما إذا كانت الكتلة النارية المقذوفة داخل الثقب الأسود أقل من النسبة المفترضة لتوالد الشمس فأن هذه الحمم تكون في حالة من الضعف المغناطيسي السلبي حيث تتغلب عليها مغناطيسية الغبارالإيجابي قربها ، وتبدأ بالإلتفاف حولها الى أن يتشكل منها نجم أو كوكب جديد ، وحجم كل نجم عند نهاية تشكله يتحدد وفق الكتلة النارية التي تحتوية ، بما تستطيع أن تجذب حولها من كتل الغبار حولها بكثافة تتلائم وقوة مغناطيسيتها الإيجابية السلبية التي تحدد ضخامتها .
ومن هنا يختلف حجم الكواكب والنجوم والأقمار والشموس بين كبير وصغير وضخم وقزم وفقاً لإمكانياتها المغناطيسية الجاذبة من خلال حجم الكتلة النارية داخلها فيما يعرف بالنواة.
كما أن هناك طرقاً أخرى لتشكل الشموس لاضرورة للتوسع بها مع فهمنا للآلية التي أوردناها ، وعليه فإن الكون ممتلىء بالشموس المختلفة الأحجام التي لايمكن تعدادها .
وأعتقد أنه مع فهمنا لآلية تشكل الكواكب والنجوم أصبحنا نعي تماماً معنى الآية الكريمة : "كانتا رتقاً ففتقناهما "فيما يتعلق بتشكل السموات والأرض .
بيزنس التطرف (2)
عندما أردت إحضار إبنتى الصغيرة من مكان لعبها بعد المدرسة منذ عام قلت لها أن ترتدى ملابس الخروج لأننا سنخرج للشارع. وصعدت بالفعل للدور الأول ولكنها تأخرت قليلا فصعدت خلفها لكى أحفزها فوجدت أنها تحادث طفل فى عمرها أفريقى تماما واضح أن كل من أبيه وأمه من المهاجرين الأفارقة من الجيل الأول. ووجدتها تقول له لابد أن أمشى لأن والدى ينتظرنى وهو يطلب منها أن تبقى لتلعب معه.. وعندما رآنى سكت الطفل عن مطالباته وأخذ يلعب وحده فى بعض من حزن.. وكان الملاحظ وجود على الأقل 3 أطفال آخرين حوله.. وعندما شرعت أمل فى إرتداء معطفها سمعته يقول "لا أحد يريد اللعب معى"..
بالطبع لم أحادث إبنتى فى هذا الأمر حتى لا ألفت نظرها إليه وحتى لا ينشأ لديها شعور بالإختلاف بين الأطفال.
الواقع أن هذا الموقف قد هزنى بعنف من الداخل حيث أن هذا الطفل السكين قد قذفت به الأقدار إلى مجتمع يقوم نظريا على المواطنة والتسامح ولكنه عمليا لا يزال يفرق تفرقة عنصرية حتى فى هذه السن المبكرة جدا، ست سنوات فى العام الدراسى الأول..
وخلال عطلة نهاية نفس ذلك الأسبوع شاهدت لقاء مع الجنرال كولن باول رئيس الأركان الأمريكى الأسبق ووزير الخارجية فى عهد بوش الإبن الأول وهو أمريكى أسمر من أصول أفريقية حيث هاجر أبواه من الكاريبى.
وقد قال أنه جمهورى الهوى ولكنه قام بانتخاب أوباما الديموقراطى مرتين، مرة عام 2008 والأخرى عام 2012. وعندما سئل عن السبب قال أنه يلاحظ ميولا غير مريحة ومتطرفة داخل الحزب الجمهورى تتمثل فى عنصرية خفية وظاهرة حتى أن أحد حكام الولايات قال فى تصريح علنى أثناء الحملة الإنتخابية أن الرئيس أوباما shucks and jivesفى تصريحاته حول بنغازى.. وهذان الفعلان يستعملان للسخرية من الزنوج فى أمريكا حيث أن لهم طريقة معينة فى نطق الكلمات الإنجليزية. واستعمال هذه الألفاظ فى وصف خصم سياسى هو من باب التحقير العرقى بسبب كونه أفريقى الأصل.
والحقيقة أننى لم أكن قد سمعت بذلك التجاوز خلال الحملة الإنتخابية ولكننى عندما عدت للإنترنت وجدت أنها سارة بيلين حاكمة ولاية ألاسكا التى نطقت بهذه الكلمات البذيئة والتى تتعارض مع أى قاعدة من قواعد اللياقة السياسية political correctness والتى تحرم النطق بألفاظ جارحة أو التى إتفق على أنها جارحة أو حتى بها شبهة جرح.
كذلك قال كولن باول أنه يتحفظ على طريقة تفكير الحزب الجمهورى فى الوقت الحالى لأن هذا الحزب – أو كثير من عناصره الحالية – لا يريدون أن يعترفوا بالحقائق الديموجرافية فى الولايات المتحدة الأمريكية وأن الأمريكيين من أصل افريقى والأمريكيين من الهيسبانيك وكذلك أصحاب الأصول الآسيوية هم الآن بصدد تكوين الأغلبية العرقية فى الولايات المتحدة وسوف يصبح البيض أقلية بعد فترة من الزمن.
وهذه المشكلة تقلق المفكرين الأوروبيين منذ أواسط الثمانينات حيث أن أوروبا تشعر بذلك أكثر كثيرا من غيرها وخصوصا الدول التى لا تمتلك ماضيا إستعماريا طويلا كألمانيا والنمسا وسويسرا التى أصبح الأجانب فيها يمثلون نسبا تربو على 12% فى معظم الأحيان وفى حالة سويسرا بالذات تعدى الرقم 20% من السكان..
والحرص الأوروبى على عدم الوقوع فريسة للتغيرات الديموجرافية يبدو شديدا فى سياسات التشجيع على الإنجاب وتعويض الأمهات عن الوقت الذى يفقدنه فى فترات نهاية الحمل والوضع والرضاعة والرعاية وخلافه. ولكن الفارق فى معدلات المواليد بين البيض من الأصل الأوروبى وغيرهم من الأصول الأجنبية لا يمكن تعويضه بهذه السهولة.
لم يظهر التغير العرقى فى الولايات المتحدة بصورة أوضح من التى ظهر عليها منذ عام ونصف فى إحتفال تنصيب الرئيس.. فقد كانت نسبة الملونين إلى عدد الحاضرين أعلى كثيرا من أى نسبة سبقتها من قبل. وأنا لا أتحدث عن الحفل داخل مبنى الكونجرس، فهذا محدود بالأعضاء والسياسيين المعروفين.. ولكننى أتحدث عن الجمهور الذى حضر الحفل فى الشارع. ولا أظن أن السبب هو مجرد أن الرئيس نفسه أسود. فالرئيس نفسه عندما أدى القسم أول مرة منذ 4 سنوات كان الجمهور يمثل أطيافا متعددة من الأمريكيين وكان كثير منهم من البيض. أما بالأمس فقد لاحظت زيادة كبيرة فى أعداد السود والهيسبانيك عن المرة السابقة وأظن أن هذا هو الرد على تكتل كثير من البيض خلف المرشح رومنى خلال الإنتخابات.
كذلك فإن المطربة التى قامت بالغناء مع النشيد القومى هى أيضا من السود. ولولا تزاحم الرايات ذات الأشرطة والنجوم لاعتقد المرء أن هذا الإحتفال يقام فى جنوب أفريقيا حيث الغالبية من السود والأقلية من البيض !!
حول كتاب إساءة اقتباس يسوع لبارت إيرمان-3
عبرانيين 2 : 8 - 9
الترجمات مُوحدة تقريباً فى معالجتهم للشق الثانى من عب 2 : 9. الترجمة الإنجليزية الحديثة كممثلة عنهم تقرأ:"الذى يجب ان يتذوق الموت بنعمة الله لصالح كل واحد". ايرمان يقترح ان "بنعمة الله"χάριτι θεου'هى قراءة ثانوية. بدلاً من ذلك، فهو يحتج لصالح قراءة "بعيداً عن الله"او χωρὶς θεοῦ، بإعتبارها ما كتبه الكاتب الأصلى. هناك ثلاث مخطوطات فقط بهم هذه القراءة، و كلهم من القرن العاشر و ما يليه. لكن المخطوطة 1739 واحدة منهم، و هى منسوخة عن مخطوطة قديمة و مقبولة. قراءة χωρὶς θεοῦ ناقشها العديد من الآباء، و موجودة فى مخطوطة واحدة للفلجاتا، و بعض مخطوطات البشيتا. الكثير من العلماء يعتبرون هذا دليل تافه بلا ضجة. حتى أنهم يُزعجون بمعالجة البرهان الداخلى تماماً، فهذا يرجع الى انه ضعيف الأساس، فقراءة χωρὶς θεοῦ هى القراءة الأصعب لهذا فهى تحتاج لشرح، حيث ان النُساخ كانوا يميلون بالأكثر الى تخفيف صياغة النص. لكن بالمثل، فإن الإقتباسات الآبائية العديدة تحتاج ايضاً الى شرح. لكن اذا كانت القراءة غير مُتعمدة، فقانون القراءة الأصعب لا يُمكن تفعيله، فالقراءة الأصعب ستكون قراءة بلا معنى، لأنها خُلِقت بلا هدف. رغم ان قراءة χωρίς من الواضح انها القراءة الأصعب ، فمن الممكن ان يتم تفسيرها كتغيير عفوى. من المُرجح جداً انها نشأت نتيجة زلة نسخية ، حيث يكون ناسخ غافل خلط بين χωρίς وχάριτι، او انها تعليق هامشى وضعه ناسخ مُفكرِاً فى نص 1 كو 15 : 27 المُشابه لـ عب 2 : 8 فى إقتباس مز 8 : 6، فى قوله بإخضاع الله لكل شىء للمسيح
دون الدخول فى تفاصيل دفاع ايرمان عن قراءة χωρίς، فيجب ان نوضح أربعة اشياء. اولاً، أنه يغالى فى قضيته بإفتراضه ان رؤيته صحيحة بلا شك. بعد ثلاث صفحات من مناقشة هذا النص فى كتابه "الإفساد الأرثوذكسى للكتاب المقدس، يُقر بحكمه قائلاً:"على الرغم من البرهان الخارجى، فالنص الأصلى لـ عب 2 : 9 من المُؤكد انه قال بموت يسوع بعيداً عن الله". مازال يرى الأشياء أما سوداء او بيضاء. ثانياً، وجهات نظر ايرمان النقد نصية تقترب بخطورة من منهجية الإنتقائية القاسية. يبدو ان البرهان الخارجى يعنى شىء اقل و اقل بكثير مما يبدو انه يريده لأنه يريد ان يرى فساداً لاهوتياً فى النص.
ثالثاً، حتى لو كان هو واثقاً من قراره، فمعلمه الخاص، بروس ميتزجر، غير واثق. بعد سنة من نشر كتاب الإفساد الأرثوذكسى، ظهر الإصدار الثانى من كتاب ميتزجر تعليق نصى. لجنة جمعيات الكتاب المقدس المتحدة لاتزال مستمرة فى تفضيل قراءة χωρὶς θεοῦ، لكن هذه المرة بتحديث قناعتهم حول أصوليتها، الى التدريج الأول . أخيراً، حتى بإفتراض ان قراءة χωρὶς θεοῦ هى الصحيحة، فإيرمان لم يوضح كيف ان هذا الإختلاف يُمكنه أن "يؤثر على تفسير كتاب كامل فى العهد الجديد". و يحتج قائلاً:"القراءة الأقل ثبوتاً فى الشواهد هى المتناسقة بالأكثر مع لاهوت الرسالة الى العبرانيين". ثم يُضيف ان الكاتب:"أكد، تكراراً، أن يسوع مات كإنسان تام، موت العار، بعيداً عن الملكوت من حيث أتى، ملكوت الله. كنتيجة لذلك، فإن ذبيحته قُبِلت ككفارة تامة عن الخطية. أكثر من ذلك، فالله لم يتعرض لآلامه هذه و لم يفعل اى شىء ليُخففها عنه. لقد مات يسوع بعيداً عن الله". اذا كانت هذه صورة يسوع فى الرسالة الى العبرانيين، فكيف تغير القراءة التى يُفضلها ايرمان هذه الصورة؟ فى كتابه الإفساد الأرثوذكسى، يقول ايرمان:"النص فى عب 5 : 7 يتكلم عن يسوع فى مواجهة الموت، متوسلاً لله بصراخ و دموع شديدة".لكن ان يُقال بأن هذا النص يتحدث عن يسوع "فى مواجهة الموت"فهذا كلام غير واضح بالمرة، ولا ايرمان قد دافع عن رؤيته. بل أكثر من ذلك، انه يبنى على هذه النقطة فى فصله الختامى لكتابه سوء اقتباس يسوع - رغم انه لم يُرسى نقطته ابداً - حينما يسأل:"هل كان (يسوع) مُهتاج تماماً فى مواجهة الموت؟". بل انه يذهب الى ابعد من ذلك فى كتابه الإفساد الأرثوذكسى. انا لا استطيع ان افهم كيف ان ايرمان يزعم أن كاتب الرسالة الى العبرانيين يبدو عالماً بـ "تقاليد الآلام حيث كان يسوع مرعوباً فى مواجهة الموت"إلا بربط ثلاث نقاط، كل واحدة فيهم مشكوك بها - قراءة χωρὶς θεοῦ فى عب 2 : 9، رؤية عب 5 : 7 كنص يشير بشكل رئيسى الى موت المسيح و ان صلاواته كانت عن نفسه ، ثم إعتبار صراخه العظيم كأنه يعكس حالته المرعوبة. يبدو ان ايرمان يبنى قضيته على فرضية مترابطة، و هى أساس ضعيف جداً كأفضل تقدير.
مرقس 1 : 41
فى الإصحاح الأول من انجيل مرقس، يقترب أبرص من يسوع و يساله ان يشفيه:"اذا أردت، تستطيع ان تشفينى" (مرقس 1 : 40). إجابة يسوع بحسب نص نيستل آلاند هى كالتالى: καὶ… σπλαγχνισθει…Vς ἐκτείνας τὴν χεῖρα αὐτοῦ ἥψατο καὶ… λέγει αὐτῳÇ· θέλω, καθαρίσθητι (و تحرك يسوع برفق، و مد يده و لمسه، و قال له:"أنا اريد، ابرأ").
بدلاً من σπλαγχνισθει…vς (تحرك برفق)، شواهد غربية قليلة تقرأ ὀργισθείς (أصبح غاضباً). مُحرك يسوع لهذا الشفاء يبقى موضع جدال. رغم ان نص العهد الجديد لجمعيات الكتاب المقدس المتحدة الإصدار الرابع، يضع σπλαγχνισθει…vς، فإن عدد متزايد من المفسرين بدأوا فى الإحتجاج لأصالة ὀργισθείς. فى كتاب أُعِد لتكريم جيرالد هاوثوم فى عام 2003، قام ايرمان بإحتجاج مؤثر لصالح أصالتها.قبل ذلك بأربعة سنوات، قام مارك بروكتور برسالة الدكتوراه الخاصة به فى الدفاع عن ὀργισθεί. لقد وجدت هذه القراءة طريقها الى نص ترجمة النُسخة الدولية الحديثة اليوم، و قد أُستُضِيفت بجدية فى الترجمة الإنجليزية الحديثة. لن نتعرض للإحتجاجات هنا. عند هذه المشكلة، فأنا اميل للتفكير فى اصالتها. لأجل الإحتجاج، دعونا نفترض ان قراءة "الغاضب"هى الأصلية، ما الذى يمكن ان تخبرنا اياه و لم نكن نعرفه عن يسوع قبلاً؟
يقول ايرمان لو ان مرقس كتب عن غضب يسوع فى هذا المقطع، فإن هذا يُغير من صورة يسوع فى انجيل مرقس على نحو هام. فى الحقيقة، هذه المشكلة النصية هى مثاله الرئيسى فى الفصل الخامس "الأصول التى تهم"، و هو فصل، طرحه الرئيسى بعض القراءات التى "تؤثر على تفسير كتاب كامل من العهد الجديد". هذا الطرح هو مبالغة بشكل عام، و بالأخص لإنجيل مرقس. فى مرقس 3 : 5 ، قِيل عن يسوع انه اصبح غاضباً، و هى كلمات لا شك فى أصالتها فى انجيل مرقس. و فى مرقس 10 : 14 كان ساخطاً فى وجه تلاميذه.
بكل تأكيد، ايرمان يعلم هذا. فى الحقيقة، انه يحتج ضمنياً فى تكريم هاوثوم أن غضب يسوع فى مرقس 1 : 41 يُلائم تماماً الصورة التى يرسمها مرقس ليسوع فى اماكن اخرى. فهو يقول كمثال:"لقد وصف مرقس يسوع كغاضب، و هذا قد ادى الى استياء النُساخ، على الأقل فى هذة العبارة. هذا لا يجب ان يكون مفاجىء؛ فبعيداً عن فهم كامل لصورة مرقس عن يسوع، فإن غضب يسوع صعب فهمه". بل ان ايرمان يذكر ما يراه قاعدة رئيسية فى انجيل مرقس باكمله:"ان يسوع يغضب اذا شك أحدهم فى سلطته او قدرته على الشفاء، او رغبته فى الشفاء". الآن، و لأجل الإحتجاج، دعونا نفترض انه ليس فقط قرار ايرمان النصى صحيح، بل تفسيره ايضاً لـ ὀργισθείς فى مرقس 1 : 41 صحيح ايضاً، ليس فقط فى ذلك المقطع، بل فى الشكل العام لتقديم مرقس ليسوع . اذا كان كذلك، فكيف أن غضب يسوع فى مرقس 1 : 41 "يؤثر على تفسير كتاب كامل من العهد الجديد"؟
بحسب تفسير ايرمان الخاص، فإن إستخدام ὀργισθείς فقط يقوى الصورة التى نراها ليسوع فى هذا الإنجيل عن طريق جعل هذه الصورة أكثر تماسكاً مع بقية النصوص التى تتحدث عن غضبه. اذا كانت هذه القراءة هى العرض الأول لإيرمان فى الفصل الخامس، فهى تعطى عكس النتائج المرجوة بجدية، لأنها تقوم بالقليل او لا شىء لتغيير الصورة الكاملة ليسوع التى يعرضها مرقس. إذن، فهذا هو موقف آخر حيث نجد ان إستنتاجات ايرمان اللاهوتية أكثر إثارة مما يقوله الدليل.
متى 24 : 36
فى موعظته على جبل الزيتون، يتكلم يسوع عن ميعاد مجيئه الثانى. و هو يعترف بأنه لا يعرف متى يكون هذا بشكل ملحوظ. فى غالبية الترجمات الحديثة لمتى 24 : 36، نقرأ النص يقول:"لكن عن هذا اليوم و هذه الساعة، فلا أحد يعرفهما. ولا الملائكة الذين فى السماوات، ولا الإبن، إلا الآب وحده". لكن العديد من المخطوطات و منهم بعض المخطوطات القديمة و المهمة، تفتقد قوله οὐδὲ ὁ υἱός. سواء كان القول "ولا الإبن"أصلى ام لا، فهذا أمر مشكوك به . و مع ذلك، يتكلم ايرمان مرة أخرى عن الموضوع بثقة . إن أهمية هذه القراءة للطرح الخاص بسوء إقتباس يسوع من الصعب فهمه. يُشير ايرمان الى متى 24 : 36 فى خاتمته، ليُحقق إحتجاجه بأن القراءات النصية تغير العقائد الأساسية . مناقشته الأولية لهذا المقطع تترك هذا الإنطباع ايضاً بكل تأكيد . لكن اذا كان لا يقصد ذلك، فإنه يكتب بشكل أكثر إستثارة مما هو مطلوب، مُضللاً بذلك قراؤه. و اذا كان يعنى ذلك حقاً، فإنه يُبالغ فى قضيته.
ما هو غير مشكوك به هو الصياغة الموازية فى مرقس 13 : 32:"لكن عن هذا اليوم او هذه الساعة، فلا أحد يعرفهما. ولا الملائكة الذين فى السماوات، ولا الإبن، إلا الآب". و هكذا، لا يعود هناك اى شك أن يسوع تحدث عن جهله النبوى فى موعظته على جبل الزيتون. تبعاً لذلك، فأى موضوعات عقائدية فى خطر هنا؟ بكل بساطة، لا يستطيع اى فرد ان يذكر ان صياغة مت 24 : 36 يمكن ان تغير القناعات اللاهوتية الأساسية لأى فرد عن يسوع، حيث ان هذا الرأى مذكور ايضاً فى مرقس. ولا مرة فى كتابه سوء اقتباس يسوع، يذكر ايرمان نص مرقس 13 : 32، رغم انه يُناقش بوضوح متى 24 : 36 ست مرات على الأقل، مما يبدو كأن هذه القراءة تصطدم مع فهمنا الرئيسى ليسوع. لكن هل تغيير الصياغة يُغير يُغير من فهمنا لرؤية متى ليسوع؟ حتى هذا غير صحيح. حتى لو ان مت 24 : 36 إفتقد فى أصله لـ "ولا الإبن"، تبقى الحقيقة بكون الآب وحده (εἰ μὴ ὁ πατὴρ μόνος) يعلم هذه المعلومة، مما يُفيد بجهل الإبن لها بالتأكيد (و قوله "وحده"موجود فقط فى مت 24 : 36، و ليس فى مرقس 13 : 32). مرة أخرى، هذه تفاصيل هامة غير مذكورة فى سوء اقتباس يسوع ولا حتى فى الإفساد الأرثوذكسى للكتاب المقدس.
يوحنا 1 : 18
يُحاجج ايرمان بأن القراءة الأصلية فى الشق الثانى من يوحنا 1 : 18، هى "الإبن"و ليس "الله". لكنه يذهب فى ذلك الى ما هو بعد الدليل بإقرار أنه لو كانت قراءة "الله"هى الأصلية، فإن النص فى هذه الحالة يقول عن يسوع:"الإله الوحيد". و المشكلة مع هذه الترجمة بحسب ايرمان هى:"المُصطلح "الإله الوحيد"يجب ان يُشير الى الله الآب نفسه، و إلا لن يكون وحيداً. و لكن اذا كان المُصطلح يُشير للآب، فكيف يُمكن إستخدامه عن الإبن؟". قام ايرمان بتعقيد إحتجاجه النحوى الغير موجود فى سوء اقتباس يسوع، لكنه الموجود بالتفصيل فى كتابه الإفساد الأرثوذكسى للكتاب المقدس، قائلاً:
"الحيلة المُشتركة بين اولئك الذين يؤيدون قراءة μονογενὴς θεός، لكنهم يدركون ان ترجمتها كـ "الإله الوحيد"هو عملياً مستحيل فى السياق اليوحناوى، هى فهم الصفة جوهرياً، و بإعراب النصف الثانى من يوحنا 1 : 18 كسلسلة من البدائل، و بذلك بدلاً من ترجمته:"الإله الوحيد الذى فى حضن الآب"، يُترجم النص:"الواحد الوحيد، الذى هو نفسه الله، الذى فى حضن الآب". هناك شىء جذاب حول هذا الإقتراح. فهو يشرح ما الذى قد يكون عناه النص للقارىء اليوحناوى و بذلك يفضلون للنص ذو الشواهد النصية الأعلى. و مع هذا، فهذا الحل غير معقول....انه من الحقيقى ان يكون μονογενής قد أُستُخدِم فى اماكن أخرى جوهرياً (الواحد الوحيد كما فى عدد 14)؛ فى الحقيقة فكل الصفات يُمكن إستخدامها جوهرياً. لكن كل أنصار هذا الرأى فشلوا في إعتبار إنه لم يُستخدم بهذه الطريقة حينما تبعه، مباشرةً، إسم يتفق معه فى جنسه، عدده، حالته. بالفعل على المرء ان يُؤكد على النقطة الإعرابية: متى تم إستخدام اى صفة جوهرياً حينما سبقه إسم مُباشرةً بنفس التصريف؟ لا يوجد قارىء يونانى يُمكن ان يعرب تركيب كهذا كسلسلة من الإستخدامات الجوهرية، ولا يوجد كاتب يونانى يمكن أن يقع فى عدم إنسجام كهذا. بحسب علمى، لا يوجد أحد أعطى مثالاً لهذا الامر خارج عن هذا النص. النتيجة هى ان أخذ التعبير μονογενὴς θεός كإستخدامين جوهريين بشكل مُركب، هو تركيب مُستحيل تقريباً، حيث ان إعراب إرتباطهم كـ إسم - صفة يخلق معنى مُستحيل".
إحتجاج ايرمان يفترض أن μονογενής لا يُمكن ان تُستخدم جوهرياً بشكل طبيعى، رغم انها أستُخدِمت كذلك فى عدد 14 كما يقر هو. هناك عدة إنتقادات يُمكن ان تُوجه لإحتجاجه هذا، لكن الرئيسى بينهم هو: جعله للموقف النحوى مُطلقاً هو غير صحيح. هناك بالفعل أمثلة حيث نجد صفة وُضِعت بجانب إسم ذو نفس التوافق النحوى، و قد تم توظيفهم وصفياً و جوهرياً فى نفس الوقت.
يوحنا 6 : 7 : καὶ ἐξ ὑμῶν εἷς διάβολός ἐστιν. هنا فإن كلمة διάβολος تم توظيفها كإسم، رغم انها صفة. و εἷς، الصفة الضميرية، هى الفاعل المُرتبط بـ διάβολος التى تم توظيفها فى حالة الرفع المُتضمن.
رومية 1 : 30 : καταλάλους θεοστυγεῖς ὑβριστὰς ὑπερηφάνους ἀλαζόνας, ἐφευρετὰς κακῶν, γονεῦσιν ἀπειθεῖς (مشوهى السمعة، كارهى الله، المتغرطس، المتكبر، المُتبجح، مُخترعى الشر، غير مُطيعى الوالدين - الصفات الحقيقية هى المائلة).
غلاطية 3 : 9 : τῷ πιστῷ ᾿Αβραάμ ("مع ابراهيم المؤمن"كما ترجمها الكتاب المقدس الأميركى القياسى الجديد، و النُسخة المُنقحة القياسية الجديد تترجمها "ابراهيم الذى آمن"، و النُسخة الدولية الحديثة تترجمها "ابراهيم رجل الإيمان". بغض النظر عن كيفية ترجمتها، فأننا لدينا هنا صفة بين أداة تعريف و إسم تم توظيفه جوهرياً، كـ "بدل"للإسم.
افسس 2 : 20 : ὄντος ἀκρογωνιαίου αὐτοῦ Χριστοῦ ᾿Ιησοῦ (المسيح يسوع الذى هو نفسه حجر الزاوية الرئيسى): رغم ان ἀκρογωνιαῖος هى صفة، فإنه يبدو انها قد تم توظيفها هنا جوهرياً (رغم انها من الممكن ان تكون صفة ضمنية، و هى كما أعتقد فى حالة إضافة ضمنية). هناك من يُصنفها كصفة و هناك من يصنفها كإسم. لهذا فهى من الممكن ان تكون مشابهة لـ μονογενής فى تطورها.
1 تى 1 : 9 δικαίῳ νόμος οὐ κεῖται, ἀνόμοις δὲ καὶ ἀνυποτάκτοις, ἀσεβέσι καὶ ἁμαρτωλοῖς, ἀνοσίοις καὶ βεβήλοις, πατρολῴαις καὶ μητρολῴαις, ἀνδροφόνοις (الناموس لم يُوجد للرجل المستقيم، لكن لأولئك الذين بلا ناموس و الثائرين، للذين بلا إله و الخطاة، للغير مقدسين و الدنسين، للذين يقتلون آبائهم و امهاتهم، للقتلة): هذا النص يُظهر بوضوح أن ايرمان غالى فى قضيته، لأن βεβήλοις لا تُعدل πατρολῴαις، لكنها أُستُخدِمت جوهرياً، كما فى المُصطلحات الوصفية الخمس السابقة.
1 بط 1 : 1 ἐκλεκτοῖς παρεπιδήμοις (المُختار، المقيمون وقتياً): هذا النص تم تفسيره بطرق متنوعة، لكن نقطتنا ببساطة هى انه من الممكن ان يلائم مُخطط يوحنا 1 : 18. لذا فهو من نفس نوعية النصوص التى قال عنها ايرمان:"لا أحد قد وضع مثال شبيه خارج هذا المقطع".
2 بط 2 : 5 : ἐφείσατο ἀλλὰ ὄγδοον Νῶε δικαιοσύνης κήρυκα (لا يصفح عن العالم، لكنه أبقى ثامن، نوح، كارز بالصلاح). الصفة "ثامن"هى بدل لنوح، لأنها لو عدلت نوح، فالنفاذ سيكون:"نوح ثامن"كما لو ان هناك سبعة نوح آخرين!
فى ضوء هذه الأمثلة (التى تمثل جزء بسيط من الموجود فى العهد الجديد)، فإننا نستطيع الرد مُباشرة على سؤال ايرمان:"متى تم إستخدام اى صفة جوهرياً حينما سبقه إسم مُباشرةً بنفس التصريف؟". مُلاحظته بأنه:"لا يوجد قارىء يونانى يُمكن ان يعرب تركيب كهذا كسلسلة من الإستخدامات الجوهرية، ولا يوجد كاتب يونانى قد يقع فى عدم إنسجام كهذا"، لا تثبت ببساطة امام البرهان. و نحن قد نظرنا فى عينات بسيطة من العهد الجديد. فإذا كان مؤلفى العهد الجديد إستطاعوا وضع تعابير كهذه، فإن هذا الإحتجاج الداخلى ضد قراءة μονογενὴς θεός يفقد وزنه المعتبر.
نأتى الآن الى السؤال حول هل هناك مفاتيح سياقية كافية بأن μονογενής قد تم توظيفها فى الحقيقة جوهرياً. لقد قام ايرمان بالفعل بتزويدنا بهم: اولاً، فى يوحنا، من غير الممكن ان نُفكر فى الكلمة كونه الإله الوحيد فى يو 1 : 18(بحيث يكون هو الوحيد فى حالة الألوهية دون الآب)، و قد رأينا ان هذه المنزلة أُزيلت منه تكراراً فى بقية الإنجيل. هكذا، فإننا بإفتراض أصولية قراءة μονογενὴς θεός، فإننا فى الحقيقة نجد أنفسنا محمولين الى المعنى الذى يعتبره ايرمان غير ملائم نحوياً لكنه ضرورى سياقياً:"الواحد الوحيد، الذى هو نفسه الله". ثانياً، إستخدام μονογενής كجوهر فى العدد 14 ، هو اقوى إحتجاج سياقى لإستخدامه مرة اخرى جوهرياً بعد أربعة أعداد. لكن بعد ذلك مباشرة، يضع ايرمان إحتجاجه النحوى، مُخفياً تحديه و كأنه يغلق غطاء التابوت على قوة الترابط مع العدد 14. لكن اذا كان الإحتجاج النحوى لن ينصر قضيته، إذن فإن فالإستخدام الجوهرى لـ μονογενής فى عدد 14، يقف فى النهاية كمفتاح سياقى هام. فعلياً، ففى ضوء الإستخدام المعروف ليونانية الكتاب المقدس، يجب علينا ان نتوقع إستخدام μονογενής جوهرياً بما يتضمن البنوة فى يو 1 : 18.
الآن، بما أن إهتمامنا هنا هو مواجهة معنى μονογενὴς θεός اذا كانت أصلية، بدلاً من الإحتجاج لأصالتها، فهناك دليل كافى لبرهنة قوة ترجمتها بـ:"الواحد الوحيد، الذى هو نفسه الله"، كتعليق مناسب لهذه القراءة. كلاً من البرهان الداخلى و الخارجى يقفان لصالحها، و الشىء الوحيد الذى يمكن ان يُخفقها، هو تفسيرها بأنها كانت قراءة سابيلية . لكن الأساس لهذا التفسير هو الإفتراض النحوى الذى برهننا على انه لا وزن له. نستنتج من ذلك أن كلاً من القراءتين μονογενὴς υἱός و μονογενὴς θεός يتفقان مع الإيمان المُستقيم، فلا تغير لاهوتى مُزلزل قد يحدث اذا فضل اى فرد أحدهما على الأخرى. رغم ان بعض الترجمات الحديثة رجحت إحتجاج ايرمان هنا (مثل كتاب هولمان المقدس المسيحى القياسى)، فإن الإحتجاج ليس خالى من الثغرات. اذا أختبرنا أى قراءة منهما بحرص، فالإثنان سيظهران فى إطار التعليم المُستقيم.
يكفى القول بأن قراءة "الله"هى الأصلية هنا، فإنه ليس من اللازم ترجمة العبارة:"الإله الوحيد"، و كأن هذا يوحى بأن يسوع وحده هو الله. بدلاً من ذلك، فإن الترجمة الإنجليزية الحديث تترجمها (و أنظر ايضاً النسخة الدولية الحديثة و النسخة المنقحة القياسية الحديثة):"لا أحد قد رأى الله. الواحد الوحيد، الذى هو نفسه الله، الذى فى أقرب مرافقة للآب، قد أظهر الله".
بكلمات أخرى، فكرة ان القراءات فى مخطوطات العهد الجديد قد تغير من لاهوت العهد الجديد، مُغالى فيها . للأسف، فرغم ان ايرمان عالم حريص، فإن معالجته للتغيرات اللاهوتية الرئيسية فى نص العهد الجديد، تميل الى السقوط تحت واحد من نقدين: إما أن قراراته النصية خاطئة، او ان تفسيراته خاطئة. هذه الإنتقادات قد وُجهِت لعمله الأول، الإفساد الأرثوذكسى للكتاب المقدس، و الذى قد أُخذ منه سوء اقتباس يسوع بشكل مُكثف. كمثال، فقد قال جوردون فى حول هذا العمل:"للأسف، ايرمان غالباً ما يحول الإمكانية المجردة الى الإحتمالية، ثم يُحول الإحتمالية الى تأكيد، فى الوقت الذى يوجد هناك أسباب قابلة للتطبيق مساوية للفساد الموجود". لكن الإستنتاجات التى وضعها ايرمان فى كتابه الإفساد الأرثوذكسى للكتاب المقدس، مازالت موجودة فى كتابه سوء اقتباس يسوع، دون اى ادراك لبعض الإنتقادات العديدة الموجودة لعمله الأول . فلكتاب خُصِص للعامة، فكان يجب عليه ان يُميز بدقة فى مناقشته، خاصةً مع الوزن اللاهوتى الذى يقول بأنه معه فى قضيته. أنه يعطى الإنطباع بأنه يشجع البسطاء فى المجتمع المسيحى ان يرتعبوا من البيانات الذين هم غير مُؤهلين للتعامل معها. مراراً و تكراراً فى هذا الكتاب، تُوجد عبارات مُتهِمة لا يستطيع الشخص الغير مُدرب ان يتفحصها. هذا الإقتراب يشبه بالأكثر عقلية تُثير المخاوف، أكثر مما يستطيع ان يقدمه أستاذ و مُعلم ناضج. و عن الدليل، فإنه يكفى ان نقول بأن القراءات النصية الهامة التى تغير العقائد الجوهرية للعهد الجديد، لم يتم إنتاجها بعد.
لكن ايرمان يعتقد أن هذه القراءات موجودة. حينما ناقش آراء فيتشتين عن نص العهد الجديد، قال إيرمان أن:"فيتشتين بدأ بالتفكير بجدية حول قناعاته اللاهوتية، ثم أصبح متيقناً من مشكلة أن العهد الجديد نادراً ما يُسمى يسوع الله، هذا إن أسماه كذلك". بشكل ملحوظ جداً، يبدو ان ايرمان يضع هذا الإستنتاج ليس مُمثلاً عن فيتشتين فقط، و إنما عن نفسه ايضاً. بقدر ما إبتعد فيتشتين عن النص المُستلم مُتجهاً ناحية النص النقدى، فإن إحتجاجاته على إلوهية المسيح كانت لا أساس لها، لأن إلوهية المسيح تُرى بالفعل أوضح فى النص اليونانى النقدى أكثر من النص المُستلم . رغم ان ايرمان لا يُناقش غالبية النصوص الذى يعتقد أنها زائفة، إلا انه قد ناقشها فى كتابه الإفساد الأرثوذكسى للكتاب المقدس (خاصةً ص 264 - 273). لكن المناقشة ليس كاملة و تشتمل على متناقضات داخلية. بإختصار، لم يقم بإخراج قضيته. إلوهية المسيح تبقى غير مُشوشة عن طريق أى قراءة تطبيقية.
1 يوحنا 5 : 7 - 8
اخيراً، و عن 1 يوحنا 5 : 7 - 8، فعملياً ولا ترجمة حديثة للكتاب المقدس تحتوى على الصيغة الثالوثية، إذ أن العلماء أدركوا لقرون أنها إضافة متأخرة. مخطوطات قليلة جداً فقط و متأخرة تحتوى على هذه الأعداد. بل إن الفرد يتعجب لماذا تمت مناقشة هذا النص فى كتاب ايرمان. السبب الوحيد الذى يبدو لذلك هو إشعال الشكوك. هذا المقطع دخل الى كتبنا المقدسة عن طريق ضغط سياسى، و ظهر لأول مرة فى عام 1522، رغم ان العلماء فى ذلك الوقت و الآن عرفوا بأنه غير أصلى. الكنيسة الأولى لم تكن على علم بهذا النص، لكن مجمع القسطنطينية فى عام 381، أكد على الثالوث بوضوح! كيف يُمكنهم ان يقوموا بذلك دون إلإستفادة من نص لم يدخل للعهد الجديد اليونانى الا بعد ألفية أخرى؟ بيان مجمع القسطنطينية لم يُكتب من فراغ: لقد وضعت الكنيسة الأولى ما وجدته فى العهد الجديد فى صياغات لاهوتية.
يجب ان نفرق هنا بين أمرين هامين: ليس لأن نص واحد لا يُؤكد عقيدة عزيزة علينا، أن هذا يعنى بان هذه العقيدة غير موجودة فى العهد الجديد. فى هذه الحالة، فإن اى فرد فاهم للمناظرات الآبائية الغنية حول الإلوهية، يعرف أن الكنيسة الأولى وصلت لفهمها عن طريق فحص بيانات العهد الجديد. الصيغة الثالوثية الموجود فى المخطوطات المتأخرة فى 1 يوحنا 5 : 7 لخصت فقط ما وجدوه، لكنها لم تؤسس تصريحاتهم.
الخاتمة
إجمالاً، كتاب ايرمان الأخير لا يُخيب الآمال فى ميزان الإستفزاز. لكنه فشل فى تحقيق الجوهر الحقيقى لخلافه الأول. ألتمس عذرك حينما أُشين نقطتين رعويتين هنا.
اولاً، إلتماسي لكل علماء الكتاب المقدس أن ينتبهوا لمسئوليتهم بجدية عن رعاية شعب الله. العلماء يحملون مهمة مقدسة؛ ألا يُرعبوا القراء العوام بموضوعات لا يفهمونها. بل حتى المعلمين اللاأدريين يحملون هذه المسئولية. للأسف، فإن الرجل البسيط العادى سوف يترك كتاب سوء إقتباس يسوع من بين يديه، و هو يحمل شكوكاً أكبر عن صياغة و تعاليم العهد الجديد أكثر من أى ناقد نصى. المعلم الناصح لا يعتمد فقط على تقديم المعلومة لطلابه، لكنه يعرف ايضاً كيف يوصل المادة بما لا يسمح للعاطفة ان تُعيِق العقل. ما يدعو للسخرية هو أن سوء اقتباس يسوع من المُفترض انه كله عن العقل و الدليل، لكنه خلق الكثير من الرعب و الذعر، تماماً كشفرة دافينشى. هل هذا هو التأثير التعليمى الذى كان يريده ايرمان؟ أستطيع ان أفترض انه يعرف نوعية رد الفعل الذى سيلاقيه من هذا الكتاب، لأنه لم يُغير الإنطباع فى كل حواراته. يبدو ان كونه مُستفز و عرضة للفهم الخاطىء، أهم بكثير له من أن يكون أميناً حتى لو ان ما سيكتبه سيكون مملاً. لكن المُعلم الجيد لن يُنتج فيلماً كرتونياً .
ثانياً، و هو ما أخبره دائماً لطُلابى كل سنة؛ أنه من الضرورى لهم أن يُطاردوا الحقيقة، بدلاً من حماية مواقفهم المُسبقة. و يجب ان يكون لديهم تصنيف عقيدى، يُميز بين الإعتقادات الجوهرية و الإعتقادات الثانوية. حينما يضعون عقائد ثانوية كالعصمة و الوحى الفعلى فى الجوهر، إذن فحينما يبدأ الإيمان بهذه العقيدة فى التآكل، فإنه يُحدث تأثير لعبة الدومينو: إذا سقط الواحد، يسقط الكل. أعتقد ان شىء ما كهذا قد حدث لبارت ايرمان. شهادته فى سوء اقتباس يسوع ناقش فيها العصمة كالمحرك الأول لكل دراساته. لكن بتعليق عفوى من أحد اساتذته المُحافظين فى برينستون على بحثه يتضمن بأنه من المحتمل أن الكتاب المقدس غير معصوم، فإن ايمان ايرمان بدأ فى الإنهيار. كارت دومينو أسقط التالى، الى ان أصبح:"لاأدرى سعيد ". قد اكون مخطىء حول رحلة ايرمان الروحية، لكنى عرفت الكثير من الطُلاب الذين ذهبوا فى هذا الإتجاه. ما يدعو للسخرية ان اولئك الذين يجعلون بحثهم النقدى فى نص الكتاب المقدس، فى المقدمة، بمواقف مُسبقة حول الكتاب المقدس، دائماً ما يتكلمون عن زلة منحدرة، بربطهم لكل القناعات اللاهوتية بالعصمة. نظرتهم هى انه بزوال العصمة، فكل شىء ينهار. لكنى أقول انه اذا صعدت العصمة الى مكان أرقى بكونها عقيدة أولية، فإن هذه هى الزلة المنحدرة. لكن اذا نظر الطلاب للعقائد كدوائر متراكزة، بحيث تكون العقائد الرئيسية فى المركز، فإن العقائد الثانوية اذا واجهت اى تحدى، لا يكون لهذا أثر هام على المركز. بكلمات أخرى، المجتمع الإنجيلى سيستمر فى ولادة علماء ليبراليين، حتى نتعلم كيف ان نميز بشكل دقيق أكثر عهود إيماننا، حتى نتعلم كيف نرى المسيح هو مركز حياتنا، و أن الكتاب المقدس يُشير له. اذا كانت نقطة إنطلاقنا هى تقبل حقائق مُسبقة حول طبيعة الكتاب المقدس، بدلاً من تقبل يسوع المسيح كرب و ملك، فسوف نكون على هذه الزلة المنحدرة، و سوف نأخذ الكثير معنا الى الأسفل.
انا حزين على ما حدث لأحد اصدقائى الشخصيين، رجل عرفته و أحببته - و مازلت أحبه - لأكثر من ربع قرن. أنه أمر لا يفرحنى ان أضع هذه المراجعة. لكن من مكانى هنا، يبدو ان عقلية ايرمان السوداء او البيضاء كمتزمت، لم تتأثر رغم ما خاضه خلال سنين و تجارب الحياة و التعليم، حتى حينما ذهب الى الجانب الآخر فى المجال اللاهوتى. مازال يرى الأمور بلا تمييز دقيق كافى، إنه يغالى فى قضيته، و هو مُحصن بآمان مُعتقداً أن آراؤه الخاصة صحيحة. بارت ايرمان واحد من نُقاد النص اللامعين و المُبدعين الذين عرفتهم، لكن نزعاته قوية جداً لدرجة انه لا يستطيع ان يعترف بها فى بعض الأحيان . قبل ان يظهر سوء اقتباس يسوع بشهور قليلة، ظهر الإصدار الرابع لكتاب ميتزجر نص العهد الجديد. الثلاثة إصدارات الأولى كتبهم ميتزجر وحده، و حملوا العنوان: نص العهد الجديد: إنتقاله، فساده، إعادة تكوينه. اما الإصدار الرابع الذى يشترك فى تأليفه ايرمان الآن، يجعل من هذا العنوان يبدو مُخادعاً. قارىء سوء اقتباس يسوع قد يُفكر بأن العنوان الفرعى لكتاب ميتزجر فى إصداره الرابع، يجب ان يكون ببساطة: إنتقاله و فساده .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبو الجماجم / حكاية مدينة
تأليف : محمد السويسي
كانت طريق النجمة الموازية لطول السور الخلفي لحديقة الجامع المنصوري الكبير جزءاً من المدينة المملوكية القديمة لطرابلس لبنان ببيوتها وأقبيتها ومخازنها ، من قبل أن تداهمها المدنية الحديثة لتهدم وتزال لشق طريق نحو طلعة الرفاعية ، مطلع خمسينات القرن الماضي ، لتسهيل مرور السيارات صعوداً نحو تلة أبي سمراء مع توسع المدينة شرقاً .
مع بداية الهدم وامتداده من الجهة الملاصقة لقبوة الطرطوسي ، وصلت فرق العمال بأشغالها إلى مفرق جامع القرطاوية أو قرطائي بك قبل طلعة الرفاعية حيث كان هناك منزلاً ضخماً متعدد الطبقات أشبه بالقصر الذي كان يتخذه متسلم طرابلس مصطفى أغا بربر مسكناً له وقد بناه أوائل القرن الثامن عشر ، وبدأت الهدم فيه إلى أن وصلت إلى الطابق الأرضي ليُكشف عن مفاجأة غير متوقعة بوجود غرفة تحت الطابق الأرضي أشبه بالبئر وقد ملئت بالمئات من الجماجم المختلفة الأحجام ، وأطراف لعظام بشرية ؟! فتوقف الحفر لأيام عدة حيث حضرت قوة من الدرك وشرطة المباحث المدنية بالمعاطف الرمادية وقد اعتمروا قبعات شبيهة بأبطال أفلام المافيا والمباحث الأمريكية ليبدأ المزيد من النبش والحفر من قبل العمال بإشرافهم وقد طوقوا المكان بالأشرطة والحبال ليمنعوا المتطفلين والصبية من إجتيازها .
وظلوا على هذه الحال من البحث والتحري لأيام عدة إلى أن غادروا نهائياً بعد أن أخذوا معهم بعضاً من العظام والجماجم .
وما أن إنتهى تحريم الدخول للموقع من قبل رجال الأمن حتى دخل جمع غفير من الناس للتفرج على البئر لفترة ،ثم لينفضوا بعد أن أشبعوا فضولهم ، ليتسابق الأولاد والفتيان على نبش البئر واستخراج الجماجم ليعلقوها على رؤوس القصب والعصي ويدورون بها مهللين بما يبعث على الخوف والرهبة والإشمئزاز والقشعريرة ، خاصة وأنهم كانوا يتعمدون إخافة الصغار من الأطفال والبنات لمزيد من الضحك والتهريج فيما بينهم .
وقد دام الأمر على هذا الحال لأكثر من اسبوع والجماجم متناثرة ، بين كومات الأحجار وكثبان الأتربة ، من عبث الأطفال بها إلى أن جاء رجل رث الحال والثياب وبدأ يجمعها مع بعض العظام ويدخلها في أكياس من الخيش كبيرة وينبش في البئر للمزيد منها .
وكان الرأي المتداول بين الكبار بما يسمع منهم الصغار ،بأن هذه الحفرة كانت مقبرة لعائلة بربر آغا ؛وآخرين يردونها إلى مساجين لديه أو معارضين على خصومة معه قتلهم وعائلاتهم من نساء وأطفال وألقى بهم في البئر ..كما روايات أخرى متعددة ومتناقضة في هذا الشأن ؟!
إلا أنه كان هناك مفاجأة أخرى غير متوقعة وهو عن الرجل الكهل الذي كان يجمع الجماجم التي لقب باسمها ، ليظهر بعد عام تقريباً وهو يحمل عصاً غليظة طويلة بيده وقد علق على رأسها وبها وحول رقبته عدة جماجم وعظام وقد تدلت على صدره ويرفع بيد أخرى لافتة من الكرتون ملأى بعبارات النقد للدولة والمسؤولين لغياب الضمانات الإجتماعية والصحية وتفشي البطالة والفقر والفساد ، ثم ليتوقف في منتصف الأسواق أو عند كل زاوية طريق أو زقاق ليلقى خطاباً بصوت متهدج رفيع حاد ، داعياً السياسيين والنواب والزعماء والقيادين والأغنياء إلى الإتعاظ بما آل إليه الحال ممن سبقهم وأضحوا عظاماً ورؤوساً فارغة كما هي حال الجماجم التي يحملها ليبدأ الهز بها والرج والتلويح وقد ربطها بأجراس عدة ليشد الأنظار إليها عند كل مفصل كلام من خطبه الرنانة على وقع رقص الجماجم .
مع بدء حملة أبو الجماجم التحذيرية والتذكيرية تلك ، بدأ الصبية يلاحقونه ويجرون خلفه من شارع إلى شارع ومن حارة إلى أخرى وهم يهزجون ويضحكون من افعاله وخطبه وقد اتخذوه مسخرة لهم مرددين لقبه "أبو الجماجم ..أبو الجماجم "..
إلا أنه كان يترفع عن أفعالهم ولايلق لهم بالاً وكأنه لايلاحظهم ، إلى أن ملّوا منه لعدم مناوشته لهم ومقارعتهم بما كانو يرجونه ، فاكتفوا بالتفرج بعد اسابيع طويلة من عظاته .
وظل الأمر على هذه الحال لمدة عامين تقريباً إلى أن اختفى من المدينة دون أن تعرف وجهته .وقيل أن الدولة قد اعتقلته لشدة نقده لها بتحريض من زعامات سياسية ، وآخرين قالوا أنه رحل إلى بيروت ليواصل دعوته ؛ كما روايات أخرى بأنه قد توفى ، أو لربما أن أحداً من أسرته قد أقنعه بالعدول عن مسيرته ومد له يد المساعدة وأمّن له سبل العيش ، إذ كان ابن عائلة كريمة معروفة ، إلا أن ضيق العيش قد دفع به إلى سلوك هذه الطريق . وإن اختلفت القصص إلا أن أحداً في المدينة لم يعد يراه لتنتهي حكايته وينتهي شق الطريق بعد أن تم تزفيتها ورصفها لتصبح سالكة نحو أبي سمراء .