Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all 560 articles
Browse latest View live

القضاء والقدر مقابل مسؤولية الإنسان

$
0
0

 

القضاءُ والقدَر مُقابل مسؤوليَّةِ الإنسان

من تجلِّياتِ العقلِ المجُتمَعيّ

ومن أسباب تخلفنا الحضاري

              فصل من كتاب الأمة العربية بين الثورة والانقراض

                           علاء الدين الأعرجي

مقدِّمة

في هذا البحث سنُركِّز على ظاهرةٍ خطيرة كانت وما تزال تؤثِّرُ سلبًا في المسيرةِ التقدُّميَّة للأُمَّةِ العربيَّة وتُساهمُ في تخلُّفها عن رَكبِ الحضارةِ الحديثة، وأَقصدُ بها ظاهرةَ الإيمانِ بالقضاءِ والقدَر، المنتشرةَ في معظمِ أوساطِ المجتمعِ العربيّ، وخاصَّةً الإسلاميّ، بما فيه كثيرٌ من المتعلِّمين، وبوجهٍ أخصّ لدى الطبقاتِ الفقيرة والجاهلة التي تُشكِّلُ قرابةَ 50 في المئة من المجتمعِ العربيّ (حوالى نصف الشعب العربيّ أُمّيّ، حسب ”تقارير التنمية البشريَّة للأُمم المتَّحدة“). وأهمِّـيَّةُ بحثِ هذه الظاهرة تنجمُ عن أنَّها تؤدِّي إلى عدم شعور الإنسانِ العربيّ شعورًا عميقًا وفعَّالاً بمسؤوليَّتِه تجاهَ نفسه وإزاءَ مجتمعِه، وبالتالي تُساهم في شَلِّ المبادراتِ الشخصيَّة والكفاحِ المُثمِر لتغيير الأوضاع المتردِّية الراهنة، وبالتالي في تفاقُمِ أزمةِ التطوُّرِ الحضاريّ. وكمثالٍ على ذلك، أقول: إنَّني كنتُ وما أزال أتعمَّدٌ أن أَخوضَ في الحديث مع العديد من المهاجرين العرب في هذا البلد (أمريكا)، وخاصَّةً عامَّة الناس الذين يُمارسون الأعمالَ التجاريَّةَ الصغيرة مثل أصحابِ المتاجرالعربيَّة التي تبيعُ الموادَّ الغذائيَّة مثلاً. وبعد أن نتبادلَ الرأيَ حول أوضاع أُمَّتنا الراهنة المتفاقمة، أُلاحظُ أنَّ معظمَهم، إن لم يكن جميعهم، يُنهي كلامَه، بعد أن يشكوَ مِمَّا يحدثُ في البلدِ الأُمّ من مآسٍ ونكبات، بقولٍ من هذا النوع: ”إنَّها مشيئةُ الله ولا مردَّ لها،“ أو ”ننتظرُ رحمتَه سُبحانَه وتعالى،“ أو ”لا حَولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله،“ أو ”إنَّ الله مع الصابرين“، أو ”ندعو الله سُبحانه وتعالى إلى خلاصِ الأُمَّة من هذه الغمَّة.“ وأَهمُّ من ذلك أنَّ أحدَهم كان، غالبًا، يُردِّدُ لي بحرارةٍ قولَه: ”كلُّ ما أسالُ الله، سُبحانه وتعالى، أن يُبقيَ الأوضاعَ المتردِّية والجارية حاليًّا على وضعِها من التردِّي ولا يزيدَها سوءًا.“ وهذا قِمّةُ التشاؤم والاستسلام لِما يُعتقَدُ أنَّه قضاءُ الله وقدَرُه.

 فهو لا يفكِّرُ أصلاً بمسؤوليَّتِه عن هذا التدهوُرِ وما يُمكنُ عملُه لوَقفِه، بل يتركُ مسؤوليَّةَ ذلك على عاتقِ الله سبحانه وتعالى حصرًا.

كما إنَّ جميعَ العباراتِ السابقة تدلُّ، إضافةً إلى ذلك، على العجزِ والتواكُلِ والعزاء، الأمرُ الذي يدلُّ على مدى تغلغُل قِيَمِ القضاءِ والقدَرِ في العقلِ المجتمَعيّ. ونحن لا نُريدُ أن نُقلِّلَ من قدرةِ الله تعالى، ولكنَّنا نتأسَّى بالآيةِ الكريمة: ”وما تُقدِّموا لأنفسكم من خيرٍ تَجدوه عند الله إنَّ الله بما تعملون بصير“ (البقرة 110)؛ وبالحديثِ المنسوبِ إلى الرسول (ص): ”إعقلْ وتوكَّلْ“ أو ”إعقِلها وتوكَّلْ“، وهو جوابٌ لِمَن سأله: ”أأعقلُها [أي الناقة] وأتوكَّل أم أُطلقها وأتوكَّل؟“ لأنَّ إطلاقَ الناقة قد يؤَدِّي إلى ضياعِها. وهذا يُبرهنُ أنَّ على الإنسانِ أن يفعلَ جميعَ ما في طاقته لتجنُّبِ الضرَرِ واستجلابِ الخير، ثمَّ يتوكَّل، لا أن يظلَّ قاعدًا، أو يتركَ الأُمورَ تجري على عواهنِها، وينتظرَ رحمةَ الله أن تُصلحَها. كما نتذكَّرُ القولَ المأثور، المنسوب إلى الإمام عليّ (ع): ”إعمَلْ لدُنياك كأنَّكَ تعيشُ أبدًا واعمَلْ لآخرتِك كأنَّكَ تموتُ غدًا.“

وعندما كنت أدعو هؤلاء الناسَ وغيرَهم من المعارف والأصدقاء المتعلِّمين أو المثقَّفين، إلى الاشتراك في اجتماعاتٍ أو تظاهُراتٍ يُنظِّمُها بعضُ المؤسَّساتِ الأمريكيَّة للتعبير عن الرأي المخالِف، خاصَّةً في ما يتعلَّقُ بقضايانا الساخنة،- قضية فلسطين، الحصار على العراق- لا أجدُ آذانًا صاغية؛ ونادرًا جدًّا ما كان يحضرُ تلك الأنشطة أفرادٌ قلَّة يُعَدُّون على الأصابع، في حين يحضرُها الأمريكيُّون بالآلافعادةً، ومع ذلك ينبغي أن نكون حَذِرين من التعميم،لأنَّ قليلاً من التظاهرات المتعلِّقة بالقضايا العربيَّة الساخنة حضرَها عددٌ كبيرٌ من العرب.

إذًا تنطلقُ هذه الدراسة من فرضيَّةٍ مَفادُها أنَّ العربَ خاصَّةً، والمسلمين عامَّةً، يميلون في الغالب إلى الإيمانِ بالقضاءِ والقدَرِ أكثرَ من مَيلِهم إلى حرِّيةِ الإنسانِ ومسؤوليَّتِه إزاءَ نفسِه وأُمَّتِه ووطنِه؛ مع التسليم بوجودِ مُحاولاتٍ لتعديلِ هذا الاتِّجاه، سواءٌ بواسطة حركاتٍ دينيَّة أو عَلمانيَّة. لكنَّ هذه الحركاتِ والأنشطةَ ظلَّت محصورةً في أوساطٍ معيَّنة؛ وتأثيراتُها بقيَت محدودة. ونأملُ، مع ذلك، أن تتوسَّعَ أَمثالُ هذه الحركات، خاصَّةً ذات الاتِّجاهِ العقلانيّ المستنير، الذي يتوخَّى بثَّ روحِ المسؤوليَّة الشخصيَّة وإطلاقَ طاقاتِ الإنسانِ العربيّ الخلاَّقة لِحَفزِ قُدراتِه الإبداعيَّة عِوضًا عن الإبقاءِ على روحِ التقليدِ الاتِّباعيَّة، وذلك عن طريقِ تفعيلِ عقلِه الفاعِل ضدًّا لعقله المنفعِل. وأظنُّ أنَّ ذلك يُمكنُ أن يتحقَّق، إلى حدٍّ كبير، بتفعيلِ أركانِ مجتمعِ المعرفة الخمسة، التي حدَّدَها ”تقريرُ التنميةِ الإنسانيَّة العربيّ للعام 2003“، ألا وهي: 1) إطلاق حرِّيـَّاتِ الرأيِ والتعبيرِ والتنظيم؛ 2) النشرُ الكامل للتعليم راقي النوعيَّة؛ 3) توطينُ العلم؛ 4) التحوُّل نحو نمطِ إنتاجِ المعرفة في البِنيةِ الاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّة؛ 5) تأسيسُ نموذجٍ مَعرِفيٍّ عربيٍّ عامّ، أصيل، مُنفتِح ومُستنير.     

 

بعضُ تجلِّياتِ الإيمانِ بالقضاءِ والقدَر

لذلك سنُحاولُ أن نُحلِّلَ ونُجذِّر، في هذا الفصل، ظاهرةَ الإيمانِ بالقضاءِ والقدَر، التي نعتبرُها من الآفاتِ التي ترسَّخَت في العقلِ المجتمعيِّ العربيّ، وبالتالي بالعقلِ المنفعِلِ للفردِ العاديّ الذي أصبح يقبلُ القهرَ والظلمَ والكوارث، باعتبارِها قدَرًا مُحتَّمَاً، بل يعتبرُها بعضُهم امتحانًا من الله لمدى صبرِه وإيمانِه: ”فاصبروا إن الله يُحبُّ الصابرين“، ويتأسَّى بصبرِ أيُّوب. كما إنَّ هناك عشراتِ الأمثلةِ والأقوالِ الشعبيَّة التي يُردِّدُها العربيّ، وبخاصَّة المسلم، تدلُّ على مدى تعلُّقِه بالقضاءِ والقدَر، وعجزِ الإنسانِ عن التحكُّمِ بحاضرِه ومُستقبلِه؛ منها الأمثالُ المصريَّةُ السائدة مثل ”إللي انكَتب عالجبين لازِم تشوفُه العين“، و”قِسمتي كِدَه“، و”اجري يا بن آدم جَري الوحوش غير نصيبك ما تحوش“، و”العبد في التفكير والربّ في التدبير“، و”العين صابتني وربّ العرش نجّاني“، و”درهم حظّ ولا قنطار شطارة“؛ والأمثال العربيَّة الأُخرى كـ”لا تفكِّر، لها مُدبِّر“، و”إذا وقع القدَر عَميَ البصر“، و”قِسمة ونصيب“، و”المكتوب ما منه مهروب“، و”سبع صنايع والبخت ضايع“.

ومُقابل ذلك هناك أمثالٌ وأقوالٌ تتضمَّنُ مسؤوليّةَ الإنسانِ عن أعمالِه، لكنَّها قليلةٌ وغيرُ منتشرة، ولا فاعلة كالمجموعةِ الأُولى. منها ”اللي ما يزرع ما يحصد“، و”العيشة تدبير“، و”اقعُدْ على وَكرِ الدبابير وقُلْ هذا تقدير“ (يقال في معرض السخرية)، و”القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود“.

 لماذا ظهرَت وبرزَت الأمثالُ والأقوالُ التي تدلُّ على التواكُلِ والاستسلام أكثر من تلك التي تحثُّ على العملِ وتحمُّلِ المسؤوليَّة؟ سؤالٌ سنُجيب عنه فيما بعد، خصوصًا في الفصل الخاصِّ بتعرُّضِ الأُمّةِ العربيَّة للقهرِ والاستبداد خلال الـ14 قرنًا الماضية.

وغالبًا ما تُعزى جميعُ المصائبِ والنوائب التي تحلُّ بالأُمَّة إلى قضاءِ الله وإرادتِه، في نهاية الأمر، أو بالأحرى إلى أسبابٍ يعتبرُها البعضُ عقابًا لأهلها من الله تعالى على تقصيرِهم في شؤونِ دُنياهم أو آخرتِهم. مثلاً: يرى الكاتبُ منير شفيق، في كتابه ”الإسلامُ وتحدِّياتُ الانحطاطِ المعاصِر“، أنَّ هزيمة العام 1967 كانت ”عقوبةً حتميَّة“ كان لا بدَّ من أن ”تدفعَها الأُمَّة...كمُحصَّلة طبيعيَّة لمحاربةِ الإسلام والسَّيرِ في طريق التغريب.“ 

كما قام الشيخ محمَّد مُتولِّي الشعراوي، وزيرُ الأوقافِ السابق في مصر، بالتوجُّه بالشكر إلى الله في صلاة ركعتَين، شاكرًا له صنيعَه لأنَّ ”مصر لم تنتصر.“ وقيل إن سببَ الهزيمة كان قدَرًا من الله وعقوبةً لأنَّ السلاحَ الذي حاربَت به كان سلاحًا كافرًا(5) 

وفي مطلع عام 2005 حدثَ زلزالٌ أَرضيٌّ عنيف، في أعماق المحيط الهنديّ، فسبَّبَ كارثة ”تسونامي“ في منطقة جنوب شرق آسيا شملَت الفلبّين وأندونيسياوماليزيا والهند وسيرلانكا وبلدانا أُخرى، ووصلت إلى القرن الإفريقيّ، وحصدَت قرابةَ ثلاثمئة أَلف إنسان، وخاصَّةً من الفقراء وعامَّة الناس. وتفسيرًا لذلككتبَ أحدُ ”الدكاترة“ المعروفين في مصر في إحدى الصحُف المصريَّة إنَّ هذه الكارثة حصلَت كإنذارٍ وعقابٍ من الله بسببِ ما كان يُقترَفُ من ذنوبٍ في تلك البلدان الساحليَّة التي كان يرتادُها السيّاح من مختلفِ أرجاءِ العالمَ.

وقد وصف نزار قبَّاني ظاهرةَ الإيمان بالقضاءِ والقدَر السائدة لدى العرب على النَّحوِ التالي:

نجلسُ بالجوامع تنابلاً  كسالى...

ونشحذُ النصرَ على عدوِّنا من عنده تعالى.

 

ومع ذلك، هناك في العصر الحديث مَن يُعارضُ هذه النزعةَ الاتِّكاليَّةَ أو القدَريَّة.

يقول أبو القاسم الشابي:

إذا الشعبُ يومًا أرادَ الحياةَ


فلا بدَّ أن يستجيبَ القدَرْ


ولا بدَّ للَّيلِ أن ينجلي


ولا بدَّ لِلقَيدِ أن ينكسِرْ


ويقولُ شوقي:

وما نيل المطالبِ بالتمنَّي      ولكنْ تؤخذ الدُنيا غِلابا

 

 

وهكذا نحن نُلاحظُ وجودَ صراعٍ بين قِيَمِ الجَبر (كتعبيرٍ آخَر عن القضاءِ والقدَر) التقليديَّة القديمة وقِيَمِ القُدرةِ والتمكُّن وحُرِّيـَّةِ الاختيار التي أنشأت الحضارةَ الحديثة، وأهمِّـيَّةِ مُواجهةِ الإنسانِ لمسؤوليَّاتِه. ومع ذلك فما تزالُ الأغلبيَّةُ العُظمى من العربِ يدينون بالجَبر أكثرَ مِمَّا يَدينون بالاختيار، حسب تقديرنا.    

لكنَّ كلَّ ذلك لا يعني أنَّ معظمَ العربِ وحدهم يؤمنون بالقضاءِ والقدَر، بل إنَّ معظمَ المجتمعاتِ البشريَّة، أو ربَّما جميعها، آمنَت، في بعضِ مراحلِ تطوُّرِها الماضية أو الراهنة بالقضاءِ والقدَر. ولكنْ من الملاحَظ أنَّه كلَّما ارتفعَ المجتمعُ في سلَّمِ التقدُّم والرقيّ المادّيّ والفكريّ، استطاع معظمُ أفرادِه أن يتغلَّبوا على هذه النزعة، خاصَّةً إذا تمكَّن، ذلك المجتمع، من تفسير الظواهر الطبيعيَّة، واستطاع أن يُسخِّرَها لخدمتِه وتقدُّمِه. وعلى العكس من ذلك نلاحظُ أنَّ جميعَ المجتمعات البدائيَّة، بما فيها القديمة أو المعاصرة، تؤمنُ بشكلٍ أو آخَر بالقضاءِ والقدَر. 

التعريفُ بالقضاءِ والقدَر

القضاءُ في الاصطلاح: ”عبارةٌ عن الحُكم الكلِّيّ الإلهيّ في أعيانِ الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية من الأزلِ إلى الأبد“، مثلَ الحُكمِ بأنَّ كلَّ نفسٍ ذائقةٌ الموت (الجرجانيّ: ”التعريفات“). والقَدَرُ في اللغة: القضاء، والحُكم، ومبلغُ الشيء، والطاقة، والقوَّة، ويُطلَق على ما يَحْكمُ به الله من القضاءِ على عِبادِه، وعلى تعلُّقِ الإرادة بالأشياءِ في أوقاتِها. ويقول الأشعريَّة إنَّ القضاءَ هو قضاءُ الله الثابت في إرادتِه الأزليَّة المتعلِّقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال. ويعني قَدَرُه إيجادَ الأشياء على قَدْرٍ مخصوص، وتقدير معيَّن في ذواتها وأحوالها.

وكتعريف تقريبّي، وفي المفهوم السائد، على الصعيد العامّ، كما في المفهوم الوارد في هذا البحث، يعني تعبير ”القضاء والقدر“ أنَّ الإنسانَ مُسيَّر لا مُخيَّر، ولا يستطيعُ أن يتحكَّمَ بحياته، حاضرِه أو مُستقبلِه ومصيرِه، أي إنَّه عاجزٌ عن تغييرِ أو تعديلِ ظروفهِ الخاصَّة ناهيك عن التحكُّم بالعالَمِ الخارجيّ. وغنيٌّ عن القَول إنَّه سينشأُ تناقضٌ بين هذا المفهومِ ومدى مسؤوليَّةِ الإنسانِ عن أعمالِه سواءٌ قانونيًّا أو أخلاقيًّا أو دينيًّا. فكيف يُمكنُ أن يكونَ الإنسانُ مسؤولاً عن أفعالِه ما دامت مُقدَّرة عليه من قِبَلِ سلطةٍ خارجةٍ عن إرادتِه؟ كما يتعلَّقُ الأمرُ بموضوعاتٍ تتعلَّقُ بالفلسفةِ بوجهٍ عامّ وفلسفةِ القانونِ والأخلاق، بوجهٍ خاصّ، مِمَّا يطولُ فيه البحثُ والحديث.

   لذلك سنكتفي في هذه الحلقة بالتحدُّث عن القضاءِ والقدَر في التاريخ العربيِّ الإسلاميّ، بما فيه الفكرُ الإسلاميّ، لأننا نفترضُ أنَّ العقلَ المجتمعيَّ العربيَّ متأثِّرٌ بالجانبِ المظلمِ من ذلك التاريخ.

 

القضاءُ والقدَرُ في التاريخ العربيِّ الإسلاميّ

سنقسِّمُ هذا الفصلَ إلى ثلاثةِ فروع: الأوَّل يتعلَّقُ باستعراضِ النصوصِ الدينيَّة التي تدعمُ القضاءَ والقدَر، أو تدعمُ مسؤوليَّةَ الإنسانِ وحرِّيـَّتَه. والثاني يتعلَّقُ بواحدةٍ من أهمِّ الحركاتِ المُعارِضة للقضاءِ والقدَر في الإسلام، ألا وهي حركةُ ”المُعتزِلة“. والثالث يتعلَّقُ بالحُكم الاستبداديّ ”المُلك العَضوض“ وأثرِه في توطيدِ عقليَّةِ الاستسلامِ للقضاءِ والقدَر.

أوَّلاً، في النصوصِ الدينيَّة:يُمكنُ القولُ إنَّ التفسيرَ الإسلاميَّ لظاهرة القضاء والقدر  يستندُ إلى كثيرٍ من الآيات الواردة في القرآن الكريم، ومنها ﴿إنّا كلّ شيءٍ خلقناه بقدَر﴾ (القمر: 49)، و﴿ قُلْ لن يُصيبَنا إلاَّ ما كتبَ الله لنا﴾ (التوبة: 51). و﴿ قُلْ لا أَملكُ لنفسي ضَرًّا ولا نفعًا إلاَّ ما شاءَ الله﴾ (يونس: 49)، و﴿ما أصاب من مُصيبةٍ في الأرضِ ولا في أنفسكم إلاَّ في كتابٍ من قبل أن نَبْرَأَها إنَّ ذلك على الله يسير﴾ (الحديد: 22)، و﴿وكلُّ صغيرٍ وكبير مُسْتَطَر﴾ (القمر: 53)، و﴿إنَّ الله يُضِلُّ مَن يشاء ويهدي من يشاء﴾، و﴿فلم تقتلوهم ولكن الله قتلَهم﴾ (الأنفال 17) وغيرها.

ولكنْ ينبغي أن نلاحظَ وجودَ آياتٍ أُخرى مُناقضة ومُعدِّلة تخالفُ ظاهرَ هذه النصوص. ومنها ﴿إنَّ الله لا يُغيِّرُ ما بقومٍ حتَّى يُغيِّروا ما بأنفسهم﴾، فإذا أَتممنا الآية فسينقلبُ المعنى إلى ضدِّه: ﴿وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مردَّ له﴾ (الرعد: 11)، و﴿مَن عملَ صالحًا فلنفسِه ومَن أساءَ فعليها، وما ربُّكَ بظلاَّمٍ للعبيد﴾ (فُصِّلت:46)، و﴿ذلك بما قدَّمَت يداك وإنَّ الله ليس بظلاَّمٍ للعبيد﴾ (الحجّ: 10)، و﴿قُلْ يا قوم اعملوا على مكانَتِكُم إنّي عامل، فسوف تعلمون﴾ (الأنعام: 135)، و﴿ومن يكسبْ إثمًا فإنَّما يكسبُه على نفسِه﴾ (النساء: 111)، و﴿ما ظلمناهم ولكنْ ظلموا أنفسَهم﴾ (هود: 101). وهناك عددٌ كبير آخَر من أمثال هذه الآيات. ولكنْ من الملاحَظ أنَّ الآياتِ الأُولى المتعلِّقة بالقضاءِ والقدَر معروفةٌ ومُعتبَرة ومُتَّبعة أكثر من آياتِ المجموعة الثانية المعاكِسة التي تُشدِّد على مسؤوليِّةِ الإنسان، وذلك لأسبابٍ تتعلَّقُ بالعقلِ المجتمعيِّ العربيِّ والإسلاميّ الذي يستنجد، في عصرِ الانحطاط، بكلِّ الوصفاتِ الجاهزة، المُهدِّئة أو المُخدِّرة، على النحوِ الذي سنُحاولُ تفسيرَه فيما بعد.

تفسيرُ الجابري: في كتابِه ـ”التراث والحداثة“

 يرى المفكِّرُ محمَّد عابِد الجابري أنَّ في القرآن آياتٍ تُفيدُ الجَبْرَ وأُخرى تُفيدُ الاختيار. ولكنْ يجبُ أن نأخذَ بنظرِ الاعتبار أسبابَ النزول ومُراعاةَ قصدِ الشارع. ويرى أنَّ الآياتِ التي تُفيد الجبرَ إمَّا أن تتعلَّقَ بالماضي باعتبار أنَّ ما حدثَ في الماضي لا يمكنُ تغييرُه، مثل﴿سنَّة الله التي خلَت من قبل ولن تجدَ لسنَّةِ الله تبديلا﴾، وإمَّا أنَّها نزلَت للحَثِّ على الصبرِ والتضحية في الصراع مع قُرَيش أوَّلاً، وحين الغزواتِ والحروب مع الكفَّار ثانيًا. يقول: ”إنَّ الآياتِ التي تُفيد الجبرَ في هذا المقام لم تكنْ تدعو إلى الاستسلام، بل بالعكس، كانت تحثُّ على الصبر وتدعو إلى التضحية. ولكنَّ السياسةَ فيما بعد هي التي وظَّفَت هذه الآياتِ في أغراضِها بعد أن قطَعَتها من سياقِها وعزلَتها عن أسبابِ نزولها، أي عن تاريخيَّتِها.“

 ومع تقديرِنا لرأي الجابري، فإنَّنا نرجح أنَّه يَنـْصَبُّ على ما يجب أن يكون، أكثرَ مِمَّا ينصبُّ على ما هو كائنٌ فعلاً.

ثانيًا، القَدَريّـِـة والمُعـتزِلة

منذُ أن ظهرَت مسألةُ القضاءِ والقدَر أو الجَبر التي رفعَها الأُمويُّون في الشام، لتبرير حكمهم، انبثقَت حركةٌ فكريَّةٌ وسياسيَّةٌ مُعارضة تقولُ بحرِّيـَّةِ الإرادة أُطلِق عليها اسمُ ”القَدَريّة“ (بمعنى القُدرة أو الاستطاعة، لا الجَبر)، رفعوا شعارًا يقول بقدرة الإنسان على ”خَلـْــقِ أفعاله، وبالتالي مسؤوليته عنها...“ فأطلقَ عليهم خصومُهم مُصطلحَ ”القَدَرِيَّة“ (من قَدِرَ قدَرًا بمعنى اقتدَرَ، لا من القضاء والقَدَر الخارج عن إرادة البشر)، استنادًا إلى حديثٍ نسبوه إلى الرسول (ص) يقول فيه:”القَدَريّة مَجوسُ هذه الأُمَّة.“ وكان الذين يؤمنون بحرّيـِّةِ الإرادة يرفضون هذا الوصف ويقولون إنَّه يصدقُ على الذين يقولون بالقضاء والقدَر، ومع ذلك لُصقَ بهم هذا الاسمُ حتَّى اليوم.

   

والمسألةُ التي أُثيرت بين المتكلِّمين الأوائل هي صفةُ ”العِلم“ التي تُسبَغُ على الله تعالى، باعتباره عالمًا بكلِّ شيء، بما في ذلك علمُه منذ الأزَلِ بما سيكون. ومن هنا ظهرَت قضيَّةُ التناقُضِ بين عِلمِ الله السابق وبين عَدلِه. وثار السؤالُ الخطيرُ التالي: كيف يُمكنُ أن يُحاسِبَ الله الإنسانَ على أعمالِه وهو يعلمُ مُقدَّمًا ما سيحدثُ له، ولماذا يطلبُ منه القيامَ بأُمورِ معيَّنة ويمنعُ عنه أُمورًا أُخرى، وهو عالِمٌ مُسبَّقًا بأنَّه سيتبعُها أو لا يتبعُها؟

يقول أحمد أمين: ”نشأَت الأبحاثُ الدينيَّة في هذا الموضوع لمَّا نظرَ الإنسانُ فرأى أنَّه، من ناحية، يشعرُ بأنَّه حرُّ الإرادة يفعلُ ما يشاءُ وأَنَّه مسؤولٌ عن عملِه، وهذه المسؤوليَّة تقتضي الحرِّية. فلا معنى لأن يُعذَّبَ أو يُثابَ إذا كان كالريشة في مهبِّ الريح لابدَّ أن تتحرَّكَ بحركته وتسكنَ بسكونه. ومن ناحية ثانية رأى أنَّ الله عالِمٌ بكلِّ شيء، أحاط عِلمُه بما كان وما سيكون، فعَلِمَ بما سيصدر عن كلِّ فرد من خيرٍ أو شرّ، وظنَّ أنَّ هذا يستلزمُ حتمًا أنَّه لا يستطيعُ أن يعملَ إلاَّ على وَفقِ ما علمَ الله، فحارَ في ذلك بين الجبرِ والاختيار، وأخذ يُفكِّر: هل هو مُجبَر أو مُختار.“ (10) ومن جهةٍ ثالثة، برزَ السؤالُ الخطيرُ الآخَر: إذا كان الإنسانُ يعملُ وَفقَ عِلمِ الله، أو إرادته، فهل يُمكنُ أن يفعلَ الله الظلمَ أو القبيح؟ ولماذا يُعذب الكافر الطالح، ويُثاب المؤمن الصالح، إذا كان الإنسان مُجْبَرٌ  وليس مُخَيَّر؟

وبالإضافة إلى المناقشات ”الكلاميَّة“، والفلسفيَّة، كان لهذه القضيَّة انعكاساتٌ وتداعياتٌ سياسيَّة خطيرة. ذلك لأنَّ من المُمكن أن يغتصبَ الحاكمُ سدَّةَ الحُكم بالقوَّة، ويدَّعي أنَّ ذلك كان بعِلمِ الله وإرادته. فضلاً عن أنَّ بإمكانِه أنْ يظلمَ ويقتلَ جميعَ مُعارضيه ويسلبَ وينهبَ الأموال، ويرتكبَ جميعَ الموبِقات، مُدَّعيًا أنَّ ذلك يحدثُ بناءً على إرادةِ الباري عزَّ وجَلّ. وقد ظهرَت هذه المسألةُ في مطلعِ العصرِ الأُمويّ، كما قلنا. فالأُمويُّون الذين استولَوا على الحُكمِ بالقوَّة استنَدوا في شرعيَّةِ حُكمِهم إلى قضاءِ الله وقدَرِه، كما سيأتي شرحُه.

ويذكر التاريخ أنَّ أسبقَ مَن بشَّرَ بمبدإِ حُرِّية الإرادة ومسؤوليَّةِ الإنسان عن أعماله مَعَبد الجُهني وغَيلان الدمشقيّ. الأوَّلُ قتلَه الحجَّاج صَبرًا (أي بعد أن أَوثقَه ومنعَ الطعامَ عنه)، وقام هشام بن عبد الملك بقَطعِ يدَي الثاني ورجلَيه وقتلِه وصَلبِه، وكان ذلك في عام 106 للهجرة (724م).

 وكان غَيلان الدمشقيّ قد تعلَّم مع واصل بن عطاء على يَدِ اثنَين من آلِ البَيت من أحفاد عليّ بنِ أبي طالب وأولادِ محمَّد بنِ الحنفيَّة (12) ثمَّ ذهبَ إلى البصرة لينضمَّ إلى حلَقةِ الحسَن البَصريّ الذي كان يتحدَّثُ في مسجِدِ البصرة، مُفنِّدًا آراءَ مَن يُبرِّرُ أعمالَ الملوكِ الدامية بأنَّها قَدرٌ من الله.

وكان الحسَن البصريّ يتمتَّعُ بمكانةٍ دينيَّةٍ وعِلميَّة واجتماعيَّة عالية. وبينما كان يستشيرُه الخليفةُ الصالحُ عُمَر بنُ عبد العزيز في كثيرٍ من المناسبات، كان يختلفُ معه بقيَّةُ الخلفاءِ الأُمويِّين وخاصَّةً الخليفةَ عبدَ الملك بنَ مروان (65-86هـ/685-705م). وقد أبقى عليه الأُمويُّون لعدَّةِ اعتباراتٍ سياسيَّة ومَصلحيَّة. يذكرُ الدينوري في كتابه ”الإمامة والسياسة“: ”أنَّ مَعبد الجُهَني وعطاءَ بنَ يسار دخَلا على الحسَن البَصريّ، وهو يُحَدِّثُ في مجلس البصرة كعادتِه، فسألاه: ’يا أبا سعيد، إنَّ هؤلاء الملوك يسفكون الدماء، ويأخذون الأموال، ويفعلون كذا وكذا، ويقولون: إنَّما تجري أعمالُنا على قدَرِ الله.‘ فأجابَهما الحسَن:’ كَــذبَ أعداءُ الله.‘ “   

 ويُذكَرُ أنَّ عبدَ الملك بنَ مروان أرسلَ إلى الحسَن البصريّ رسالةً مُطوَّلة، عبَّر فيها عن قلقِه عمَّا بلغَه عنه من كلامٍ حول ”القدَر“، وطلبَ فيها توضيحَ موقفِه؛ وفيها كثيرٌ من التهديدِ المبطَّن، إذْ يتَّهمُه بأنَّ ما يقولُه قد يُعتبَرُ ”بِدعة“، لأنَّه لم يسمعْ به من قبل، ويطلبُ منه سندَه ومرجعيَّتَه. فأجابه الحسَنُ البصريّ برسالةٍ مُطوَّلة أُخرى تتضمَّنُ كثيراً من التحدِّي. ومِمَّا قاله فيها: ”واعلَمْ، يا أميرَ المؤمنين أنَّ الله لم يجعل الأُمورَ ’حتماً‘ على العباد، ولكنْ قال لهم إن فعلتم كذا فعلتُ بكم كذا، وإنَّما يُجازيهم بالأعمال... ولكنَّ الله قد بيَّنَ لهم مَن قَدمَ لهم ذلك ومَن أضلَّهم، فقال: ﴿وقالوا ربَّنا إنَّا أطعنا سادتَنا وكُبراءَنا فأَضلُّونا السبيلا﴾ (الأحزاب 67).‘ ويقول الله تعالى: ﴿إنَّا هَديناه السبيلَ إمَّا شاكرًا وإمَّا كَفورا﴾“ (الإنسان: 3).

ويُعلِّقُ الجابري على هذه الرسالة الهامَّة قائلاً إنَّها ”تضعُنا أمام خطابٍ جديد في المعارضة، خطابٍ ينسفُ إيديولوجيَّة الجَبر الأُمويّ فيؤَكِّدُ أنَّ أعمالَ الناسِ ليست حتماً عليهم بل هم يأتونها باختيارهم، وبالتالي فهم مسؤولون مُحاسَبون. والخطابُ مُوجَّه مُباشرةً إلى أمير المؤمنين، صيغةً ومضمونًا؛ فإضافةً إلى استعمال صيغة النداء ”يا أميرَ المؤمنين، وذِكر ”فرعون“ و”السادات“ و”الكُبراء“... الذين أضلُّوا أقوامَهم، نجدُ النصَّ يستحضرُ هؤلاء ليُعطيَ لمسألةِ الجَبرِ والاختيار كاملَ مضمونِها السياسيّ. ومن هنا ستنطلقُ حركةٌ تنويريَّة جعلَت قضيّتَها الأساسيَّة نشرَ وَعيٍ جديدٍ بين الناس، الوعيِ باَّنَّ الإنسان، والحكَّام في المقدَّمة، يفعلُ ما يفعلُ بإرادتِه واختياره، وأنَّ الله لا يرضى الظلمَ فكيف يُجبرُه على فِعلِه؟

  ومُجملُ القول إنَّ الذين قالوا بحرِّيةِ الإرادة أُطلِق عليهم ”القَدَرية“، كما أسلفنا، ثمَّ اشتُهِروا بـ”المُعتزِلة“ فيما بعد. وقيل كثيرٌ عن سببِ إطلاقِ هذه الصفةِ الأخيرة أو هذا الاسمِ على هذه الفرقة. ومن ذلك قولهُم إنَّ واصلَ بنَ عطاء وعَمرو بنَ عُبيد اعتزلا حلَقةَ الحسنِ البصريّ، لاختلافِهم معه في مسألةِ مُرتكبِ الكبيرة. وقال الشريفُ المرتضى في كتابِه ”المـــُــنية والأمل“، إنَّ تسميتَهم بالمعتزلة جاءت ”لاعتزالهم كلَّ الأقوالِ الـمُحدَثة“، أي الأقوالِ السابقة في مُرتكبِ الكبيرة. وقيلَ غيرُ ذلك.

وتتلخَّصُ أُصولُ فرقةِ ”العَدل والتوحيد“ التي سُمِّيَت فيما بعد بـ”المُعتزِلة“، في خمسة مبادئ هي: التوحيدُ والعَدلُ والمَنزلةُ بين المنزلتَين، والوعدُ والوعيد، والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المُنكَر.

والذي يهمُّنا من هذه الأُصول، في المقام الأوَّل، هو ”العدلُ“، بما أنَّه يرتبطُ بموضوعِنا. ومعناه عدمُ نسبةِ الظُّلمِ إلى الله. أمَّا الظلمُ الذي يجري في الواقع، فإنَّه من صُنع الإنسان، باعتباره خالقًا لفِعلِه لأنَّه حرُّ الإرادة وقادرٌ على الفِعلِ الحسَن أو السيِّئ، الحقِّ أو الباطل. وهكذا يكونُ الإنسانُ حرًّا ومسؤولاً عن أفعالِه، وإلاَّ كيف يمكنُ أن يُحاسبَه الله (العادل). ويُقرِّرُ المُعتزلة ” أنَّ للإنسانِ قدرةً وإرادةً ومشيئةً واستطاعة قد خلقَها له خالقُه، وأنَّها تؤَدِّي وظائفَها، بشكلٍ مستقلٍّ وحُرّ، فيما يتعلَّقُ بالأفعالِ المقدورة للإنسان، ومن ثَمّ فإنَّ الإنسانَ هو خالقُ أفعالِه، على سبيلِ الواقع لا المجاز، ونسبةُ هذه الأفعالِ إليه هي نسبةٌ حقيقيَّة، وبالتالي فإنَّ الجزاءَ، ثوابًا أو عقابًا، هو أمرٌ منطقيٌّ ليست فيه شُبهةُ جَور تلحقُ بالباري سُبحانَه، كما هو الحالُ إذا قال المرءُ برأيِ المُجْبِرة.“

 

فهؤلاء يرفعون لواءَ الجبرِ، ويُنكرون حرِّيةَ الإرادة ولا يجعلون العقابَ ولا الثوابَ مرتبطًا بالفاعلِ البشريّ بل بمشيئةِ الله، إن شاءَ عاقبَ، وإن شاءَ لا يُعاقِب.  

ومن المعروفِ أنَّ أصحابَ الفكرِ الجَبريِّ يستندون في دعواهم إلى ”العِلمِ الإلهيِّ السابق“، الذي وردَ في القرآنِ الكريم في كثير من الآيات؛ منها: ﴿ألم تعلمْ أنَّ الله يعلمُ ما في السماءِ والأرض، إنَّ ذلك في كتاب﴾ (الحجّ:70). كما استندوا إلى آيات يدلُّ ظاهرُها على الجَبر، منها ﴿ولو شئنا لأتَينا كلَّ نفسِ هُداها ولكنْ حقَّ القولُ منِّي لأملأنَّ جهنَّمَ من الجنَّةِ والناسِ أجمعين﴾ (السجدة: 13).

وأوَّلُ مَن قال بـ”الجَبْريَّة“ جَهم بنُ صَفوان، لذلك سُمِّيَت هذه الفرقة ”الجَهْمِيَّة“. وكان يقول ” إنَّ الإنسانَ مجبورٌ لا اختيارَ له ولا قدرة، ولا يستطيعُ أن يعملَ غيرَ ما عمِل، وإنَّ الله قُدَّرَ عليه أعمالاً لا بدَّ أن تصدرَ منه، وإنَّ الله يخلقُ فيه الأفعالَ كما يخلقُها في الجماد، فكما يجري الماءُ ويتحرَّكُ الهواءُ ويسقطُ الحجر، فكذلك تصدرُ الأفعالُ عن الإنسان، يُصدرُها الله فيه وتُنسَبُ إلى الإنسانِ مجازًا كما تُنسَبُ إلى الجمادات. فكما يُقالُ أثمرت الشجرةُ، وجرى الماءُ، وطلعَت الشمسُ، وأمطرت السماء، وأنبتَت الأرضُ، كذلك يُقالُ كتبَ محمَّد، وقضى القاضي، وأطاع فلان، وعصى فلان، كلُّها من نوعٍ واحد على طريقِ المجاز. والثوابُ والعقابُ جَبر، كما إنَّ الأفعالَ جَبر، والله قـــَـدَّرَ لفُلانٍ فِعلَ كذا وقدَّرَ له أن يُثاب، وقدَّرَ على الآخَر المعصية وقدَّرَ أن يُعاقَب.“

  

نلاحظُ هنا هذا الصراعَ المتواصلَ بين العقلِ والنَّقل. فالمعتزِلةُ آمنوا بالعقلِ وفسَّروا النصوصَ الدينيَّة تفسيرًا منطقيًّا فلسفيًّا. وهم أسدوا بذلك خدمةً كبيرةً للإسلام حينما تعرَّضَ لهجماتِ عقائدِ الفرسِ المانويَّة وغيرِها من العقائد غير الإسلاميَّةِ الأُخرى التي انتشرَ دُعاتُها مُستفيدين من إباحةِ حرِّيةِ الجدَلِ والمناظرة، في العصرِ العبَّاسيِّ الأوَّل. فلم يكُن أصحابُ الحديث (النقل) مُسلَّحين إلاَّ بالنصوص؛ القرآنِ والسنَّة. بينما يتطلَّبُ الأمرُ مُحاجَّةَ الخصمِ بالدليلِ العقليِّ الذي يُتقنُه المعتزلة. أمَّا الفلاسفة فكانوا لا يتعرَّضون للدين إلاَّ إذا تعارض مع الفلسفة، فيعملون على تكييفِ الفلسفة بُغيَة أن لا تتعارضَ مع الدين. فهم فلاسفةٌ أوَّلاً ثمَّ مُتديِّنون ثانيًا. بينما يتَّسمُ المعتزلة بكونهم مُتديِّنين أوَّلاً وآخرًا، ومع ذلك فهم مُسلَّحون بالحُجَجِ المُقنِعة والأدلّةِ الدامغة. وكان بينهم خُطباءُ بُلَغاء، وعُلماءُ فُقهاء، من أمثال النظّام والجاحظ وبِشر بنِ المعتمر وأحمد بن أبي دؤاد. وهم الذين اخترعوا علومَ البيانِ والبلاغة. فكانوا يتحدَّثون بلُغةٍ فصيحةٍ سائغة ومؤَثِّرة تفهمُها العامَّة وتُقدِّرُها الخاصَّة. ويُمثِّلُ هؤلاء الجيلَ الثاني بعد عُلماء وخُطباء بارزين من أمثال الحسَن البصريّ وواصل بن عطاء. أَمَّا الفلاسفة فيتحدَّثون ”بعباراتٍ جافَّة غامضة، كأنَّها رموزٌ وإشارات.“

    

ثالثًا: ”المُلكُ العَضوض“

الاستبدادُ والقهرُ يؤَدِّيان إلى الإيمانِ بالقضاءِ والقدَر

لعلَّ أوَّلَ مَن صرَّحَ بقضاءِ الله أو بـ"الحقِّ الإلهيِّ"في مُواصلةِ الحُكم، في الإسلام، هو الخليفةُ عثمان بن عفَّان، حين طُلِبَ إليه التنحِّي عن الخلافة، فقال قولتَه المشهورة: ”واللهِ لا أنزعُ ثوبًا سربلَنيه الله.“

ويُمكنُ القولُ إنَّ فكرةَ القضاءِ والقدَر طُرِحَت لأوَّل مرَّة لتتَّخذَ أبعادًا سياسيَّة أسفرَت عمَّا أُطلِق عليه تسميةُ ”المُلك العضوض“، عندما خاطبَ مُعاوية بنُ أبي سفيان جيشَه في صفِّين، وهو يستعدُّ لقتال الإمام عليّ بن أبي طالب، قائلاً، بين أُمورٍ أُخرى: ”وقد كان من قضاءِ الله أن ساقتنا المقاديرُ إلى هذه البقعة من الأرض، ولفَّتْ بيننا وبين أهلِ العراق.“ ثمَّ تلا قولَه تعالى ”ولو شاءَ الله ما اقتَتلوا، ولكنَّ الله يفعلُ ما يُريد﴾ (البقرة: 253).

  

وأدركَ مُعاوية، بعد أن استتبَّ له الحُكم، أنَّه يحتاجُ إلى التماسِ الشرعيَّة في الحُكم بعد أن اغتصبَه بالقوَّة، ففقدَ شرعيَّةَ الشُّورى التي أُسِّسَ عليها الحُكمُ في الإسلام. وهكذا فإنَّه لجأَ إلى التماسِ الشرعيَّةِ في القضاءِ والقدَر، وكأنَّ الله هو الذي قضى بسابقِ عِلمِه أن يتولَّى الأُمويُّون الحُكم. فخطبَ في أهلِ الكوفة قائلاً: ”يا أهلَ الكوفة، أتراني قاتلتُكم على الصلاةِ والزكاةِ والحجّ، وقد علمتُ أنَّكم تُصلُّون وتُزكُّون وتحجُّون، لكنّي قاتلتُكم لأتأمرَ عليكم وعلى رقابِكم، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون.“

     

وخطبَ بمناسبةِ تنصيبِ ابنِه يَزيد خليفةً له قائلاً: ”إنَّ أمرَ يزيد قد كان قضاءً من الله، وليس لِلعبادِ الخيرةُ من أمرِهم.“ ثمَّ ردَّدَ عُمّالُه هذا المبدأ، فقال زياد بن أبيه في خطبتِه المعروفة بـ”البتراء“: ” أيُّها الناس، إنّا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسُكم بسُلطانِ الله الذي أعطانا، ونذودُ عنكم بفَيء الله الذي خوَّلَنا.“

        

كما قال مُعاوية بعد أن تمَّت له البيعة في المدينة: ”إنّي ما وليتُها بمحبَّة علمتُها منكم، ولا مسرَّة بولايتي، ولكنَّي جالدتُكم بسيفي هذا مُجالَدة.“ وأضاف: "إنَّني أردتُ أن أَتَّبعَ سُنَّةَ أبي بكر وعُمر، ولكنَّ نفسينفرَت من ذلك نفارًا شديدًا... فإن لم تجدوني خيرَكم، فإنِّي خيرٌ لكم ولاية... وإن لم تجدوني أقومَ بحقِّكم كلِّه، فاقبلوا مني بعضَه...“

   

وقصَّةُ أَخذِ البيعة ليزيد مشهورة، تذكرُها كتبُ التاريخ. ومُلخَّصُها أنَّ معاوية بعد أن جمَعَ الناسَ ودعا الوفودَ من جميع  الأمصار، في عام 55 هـ؛ قام يزيد بنُ المقفَّع خطيباً، فقال: ”أميرُ المؤمنين هذا“ مُشيرًا إلى معاوية، ”فإنْ هلكَ فهذا“ مُشيرًا إلى يزيد، ”فمَن أبى فهذا“ مُشيرًا إلى سيفِه. فقال له مُعاوية: ”اجلِسْ فإنَّكَ سيِّدُ الخطباء.“(23)      

وعندما تُوفِّيَ مُعاوية، خطبَ ابنُه يزيد قائلاً: ”الحمدُ لله الذي ما شاءَ صنَع، ومَن شاءَ أعطى، ومَن شاءَ منَع، ومَن شاءَ خفَض، ومن شاءَ رفَع. “(24، 25) كما جرى توظيفُ الحديثِ النبَويِّ لِدَعمِ وجهةِ نظرِ الأُمويِّين، فقالوا إنَّ الله لا يُحاسبُ الخلفاءَ لأنَّه هو الذي جعلَهم أُمراء، ووضعوا حديثًا مَفادُه ”إنَّ الله تعالى إذا استرعى عبدًا رعيَّةً كتبَ له الحسنات ولم يكتبْ له السيِّئات.“ وذُكِرَت أحاديثُ أُخرى، منها أنَّ ”من قام بالخلافة ثلاثةَ أيَّام لم يدخل النار.“ وقال مُعاوية: ”قد أَكرمَ الله الخلفاءَ الكرامة، أنقذَهم من النار، وأوجبَ لهم الجنَّة، وجعلَ أنصارَهم أهلَ الشام.“ وخطبَ هشام بنُ عبدِ الملك حين وَليَ الخلافة فقال: ”الحمدُ لله الذي أنقذَني من النار بهذا المقام.“ ويُقال إنَّه جمعَ أربعين شيخًا شهِدوا له أنَّ ما على الخُلفاء حسابٌ ولا عِقاب. (25)     

ويُشير الشيخ علي عبد الرازق إلى أنّ ”الخلافة في الإسلام لم ترتكزْ إلاَّ على القوَّة الرهيبة، وأنَّ تلك القوَّةَ كانت، إلاَّ في القليلِ النادر، قوَّةً مادِّيةً مُسلَّحة.“ ويُذكِّرُنا، بين أُمورٍ أُخرى كثيرة، بالطريقةِ التي فرَضت البيعةَ ليزيد بنِ مُعاوية المذكورة آنفًا، ثمَّ يُشيرُ إلى ”استباحةِ يَزيد لدَمِ الحُسَين ابنِ فاطمة الزهراء، بنتِ رسولِ الله (ص)“، وكيف ”انتهكَ حُرمةَ مدينةِ الرسول“، وكيف ”استباحَ عبدُ الملك بنُ مروان بيتَ الله الحرام ووطئَ حِماه.“ (26)     

كما تذكرُ كتبُ التاريخ أنَّ عبدَ الملك بنَ مروان ارتقى مِنبرَ رسولِ الله (ص) في المدينةِ المنوَّرة، وقال قَولتَه الشهيرة: ”واللهِ لا يأمرُني أحدٌ بتقوى الله بعد مقامي هذا إلاَّ ضربتُ عُنقَه.“(27)     

كما حكمَ العبَّاسيُّون استنادًا إلى مبدإ ”الإرادة الإلهية“. خطب أبو جعفر المنصور قائلا: ”أيُّها الناسُ إنَّما أنا سلطانُ الله في أرضه، أسوسُكم بتوفيقِه... وحارسُه على مالِه، أعملُ فيه بمشيئتِه وإرادتِه وأُعطيه بإذنه.“

(28)

    

وهكذا، ومنذ أن تحوَّلَ الحُكمُ إلى ”مُلكٍ عَضوض“، بعد الخلافةِ الراشدة، تداولَ السلطةَ الملوكُ الذين حكَموا بقضاءِ الله وقدَرِه. وتوطَّدَ هذا المفهومُ أكثر عن طريقِ تبريرِ الفُقهاء للمُلك العَضوض تحت ذريعةِ ”دَرءُ المفاسدِ مُقدَّمٌ على جَلبِ المصالح“، و”مَن اشتدَّت وطأتُه وجبَت طاعتُه،“ حتَّى قال قائلُهم:

وطاعةُ من إليه الأمرُ لـَـزْمٌ     وإن كانوا بغاة ًفاجرينا  

 

 

وتُصوِّرُ أبياتُ دِعبِل الخُزاعيّ هذا الوضعَ الاستبداديَّ المتواصِل:

الحمد لله لا صبرٌ  ولا  جَلدٌ         ولا عزاءٌ إذا أهلُ البِلى رقدوا 

خليفة مات َلم يحزنْ له أحدٌ         وآخرٌ قامَ لم  يفرحْ  به  أحدُ

فمرَّ  ذاكَ ومُــــرُّ الشؤم يتبعُه         وقامَ هذا وقام النحسُ  والنَـكدُ

 

 

 

 

 

 

 

ويقول أبو بكر الخُوارزميّ في وصفِ سيرةِ حاكم: ”فما زال يفتحُ علينا أبوابَ المظالم، ويحتلبُ فينا ضَرْعَ الدنانير والدراهم، ويسيرُ في بلادِنا سيرةَ لا يسيرُها السِّـنَّورُ في الغار، ولا يستجيزُها المسلمون في الكفَّار، حتَّى افتقرَ الأغنياء، وانكشفَ الفقراء، وحتَّى تركَ الدِّهقانُ ضيعتَه، وجحدَ صاحبُ الغلّةِ غلَّتَه، وحتَّى نشفَ الزرعُ والضَّرع، وأُهلِكَ الحرثُ والنسل، وحتَّى أخربَ البلاد، بل أخربَ العِباد، وحتَّى شوَّق إلى الآخرة أهلَ الدنيا، وحبَّبَ الفقرَ إلى أهلِ الغنى... والله ما الذئبُ في الغنَمِ بالقياسِ إليه إلاَّ من المصلحين، ولا السّوس في الخَزِّ في الصيف عنده إلاَّ من المحسِنين.“

[29]

    

وأستدركُ فأقول إنَّ ذلك الظلمَ والقهرَ يُصاحبُه إغداقٌ كبيرٌ على العُلماءِ والشعراء، فقيل في ذلك: ”يَهبُ الأمير ما لا يملك.“ لذلك ازدهرت العلومُ والآداب بل ازدهرت الحضارة العربية الإسلامية بوجه عام. ونحن هنا لا نبحث هذه النقطة لأن بحثنا ينصب على تعوّد العقل  المجتمعي العربي على الاستبداد والقهر حصراً.

ومن جهة أخرى، يقول أحمد أمين إنَّ الخُلفاءَ ”على الجملة نهَّابون وهَّابون.“ أمَّا قُضاةُ بعضِ الخُلفاء، فحدِّثْ عنهم ولا حرَج.

 قال بديعُ الزمان الهمذانيّ في وصفِ أحدِ القُضاة: ”يا للرجال وأين الرجال؟ وليَ القضاءَ مَن لا يملكُ من آلاتِه غيرَ السِّباب، ولا يعرفُ من أدواته غيرَ الاختذال! وما رأيُك في سوسٍ لا يقعُ إلاَّ على صوفِ الأيتام، وجرادٍ لا يسقطُ إلاَّ على الزرعِ الحرام، ولصٍّ لا ينتقبُ إلاَّ على خزانةِ الأوقاف؟“. (30)    

 ولئنْ طفقَ المتنِّبي يُدبِّجُ القصائدَ العصماءَ في مَدحِ سَيفِ الدولة، فإنَّ هذا كان ”ينهبُ الناسَ ويُصادرُ أموالَهم ليمنحَها للمتنبِّي وأمثالِه، فيصوغون له قلائدَ المدح، فينطبقُ عليه الحديث ’ليتَها ما زَنتْ ولا تصدَّقتْ.‘ وكان قاضيه يُسهِّلُ له كلَّ مَظلمة حتَّى قال يومًا: ’من هَلَك فلِسيفِ الدولة ما ملَك.‘(انطر المرجع السابق).

ويقول الجابريّ: ”إنَّ التاريخَ العربيَّ لم يعرفْقطُّ ظاهرةَ الصراع من أجل الحدِّ من سلطةِ الحاكمِ الفَرد أو فرضِ قيودٍ أو رقابةٍ عليه“... ”ألم يُضطرَّ الفقهاءُ في كلِّ عصرٍ من الإفتاءِ بجوازِ توليةِ المفضولِ على الأفضل؟... أمَّا الخروجُ على الإمام فقد تجنَّبوا الإفتاءَ به بدعوى اتِّقاءِ الفِتنة.“ ومن هنا جرى ترسيخُ روحِ الاستسلامِ ومبدإ ”ليس بالإمكان أحسنُ مِمَّا كان،“ (31) 

أو بالأحرى الاستسلام للقضاءِ والقدَر ومشيئةِ الله، بغيةَ تعزيةِ النفسِ ومُصالحةِ الذات للقبول بالأمر الواقع.

ومع اعترافِنا الكامل بالجانبِ المشرِق للتاريخِ العربيِّ الإسلاميّ، وإكبارِنا له، فيجبُ أن لا نغفلَ بحثَ الجوانبِ المعتمِة منه أيضًا. وقد أسهَبنا في الشرحِ وتثبيتِ بعض الحقائقِ التاريخيَّة المُرَّة، لأنَّنا غالبًا ما ننسى أو نتناسى هذا الجانب، ونتمسَّكُ بترديدِ الجانبِ المشرِق والمعروف، (32) وبذلك نفشلُ في تفهُّمِ إشكاليَّتِنا، وتشخيصِ أدوائنا، بعقلٍ فاعِلٍ لا مُنفعِل.

وفضلاً عن كلِّ ذلك، فقد تفاقمَت خصائصُ الاستبداد خلال فترةِ الانحطاطِ والسيطرةِ العثمانيَّة، مع وجودِ فتراتٍ تتميَّزُ بقَهرٍ أكثر أو أقلَّ نسبيًّا، حتَّى وصلنا إلى عصر الاحتلالِ الغربيِّ في العصرِ الحديث، ثمَّ الحُكم الوطنيّ الذي ظهرَ أنَّهُ أدهى وأمرَّ من عصرِ الاحتلال، أحيانًا، وخاصَّةً في العراق، الذي كان يُمثِّلُ أهمَّ مركزٍ للحضارةِ العربيَّةِ الإسلاميَّة.

وهكذا فإنَّ هذه الأوضاعَ الاستبداديَّة استمرَّت على نحوٍ أو آخَر حتَّى اليوم، على وجهِ العموم، في معظمِ أجزاء العالَمِ العربيِّ والإسلاميّ. لذلك يلجأ الإنسانِ العربيِّ المظلوم إلى الإيمانُ بالقضاءِ والقدَر، وتسليمُ أمرِه إلى الله تعالى باعتبارِ أنَّ الدنيا فانية وأنَّها جسرٌ للآخِرة، والعاقبةُ للصابرين والمتَّقين.

ولمَّا كان العقلُ المجتمعيُّ يُمثِّلُ ذاكرةَ الأُمَّة ومُحصَّلةَ ظروفِها وتاريخِها، فإنَّه يُصبحُ في هذه الحالة مشحونًا بهذه القيمة (القضاء والقدَر)، إلى جانبِ قِيَمٍ أُخرى متعدِّدة. بَيدَ أنَّ القِيمَ المتفوِّقة، أي التي تؤَثِّرُ في الوحدةِ المجتمعيَّة أكثرَ من غيرها، خاصّةً بسببِ طولِ الفترةِ التي توالت فيها الأحداثُ والظروفُ المُفضِية إلى هذه القيمة، أقولُ في هذه الحالة، تظهر تلك القيمة (أي القضاء والقدَر) في سلوك أعضاء المجتمع بقَدرٍ أكبر. ويُمكنُ أن نُفسِّرَ ذلك بأنَّ العقلَ المجتمعيَّ يُشبهُ، إلى حدٍّ بعيد، العقلَ الباطنَ بالنسبة للفرد، بموجب مدرسةِ التحليل النفسيّ، كما ذكرنا سابقًا. فهو يخزنُ التجاربَ المختلفة. ولكنَّ التجاربَ القاسية والمتواصلة، خاصَّةً في فترة الطفولة، تُؤثِّر في سلوك الفرد أكثر، وتظهرُ بأشكالٍ مختلفة، وقد تُشكِّلُ عُقدًا نفسيَّة أو سلوكيَّاتٍ مرَضيَّة معيَّنة. ويُمكنُ مقارنةُ طفولةِ الفردِ بتاريخ المجتمع البشريّ أو طفولتِه، وقد لاحظنا بعضَ ملامحِه التي توحي بتغلُّبِ فكرةِ القضاءِ والقدَر على العقلِ المجتمعيّ وبالتالي على العقلِ المنفعِل للفردِ، العُضوِ في ذلك المجتمع.

وهكذا فقد أوضحنا آنفًا كما في بحثِنا الموسَّع المعنوَن بـ”حالُ العربِ في المهجر“ (33) أنَّ القهرَ الطويلَ الذي تعرَّضَ له الفردُ العربيُّ خلال تاريخِه الماضي ظلَّت آثارُه ترافقُه حتَّى بعد أن انتقلَ إلى المهجر، حيث توافرَت له سُبلُ حرِّيةِ التفكيرِ والتعبيرِ والنشرِ والتجمُّع والتنظيمِ السياسيّ، والتصويتِ الحرّ، أي جميع الحرّيات الأساسيّة التي كان يفتقدُها في وطنِه الأُمّ. ومع ذلك نجدُه يكاد يكونُ مشلولاً، في الغالب، حتَّى في حالِ تعلُّقِ الأمرِ بحقوقِه ومصالحِه في المهجر، فضلاً عن مصالح ومُعضلاتِ وطنِه الأُمّ. فهو لا يُشارك، على الأغلب، في الانتخاباتِ العامَّة أو المحلّيَّة، ولا في الاجتماعات والتظاهرات العامَّة، ونادرًا ما يُناقشُ أو يعترضُ على الآراءِ المُتجنِّية على العربِ والمسلمين التي تحفلُ بها وسائطُ الإعلام الأمريكيَّة خاصَّةً. لذلك نجدُ المنظَّماتِ العربيَّة والإسلاميَّة ضعيفة في أمريكا، ونلاحظُ أنَّ اللوبي العربيّ معدوم أو هزيل جدًّا، بالمقارنة مع سواه، مع أنَّ العربَ والمسلمين يعدُّون حوالى ستَّة ملايين في الولاياتِ المتَّحدة، حسب معظم التقديرات، وعلى الرّغم من أنَّ جماعاتٍ كبيرة من العرب الذين يعيشون في أمريكا هم من المتعلِّمين.

والسببُ في هذا التقاعس، كما أرى، هو أنَّ التعرُّضَ الطويلَ للقَهرِ والاستبداد الذي مرَّ به المجتمعُ العربيّ أدَّى إلى أن يألفَ الفردُ ذلك القَهر. ولا يحدثُ ذلك من خلال ما يتعرَّضُ له الفردُ من قَهرٍ في حياتِه فحَسب، بل ما تعرَّضَ له آباؤه وأجدادُه خلال الأجيالِ السابقة، لأنَّ ذلك الفردَ يتأثَّرُ بالقِيَمِ الراسخةِ والمتوارَثة التي تُشكِّلُ نسيجَ ذلك العقلِ المجتمعيّ السائد (أي العقل العربيّ والإسلاميّ في هذه الحالة، مع إمكانِ تعميمِ هذه القاعدة على أيِّ عقلٍ مجتمعيٍّ آخَر، وذلك في خصائصَ أُخرى مختلفة؛ وهذا بحاجةٍ إلى بحثٍ يخرج عن موضوعنا). فالعقلُ المجتمعيُّ يحتفظُ بهذه الخاصِّـيّة (القهر)، لِكونِها تُصبحُ جزءًا فعّالاً من ذلك العقلِ المجتمعيّ الذي يُؤثِّرُ بدورِه في ”العقلِ المنفعِل“ للفردِ العربيّ.

وهكذا يتحوَّلُ إلى قَهرٍ داخليّ مُعشِّش وُمتشعِّب ومُتجذِّر في أعماقِ الذاتِ العربيَّة، يصعبُ جدًّا الفكاكُ منه حتَّى لو تحرَّرَت منه من الخارج. لذلك لم يتمكَّن العربُ من الاستفادةِ من حرِّيتِهم في المهجر إلاَّ القليلَ النَّزر، خلال عشرات السنوات الماضية.

وهنا أُعيدُ إلى الأذهانِ مثالاً ذكرتُه في كتاباتٍ سابقة: الطيرُ الذي يولَدُ في القفَص يتعذَّرُ عليه التمتُّعُ بحرِّيتِه، بل يعجزُ عن الطيرانِ إذا أُطلِقَ سراحُه، ويظلُّ حائرًا متردِّدا كيف يتصرَّفُ بحرِّيتِه، ثمَّ يسعى إلى العودةِ إلى سجنِه (قفَصِه) الأبديّ، لأنَّه يُشكِّلُ بيتَه الوحيد، وعشَّه الذي ألفَه منذ ولادتِه. وقد جربت ذلك مع بعض من طيور الحبّ التي كنت أعتني بها في فترة سابقة.

ومن جملةِ الشواهدِ على وجودِ هذا القَهرِ  الكامن والمغروسِ في العقلِ المجتمعيِّ العربيّ، وبالتالي العقل الفرديّ، أنَّ الجيلَين الثاني والثالث وما بعدهما، من الجالية العربيَّة في المهجر، تكون أقلَّ تهيُّبًا وتحفُّظًا، بل أكثر عقلانيَّةً وتقحُّماً ونشاطًا سياسيًّا أو اجتماعيًّا. وسببُ ذلك، كما هو واضح، أنَّ أبناءَنا وأبناءَ أبنائنا يتحرَّرون من سلطةِ عقلِهم المجتمعيّ الأصليّ وينتقلون إلى التأثُّرِ أو الخضوعِ للعقلِ المجتمعيِّ الجديد تدريجيًّا. هذا العقلُ الذي يرتبطُ بالتطوُّراتِ التي حدثَت في المجتمعِ الغربيّ، خاصَّةً خلال القرونِ الثلاثةِ الماضية، لاسيَّما في ما يتعلَّقُ بحقوقِ الإنسانِ وحرِّيته ومسؤوليَّتِه، في الوقتِ الذي كان فيه المجتمعُ العربيّ خاضعًا لجميعِ أصنافِ الاستبدادِ والقَهرِ والاستغلال، سواءٌ من الداخل (الحاكم المستبدّ)، أو من الخارج (المستعمِر الأجنبيّ).

***

خاتمة

خلاصةُ القول إنَّ العقلَ المجتمعيَّ العربيَّ السائد ميَّال، بوجهٍ عامّ، نحو التواكل والاستسلام (لا تُفكِّرْ، لها مُدبِّر). والسببُ في ذلك، كما لاحظنا، أنَّ العقلَ المجتمعيَّ العربيّ المعاِصر متأثِّرٌ بوجهٍ خاصّ بالجوانبِ المتخلِّفة من ماضي الأُمَّة، جانبِ القَهرِ والاستبداد، الذي استمرَّ، منذ أربعة عشر قرناً تقريبًا، أكثرَ مِمَّا هو متأثِّرٌ بالجوانبِ الحضاريَّة من تاريخِها، كما ذكرنا سابقًا.

والمحصَّلةُ العامَّةُ النهائيَّة لحركةِ المجتمعِ العربيّ تنحدرُ نحو التراجعِ والتخلُّف، إن لم نقُلْ تنزلقُ نحو هاويةٍ ليس لها قرار، وذلك في جميع الميادين، كما تؤَكِّدُ تقاريرُ ”حال الأمَّة“ السنويَّة، التي يُصدرُها ”المؤتمرُ القوميُّ العربيّ“، والتقاريرُ السنوِيَّة التي أصدرَها مؤخَّرًا ”برنامجُ الأمَمِ المتَّحدة الإنمائيّ“ تحت عنوان ”تقريرُ التنميةِ الإنسانيَّة العربيَّة“. (34)  

وهكذا أرى أن هذا العقل المجتمعي العربي المتخلف يشكل السبب الرئيس لفشل  مشروعُ النهضةِ الذي رفعَه رُوَّادُها منذ منتصفِ القرنِ التاسعَ عشَر، فضلاً عن فشلَ مشروعُ الثورةِ الذي رفعَه رموزُها منذ الخمسينيَّات منالقرن الماضي. كما قد تفشل الثورة الأخيرة  التي أطلق عليها صفة الربيع العربي، الذي تبدو عليه طلائع الخريف. ونحن نُرجِّحُ أنَّ من أهمِّ أسبابِ فشلِ مشاريعِ إنقاذِ ما يُمكنُ إنقاذُه من بقايا هذه الأُمَّة، كان وما يزال عقلَها المجتمعيَّ التراثيّ الذي أُعِدَّ للماضي ولم يُعدَّ للحاضِر ولا للمستقبل، وخاصَّةً فيما يتعلَّقُ بالإيمانِ بالقضاءِ والقدَر، الأمرُ الذي يؤَدِّي إلى اليأسِ من قُدرةِ الذاتِ على تحسينِ الأوضاع. وما لم نَسعَ لتغييرِ هذا الحال، من خلال تعديلِ وغربلةِ عقلِنا المجتمعيِّ التقليديّ، وبالتالي تعديل وتعقيل عقلِنا الفرديِّ المنفعِل بذلك العقلِ المجتمعيّ، بواسطة عقلِنا الفاعل، الذي اعتكفَ وتقزَّمَ منذ عشرة قرونٍ تقريبًا، فإنَّ جميعَ المحاولاتِ السطحيَّة والحركاتِ الإصلاحيَّة ستبوءُ بالفشَل، كالسابق.

 

 




[1]

- برنامجُ الأُممِ المتَّحدة الإنمائيّ: ”تقريرُ التنميةِ الإنسانيَّة العربيَّة للعام 2002“ (عمَّان: المكتبُ الإقليميّ للدوَلِ العربيَّة، برنامجُ الأُمم المتَّحدة الإنمائيّ، 2002)، ص47

[2]

 - أنظر مقالي بعنوان ”هيكل، والبقَّال الفيلسوف، والمقاومة المسلحة“، صحيفة ”القُدس العربيّ“، لندن، 13/ أكتوبر/2004.

 

[3]

 -برنامجُ الأُممِ المتَّحدة الإنمائيّ: ”تقريرُ التنمية الإنسانيَّة العربيَّة للعام 2003“ (عمّان: المكتبُ الإقليميّ للدوَلِ العربيَّة. برنامجُ الأممِ المتَّحدة الإنمائيّ، 2003)، ص 11.

 

[4]

 - منير شفيق: ”الإسلام وتحدِّياتُ الانحطاطِ المعاصِر“، ص 108-109، عن جورج طرابيشي: ”المثقَّفون العرب والتراث“ (لندن: رياض الريِّس للكتب والنشر، 1991)، ص 27.

 

[5]

 -جورج طرابيشي، المرجع الوارد في الفقرة السابقة، ص 27.

 

[6]

 - يتعرَّض حليم بركات لظاهرة القضاء والقدر، ويتَّخذُ موقفًا دفاعيًّا بشأنها، حين يُشيرُ إلى وجود صراعٍ بينها وبين قِيَمِ المسؤوليَّة وحرِّية الإرادة. أنظرْ كتابَه ”المجتمعُ العربيّ في القرنِ العشرين“ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 2000)، ص 655.ومع اعترافِنا بهذا الصراع، كما أشرنا ، فإنَّنا نعتقد أنَّ القِيمَ الأُولى هي الفائزة في هذا الصراع، بدليلِ انتشارِها وعموميَّتِها، خاصَّةً لدى العامَّة، بل لدى كثيرٍ من المتعلِّمين، وهم أكثريَّةُ المجتمعِ العربيّ، كما أسلفنا.

 

[7]

 - فيما يتعلَّقُ بالجانبِ الفلسفيّ، هناك عدَّةُ مراجعَ تبحثُ في هذه الموضوعات، ومنها بالعربيَّة: ”الموسوعة العربيَّة المختصرة“، بإشراف زكي نجيب محمود (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصريَّة، 1963)، مادَّة ”حتميَّة“ و”حرِّية الإرادة“. كذلك ”المعجم الفلسفيّ“، جميل صليبا، مادَّة ”جبريّة“ ومادَّة ”حتمية“. وفي الإنكليزيَّة The Encyclopedia of Philosophy, Macmillan Publishing Co. 1972,، مادَّة Fatalismجبريَّة، ومادَّة Determinismحتميَّة. وأرجو أن نُميِّزَ بين الجبريَّة والحتميَّة، فالأُولى تُعلِّقُ ضرورةَ حدوثِ الأشياء على مبدإٍ أعلى منها، يُسيّرُها كما يشاء، فهي إذاً ضرورة مُتعالية. أمَّا الثانية فإنَها تعني أنَّ للظواهر الطبيعيَّة عِلَلاً تُحدِثُها، وهي مبدأُ السببيِّة عينُه، فالعلَّة توجِبُ حدوثَ المعلول (أنظر ”المعجم الفلسفيّ“)، أي إنَّه لابدَّ من أن يكون لكلِّ ظاهرة أو حدَث سببٌ معيَّن، معروفٌ أو غيرُ معروف، ولكنْ يمكنُ معرفتُه. ويترتَّبُ على ذلك أنَّنا يُمكنُ أن نستشرفَ المستقبلَ إذا عرفنا الحاضرَ معرفةً كافية، كما يقول العالم الفرنسي لابلاس (أنظر هنري برجسون: ”التطوُّرُ الخالق“: ترجمة وتلخيص بديع الكَسم (القاهرة: دار الفكر العربيّ، بلا تاريخ)، ص 24.

 

     

[8]

- محمَّد عابِد الجابريّ: ”التراثُ والحداثة“ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1991)، ص 59.

[9]

 - أحمد أمين: ”فجر الإسلام“ (بيروت: دار الكتاب العربيّ، 1975)، ص 284.

 

[10]

-  أَحمد أمين، المرجع السابق، ص 283.

 

[11]

-أحمد أمين، المرجع السابق، ص 284-285.

[12]

-”الفِرَقُ الإسلاميَّة“ في ”موسوعة الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة“ (بيروت: المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر، 1986)، المجلَّد الثاني، ص 581 أو 291 .

[13]

 - إبنُ قُتَيبة الدينوريّ: ”الإمامةُ والسياسة“ (القاهرة: مكتبة مصطفى الحلبي، 1963)، ص 441. عن الجابريّ: ”العقلُ الأخلاقيُّ العربيّ“ (بيروت: مركز دراسات الوحدةِ العربيَّة، 2001)، ص 81.

 

[14]

 -الجابريّ: ”العقلُ السياسيّ العربيّ“ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط 2، 1992)، ص 310.

 

[15]

 -”موسوعةُ الحضارةِ العربيَّة الإسلاميَّة“، المرجع السابق، المجلد الثاني، ص 586 أو 296.

 

          

[16]

-الجابريّ: ”العقلُ الأخلاقيُّ العربيّ“، المرجع السابق، ص 83.

[17]

 -أَحمد أمين: ”فجرُ الإسلام“، المرجع السابق، ص 286.

 

[18]

- َاحمد أمين: ”ضُحى الإسلام“ (بيروت: دار الكتاب العربيّ، ج 3، ط10)، ص 204.

  

        

[19]

- إبنُ أبي الحديد: ”شرحُ نهجِ البلاغة“، ج11، ص497. عن الجابريّ: ”العقلُ السياسيُّ العربيّ“، المرجع السابق، ص 260

[20]

 - إبنُ قُتَيبة: ”الإمامةُ والسياسة“، ج1، ص 183-191. عن الجابريّ: ”العقلُ السياسيّ العربيّ“، المرجعُ السابق، ص260.

 

[21]

 - الجابريّ: ”العقلُ الأخلاقيُّ العربيّ“، المرجعُ السابق، ص 80.

 

[22]

- شهابُ الدين أحمد بن عبد ربّه الأندلسيّ: ”العِقدُ الفريد“ (القاهرة: المكتبةُ التجاريَّةُ الكُبرى، 1953)، ج 4، ص 147.

 

 

     

[23]

-  إبنُ عبد ربّه الأندلسيّ: ”العِقدُ الفريد“ (القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1935)، الجزء الثاني، ص 307. عن عَليّ عبد الرازق: ”الإسلامُ وأُصولُ الحكم“ (بيروت: دار الحياة، 1978)، ص 74.

[24]

 -الجابريّ: ”العقلُ الأخلاقيُّ العربيّ“، المرجع السابق، ص 80. كما كرَّر الجابريّ هذا القولَ في ”الدين والدولة وتطبيق الشريعة“، ص 83 و84. ولم أعثر على المصدر الأصلي في هذا الخبر، مع أنني راجعت المرجع الذي أحال إليه في "العقل السياسي العربي"، الفصل السابع.

 

[25]

 - أوردَها ابنُ عساكر والبلاذري، عن حسَين عطوان: ”الفِرَقُ الإسلاميَّة في بلاد الشام في العصرِ الأُمويّ“ (بيروت: دار الجيل، 1986)، ص 76.

 

 

[26]

 -علي عبد الرازق: ”الإسلام وأُصولُ الحُكم“، المرجع السابق، ص 75. كما يُشير د. فرَج فودة إلى حادثة استباحة مدينةِ الرسول، من جانب قائدِ جيشِ يَزيد، مُسلم بن عقبة، وذلك في كتابه ”الحقيقة الغائبة“، ص 80، استنادًا إلى تاريخ ”الكامل“ لابن الأثير، ج 5، ص 310-314، وكتاب الدينوري ”الأخبار الطوال“ (بيروت: دار المسيرة)، ص 267.

 

 

[27]

 -السيوطيّ: ”تاريخُ الخلفاء“، ص 219، عن فرَج فودة: ”الحقيقة الغائبة“، ص 76.

 

[28]

 -الجابريّ: ”الدينُ والدولةُ وتطبيقُ الشريعة“ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 1996)، ص 84، 85.

 

[29]

-  أحمد أمين: ”ظُهر الإسلام“ (بيروت: دار الكتاب العربيّ، ط 3 ،1969)، الجزء الثاني، ص 267. ، 268، 269.

 

      

[30]

-  احمد امين، المرجع الأخير، ص 268. 

[31]

 -الجابريّ: ”الديمقراطيَّة وحقوقُ الإنسان“ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط 2، 1997)، ص 52.

 

[32]

 -أقصد بالجانب المشرق الذي ساد فيه العدل والمساواة، ولكنه  لم يتجاوز 32 عاماً، أي خلال فترة الخلافة الراشدة التي استغرقت أقل من ثلاثين عاماً، ولاسيما خلافة أبي بكر وعمر وعليّ وخلال حُكم الخليفةُ الأُمويّ الصالح عُمَر بن عبد العزيز، التي دامت سنتَين وثلاثة أشهر فقط، ثمَّ مات وهو لم يتجاوز الأربعين. ويقول  فرَج فودة إنَّه مات مسمومًا، في أرجحِ الأقوال:انظر ”الحقيقة الغائبة“، طبعة خاصَّة، بلا تاريخ، ص 56.

 

[33]

-  دراسة من 50 صفحة قُدِّمَت إلى ”المؤتمرِ القوميّ العربيّ“ في دورة عام 1998، المعقودة في القاهرة، ونُشِرت في عدَّة صحُف على حلقات، منها صحيفة ”القُدس العربيّ“، لندن.

 

[34]

 - برنامجُ الأُممِ المتَّحدة الإنمائيّ: ”تقريرُ التنميةِ الإنسانيَّة العربيَّة“، مرجع سابق.

 

 


تعريف الدولة المارقة

$
0
0
 
تأليف : محمد السويسي
الدولة المارقة هي التي تخضع لنظام شمولي ديكتاتوري تعطل فيه القوانين والقضاء والدستور والحريات الشخصية والعامة وتعتمد على القوة والبطش والقتل في بسط نفوذها على المواطنين وإرهابهم من خلال عصابات أمنية متعددة تتبع للحاكم مباشرة بحيث تمارس أعمال الإعتقال والقتل بدون أي محاسبة أو رقابة عند أي كلمة نقد للنظام ولو كان إيجاياً ، كأن يشتكي مواطن من إرتفاع أسعار الخبز أو الضرائب أو المحروقات ، إن في صحيفة ما أو في حديث بين أقرانه في مكان عام أو مقهى.
وتغطي أعمال هذه الدول الخارجة عن القانون المؤسسات الأمنية في تمجيد الحاكم وتأليهه إذ تعتبره مصدر السلطات والوحي والعبقرية والإلهام نظراً لتفكيرها الإنتهازي في التسلط على الناس ، فيصبح أسيراً لهذه الأجهزة المجرمة وقد استبد به الغرور وسهلت له أمر نهب الأموال العامة والخاصة بشكل متواصل لتغطي نهبها وسرقاتها وإساءاتها للمواطنين .
لذا فإن هذه الأنظمة مع غياب العدالة والقانون تضحى أشبه بعصابات تتوسل الإثراء كيفما كان مع فرض الهيبة والخوف الدائم والرعب بتغطية إعلامية مخادعة تدعى العدالة والنضال والحرية ، يسوقها حشد كبير وضخم من المـأجورين تبث أكاذبيها بين العامة من المتعلمين والمعقدين وعديمي الثقافة والأخلاق والقيم ، من الإنتهازيين المتسلقين والمستفيدين والأزلام وفاقدي الشخصية الذين يبحثون عن منبر إعلامي يبرزون فيه ولو لمرة واحدة في حياتهم ولو بين عشرة أشخاص .
ورغم ذلك فلا مكان للقيم في الدولة المارقة  إذ لاتفرق بين الوطنية والخيانة ولاتجد حرجاً في العمالة والتبعية للدول الكبرى من أجل الإحتفاظ بسلطتها القمعية ونهب موارد الشعب والدولة .
وتعتبر الدولة المارقة خارجة عن القانون الدولي لاتعترف بأي قيم أو أخلاق وتسخر اموال شعبها الفقير والمعدم من أجل بناء إمبراطورية وهمية للهيمنة على العالم على ضعفها وقلة حيلتها وتدبيرها .
وهذا السلوك اللاأخلاقي واللاديني الخارج عن العقل والمنطق من حاكم  الدولة لابد وأن يكون صاحبه مختلاً أو به شىء من الجنون أو الإنفصام ، لأن علاقات الدول تقوم على تبادل المنفعة من أجل مصالح شعوبها وفق قواعد عالمية معترف بها ، وقد وصلت الى السلطة والحكم لحماية شعبها  لالقتله والتسلط على مقدراته ونهبه .
أما أن تجعل الدولة المارقة  من نظام الحكم خروجاً على التقاليد والأعراف والإعتداء على مواطنيها وجيرانها والدول الأخرى مع نشر الإرهاب والتقاتل وبث الفتنة بإنفاق الأموال الباهظة على حساب نهوض شعبها فإن هذا التصرف يثبت جنون الحاكم ، لأن تبادل المنفعة يقتضي إحترام كل دولة لحدود الدول الأخرى وإقامة العلاقات معها على اسس القانون الدولي القائم على الإحترام وحسن العلاقة والجوار .
 أما أن تكون العلاقة بالتهديد والتهويل واحتلال أراضي الآخرين ، خاصة إذا كانت دولة ضعيفة ومتخلفة - وإن كانت تتظاهر بغير ذلك نظراً لجنون حكامها وقصور فهمهم - فإن مصيرها  ينتهي بنهاية مأساوية كارثية على غيرمايتوقع حاكمها كما في حالة الربيع العربي .
إذ إن مقياس قوة الدول هو بقوة إقتصادها ونقدها الوطني لابأعمالها الإرهابية وقتل شعبها وشعوب الدول الآخرى وتهديد جيرانها .

الإنسان مسيّر ومخير في آن معاً

$
0
0
 
 
تأليف : محمد السويسي

الله جل وعلا أعطاك العقل وبين لك طريق الخير والشر وأعطاك حرية الاختيار بين الطريقين، وإن كان مقدراً عليك كل شيء في حياتك حتى شربة الماء. ولكن هذا لا يعطل عمل الاختيار، أما كون الإنسان مسيرًا في أمور ، فمنها الأجل وتحديده ؛ فالإنسان لا اختيار له في تحديد أجله من تقديم له أو تأخير.. والحاصل أن الإنسان مسير ومخير في آن معًا .
وهكذا فإن الإنسان غير مخير في ولادته ولا موعد وفاته. إلا أنه مخير في أفعاله والخيار بين الحلال والحرام وإلا لما بعث الله تعالى الرسل والأنبياء ليهدي الناس إلى طريق الصواب ويبين لهم الخير من الشر والحرام من الحلال ، وكلها في النهاية من خلق الله .
ولكن قوانينه التي نصت عليها كتبه السماوية هي التي جعلت منها حلالآ وحراماً ..والقصد من ذلك هوالإطاعة المطلقة لله جل وعلا دون نقاش أو إعتراض لأنه الأولى في معرفة خير الإنسان :
"وأن هذا صراطي مستقيما
والإطاعة المطلقة هي العبادة حتى الذوبان وهذا هو القصد من الخلق.
" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "
 
وعن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم ،على حمار، فقال:
 
يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال :
 
حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا . 
 
قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال: لا تبشرهم فيتكلوا .
فما نراه من خلال عقيدتنا حراما نجده في عقيدة الآخرين وعاداتهم حلالاً كما الخمر والميسر والسفور والعري والجمع بين الأختين وأكل الميتة ولحم الخنزير وغيرها كثير . 
 
ومن هنا نلحظ أن الإنسان مخير في أفعاله وأعماله وفقاً لنعمة الحرية التي أعطاها الله للإنسان في اتخاذ القرار إلا أنه أنار له طريقه فيما أنزل من أحكام . إلا أن الكثير من المسلمين ومن أهل الكتاب الأخرين يخالفون ماأنزل الله . ويعتبر ذلك استغلالاً للحرية المعطاة لهم في الإختيار كما يستغل البعض القوانين الوضعية في مخالفات عدة في شؤون الحياة .
 
ومن هنا كان لله حق العقاب للمخالفين وقد نور طريقهم من خلال رسله ،كما للدولة حق في معاقبة المخالفين وقد سنت القوانين من أجل ذلك . 
 
ولذا فإن الخلق مسؤولين عن أعمالهم بخياراتهم كما الخيار بين الطريق السهل والهاوية ، وما خلق الله الخير والشر إلا لامتحان طاعة الإنسان له "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" .. "ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" .."ونبلوكم بالشر والخير فتنة"وفي ذلك أكبر تأكيد بأن الإنسان في أعماله مخير .
 
فكما أن الشر فتنة يتجنبه الإنسان بطبعه فكذلك بعض الخير فتنة يقدم عليه الإنسان بخياره وإلا لما نهى الله عنه ، كما في اكتناز المال وإنفاقه على غير وجهه بما يغضب الله ، أو استغلال الرجل لنفوذه أو قوته لأذية الناس أو إستغلال المرأة لجمالها في معصية الله أو حبس المياه عن الناس أو تسوير أراضي الرعي لمنع الحيوان من الكلأ ، أو اصطياد الطيور مع توافرها لغير منفعة الأكل وما شابه من ذلك كثير . 
 
وأكبر مثل أسوقه وأختم الموضوع به هو التكريم الذي أعطاه الله لسليمان في مخاطبة الطير والحيوان وطول العمر وتسخير الرياح والجان لخدمته عدا الملك والجاه بما لم يعرفه قبله أحد من الخلق ومع ذلك فإنه عجز عن نقل عرش ملكة سبأ ولم يكن له القدرة على ذلك عندما خاطب مجلسه بالقول "أيكم يأتيني بعرشها"فانبرى عفريت من الجن أبدى مقدرته أن يأتي به قبل أن يقوم سليمان من مقامه ،"أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك"‏
 
إلا أن إنسان من البشر عنده علم من الكتاب كان أسرع منه أتى به قبل أن يرتد طرف سليمان إليه:
 
‏قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك‏"
 
وعندها أدرك سليمان أن ذلك امتحان له عندما رآه مستقراً عنده ، لئلا يأخذه الغرور على مقدرته وعلمه ،وقد خص الله سبحانه بعض خلقه بعلم لأحد رعاياه لم يعطه إياه فلم يعترض ولم يبتئس بل خر ساجداً على الأرض قائلاً :
 
"هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني حميد "
 
وفي ذلك قمة الحكمة وأكبر مثل للمؤمنين عند تعرضهم لتجربة ما أو اختبار، شراً كان أم خيراً
(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا).
 

التغلغل العلمانى فى العالم الإسلامى-12

$
0
0

من كتاب الأعلام والأقزام فى ميزان الإسلام للدكتور السيد حسين العفانى

 


 
* المارشال ليوتي أول حاكم فرنسي للمغرب عمل على هدم اللغة العربية وإحلال الفرنسية محلها، وخلق الخصومة بين العرب والبربر:
لا تستطيع أن تقرأ تاريخ المغرب الحديث دون أن ترى اسم المارشال (ليوتي) بارزا واضح الأثر بوصفه الرجل الذي مهد للاحتلال الفرنسي للمغرب وقعد قواعده، مثلة مثل كرومر في مصر، فهو أول حاكم للمغرب (ديسمبر ١٩١٢) ويعده مواطنوه الفرنسيون أنه منشئ المغرب الحديث، وأبرز أعماله هو خلق الخصومة وتأريثها بين عنصر الأمة المغربية العرب والبربر،  كما خلق كرومر الخلاف بين المسلمين والمسيحيين في مصر، وقد حارب اللغة العربية وحارب جامعة الزيتونة وظل يعمل في همة حتى عام ١٩٣٥ حينما بلغ السبعين من عمره وقد استطاع أن يكسب بعض شيوخ الطرق الصوفية إلى صف الحماية واستعان بهم على تركيز النفوذ الفرنسي عن طريق الفكر والدين، وكان ليوتي بارعا في استغلال الحزازات القبلية واستطاع أن يكسب إلى صف الاستعمار أرباب الطريقة الدرقاوية التي حملت لواء تثبيط مقاومة الشعب للاحتلال فقد أوصى دعاتها الأهالي بالطاعة والتسليم للسلطات الفرنسية، وقد بلغ مولاي عبد الرحمن غاية ما أملت فرنسا في هذا وقد ربط مستقبله بمستقبل فرنسا على حد تعبير روم لاندو في كتابه "تاريخ المغرب في القرن العشرين"في أنه لم تكد جنود الحلفاء تنزل المغرب حتى اتصل شيخ الدرقاوية بهم وطلب أن يصبح مواطنا، وقد قام الطرقيون بدورهم في ترجيح استسلام الأمير عبد الكريم في حرب الريف عام ١٩١٦، وقد أشار لاندو إلى أن الطريقة التيجانية هي أيضا قد نفعت فرنسا بنفوذها القوي في جنوبي المغرب وموريتانيا والريف، وكذلك الطريقة الكتانية وكان الفضل في ذلك إلى المارشال ليوتي الذي كان عمله الفكري من أكبر الأعمال التي مهدت للنفوذ الغربي الفرنسي في العقل العربي الإسلامي المغربي، وقد أولى ليوتي اهتمامه الأكبر إلى مقاومة جامعة الزيتونة حتى قال لأحد أعوانه أنه: إذا تم لفرنسا القضاء على القرويين فقد ضمنت فرنسا لنفسها الخلود في المغرب؛ ذلك لأن خريجي القرويين كانوا أهم عنصر في المقاومة التي واجهت الاستعمار الفرنسي، ولقد تعرضت جامعة القرويين منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى حملة ضخمة قادها كتاب الأفرنج وطعنوا في معارف أهلها وكفاءاتهم، وكان هذا تمهيدا للتدخل في مناهجها ومحاولة إماتتها والقضاء عليها. وأبرز أعمال ليوتي هي حركة الفصل بين العرب والبربر، وقد صور هذا الدور فيكتور بليه في كتاب "الشعب المغربي أو العنصر البربري"فقال:
لما حفظنا للقبائليين (البربر) في الجزائر حالهم، اتخذوا اللغة الفرنسية بدلا من العربية، ولا بد لبربر المغرب أن يتبعوا تلك الخطة، ومن الواجب علينا إعانتهم على ذلك، وقانونهم الخاص لا علاقة له بالقرآن، فيجب أن نثبته ونتممه ونرقيه بكيفية بربرية، إن لم تكن فرنسية، ولا نترك القرآن يثبت في أوطانهم، ولقد جعلنا برنامجا للتعليم البربري في فكرة فرنسية، وجعلنا المدرسين من القبائليين وذلك من أحسن الوسائل لمصادرة اللغة العربية".
- وهكذا كشف مخطط ليوتي وحلفائه هدفهم في القضاء على اللغة العربية والإسلام والقرآن أساسا باعتبارها وسائل المقاومة للغاصب، وقد أشار الجنرال مارتي في كتابه (مغرب الغد) إلى هذا المعنى حين قال: "لا حاجة لنا في تعليم العربية إلى المستغنين عنها، والعربية رائد الإسلام، ويجب علينا أن نمدن البربر خارج طور الإسلام ويجب علينا أن نمر من (البربرية) إلى (الفرنسية) بدون واسطة، ولا بد لنا من فتح مدارس فرنسية بربرية تتعلم فيها الشبية البربرية اللغة الفرنسية، ويجب علينا أن نأخذ الاحتياط في المذاكرة معهم في شأن الدين؛ لأن الإسلام ما وضع على البرابر إلا صبغة سطحية".
وصور مارتي هذه المدرسة الفرنسية البربرية.
- فقال: "إنها فرنسية باعتبار ما يقرأ فيها وبربرية باعتبار تلاميذها فلا حاجة إلى واسطة أجنبي حيث إن التعليم العربي، وتدخل الفقهاء، وكل المظاهر الإسلامية ستبعد عنها ابتعادا، وبذلك نبعدهم قسرا عن كل ما يطلق عليه لفظ إسلام".
- وقد أشار فيكتور فيكي إلى إنه يهتدي في ذلك بتعليمات المارشال ليوتي التي تهدف إلى مصادرة اللغة العربية وكتابة البربرية بحروف فرنسية.
وأشار جان جيرو في مجلة المغرب الكاثوليكي إلى أن الجنرال ليوتي فهم أن إثارة التناقض بين العنصرين البربري والعربي هو الكفيل بجلب المصالح لدولة فرنسا وأنه قد اندفع إلى ذلك بما له من ذكاء حاد يكشف به جانب.  المنفعة.
وكما أولت فرنسا الجنرال لافيجري اهتماما خالدا بإقامة تمثاله الضخم في مدخل تونس، كذلك أقيم للمارشال ليوتي مدفنا على ربوة تشرف على مدينة رباط الفتح بالمغرب.
وقد أشارت جريدة المقطم إلى الرابطة بين أهداف كرومر وليوتي، فقال خليل ثابت رئيس تحريرها: إن كرومر وليوتي كانا يمثلان سياسة من أكبر السياسات في القرن التاسع عشر فإنهما مع عنايتهما بالإصلاح الإداري والمالي والاقتصادي، لم ينسب أنهما وكيلا دولتين لهما أغراض ومقاصد لا بد من مراعاتها والسهر عليها وأنهم كانوا من أعظم رجال الاستعمار.
- وبعد فقد كان ليوتي عاملا على هدم ثلاث قواعد هامة:
١ - اللغة العربية وإحلال اللغة الفرنسية مكانها وتشجيع اللهجة البربرية.
٢ - تحويل التعليم إلى اتجاه الفكر التونسي والثقافة التونسية والقضاء على القرآن والدراسات الإسلامية.
٣ - إقامة المحاكم البربرية، وذلك للقضاء على النظم القضائية المستمدة من التشريع الإسلامي.


* الكردينال لافيجري طبق ما وصى به لويس التاسع وهو مؤسس جمعية الآباء البيض المبشرين في الجزائر وتونس وهو أكبر دعاة التغريب في المغرب العربي:
يعد الكردينال لافيجري من أكبر دعاة التغريب والعاملين على تثبيت قواعد النفوذ الأجنبي في المغرب العربي كله، وعندما توفي ١٨٩٢ كان عملا ضخما قد تم في الشمال الأفريقي لتركيز دعائم النفوذ الفرنسي حتى نسب.  إليه وارتبط به المؤتمر الأفخارستي الذي عقد في مدينة تونس ١٩٣٥ بعد أن أقيم تمثال له في مدخل المدينة عام ١٩٢٥ يمثله وهو أخذ الصليب بيده اليمنى والإنجيل بيده اليسرى.
وما زال قائما في مكانه إلى اليوم، وهو مع الجنرال ليوتي من طلائع الاستعمار في المغرب أشبه بكرومر وزويمر في المشرق وقد حاول من جاء من بعده أن يربطوا بينه وبين لويس وحملته الثامنة على تونس فقال أسقف قرطاجنة: "إن الفكرة العظمى التي كانت تدور بين جني سان لوي (لويس التاسع). والتي ورثها الكردينال لافيجري هي التي تدفعنا إلى عقد المؤتمر الأفخارستي، إن مؤتمر قرطاجنة سيكون حملة صليبية جديدة أو الحملة الصليبية التاسعة والكردينال لافيجري هو مؤسس جمعية الآباء البيض المبشرين في الجزائر وتونس، وكان مصدر العمل كله تقرير حقيقة تقول: إن الوسيلة الوحيدة لبقاء الاحتلال والنفوذ الفرنسي دوامه هو تحويل أهالي المغرب إلى فرنسيين وتغيير دينهم إلى دين الغرب.
ومن أبرز ضربات الكردينال لافيجري محاضرته المشهورة عن الرقيق في الإسلام والتي رد عليها المؤرخ العربي المصري أحمد شفيق صاحب الحوليات بكتاب ضخم باللغة الفرنسية ترجمه أحمد زكي باشا إلى اللغة العربية.
ومنذ مطالع شباب الكردينال لافيجري المولود عام ١٨٣٥ كان اتجاهه إلى دراسة العلوم اللاهوتية حتى وصل إلى مناصب الأكليروس إلى رتبة (الكردينالية) وقد جال جولات واسعة في بلاد المغرب وبلاد أفريقيا من أجل تدعيم إرساليات التبشير، والمعروف أن تونس احتلت سنة ١٨٨١ وأن عمله كان تمهيدا لهذا الاحتلال الذي كانت فرنسا تتطلع إليه منذ احتلال الجزائر سنة ١٨٣٠ ثم تأكيدا ودعما لهذا الاحتلال.
- ومن أهم الأعمال التي وضع لافيجري أسسها:  
١ - إقامة مدارس تبشيرية ومنها مدارس للراهبات استطاعت من بعد أن تضم كثيرا من حفيدات الباي والمفتي الأكبر وكبار الشخصيات المتصدرة للقيادات السياسية.
٢ - محاربة اللغة العربية والإسلام والقرآن.
٣ - الدعوة إلى إعادة الغرب إلى أصله الروماني.
٤ - توسيع نطاق التبشير في أفريقيا كلها وأقام جمعية الآباء البيض ذات التاريخ المعروف في مواجهة انتشار الإسلام.
وقد خلفه يونس وفوكو وجول سيكار ولهم مؤلفات خطيرة في الدعوة إلى تقويض أركان الإسلام والفكر الإسلامي واللغة العربية. وجملة رأي الكردينال لافيجري واتباعه أن هذه البلاد (المغرب) بلاد رومانية أصلا، ولا بد من إرجاعها إلى طابعها الروماني القديم. وفي نفس الوقت الذي كان المؤتمر الأفخارستي يعقد في تونس على أثر حملة التجنيس ودعوة التونسيين إلى الجنسية الفرنسية، كان الظهير البربري الصادر في المغرب (مراكش) يدعو إلى فصل العرب عن البربر، وفي نفس العام ١٩٣٠ كان احتفال فرنسا في الجزائر بمرور مائة عام على احتلالها، واعتباره احتفالا بمرور قرن على إقرار الكنيسة المسيحية في الجزائر.
وفي هذه الحركات جميعا كان اسم لافيجري لا يفارق الكتاب والمتحدثين متخذا منه نقطه البدء إلى توسيع نشاط التبشير في شمال أفريقيا، ولقد آثار المؤتمر الأفخارستي ضجة لا حد لها، فقد اعتمد له مليونا من الفرنكات من ميزانية الحكومة التونسية، وتقرر عنده في قرطاجنة، فلما اقترب موعده قدمت إلى العاصمة جماعات كثيفة من الرهبان وأخذت تتجول في الشوارع، صفوفا متراصة تتقدمها كشافة ترتدي ملابس الحروب الصليبية، وهي قمصان بيضاء رسم عليها الصليب من أمام ومن خلف ينشدون الأناشيد  الكنائسية، وكان حديث الرهبان إلى المسلمين لا يخرج عن أنهم من أرومة مسيحية ورومانية وأنهم لا بد أن يعودوا إليها، وأن هذه البلاد "ستدخل في حياة جديدة بعد ليل الإسلام الطويل".
١ - الرقيق في الإسلام: هاجم الكردينال لافيجري الإسلام في محاضرة له عن الرقيق، أثارت كاتبا عربيا مصريا هو المؤرخ أحمد شفيق صاحب الحوليات الذي كان في باريس في هذه الفترة:
- قال أحمد شفيق باشا في مذكراته: في أول يوليو ١٨٨٨ ذهبت إلى كنيسة سان سوليبس لأستمع فيها إلى محاضرة عن الرقيق. وهو موضوع يهمني بصفتي مسلما، وكان بصحبة الكردينال سوداني صغير قال: إنه أنقذه من الرق وقد تكلم عن سير الرق في أفريقيا ولفت الأنظار إلى انتشاره ومما قال: لقد زاد الرقيق في أفريقيا منذ عشر سنين وأصبح يقدر بمليون نسمة في السنة فإذا استمرت هذه الحال خمسين عاما أخرى فلن يبقى في تلك الأنحاء إنسان حر، وما يزال ذائعا عند حدود مصر وفي زنجبار وبلاد العرب، وعلى ساحل البحر الأحمر، وبالرغم من رقابة السفن الإنجليزية فإن النخاسة يعبرون هذا البحر في جوف الليل فلا يراهم أحد. ثم تكلم عما يلاقيه الرقيق من المر والذل وتعرض إلى الإسلام في هذه النقطة فقال: إن سوء معاملة الرقيق أمر يبيحه الإسلام. وقد عقدت العزم منذ عودتي من باريس على أن أرد بالفرنسية على المزاعم التي وردت في محاضرة الكردينال لافيجري.
وقد رددت على الكردينال سنة ١٨٩٠ في مؤلف بالفرنسية ترجم إلى اللغتين التركية والعربية عنوانه "الرق في الإسلام".
- وقال شفيق باشا: الذي حملني على الشروع في هذا البحث على الاسترقاق إنما هو الخطأ الشائع في أوربا بخصوص الديانة الإسلامية إذ يزعم. القوم أن نصوصها تحض على ارتكاب الفظائع الحاصلة في أفريقيا الوسطى، فلما أقدمت على هذا العمل رأيت الواجب على أن أحيط علم الجمهور بخلاصة تاريخ عن الاسترقاق وموقف الإسلام منه.
- وقال أحمد شفيق: إن الدين الإسلامي الحنيف لا يبيح في أي حال من الأحوال معاملة الرق إذا كان أبواه مسلمين حرين، ولا يكون الاسترقاق إلا في الحرب ومع ذلك فهو مقيد بشروط وروابط معلومة منها أن يتم على وجه المقرر له، ومنها أن يكون مع أقوام يؤمنون بالله ورسوله على أنهم إذا رضوا بالإسلام دينا أو دفعوا الجزية تخلصوا من ربقة العبودية. إن الشريعة الإسلامية تأمر تابعيها بالتزام الرفق والرأفة مع المملوكين واستشهد على ذلك بالمأثور عن النبي فقد قال: "اتقوا الله في الضعيفين المرأة والمملوك".
وأمر - صلى الله عليه وسلم - بأن يلبس المملوك من لباس سيده ويتغذى من غذائه، ولا يحمل فوق طاقته وإن كان سيده مقترا في معيشته فلا يسري عليه ذلك.
إن الكتاب والحكم والأحاديث النبوية تبيح للسيد أن يتزوج مملوكته إذا أعتقها وأمهرها.
وقال: إن الكردينال لافيجري وأتباعه قد اتهموا الديانة الإسلامية بأنها تدعو إلى النخاسة وتوصي أهلها بارتكاب الفظائع والقبائح التي يرويها عن أواسط أفريقيا. وبلغ من حكمة أحمد شفيق أنه لم يشر إلى الكردينال لافيجري في كتابه الذي لقي بالغ التقدير من الكتاب الغربيين أمثال: مسمو، رنيو، أندري لوبون، ماسيجلي. وقالت جريدة الربيو بليكان أوليانز الفرنسية: أن لافيجري زعم من المسلمين يعتقدون أن الزنجي ليس من العامة البشرية والهيئة الاجتماعية الإنسانية بل هو واسطة بين الحيوانات العجم وأنهم يعلمون هذه المعتقدات لأطفالهم ويبثونها في أذهانهم وقد حققنا بالبراهين الدامغة أن الكردينال لافيجري قد استعمل في دعواه طريق الغش والتدليس.  لكي يجتذب تعضيد الفرق الدينية ماديا وأدبيا قد يرقش رأيه ودعوته بصفة الدين فنهج منهجا مناقضا لطريقة تمثيل الحقائق بالصفة التي من حقها أن تكون عليها.


* القس المبشر دنلوب وتغريب التعليم في مصر:
يعد "دنلوب"واضع المخطط الأساسي لتغريب التعليم والتربية وإقصاء الإسلام عن برامج التعليم في المدرسة المصرية، باعتبار أن التعليم والتربية لها أكبر الأثر في مخطط التغريب والشعوبية والتبشير والاستشراق إن لم تكن هي جوهر هدف الاستعمار الأساسي.
فإن خلق طبقة من المتفرنجة الذين ينكرون الدين والخلق معا (الإلحاد والإباحية) هو عمل أساسي فعلى هؤلاء يعتمد الاستعمار مستقبلا في تنفيذ مخططه، وتكوين ركائزه التي يعتمد عليها بعد جلاء القوات المحتلة، وقد قام دنلوب بدور كبير في تعميق مخطط التغريب وهدم مقومات الفكر الإسلامي، وكان أبرز ما عمل له: نزع اعتقاد الشباب المسلم في القرآن وكان مذهبه "متى توارى القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة".
وكان دوجلاس دنلوب قد عين سكرتيرا عموميا للمعارف في ٨ مارس سنة ١٨٩٧ ثم مستشارا في ٢٤ مارس سنة ١٩٠٦، وقد كان في أول أمره قسا مبشرا عمل في وظيفة مدرس للغة الإنجليزية والخط الإفرنجي في مدرسة رأس التين الثانوية ثم لفت نظر كرومر فدفعه إلى العمل في نظارة المعارف فما زال يترقى به حتى أصبح مسيطرا سيطرة تامة على شئون التربية والتعليم.
ولد دنلوب في اسكوتلانده ١٨٦٠ وتخرج من القسم اللاهوتي في إحدى كلياتها، وجاء إلى مصر مبشرا ١٨٨٩ وعين مدرسا في مدرسة سنت أندرو التابعة للمجتمع التبشيري لاسكوتلانده بمرتب فرنكات معدودات،. وسعى لدى كرومر بمساعدة السير فونكريف وكيل الأشغال حتى عين مدرسا للغة الإنجليزية في مدرسة المهندسخانة فالمعلمين الخديوية.
- وكانت أبرز أعمال دنلوب:
١ - العمل على محاربة اللغة العربية والإسلام والأزهر لذلك عمل على اضطهاد معلمي اللغة العربية من الأزهريين.
٢ - نشر لواء اللغة الإنجليزية وتأهيلها للسيطرة الكاملة على كل شئون التعليم، وبذلك أمكنه القضاء على نفوذ اللغة العربية ولقد مضى في ذلك إلى حد أنه جعل تعليم سائر العلوم كالرياضيات والتاريخ، والكيمياء والجغرافيا والرسم باللغة الإنجليزية، وضيق على اللغة العربية تضييقا كبيرا.
ومما يذكر أنه كان يسافر كل صيف إلى بريطانيا ثم يعود في أول العام الدراسي، وقد استقدم معه عددا كبيرا من الإنجليز حملة الشهادات الأهلية الذين كانوا يعينون بمرتب لا يقل على ثلاثين جنيها، وقد اختارهم بنفسه، وقد كان أبرز كتابات هؤلاء المدرسين الكراهية للغة العربية والعداء للحرية، ومحاولة تحطيم آمال الأمة العربية وتغريب التلاميذ واتهام تاريخ العرب والمسلمين وإثارة الشكوك حوله، واتهام الحضارة الإسلامية العربية بالاتهامات المختلفة وذلك لخلق شعور عام بكراهية هذه الأمجاد والنفور منها والسخرية بها، وكانوا يطعنون روح الوطنية في الشباب والقضاء على حماستهم وتهديدهم، وكانوا يصفون الأمة بأنها نصف متحضرة، وقد داسوا على كل عاطفة وطنية واضطهدوا كل شاب أظهر ميلا أو عاطفة نحو دين أو وطن وأنشئوا نظاما من التجسس في المدارس يطاردون به الشباب الوطني، وكان محرما على كل أستاذ مصري أن يتحدث عن تاريخ مصر أو تاريخ الإسلام بما يبرز عظمة أمتنا، وكان أهم ما يقال إذ ذاك أن مصر بلد زراعي، وأنها ظلت محتلة طوال تاريخها بالفرس والرومان والأتراك والعرب. وأنها لن.   تحكم نفسها أبدا، وأن جيشها قد هزم في التل الكبير وأن الجنود المصريين ذبحوا ليلة ١٤ سبتمبر ١٨٨٢ التي كانت قمرية كما يذبح الخراف وكان محرما أن تقرأ جريدة وطنية أو تاريخ الإسلام أو العربية.
وقد قاوم (دنلوب) بنشر التعليم العالي في مصر وقد سجل ذلك كرومر في تقريره سنة ١٩٠٧ "أن إنجلترا لا تريد نشر التعليم العالي في مصر، وأنها لا تريد إلا إعداد جمهور من طبقة الأفندية ليشغلوا الوظائف الثانوية في الحكومة وأن المصريين لا يصلحون للعلوم العالية، وأن زيادة التعليم تصرف عن فلاحة الأرض وتعود على مصر بالإفلاس".
وقد حرص دنلوب بتوجيه كرومر وبريطانيا على تنفيذ خطة واضحة المعالم للعمل على وقف انتشار التعليم أو ترقيته وسبيلهم إلى ذلك تقليل اعتمادات المعارف، وصرف أغلب المبالغ المعتمدة في بناء القصور المشيدة واقتناء الأثاث الفاخر للمدارس.
وكان دنلوب منفذ هذه السياسة يقول: "إن سياستي في التعلم هي الجودة لا الكثرة"، وهذه مغالطة واضحة.
وكان دنلوب يعمل على قلب المدارس الابتدائية إلى أولية راقية اكتفاء بالمدارس الأميرية في كل مديرية، كما شجع انتشار المدارس الأجنبية وفق غايات سياسية تسير في نفس الاتجاه الاستعماري، وهم بتحطيم كيان الأمة وإفساد معنويتها.
وحرص دنلوب على معاملة الطلبة الوطنيين بمنتهى القسوة فعدل في ١٩١٠ المادتين ٨٨ و١٠٠ من قانون نظام المدارس بفرض عقوبات على التلاميذ، وفصل كل تلميذ لا يحصل على ٢٠ درجة في السلوك واتخذ من ذلك القانون سلاحا لخنق الشعور بالحرية وقد سجل مسيو (إدوار لامبير) ناظر مدرسة الحقوق في تقريره الذي نشره في جريدة الطان ١٩٠٧ بعد أن.  أبعده كرومر ودنلوب صورة الصراع بين الفرنسيين والإنجليز على المناصب الكبرى في التربية والتعليم وكشف عن الخطة التي رسمها كرومر ونفذها دنلوب في إقصاء الفرنسيين عن المناصب الكبرى في المدارس العالية وتعيين إنجليز بدلا منهم، دون أن يكونوا في مستواهم من الناحية الفنية، وأنه قد أخرج الأساتذة الفرنسيين من القضاة من مدرسة الحقوق واستبدل بهم شبانا من الإنجليز عينوا بمجرد تخرجهم من الكليات البريطانية دون أن يكون لهم أي قدر من الكفاية التي تمكنهم من دراسة القانون.
كما أشار إلى الأنظمة الاستبدادية التي اتخذها بالنسبة للطلبة، وكيف عاملهم بقسوة متناهية، واضطهدهم وجرح كرامتهم، مما أحال مدرسية الحقوق معقلا للوطنية المصرية بحيث أصبح كل طلابها الأربعمائة تابعين للحزب الوطني.
وأن كرومر حين اضطر تحت ضغط الرأي العام إلى تعيين سعد زغلول ناظرا للمعارف، وعمل على سلب سلطته الفعلية وأشار إلى الخطط التي كان دنلوب يدبرها مع نظار المدارس وكبار الموظفين للاتصال به شخصيا وتلقى أوامره وتعليماته قبل أن يكتبوا تقاريرهم الرسمية.
وقال لامبير في تقريره: إن الموظف القابض على الإدارة الحقيقية لوزارة المعارف دوجلاس دنلوب.
وفي ظل هذه الفترة التي قضاها دنلوب في وزارة المعارف وقد امتدت إلى عام ١٩٣٠، ثم تبعه خليفة له في تنفيذ خطة التغريب الكاملة للتعليم على النحو الذي استمر يشق طريقه من بعد، وكان هدف هذا المخطط أساسا هو تغريب ثقافتنا ومحاولة تدمير شخصيتنا العربية وإحالتها إلى مزيج مضطرب من نتف الثقافات المختلفة ومحاولة التشكيك في عظمة تراثنا الفكري وأمجادنا العربية وتاريخنا الباهر الحافل بالمواقف الخالدة في الدفاع.  أبعده كرومر ودنلوب صورة الصراع بين الفرنسيين والإنجليز على المناصب الكبرى في التربية والتعليم وكشف عن الخطة التي رسمها كرومر ونفذها دنلوب في إقصاء الفرنسيين عن المناصب الكبرى في المدارس العالية وتعيين إنجليز بدلا منهم، دون أن يكونوا في مستواهم من الناحية الفنية، وأنه قد أخرج الأساتذة الفرنسيين من القضاة من مدرسة الحقوق واستبدل بهم شبانا من الإنجليز عينوا بمجرد تخرجهم من الكليات البريطانية دون أن يكون لهم أي قدر من الكفاية التي تمكنهم من دراسة القانون.
كما أشار إلى الأنظمة الاستبدادية التي اتخذها بالنسبة للطلبة، وكيف عاملهم بقسوة متناهية، واضطهدهم وجرح كرامتهم، مما أحال مدرسية الحقوق معقلا للوطنية المصرية بحيث أصبح كل طلابها الأربعمائة تابعين للحزب الوطني.
وأن كرومر حين اضطر تحت ضغط الرأي العام إلى تعيين سعد زغلول ناظرا للمعارف، وعمل على سلب سلطته الفعلية وأشار إلى الخطط التي كان دنلوب يدبرها مع نظار المدارس وكبار الموظفين للاتصال به شخصيا وتلقى أوامره وتعليماته قبل أن يكتبوا تقاريرهم الرسمية.
وقال لامبير في تقريره: إن الموظف القابض على الإدارة الحقيقية لوزارة المعارف دوجلاس دنلوب.
وفي ظل هذه الفترة التي قضاها دنلوب في وزارة المعارف وقد امتدت إلى عام ١٩٣٠، ثم تبعه خليفة له في تنفيذ خطة التغريب الكاملة للتعليم على النحو الذي استمر يشق طريقه من بعد، وكان هدف هذا المخطط أساسا هو تغريب ثقافتنا ومحاولة تدمير شخصيتنا العربية وإحالتها إلى مزيج مضطرب من نتف الثقافات المختلفة ومحاولة التشكيك في عظمة تراثنا الفكري وأمجادنا العربية وتاريخنا الباهر الحافل بالمواقف الخالدة في الدفاع.  عن الحرية ومقامة الغالب والمشاركة في الحضارة والمدنية وحماية آثارها والإضافة إليها وكان هدف التعليم أساسا تخريج موظفين، وأدوات، وليس التثقيف العام. وقد أبطل دنلوب عديدا من الكتب المقررة؛ لأنها تتحدث عن القيم العربية الإسلامية وقد كشفت جريدة المؤيد (٢٥ يوليو ١٨٩٩) عن نماذج من هذا العمل، وقالت: إن هذه الكتب غير موافقة لهدفه من الوجهتين الدينية والسياسية، وذلك بإيرادها قواعد الإسلام، وأركانه مصحوبة بالحكم والآيات والقرآن والأحاديث التي تحث على حب الوطن والتعاون وإصلاح ذات البين، وفي سبيل شجب هذه الكتب أعلن دنلوب أن مثل هذه الكتب غير وافية بحاجات التعليم وأوعز إلى بعض المدرسين الموالين له بأن يضعوا كتبا بديلة لها، تضم بعض خرافات لافونتين، وفي عبارة سقيمة وأسلوب نازل، وأشارت المؤيد إلى أن الشيخ حمزة فتح الله ناضل في سبيل إحباط رأيه، فأعلن دنلوب أن كتب المطالعة يجب أن تكون مجردة خالية من كل ما له مساس بالدين".
ومثل هذا حدث مع عبد العزيز جاويش الذي عاد من بريطانيا بعد الدراسة وقد ناقش دنلوب في منهج مدرسة المعلمين وكان رأيه أن يكون المنهج عاما واحدا، فاعترض جاويش، وقال: إن في مدرسة المعلمين في بريطانيا برنامجا من أربع سنوات فأشار دنلوب إلى أن مدرسة المعلمين تهدف إلى تخريج مدرسين يؤدون واجبا محدودا لا يزيد عن إعداد موظفين. كان ذلك متمشيا مع قول كرومر: "عقل بريطاني وأيد مصرية".
وقد واجهت مؤلفات عبد العزيز جاويش نفس مصير مؤلفات علي مبارك وعبد الله فكري فقد أقصيت فعلا وألفت كتب أخرى بدلا منها تحقق هدف (دنلوب) وهدف التغريب أساسا.
ولم يجد (دنلوب) قبولا لعمله ومخططه فقد ظلت الصحف الوطنية توالي مهاجمته وقد تعرضت له اللواء في ٩ أكتوبر سنة ١٩٠٧ فقالت: إن.  المصريين يعلمون أن دنلوب هو أقول آلة وضعها اللورد كرومر لتعطيل التعليم في مصر وأكبر مقاوم لرقي البلاد من باب المعارف، ومحاولة سد الطرق التي يرقى بها، وأنه يستعمل كل ما أوتي من سلطة وقوة لمحاربة المصريين حتى بالسطو على ذمم الموظفين معه لتجد من ضعفها قوة ومن التلاعب بها السلاح القاتل للأمة".
وقد أبطل دنلوب عام ١٩٨٨ كتاب علي مبارك وعبد الله فكري "طرق الهجاء"؛ لأنه تحدث فيه عن الفضائل الإسلامية، ورأى أن هذا الكتاب غير موافق لغرضه من الوجهتين الدينية والسياسية بإيراده قواعد الإسلام وأركانه بالحكم والآيات والأحاديث التي تحث على حب الوطن وتعاونه وإصلاح ذات البين وكان هذا الكتاب مقررا منذ عام ١٨٩٤ ولكنه بمكره أعلن أن هذا الكتاب غير واف بحاجات التعليم وأوعز إلى بعض أوليائه من المدرسين أن يضع كتابا يتفق مع المواصفات الاستعمارية فألف الكتاب الجديد حافلا بخرافات لافونتين في أسلوب سقيم وعبارة نازلة.
كما ألغى دنلوب الباب الوارد في المنهج تحت عنوان العقائد والعبادات الإسلامية، وناضل الشيخ حمزة فتح الله في سبيل إحباط رأيه فكان من قول دنلوب أن كتب المطالعة يجب أن تكون خالية من كل ما له مساس بالدين.


* أرنست رينان يطعن في الإسلام ويصفه بأنه عدو العلم والعقل ويصف الرسول محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالخداع والدجل:
لم تكن خصومة (رينان) للإسلام والفكر العربي الإسلامي إلا خصومة للأديان والروحية جميعا، وقد حمل حملات عنيفة على المسيحية، ولم تكن آراء (رينان) إلا صورة عميقة لشكوك عصره وشبهاته التي صنعتها مراحل طويلة من تطور الفكر الغربي. وقد طعن (رينان) في الإسلام ووصفه بأنه عدو العلم والعقل، ووصف العرب بأن عقولهم قاصرة بطبعها، غير مستعدة.  لفهم الفلسفة وما وراء الطبيعة، ومع ذلك فإن آراء رينان حافلة بالتناقض والاضطراب فبينما هو يمقت الفكر العربي الإسلامي ويحمل عليه وينتقده انتقادا مرا يعترف برهبة هذا الدين وعظمته.
وفي دراسة لجرجي زيدان يقول: إن رينان قد اشتهر بمقاومة النصرانية فبينما كان أبواه يعدانه لخدمتها انقلب حتى أصبح من أشد الناس انتقادا عليها، فألف سلسلة مؤلفات في هذا الشأن صدرها بكتاب (حياة يسوع) وألحقه بأبحاث في تاريخ الرسل وأصل النصرانية والقديس بولس شدد فيها لهجة الانتقاد حتى أصبح مكروها من كل الفئات الدينية، ومن مؤلفاته (اللغات السامية) الذي تناول فيه تاريخ اللغات السامية ومقابلتها بعضها ببعض، وقد بسط تاريخ اللغات العبرانية والفينيقية والآرامية بفروعها، وقال عن الشعوب السامية: إنهم يميلون بفطرتهم إلى التوحيد وأنهم أول من قال بوحدانية الخالق بينما عبدت الشعوب الأخرى آلهة شتى كاليونان والرومان والمصريون.
ورأى رينان في النبي محمد رأي متعصب فقد وصفه بالخداع والدجل وقرر أن الذي أسس الإسلام وشيد صرحه هو عمر؛ لأنه يماثل القديس بولس في المسيحية، وقال: إن الفلسفة الإسلامية ما هي إلا الفلسفة اليونانية مخطوطة بحروف عربية، ولم يهضمها العرب لأن الإسلام دين لا يسمح بحرية الفكر وروح النقد، كما هاجم ابن رشد، وقال: إنه لا يعرف كيف يكتب ولا كيف يفكر، وأن لغته همجية، ومؤلفاته لا قيمة لها، وقال: إن الإسلام يعادي العلم والفلسفة وأنه صارم يتحكم في العبد وفي دنياه وفي آخرته، وأنه ذلك القيد الثقيل الذي لم تصب الإنسانية في تاريخها.
والواقع أن رينان لم يثبت في نظر مؤرخيه بأنه باحث مستقر الفكر، بل عرف باضطراب الرأي وقد وصفه بيكافيه أكبر الباحثين في إثارة: بأنه رجل يقلب أوضاع الأشياء والمسائل وذلك لاختمار النزعة الصليبية في عقله الباطن.  وتملكها على أفكاره في الحكم على من يخالف تعاليم دينه الأول قبل إلحاده وكفره.
وقال مؤرخوه أنه أفسد الاستشراق الفرنسي بهذه الآراء وقد سار على نهجه (منك) في كتابه الفلسفة العربية واليهود، وكليمان هور في كتابه تاريخ العرب، وكازنوفا في كتابه محمد ونهاية العالم.
والواقع أن رينان مدان برأيه في الإلحاد والتدين أساسا فهو الذي يقول في كتابه "مقالات ومحاضرات"أقول دائما، ولست بحاجة إلى أن أكرر أن العقل البشري يجب أن ينزه من كل المعتقدات الدينية وأن يحصر جهوده في مجاله الخاص وهو إقامة العلم الوضعي.
وقد كان كتابه "حياة يسوع"قد أجج ثورة جامحة في فرنسا في القرن الثامن عشر، وقد انتزعه هذا الكتاب من كرسيه في كوليج دي فرانس بتهمة الإلحاد والكفر، وكان منذ مطالع شبابه قد آثار حنق الأساقفة ورؤساء الدين عليه ورمي بالزندقة، حين انتزع نفسه من العقيدة الكاثوليكية وآمن بمذهب الدهريين، فقد قدس الطبيعة في كل مظاهرها، ولرينان محاضرة مشهورة ألقاها في ٢٩ مارس ١٨٨٣ في جامعة السربون عنوانها "الإسلام والعلم".
حمل فيها على الإسلام حملة متعصبة عنيفة، وقال: إن الدين الإسلامي عقبة في سبيل تقدم العلم بسبب التعصب. وقال: إنه اضطهد العلم والفلسفة، ووصف العقلية السامية بأنها مجدبة كالصحراء التي نبتت فيها، وقال: إنها لا تقوى على التحليل والتعمق. وقد وجه رينان في محاضراته اتهامات واضحة تتلخص في:
١ - نشأ من التساهل الواقع في التعبير بعلوم العرب وفلسفة العرب وفنون العرب وتمدن العرب وعلوم الإسلام آراء فاسدة وخطأ عظيم عمل به.
٢ - انحطاط بلاد الإسلام في العالم واضح.  ٣ - سبب هذا الانحطاط هو أن عقول المسلمين بلغت من الحمق غايته حتى كأن دينهم صار حجابا على قلوبهم منعها من أن تعي شيئا من العلوم.
٤ - العجز عن التقدم ناتج عن دين الإسلام.
٥ - دين الإسلام قد نجح، ولكن لشقائه فإنه لما قبل الإسلام الفلسفة قتل نفسه وحكم عليها بالانحطاط التام. وقد رد على رينان رجال من أبناء جلدته منهم غوستاف لوبون الذي قد أشار إلى محاضرة رينان ووصفها بالتناقض وأنه أراد أن يثبت عجز العرب.
وقال لوبون: ولكن ترهاته كانت تنقضي بما كان يجيء في الصفحة التي تليها فبعد أن قال رينان: إن تقدم العلوم مدين للعرب وحدهم عدة ستمائة سنة ذكر أن عدم التسامح مما لا يعرفه الإسلام إلا بعد أن حلت محل العرب شعوب متأخرة كالبربر والترك، ثم عاد فادعى أن الإسلام اضطهد العلم والفلسفة وقضى على العقل في البلاد التي دانت له.


* دوق داركور وكتابه "مصر والمصريون"وزعمه أن الإسلام هو سر تأخر الفكر في مصر:
أصدر دوق داركور كتابا بالفرنسية عام ١٨٩٣ هاجم فيه الإسلام والثقافة العربية الإسلامية وكان مما قاله: أن السر في تأخر الفكر في مصر يرجع إلى الإسلام.
فالدين هو السبب الأساسي في التأخر الذي لحظه في كل بلد إسلامي، وعنده أن الإسلام لا يحض على البحث في العلوم غير الدينية، لذلك احتقر المسلمون علوم الغرب، واعتقدوا أن القرآن قد حوى بين دفتيه علوم الأولين والآخرين وأن كل ما عداه باطل، أنكر دوق داركور أن للعرب الأولين مدنية خاصة وعنده أن المدنية لا تقوم إلا على أساس علمي والعلم عندهم لم يكن. يخرج عما أتى به القرآن لذلك أمر عمر بإحراق مكتبة الإسكندرية، ثم إن العرب لم يحاولوا استكشاف علوم الدنيا، لأنهم تعصبوا لأصول دينهم وآمنوا بالقضاء والقدر، لذلك قامت مدنيتهم على قوائم المدنيات العتيقة.
وقد واجه قاسم أمين هذه الحملة بكتاب رد فيه على الدوق الفرنسي صدر ١٨٩٤ تحت عنوان "المصريون" (١)، وقد بدا قاسم أمين فأشار إلى أن الإسلام لم يعترض تطور العقل الإنساني، ولا تقدم العلوم ولا الآداب ولم يحل دون استكشاف الحقائق العلمية، وقد مضت فترة كان العلماء المسيحيون ينقلون العلم عن العلماء العرب. وفي القرآن آيات تحض المسلم على أن يفكر في خلق السماوات والأرض، وأن يبحث ماهية هذه العوالم والعوالم الأخرى، وقال: إنما عاق التقدم قوم من الجهلة حاولوا تفسير القرآن حسب ما يمليه عليهم الهوى، وعند ذلك تسربت إلى الدين فئة من الأوهام والخرافات هي التي يحسبها السائحون من أصول الدين وليست في الواقع من الدين في شيء، وقال: إنه سيأتي يوم تجتمع فيه الإنسانية تحت راية الإسلام حينما يتبينون أنه دين العلم ودين السياسة ودين الاجتماع.
ودحض قاسم في رده على داركور ما عرضر له من أن الإسلام هو الذي أقام ذلك الاختلاف بين الطبقات، وقال قاسم: أن الإسلام قد سوى بين الناس جميعا، وليس من قواعد الجماعة المسلمة أن يرث الرجل امتيازا خاصا؛ لأنه من أسرة أو من طبقة خاصة، بل لقد سبق الإسلام كل النظم السياسية الثورية بألف سنة أو يزيد حين أنكر امتيازات الميلاد أو الثروة. وهو من بين الأديان جميعا يفسح المجال لكل ذي عمل أن يحسن عمله فيرقى من أدنى الدرجات حتى يبلغ أسماها، ثم ليس في الإسلام طبقة تمثل السلطة
الروحية التي كانت للكنيسة، وليس في الجماعة المسلمة فئة تتمتع بالسلطة الدينية على حساب الآخرين، وللفقراء والمحرومين حق معلوم في أموال الأغنياء فلهم جزء من أربعين جزءا من كل مال مقبول، وقال: لقد انحدر إلينا من تعاليم الإسلام ما يؤيد الإخاء والمساواة. وقال: إن ذلك النظام الاجتماعي والسياسي قد هوى في حال من الانحلال والتدني حينما اضصرب المسلمون وأصبح الأمر فوضى ليس له أساس من علم ولا دين، فقد قام على الجماعات المسلمة طغاة لا يعرفون إلا صالحهم الشخصي. وقد عبرت مصر قرونا يستغلها وحوش في صورة آدميين، أقبلوا عليها من كل بقاع الأرض، فكانت مسرحا لفظائع الظلم والقسوة.
وأشار إلى أن أوربا قد أقامت العثرات في طريق التقدم والنهضة في الزمن الحديث، وأن القناصل في بلادنا يكونون ممالك مستقلة تحمي المجرمين واللصوص وسفاكي الدماء من رعاياهم.


* جبرائيل هانوتو يأمر الأوربيين بقطع الصلة بين المسلمين والإسلام ويدعي أن الإسلام يدعو أتباعه إلى الكسل:
نشر هانوتو أحد وزراء خارجية فرنسا في الجورنال الفرنسية ١٩١٠ بعض مقالات هاجم فيها الإسلام والثقافة العربية الإسلامية، وقد ترجم هذه المقالات محمد مسعود في المؤيد (٢ - ١٥) إبريل ١٩٠٠ وقد نشر الشيخ محمد عبده على الأثر مقالات رد فيها على اتهامات هانوتو كما نشر فريد وجدي فصلا مطولا.
وقد حملت كلمات هانوتو عبارات غاية في العنف والتعصب، ومن ذلك قوله: الإسلام دين بشري يثقل معتقده دائما ويغريهم بالكسل أو التسكع والتبرؤ من شر الفسوق، وأن السياسة التي تجب على أوربا المستعمرة في الشرق أن نجتذبها مع المسلمين هي تلقيح أفكارهم بجانب من الأخلاق.  الأوربية وقطع الصلة بينهم وبين كعبة الإسلام.
وأشار إلى كلمات كيمون ورددها وقال: إن كيمون دعا إلى نسف الكعبة، ونقل قبر محمد إلى متحف اللوفر، وهاجم هانوتو أصول الإسلام، ودعا قومه إلى قتال المسلمين والقضاء عليهم، وقال الشيخ محمد عبده في الرد عليه: لو لم يتعرض مسيو هانوتو إلى الطعن في أصل من أصول الإسلام ما حركت قلمي لذكر اسمه وكان حظي من النظر في مقاله هو العظة والاعتبار. يرى الناظر في كلام مسيو هانوتو لأول وهلة أنه مقلد في التاريخ كما هو مقلد في العقائد وأنه جمع خليطا من الصور وحشرها في ذهنه ثم هو سلط قلمه ينثرها كما يشاء القدر ليدهش بها من لا يعرف الإسلام من الفرنساويين، وقال: يجب على الباحث في الإسلام أن يطلبه في كتابه كما يجب عليه أن يطلب آثاره، والإسلام إسلام والمسلمون مسلمون، لا أنكر أن الزمان تجهم للمسلمين كما كان قد تنكر لغيرهم وابتلاهم بمن فسد من المتصوفة من عدة قرون فبثوا فيهم أهاما لا نسبة بينها وبين أصول دينهم فلصقت بأذهانهم لا على أنها عقائد ولكنها وساوس، قد تملك الجاهل وتربك العاقل، إذا لم يغلبها بعوامل الدين الصحيح، فنشأ الكسل بين المسلمين بفشو الجهل بأصول دينهم، أما لو رجع المسلمون إلى الحقيقة من دينهم لأدوا فرضهم واستنبتوا أرضهم واستعزوا من الثروة، واعتمدوا في نجاح أعمالهم على معونة القدر وأيقنوا في صولتهم علما أن ليس من الموت مفر، ثم صال صائلهم على مكان العزة منها ونال ما ينال القوي من الضعيف.
أما لو رجع المسلمون إلى كتابهم واسترجعوا باتباعه ما فقدوه من آدابهم لسمت نفوسهم من العيب وطلبوا من أسباب السعادة ما هداهم الله إليه في تنزيله وعلى لسان نبيه واستجمعت لهم القوة. ودبت فيهم الروح قوة وكان ما يلقاه هانوتو وكيمون من دين صحيح شرا عليهما مما يخشوه من دين. شوهته إليها.
ويرى كيمون أن يخلى وجه الأرض من الإسلام والمسلمين ويستحسن رأي هانوتو لولا ما يقف في طريق ذلك من كثرة عدد المسلمين وبئسما اختارا لسياسة بلادهما أن يظهرا ضغنهما ويعلنا رأيهما وضعف حلمهما.
أما فليعلما وليعلم كل من يخدع نفسه بمثل حلمهما أن الإسلام إن طالت به غيبة فله أوبة، وإن صدعته النوائب فله نوبة.
وقد يقول عنه المصنفون اليوم من الإنكليز مثل إسحاق طيار وهو قس شهير ورئيس كنيسة: "أنه يمتد في أفريقيا ومعه تسير الفضائل حيث سار، فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره والشجاعة والإقدام من أنصاره، ثم هو لا يزال ينتشر في الصين وغيره من أطراف آسيا وسترشده الحوادث إلى طريق الرجوع إلى إظهاره وتنثني به الملمات إلى ما كان عليه لأول نشأته وتدرك عند ذلك الأمم منه خير ما ترجو إن شاء الله".


* رئيس الشياطين وكبير المبشرين في القرن العشرين صمويل زويمر:
لعب صمويل زويمر دورا ضخما في حركة التغريب بوصفه رئيسا للمبشرين في الشرق الأوسط منذ أوائل هذا القرن وأجرأ الدعاة المقاومين للفكر الإسلامي والرجل الذي استطاع أن يقتحم الأزهر، ويوزع منشوراته، وقد أتيح له أن يطوف بالصين والهند وأفريقيا والهند والصحراء ومدغشقر وأن يكتب دراسات مطولة عن البعثات التبشيرية والإرساليات في هذه المناطق وكيف تحاول أن تنافس الإسلام وتقضي عليه وقد رأس مؤتمرات التبشير التي عقدت في القاهرة ولكنؤ (الهند) والقدس، وأدلى فيها بتقارير ضافية عن الخطوات التي حققتها محاولته في تغريب العالم الإسلامي ونزع مقومات فكره عن طريق التعليم والصحافة والمستشفى.
وهو في تقدير بعض الباحثين أول من قدم من الغرب في أوائل هذا. القرن من دعاة التغريب، قدم إلى البحرين، وانتقل إلى الأحساء، وتردد بينهما وكان يلقب نفسه (ضيف الله) فتح في أول أمره حانوتا في السوق لبيع الكتب المختلفة، ثم تخصص بالتدريج في بيع الكتب التي تفرق بين الأديان، ثم لم يلبث أن أسس مدرسة ومستشفى صغيرا للتبشير، ثم استقدم عددا كبيرا من المراسلين والدعاة إلى بلاد البحرين من رجال ونساء أمريكيات، واستخدم الفقراء من العرب والمسلمين في العمل معهم، وادعى أنهم قد تركوا دينهم، قالوا عنه: أنه الرجل الذي لا يهزم؛ لأنه درس الفكر الإسلامي سنين طويلة بعد أن عاش سنين أطول في غمار الشعوب الإسلامية، وقد ظل ينتقل بين البحرين ومسقط والكويت والبصرة حتى عام ١٩١٣ وكان قد قدم إلى القاهرة ١٩٠٦ وأقام مؤتمرا للتبشير في بيت أحمد عرابي في باب اللوق، تحديا لشعور المسلمين، ثم في ١٩١١ في (لكنؤ) معقل الفكر الإسلامي في الهند ومقر جماعة العلماء التي يرأسها شبلي النعماني، ثم رأس مؤتمرا في القدس ١٩٢٤ ثم في ١٩٢٦، وتولى تحرير مجلة "العالم الإسلامي"التي أنشأها مع مكدونالد، وله عشرات الكتب عن الإسلام تحمل وجهة نظره منها: داخل عالم الإسلام، المسلمون اليوم، الإسلام في العالم، ترجمات القرآن، أمية النبي، الحديث القدسي وقد أشار نجيب العقيقي الذي ذكره في كتابه "المستشرقين"وعده واحدا منهم، إلى أن له من المصنفات في العلاقات بين المسيحية والإسلام ما "أفقدها بتعصبه واعتسافه وتضليله قيمتها العلمية"، وقد أشار المقتطف في باب الكتب (مجلد ٥٠) إلى كتابه "صراخ المستغيثين من أبناء الشرقيين"، وقال: إن مدار بحثه في هذا الكتاب عن أطفال المسلمين وأحوالهم الصحية وتربيتهم العقلية والأدبية والدينية، ألفه بالإنجليزية الدكتور زويمر المراسل الأمريكي في هذا القطر وعربه الشيخ متري حبيب الدويري. وقد نقد محمد محمد سعفان (بالقضاء الشرعي) اهتمام المقتطف بهذا الكتاب وأشار إلى ما فيه من تعصب واعتساف على الفكر.    العربي الإسلامي، وقد سارع الدكتور صروف فنشر خطابه وعلق عليه متنصلا وقال: إننا مع استحساننا قيام أناس من أصحاب كل دين ومذهب لانتقاد ما يرونه فيه مما يستحق الانتقاد، نستهجن جدا أن يقوم أناس من غير دينهم ومذهبهم وينقدون ما يعتقدون أن خطأ فيه؛ لأن التنديد بمعتقدات الغير لا يصلحها بل يزيد أصحابها تشبثا بها، ناهيك أن الخارج على المذهب قلما يفهم حقيقة ما يحسه خطأ؛ لأنه لا يعرف ملابساته فيخطئ في حكمه أكثر مما يصيب"ومجمل ما ذهب إليه (زويمر) هو اتهام الفكر العربي الإسلامي بأنه لم يؤلف كتبا للأطفال وقال: "إن العرب عنوا بفروع العلم والآداب كلها ووضعوا فيها عشرات والمئات والألوف من المؤلفات، ولكنهم مع وفرة ما ألفوا وترجموا أهملوا أطفالهم وصغارهم فلم يضعوا كتبا لتعليمهم"، وهذا ولا شك من أكبر مغالطات زويمر وهو ليس صحيحا على إطلاقه، فإن الفكر العربي الإسلامي حافل بما يصلح للأطفال في باب التربية والتعليم وإن أعلام المسلمين ومفكريه قد تناولوا بالبحث شئون التربية ورسموا لها مخططا ما زال حيا نابضا بالحياة وقد شهد بذلك علماء التربية المحدثين وقد صور الدكتور زويمر مذهبه في إثارة الشبهات في الفكر الإسلامي على نحو ماكر مليء بالتعصب والكراهية. عدم المجادلة بالبراهين العقلية، بلا استجلاب العواطف واستمالة الأهواء. إن المسلمين يعتقدون بأن القرآن لم يحرف، من دون الكتب السماوية كلها، فيجب علينا أن نثبت لهم أن فيه متناقضات. إن للإرساليات التبشيرية في البلاد الإسلامية مزيتين: مزية تشييد ومزية هدم، أو بالحري مزيتي تحليل وتركيب، والأمر الذي لا مرية فيه هو أن حظ المبشرين من التغيير الذي أخذ يدخل على عقائد الإسلام ومبادئه الخلقية أكثر بكثير من حظ الحضارة الغربية منه. العمل لمنع اتساع نطاق الإسلام بين الشعوب الوثنية وقد أشار (زويمر) في تقريره ١٩١١ إلى أن الإسلام قد بدأ يتنبه لحقيقة موقفه من الحملة عليه، ويشعر بحاجته إلى تلافي الخطر، وهو يتمخض الآن بثلاث.    نهضات إصلاحية:
١ - إصلاح الطرق الصوفية.
٢ - تقريب الأفكار من الجامعة الإسلامية.
٣ - إفراغ العقائد والتقاليد القديمة في قالب معقول، ومصدر هذا الشعور بالحاجة إلى الإصلاح واحد، وهو التغيير الذي حدث في الإسلام عندما اكتسحت أهله الأفكار العصرية والحضارة الأفرنجية ولا يمنع أن يكون الشعور مؤديا إلى عاطفة الاحتجاج والحذر، أو إلى التوفيق والتحكيم؛ لأن كلا العاطفتين تجتمعان عند جعل الإسلام في مستوى الأفكار العصرية.
وفي العالم الإسلامي الآن حركتان متناقضتان: يحمل لواء الحركة الأولى: رجال الصوفية والمشايخ من اليمن والصومال والبوادي وشعارها الرجوع إلى التعاليم المحمدية، والحركة الثانية يتولى زعامتها أنصار الإصلاح ومبشرو الدين الجديد في مصر والهند وجاوه وفارس، وهؤلاء يبنون أساسهم على رسم الطرق المعقولة ثم يقول زويمر: إن أشياع الإسلام الجديد يريدون أن يرموا من السفينة مشحونها لينقذوها من الغرق. وعنده أن مدينة مكة والطرق الصوفية هما من أكبر العوامل على بث شعور الوحدة بين المسلمين فإذا كان في أفريقيا عوامل أخرى فهي الأحوال المساعدة التي يتصف بها الإسلام ومركز بلاده الجغرافي وارتقاء الشعوب الإسلامية في السودان، وقال": إن التجارة في هذه الأصقاع كلها بين القبائل الإسلامية -ومن المحقق أن التاجر المسلم يبث في هؤلاء المواطنين مع بضاعته التجارية دينه الإسلامي وحضارته الراقية.
وللإسلام في أفريقيا صديق يساعد على انتشاره هو الاستعمار الأوربي؛ فإن الذي يفعله الاستعمار بعد أن يسلب من الأمراء المسلمين سلطتهم السياسية هو أن يقرر الأمن ويمهد السبيل للمسلمين فالاستعمار.  يسلب عن المستعمرات السلطة الإسلامية السياسية، ولكنه يزيد الإسلام نفوذا وما زال الشيخ والدرويش هما صاحبا النفوذ في أفريقيا ولقد كانت كتابات زويمر كلها ترمي إلى إثارة الشبهة حول إمكانية مجاراة تيار الحضارة مع الاحتفاظ بمبادئ القرآن وتعاليمه، وكان يرى أن اتساع نطاق الحضارة من شأنه أن يقضي على مفاهيم الإسلام، وكان يعلن دائما أن هدف بعثات التبشير ليس إدخال المسلمين في المسيحية، وإنما إثارة الشبهات أمامهم فيحتقروا أمتهم، ويتنكروا لقيمهم الأساسية ويصبحوا ملحدين إباحيين ومن ذلك قوله: لقد تساءل اللورد كرومر مرة: هل يبقى الإسلام إسلاما إذا دخل عليه الإصلاح، فأنا أقول بصفة قطعية أنه لا يبقى كذلك؛ لأن الإصلاحات تجهز عليه فالأركان الأساسية الموجودة في الإسلام كالحج وتعدد الزوجات والطلاق لا تستطيع الثبات في وجهة تيار المدنية الجارف والواقع أن كل ما وصل إليه دعاة التغريب من آراء هي في أساسها أهواء، وما وضعوه منها في صبغة "التقرير"قد ثبت بمرور الأيام أنه ليس صحيحا، وأن الفكر الإسلامي العربي استطاع أن يوائم بينه وبين الحضارة والفكر العصري، وقد كان دائما قادرا على التلقي والامتصاص ودوما كان قادرا على الحركة، مرنا لا يجمد، وما يزال الإسلام قائما والفكر الإسلامي حيا إلى اليوم وبعد أن كتب زويمر ما كتب بنصف قرن وفي كتابه "الإسلام: ماضيه وحاضره ومستقبله"، أورد معلومات مضللة عن نفوذ المبشرين في أفكار الإسلام وعن تعداد المسلمين.
ومن رأيه عدم مجادلة المسلمين بالبراهين العقلية بل الدخول عليهم من الجهة القلبية لاستجلاب عواطفهم واستمالة أهوائهم ومع أنه بروتستانتي فقد كان يستجمع البعثات الكاثوليكية والأثوذكسية ويدعو إلى توحيد العمل في شن الغارة على الإسلام وانتهاز فرصة الضعف التي مر بها العالم الإسلامي بعد الحرب العالية الأولى وقد أولى زويمر اهتماما بأواسط أفريقيا والنيجر ودعا إلى توسيع نطاق العمل بها وأبدى تخوفه من اتساع نطاقها.  وسجل في تقاريره تقدم الإسلام في هذه المناطق، "من مركزه الواسع في الشمال ومعاقله التي في السواحل إلى الجنوب والغرب الأفريقي"، وقال: إن المبشرين قد أخطأوا في تقديراتهم السابقة؛ لأنه تبين لهم فيما بعد أن بعض البلاد التي كانوا يحسبونها خالية من الأديان المعروفة، هي إما إسلامية محضة، أو أنها على أهبة الدخول في الإسلام"، وفي مؤتمر ١٩٢٤ المنعقد في القدس كشف زويمر عن خطته الجديدة وصاغ خلاصة تجاربه في عمل جديد، هو ما ألمحنا إليه من الاتجاه إلى التحول في الأساليب لا في الغايات، وإخفاء التبشير وإبراز التغريب، والاعتماد على الأساليب الخفية الحتمية عن طريق المناهج الدراسية والصحف وإثارة الشبهات حول قضايا الدين واللغة والتاريخ والتراث وهذا مجمل خطته: "لقد صرفنا من الوقت شيئا كثيرا، وأنفقنا من الذهب قناطير مقنطرة، وألفنا ما استطعنا أن نؤلف وخطبنا ومع ذلك كله فإننا لم ننقل من الإسلام إلا عاشقا بنى دينه الجديد على أساس الهوى.
فالذي نحاوله من نقل المسلمين عن دينهم هو باللعب أشبه منه بالجد وقال: وعندي أننا يجب أن نعمل حتى يصبح المسلمون غير مسلمين. إن عملية الهدم أسهل من عملية البناء في كل شيء إلا في موضوعنا هذا؛ لأن هدم الإسلام في نفس المسلم معناه هدم الدين على العموم وأعلن أن الأحوال السياسية في جميع البلاد الإسلامية أصبحت ملائمة لأعمال التبشير، وأن العراقيل من بعض الحكومات قد أزيلت، وأن الحرب العظمى جعلت العديد من المسلمين على صلة مباشرة بالحضارة الغربية، وهم يزورون الأقطار الأوربية زرافات، وألوف من الطلاب المسلمين يهاجرون من آسيا ليتعلموا في أوربا وسيل من العمال والصناع يتدفق من شمال أفريقيا على فرنسا ويبلغ عدد الذين يزورون باريس سنويا أكثر من الذين يحجون إلى مكة، وأنه لا بد من عمل مجهود لإيجاد الاستعداد الفكري والذهني لقبول جهود المبشرين.  عن طريق إدارات التربية والتعليم والمعارف والصحف والكتب والسينما والمسرح وقد وسعت وسائل النشر الحديثة المجال لنمو الصلة بين المسلمين والحضارة الغربية.
وقال: إن التطورات الحديثة الحادثة بنطاق واسع في جميع أنحاء العالم الإسلامي قد دعت بالضرورة لأن يتخذ "التبشير"شكلا جديدا ملائما للحالة الجديدة في الشرق الإسلامي وقد أمكن أن نتبين بدلائل قاطعة أن الإسلام قد انتقض غزله وحلق به الضعف وتفككت حزمته، وعلى الإجمال أصبحت الروح القومية تدحر روح الجامعة الإسلامية وتحل محلها، فإن المسلم التركي على سبيل المثال أخذ ينقلب ليصير تركيا أكثر منه مسلما.
وكان لإلغاء الخلافة تأثير عميق ليس فقط في تركيا بل في جميع العالم الإسلامي، وقد أخذت الظواهر تتكاثر في النواحى لتدل بصفة قاطعة على انحلال الرابطة الاجتماعية في الإسلام وآثار هذا الانحلال نراها جلية في تطور مكانة المرأة وعلى الأخص في المدن. ومن ثمار هذا الانقلاب النسائي على الزواج المبكر والتوسعة في الحرية على المرأة.
أما الانقلاب الفكري في الإسلام فظاهر لا يحتاج إلى بيان، فأينما أدار الإنسان وجهه وجد تعطش المسلمين للمعارف، وطلب العلوم، وتتكون الآن عقلية جديدة في المسلمين هي نتيجة الاحتكاك والاتصال بالعلوم الغربية والحضارة الغربية، وفوق كل هذا، الأمر العظيم الذي يقف الإنسان عنده حائرا معتبرا هو انحلال العروة الدينية في الإسلام، حتى أنك ترى من المسلمين من قد أصبحوا في عماية من أمرهم لا يدرون كيف يتقدمون، ولا كيف يتأخرون لوقوعهم في الحيرة .. اهـ.
هذه هي أفكار (صمويل زويمر) المبشر الأكبر الذي رسم مناهج الدعوة إلى تغريب الفكر العربي الإسلامي، وعمل في الميدان أكثر من ٣٥ عاما.  وعقد عديدا من المؤتمرات في الجزائر والقدس والقاهرة .. ولكن كيف تبدو آراؤه اليوم بعد أكثر من ثلاثين عاما .. ؟ أنها في الحق تبدو مجرد أوهام وتكهنات لم تصدق، فإن الإسلام لم تنحل عروته، والتجار المسلمون والطرق الصوفية استطاعوا غزو أفريقيا غزوا قويا وبعثات التبشير المزودة بالجاه والمال لم تحقق إزاءه تقدما يذكر.
ولم تؤثر القومية على روح الأخوة الإسلامية بل زادتها قوة، ولدينا في العالم الإسلامي الآن منظمة الوحدة العربية ممثلة في الجامعة العربية ومنظمة العمل الإسلامي الثقافي الموحد ممثلة في رابطة العالم الإسلامي ومجمع البحوث والمؤتمر الإسلامي وكلها تسير في هدفها دون تعارض. ولم تصدق آراؤه التي استقاها من الخبرة الطويلة في نتائج بث الأفكار المسمومة والمغرضة عن الإسلام واللغة العربية واستطاع العرب والمسلمون أن يكشفوا زيفها، وأن يردوا عليها وأن يتجنبوها. والهدف الأكبر الذي سعى إليه وهو إثارة الشكوك عن طريق الطلاب الذين يسافرون إلى أوربا قد باء بالخسران، فإن أكثر الذين حملوا لواء الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه والذين آمنوا بمقومات الفكر العربي أساسا تعلموا في أوربا، ولا زلنا نذكر الدكتور يحيى الدرديري، ولطفي جمعة والدكتور غلاب وعلي مظهر، ومنصور فهمي، والدكتور هيكل، وعمر الدسوقي ومالك بن نبي، أو ممن تعلموا في معهد الإرساليات: كالدكتور عمر فروخ والدكتور مصطفى الخالدي فضلا عن أنه قد تحول كثيرون ممن أثرت فيهم خدعة الاستعمار، والغزو الثقافي، وبقي الآخرون في الظل وقد كشفهم العرب المسلمون وتحاموهم، ولم يضعف الإسلام بانحلال الخلافة بل قامت دولة إسلامية هي الباكستان وزاد عدد المسلمين حتى بلغ الآن ألف مليون مسلم. وبذلك سقط منهج الفكر والبحث في الإسلام عند أمثال هؤلاء الدعاة الذين كشفوا عن هدفهم في القضاء على روح الإسلام وقيمه ومفاهيمه.  * مع رئيس الشياطين زويمر مرة أخرى:
من أهداف التبشير التي أعلنها زويمر في مؤتمرهم قبل الحرب العالية الأولى "هدم الإسلام من قلوب المسلمين، حتى إذا أصبحوا غير مسلمين سهل علينا أو على من يأتي بعدنا أن يبنوا النصرانية في نفوس المسلمين، أو في نفوس من يتربون على أيديهم" (١).
- وقال زويمر لتلاميذه: "إنكم أعددتم شبابا في ديار الإسلام لا يعرفون الصلة بالله، ولا يريدون أن يعرفوها، وأخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء طبقا لما أراده له الاستعمار".
- ولما انعقد مؤتمر القدس الأول التبشيري في يافا ١٩٢٤ بإشراف ورئاسة زويمر هاج المسلمون وتناولوا زويمر في قصائدهم ومن أبرزها قصيدة الشاعر الصاوي علي شعلان بعنوان "كيف نودع رئيس الشياطين؟ "إلى الدكتور زويمر جاء في مطلعها.
ألا أبلغ زويمر والعذارى ... كأمثال الظبا أبت القفار
ترتل في كنائسها صلاة ... فتبعث من فؤادك ما توارى
- وبلغ من نشاط هذا الشيطان أنه ذهب إلى الأزهر الشريف مع ثلاثة من الأجانب من بينهم امرأة، فتبعه مراقبو الجامع الأزهر لعلمهم بنشاطه التبشيري، ودخل المبشرون معه حلقة درس الشيخ سرور الزنكلوني وفي أثناء شرحه لسورة "التوبة"، وزع على الطلبة ثلاث رسائل تتضمن تفسيرات نصرانية لآية الكرسي وأسماء الله الحسنى، ثم ترك الحلقة إلى غيرها يوزع رسائله، وأهاج هذا الأمر نحوا من ثلاثة آلاف طالب أزهري كانوا موجودين وقتها، ومزقوا الرسائل. وكتبت صحيفة "الفتح"متعجبة أن تبلغ الجرأة


.بالمبشرين أن يدخلوا معقل الدعوة الإسلامية في مصر وهو الجامع الأزهر الشريف ويوزعوا الكتب التبشيرية بين طلابه، الأمر الذي أحدث ردود فعل واسعة النطاق في أروقة الجامع الأزهر، إذ طالب علماؤه بالتصدي لهذه الزمرة من المبشرين الذين يهاجمون الإسلام في عقر داره" (١).

- وانظر إلى علو كعب زويمر في التبشير:
كتب القس زويمر في مجلة "العالم الإسلامي"التبشيرية والتي يشرف على تحريرها في عدد أبريل ١٩٣١ م تحت عنوان "المساحات التي لم تحتل بعد"ذكر فيها أن الأقاليم التي لم يزرها المبشرون للآن يجب أن تكون موضع اهتمام الكنيسة وميدان جهادها، ولا ينبغي أن يبقى في هذا القرن العشرين للتاريخ المسيحي مكان على وجه الأرض لا تطأه قدم المبشر "وأشار إلى أن أكثر البلاد التي لم يحتلها المبشرون إنما تقع في دائرة العالم الإسلامي" (٢).
ومن أبرز الكتاب الذين هاجموا التبشير في الصحف الإسلامية: الشيخ محب الدين الخطيب والشيخ رشيد رضا، والدكتور عبد الحميد سعيد والشيخ عبد الرحمن الساعاتي والأستاذ حسن البنا وشكيب أرسلان وعجاج نويهض والشيخ حسن الطويل (٣).


* مرجليوث وكتابه العفن "محمد وظهور الإسلام"وقوله: أن النبي كانت تنتابه النوبات العصبية "الصرع"كثيرا:
يعد مرجليوث من كبار المستشرقين الإنجليز، وكان أستاذ الدراسات.  .الإسلامية في جامعة أكسفورد، وله اتصال واسع المدى مع المصريين بعد الاحتلال البريطاني. وقد اتصل به الشيخ عبد العزيز جاويش وهاجمه عندما أصدر كتابه (محمد وظهور الإسلام).
ومنذ عام ١٩٠٧ تناولت الصحف في مصر آراءه فقد أصدر في ذلك الوقت كتابا عن النبي محمد وجعله حلقة من سلسلة عظماء الأمم، وصفه سليمان الندوى فيما بعد بأنه لم يؤلف بالإنجليزية كتاب أشد تحاملا على النبي منه، حاول فيه مرجليوث أن يشوه كل ما يتعلق بالسيرة، وأن يشكك في أسانيدها، ولم يأل جهدا في نقض ما أبرمه التاريخ ومعارضة ما حققه المحققون من المنصفين. وقد أشار الشيخ جاويش إلى آراء مرجليوث، وقال: إنه -أي مرجليوث- حارب التاريخ كما حارب الإنصاف وحمل على الرسول حملات منكرة وأشار إلى قول مرجليوث: "إن المسلم معناه في الأصل الخائن، وعلل ذلك بأن هذه الكلمة مشتقة من اسم مسلم"، وادعى مرجليوث أن النبي كانت تنتابه النوب العصبية كثيرا وزعم المؤلف أن النبي عاشر بعض النصارى فاستفاد كثيرا من القصص واقتبس بعض أساليب التعبير، وعلل زواجه بخديجة بطمعه في مالها". وقد صارت آراء مرجليوث مصدرا للمتعصبين من الكتاب الغربيين ومن ذلك ما نقله عنه مستر سكوت وأثار كثيرا من الاعتراضات. وقد أشار رضا إلى أن السبب في أكثر غلط مرجليوث وخطأه في السيرة هو التحكم في الاستنباط والقياس الجزئي وبيان أسباب الحوادث كما هو شأنهم في أخذ تاريخ الأقدمين من الآثار المكتشفة واللغات المنسية ونقص فهمهم. كما أشار صاحب المقبس (محمد كرد علي) إلى كتابه عظماء الأمم فقال: إنه لم يؤلف كتاب بالإنجليزية أشد تحاملا على النبي مما جاء بهذا الكتاب فقد حاول مرجليوث أن يشوه كل ما يتعلق بالسيرة الشريفة، وأن يشكك في أسانيدها ولم يأل جهدا في نقض ما أبرمه التاريخ.
ويعارض ما حققه من المثقفين ومرجليوث له فرض في الشعر الجاهلي نشره.  في يوليو ١٩٣٥ في إحدى المجلات الاستشراقية، وفي ١٩٢٦ نقله طه حسين في كتابه المشهور عن الشعر الجاهلي، يقول مالك بن نبي: ربما لم يكن فرض مرجليوث ليحتوي على شيء خاص غير عادي لو أنه حين نشر لم يصادف ذلك الترحيب الحار من المجلات المستغربة، ومن بعض الرسالات التي يقوم بها دكاترة عرب محدثون، حتى لقد كسب هذا الفرض قيمة المقياس الثابت في دراسة الدكتور صباغ عن (المجاز في القرآن) وقد رفض الدكتور صباغ رفضا مقصودا مغرضا الاعتراف بالشعر الجاهلي كحقيقة موضوعية في تاريخ الأدب العربي".
وكتب مرجليوث مقالا نشر عام ١٩٠٤ فردد قول برايس من أن الإسلام لم يبق من عمره إلا قرنان كما أعاد ما قاله أحد المبشرين من أن الإسلام لا يلبث أن يذوب ذوبان الثلج بين يدي العلم والتمدن والنصرانية كما نقل رأي الدكتور بروين الذي قال": إن الإسلام يذهب بذهاب الدولة العثمانية ومضى يردد الكلمات التقليدية التي يرددها المتعصبون وخدام الاستعمار من أن الإسلام لن يبقى بعد احتكاكه بالتمدن الحديث ويموت لا محالة كما ردد ما قاله أحد كتاب التغريب من أن الانحطاط الذي يعيشه المسلمون -في هذه الفترة- يرجع إلى أسباب متصلة بالإسلام نفسه؛ لأنه لا يوافق روح التمدن وهكذا يتكشف في كتاباته جماع منسق لما تورده حملات التشكيك التي لا يرقى كتابها إلى مقام العلماء ونقد العلامة عبد العزيز جاويش هذا الكتاب (محمد وظهور الإسلام) لمرجليوث فقال: كتاب وضعه مستر مرجليوث: ظهر هذا الكتاب من نحو سبعة أعوام ونفوس الإنجليز والأمريكيين ترقبه لما لذلك الرجل عندهم من المكانة العلمية الرفيعة ولا سيما وهو مشغوف بدعوى أنه محيط بأكثر لغات العالم، فتراه يدعي العلم بالإسبانية والفرنسية والإيطالية والألمانية والعربية والفارسية والعبرانية، وقد كنت إبان ظهور الكتاب في مدينة أكسفورد حيث المؤلف، لما ذكرت له رغبتي.    في شراء كتابه وعد أن يقدم لي منه نسخة ثم جعل يتباطأ تارة ويتناسى أخرى حتى مللت وعوده، وظننت أنه لا بد لهذا الكتاب من سر يريد إخفاءه عني ولا سيما والمؤلف يعلم أنني ضعيف الثقة بكثير من المستشرقين سيئ الظن بهم وقد كنت في الواقع كذلك، ولكن بعد أن خبرتهم وسبرت غور معلوماتهم وتتبعت مبلغ كفاءتهم، ولولا أنني وجدت من بينهم أفذاذا قليلين جدا لا اطمأنت نفسي إلى أحد منهم فلما حصلت على الكتاب وتصفحته ثم درسته بابا بابا وكلمة كلمة، حتى جئت على آخره فوجدته عند ظني به، وجدته حارب التاريخ كما حارب الإنصاف وحمل على الرسول عليه السلام حملات منكرة، ويظهر أن المؤلف توقع أن لا يقع كتابه إلا في أيدي البله ولا يطلع عليه إلا الأغرار، فلم يبال إن جاء فيه بمحدثات لو أنه تدبر لما اجترأ على الإقدام عليها فمن ذلك أنه يقول: إن المسلم معناه في الأصل (الخائن) وعلل ذلك بأن هذه الكلمة مشتقة من اسم مسلمة، ثم زعم أن المسلمين سموا أنفسهم بذلك من غير تدبر ثم حولوا هذه المادة إلى معنى التسليم المشهور اليوم وادعى المستر مرجليوث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تنتابه النوب العصبية كثيرا، وفسر بذلك ما كان يصيبه - صلى الله عليه وسلم - من الجهد خلال نزول الوحي مع أنه عليه السلام لم يعرف في تاريخ حياته أنه كان يصاب بأمثال تلك النوبات العصبية قبل زمن البعثة ومقدماتها.
وزعم أن ما كان من بلاغ النبي ورسالاته لم يكن وحيا يوحى وإنما آراء وأنباء يجيئه بها جواسيسه وعيونه.
وقال أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا به قد كونوا جماعة سرية على
نحو ما يفعل الماسون، وأن هذا الجمع السري قد اتخذ له بضع رموز منها قولهم: "السلام عليكم"، وللمستر مرجليوث عدة تأويلات من أعجب ما يرى الراءون فمن ذلك ما قاله في التوحيد الذي هو روح الإسلام فلقد زعم.    أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر في تعاليم النصارى واليهود فأخرج منها ما لا يقبله العقل وكان (الله) أحد أصنام الكعبة قبل الإسلام فوفق بين إله اليهود والنصارى وجعلهما واحدا، فكيف يكون التوحيد هو عين التثليث إلا في نظر من يغالطون في القضايا الحسابية العقلية. ولو أن الكاتب أراد أن ينصف الحق والتاريخ لقال بما قال به القرآن في أكثر من آية من أن التوحيد هو دين جميع رسل الله وأنبيائه. ومما ورد في الكتاب في تعليل إسلام عمر بن الخطاب بأن سر انقلاب عمر من اضطهاد أخته وضربها إلى مجاراتها والمبادرة باعتناق الإسلام بأنه تأثر من رؤيتها مجروحة بسبب قسوته وتسرعه فأحب أن يكفر عن سيئته هذه فأظهر إعجابه بالقرآن ورضي الإسلام دينا يتصفح الناقد هذا الكتاب فيتمثل صاحبه إذ أخذ يدافع عن اليهود كأنه يهودي المنبت، وإذا كتب للدفاع عن النصارى فكأنه هو نصراني صميم. وإذا ذكر حوادث الوثنيين من العرب، وما أصاب النبي من أذاهم وكيدهم طرب طربه ممن دبر تلك الحكاية وأمعن في إيصالها إلى الرسول قد اشتهر مستر مرجليوث بقدرته البليغة وعمله الواسع باللغة العربية، وأنا لا أريد أن أذكر هنا رأيي في هذا المستشرق الشهير اكتفاء بحادثة وقعت لنا في جامعة أكسفورد. ذلك أنني كنت مدعوا معه في بعض المنازل فلما كنا على المائدة سألني بعض الحاضرين: هل سبق لي أكل لحم الجزور، فأجبته أنني لا أذكر ذلك، وربما اتفق لي هذا وأنا صغير، فلما سمع الأستاذ مرجليوث هذا الكلام قال: كيف ذلك، وعلى كل مسلم فرض أن يأكل لحم الجمال ولو مرة واحدة في حياته؛ لأنه من قواعد الإسلام، عند ذلك أجبته وأنا دهش مما قال: يا سيدي إنني أعرف أن قواعد الإسلام خمس، أما هذا السادس فلا أعرفه، بيد أني أستميح الأستاذ عفوا أن يذكر لي مأخذ هذا الحكم فقال: أنه ورد في "صحيح البخاري"إنه قد جاء أحد اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: إني جئت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فأجلسه الرسول - صلى الله عليه وسلم -    وأمر له بلحم جزور، ومن هنا استنبط مستر مرجليوث أنه يجب على كل مسلم أن يأكل لحم الجزور وأن هذا من العوائد الإسلامية التي ينهدم الدين بانهدامها، فلما فرغ قلت له: إن صح وجود هذا الحديث في البخاري فالذي يفهمه المسلم الذي يفقه اللغة العربية منه أحد أمرين: فإما أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد يقدم لذلك اليهودي شيئًا من الطعام؛ لأنه ضيفه في بيته، وإما أنه أراد أن يمتحن إيمان اليهودي بإطعامه شيئًا مما حرمه الله على بني إسرائيل في التوارة من أجزاء اللحم، ثم تلوت الأدلة المفيدة لذلك، فبهت الأستاذ، ولكن لم تجسر قوة المكابرة وشدة العناد التي فطر عليها الأوربيون ولا سيما المستشرقون منهم على أن تحوله عن رأيه وبمثل كلام هذا الأستاذ يقتدي واضعو الكتب التاريخية القانونية وعن مثله ينقل أمثال مستر سكوت آداب الإسلام ودقائق أسراره.


* لورانس الخائن للعرب والمسلمين وكتابه "الأعمدة السبعة":
إن الجانب الذي يهمنا من دراسة هذا المغامر البريطاني في هذا المجال هو كتاباته عن العرب في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة"فقد كشف في كتابه عن حقد وكراهية للعرب والمسلمين ولتاريخهم، وحاول التقليل من شأنهم ورميهم بالجهل والتخلف. فضلاً عن مغالطاته المتعددة وأخطائه التاريخية وأبرز ما يؤكد ذلك قوله بالنص: "لقد كنت أعلم أننا إذا كسبنا الحرب فإن عهودنا للعرب ستصبح "أوراقًا ميتة"غير أن الاندفاع العربي كان وسيلتنا الرئيسية في كسب الحرب الشرقية، وعلى ذلك فقد أكدت لهم أن بريطانيا سوف تحافظ على عهودها نصًّا روحًا فاطمأنوا إلى هذا القول وقاموا بالكثير من الأعمال المدهشة، ولكني في الواقع بدلاً من أن أشعر بالفخر لهذا الذي فعلته، كنت أشعر دائمًا بنوع من المرارة والخجل، لقد ذهبت إلى الصحراء غريبًا لا أملك أن أفكر على طريقة أهلها ولا أن أشاركهم معتقداتهم، ولكنه.   كان علي أن أقود العرب، وأن أستخدم حركتهم إلى أقصى حد لصالح بريطانيا في الحرب، وإذا لم أكن أقدر على التطبع بطباعهم فعلي على الأقل أن أخفي ما عندي وأن أتسلل بنفوذي بينهم، إن الرجل إذا ألقت به الظروف إلى من لا يماثلونه عاش بينهم ولا ضمير له؛ لأنه قد يعمل ضد صالحهم أو يستميلهم إلى غير ما يحبون لأنفسهم، وهو يتحايل بدهائه ليغلب دهاءهم وهكذا كنت مع العرب، كنت أقلد أحوالهم فيقلدونني حكاية واقتداء، وكنت أخرج علي مألوفي وأتظاهر بمألوفهم، لقد كان بعض الإنجليز وعلى رأسهم كتشنر يعتقدون أن ثورة يقوم بها العرب على الأتراك تساعد إنكلترا وهي تحارب ألمانيا على دحر خليفتها تركيا، إنني لم أبلغ درجة من الحمق تجعلني لا أدرك أنه لو قُضي للحلفاء أن ينتصروا وأننا لو كسبنا الحرب فإن هذه الوعود سوف تكون حبرًا على ورق، ولو كنت مناصحًا شريفًا للعرب لنصحتهم بالعودة إلى بيوتهم وسرحت جيشهم وجنبتهم التضحية بأرواحهم ودعوتهم إلى عدم المخاطرة بحياتهم في مثل هذه الحرب، أما الشرف فقد فقدته يوم أن أكدت للعرب بأن بريطانيا ستحافظ على وعدها لقد كان قواد الحركة العربية يفهمون السياسية الخارجية فهمًا عشائريًّا بدويًّا، وكانت طبيعة قلبهم وصفاء نيتهم وانعزالهم عن العالم الغربي تخفي عليهم ملتويات السياسة وأخطاءها وتشجع البريطانيين والفرنسيين على القيام بمناورات جريئة يعتمدون في نجاحها على سذاجة العرب وضعفهم وبساطة قلوبهم.
وكانت لهم بساطة في التفكير وثقة في العدو إنني أكثر ما أكون فخرًا أن الدم الإنجليزي لم يسفك في المعارك الثلاثين التي خضتها؛ لأن جميع الأقطار الخاضعة لنا لم تكن تساوي في نظري موت إنجليزي واحد، لقد جازفت بخديعة العرب لاعتقادي أن مساعدتهم كانت ضرورية لانتصارنا القليل الثمن في الشرق، ولاعتقادي أن كسبنا للحرب مع الحنث بوعودنا أفضل من عدم الانتصار"اهـ.     وأعتقد أن هذه النصوص كافية لكي تكشف حقيقة لورنس والدور الذي قام به في العالم العربي، وآية خداع لورنس وتآمره على العرب ما سجله (وايزمان) في كتابه "التجربة والخطأ"قوله: وأود أن أعلن في هذا المجال تقديري للخدمات الجليلة التي أسداها لقضيتنا الكولونيل لورنس، لقد اجتمعت به في مصر وفلسطين، وقابلته فيما بعد مقابلات عدة، إن علاقته بالصهيونية علاقة إيجابية على الرغم من تظاهره بالميل للعرب وقد ظل اسم لورنس يدوي مصورًا تلك المغامرة السحرية الجريئة التي قام بها والعمل البطولي الذي وصف من أجله بأنه سلطان الصحراء العربية، وملك العرب غير المتوج حتى توفي في ١٩ مايو ١٩٣٥. ثم ظهرت بعد ذلك كتابات كشفت وجهه الحقيقي، كتبها أمثال ريتشارد الدنجتون في كتابه "لورنس الدجال"وجان بيروفيلار الكاتب الفرنسي، ولويل توماس، وروبرت جرنفر، والكابتن ليدل هارت، فكشفوا عن حقيقته وأظهروا عشرات المغالطات التي ملأ بها كتابه، وعزوا سر اندفاعه ومحبته للظهور إلى سبب باطني، ذلك أنه كان ابنًا غير شرعي لأمه، ووصفوه بأنه كان متحمسًا للقضاء على الإمبراطورية العثمانية لتأكيد سطوة الاستعمار البريطاني وحده.
وإن ما ادعاه من محبته للعرب، ومقابلته للملك البريطاني مع فيصل بالعباءة والعقال العربي ورفضه قبول الوسام إنما كان هذا كله تغطية لموقفه، وبلوغًا بالمسرحية إلى غايتها. وقد دحض ريتشارد الدنجتون في كتابه هذه الأسطورة البطولية، ليحل محلها إنسان مليء بالعقد والشذوذ.
وعنده أن لورنس هو الذي عمل على اجتماع فيصل وحاييم وايزمان في باريس ١٩١٩ وهو الذي كتب الاتفاقية التي وقعها كليهما. وكان لورنس يطلق على الثورة العربية "تقطيع أوصال الدولة العثمانية"، وهدفه إيقاع الخلاف وتعميقه بين العرب والترك وقد عرف أنه لم يصل إبان الحرب العالمية مصادفة، ولكن العمل الذي قام به كان بدء ربيع ١٩١٤ عندما وصل إلى.  الشرق، متخذًا من (فن البناء العسكري الصليبي) موضوعًا لدراسته، وكان قبل ذلك ملتحقًا ببعثة أوفدت إلى وادي الفرات للبحث عن آثار الحيثيين، وهكذا كانت خطته في دراسة الصحراء تختفي وراء عمل علمي بحت، هو دراسة البادية والمدن العربية والإلمام باللهجات التي يتكلمون بها والوقوف على عاداتهم، ثم استخدمه الإنجليز في ديوان الاستخبارات بعد ذلك حتى وصل جدة ١٩١٦ واتصل بفيصل وعمل معه.


* هنري لامنس الراهب اليسوعي المؤرخ الكذاب:
يعد (هنري لامنس) من أشد المستشرقين تعصبًا على الفكر العربي الإسلامي وقد بالغ في التعصب على الإسلام حتى أعلن المنصفون شكهم في أمانته العلمية، وقالوا: إنه لا ينسى عواطفه فيما يكتب عن النبي والإسلام، وإنه كان داعية ولم يكن عالمًا، وقد عرف بتهكمه على النصوص العربية، كما وصف بإرهاقه للنصوص وتحميلها أكثر مما تحتمل، فإذا وجد في الإسلام موضعًا للفضل ذهب بنسبته إلى مصدر غير إسلامي. ولد عام ١٨٦٢ في بلجيكا واتخذ لبنان موطنًا ودرس في الكلية اليسوعية ببيروت، واشتغل بالتدريس فيها من ١٨٨٦ وتخصص في تاريخ الشرق الأدنى وحضارة أهله، وأتقن اللغة العربية وعين ١٩٠٧ أستاذًا في معهد الدراسات الشرقية في الكلية اليسوعية ببيروت، وتوفي في (مايو ١٩٣٧) ووصف بالراهب المؤرخ وأخذ عن جولد زيهر ونولدكه وكيناني وولهوزن وله كتاب عن حياة محمد لم توافق دوائر الفاتيكان على نشره خشية أن يؤدي ما فيه من طعن وتهجم إلى احتجاج الأمم الإسلامية، وله كتاب "فاطمة وبنات محمد"، وكتابه عن الثلاثة: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة (ومغزى الربط بينهم هو ادعاؤه بأنهم تآمروا على الخلافة بعد وفاة النبي دون علي)، ويقول: فييت: إن كتابه عن فاطمة وبنات محمد يسوده التعصب والاتجاه العدائي.  - وقد تحيز لامنس للأمويين ووقف جانبًا كبيرًا من جهوده العلمية لدرس تاريخهم السياسي وخلافهم مع العباسيين، ومصدر إعجابه ببني أمية أن دولتهم كانت في تقديره -لا دينية- ولأنهم أقاموا ملكهم في الشام وتأثروا بالمدنية القديمة التي أقامت في ربوعه.
- يتهم الأب لامنس في جميع مؤلفاته رواة السيرة بأنهم مخترعون ولكنه لا يحجم عن الاعتماد على رواية من رواياتهم إذا استطاع أن يلمح فيها مطعنًا على الإسلام.
- وهو إن تكلم عن السيدة عائشة لم يجد من مفردات الفرنسية إلا كلمة (Favorite) ليصف بها زوجة النبي، وأقرب ترجمة لها بالعربية (محظية).
- ويذكر هذا المجرم أن رقية ابنة النبي - رضي الله عنها - كانت جميلة وأن عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - إنما اعتنق الإسلام ليتزوجها.
- وقد سجل عليه تعصبه زملاء له من أعلام الاستشراق في مقدمتهم: بيكرودسو، وجور فروا، وبمومبين، وماسيه، وقال (فييت) في نعي لامنس بجلسة ١٠ مايو ١٩٣٧: إنه من الصعب أن نقبل كتاب "فاطمة وبنات محمد"في ثقة ودون تحفظ فإن التعصب والاتجاه العدواني يسودانه إلى حد كبير. وهكذا ترى أن الأب لامنس كان من أشد المتعصبين على الإسلام، وكان المستشرقون يعرفون في لامنس هذا العيب الكبير ويأخذونه به.
- وادعى هذا الكاذب أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة - رضي الله عنهم - اجتمعت كلمتهم في أواخر عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحتكروا الحكم بعد وفاته ويتداولوه واحدًا بعد واحد. وأن اثنتين من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، هما عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - مهدتا لهم السبيل، وأن هذه المؤامرة قد نجحت إلى حد بعيد، وقد ردّ عليه الأستاذ عبد الحميد العبادي فأفحمه، وممن ردّ على لامنس فأجاد الأستاذ.  كرد علي.
- وقد ذكر أن عالم قريش خالد بن يزيد تلميذ راهب ولم يقل كلمة واحدة في أثر هذا الراهب عليه.
- وادعى أن شيخ الإسلام ابن تيمية هو صاحب "المذهب الارتجاعي"وأن عمله مختل، وأنه كان لا يفتر عن مقاتلة البدع، وقضى حياته وهو يسوق أبناء أمته في سبيل التعصب.
- وادعى هذا الدجال بأن الفقه الإسلامي قد تأثر بالفقه اليوناني.
ووصف صلاح الدين الأيوبي بالطمّاع ووصف وقائع الحروب الصليبية بالبسالة، وصور ملوك الصليبيين على الغاية من النجدة والعقل، وقال: إن ترك صلاح الدين للأسرى الصليبيين يوم فتح بيت المقدس أحياء ولم يعمل السيف فيهم مثلما فعلوا هم يوم أخذوا القدس قال: إن هذا العمل كان عن "عجز وخوف". واعتذر عن فعلة الصليبيين في بيت المقدس بأن هذه المدينة عوملت بما تقضي به الأخلاق الحربية في ذلك العهد.
وقال: إن دور الأكراد الأيوبيين كان قليل البهاء.
- ولا يعترف لامنس الدجال بأنه قامت للعدل سوق في ديار الشام منذ فتحها العرب.
- وقال كرد علي: إن (لامنس) ألف تاريخًا مختصرًا للشام لم يذكر فيه للإسلام ولا للعرب محمدة من ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن، ووصف العربي بأنه ليس شجاعًا وأنه على استعداد للنهب. كما تمدح الصليبيين - وهم بشهادة المؤرخين- من أهل الخبث والفجور، وادعى أن الصليبيين عاملوا الأهالي في الحروب الصليبية معاملة حسنة. وفي تقدير الباحثين أن لامنس أضعف من شأن أكثر مؤرخي العرب أمثال الطبري والبلاذري وابن سعد والأصفهاني وابن الأثير وابن خلدون وأبي الفداء، ووثق بعض القصاص.  الوضاع، وقد ذكر إميل درمنجم وهو من كتاب الغرب الأب لامنس باللوم، وقال: إن كتبه قد شوهت محاسنها بما بدأ في تضاعيفها من كراهية الإسلام ورسوله وأنه استعمل إلى التاريخ طرقًا بالغ فيها بالنقد".
- وقال كرد علي: إن لامانس نشر أخطاءه وأكاذيبه في دائرة المعارف الإسلامية، ومن عمله تحريف آيات القرآن، وحذف ما لا يروقه من كتب المسلمين وخلط الآيات القرآنية بأبيات من الشعر، وبجعل الأحاديث النبوية من كلام بعضهم، ومن ذلك اقتطاع جملة واحدة من نص طويل وإيراد الخرافات المنقولة من كتب الوضاعين والقصاصين، مدعيًّا أنها منقولة من كتب الثقات الأثبات.
- وادعى هذا الدجال الراهب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان رجلاً غير أمين!!! قليل الشجاعة أكول ونؤوم قال هذا في كتابه "هل كان محمد صادقًا"، ووصفه بأنه أسلم نفسه للتمتع بلذات العيش، وأنه مصروع، وادعى أن النبي لم يكن له ولد يُسمّى القاسم وأن فاطمة عليها السلام تزوجت في سن متقدمة وأنها لم تكن حسنة الصورة.
- ولقد أبدى هذا الراهب إعجابًا كبيرًا في مقال له "نظرة في حاضر الإسلام"نشره في المشرق سنة ١٩٣٠ لما بلغ إليه الأمر من أن التعليم القرآني في تأخر مستمر ومطرد في البلاد الإسلامية المستقلة، وأن تطور التعليم الرسمي في المعاهد العالية والثانوية يتحرر شيئًا فشيئًا من تأثير الدين حتى يصبح لا دينيًّا محضًا، وأن دعاة التطور قد مدوا أصابعهم داخل الجامع الأزهر، والزيتونة، وأشار إلى أن ذلك سيؤدي إلى اضطراب الشبيبة الإسلامية في مبادئها وعقائدها وأن ذلك سيؤدي إلى صدمة قوية يعانيها الإسلام.    * القس اليسوعي لويس شيخو الصليبي المتعصب ورسالته "خرافات القرآن":
يعد لويس شيخو من أقسى المستشرقين على الإسلام والفكر الإسلامي وفي مجلة المشرق التي أصدرها منذ ربع قرن حملات متصلة وإشارة مستمرة للشبهات، وفي مجال دراساته الأدبية لا ينسى خصومته وتعصبه ففي عشرات المجالات والأبحاث يتناول الإسلام والفكر الإسلامي على نحو لا يشرف العالم أو الباحث. ومن أبرز آثاره رسالة أسماها "خرافات القرآن"ترجمها زويمر عام ١٩١٤ وانتفع بها دعاة التبشير في مصر والبلاد العربية في الطعن على الإسلام ونشرها في مجلة العالم الإسلامي.
ولويس شيخو قس يسوعي ولد بماردين وتعلم بمدرسة الآباء اليسوعيين في غزير بلبنان وانتظم في سلك الرهبانية اليسوعية وتنقل في بلاد أوربا والشرق، وقد عهد إليه بتعليم الآداب العربية في جامعة القديس يوسف وأنشأ مجلة المشرق (١٨٩٨) وتوفي في بيروت (١٨٥٩ - ١٩٢٧) وله مؤلفات متعددة أهمها شعراء النصرانية. وقد وجه إليه النقد من زملائه المستشرقين لتعصبه ومما ذكره إميل درمنجم عنه قوله: "وشيخو مثل لامنس، لم يأل جهدًا في إثبات دعواه أن العرب قبل الإسلام وبعده لا شأن لهم في المدنية وإذا كان هناك حضارة، فإن أصحابها هم نصارى العرب، وقد لفق كتابًا ادعى فيه أن معظم شعراء العرب قبل الإسلام كانوا نصارى وبراهينه على دعواه واهية.
وقال كرد علي: إن لويس شيخو كتب معظم مقالات مجلته مدة خمس وعشرين سنة ونشر فيها أولاً أمهات تآليفه وراعى في كتبه نظام رهبانيته فجاءت كتاباته إلا قليلاً أشبه بكتب الدعايات المذهبية، منها بكتب علمية مشتركة، وما خالف قط طريقته الدينية إلى ما يسمونه الطريقة العلمانية، ولو.  خلت من هذه النزعة لكانت في الغاية من جودة التأليف. ولم يرزق ذوقًا عاليًا في الأدب العربي، وظلت كتاباته إلى آخر أيامه كما كانت في أول عهده نمطًا واحدًا لا تتناسب مع مقدرته على التأليف ووقوفه على أدب العرب والإفرنج وعلوم العصر، وهكذا يقال في ذوقه في الشعر، وقضت عليه الصنعة أو البيئة على ما يظهر أن يغمط حق العرب في مدنيتهم، وكان في الأغلب ينظر إليها من الوجه الذي لا يستحسن، لذا يعد شعوبيًا وشديد الشعوبية بأفكاره وتصريحاته لا صلة بينه وبين العرب إلا بما نشره من آثار علمهم وآخر أثر له من هذا القبيل أنه ذكر جملة من آباء المسلمين -وهو مولع في التفريق بين المسلمين والمسيحيين- في الربع الأول من القرن العشرين لم يتجاوز في عدهم العشرات في الأمة العربية، مع أن من وضعوا المصنفات والتآليف ولهم مكانة في الشعر والأدب لعهدنا لا يقلون عن ثلاثمائة رجل، اعتذر بجهله أسماءهم مع أن من اشتهرت بين قراء العرب مصنفاتهم وفيها الممتع لا يصعب السؤال عنهم ويستغرب أن لا يطلع مثله على أعمالهم.


* لويس برتران الصليبى المتعصب وكتابه "إِمام الإِسلام":
أصدر الكاتب الفرنسي لويس برتران عضو الأكاديمية الفرنسية عام ١٩٢٦ كتابًا بعنوان "إمام الإسلام"تناول فيه المصريين والشرقيين والمسلمين واتهمهم بالتأخر والتعصب، وقال: إنه لا قابلية لهم للتمدن، وردد العبارات المعروفة التي تدعي أن للغرب حق تمدين العالم.
وقد واجه الدكتور هيكل هذا الكتاب وما تضمنه من آراء فقال: "إنه أشد ما ظهر في السنين الأخيرة صراحة في عدوانه على المسلمين والمصريين وأشدها إمعانًا في الطعن عليهم والنيل منهم، وهو فوق ذلك صيحة لإعلان الحرب بين الشرق والغرب والنصرانية والإسلامية والكتاب لا يشتمل على شيء جديد غير هذه النزعة الرجعية التي أدت إلى الحروب الصليبية في.  القرون الوسطى.
وقال: إن واحدًا من أربعين بيدهم قيادة الرأي والفكر في فرنسا، وقد حمل على أهل الإسكندرية؛ لأنه رآهم يبدو عليهم الاعتداد بالنفس والاعتقاد بأنهم مسايرون للأوربي، وقال: هذه هي الجريمة في نظر برتران.
وكتابه هو عصارة روح الكراهية والحنق، ثم قال: إذا كان مسيوا برتران يريد أن يعتقد أن قومه أكرم عنصرًا وأشرف مقامًا في الإنسانية من الشرقيين ومن المسلمين، فليعلم أن الزمن الذي أتاح لأوربا أن تحكم العالم من الزمن، قد أتاح من قبل لأمم آسيا ولأمم أفريقيا ومصر التي نالها المؤلف بحقده وكراهية قد حكمت العالم عصورًا عديدة، وقد صبغت العالم بمدنيتها، ولعل أهلها يومئذ كانوا يعتقدون أن الأجناس التي تقطن أوربا كلها همج وبرابرة متوحشون وأن أمم الإسلام قد نظرت لأمم أوربا ردحًا من الزمن على أنها أمم الموت والتقهقر.


* وليم ويلكوكس والدعوة إِلى العامية:
في يناير ١٨٩٣ ألقى المهندس الإنجليزي وليم ويلكوكس محاضرة في نادي الأزبكية (انجلوا اجيبشيان كلوب) موضوعها: لماذا لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن؟ زعم فيها أن قوة الاختراع تأتي من القوة المفكرة ويرثها الإنسان من آبائه والقوة الخيالية ويرثها الإنسان من الأمهات. وقال: إن أهم عائق يمنع المصريين من الاختراع أنهم يؤلفون ويكتبون باللغة العربية الفصحى، ولو ألفوا وكتبوا باللغة العامية لصاروا مخترعين، واستدل على ذلك بأن الإنجليز كانوا يؤلفون باللاتينية فلم يكونوا مخترعين، فلما اختاروا لغة الفلاحين الإنجليز، وكتبوا بها صاروا مخترعين، ويرجع ذلك إلى الزمن الذي نبغ فيه شكسبير وبيكون .. ". ولم يتوقف وليكوكس عن هذا الحد، بل اشترى ترخيص مجلة اسمها الأزهر من منشئيها إبراهيم مصطفى وحسين.   رفقي، وأصدرها بالاستعانة بالشيخ أحمد الأزهري وراح يردد فيها هذه الدعوة. ومضى فاتجه إلى الإنجيل فترجمه إلى اللغة العامية، ثم ما كاد يحال إلى المعاش وكان من أكبر مهندسي الري والخزانات حتى عمل مبشرًا، يجادل الناس في عقائدهم ويحمل إلى القرى النائية الأدوية والتبشير، وظل يعمل في مستشفى مصر العتيقة (هرمل) المعروف إبان حملات التبشير التي أثارت الرأي العام وقد كتبت مجلة اللطائف عنه أنه اعتكف سنة ١٩٢٦ في داره بحلوان وخرج منه أخيرًا مبشرًا يجيد اللغة العربية وبدأ حركة التبشير في مسكنه الحالي الصغير في جهة الزمالك حيث وضع كتابين أو ثلاثة كتبها باللغة العامية وأطلق على آخرها اسم "الأكل والإيمان"ووزع كتابه بنفسه مجانًا على العامة في المدن وسكان القرى وكان ينتقل بينها ويجالس أهلها.
وقد ردد سلامة موسى في مجلة الهلال دعوة ويلكوكس إلى العامية وتحدث معه، وقال: إن الهم الذي يقلق ويلكوكس هو اللغة التي نكتبها فهو يرغب في أن نهجرها ونعود إلى لغتنا العامية فنؤلف بها وندون بها آدابنا وعلومنا وأن ويلكوكس يرفض التسوية أي قيام لغة مشتركة من العامية والفصحى - ويدعونا إلى هجرة اللغة الفصحى هجرة تامة واصطناع العامية. وقد نشر موسى ذلك عام ١٩٢٦ أي أن ويلكوكس ظل مقيمًا على دعوته أكثر من ثلاثين عامًا. ولما توفي في يوليو ١٩٣٣ أشارت جريدة الأهرام إلى دوره هذا فقالت: كان يقوم باستخدام اللغة العامية لأنها أقرب إلى الأفهام وأنه أنشأ لإذاعة هذه الفكرة بمعاونة سكرتيره أحمد بك الأزهري مجلة باسمه في مجلة الأزهر ولكن الرأي العام قاوم فكرته فأبطل تلك المجلة ولكنه ظل هو ذاته يؤلف باللغة العامية المصرية فكتب في ذلك حياة المسيح وأعمال الرسل وترجم كتب العهد الجديد إلى اللغة العامية المصرية.   * فنسنك المرتد عن الإِسلام و"دائرة المعارف الإِسلامية":
يعد فنسنك من أبرز المستشرقين، وقد ولي تحرير القسم الأكبر من دائرة المعارف الإسلامية وهو تلميذ (سنوك هيجرونيه) سافر قبل الحرب الأولى إلى جاوه، واعتنق الإسلام، وما كاد يعود إلى بلاده بعد الحرب الأولى حتى ارتد عن الإسلام ومضى يهاجمه في عنف وأخذ طريق مرجليوث ونيكلسون والأب لامنس ودي كاستري وكازنوفا. وقد رشح عام ١٩٣٣ عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة غير أن الدكتور حسين الهراوي تصدى لكشف مواقفه من الإسلام مما عمل على شطب اسمه وإقصائه وقد أشار الدكتور الهراوي إلى أن فنسنك إذا أراد أن ينال من الإسلام، فإنه يفرض فرضًا، ثم يبحث عن الآيات التي قد تتناسب مع هذا الرأي الذي فرضه، فإذا وجد آية تدحض رأيه حذفها، وأنكرها إنكارًا حتى يخرج بالنتيجة التي تؤدي إلى نزوع الشك في فؤاد من يطلع على أقواله من غير تمحيص، وقال: إن هذه هي طريقة المستشرقين الذين يتبعونها في مباحثهم عن الإسلام أو حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو عندما يريدون أن يستقصوا مسألة في القرآن، وهذه الطريقة لم يبتدعها فنسنك بل هي طريقة قديمة من أقدم ما ورد في كتب المستشرقين، والغرض منها ظاهر جلي، وهو تزويد جماعة المبشرين والمستعمرين بحجج شبه منطقية يزعزعون بها عقائد المسلمين ويقللون من تمسكهم بدينهم، وهي إحدى الطرق التي وضعها رواد الاستعمار من زمن قديم، وكانت إحدى وسائلهم مع تقوية اللغات العامية حتى لا يتفاهم المسلمون ولا يفهمون لغة قرآنهم، وقديمًا اطلعنا على تقرير لجنة العمل المغربي، وفيه يقول المستشرق سيكاردا: "إن الإسلام في روحه الخاص قوة مخالفة لاحتياجاتنا ورغباتنا ونزعاتنا"إلى أن قال: "فمن مصلحتنا التقليل منه بين الشعوب الخاضعة لسلطتنا". وفي تقرير بورينو الذى يدرس اللغة العربية لفريق من طلبة أوربا: إنني سأعلمك لغة القرآن، فهذه اللغة قد ماتت ولا يتكلم بها أحد فهي (لاتينية) العربي، وهذه اللغة المستعملة في جنة محمد وسأحبب إليك دراستها في المستقبل إذا أردت أن تتذوق حلاوة الاجتماع بالحور العين"فأمثال هذه المبادئ هي التي رسمها المستشرقون لدراسة اللغة العربية، وأكثر من ذلك أن بعضهم مثل مرجليوث يغالي في الطعن في نسب (محمد) فيقول: إن اسم أبيه (عبد الله) معناه أنه (مجهول الأب) وتتمثل لك نتيجة عمل المستشرقين جليًّا في كل كتاب علمي أو عمراني أو اجتماعي، يكتب شيئًا عن الشرق وعن الإسلام، فإنك لا تكاد تقرأ أي هذه الكتب حتى ترى إجماعًا على الجهل بالإسلام، وإجماعًا على الطعن في النبي الكريم، وقد أنتج ذلك أن بعض المسلمين الذين لم يلموا إلمامًا كافيًا بدينهم أخذوا يتبعون خطأ المستشرقين ويقتفون أثرهم وقد اخترعوا لنا اسمًا غريبًا لهذه الجهالة هو (حرية الفكر).
بمثل تلك النواحي أصبحنا لا نقرأ للمستشرقين شيئًا إلا ونحن نحرص على تفكيرنا وأن نعنى بتعرف الغرض الذي يرمي إليه قبل أن نثق بما يكتب وأن نقتفي أثره فيما يبحث وفي مستنداته".
- وقال الدكتور الهراوي: إن من أخطر آراء فنسنك رأيه في كلمة إبراهيم، ورأيه في كلمة كعبة (في دائرة المعارف الإسلامية). فقد أشار تحت لفظ إبراهيم: إن الآيات المكية ليس فيها ذكر لنسب إسماعيل لإبراهيم، ويقول: إنه لا يعرف شيئًا عن شعور محمد نحو الكعبة في شبابه وبعد الرسالة إلا بعد أن هاجر بعام ونصف، وأن ما لديه من تاريخ حياته لا يصح أن يؤخذ أساسًا تاريخيًّا. ونسب (فنسنك) إلى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يشذ عن الجماعة في العبادة المكية، أي بعبارة أصرح: أنه كان وثنيًّا قبل البعثة وأن فنسنك لا يعرف شعور محمد نحو الكعبة.  ويرد الدكتور الهراوي على هذه الشبهة فيقول: إن عبادة محمد كما وردت في كتب السيرة معروفة تمامًا فقد كان في الغار شهرًا، ثم يطوف بالكعبة ويوزع الصدقات.
وكان يحترم الكعبة ويتجنب الأصنام، وكانت عبادته بالغريزة والوراثة تتصل بعبادة جده الأعلى إبراهيم.
ومما أورده الدكتور الهراوي ردًّا على فنسنك القائل: بأن الآيات المكية ليس فيها إشارة إلى علاقة محمد بالكعبة، قال: إننا نذكره بالآية {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا}، إلى قوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}. وقال: هلا يفهم فنسنك أن الحج هو استجابة لهذا الدعاء إن لم يكن بناء البيت في هذا المكان لغرض الحج. وفنسنك يعرض بالاختراع في الدين ويصرح بأن ملة إبراهيم اخترعت اختراعًا، ويزعم أن محمدًا أراد بهذا الاختراع أن يتصل بيهودية إبراهيم والواقع أنه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا}، وأشار الدكتور الهراوي إلى أن لفنسنك زميل هو إميل درمنجم يزعم أن محمدًا كان يتعبد على طريقة اليهودية والمسيحية تمهيدًا لدين هو الإسلام، ومثله مرجليوث، ويقول الهراوي: فأنت ترى أنهم اختلفوا في أسانيدهم التاريخية واتفقوا على أن محمدًا كان يخدع ويدس ويطلب علاقات اليهود.


* دائرة المعارف الإِسلامية:
وقد واجهت دائرة المعارف منذ بدأت ترجمتها عام ١٩٣٢ كثيرًا من النقد، لما تضمنته من شبهات واتهامات، تناولتها أقلام (رشيد رضا) صاحب المنار. و (كرد علي) رئيس المجمع العلمي العربي وأحد أقطاب دراسات دوائر الاستشراق، و (فريد وجدي)، كما تناولها الدكتور (تقي الدين الهلالي) الباحث المغربي المسلم الذي قال: إن في دائرة المعارف الإسلامية أخطاء.   ودسائس ناشئة عن التعصب الأوربي، وقال: إن كتابات بروكلمات مثل ذلك وأقبح.
وقد أشار كثير من الباحثين أن أغلب كتاب دائرة المعارف قسس مبشرون يهمهم أن يخنقوا الإسلام لا ينصفوه، وقليل منهم من يتصف بالشجاعة العلمية فيتغلب على عناصر التعصب وضيّق الأفق، وليس كتاب الدائرة وحدهم على هذا النمط، بل جل المشتغلين بالدراسات الإسلامية وهم لا يتجاوزون صناعة التبشير، تعرفهم من لحن القول.
ومن هؤلاء توماس باترك هيور صاحب قاموس الإسلام، وهو مرجع متداول لا تكاد تخلو منه مكتبة أوربية، وقد قضى القس المؤلف في وظيفته التبشيرية في بلاد الهند بين المسلمين والبوذيين والبرهميين أكثر من عشرين سنة، ونشر معجمه هداية للموظفين الإنجليز ممن كانوا يتولون الحكم ببلاد الإنجليز في أواخر القرن الماضي ومساعدة للمبشرين بالمسيحية ممن يجادلون علماء الإسلام.
وأشار الباحثون إلى أن أهم نواحي الخطر في هذه الدائرة أن ما يترجم منها لا يتعرض بالتحليل والإيضاح لما فيها من أخطاء وشبهات، وأنها تسطر البدع الدخيلة على الإسلام باستفاضة مثيرة. وقد أمعن مؤلفو الدائرة في تسجيلها وشرحها وكأنها أصول مقررة لا بدع دخيلة.
١ - أخطاء دائرة المعارف الإسلامية: قال رشيد رضا: إنه معجم لفقه طائفة من علماء الإفرنج المستشرقين لخدمة ملتهم ودولتهم المستعمرة لبلاد المسلمين بهدم معاقل الإسلام وحصونه بعد أن عجز عن ذلك دعاة دينهم بالطعن الصريح على كتاب الله ورسوله وبعد أن عجز عن ذلك الذين حرفوا القرآن بترجماتهم الباطلة، والذين شوهوا التاريخ الإسلامي بمفترياتهم، ذلك أن هؤلاء الملفقين لهذا المعجم الذي سموه دائرة المعارف لم يتركوا شيئًا من. عقائد الإسلام ولا من فضله، ولا من الشريعة ولا من مناقب رجاله إلا وصوروه لقراء معجمهم بما يخالف الصورة الصحيحة من بعض الوجوه، إما بصورة مشوهة أو بصورة عادية لا مزية لها.
وفي هذه الدائرة عيوب علمية وتاريخية أخرى أهمها أنها لم تكتب لتحقيق المسائل التاريخية والعلمية لذاتها بل لأجل بيان آرائهم وأهوائهم والإعلام بما سبق لهم ولعلمائهم فيها من بحث وطعن في كتبهم ورسائلهم المتفرقة. وكان على الذين شرعوا في ترجمة هذا المعجم وضع حواشي لتصحيح ما فيها من الأغلاط التاريخية والعلمية والدينية وبيان الحق فيما دسوه فيه من عقائدهم وآرائهم الباطلة، وقد نيط هذا وذاك بالعلماء الإحصائيين، وقد ذيل الجزءان الأول والثاني ببعض الحواشي من هذه التصحيحات والانتقادات إلا أنها غير كافية في موضوعها ثم أعرض المترجمون عن ذلك فيما بعد، وطفقوا ينشرون الأجزاء غفلاً من التعليق على مواردها المشوهة للإسلام وتاريخه بعد أن ظننا أنهم سيزيدونه استقصاء وتحقيقًا، أقول ولا أخشى لا آثمًا ولا مخالفًا أن نشر هذا المعجم باللغة العربية كما كتبه واضعوه بدون تعليق على ما فيه من الأغلاط والمطاعن ومخالفة الحقائق هو أضر من شر كتب دعاة المبشرين وصحفهم؛ لأن هذه كلها لا تخدع أحدًا من أعلام المسلمين بما فيها من الباطل، أما هذا المعجم المسمى بدائرة المعارف الإسلامية المعزو أكثر ما نقل فيه إلى كتب المسلمين فإنه يخدع أكثر القارئين له ممن يعدون من خواص المتعلمين؛ لأنه يقل فيهم من يفرق بين الحق والباطل مما فيه ويقل فيهم من يعلم أن مؤلفي هذه الدائرة من خصوم العرب والإسلام واللغة العربية.
٢ - رأى فريد وجدي في دائرة المعارف الإسلامية: أن هذه الدائرة تشمل على السيِّئ الكثير من التهم الباطلة على الإسلام ورسوله ورجالاته الصالحين ولا يدفع ببعض هؤلاء المستشرقين إلى التورط مع هذه الخطة الحربية.  إلا ما يحملونه في صدورهم من البغضاء لهذا الدين فلا يصح والحالة هذه أن يحمل المترجمون أنفسهم إثم نقل هذه السفاسف إلى لغتهم وبأقلامهم ليقرأها الناس في جميع بلاد المسلمين فالذي آراه أن يمتنعوا عن ترجمة ما يصادفونه من هذه الأباطيل وأن يكتفوا بالإشارة إليه مشفوعة بما يدحضها ويبين فسادها بكل دليل. أليس من البلاء أن يضطر أحدنا أن يصف أطهر نساء العالم وهي في الوقت نفسه أمة في الدين بالطيش والفجور، أي فائدة أدبية ترجى من إذاعة هذه الفرية بين المسلمين في عبارات وقحة يسمح بها لنفسه رجل أجنبي عن الدين، لذلك أرى الامتناع عن ترجمتها والإشارة إليها بدلاً من ترجمتها على غير وجهها وتلطيفها بما يخرجها عن صيغتها التي أراد لها كاتبها. والملاحظ أن مترجمي الدائرة لم يعقبوا على التهم التي وجهها الكاتب إلى خاتم النبيين.


* جلوب قاتد القوات العربية في حرب ١٩٤٨ م وكتابه "الفتوحات العربية الكبرى":
عاش (جون جلبرت جلوب) ثلاثين عامًا يجوب الصحاري العربية مختلطًا بأهلها، وتعلم اللغة العربية ولا سيما لهجات البدو فأجادها وعاش مع العرب في خيامهم ثم، عاد إلى بلاده عام ١٩٥٦ وكان قائدًا للفيلق العربي في الأردن وله تاريخ لا يشرف في مقاومة الوحدة العربية ومهاجمة الإسلام والعروبة، وقد كتب بحثًا في تاريخ العرب من الزاوية العسكرية. أطلق عليه اسم "الفتوحات العربية الكبرى"وقد استمد الكتاب من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري والبلاذري. وقد كتب (خيري حماد) مترجم الكتاب إلى اللغة العربية تعليقات إضافية على الأخطاء والانحرافات ورد على الشبهات التي وردت فيه فقال: "إن أهم ما في الكتاب هي المحاولة البارزة في كل ناحية من نواحيه للتشويه والتضليل ورسم الصور الزائفة التي تشكك القارئ في. الشخصيات العربية العظيمة ابتداء من النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتهاء بصغار القادة، عبورًا بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وخالد وأبي عبيدة وعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهم -. وقال: إن المؤلف قد استند في عملية التشويه على ذكاء نادر، وعلى روايات ابتكرها من خياله أو وجد أثرًا منها في بعض الكتب الصفراء التي وضعها الشعوبيون في مختلف العصور.
وقال: إنه اتضح لنا من قراءة الكتاب، تشيعه لليهود والصهيونية تشيعًا كاملاً لا شك فيه. وكانت هذه الناحية خفية على الجميع ذلك أن جلوب كان يتظاهر بحب العرب حبًّا شخصيًّا قويًّا جعل الكثيرين ينخدعون به. فهو يظهر في كتابه مؤيدًا لليهود كل التأييد وإن لم يعلن تأييده هذا صراحة، فهو يروي قصص إجلاء النبي لليهود من يثرب ومن خيبر كبني النضير وبني قريظة وبني قنيقاع، دون أن يذكر الأسباب التي دفعت النبي إلى اتخاذ هذه الخطوات، ومنها: نقضهم لعهودهم معه وخياناتهم لاتفاقاتهم ومحاولتهم طعن المسلمين في ظهورهم إبان غزوة الأحزاب وحصار المدينة أو أثناء معركة أحد على الرغم من وجود اتفاقات معقودة بينهم وبين النبي أو سعيهم إلى اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
٢ - تصوير النزاع في فلسطين على أنه نزاع بين العرب واليهود، وهي الصورة التي ضللت العرب مدة طويلة وخدمت مصالح الاستعمار ومكنته من أن يقيم قاعدته إسرائيل في قلب الوطن العربي مع أن مشكلة فلسطين مشكلة استعمارية لا طائفية (١).
٣ - تعبير "الشعوب الناطقة بالعربية"تعبير استعماري ماكر يقصد منه تجزئة الأمة العربية الواحدة إلى مجموعة من الشعوب تشترك في لغة واحدة.
 

Rudolf von Rheinfelden

$
0
0

 

 بدأت الدعاية السياسية القائمة على الخرافة مبكرا مع كل نظم الحكم عبر التاريخ، إلا أن نتائج المعركة التى وقعت فى عام 1080 بين القيصر هنرى الرابع وشقيق زوجته ردولف هذا كانت أول مرة يستخدم فيها سلاح الدعاية الدينية عمدا وبطريقة سياسية بغرض خلق هالة دينية حول الحاكم تساعده فى مجال التمكن من السيطرة.

 كنا قد عرفنا قصة الملك هنرى الرابع الذي تنازع مع البابا جريجور فى عام 1078 بسبب قرار البابا بمسئوليته وحده عن تسمية الاساقفة فى المناطق المختلفة وكيف أن الملك أرسل للبابا رسالة يحقره فيها ويناديه بإسمه الأول قبل أن يصبح بابا ويطلب منه أن يترك كرسى البابوية الذى ما حصل عليه إلا عن طريق الخديعة والتدليس - وهو نص الخطاب الذى تسبب فى قرار البابا بعزل الملك من عرشه.. كما عرفتم أن هذا الملك عندما إنتشر ذلك الخبر وتناقله مندوبو البابا فى المناطق المختلفة صدر إليه تحذير من أمراء المناطق ونبلائها بأنه إن لم يصل لتفاهم مع البابا جريجور حول ذلك الأمر فلا طاعة له عليهم ويعد قد غادر العرش فى عيونهم.. كما عرفنا أن الملك عندما حاول الوصول للبابا هرب البابا من روما إلى مدينة كانوسا فى شمال إيطاليا وهى مدينة عالية التضاريس تقع بين الجبال فلما حاول الملك الوصول للبابا وجد أن أمراء المناطق قد سدوا عليه الطرق مما إضطره إلى إتخاذ الطريق الصعب الوعر فى الجبال حتى وصل إلى كانوسا مرتديا أسمالا بالية زاحفا فى شتاء عام 1077 لكي يطلب الصفح من البابا الذى أمر بتركه فى الثلج بالخارج ثلاثة أيام كاملة ثم سمح له أخيرا بالدخول.. وقد عرفنا أن الملك فى الحقيقة كان هو الرابح من تلك المبادرة الغريبة إذ أن البابا بحكم منصبه الديني ملزم بكبح جماح عواطفه الشخصية ومجبر على أن يتصرف كممثل للمسيح على الأرض بمعنى أن الصفح كان هو رد الفعل الوحيد الذى يملك الباب القيام به إزاء الملك هنرى..

كما عرفنا أن الملك بعد ذلك بعدة سنوات قد إنتقم من نفس البابا وعزله وحدد إقامته حتى مات وحيدا معزولا عن كرسيه البابوي..
http://blog.marefa.org/node/872

لكن الأمر لم يكن بدون عواقب على الملك هنرى.

 كان الملك هنرى متزوجا من أخت رودولف فون راينفلدن وكان الأخير أميرا على منطقة شفابن      Schwaben (هي اليوم المنطقة التى تقع مدينة شتوتجارت عاصمة لها فى جنوب غرب ألمانيا).. والأمراء فى ذلك الوقت كانوا على درجة عالية من الأهمية حيث أن سكان المقاطعات لا يتعاملون فى حياتهم اليومية إلا مع هؤلاء الأمراء الذين يملكون الأرض وما ومن عليها. وكان الملك يرتكز فى سلطته على تأييد وتعضيد هؤلاء الأمراء، وهم كما عرفنا من قام بسد الطريق الممهد علي الملك هنرى عندما أراد الرحيل إلى روما لملاقاة البابا فاضطر للسفر عبر الطريق الوعر عبورا لجبال الألب.. وهؤلاء الأمراء كانوا من يجمع الضرائب من الفلاحين ثم يحتفظون بجزء منها لأنفسهم وجيوشهم ويوردون جزءا لملك.. وهذا النظام كان شبيهه منتشرا ايضا فى الدولة العثمانية تحت إسم الملتزم، الذى كان يورد للدولة مبلغا متفقا عليه ثم يقوم هو بمعرفته بجمع ما يحلو له من الشعب وفقا لهواه..

وهؤلاء الأمراء كانوا يؤدون قسم الولاء واحدا بعد الآخر أمام الملك وكان نصه "عدوك هو عدوي وصديقك هو صديقى وأعاهدك أن أظل وفيا حافظا لهذا العهد"..

وبسبب عزل البابا للملك هنرى أصبح موقفه ضعيفا إذ أن الحق الإلهي لابد له من قوة معنوية وقانونية تسنده، وكانت هذه القوة الروحية هي مباركة البابا لمن يراه مناسبا لحمل هذا الحق الإلهي.

وبسبب ضعف مركز الملك هنرى تجرأ بعض الأمراء وأحلوا نفسهم من طرف واحد من العهود التى قطعوها أمام الملك هنري وقاموا بانتخاب شقيق زوجته رودولف فون راينفلدن ملكا عليهم، ولكن لم يدخل جميع أمراء المملكة فى هذا التمرد بل فقط بعضهم.  و عندما عاد هنرى من كانوسا عقب حصوله على العفو البابوي (إضطرارا من البابا) وجد أن الأمراء منقسمون وأن السلطة تكاد تصيع من بين يديه وبالتالى وقعت قسمة فى الحكم فكان لابد من حسمها، وكعادة العصور الوسطي لم تكن الإنسانية فى جميع الثقافات تعرف من طرق الحسم سوى واحدا: الحرب..

وهكذا تلاقى الجيشان فى عام 1080 (15 عاما فقط قبل الدعوة البابوية لبدء الحملات الصليبية، ولعل هذه الحادثة هي التي نبهت البابا أوربان الثاني عام 1095 إلى أهمية إرسال جيوش الأمراء بعيدا عنه حتى لا تتكرر تجربة البابا جريجور السابع).

وتحدي الملك الشرعي (الذى حصل بالوراثة على حقه الإلهي هنرى الرابع) الملك الآخر الذى حصل على لقبه بانتخاب بعض الأمراء له ملكا، وهو فى نفس الوقت صهر الملك هنرى، الأمير رودولف فون راينفلدن وقبل كل منهما تحدي الآخر وقال هنرى لرودولف أنا الملك الشرعي بالحق الإلهي يا "سيد"فون راينفلدن، وهو ما يعنى أنه كملك لم يعد يعترف به ولا حتى أميرا بسبب خروجه عن "الشرعية".. فرد عليه رودولف بأن حقك قد سقط بعزلك من جانب البابا ومهانتك على أبواب قلعة كانوسا.

وبدأت المعركة وكانت حامية الوطيس وانتهت بانتصار الملك هنرى على قوات فون راينفلدن الذى لاقى حتفه فى تلك الموقعة.

وقد وجدت جثته عقب المعركة بلا يد حيث أن اليد اليمنى كانت منفصلة عن الجثة..

وقد قيل وقتها أن قطع اليد ما هو إلا جزاء رباني على الحنث بالقسم الذى أداه الأمير فون راينفلدن بالولاء للملك هنرى لدي توليه العرش، وأن الرب اراد أن يجعل من موته علامة على أهمية الولاء لصاحب الحق الإلهي فى الحكم والعرش فجاءت إصابته فى نفس اليد التي رفعها لكي يؤدى ذلك القسم من قبل.

إلا أن..

إلا أن البحث العلمي للجثمان فى القرن العشرين عن طريق الطب الشرعي قد أثبت أن اليد المقطوعة لم تنفصل عن الجسم إلا عقب الموت بمدة طويلة مما يعني أنها قد قطعت بفعل فاعل وعن غرض هو فى الغالب سياسي دينى كما جرت الأسطورة لمدة حوالى 900 عام.

أى أن أنصار الملك هنرى قد قاموا بقطع اليد والترويج للأسطورة الدينية السياسية بغرض إسباغ صفة دينية على الحكم الملكي تدعيما لنظرية الحق المقدس للملوك، والتى لم تهتز خلال التاريخ الأوروبي إلا من خلال إعدام الملك تشارلز الأول على يد كرومويل فى القرن السابع عشر كما عرفنا من قبل، أى بعد حوالى 600 عام..

هذه هى الدعاية الدينية لغرض سياسي، وهى كما شهدنا قد دامت لتسعة قرون كاملة ولم تتكشف أبعادها إلا حديثا جدا علي يد طبيب شرعي!!

 

والآن تشهد مصر شيئا مشابها لذلك يتمثل فى التذرع بمعجزات من جانب طرفي النزاع القائم..

وما نحتاج إليه الآن هو هذا الطبيب الشرعي الذى يسير على نهج زميله الالماني فينصح الأمة ويكشف الحقيقة

 

رسالة فى القضاء والقدر

$
0
0

للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

رسالة في القضاء و القدر

بسم الله  ، نبحث في أمر مهم يهم جميع المسلمين ألا وهو (( قضاء الله وقدره )) والأمر ولله الحمد واضح، ولولا أن التساؤلات قد كثرت ولولا أن الأمر اشتبه على كثير من الناس، ولولا كثرة من خاض في الموضوع بالحق تارة وبالباطل تارات ونظراً إلى أن الأهواء انتشرت وكثرت وصار الفاسق يريد أن يبرر لفسقه بالقضاء والقدر، لولا هذا وغيره ما كنا نتكلم في هذا الأمر.

والقضاء والقدر ما زال النزاع فيه بين الأمة قديما وحديثا فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فنهاهم عن ذلك وأخبر أنه ما أهلك الذين من قبلكم ألا هذا الجدال(1).

ولكن فتح الله على عباده المؤمنين السلف الصالح الذين سلكوا طريق العدل فيما علموا وفيما قالوا وذلك أن قضاء الله تعالى وقدره من ربوبيته سبحانه وتعالى لخلقه فهو داخل في أحد أقسام التوحيد الثلاثة التي قسم أهل العلم إليها توحيد الله عز وجل :

 

القسم الأول : توحيد الألوهية ، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة .

القسم الثاني : توحيد الربوبية وهو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير .

القسم الثالث : توحيد الأسماء والصفات ، وهو توحيد الله تعالى بأسمائه وصفاته .

 

فالأيمان بالقدر هو من ربوبية الله عز وجل ولهذا قال الأمام احمد رحمه الله تعالى : القدر قدرة الله.ا.هـ لأنه من قدرته ومن عمومها بلا شك وهو أيضاً سرٌ الله تعالى المكتوم الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى . مكتوب في اللوح المحفوظ في الكتاب المكنون الذي لا يطٌلع عليه أحد ونحن لا نعلم بما قدّره الله لنا أو علينا أو بما قدَّره الله تعالى في مخلوقاته إلا بعد وقوعه أو الخبر الصادق عنه.

 

والأمة الإسلامية انقسمت في القدر إلى ثلاثة أقسام :

 

القسم الأول : غلوا في إثبات القدر وسلبوا العبد قدرته واختياره وقالوا : أن العبد ليس له قدرة ولا اختيار وإنما هو مسير لا مخير كالشجرة في مهب الريح ، ولم يفرقوا بين فعل العبد الواقع باختياره وبين فعله الواقع بغير اختياره . ولا شك أن هؤلاء ضالون لأنه مما يعلم بالضرورة من الدين والعقل والعادة أن الإنسان يفرق بين الفعل الاختياري والفعل الإجباري

القسم الثاني : غلوا في إثبات قدرة العبد واختياره حتى نفوا أن يكون الله تعالى مشيئة أو اختيار أو خلق فيما يفعله العبد وزعموا أن العبد مستقل بعمله حتى غلا طائفة منهم فقالوا أن الله تعالى لا يعلم بما يفعله العباد إلا بعد أن يقع منهم وهؤلاء أيضا غلوا وتطرفوا تطرفا عظيماً في إثبات قدرة العبد واختياره .

القسم الثالث : وهم الذين آمنوا فهداهم الله لما اختلف فيه من الحق وهم أهل السنة والجماعة سلكوا في ذلك مسلكاً وسطاً قائماً على الدليل الشرعي وعلى الدليل العقلي وقالوا إن الأفعال التي يحدثها الله تعالى في الكون تنقسم إلى قسمين :

 

القسم الأول : ما يجريه الله ـ تبارك وتعالى- من فعله في مخلوقاته فهذا لا اختيار لأحد فيه كإنزال المطر وإنبات الزرع والإحياء والإماتة والمرض والصحة وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي تشاهد في مخلوقات الله تعالى وهذه بلا شك ليس لأحد فيه اختيار وليس لأحد فيها مشيئة وإنما المشيئة فيها لله الواحد القهار .

القسم الثاني: ما تفعله الخلائق كلها من ذوات الإرادة فهذه الأفعال تكون باختيار فاعليها وإرادتهم لان الله تعالى جعل ذلك إليهم قال الله تعالى :(لمن شاء منكم أن يستقيم ) (التكوير :28) وقال تعالى(منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) (آل عمران 152) وقال تعالى : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ( الكهف : 29 ) والإنسان يعرف الفرق بين ما يقع منه باختياره وبين ما يقع منه باضطرار وإجبار فالإنسان ينزل من السطح بالسلم نزولاً اختيارياً يعرف انه مختار ولكنه يسقط هاوياً من السطح يعرف انه ليس مختاراً لذلك ويعرف الفرق بين الفعلين وأن الثاني إجبار والأول اختيار وكل إنسان يعرف ذلك .

وكذلك الإنسان يعرف انه إذا أصيب بمرض سلس البول فإن البول يخرج منه بغير اختياره وإذا كان سليماً من هذا المرض فإن البول يخرج منه باختياره . ويعرف الفرق بين هذا وهذا ولا أحد ينكر الفرق بينهما . وهكذا جميع ما يقع من العبد يعرف فيه الفرق بين ما يقع اختياراً وبين ما يقع اضطراراً وإجباراً بل إن من رحمة الله عز وجل أن من الأفعال ما هو باختيار العبد ولكن لا يلحقه منه شيء كما في فعل الناسي والنائم ويقول الله تعالى في قصة أصحاب الكهف :( ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) (الكهف : 18 ) وهم الذين يتقلبون ولكن الله تعالى نسب الفعل إليه لان النائم لا اختيار له ولا يؤاخذ بفعله ،  فنسب فعله إلى الله عز وجل ويقول صلى الله عليه وسلم ( من نسى وهو صائم فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه )[2]

فنسب هذا الإطعام وهذا الإسقاء إلى الله عز وجل لأن الفعل وقع منه بغير ذكر فكأنه صار بغير اختياره وكلنا يعرف الفرق بين ما يجده الإنسان من آلم بغير اختياره وما يجده من خفة في نفسه أحياناً بغير اختياره ولا يدرى ما سببه وبين أن يكون الألم هذا ناشئاً من فعل هو الذي اكتسبه أو هذا الفرح ناشئاً من شي هو الذي اكتسبه وهذا الأمر ولله الحمد واضح لا غبار عليه .

ولو قلنا بقول الفريق الأول الذين غلوا في إثبات القدر لبطلت الشريعة من أصلها لأن القول بأن فعل العبد ليس له فيه اختيار يلزم من أن لا يحمد على فعل محمود ولا يلام على فعل مذموم لأنه في الحقيقة بغير اختيار وإرادة منه وعلى هذا فالنتيجة إذن أن الله تبارك وتعالى يكون ـ تعالى عن ذلك علواً كبيراً ـ ظالماً لمن عصى إذا عذبه وعاقبه على معصيته ، لأنه عاقبة على أمر لا اختيار له فيه ولا إرادة وهذا بلا شك مخالف للقران صراحة يقول الله تبارك وتعالى : ( وقال قرينه هذا ما لدى عتيد (23) القيا في جهنم كل كفار عنيد(24) مناعٍ للخير معتدٍ مريبٍ (25) الذي جعل مع الله آلهاً آخر فالقياه في العذاب الشديد (26) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد(27) قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد(28) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ) [ ق :23- 29 ] .

فبين سبحانه أن هذا العقاب منه ليس ظلماً بل هو كمال العدل لأنه قد قدم إليهم بالوعيد وبين لهم الطرق وبين لهم الحق وبين لهم الباطل ولكنهم اختاروا لأنفسهم أن يسلكوا طريق الباطل فلم يبق لهم حجة عند الله عز و وجل ولو قلنا بهذا القول الباطل لبطل قول الله تعالى : ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ النساء : 165 ]  فإن الله تبارك وتعالى نفى أن يكون للناس حجة بعد إرسال الرسل لأنهم قامت عليهم الحجة بذلك فلو كان القدر حجة لهم لكانت هذه الحجة باقية حتى بعد بعث الرسل لان قدر الله تعالى لم يزل ولا يزال موجوداً قبل إرسال الرسل وبعد إرسال الرسل أذن فهذا القول تبطله النصوص ويبطله الواقع كما  فصلنا بالأمثلة السابقة . 

أما أصحاب القول الثاني فإنهم أيضا ترد عليهم النصوص والواقع ذلك لان النصوص صريحة في أن مشيئة الإنسان تابعة لمشيئة الله عز وجل ( لمن شاء منكم أن يستقيم (28) وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) [ التكوير : 28 ، 29 ] ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ) [ القصص:68 ] ( والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى  صراط مستقيم ) [ يونس : 25 ] .

 

والذين يقولون بهذا القول هم في الحقيقة مبطلون لجانب من جوانب الربوبية وهم أيضا مدعون بأن في ملك الله تعالى ما لا يشاء ولا يخلقه والله تبارك وتعالى شاء لكل شي خالق لكل شي مقدر لكل شي وهم أيضا مخالفون لما يعلم بالاضطرار من أن الخلق كله ملك لله عز وجل ذواته وصفاته لا فرق بين الصفة والذات ولا بين المعنى وبين الجسد أذن فالكل لله عز وجل ولا يمكن أن يكون في ملكه ما لا يريد تبارك وتعالى ولكن يبقى علينا إذا كان الأمر راجعاً إلى مشيئة الله تبارك وتعالى وأن الأمر كله بيده فما طريق الإنسان أذن وما حيلة الإنسان إذا كان الله تعالى قد قدر عليه أن يضل ولا يهتدي؟

 

فنقول الجواب عن ذلك . أن الله تبارك وتعالى إنما يهدى من كان أهلاً للهداية ، ويضل من كان أهلاً للضلالة ، يقول الله تبارك وتعالى .( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) [ الصف :5] ويقول تعالى ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ) [المائدة :13] .

 

فبين الله تبارك أن أسباب إضلاله لمن ضل إنما هو بسبب من العبد نفسه ، والعبد كما أسلفنا آنفاً لا يدرى ما قدر الله  تعالى له، لأنه لا يعلم بالقدر إلا بعد وقوع المقدور.

 

فهو لا يدرى هل قدر الله له أن يكون ضالا أم أن يكون مهتديا ؟ فما باله يسلك طريق الضلال ثم يحتج بان الله تعالى قد أراد له ذلك أفلا يجدر به أن يسلك طريق الهداية ثم يقول أن الله تعالى قد هداني للصراط المستقيم ؟ أيجدر به أن يكون جبريا عند الضلالة وقدريا عند الطاعة كلا لا يليق بالإنسان أن يكون جبريا عند الضلالة والمعصية فإذا ضل أو عصى الله قال هذا أمر قد كتب علي وقدر علي ولا يمكنني أن أخرج عما قضى الله وقدر وإذا كان في جانب الطاعة ووفقه الله للطاعة والهداية زعم أن ذلك منه ثم منّ به على الله وقال أنا أتيت به من عند نفسي فيكون قدرياً في جانب الطاعة جبرياً في جانب المعصية هذا لا يمكن أبداً فالإنسان في الحقيقة له قدرة وله اختيار وليس باب الهداية بأخفى من باب الرزق وبأخفى من أبواب طلب العلم . والإنسان كما هو معلوم لدى الجميع قد قدر له ما قدر من الرزق ومع ذلك هو يسعى في أسباب الرزق في بلده وخارج بلده يميناً وشمالاً لا يجلس في بيته ويقول إن قدر لي رزق فانه يأتيني ، بل هو يسعى في أسباب الزرق مع أن الرزق نفسه مقرون بالعمل كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ( أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد )[3]. فهذا الرزق أيضا مكتوب كما أن العمل من صالح أو سيئ مكتوب فما بالك تذهب يمينا وشمالاً وتجوب الأرض والفيافي طلباً لزرق الدنيا ولا تعمل عملاً صالحاً لطلب رزق الآخرة والفوز بدار النعيم إن البابين واحد ليس بينهما فرق فكما انك تسعى لرزقك وتسعى لحياتك وامتداد أجلك ، فإذا مرضت بمرض ذهبت إلى أقطار الدنيا تريد الطبيب الماهر الذي يداوي مرضك ومع ذلك فإن لك ما قدر من الأجل لا يزيد ولا ينقص ، ولست تعتمد على هذا وتقول أبقى في بيتي مريضاً طريحاً وإن قدر الله لي أن يمتد الأجل امتد . بل نجدك تسعى بكل ما تستطيع من قوة وبحث لتبحث عن الطبيب الذي ترى أنه أقرب الناس إن يقدر الله الشفاء على يديه فلماذا لا يكون عملك في طريق الآخرة وفي العمل الصالح كطريقك فيما تعمل للدنيا ؟ وقد سبق أن قلنا أن القضاء سر مكتوم لا يمكن أن تعلم عنه فأنت الآن بين طريقين:

 

 1- طريق يؤدى بك إلى السلامةوإلى الفوز والسعادة والكرامة.

 2- طريق يؤدى بك إلى الهلاك والندامةوالمهانة.

 

 وأنت الآن واقف بينهما ومخير ليس أمامك من يمنعك من سلوك طريق اليمين ولا من سلوك طريق الشمال إذا شئت ذهبت إلى هذا وإذا شئت ذهبت إلى هذا فما بالك تسلك الطريق الشمال ثم تقول أنه قد قدر علي آفلا يليق بك أن تسلك طريق اليمين وتقول إنه قد قٌدٌر لي فلو أنك أردت السفر إلى بلد ما وكان أمامك طريقان إحداهما معبد قصير آمن والآخر غير معبد وطويل ومخوف لوجدنا أنك تختار المعبد القصير الآمن ولا تذهب إلى الطريق الذي ليس بمعبد وليس بقصير وليس بآمن هذا في الطريق الحسي إذن فالطريق المعنوي مواز له ولا يختلف عنه أبداً ولكن النفوس والأهواء هي التي تتحكم أحياناً في العقل وتغلب على العقل والمؤمن ينبغي أن يكون عقله غالبا على هواه وإذا حكم عقله فالعقل بالمعنى الصحيح يعقل صاحبه عما يضره ويدخله فيما ينفعه ويسره .

 

بهذا تبين لنا أن الإنسان يسير في عمله الاختياري سيراً اختيارياً ليس إجبارياً وأنه كما يسير لعمل دنياه سيراً اختيارياً وهو إن شاء جعل هذه السلعة أو تلك تجارته ، فكذلك أيضاً هو في سيره إلى الآخرة يسير سيراً اختيارياً ، بل إن طرق الآخرة أبين بكثير من طرق الدنيا لأن بيّن طرق الآخرة هو الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . فلابد أن تكون طرق الآخرة أكثر بياناً أجلى وضوحاً من طرق الدنيا . ومع ذلك فإن الإنسان يسير في طرق الدنيا التي ليس ضامناً لنتائجها ولكنه يدع طرق الآخرة التي نتائجها مضمونة معلومة لأنها ثابتة بوعد الله و الله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد.

 

بعد هذا نقول : إن أهل السنة والجماعة قرروا هذا وجعلوا عقيدتهم ومذهبهم أن الإنسان يفعل باختياره وانه يقول كما يريد ولكن أرادته واختياره تابعان لإرادة الله تبارك وتعالى ومشيئته ثم يؤمن أهل السنة والجماعة بأن مشيئة الله تعالى تابعة لحكمته وأنه سبحانه و تعالى ليس مشيئته مطلقة مجردة ولكنها مشيئة تابعة لحكمته لأن من أسماء الله تعالى الحكيم ، والحكيم هو: الحاكم المحكم الذي يحكم الأشياء كوناً وشرعاً ويحكمها عملاً وصنعاً والله تعالى بحكمته يقدر الهداية لمن أرادها لمن يعلم سبحانه وتعالى انه يريد الحق وأن قلبه على الاستقامة ويقدر الضلالة لمن لم يكن كذلك لمن إذا عرض عليه الإسلام يضيق صدره كأنما يصعد في السماء فان حكمة الله تبارك وتعالى تأبى أن يكون هذا من المهتدين آلا أن يجدد الله له عزماً ويقلب أرادته إلى إرادة أخرى والله تعالى على كل شي قدير ولكن حكمة الله تأبى إلا أن تكون الأسباب مربوطة بها مسبباتها .

 

مراتب القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة

 

ومراتب القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة أربع مراتب :

 

المرتبة الأولى :  العلم وهي أن يؤمن الإنسان إيمانا جازماً بأن الله تعالى بكل شي عليم وأنه يعلم ما في السماوات والأرض  جملة وتفصيلاً سواء كان ذلك من فعله أو من فعل مخلوقاته وأنه لا يخفى على الله شي في الأرض ولا في السماء .

المرتبة الثانية : الكتابة وهي أن الله تبارك وتعالى كتب عنده في اللوح المحفوظ مقادير كل شي .وقد جمع الله تعالى بين هاتين المرتبتين في قوله .( آلم تعلم أن الله يعلم ما في السماوات والأرض أن ذلك في كتاب أن ذلك على الله  يسير)[الحج :70] فبدأ سبحانه بالعلم وقال إن ذلك في كتاب أي انه مكتوب في اللوح المحفوظ كما جاء به الحديث عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم.(إن أول ما خلق الله القلم قال له اكتب قال رب ماذا اكتب ؟ قال اكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ))[4] .

ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما نعمله أشي مستقبل أم شي قد قضي وفرغ منه ؟ قال (( انه قد قضى وفرغ منه ))[5] وقال أيضا حين سئل : أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب الأول قال ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له )[6].

فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل فأنت يا أخي اعمل وأنت ميسر لما خلقت له .

ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى :  (( فآما من أعطى واتقى (5) وصدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره  للعسرى)) [ الليل: 5 ـ 10]

المرتبة الثالثة : المشيئة وهى أن الله تبارك وتعالى شاء  لكل موجود أو معدوم في السماوات أو في الأرض فما وجد موجود إلا بمشيئة الله تعالى وما عدم معدوم إلا بمشيئة الله تعالى وهذا ظاهر في القران الكريم وقد أثبت الله تعالى مشيئته في فعله ومشيئته في فعل العباد فقال الله تعالى : ( لمن شاء منكم أن يستقيم (28) وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) [ التكوير : 28، 29 ] ( ولو شاء ربك ما فعلوه ) [ الأنعام : 112 ] ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ) [ البقرة : 253 ] .

فبين الله تعالى أن فعل الناس كائن بمشيئته وأما فعله تعالى فكثير قال تعالى ( ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها )[ الأنعام :13] وقوله(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) [ هود 118] إلى آيات كثيرة تثبت المشيئة في فعله تبارك وتعالى فلا يتم الإيمان بالقدر إلا أن نؤمن بأن مشيئة الله  عامة لكل موجود أو معدوم فما من معدوم إلا وقد شاء الله تعالى عدمه وما من موجود إلا وقد شاء الله تعالى وجوده ولا يمكن أن يقع شيء في السماوات ولا في الأرض إلا بمشيئة الله تعالى .

المرتبة الرابعة : الخلق أي أن نؤمن بأن الله تعالى خالق كل شي فما من موجود في السماوات والأرض إلا الله خالقه حتى الموت يخلقه الله تبارك وتعالى وان كان هو عدم الحياة يقول الله تعالى : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) [الملك : 2] فكل شيء في السماوات أو في الأرض فإن الله تعالى خالقه لا  خالق إلا الله تبارك وتعالى وكلنا يعلم أن ما يقع من فعله سبحانه وتعالى بأنه مخلوق له فالسماوات والأرض والجبال والأنهار والشمس والقمر والنجوم  والرياح والإنسان والبهائم كلها مخلوقات الله وكذلك ما يحدث لهذه المخلوقات من صفات وتقلبات أحوال كلها أيضا مخلوقة لله عز وجل .ولكن قد يشكل على الإنسان كيف يصح أن نقول في فعلنا وقولنا الاختياري انه مخلوق لله عز وجل . فنقول  نعم يصح أن نقول ذلك لأن فعلنا وقولنا ناتج عن أمرين :

أحدهما : القدرة

والثاني: الإرادة

فإذا كان فعل العبد ناتجاً عن إرادته وقدرته فان الذي خلق هذه الإرادة وجعل قلب الإنسان قابلاً للإرادة هو الله عز وجل وكذلك الذي خلق فيه القدرة هو الله عز وجل ويخلق السبب التام الذي يتولد عنه المسبب نقول إن خالق  السبب التام خالق للمسبب أي أن خالق المؤثر خالق للأثر فوجه كونه تعالى خالقا لفعل العبد أن نقول فعل العبد وقوله ناتج عن أمرين هما:

1ـ الإرادة

2ـ القدرة

فلولا الإرادة لم يفعل ولولا القدرة لم يفعل لأنه إذا أراد وهو عاجز لم يفعل لعجزه عن الفعل وإذا كان قادرا ولم يرد لم يكن الفعل فإذا كان الفعل ناتجا عن إرادة جازمة وقدرة كاملة فالذي خلق الإرادة الجازمة والقدرة الكاملة هو الله وبهذه الطريق عرفنا كيف يمكن أن نقول إن الله تعالى خالق لفعل العبد وإلا فالعبد هو الفاعل في الحقيقة فهو المتطهر وهو المصلي وهو المزكي وهو الصائم وهو الحاج وهو المعتمر وهو العاصي وهو المطيع لكن هذه الأفعال كلها كانت ووجدت بإرادة وقدرة مخلوقتين لله عز وجل والأمر ولله الحمد واضح .

 

وهذه المراتب الأربع المتقدمة يجب أن تثبت لله عز وجل وهذا لا ينافى أن يضاف الفعل إلى فاعله من ذوى الإرادة .

كما أننا نقول النار تحرق والذي خلق الإحراق فيها هو الله تعالى بلا شك فليست محرقة بطبيعتها بل هي محرقة بكون الله تعالى جعلها محرقة ولهذا لم تكن النار التي ألقى فيها إبراهيم محرقة لأن الله قال لها: ( كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ) [ الأنبياء : 69 ] فكانت برداً وسلاماً على إبراهيم فالنار بذاتها لا تحرق ولكن الله تعالى خلق فيها قوة الإحراق، وقوة الإحراق هي في مقابل فعل  العبد كإرادة العبد وقدرته فبالإرادة والقدرة يكون الفعل وبالمادة المحرقة في النار يكون الإحراق فلا فرق بين هذا وهذا ولكن العبد لما كان له إرادة وشعور واختيار وعمل صار الفعل ينسب إليه حقيقة وحكماً وصار مؤاخذا بالمخالفة معاقباً عليها لأنه يفعل باختيار ويدع باختيار .

 

وأخيرا نقول : على المؤمن أن يرضى بالله تعالى رباٌ ومن تمام رضاه بالربوبية أن يؤمن بقضاء الله وقدره ويعلم أنه لا فرق في هذا بين الأعمال التي يعملها وبين الأرزاق التي يسعى لها وبين الآجال التي يدافعها ، الكل بابه سواء والكل مكتوب والكل مقدر وكل إنسان ميسر لما خلق الله .

 

أسال الله عز وجل أن يجعلنا ممن ييسرون لعمل أهل السعادة وان يكتب لنا الصلاح في الدنيا والآخرة والحمد لله رب العالمين

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وأصحابه أجمعين

 

 

------------

[1] رواه الترمذي ،كتاب القدر باب ما جاء في التشديد في الخوض في القدر رقم  (2133) وابن ماجة في المقدمة ، باب في القدر رقم (85).

[2] رواه مسلم، كتب الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر رقم (1155).

[3] رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة رقم (3208) ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه رقم ( 2643)

[4] رواه أبو داود، كتاب السنة، باب القدر رقم(4700) والترمذي ،كتاب القدر رقم(2155).

[5] رواه أحمد(1/29) والترمذي ،كتاب تفسير القران باب من سورة هود رقم (3111) .

[6]رواه البخاري ،كتاب الجنائز باب موعظة المحدث عند القبر رقم(1362) ومسلم كتاب القدر ، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه رقم (2647) .

 

غطرسة إسرائيلية

$
0
0

بدأ جيلنا يدرك حقائق الحياة بعد النكسة مباشرة ونشأنا جميعا فى جو حرب الإستنزاف ثم وقف إطلاق النار ثم تمديده ثم التخلى عنه دون أن يتغير الوضع منذ مارس 71 إلى أكتوبر 73.

وفى تلك الأيام كانت الرقابة مفروضة على الصحف الأجنبية فلم يكن يأتى إلى داخل مصر إلا ما قد قرأه الرقيب وأجازه. وبالتالى لم نكن نسمع كثيرا عما يقال فى الصحف والتليفزيونات الأجنبية. ولكننا كنا جميعا نقرأ عبارة الغطرسة الإسرائيلية وذلك بمعدل 300 مرة يوميا.

ومنذ عدة شهور شاهدت برنامجا وثائقيا عن 40 سنة على حرب أكتوبر وما قبلها على التليفزيون الألمانى عرض فيه لظروف حرب 67 مرورا بالإستنزاف ثم الجبهة المتجمدة وأخيرا حرب أكتوبر والنجاح الباهر الذى حققته مصر فى البداية ثم إنقلاب الموازين وانفلات الجبهة مما حدا بالرئيس السادات إلى أن يقبل وقف إطلاق النار بعد أن كان قد رفضه قبلها بأسبوع واحد.

وهو كله كلام معاد ونعرفه جميعا.

ولكن الذى لم أكن قد رأيته من قبل هو تلك الغطرسة الإسرائيلية التى قابلت بها جولدا مائير الصحفى الذى أجرى معها لقاءا تليفزيونيا باللغة الإنجليزية.
والواضح أن الهدف من كل الحديث كان إستفزاز الرئيس السادات حيث أننى أظن أنه عقد فى عهده فى الفترة التى كثر فيها الحديث عن مبادرة فتح قناة السويس فى بداية عام 71.

فقد كانت تجلس مسترخية على كنبة وتضع يدها على خدها وترتدى ملابس النزهة أو حياة الإجازة ولم تكن حتى ترد بالالفاظ على الصحفى وإنما كانت فقط تومىء برأسها قبولا أو رفضا.
سألها الصحفى أنت تريدين مرتفعات الجولان فأومأت برأسها ولم تجب بالصوت. وقال لها والضفة الغربية ففعلت نفس الشىء وهى جالسة مسترخية وكأنها تحادث جارتها فى شأن من شئون المنزل. وقال لها والقدس الشرقية أيضا لا تريدين إخلاءها فأومأت بنفس الطريقة. ثم سألها عن سيناء وهل تريد إرجاعها فأومأت رأسها رافضة. وقال لها وماذا عن قناة السويس؟ هل تريدين لمصر أن تعيد فتحها بعد أن تنسحبين من الضفة الشرقية لها؟ فأجابت بإشارة الرفض أيضا برأسها..

وهنا قال لها الصحفى ألا تزالين تعتقدين أن موقفك هذا لا يتسبب فى حرب فى الشرق الأوسط؟  وهنا تكلمت..

فقالت هؤلاء لا يحاربون ولا أظنهم يقدرون على القتال. ثم سكتت.

طبيعى أن هذا الحديث مقصود بطريقته هذه جس نبض الرجل الجديد فى القاهرة أنور السادات. وأظن أن هذا الحديث ومما يبدو منه لى قد أجرى قبيل أحداث مايو 71 أى عندما كان السادات على درجة متدنية جدا من القوة وكان ضعفه داخليا وخارجيا كاملا. وهى بصفتها إمرأة تحكم أقوى جيش فى الشرق الأوسط ثم تجلس بهذه الطريقة المتساهلة للغاية ولا تعبر عن العرب إلا بألفاظ تشى بالإحتقار هى كلها كانت ترتيبات مقصود منها جر رجل الرئيس الشرقى الجديد إلى موقعة لا يختارها هو حسب ظروفه ووفقا لأوضاعه ولكن يحددها غباؤه ورعونته وقابليته للإستفزاز حتى يخسر من جديد.وهو ما لم تنجح فيه إسرائيل.

وكما ذكرت لكم من قبل فقد سمعنا مئات المرات عن الغطرسةالإسرائيليةولكننا أبدا لم نكن قادرين على لمسها بالصوت أو الصورة أو حتى الكلمة المكتوبة.
وفى أحد أيام أغسطس 73 كنت أنتظر أبى فى المطار قادما من الخارج وخرج علينا بعدد من مجلة نيوزويك عليه صورة الرئيس السادات على الغلاف بجانب سيلويت الهرم ومكتوب عليه ( مصر، هل تتجه للحرب؟ مع وضع إسم الرئيس السادات أسفل صورته).
وقد عرفت فيما بعد أن هذا العدد منع من دخول مصر من جانب الرقيب ولم تكن لغتى تسمح لى بأن اقرأه وعندما سألت أبى قال أنهم يتهكمون على السادات ويعتبرونه عاجزا. ولم يزد كلمة واحدة.

والحقيقة أن أبى فى موقفه هذا لم يكن مختلفا عن مجموع المصريين بل والعرب وكل العالم. فمعظم المصريين كانوا غرباء عن فكرة الحرب مرة أخرى من بعد أن تجرعوا مرارة الهزيمة فى عام 67. ومعظم العرب لم تكن لديهم ثقة فى قدرة مصر على الصمود فى مواجهة عسكرية ناهيك عن أن تأخذ هى زمام المبادأة بشنها. والعالم كان متلهفا على نزع فتيل الحرب الباردة وكان سعيدا جدا بأن توصل إلى صيغة الوفاق Detenteوهى كلمة فرنسية كان الصقور من الأمريكيين يعيبون على إدارة نيكسون إستعمالها لأن معناها ليس واضحا وكانوا يسمونها الكلمة الفرنسية المنمقة.

إلا أن الرئيس السادات عندما تلقى تقرير السفير السوفيتى عن اللقاء الذى عقد فى موسكو فى شهر مايو 72 بين نيكسون وبريجنيف لم يعجب بمصطلح الإسترخاء العسكرى Relaxationفى الشرق الأوسط - وكما روى هو فيما بعد شخصيا فى عدة خطب - إلى درجة أن أمله قد خاب فى الإتحاد السوفيتى.

وهكذا شعر الرئيس السادات أنه قد ترك وحده من الحليف الدولى الوحيد الذى كان يعتمد عليه فقرر اللجوء إلى مغامرة ربما بدت فى عيون كثيرين غير محسوبة وهى طرد الخبراء السوفيت بالكامل من مصر. وقد ورد فى التقرير الوثائقى بالتليفزيون الألمانى أن السادات سأل السفير السوفيتى إن كان قد أبلغه بكل شىء أم أن هناك شىء يود قوله. فرد السفير بأن كل ما لديه قد تم التصريح به.

وعندئذ قام السادات بإملاء السفير قراره المزلزل للعلاقات الدولية بإخراج الخبراء جميعا من مصر. وقد كان السادات فى جميع خطبه يقول أنهم 17 ألف فرد بينما الواقع حسب الفريق الشاذلى مدعما بهذا الفيلم الوثائقى أنهم لم يتجاوزوا السبعة آلاف فقط.

وعن هذه اللحظة قال كيسنجر أن هذا القرار قد نبهنا إلى حقيقة شخصية السادات وعرّفنا طبيعته التى كنا غافلين عنها. فمن يتخذ قرارا كهذا دون أن يكون لديه وثيقة تأمين مع أمريكا هو ليس شخصا عاديا. ثم أردف فيما بعد أننا لسنا ممتنين للرئيس السادات بسبب إتخاذ هذا القرار الذى قلب الموازين. إذ أنه قام باتخاذه وحده ولم يتشاور معنا مسبقا وبالتالى لسنا مدينين له بشىء. وقال كلمته الشهيرة: "لماذا يتوجب علينا دفع ثمن لشىء حصلنا عليه مجانا؟"

تأملات في قوة أميركا الناعمة

$
0
0

تحسم خياراتك بهدوء وسرعة نسبية: المراجع المطلوبة لهذا البحث لا يمكن الحصول عليها إلا في «مكتبة الكونجرس» بواشنطن في الولايات المتحدة الأميركية. تنحي انحيازاتك العاطفية وأحكامك المسبقة لبعض الوقت، وتقطع أكثر من عشرة آلاف كيلومتر من القاهرة إلى نيويورك بالطائرة، وأنت تفكر في جدلية «القوة الصلبة» و«القوة الناعمة» التي أطلقها الأميركي جوزيف ناي قبل عشرين عاماً، وما زالت تفعل فعلها في جدالات العلوم السياسية وكأنها ولدت للتو. باختصار غير مخل بالنظرية: يمكنك الحصول على ما تريد من طرف ما إذا ما هددته باستخدام العنف والإكراه أو قمت برشوة «القوة الصلبة»، أما إذا أقنعته بأن يفعل ما تريد طواعية فذلك منتهى «القوة الناعمة». وفق ذلك المقتضى تتحدد مراكز الدول في النظام الدولي، عبر تناغم بين قوتها الصلبة والناعمة معاً. وفيما تعد مؤشرات قياس القوة الصلبة معلومة، لا تتوافر مؤشرات حقيقية لقياس القوة الناعمة بدقة. وكما يتضح، فإن عناصر القوة الصلبة مثل القدرات الدفاعية والاقتصادية والتكنولوجيا والتعاون الدولي، يمكن قياسها وفقاً لبيانات إحصائية متوافرة يتم جمعها على أسس معلومة، مثلما يمكن التوصل إلى معرفة العوامل الثابتة (المساحة الجغرافية للدول المختلفة وعدد السكان فيها) بعملية بحث بسيطة للغاية على الانترنت. ولكن محددات «القوة الناعمة» تستعصي على التقدير والتقييم السريع، لأن عنصر الديموقراطية وجاذبيتها كمؤشر مثلاً، لا يمكن قياسه وفقاً لبيانات إحصائية.

الطريق إلى «مكتبة الكونغرس»

تصل أخيراً إلى نيويورك ومنها إلى واشنطن حيث «مكتبة الكونغرس»، بعدما طويت المسافة بالقطار من نيويورك إلى واشنطن في حوالي ساعتين ونصف الساعة. لا تتكبد خلال هذه الفترة «أهوال الطريق» كما اصطلح قديماً على وصف الرحلات الطويلة. فالطريق المزدحم بالأشجار والخضرة، عبر فيلادلفيا، يجعلك تشعر وكأن القطار يمضي في طريقه وسط غابة جميلة خضراء. تصل في النهاية إلى واشنطن لتذهب إلى ذلك الفندق القريب من «مكتبة الكونغرس»، تلك التي سترابط فيها لأسبوع كامل بغرض إنجاز مهمتك البحثية. تعلم وأنت الذي أمضيت جل عمرك في المكتبات - وكل إنسان حر في اختياراته - أنه لا يمكن الجمع بين التنزه وزيارة المكتبات. لذلك، تخصص يوم وصولك للتنزه، وباقي الأيام للمكتبة. تلاحظ بعد جولتك الأولى في منطقة المكتبة أن واشنطن أهدأ من نيويورك بكثير، وأوراق الأشجار فيها متنوعة الألوان خضراء وحمراء وصفراء، يمرح السنجاب على جذوع أشجارها. لم تسمع أنت العربي القادم من الصحراء عن السناجب إلا في قصص العجائز التي يروونها للأطفال، ولم ترها إلا ربما في قصص الأطفال المصورة. وبقدر سعادتك برؤية السنجاب فقد كانت خيبة أملك، فهو يشبه الفأر وغيره من باقي القوارض، سواء من حيث اللون أو الحجم، ولا يختلف عنها في المظهر إلا في ذيله المنتفخ بالشعر.

من جون أدامز إلى جوزيف ناي

تأسست «مكتبة الكونغرس» الواقعة في شارع الاستقلال بالعاصمة الأميركية واشنطن العام 1800 بقرار من الرئيس الأميركي جون أدامز في مبنى الكابيتول، وذلك بعد نقل العاصمة من فيلادلفيا إلى واشنطن، لتخدم أعضاء الكونغرس الأميركي، ورصد لها مبلغ خمسة آلاف دولار. وبعدما أضرم الغزاة الإنكليز النار في المبنى العام 1814 وأحرقت جميع الكتب داخل المكتبة، عرض الرئيس الأميركي الأسبق توماس جيفرسون مكتبته الخاصة التي جمعها على مدار خمسة عقود لتصبح المكتبة الجديدة للكونغرس. فوافق الأخير ودفع لجيفرسون عشرين ألف دولار لقاء ذلك. وفي نهايات القرن التاسع عشر، أقر الكونغرس تصميم المبنى الجديد للمكتبة على طراز النهضة الإيطالي، لتفتتح العام 1897 باعتبارها أهم مكتبة في العالم من وقتها وحتى الآن. بمرور الزمن، اتسع نطاق المترددين على المكتبة ليضم إلى جانب أعضاء الكونغرس وفرق العمل التابعة لهم، الباحثين المهتمين من داخل أميركا وخارجها.
يبلغ عدد موظفي المكتبة أكثر من ثلاثة آلاف، وتبلغ ميزانيتها ستمئة مليون دولار أميركي، حيث تضم أكثر من مئة وثمانية وخمسين مليون موضوع منها ستة وثلاثون مليون كتاب مفهرس ومطبوعات بحوالي أربعمئة وستين لغة، فضلاً عن تسعة وستين مليون مخطوطة ومئات الآلاف من الخرائط والتسجيلات الصوتية.
تتوزع المكتبة على بنايتين رائعتين أساسيتين هما: بناية «ماديسون» وبناية «جيفرسون»، واللتان سميتا تيمناً باسم رئيسين سابقين للولايات المتحدة الأميركية. تدخل البناية الثانية لعمل «هوية استخدام» مخصصة للباحثين. وفي دقائق قليلة، ينفتح الباب أمامك لتدلف إلى عالم حقيقي ورائع من كنوز الكتب والمخطوطات. تجول في «مكتبة الكونغرس» حابساً أنفاسك ناظراً إلى أصناف وأطايب العقول الموزعة على كل نواحي المعرفة الإنسانية، تلك التي يعتبرها ماديسون أساس العلم في العبارة التالية التي نقشت على أحد حوائط الدور الثاني في المبنى الذي يحمل اسمه: «العلم هو المعرفة المنظمة».

يحوي قسم الشرق الأوسط في المكتبة الكثير من الوثائق والمراجع التي خزنت وتأرشفت بانتظام لا مثيل له. ومن هناك تنطلق إلى غرفة القراءة الرئيسية، التي تسبقها غرفة موظفي المكتبة الذين يجيبون عن الأسئلة ويرشدونك إلى كيفية البحث وطلب الكتب والمراجع. وبعد هذه الغرفة مباشرة تتقدم إلى صالة القراءة الرئيسية المبهرة، المكونة من طاولات وكراسيّ خشبية عالية الذوق والفخامة التاريخية والمخصصة أصلاً لقراءات أعضاء الكونغرس. عندما تتأمل قبة القاعة العالية جداً ترى في بؤرتها الرسوم الملونة على الحائط وعلى الزجاج، وينسدل نظرك لتمر بالأعمدة الرخامية التي ترفع تلك القبة في مهابة ووقار. تأتي المراجع التي طلبت، وتشرع في القراءة والتدوين فينقضي الوقت الطويل دون أن تشعر حتى نهاية ساعات العمل في الرابعة والنصف من بعد الظهر، لتخرج من المكتبة حالماً بالزيارة في الغد، ومرتسمة في أحلامك قاعاتها وحوائطها وقبابها وكنوزها الورقية والرقمية والبصرية، في تجسيد عملي وملموس لأحد عناصر القوة الأميركية الناعمة.

حدود «القوة الناعمة»

تحل «القوة الناعمة» في الصور وتتجسد في الرموز، بينما مجال عمل القوة الصلبة هو حصراً عناصر الردع وعوامل القوة. بمعنى آخر، تستعمل «القوة الصلبة» القدرات العسكرية والاقتصادية للوصول إلى أهدافها، في مقابل «القوة الناعمة» التي ترتكز أساساً على القيم الثقافية كوسيلة للوصول إلى تلك الأهداف. وفي النهاية، فإن القوة الصلبة تتوجه إلى الحكومات وتتصارع معها، بينما تتوجه «القوة الناعمة» إلى المجتمعات والأفراد راسمة صورتها الذهنية البراقة. في هذا السياق، لا تفوت ملاحظة أن الولايات المتحدة الأميركية أكبر منتج في العالم للأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، كما تمتلك وحدها الشطر الأكبر من المواقع على شبكة الانترنت، وهي البلد الأول المفضل للمهاجرين من كل أنحاء العالم. وفي الولايات المتحدة العدد الأكبر من العلامات والماركات التجارية في العالم، وهي البلد الأول لناحية نيل مواطنيه جوائز «نوبل» في فروع العلوم المختلفة، والثاني لناحية حيازتهم الجوائز ذاتها في الأدب. كما تمتاز الولايات المتحدة الأميركية عن كل منافسيها بأنها البلد المتعدد الثقافات؛ الذي يعيش بين ظهرانيه مواطنون ينتمون عرقياً إلى كل أعراق العالم، وهو أمر مستحيل الحدوث في اليابان أو الصين أو حتى في أوروبا. وإذ يعد انتخاب أوباما ذي الأصول الأفريقية قبل ست سنوات علامة قوة لأميركا ورمزاً لقوتها الناعمة، وتجديداً إيجابياً لصورتها الذهنية المتردية على يد سلفه جورج دبليو بوش وحروبه الرعناء في المنطقة، إلا أنها ليست مسوغاً كافياً للحكم على فترتي رئاسة أوباما إيجابياً. ولا يفيد ذلك للقطع بنجاعة «القوة الناعمة» الأميركية في تلطيف ما تجترحه «قوتها الصلبة» حول العالم بالنظر إلى أن أميركا تنفق وحدها على التسلح وأبحاثه نصف إنفاق العالم كله عليه. تشرع في طريق عودتك إلى بلادك بعد رحلة بحثية ناجحة في التفكير بأن للقوة الناعمة حدوداً وقيوداً، بحيث لا يمكن لواشنطن أن تدير العالم بها مع استمرارها في التمسك بالآليات ذاتها في الاستغلال والسيطرة الاقتصادية والترهيب العسكري لشعوب العالم. ومع التسليم بوجود «قوة ناعمة» أميركية لا يُستهان بها، فلا تستطيع الأخيرة أن تطمس في العقول مروحة واسعة من المواقف الأميركية المعادية لمصالح شعوب العالم من قضية الاحتباس الحراري إلى النظام الدولي وتراتبيته إلى الشرق الأوسط وقضاياه. لن تحسم هذه السطور جدلية «الناعم» و«الصلب» في سياسات أميركا، لكنها كما يعبر عنوان المقال مجرد... تأملات!


التغلغل العلمانى فى العالم الإسلامى-13

$
0
0

 

من كتاب الأعلام والأقزام فى ميزان الإسلام للدكتور السيد حسين العفانى

 
٤ - ما يقوم من الجزيرة العربية والشمال الإفريقي من فروق أو تباينات فهو يصفها بأنها كبيرة للغاية، ولكننا لا نرى أنها تزيد بأية حال على الفروق التي تقوم بين أهل اسكوتلندة مثلاً وأهل ويلز، فاللغة واحدة تقريبًا.
والتاريخ واحد إلى حد كبير.
٥ - أراد أن يظهر أن كل من اعتنق الإسلام إنما كان بدافع الانتهاز والتقرب من الحاكمين والتساوي بهم هو قول خطأ كل الخطأ إذ لو صح دافع الانتهاز لانقلب المسلمون على دينهم في البلاد التي خضعت لهذا الإسلام.
٦ - محاولة التفرقة بين العرب والبربر في المغرب العربي، وهي تفرقة غذاها الاستعمار الفرنسي طيلة وجوده في المغرب، إذ حاول أن يجعل من البربر أقلية مميزة.
٧ - يصر جلوب على إخفاء الدور الذي لعبه الشعوبيون وفي مقدمتهم اليهودي عبد الله بن سبأ وأتباعه في المؤامرة ضد الإسلام.
وقد علق الباحث العربي: محمد عبد الغني حسن على هذه الدراسة فقال: إن جلوب قد حمل على المؤرخين العرب في تواريخهم واتهمهم بسوء التقدير، ونسي أن تواريخ اليونان والرومان القديمة فيها كثير من هذا الذي عابه على العرب وقال: إن جلوب قصد إلى رسم صورة فيها تشكيك وتضليل ورسم الصورة الزائفة التي تشكك في النبي وقادة الإسلام (١).


* اليهودي جولد تسيهر ودجله الواضح في كتابه "العقيدة والشريعة":
أثار جولد تسيهر عدة شبهات وشكوك حول السنة والفقه والتشريع

.الإسلامي فقد حاول التشكيك في قيمة الأحاديث النبوية وذلك بالقول بأن السنة بدأ تدوينها بعد وفاة النبي بتسعين عامًا، وقوله في كتاب "العقيدة والشريعة"أن التوحيد الإسلامي ينطوي على غموض في حين أن التثليث واضح في فهم الألوهية ومن ذلك قوله: إن الشريعة الإسلامية تأثرت بالقانون الروماني في بداية عهد تكوينها.

وجولد تسيهر مستشرق يهودي ولد ١٨٥٠ وتوفي ١٩٢١، ودرس في مدارس اللغات الشرقية ببرلين وليبزج وفيينا ورحل إلى سوريا ١٨٧٣ وتتلمذ على الشيخ طاهر الجزائري، ونزح إلى مصر وتضلع في الدين على شيخ الأزهر، وبدأ حياته بالتأليف عن الظاهرية ومذهبهم وتاريخهم وله في ذلك دراسات إسلامية ومحاضرات، وقد اشتهر بكتابه "العقيدة والشريعة في الإسلام"الذي ترجمته له دار الكاتب المصري التي أشرف عليها الدكتور طه حسين، ولم يعن مترجمو هذا الكتاب بالرد على الشبهات التي أثارها المستشرق على نحو يعصم قارئها من الخطأ، وله كتاب "مذهب المسلمين في تفسير القرآن". وقد واجهت كتاباته المتعصبة كثيرًا من المجاراة من كتاب وأساتذة الجامعات المدنية والأزهرية، كما وجدت تفنيدًا من كثير من الكتاب اليقظين في مقدمتهم: مصطفى السباعي، ومحمد الغزالي، وسليمان الندوي. وقد تابع جولد تسيهر كثير من المستشرقين في آرائه المتعصبة في مقدمتهم المستشرق اليهودي شاخت (جامعة ليدن) بهولندا وقد التقى به الدكتور مصطفى السباعي وباحثه طويلاً في تعمده تحريف النصوص التي ينقلها من كتب المسلمين وقد حاول شاخت أن ينكر ذلك فكشف له الدكتور السباعي عن بعض الأمثلة في هذا التحريف الذي تورط فيه.
وجولد تسيهر يحاول في مجمل رأيه أن يصور الفقه الإسلامي بأنه من صنع الصحابة والتابعين، ولا شك أنه رأي مصدره الخطأ الناتج عن قصور.  الاستقصاء، أو العجز عن فهم أصول الإسلام وأمرها يسير، ويمكن المراجعة فيه والنظر، إذا كان صاحبه حريصًا على بلوغ الحق، أما حين يكون الاتهام صادرًا عن التعصب أو الخصومة المغرقة، فإن المراجعة لا قيمة لها.
وإذا كانت عبارات جولد تسيهر في مجموعها ترفض صلاحية الإسلام الفقهية لكي يشرع للأمم والأجناس، فليس معنى هذا هو عجز الرجل عن الفهم، وإلا فإن أمامه ذلك الفيض الضخم من ثقافة الإسلام وهو قادر على أن يرده عن هذا الرأي، لو كان منصفًا ولكنه هو أساسًا ليس قابلاً للوصول عن طريق البحث العلمي إلى الحقيقة؛ لأنه يفترض أساسًا أن القرآن من وضع محمد نقلاً عن غيره، وأن السنة من وضع الصحابة والتابعين نقلاً عن الشريعة الرومانية. ومن هنا فهو يسد الطريق على كل سلامة في تقدير، أو بلوغ وجه الصدق أو تقبله. ولقد واجه أخطاء جولدتسيهر عالم غربي منصف هو العلامة (فتز جيرالد) في كتاب عنوانه "الدين المزعوم للقانون الروماني على القانون الإسلامي"فعرض آراء جولد تسيهر ومن جرى مجراه، فقال: إنه كان مدفوعًا في كتاباته بغرض سياسي خاص هو إظهار أن التشريع الإسلامي كان قابلاً للمؤثرات الغربية، وقال: أنه إذا أخذت فكرة عند شعب إلى شعب آخر، ظهر في لغة وكتابات الشعب الآخر أثر لهذه الفكرة. وهذا واضح مثلاً فيما أخذ عن اليونان في القانون الروماني، كما هو واضح كذلك في شريعة "التلمود"اليهودية المملوءة بالكلمات والمصطلحات اليونانية واللاتينية. أما في الإسلام فإنه لا يوجد لفظ واحد مستعار من اللغة اللاتينية أو اليونانية في القاموس الضخم للفقة الإسلامي وتشريعه، كما لا يوجد في جميع المؤلفات الفقهية الإسلامية أدنى ذكر لمصدر روماني علمي، وهذا أيضًا وحده مما ينفي فكرة كل استعارة من القانون الروماني، لذلك كله ترى أنه لا داعي مطلقًا الافتراض أن مصادر هذا التشريع كانت شيئًا آخر غير ما قاله.  الكتاب المسلمون أنفسهم، والقول بغير هذا يعد افتراضًا لا حقيقة له، وقولاً بغير علم ولا دليل، ومن ثم يجب رفضه وعدم الاعتداد به.
- والتشريع الإسلامي يختلف أساسًا في طابعه ومقصده عن القانون الروماني، وهذا القانون الذي هو من وضع رجال حذقوا لغة القانون ومصطلحاته أما الشريعة الإسلامية فهي نظام من المسائل الفقهية الدقيقة، وقد نظر إليها من حيث علاقة الإنسان بالله أولاً، ولهذا تشمل ما يُسمى بـ (العبادات) من صلاة وصوم وزكاة وحج، وغير ذلك، وحتى عندما تعالج المسائل المدنية، كالبيع والرهن مثلاً، نجد فيها أثر الدين واضحًا"اهـ.
- هذا غيض من فيض مما طفحت به كتابات كبار رواد الصليبيين وعتاة مخططيهم ويكفيهم هذا البيت من الشعر.
يا ناطح الجبل العالي لتكلمه ... أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل


* محاولات التشكيك وإِثارة الشبهات من قبل المستشرقين الصليبيين:
- جرت محاولات التشكيك والإثارة في خمسة مجالات كبرى:
١ - رسول الإسلام.
٢ - الإسلام.
٣ - الفكر الإسلامي العربي.
٤ - القرآن واللغة العربية.
٥ - التاريخ العربي الإسلامي.
- وقد ترددت هذه الشبهات في محاولة لتمييع القيم الأساسية للفكر العربي الإسلامي واتهامها:
١ - بأنها قيم دينية صرفة قاصرة في مجال العقيدة.   ٢ - قيم تاريخية قاصرة في مجال الزمن.
٣ - اتهام الجضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة غير أصيلة وذلك في محاولة لإسقاطها من مجال تطور الحضارة الإنسانية وتجاهل فترة الألف عام الإسلامية بين الحضارتين الرومانيه والحديثة.
٤ - ترديد الاتهامات التي تنقض أصالة الفلسفة الإسلامية على أنها يونانية مكتوبة باللغة العربية.
٥ - اتهام مفهوم الإسلام بأنه لم يعد قوة محركة تهدي الناس إلى الوجهة الصحيحة.
٦ - جحود التراث.
٧ - إثارة الشبهات حول الغيبيات.
٨ - اتهام الفكر العربي الإسلامي بأنه فكر تجريدي.
٩ - الزعم بأن العقلية العربية عقلية سامية قاصرة عن الخلق عاجزة عن استنتاج المعاني المجردة.
١٠ - القول بأن الفكر العربي الإسلامي يحمل دعوة التزهيد في العالم الأرضي ويجعل مسألة الموت والتطلع إلى الآخرة مسألة رئيسية.
١١ - محاولة خلق الفوارق بين العرب والبربر كوسيلة لخلق خلاف جذري في العالم الإسلامي والأمة العربية.
١٢ - اتهام القرآن بأنه موضوع، وليس وحيًا من الله وأن القرآن مرآة لأفق خاص من الحياة: أفق عقيدة صحراوية في الجزيرة العربية.
١٣ - القول بأن شرائع الإسلام اقتبست من الأديان السابقة له.
١٤ - القول باختلاف الشعوب.
١٥ - اتهام اللغة العربية بأنها لغة ميتة، عاجزة عن التعبير غير قادرة.  على الاستجابة للحضارة.
١٦ - الدعوة إلى اتخاذ اللهجات العامة لغات محلية إقليمية.
١٧ - تزييف التاريخ العربي الإسلامي وإثارة الشبهات حوله، واتهامه بأنه مليء بالثغرات.
١٨ - الفصل بين العروبة والإسلام.
١٩ - اتهام العرب والمسلمين بأنهم لم يستيقظوا حتى أيقظهم الغرب.
٢٠ - القول بأن الإسلام عائق عن التقدم والحضارة.
٢١ - إبراز جوانب الانحراف والتأكيد عليها كقضايا الباطنية والشعوبية والاهتمام في دراسات التصوف بدعاة الحلول ووحدة الوجود.
هذا مجمل سريع للشبهات التي أثارها التغريب وأثارتها الشعوبية في الفكر العربي المعاصر.


* رينولد نيكلسون وهنري جونستون وجب وكرومر وطعنهم في القرآن:
واجه "القرآن الكريم"حملة من أعنف الحملات وأثيرت حوله شبهات متعددة. كانت تهدف في مجموعها إلى القول بأن:
١ - القرآن من نظم النبي محمد، وأنه موضوع وليس منزلاً من عند الله.
٢ - أنه كتاب مضطرب وغير متماسك وفيه تعارض.
٣ - أنه صعب الفهم وركيك.
٤ - أنه غير منظم أو مبوب.
٥ - أنه العقبة الكئود في سبيل ارتقاء الأمم الإسلامية والمسئول عن تقهقرها.
٦ - أن القرآن مقتبس من التورة والإنجيل.
٧ - القرآن مرآة لأفق خاص من الحياة.  
٨ - كتاب مواعظ وحكم وإنذارات. فهذا (رينولد نيكلسون) يقرر أن مؤلف القرآن مضطرب غير متماسك في معالجة كبار المعضلات وأنه نفسه لم يكن عالمًا بوجود هذا الاضطراب والتعارض، وأن بيان صحابة الرسول الساذج قد دفعهم إلى الإيمان بأن القرآن كلام الله. وأن الفرق الإسلامية قامت بسبب التعارض الذي يحتويه القرآن.
- ويقول (هنري جونستون): القرآن ليس سوى مجموعة أقوال مقتبسة من التوراة والإنجيل وبعض تعاليم المجوس، وأنه يحتقر المرأة، وقد اشتهر الإسلام بكونه غير قابل للتكيف لما يطابق أحوال الزمان والمكان.
وقد أشار مستر جب كبير الستشرقين الإنجليز في كتاب "الأدب العربي"الذي أصدره عام ١٩٦٣ إلى أن القرآن من صياغة محمد. وقد ردد هذه الشبهات كثير من كتاب التغريب والشعوبية، ونشرها بيننا عدد ممن يكتبون باللغة العربية في صحف مشبوهة تصدر في بعض عواصم العالم العربي كما حاول آخرون أن يزجوا بهذه الشبهات في بعض الرسائل والأطروحات والمؤلفات.
وقد كان مصدر هذه الحملة على القرآن الكريم أساسًا هو الإيمان الأكيد بأن القرآن هو المصدر الأول والأساسي لمقومات الفكر العربي الإسلامي وأن إثارة الشبهات حوله إنما هو هدف كبير في سبيل القضاء على هذه المقومات، وقد بدأ ذلك في عبارات الاستعماريين أمثال (غلادستون) رئيس وزراء بريطانيا الذي حمل المصحف أمام أعضاء مجلس العموم البريطاني وقال: ما دام هذا الكتاب باقيًا في الأرض فلا أمل في إخضاع المسلمين.
ويتصل بهذا ما ذكره كرومر من اتهامات للقرآن من أنه هو المصدر الأول لتأخر المسلمين، غير أن هذه الشبهات لم تكن صادرة إلا عن تعصب أو خصومة أو دوافع استعمارية، وروح صليبية. 
* قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: ٣٢].
* وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: ٨ - ٩].
- هل رأوا إلا كلامًا تضيء ألفاظه كالمصابيح، فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح، يريدون أن يطفئوا نور الله وأين سراج النجم من نفخة ترتفع إليه كأنما تذهب تطفيه، ونور القمر من كف يحسب صاحبها أنها في حجمة فيرفعها كأنما يخفيه! وهيهات هيهات دون ذلك درج الشمس وهي أم الحياة في كفن، وإنزالها بالأيدي وهي روح النار في قبر من كهوف الزمن.


* الاستشراقيون الصليبيون ومؤامرة ابتعاث الفكر الوثني الهليني والباطني والصوفي الفلسفي والشعوبي وتمجيد الفرق الضالة لضرب فكرة التوحيد في الصميم:
لقد كان من أخطر التحديات التي واجهت الإسلام في العصر الحديث ما قام به الصليبيون والاستشراقيون ودعاة التغريب من إحيائهم للفكر الوثني والغنوصي القديم الذي كان معروفًا قبل ظهور الإسلام والفكر الذي يجمع بين الوثنية والإلحاد والإشراق والمادية والذي عرفه العرب والمسلمون بعد ترجمة الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية وظهر أثره في الفلسفة وعلم الكلام والتصوف والدعوات الباطنية المتجددة عن المجوسية وغيرها. وكذلك ما فعله هؤلاء الصليبيون وأذنابهم من إعادة كتابة تاريخ القرامطة والزنج وغيرهم من الحركات الضالة على أنها ثورات عدل وحرية، وكذلك إلقاء. السموم بنشر كتب التصوف الفلسفي وأخبار الحلاج وابن عربي والسهروردي وابن سبعين وطبع كتب وحدة الوجود والاتحاد والحلول ونشر شعر ابن الفارض وتجديد صفحات هذا الركام المضطرب العفن كمحاولة خسيسة (لاحتواء الإسلام)، ثم محاولات من تربوا على مائدة الفكر الغربي وخانوا أمتهم في الصميم وكانوا أذنابًا للمستشرقين مثل محاولات زكي نجيب محمود بتحسين كتابات الاعتزال وابن الراوندي، أو كتابات عبد الرحمن بدوي بإعلاء التصوف الفلسفي والحلول والاتحاد، أو كتابات محمود إسماعيل بإعلاء حركات القرامطة والزنج أو اتجاه الدكتور محمود الشنيطي إلى إحياء ابن عربي، أو طه حسين إلى إحياء رسائل إخوان الصفا، أو ماسينون وصلاح عبد الصبور إلى إحياء الحلاج، أو عباس صالح وعبد الرحمن الشرقاوي وطه حسين إلى تفسير إحياء الإسلام تفسيرًا ماركسيًّا أو ماديًّا، كل هذه المحاولات تدخل في نطاق المؤامرة على الإسلام أو إعادة محاولة "احتواء الإسلام الأولى"التي كانت في القرن الرابع الهجري وابتعاثها في القرن الرابع عشر الهجري، كذلك فإن الدعوات القاديانية والبهائية والروحية الحديثة هي أيضًا محاولات جديدة في نفس الطريق.
- اهتم الاستشراق ودعاة التغريب والغزو الثقافي بالمعتزلة ووصفوهم بأنهم أغارقة الإسلام الحقيقيون أو المعتزلة العظام.
"وتصدى لهم قديمًا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة ثمانية عشر عامًا ووقف سدًا منيعًا أمام الاتجاه إلى الفكر الفلسفي المتهور الذي قال عنه الشافعي "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا بتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطو طاليس".
ثم يأتي أحمد أمين ويقول: إن المسلمين ضعفوا وتخلفوا؛ لأنهم لم يأخذوا بأسلوب المعتزلة العقلاني .. وتصدى أئمة السلفية لتقديم العقل على النقل وانتصر المذهب الفلسفي.   إِحياء الفكر الصوفي الفلسفي على يد المستشرقين الصليبيين:
"أسدل الزمان ستار النسيان على كتب التصوف الفلسفي القديمة حتى جاء المستشرقون ينقبون عن مادة جديدة للفتنة يؤججون بها نيران الخلاف بين المسلمين من جديد فوجدوا ضالتهم في آثار الصوفية الفلسفية فأقبلوا عليها وقرأوا في ضوء العقلية المسيحية وطقوس الرهبنة أخبار المتصوفين الفلاسفة وكتاباتهم واستهوتهم أفكارهم فجمعوا من أقوال الصوفية الفلاسفة كل شاردة وواردة وعنوا بتنظيم موضوعاتها وترتيبها حتى يمكن القول: أن بحوث التصوف الحديثة وكتاباته كلها ترجع إلى عمل المستشرقين الذين اهتموا فوق ذلك بالتعليق على موضوعاته وتوجيه مسائله الوجهة التي يرضونها بما عُرِف عنهم من مهارة وصبر للتشكيك في عقيدة المسلمين وطعن المسلمين في أغلى مقدساتهم وهو التوحيد، وابتعثوا من جديدة الفكر الصوفي الفلسفي ممثلاً في نظريات وحدة الوجود والحلول والاتحاد والفناء والتناسخ والاستشراق وهي مفاهيم دخيلة على عقيدة المسلمين.
- وقد تخصص عدد من المستشرقين في هذا النوع من الفكر الإسلامي أهمهم: ماسينون وجولد زيهر، وجب، وبرون، وماكدونالد، ومارجليوث اليهود، ونيكلسون وفون كريمر.
ودرس المستشرقون الفرق المنحرفة، فدرس ماسينون التصوف الفلسفي والباطنية والقرامطة والنصيرية واهتم بأهل الباطن والتأويل، واهتم أكثر من غيره بدراسة الاتحاد والحلول والإشراق ووحدة الوجود.
- ولا شك أن التصوف الفسلفي يتعارض تمامًا مع المفهوم الإسلامي الأصيل، والذين قالوا به تأثروا بالأفلاطونية المحدثة وبالعناصر التي أدخلها إخوان الصفا من إغريقية ومسيحية وفارسية الأصل ومنها المذهب المانوي والزرادشتي وفلسفة فيلون اليهودي وفلسفة الرواقيين.  
- آسين بلاسيوس وكتابه عن ابن عربي "مفكر الإسلام المتنصر".
وقد أشار آسين بلاسيوس في كتابه عن محيي الدين بن عربي إلى تأثير النصرانية في مفاهيمه.


* لويس ماسينون والكتابة عن الحلاج وإحياء فكره طيلة أربعين سنة:
لقد عُني لويس ماسينون بأخبار الحلاج أربعين سنة يبحث عنها ويمليها ويعيد طبعها ويضعها سمومًا بين أيدي المثقفين في هذا العصر، حريصًا أشد الحرص على أن ينفي الصلة بينه وبين القرامطة، وقد واجه الدكتور محمود قاسم هذه القضية وكشف وجه الحق فيها قال: بدأ ماسينون شديد الحرص على نفي الصلة بين الحلاج والقرامطة وظل يؤكد على أن هذا المتصوف لم يكن داعية سياسيًّا إلا أنه انتنهى به الحب الإلهي إلى التضحية بنفسه على مذبح الحب، كذلك يؤكد لنا دون ملل أن الحلاج كان متصوفًا سنيًّا أراد تعميق الروح الدينية في بيئة جفّت عاطفتها الروحية، وقد ظن ماسينون وبعض تلاميذه أن الحلاج الذي قال بحلول الله فيه يعد جسرًا بين المسيحية والإسلام السني. ومع ذلك فإن هذا الحرص الشديد على نفي الصلة بين الحلاج والقرامطة قد يؤذن على عكس ذلك بوجود هذه الصلة بينه وبينهم، وقد اعترف ماسينون في موطن ما من كتابه عن الحلاج بأن موقف هذا المتصوف من فريضة الحج كان سببًا في إدانته ومصرعه، وأنه جرد مكة من أفضليتها مما شجع القرامطة على مهاجمتها والفتك بالحجاج ومحاولة هدم الكعبة ونزع الحجر الأسود منها ثم إرساله إلى هجر حيث بقى هناك نحوًا من اثنين وعشرين سنة.
وقد قال الإمام الجويني إمام الحرمين أن الحلاج كان من دعاة القرامطة.
وكانت قائمة اتهامات الحلاج التي حوكم بسببها في أيام الخليفة المقتدر أنه.  اتهم بمعارضة القرآن، وذكر إمام الحرمين في كتابه "الشامل"إنه كان بين الحلاج وبين الجنابي رئيس القرامطة اتفاق سري على قلب الدولة وأن هذا هو السبب الحقيقي في قتل الحلاج، وقوله بالحلول.


* بروكلمن وا. رتين وفادي برج وماسينون وكراوس وهنري كوربان والاهتمام بمذهب الإِشراق وصاحبه السهروردي:
ومذهب الإشراق مذهب يوناني مستفاد من نظرية الأفلاطونية المحدثة قال به السهروردي وهو جماع شطائر من الفلسفة اليونانية الوثنية والفلسفة المجوسية الفارسية، وجماع آراء وتيارات راجت عن السريان وانتقلت إلى الفكر الإسلامي في عصر الترجمة، وتنسب الحكمة الإشراقية إلى أفلاطون ثم إلى دعاة الأفلاطونية الجديدة في مدرسة الإسكندرية، ومذهب الإشراق خارج تمامًا عن مفهوم الإسلام ويعبر عن الله بالنور ويصف العوالم بأنها أنوار مستمدة من الله، وهو ما لم يقل به القرآن أو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو الصحابة ولقد اهتمت طائفة من المستشرقين بالسهروردي ونظريته؛ ونبشوا الكتب القديمة التي كشف المسلمون عن زيفها، فأعاد المستشرقون طرحها في أفق الفكر الإسلامي لإثارة الشبهات والشكوك في نفوس بعض المسلمين الذين لم يتسلحوا بدراسة عقيدة السلف أهل السنة والجماعة.
وكان بروكلمن وا. رتين، وفادي برج من أوائل هؤلاء، فترجموا "هياكل النور"للسهروردي، وقام ماسينون صديق الحلاج بالاهتمام برسائل السهروردي التي جمعها تحت اسم الحكمة المشرقية، وأولى ذلك اهتمامًا كبيرًا باول كراوس، وهنري كوربان وقال هؤلاء: إن شخصية السهروردي وكتبه تمثلان لحظات جوهرية في تاريخ الفكر الإسلامي، وتابعهم في ترجمة ذلك والاهتمام به عبد الرحمن بدوي وإبراهيم مدكور وأحمد أمين.   
ومذهب السهروردي زائف مضلل ووافد وليس من الإسلام في شيء، والسهروردي معطل في عقيدته انحلال وانحراف بل وردة، يقول: إن الله قادر على أن يرسل نبيًّا بعد محمد وأنه يعني بذلك نفسه، وهو يصف الله بأنه نور الأنوار، ويستعمل نظرية العقول العشرة الوثنية اليونانية تحت اسم الأنوار، وقد دافع عنه ونشر فكره سامي الكيالي. وقد كان دنس الثياب، وسخ البدن، لا يغسل له ثوبًا ولا بدنًا وقُتل عام ٦٣٢ هـ بأمر من الناصر صلاح الدين الأيوبي.


* إميل درمنجم وكتابه "خمرية سلطان العاشقين"وابن الفارض والحلول والاتحاد:
أَوْلى المستشرقين ابن الفارض اهتمامًا واسعًا، وترجم إميل درمنجم ما أسماه "خمرية سلطان العاشقين"وقدّم لها مقدمة عن التصوف، وقال: إنها ستلقى ما لا يقلّ عما لقيته رباعيات الخيام من الحظوة. وقد تُرجِم شعر ابن الفارض إلى اللاتينية منذ القرن السابع عشر، وإلى الإيطالية والألمانية والإنجليزية.
وقد ناقش فكر ابن الفارضُ وأدانه البقاعي في كتابه "تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد"، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وعز الدين بن عبد السلام وابن دقيق العيد والبلقيني، وتقي الدين السبكي وبدر الدين بن جماعة وزين الدين الحنفي.


* الاستشراقيون وإِحياء الفكر الفلسفي:
وقف الإسلام من تراث الفلاسفة المترجم من اليونانية والفارسية والهندية موقفًا واضحًا وهو أن هذه المدرسة التي اشتغلت بالفلسفة وعلى رأسها الكندي وابن سينا والفارابي هي امتداد للمدرسة اليونانية الإغريقية.   أنها ليست نتاجًا إِسلاميًّا خالصًا.
وذهب طه حسين ولطفي السيد وإبراهيم بيومي مدكور من أن منطق أرسطو سيطر على بعض دوائر الفكر الإسلامي.
ومنذ جاء المستشرقون يدرسون مادة الفلسفة في الجامعة وهم يفرضون مفهومًا زائفًا هو أن الفلسفة الإسلامية هي فلسفة يونانية مكتوبة باللغة العربية.
- وظن بعض التغريبيين أن للفكر اليوناني مكانة وأثرًا في الفكر الإسلامي من قَبْل جديرة بأن تجعل لوليده الفكر الغربي أثرًا في الفكر الإسلامي الحديث. "تلك هي أخطر الدعاوي التي حملها طه حسين وهي قمة المؤامرة على الإسلام.
- وحاول أهل التغريب إحياء أرسطو وتكوين هالة ضخمة حوله (طه حسين ولطفي السيد وإبراهيم بيومي مدكور)، وردّ عليهم أهل الأصالة أصحاب الفكر الإسلامي الصحيح.


* إِحياء الفكر الباطني الشعوبي:
بدأت كتابات المستشرقين تدافع عن الباطنية والقرامطة والزنج وتعتبر هذه الحركات دعوات إصلاحية، وتصورها على أنها ثورات قامت باسم الإسلام.
وتوزع التغريبيون على مجالات الأدب والتاريخ فوجدنا من يموه ويكذب ويزيف ويبث سموم دجله ويعيد الكتابة في فضل أبي نواس وبشار ابن برد وحماد عجرد ومطيع بن إياس، وهناك من أعادوا الكتابة عن حركات القرامطة والزنج والراوندية، وهناك من جدد فكر إخوان الصفا وبعث رسائلهم كطه حسين، وهناك من قدم ابن سينا والفارابي على أنهم قمم من.  أعلام الفلسفة والفكر. ولا يراد من وراء هذا كله إلا ضرب الإسلام في الصميم ونشر الوثنيات والإباحيات.


* الاستشراقيون نيكلسن وجولد زيهر وأوليري وكازنوفا وتعريب "رسائل إخوان الصفا":
كان لبول كازانوفا السبق في إظهار رسائل إخوان الصفا في العالم الغربي ١٨٩٩، ولا ريب أن اهتمام الاستشراق والتغريب بهذه الرسائل كان بالغًا، ولذلك فإن جماعة منهم (نيكلسن - جولد زيهر - أوليري) بالإضافة إلى كازانوفا قد وضعوا عددًا من الأبحات حولها.
- يقول أوليري: هناك ما يُغري بأن حركة إخوان الصفا كانت حركة إصلاح من جانب بعض الإسماعيليين أرادوا الرجوع إلى تعاليم الإسماعيلية القديمة.
- ويقول جولد زيهر: أعتقد أن رسائل إخوان الصفا كانت الأساس الذي بُنيت عليه معتقدات الإسماعيلية.
ولذا قامت المطبعة الكاثوليكية في بيروت بإعادة طبع هذه الرسائل، ثم جاء الدكتور طه حسين من أوربا ١٩٢٩ م ليعيد طبع رسائل إخوان الصفا وادعى الدجال طه حسين أن إخوان الصفا قوم مجددون مصلحون قدموا للمجتمع الإسلامي الفلسفات الهندية والفارسية واليونانية لإنشاء ثقافات جديدة، وهي الثقافة التي يجب على الرجل المستنير أن يظفر بها وكان على طه حسين أن يبين للناس أن هذه الرسائل تعارض مفهوم الإسلام الأصيل في عدة أمور:
أولاً: إنكار البعث بالأجساد.
ثانيًا: تفسير الجنة والنار تفسيرًا مخالفًا لما تواتر عند المسلمين.   
ثالثًا: تفسير الكفر والعذاب تفسيرًا باطنيًا معنويًّا.
رابعًا: قولهم بأن النبوة يمكن اكتسابها عن طريق الرياضة.
خامسًا: قولهم بإسقاط التكاليف.
ومن أشد فساد عملهم محاولتهم صهر الأديان والعقائد كلها في صورة زائفة، ومن ذلك قولهم: الرجل الكامل يكون فارسي النسب عربي الدين عراقي الآداب عبراني المخبر مسيحي النهج شامي النسك يوناني العلم هندي البصيرة صوفي السيرة ملكي الأخلاق.
تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما جدوا، وحاموا وما وردوا، ونسخوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا، حصلوا على خرافات وتلفيقات وتلزيقات ولوثات قبيحة ولطخات ناضجة، وألقاب موحشة، وعواقب مخزية، وأوزار مثقلة.


* المستشرقون وأذنابهم ودعاة الباطنية كابن المقفع وابن سينا والفارابي وابن الراوندي:
حظي دعاة الباطنية الذين حملوا سموم هذه النحلة بتقدير كبير من رجال التغريب، وكان لهم القدح المعلى لدى حركة الاستشراق والتبشير، فكتبت الأبحاث الطول حول عبد الله بن المقفع، وابن سينا، والفارابي، وابن الراوندي، ووضعوا جميعًا مواضيع التمجيد والتقدير، واحتفل بهم في ميادين مختلفة منها ميادين الأدب والتاريخ والفلسفة.
- وألف طه حسين كتاب الفتنة الكبرى لتبرئة اليهودي عبد الله بن سبأ.
- ويأتي ابن المقفع الزنديق فيُعلي من شأنه طه حسين وأحمد أمين وبطرس البستاني ويقرر طه حسين كتاب كليلة ودمنة مع ما فيه من سموم على طلاب المدارس الثانوية.  - قال الخليفة المهدي عن ابن المقفع: ما وجدت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابن المقفع ووصف دعاة التغريب ابن المقفع بأنه من أعلام الفكر الحر وأنه مصلح اجتماعي. وهم يعلمون أنه أكبر طاعن على الإسلام، قدّم أول ما قدم للقضاء على نظام الإسلام الاجتماعي "كتاب مزدك"ثم كتاب "بروزيه"ليثبت تناقض الأديان وبخاصة الإسلام.
وكشف إبراهيم أبو القاسم في كتابه "الرد على اللعين عبد الله بن المقفع"أنه كان يعارض القرآن.
ويكفي لزندقته "باب بروزيه"الذي أضافه إلى كتاب "كليلة ودمنة"قاصدًا به تشكيك الناس في دينهم.
ثم اتصالاته بخلفاء الشعوبيين والمجان المتهمين بالزندقة من أمثال إقبال البقلي (الذي أنكر البعث والقيامة) وعمار بن حمزة وأبان اللاحقي وسهل بن هارون وحماد عجرد. ولقد ارتبط اسم ابن المقفع بالزندقة عند ابن خلكان والبيروني والصفدي.
- ومما يردده دعاة التغريب الثناء على الباطنية أنها حاولت أن تعيد للمرأة حقوقها وحريتها وكذلك وصفت المشاعية والدعارة التي دعت إليها وأقرّتها هذه الجماعات بأنها حركة تقدمية للمرأة (١).
كيف يمكن من يستخرج فكر بابك الباطني ويقدمه مرة أخرى للمسلمين على أنه فكر تقدمي أو اشتراكي، وكيف يمكن أن توصف هذه الحركات الباطنية المتآمرة بأنها حركات عدل اجتماعي كما صورها طه حسين وجماعة المستشرقين ودعاة التغريب (٢).
 
* وهكذا اتسع نطاق المؤامرة على الإِسلام:
عمدوا إلى إحياء هذا الركام العفن الذي مرّ سابقًا وإعادة طبعه ونشره.
بدأت هذه المرحلة عام ١٩٠٩ بكتاب ماسينون حتى حمل لواءها طه حسين ١٩٢٦ بعد سقوط الخلافة ثم جددعا عبد الرحمن بدوي ١٩٤٦ ثم جاء زكي نجيب محمود منذ عام ١٩٦٧ وفي ظل النكسة لإحياء هذا التراث على نحو جديد:
١ - نشر لويس ماسينون كتابات الحلاج والسهروردي وفريد الدين العطار وابن سبعين.
٢ - نشر جولد زيهر كتابات صالح بن عبد القدوس.
٣ - نشر كريمسكي عن أبان بن عبد الحميد اللاحقي.
٤ - نشر فرنسسكو جيريلي وباول كراوس عن ابن المقفع.
٥ - نشر باول كرواس عن ابن الراوندي.
٦ - نشر فرنسسكو جبريلي عن بشار بن برد.
٧ - نشر باول كراوس عن محمد بن زكريا الزنديق.
٨ - ما كتبه آسين بلاسيوس عن ابن عربي.
 
* ثم جاء دور التغريبيين:
فقاموا بدورهم على أتَمِّ وجه:
١ - كتب طه حسين عن الزنادقة بشار بن برد وأبي نواس وحماد وأبان ابن عبد الحميد وجدد طبع آثار ابن المقفع ورسائل إخوان الصفا.
٢ - كتب عبد الرحمن بدري كتابيه "شخصيات قلقة"و"من تاريخ الإلحاد في الإسلام"تناول فيهما الحلاج والسهرورد"وابن المقفع وابن الراوندي والرازي، وقدم شطحات الصوفية عن أبي يزيد البسطامي ورسائل. ابن سبعين وترجم ما كتبه آسين بلاسيوس عن ابن عربي، وبذلك أحيا قدرًا كبيرًا من ذلك التراث الغنوصي المجوسي القديم، وإن كان ما قدمه كمترجمات لآثار المستشرقين.
٤ - أما الدكتور زكي نجيب محمود في كتابيه "تجديد الفكر العربي"، و"المعقول واللامعقول في التراث العربي"فقد أعاد صياغة الفكر البشري الوثني الغنوصي صياغة جديدة.
- وتتمثل حركهّ تجديد الفكر البشري في عدة ظواهر:
أولاً: إعادة كتابة تاريخ القرامطة والزنج والباطنية على أنها حركات عدل وحرية أو ثورات إسلامية ومن ذلك ما كتبه محمود إسماعيل عن الحركات السرية في الإسلام.
ثانيًا: إعادة الدعوة للاعتزال والراوندية على النحو الذي حاوله زكي نجيب محمود.
ثالثًا: إعادة طبع كتب وحدة الوجود والحلول والاتحاد مثل طبع كتب ابن عربي والحلاج.
رابعًا: محاولة فرض منهج التفسير الماركسي للتاريخ كما فعل أحمد عباس صالح فيما أسماه اليمين واليسار في الإسلام.
خامسًا: محاولة لطفي السيد ترجمة كتاب الأخلاق لأرسطو والقول بأن فلسفة أرسطو هي مصدر النهضة العربية الحديثة.
وترجمة تمام حسان لكتاب "مسالك الثقافة الإغريقية إلى العرب"تأليف أوليرى.
وكتاب "الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام"لإبراهيم بيومي مدكور.  .- وهناك شطحات الصوفية لعبد الرحمن بدوي، ورسائل ابن سبعين.
- وجدد عبد الرحمن بدوي في كتابه "تاريخ الإلحاد في الإسلام"الحديث عن الزنادقة وترجم لهم بتوسع، وأرخ لهم ووضع فكرهم مجددًا أمام المثقفين العرب ويتحدث عن طالوت ونعمان وصالح بن عبد القدوس، وعبد الكريم بن أبي العوجاء وأبي عيسى الورّاق وبشار وحماد وأبان بن عبد الحميد وأبو العتاهية ويؤلف سيد حسين نصر الإيراني عن ابن سينا والسهروردي وابن عربي كتابًا تحت اسم حكماء مسلمين.
 
* مرة أخرى مع الحداثي أحمد عبد المعطي حجازي:
متى يكف الشاعر الكبير عن تصدير أفكاره؟
عبد المعطي حجازي انتقد كل ما هو ديني "حتى السلام عليكم"! في منتدى الحوار بمكتبة الإسكندرية والذي استضاف الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي. - بدأ حجازي حديثه بالدفاع عن (نصر أبو زيد) ودعوته لتبني خطاب عقلاني جديد بدلاً من الخطاب الموحد للأزهر ودار الإفتاء وما أسماه الجماعات المتطرفة، ولم ينس حجازي الإشادة بالمؤتمر الذي عقده المجلس الأعلى للثقافة وإعلان (القاهرة الثقافي)!! وقال: إن الكلام عن تجديد الخطاب في وادٍ والعمل على تجديده في وادٍ آخر؛ لأن الكثيرين من علماء الدين يمنعهم الكسل العقلي من متابعة التطورات الفكرية فيخلطون بين تجديد الخطاب وتجديد لغة الخطاب اعتمادًا على المقولة الشائعة "خاطبوا الناس على قدر عقولم". ويبدو أن حجازي خانته الذاكرة فلم يعرف أن صاحب المقولة هو سيدنا علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-!!
- وبدأ حجازي وصلة هجوم على البرنامج الشهير (العلم والإيمان)
قائلا: إن (السيد) الذي كان يقدمه في التليفزيون يعرض لقطات تسجيلية من عالم النباتات والحيوانات والنجوم ويكتفي فقط بالتعجب قائلا (سبحان الله) يقصد الدكتور مصطفى محمود ولم يشأ حجازي ذكر اسمه.
- ويقول حجازي إن البرنامج (يزعم) وجود علاقة بين العلم والإيمان وهي غير موجودة بالطبع!!! وأكد حجازي أن هناك خلطا واضحا بين العلم والدين بدليل وجود لفظ شائع اسمه (الطب النبوي) وهو غير صحيح أيضا -على حد زعم حجازي- وهاجم حجازي صحيفة (الأهرام) التي يكتب بها مقالا أسبوعيا؛ لأنها تخصص صفحة كاملة تحت عنوان (الإعجاز العلمي للقرآن) مشيرا إلى أنه موضوع غير صحيح ولا يستحق المناقشة لأن من يكتبون فيه يزعمون أن القوانين التي اكتشفها علماء العصور الحديثة في الطبيعة والفلك والكيمياء موجودة في القرآن وهذا بالطبع غير صحيح -على حد زعم حجازي- لأن النصوص الدينية تخاطب القلب وإن كانت تخاطب العقل أيضا ولكن لتجعله ينظر في السموات والأرض لا لكي تلقنه نظريات العلم وإلا لو كانت النظريات والقوانين موجودة في القرآن فلماذا لم نعرفها قبل غيرنا؟ ولماذا لا نغلق الجامعات ونكتفي بالتعليم في الكتاتيب؟! والعجيب -كما يشير حجازي- أن المهتمين بموضوع الإعجاز في القرآن تجند لهم أجهزة الإعلام لكي يقنعونا بأن العلم ليس إنسانيا وإنما مرتبط بالدين وأن العلم ليس جهد الإنسان واكتشاف العقل ولكنه موجود وعلى هؤلاء أن يستخرجوه من النصوص الموجودة سلفا ويريدون أن ينزعوا عن الإنسان كل مجد ويحرموه من كل فضيلة ويصوروه متلقيا فقط عاجزا عن المعرفة والإضافة والإبداع من منطلق مقولة: "إن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" ..
ويبدو أن حجازي نسي أنه حديث شريف يتحدث عن البدعة وليس الإبداع!!! - وهذا في رأيه خطاب العصور الوسطى لحصر العمل في العبادة.  والتسليم والنتيجة هي الوجود السلبي في الحياة، يساعدهم على هذا الزعم أنهم يخاطبون في الناس ما يحبون وأننا نحتاج لمن يقول لنا أننا قد سبقنا إلى كل شيء مع إننا في الحقيقة لم نسبق لشيء، وإن كنا سبقنا فقد تركنا السبق وغرقنا في عصر الانحطاط!!
- هاجم حجازي أيضا (أسلمة العلوم) ووصفها بأنها نشاط محموم تنفق عليه بعض الدول العربية بسخاء ليكتسب العلم صفة الإيمان ويصبح سلاحا من أسلحة العقيدة وهي في الحقيقة دعاية سياسية ومحاولة كسب الحصانة من الدين.
والأغرب من ذلك .. أن حجازي هاجم أيضا تحية الإسلام (السلام عليكم) قائلا إننا لكي نثبت وجودنا في ثورة الاتصالات نحاول إلغاء الصيحة العالمية المتفق عليها (آلو) ونستبدلها بكلمة (السلام عليكم) وأنا لا أفهم كيف أتصل بشخص تليفونيا ويرد قائلا: (سلامو عليكو) لماذا؟!!!!!!!
- وقال حجازي: إننا ما دمنا نشك في قدرة العلم والإنسان والعقل البشري على انتهاك كل الأسرار والحجب فنحن نعيش في العصور الوسطى ونخاف الحياة ونعجز عن التحكم في مستقبلنا ونشعر بالنقص ونكتفي بالحديث عن التميز والخصوصية واعتزال (الآخر) وأصبحنا عالة على غيرنا من الغرب الذين يحبون الحياة ويفهمون أسرار الطبيعة ويتحكمون فيها ويخضعونها بينما نحن نحتقر الحياة ونتصورها مجرد (حياة عابرة) يجب أن نمر مرورا سريعا إلى الحياة الباقية؛ لأن الحياة التي نعيشها (لهو ولعب) ونكتفي بالفخر أن لنا (الحياة الباقية) ولهم (الحياة الفانية)!! (١).
الإسكندرية - جيهان حسين


.* خليل عبد الكريم و"سنوات التكوين":

كتب وائل لطفي:
أصدر مجمع البحوث الإسلامية يوم الأربعاء الماضي قرارا بحظر تداول وطبع كتاب "سنوات التكوين في حياة الصادق الأمين"لمؤلفه خليل عبد الكريم بناء على تقرير قدمته إدارة الثقافة والبحوث في المجمع وكتبه الشيخ عبد العظيم المطعني الأستاذ بكلية اللغة العربية.
"اعتمد الأعضاء في اتخاذهم للقرار على تقرير الشيخ المطعني الذى اتهم الكتاب بإنكار الديانات السماوية والإساءة للرسول - صلى الله عليه وسلم -" (١).


* الحداثيون إباحيون يضج من إباحيتهم قوم لوط عاملهم الله بما يستحقون:
هؤلاء الحداثيون الاستعلائيون الظلاميون الإرهابيون فقدوا كل شيء بعد أن اتهم أبو زيد أكاديميا بـ "الجهل وتزوير النصوص"وقضائيا بـ "الردة"، وأكدت ما ذكره (أدونيس) وهو واحد من أكثر الحداثيين العرب تطرفا، عندما قال: "إن الحركة الحداثية، تمتلئ بالحواة والمهرجين" (٢) .. بيد أن اكتمال المحنة التي أجهزت على "الحداثة"، في عالمنا العربي تقريبا، جاءت بعد إسدال الستار على قضية (أبو زيد)، بخمس سنوات، عندما أصدرت وزارة الثقافة المصرية، رواية "وليمة لأعشاب البحر"للسوري (حيدر حيدر)، وهي من النوع الذي ينتمي فنيا إلى ما يسمى بـ "أدب الجسد"، والأخير يمثل رافدا من روافد "الحداثة"، في الشعر والرواية، والمسرح، والسينما. ويرجع هذا النوع إلى أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، عندما ظهرت مجموعة من الأعمال
.تناولت حياة (البغايا) وطقوسهن في العوالم السفلية والمخملية، ابتداء من اللبناني (توفيق يوسف عواد) في روايته (الرغيف) عام ١٩٣٩، ومرورا بالشاعر العراقي (بدر شاكر السياب)، في قصيدته "المومس العمياء"عام ١٩٥٣، وصولا إلى المصري (نجيب محفوظ) في ثلاثيته "بين القصرين"عام ١٩٥٦، وفي "قصر الشوق"و"السكرية"عام ١٩٥٧.
كان هذا المنحى -في بداياته الأولى- يتحفظ في الولوج إلى وصف (تضاريس الجسد)، بشكل مبتذل ورخيص ومسموم، على النحو الذي بلغه في الثلاث عقود الأخيرة من القرن الماضي باسم "الحداثة"، ويكفي في هذا السياق أن نعرض قائمة سريعة ببعض العناوين لهذا النوع من (الأدب):
"شهوة ملتبسة"لـ نضال حمرانة، "أوهام أيروسية"لـ مي زيادة، "لواطيات الجنابي"لـ عبد القادر الجنابي، "رائحتي شهية كالنعناع"لـ ليلى العثمان، "عن صبي يفوح جنسا"لـ غالب هلسا، "جسد سعاد حسني"لـ عناية جابر، "في سرير الرفيقة"لـ سعدي يوسف، "هكذا أفهم الجسد"لـ صباح خراط، "أنا والعادة السرية"لـ حميد العقابي، "اغتصبت في صباي"لـ خالد المعالي، "ملح على ثدي يرتعش"، "خواطر سحاقية"لـ عالية شعيب، "حلمت بحيوان يضاجعني"لـ دني طالب!! مع ذلك فإن هذا "التحفظ " -الذي ميز جيل خمسينيات القرن الماضي- لم يعفه من مسئولية التأسيس، لنوع من الكتابات تعتمد على "لغة الجسد"، وإطلاق حريته في تلبية شهواته، ووصف مواقعة الذكر للأنثى من جهه، ومواضع العفة لديهما من جهة أخرى بلا حياء، وهو منحى يترتب عليه بالتبعية، الاستهزاء والاستخفاف بكل ما يعتبره معوقا من معوقات التعبير عنه، وعلى رأسها التقاليد الاجتماعية المحافظة، والثقافة الدينية الحاضنة لها.
- ورغم أنه في سبعينيات القرن الماضي، ومع ما لاقته الحداثة من تبن.  وترحاب ودعاية، قد تنامت النظرة إلى هذه "القوالب الفنية"، باعتبارها أنساقا فنية تنتمي إلى منظومة التقاليد القديمة، التي تقتضي الحداثة تجاوزها بل وتدميرها، إلا أن الأعمال الروائية -التي رضعت من ثدي الحداثة، اتخذت من "الجسد"قوام موضوعها الأساسي- أبقت على هذه الكراهية لـ "الشرعية الدينية"، بل واتخذتها هدفا انتوت إنجازه كما فعلت القاصة الكويتية "عالية شعيب"، في قصتها القصيرة "ملح على ثدي يرتعش"، تروي بين سطورها تفاصيل علاقة سحاقية.
إن الفارق بين الجيلين (الذي عاش وكتب في النصف الأول من القرن الماضي، ونظيره الذي مارس الكتابة في نصفه الثاني)، كان في تمرس الأخير بـ "المجاهرة بالمعاصي"، باعتبارها "فعلا حداثيا"!، فيما بينت التجربة، أنها كانت لإخفاء الضعف المهني والفني، الذي كان قاسما مشتركا لجل هذا الجيل.
- يقول الشاعر المصري فاروق جويدة: "منذ شهور تلقيت مجموعة قصصية لكاتبة .. وعندما بدأت أقرأ فيها، اكتشفت أن الكاتبة، غير قادرة على صياغة جملة عربية سليمة وكانت أفكارها مشوشة القصص جميعها تنحصر في تجربة امرأة تمارس الجنس مع نفسها" (١).
ثم إن كان هناك بعد "تبشيري - غربي"، ساعد على إنعاش مثل هذه "المجاهرة"، يفسر ذلك فاروق جويدة يقول: "إن هذه الكتابات تجد صدى واسعا في الدوائر الغربية حيث تترجم كل يوم، ويتلقى أصحابها التهاني والورود والدعوات ويشاركون في المؤتمرات، والسبب في ذلك أن هناك تجارة رابحة في الغرب الآن ويستطيع أي كاتب عديم الموهبة، أن يقدم نفسه من

.خلالها أن يكتب في الجنس ولغة الجسد .. أو يهاجم الإسلام" (١).

- ففي وقت مبكر من سبعينيات القرن الماضي كتب المغربي (محمد شكري) روايته "الخبز الحافي"سجل فيها المؤلف "سيرته الذاتية"، وتجربته في ممارسة الجنس مع البغايا وغيرهن"، وحياة التشرد التي عاشها، وكيف انخرط خلالها في معايشة كل طقوسها ومفردات حياتها اليومية، من جنس وشذوذ ومخدرات وغيرها، والرواية بالمعايير الأدبية ضعيفة فنيا، ومبلغ القول فيها أنها "رواية ساقطة"، تحكي ذكريات رجل شاذ جنسيا؛ ولأنها كانت صادمة لمشاعر المسلمين، رفضت معظم دور النشر العربية نشرها، فيما وجد فيها الغرب (صيدا ثمينا)، يمكن توظيفه بوصفها (شهادة إدانة) عربية لما يعتبره الغرب (تقاليد إسلامية)، حيث ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية، فيما تكبد المستشرق الياباني (نوتوهارا)، مشقة السفر من اليابان إلى المغرب، لزيارة (محمد شكري) عام ١٩٩٥، ليعمل على ترجمة الرواية، ويطلب إليه أن يرافقه في زيارة الأماكن التي وصفها في "الخبز الحافي"!! في الوقت ذاته يسارع الإسرائيليون إلى الالتحاق بطابور المهتمين بالرواية ومؤلفها ممثلين في "دار الأندلس"الإسرائيلية التي ترجمتها إلى العبرية (٢) بل إن الجامعة الأمريكية بالقاهرة قبل منع تدريسها إثر احتجاجات طلابية واسعة في العام الدراسي ٩٨/ ٩٩ - أدرجتها بين المناهج المقررة على طلابها (مادة الأدب العربي)!
 
* صدام مروع مع الرأي العام:
بيد أن الحداثة كانت بـ "برج عاجيتها"، بعيدة عن أي صدام مباشر مع الرأي العام، ما أتاح لها تداول هذا النوع من الأدب، في دائرة ضيقة (بين. النخبة الحداثية فقط)، حتى عام ٢٠٠٠ عندما أصدرت وزارة الثقافة المصرية، رواية من هذا النوع وهي "وليمة لأعشاب البحر".
ويعتبر صدور الرواية -وبسعر زهيد، وفي أكبر سوق عربي (مصر)، وتتولى السلطات الرسمية (وزارة الثقافة) طبعها ونشرها- منعطفا فاصلا، في مسيرة الحداثة في العالم العربي.
حتى قبيل هذا الحدث، لم يكد أحد من العامة يعرف شيئا عن الحداثة، في تجلياتها الفكرية والثقاقية والسياسية، كانت هناك مياه كثيرة مرت تحت الجسر، ونعني بها بعض الاشتباكات"العارضة"التي وقعت في الظل، انحسرت بالمصادرة السريعة (مثل الخبز الحافي، وبيضة نعامة في مصر)، و"الرحيل"و"في ليل تأتي العيون"ليلى العثمان، و"عناكب ترثي جرحا"لعالية شعيب بالكويت، وبعضها خرج إلى العلن، وانتظمت مؤسسات أهلية ورسمية وإعلامية، في الجدل الواسع والعنيف الذي احتدم بشأنها. بيد أنها شكلت وعيا "أوسع"بالبعد الأكاديمي والمنهجي للحداثة، وكان أبرزها أزمة (نصر حامد أبو زيد)، إذ إن الأخير استخدم "البنيوية الماركسية"في تأويل "النص القرآني"، الأمر الذي أفضى به في النهاية، إلى شكل من أشكال النكوص العقائدي، وإعادة إنتاج المواقف القرشية "الجاهلية"القديمة، من النبوة والوحي، على نحو ما أسلفنا فيما تقدم. هذا "النكوص"سدد (أبو زيد) فاتورته بالكامل من جهة، وشكلت محطة متقدمة، في مشوار الحداثة نحو "مواتها"، المهين والمذل، في بلاد العرب من جهة أخرى. غير أنه من المؤكد، أن أزمة "وليمة لأعشاب البحر"كانت هي المحطة اللاحقة والأخيرة في هذا المشوار.
- فإذا كانت الأولى بما خلفته من أدبيات -حتى في أشكالها القانونية التي صيغت في صورة مذكرات ادعاء أمام المحاكم، أو حيثيات ما أصدرته.  الأخيرة من أحكام بشأن الأزمة- قد مثلت موات الحداثة العربية أكاديميا، لا سيما بعد ظهور كتابي د. عبد العزيز حمودة: "المرايا المحدبة"و"المرايا المقعرة"، رغم صدورهما في مرحلة متأخرة من الأزمة. فإن الأخيرة (أي رواية وليمة) أشعلت الحرائق، فيما تبقى من "مصداقية"أو "نجومية"لرموز حداثية كبيرة، ظلت ولعدة عقود تمثل "المخزون اللوجستي"، الذي تعهد النشاط الحداثي العربي (السري منه والعلني) بالحماية والدعم (بنوعيه المادي والإعلامي). أي أنها حرمت الحداثيين العرب الأقل والأقصر قامة، من مرجعيات كانت تفتح لها أبواب "أنشطة"، من "النوع"الذي يتحول إلى دولارات وشيكات وحسابات في البنوك من جهة، وتتعهدها بالتلميع الإعلامي الواسع والغير محدود من جهة أخرى: فمن المعروف أن رواية "حيدر حيدر"، كانت من النوع الذي لا يقترب فحسب -في توصيفه- إلى ما يشبه أفلام "البورنو الجنسية"، ولكنها نالت من (القرآن والسنة) بلغة مبتذلة ورخيصة، وبمفردات وخطاب تهكمي ساخر .. ويكفي هنا أن نستعرض خلاصة رأي مجمع البحوث الإسلامية، التابع لمشيخة الأزهر في الرواية، إذ يقول البيان:
- إن الرواية مليئة بالألفاظ والعبارات التي تحقر وتهين جميع المقدسات الدينية بما في ذلك ذات الله سبحانه وتعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم واليوم الآخر، والقيم الدينية.
- إن الرواية خرجت على الآداب العامة خروجا فاضحا وذلك بالدعوة إلى الجنس غير المشروع واستعمال الألفاظ في الوقوع وأعضائه الجنسية للذكر والأنثى بلا حياء؛ مما يعف اللسان عن ذكرها وكتابة نصها، حفاظا على الحياء العام الذي انتهكته الرواية إلى آخر ما ورد في التقرير المشهور والمنشور.
ويكتسب ظهور رواية "وليمة"، بعد أزمة أبحاث نصر حامد أبو زيد،.   أهميته من دورها في استكمال النصف الآخر من صورة "الحداثة".
فإذا كانت أزمة أبو زيد، قد انتهت بتوثيق تهافت الحداثة "أكاديميا"، فإن "وليمة"أماطت الستار. عن وجهها "السوقي"والمبتذل، شاءت الأقدار أن تأتي هذه "السوقية"، في المشهد الأخير من مشوار الحداثة العربية نحو نهايتها المخزية، ليظل هذا المشهد عالقا، في وجدان الأمة ووعيها الجمعي، ولتختم لكل من دافع عن الرواية، وعن مؤلفها أو اعتبرها إبداعا، بسوء الخاتمة.
ولعل هذه الخاتمة كانت هي الأخطر في مجمل نتائج هذا المشوار، إذ إن أسماء حداثية كبيرة خرجت من هذه المعركة، وقد فقدت سلطتها الأبوية بالكامل، التي كانت تمارسها على السلطات الثقافية الرسمية، ولعدة عقود مضت، وباتت تشبه "خيول الحكومة العجوزة"، ولم يمهلها وزير الثقافة المصري فاروق حسني -الذي كاد أن يفقد منصبه الوزاري بسبب الأزمة- أن تظل عبئا عليه وعلى حكومته بعد أن احترقت (تلك الأسماء)، وكادت تحرق النظام السياسي بكامله.
بعد أزمة "وليمة"بدأت ملامح وتضاريس جديدة تتبلور، تشير في تدافعها وتلاحقها، إلى ما يمكن تسميته مرحلة "نهاية الحداثة"في عالمنا العربي وهي مرحلة يمكن الاستدلال على تشكلها بعدة علامات: ففي شهر مارس من عام ٢٠٠٠ أي قبل صدور رواية "وليمة"بنحو شهرين، ألقت سلطات الأمن المصرية، القبض على صلاح الدين محسن، بعد نشره رواية وصف فيها القرآن الكريم بأنه "كتاب الجهل البدوي المقدس"، وجرت محاكمة المؤلف متزامنة مع أجواء أزمة "وليمة"، وفي شهر يوليو من نفس العام، قضت محكمة أمن الدولة، بحبس صلاح الدين محسن "ستة أشهر مع وقف التنفيذ".
- وبادر البعض بتفسير هذا الحكم "المخفف"بأنه "انتصار"للحداثة،و"هزيمة"لأعدائها، وأنه دلالة على قوة الحداثيين وقدرتهم على التأثير، أن الحكم جاء ثمرة خطابهم المدافع عن "حرية"التعبير وعن "الإبداع"، وأن منصة القضاء تأثرت (أو استجابت) لهذا الخطاب الحداثي.
وواقع الحال أن رد الفعل الرسمي من الدولة، لتبرير موقفها من نشر الرواية، كان مرعبا ومخيفا ومدعوما بالمؤسسة الإعلامية الرسمية الضخمة والعاتية، وكانت شهادات الاتهام بـ "الظلامية"جاهزة لكل من هاجم الرواية أو اعتبرها إسفافا لا إبداعا .. حتى إن بعض من هاجموا الرواية في مستهل الأزمة، استجابوا للابتزاز الحداثي، وانقلبوا على أدبارهم في منتصف الطريق، خوفا من أن ينالهم العلمانيون بأذى، وطمعا في الإنعام الحداثي عليهم بلقب "المفكر المستنير"، وربما قد تأثر الحكم على "صلاح الدين محسن"بهذا المناخ، وبكل تفاصيله التي هدفت إلى ترويع النفوس والأفئدة غير أن هذا المشهد على الجهة الأخرى، كان أشد رعبا للدولة، فالذي حدث كان أشبه ما يكون بـ "الاستفتاء العفوي"على شرعيتها، أي أن الأزمة وضعت "شرعية السلطة"على محك حقيقي، ونقلتها إلى اختبار بالغ الصعوبة، وأن عليها أن تختار، إما أن تستمد شرعيتها من "الحداثة"بنسختها المعادية للدين وللنسق القيمي العام للمجتمع، وإما أن تستمدها من دين الدولة الرسمي، والحاضن في الوقت ذاته، للمنظومة الأخلاقية والقيمية السائدة.
كانت قضية "صلاح الدين محسن"، هي المفصل الذي حسمت عنده الدولة خياراتها، حيث اعترضت النيابة العامة على الحكم (ستة أشهر مع وقف التنفيذ)، واعتبرته في "غاية الرأفة"، فيما رفض رئيس الوزراء د. عاطف عبيد المصادقة عليه، وقرر إعادة محاكمته، وقالت النيابة إن "كتبه تضمنت ازدراء للإسلام وإثارة للنقمة، ومسا بالذات الإلهية، وإنه زعم أن. 
.الدين الإسلامي هو السبب في تخلف الدول العربية، ودعا إلى قيام رابطة للملحدين".
وعلى إثره ألقي القبض عليه، وصدر في حقه حكم قضائي، بحبسه ثلاث سنوات مع الشغل والنفاذ. ومن اللافت أن رد فعل دعاة الحداثة العلمانية على الحكم، كان خافتا ضعيفا يكاد لا يسمعه أحد؛ بل إن اتحاد الكتاب المصريين، قرر فصل "الكاتب"من عضويته، وتبرأ "الجميع"منه، رغم أن ما حدث، لو قدر له أن وقع، قبل أزمة "وليمة لأعشاب البحر"، لأقام الحداثيون الدنيا وما أقعدوها .. وهو ما يعني أن ثمة واقعا جديدا، أفرزته تلك الأزمة" (١).
- وبعد يا أهل الحداثة .. لقد بلغ فسقكم وفجوركم إلى النهاية فعاملكم الله بما تستحقون وأخزاكم في الدنيا قبل الآخرة إن لم تتوبوا.
نعم ملة الإسلام في الكون دوحة ... وفي ظلها يغدو الهدى ويراوح
على كل فرع عندليب مغرد ... وفي كل غصن بلبل الحق صادح
* وبعد دسائسهم ومكايدهم وكتاباتهم ومؤامراتهم وعفنهم يبقى الإسلام:
* قال تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: ٣]. يئسوا أن يبطلوه، أو ينقصوه، أو يحرفوه، وقد كتب الله له الكمال وسجل له البقاء.
فالإسلام روح الحياة، وحياة الروح، وسر العالم وعالم الأشرار، وجمال الدنيا ودنيا الجمال، ونور الطريق، وطريق النور.

.- كما تطلع الشمس بأنوارها فتفجر ينبوع الضوء المسمى بالنهار، جاء الإسلام فوجد في العالم ينبوع النور.

ورعشات الضوء من الشمس هي قصة الهداية للكون في كلام من النور، وأشعة الوحي في الإسلام هي قصة الهداية لإنسان الكون في نور من الكلام.
- وإذا تعسف الناس الحياة لا يدرون أين يؤمون منها، ولا كيف يهتدون فيها فتضطرب الملايين من البشر، يأتي الإسلام نورا هاديا من غلط الحياة وتحريف الإنسانية يصحح ما اعترى هذه الأنفس.
- الإسلام أفق وضيء يطهر البشرية من غبش الجاهلية، وأهل الشقاء يفرون منه إلى موتهم {كأنهم حمر مستنفرة (٥٠) فرت من قسورة} [المدثر: ٥٠ - ٥١].
- الحياة في ظل الإسلام نعمة .. نعمة لا يدركها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه، يعيش المرء في ظل الإسلام ينظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة ويعجب .. ما بال هؤلاء الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجميل الجليل؟ النداء الذي يرفع العمر ويباركه.
{أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون} [آل عمران: ٨٣].
- هذا الإسلام مرتقى عال، ونور وضيء.
ارتضاه الله دينا لكل أنبيائه وهو أرقى تصور للوجود والحياة، وأقوم منهج للبشرية وهو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخاه ويحرص عليه.
- لقد التقط الإسلام الناس من سفح الجاهلية ودركها، وسار بهم في.  الطريق الصاعد إلى القمة السامقة، وجعلهم ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم في السفح، في كل جانب من جوانب الحياة، عرفوا السفح وعرفوا القمة، وعرفوا حب الله ورضاه عن هذه الأمة.
- الإسلام لا يتولى عنه إلا موكوس منكوس مطموس، شاذ في هذا الوجود الكبير ناشز في هذا الكون الطائع المستسلم المستجيب.
- لقد شقيت البشرية في تاريخها كله حين قادها العمي الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون، ولم ترتفع إنسانيتها قط إلا في ظل الإسلام.
- الإسلام نور في القلب والنفس، نور للمسلم تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف، ويشرق به كل شيء أمامه فيتضح ويتكشف ويستقيم.
- جرعة من كأس الإسلام أروت العقل والقلب، جرس سورة الصافات، أذان بدر واليرموك، وسيف صلاح الدين، ونظرة الفضيل، ومفتاح كنوز الدنيا، غيض من فيضه، القادسية وعين جالوت وحطين نفحة من نفحاته، وومضة من أنواره وبركاته.
- به صنع ركب الرجال العظام على مدار التاريخ، فانظر إلى ركب المؤمنين الأبرار كيف شقوا طريق المجد في علو وجمال، وتطلعت إليهم من فتحات الأبواب أسرى القرون والأجيال.
- الإسلام هو المفتاح الفذ لأقفال الحياة.
- الإسلام أنفاس الحياة الآخرة، رقة تستروح منه نعيم الجنان، ونور تبصر في مرآة الزمان وجه الأمان، يرف بندى الحياة على زهرة الضمير، ويخلق في أرواحها من معاني العبرة معنى العبير.
- الإسلام من السماء، ودين الله في أفق الدنيا حتى تزول، ومعنى.  الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول، وكذلك تمادى المجرمون في طغيانهم يعمهون، وظل الإسلام يلقف ما يأفكون {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون} [الأعراف: ١١٨].
- إن الناس في اليوم والغد لن يستجيبوا إلا لنداء الإسلام، ولن يصلحوا إلا به، ولن يتفاعلوا إلا معه .. سيعلو نداء الإسلام ويرتفع ويقوى ويشتد.
- ألا بارك الله في الأقلام المتوضئة التي تكتب باسم الإسلام.
ألا بارك الله في الحناجر المؤمنة التي تطلق نداء الإسلام
والأصوات المباركة التي ترتفع بنداء الإسلام،
والآذان الواعية التي تسمع نداء الإسلام،
والقلوب الحية التي تتفاعل مع نداء الإسلام.
والحياة الكريمة التي تزكو وتطهر بنداء الإسلام.
وصدق الله العظيم إذ يقول: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} [فصلت: ٣٣].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
***

انهيار برج بابل الانترنت؟

$
0
0

لم يكن التمرّد، إذ لم يعدْ التمرّد على الهيمنة الأميركية (بالمؤسسات والشركات والإستخبارات) على الإنترنت، سوى أمر شائع في تلك الشبكة. لم يكن التمرّد، هو الذي ميّز مؤتمر "نت مونديال"الذي إختتم أخيراً في مدينة "سان باولو"في البرازيل. وحضرت أخيلة التمرّد وذائقته بقوّة في "نت مونديال"عبر ترؤسِهِ من قِبَل رئيسة البرازيل ديلما روسيف، وهي يساريّة إنتمت طويلاً لحركات تمرّد مسلّحة ضد الهيمنة الأميركية في بلادها. 

لم يكن التمرّد هو ميزة "نت مونديال". وكذلك لم يأتِ تميّز القمة من أنها جأرت بأصوات الخوف والغضب والإنكشاف المريع. إذ باتت تلك الأمور منتشرة كعتمة في ليل طويل، بعد الفضيحة التي فجّرها خبير المعلوماتية الأميركية إدوارد سنودن عن تجسّس "وكالة الأمن القومي"على شبكات الإتصالات عالميّاً. 

ومنذ تفجّرت تلك الفضيحة، لم تكف الدول والرؤساء والمؤسّسات عن الحديث بالصوت الواضح عن رفض تحويل الإنترنت إلى عين عالميّة لـ"الأخ الأكبر"الأميركي في التجسّس على الأرض. وفي هذا السياق، لا بد من القول أن الإستثناء العربي في هذا المجال يفقأ العين بوضوحه. لم ترتفع أصوات المؤسسات العربية بهذا الشأن أبداً، ولا حتى همساً. 

برج بابل الإنترنتولم تكن تلك الأمور كلّها هي المميّزة لقمة "نت مونديال". الأرجح أن قمة "نت مونديال"تميّزت أساساً بالغياب الأميركي عنها. فمنذ انطلقت شبكة الإنترنت الى الإستخدام الواسع المعولم في تسعينات القرن الماضي، لم تغب أميركا عن قمة عالميّة عن الإنترنت. من المستطاع القول من دون مجازفة كبرى، أن أميركا اهتمّت بالانترنت أكثر مما فعلت دولة في الكرة الأرضيّة. ومثّلت الشبكة الأداة الأهم والظاهرة الأبرز، في مسار العولمة المعاصرة. وسواء تعلّق الأمر بعولمة منفلتة ومتوحشّة أو بأخرى عادلة وإنسانيّة، فإن أميركا هي في قلب هذا المسار الذي يرسم الزمن المعاصر.

حضرت أميركا في مؤتمر "مجتمع المعلوماتية"الذي تبنّته الأمم المتحدة في مستهل القرن 21. تحضر الولايات المتحدة في المؤتمرات المتوالية التي يرعاها الإتحاد الأوروبي، وكذلك التي تنعقد برعاية اليونيسكو. وتحضر أميركا عبر حكومتها وشركاتها ومؤسساتها التي تكوّن الخيوط الأساسية في الشبكة العنكبوتية الدوليّة.
 
لماذا إستمرار الحضور الأميركي؟ ببساطة، لأن لا انترنت من دون أميركا. إذ تستقر الكومبيوترات الضخمة التي تدير حركة الإنترنت عالميّاً في أميركا. وتسمى تلك الأجهزة "الأُطر الأساسيّة" ("ماين فرايم"  Main Frame). وتعطي الـ"ماين فرايم"المرتكز الرئيسي لسيطرة هيئة الـ"آيكان"الأميركية على شؤون الإنترنت. ويختصر مصطلح "آيكان"  ICANN إسم "هيئة الانترنت للتعيين الأسماء والأرقام" Internet Corporation for Assigned Names and Numbers. وتعطي أسماء النطاق تعريفاً عن نشاط الموقع، ومدى استقلاليته والمساحة التي تسيّطر عليها عبر الشبكة. 

واحتكرت هيئة "آيكان"توزيع أسماء النطاق (مثل ".كوم"و".غوف"و".إديو"، إضافة الى الأسماء المعبّرة عن الدُوَل)، الإنترنت منذ ما يزيد على 45 سنة، أي حتى قبل انتشارها عالميّاً.  وعلى رغم أهمية الخارقة، لا تعبّر الـ"آيكان"إلا عن الجزء الأبسط من ضرورة أميركا للإنترنت، وهيمنتها عليها أيضاً. إذ يعرف الجميع أن شركات المعلوماتية والكومبيوتر العملاقة، والشركات الرئيسية لصناعة الـ"هاي تيك"برمّتها، والقسم الأشد حيوية في صناعة البرامج والتطبيقات والمكوّنات الرقميّة كافة، تستقر في أميركا. نعم. لا إنترنت من دون اليد الخفيّة أو الظاهرة لـ"العم سام". 

مسار للتفتّت.. ربما 


لأن أميركا هي "الروح في الآلة" (بحسب وصف ديكارت للروح في الجسد)، شكّل غيابها عن قمة "نت مونديال"البرازيلية الحدث الأبرز فيها. وبسبب الغياب الأميركي المُدوّي، من المستطاع النظر إلى قمة "نت مونديال"باعتبارها نقطة بارزة في مسار ربما يؤدي إلى انهيار "برج بابل"الانترنت.
  
لم يأتِ الأمر بصورة مفاجئة. الأرجح أن بداياته الفعلية ابتدأت من أميركا (أيضاً وأيضاً)، تحديداً من هيئة الـ"آيكان"نفسها. ففي العام 2009، أثناء قمة دولية عن أسماء النطاق استضافتها العاصمة الكورية الجنوبيّة سيول، فاجأت الـ"آيكان"الدول كافة بقبولها التخلّي عن حقّها الحصري بإعطاء أسماء النطاق (واستطراداً، استمرار وجوب كتابتها بالانكليزية)، والسماح بكتابة أسماء النطاق بمجموعة من اللغات الحيّة. وترافق القرار مع إعطاء البلدان الحق في منح أسماء نطاق متّصلة بإسمها داخل حدودها الجغرافيّة والسياديّة.

حينها، اعتبر كثيرون الأمر بمثابة الخطوة الأولى في تفكك الانترنت. ورُبِط الأمر أيضاً مع وصول باراك أوباما الى البيت الأبيض، بأكثر من معنى. فمن ناحية، مثّل قرار الـ"آيكان"في قمة كوريا الجنوبية تنفيذاً لوعد انتخابي من أوباما. ومن ناحية اخرى، عبّر الأمر عن صعود الهويات الخصوصية في الإثنية والعرق والدين واللون وغيرها، وهو أمر عبّرت عنه رئاسة أوباما في السياسة أيضاً، سواء لكونه أفريقي- أميركي أو بسبب تأييده من قبل "هويّات"خصوصيّة كالأميركيين من أصول إسبانيّة وشرق آسيوية، والنساء ومثليي الجنس وغيرهم.

وثمة مسار آخر للتفكك يجيء من مجريات الإنترنت. ألم تتحوّل بسهولة إلى المكان الأبرز لظهور الهويات المتناثرة عرقياً وإثنياً ودينياً وغيرها؟ ألا تسير يوميّاً نحو تعدد ضخم في اللغات والمحتويات وغيرها؟ 

والأرجح أنه يصح القول بأن أشياء مثل فضيحة التجسس الإلكتروني الأميركي الشامل، حفزت المساعي للاستقلالية عن الانترنت التي تراقبها عين الإستخبارات باستمرار. ربما تمثّل الدعوة إلى "إنترنت إسلاميّة حلال"، شكلاً باعثاً على الإبتسام المستخف. ربما أكثر جديّة، هي استقلاليّة الانترنت الصينية، المتأتيّة من الهيمنة القمعية لحكومة بجينغ، على عوالم الانترنت في أراضيها. ولم تفلح المواجهة الضخمة بين شركة "غوغل" (التي ناصرها الكونغرس ووزارة الخارجية الأميركية) وحكومة بجينغ في كسر هذه الصورة. 

وبين فضيحة سنودن وقمة "نت مونديال"، أعلنت مجموعة دول الـ"بريكس" (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب أفريقيا) عزمها على بناء شبكة خاصة تربط تلك البلدان، بطول 34 ألف كيلومتراً، تمر في مدينة فلاديفوستوك في روسيا و"سان باولو"في البرازيل و"شانتو"في الصين و"تشيناي"في الهند، و"كيب تاون"  في جنوب إفريقيا. ويتوقع أن ينتهي العمل في تلك الشبكة في 2015. ألا تذكّر تلك المجريات بأسطورة بناء "برج بابل"في التوراة؟ فبموجب ذلك النص، تآزر البشر في بناء برج شامخ باستمرار، طالما أن البشر استطاعوا التفاهم بلغة موحدة جمعت ذكاءهم وصبّته في عمل موحد. وإذ غضب الرب من السعي المتفاخر للإنسان- الديكتاتور، عمد إلى حلّ ما زال إدراك غاياته عصياً: إعطاء لغة لكل مجموعة. وتقول التوراة أنه لما تبلبلت ألسنة البشر، وفَقَدَ ذكاءهم الجماعي عَصَب تواصله الأساسي، إنهار ذلك البرج. أتسير الإنترنت نحو مصير مشابه؟ وأي علو سامق كانت تروم التطاول لملامسته أصلاً؟  

غطرسة إسرائيلية (2)

$
0
0

إلا أنه على ما يبدو فإن الرئيس السادات وهنرى كيسنجر بعد طرد الخبراء السوفيت قد خطا كل منهما خطوة تجاه الآخر حيث أن الثابت من حكايات الرئيس السادات نفسه ومن مذكرات هنرى كيسنجر ومن مذكرات حافظ إسماعيل أن لقاءات مصرية أمريكية قد جرت فى مطلع عام 1973 أى عقب طرد الخبراء بستة شهور وكان مكانها الولايات المتحدة وكانت سرية الطابع حتى أن الإتحاد السوفيتى على ما يبدو لم يحط بها علما. أو ربما أحيط بها علما من باب الضغط المصرى والتلويح باللجوء للقوة العظمى الأخرى بعد أن خذل السوفيت المصريين فى لقاء موسكو بين الرئيسين نيكسون وبريجنيف (من وجهة نظر الرئيس السادات بالطبع).

وهذه الخطوة بالذات كانت فى غاية الحذق والمهارة من جانب الرئيس السادات إذ أنه كان يعلم بالتأكيد أن إسرائيل سوف تعلم بها فور وقوعها مما يغذى لديها الشعور بالغطرسة والتفوق الكاسح. إذ هاهو رئيس الدولة الأكبر على الجبهة بعد أن طرد السوفيت من مصر يطلب من الأمريكيين التوسط لحل الأزمة.  وهنا يقول السادات أن حافظ إسماعيل قد سمع فى أمريكا ما لا يحب وما لا يحبه السادات حيث أن الأمريكيين قالوا له أن موضوع الشرق الأوسط هو حصان ميت وأن العرب جثة هامدة لا حراك فيها ولا بها وأن على من يريد التسوية أن يحرك الموقف حتى تستطيع أمريكا التدخل.

وفى تقديرى الشخصى أن وثيقة التأمين التى تحدث عنها كيسنجر عقب سماعه خبر طرد السوفيت قد تم إبرامها فيما بعد من خلال زيارات ومباحثات حافظ إسماعيل. وهنا لابد من إستعادة كلمات الرئيس الأسبق آيزنهاور عندما قامت بريطانيا وفرنسا بغزو بورسعيد وإنزال المظليين حيث أن أول رد فعل خرج من فيه كان"الولايات المتحدة لا تعلم عن هذه العملية شيئا ولم تبلّغ بها ولم تستشر فى شأنها مسبقا".. وهو رد فعل غاضب يكشف عن طبيعة نظرة الولايات المتحدة إلى نفسها كقوة عظمى تريد أن يشاورها الجميع قبل إتخاذ خطواتهم خصوصا لو أنهم من الحلفاء. وهذه العبارة تفسر مدى تشدد الرئيس آيزنهاور فى موقفه ضد الدولتين الحليفتين وإصراره القاطع على أن ينسحبا دون قيد ولا شروط من أى نوع. ناهيك عن العوامل الأخرى الموضوعية المتعلقة بالهيمنة وكسب المراكز المتقدمة فى المواقع الحساسة كقناة السويس.

ونيكسون كان نائبا لآيزنهاور طوال فترتى رئاسته وليس من المستبعد أنه يفكر بذات الطريقة وينظر لمركز بلاده ذات النظرة وهو ما سوف نلاحظه فى موقف الإدارة الأمريكية عام 1973.

وهنا يقع السبب الذى يجعلنى أظن أن وثيقة التأمين الأمريكية التى ذكر كيسنجر عدم وجودها ساخرا من السادات فى يوليو 72 قد دخلت حيز التنفيذ فى يناير 73.

وهذا الخط الذى إنتهجه الرئيس السادات لم يختلف كثيرا عن خط عبد الناصر الذى قبل فى أغسطس 1970 وقفا لإطلاق النار لمدة 3 شهور كان فى حقيقته مشروعا أمريكيا صرفا ثم لم يمتد به العمر لكى يخطو الخطوة التالية فيه.

ووثيقة التأمين هذه سوف يكون لها شأن هام فى سير المعارك فيما بعد.

والحقيقة أننى مندهش من موقف إسرائيل من كل تلك التطورات التى إستغرقت أكثر من عام من يوليو 72 إلى أكتوبر 73.

والذى يجعلنى متأكدا أن هذه الخطوة من الرئيس السادات كانت حركة ماهرة وليست خطوة الباعث عليها هو الجبن هو أنه قد سبقها خلافه الشهير فى أكتوبر 72 مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة وتنحية بعض أعضائه ومنهم الوزير نفسه محمد صادق وذلك بسبب إلحاح هؤلاء على إستمرار نقص المعدات اللازمة للمعركة مما أثار عليهم حفيظته. أى أنه قبل الدخول فى مفاوضاته مع كيسنجر كان يعد العدة بالفعل للمعركة ولم يفترض أن مباحثات كيسنجر كفيلة بتجنيب مصر الدخول فى حرب. وهذا يدحض نظرية المؤامرة التى قال بها كثيرون فيما بعد من بينهم القذافى.

والواقع أن هذا يجرنا إلى بحث سبب إهمال إسرائيل لفحص ودراسة ذلك البعد الجديد فى المشكلة بينها وبين مصر. فالذى تفاوض كان هو السادات وحده ولم يشرك الأسد ولا أظنه حتى قد أبلغه بالمباحثات مع كيسنجر. وهذا أيضا لابد أنه لم يكن خافيا على إسرائيل. أى أن إسرائيل بدلا من أن تحسب حسابا لاحتمال أن تنسق مصر مع سوريا للقيام بهجوم مشترك حسبت أن الدولتين متفرقتان لا يجمعهما رابط حيث أن الأولى تفاوض الأمريكيين بينما الثانية ملقاة بالكامل فى أحضان الروس فكيف ومن أين إذن يأتى التنسيق؟

والظاهر أن أحدا لن يعرف أبدا حقيقة ما دار فى ذهن الرئيس السادات وقتها من تدبير فنحن لا نعرف إن كانت هذه مجموعة من الصدف الحسنة أم أنه كان تخطيطا دقيقا ماكرا من جانب الرئيس المصرى؟

أنا شخصيا أعتقد أنه كان تخطيطا مدبرا من الرئيس السادات للإيقاع بإسرائيل.

والظاهر أيضا أن إسرائيل لم تتحر جيدا من الولايات المتحدة عن حقيقة الهدف من التفاوض مع مصر. فكيسنجر لابد وأنه كان يريد من مصر شيئا ما حتى يدخل معها فى تفاوض، فلا تفاوض بلا هدف محدد ولو على الأقل تكتيكى.

وأظن أن الهدف من وراء مفاوضة السادات من وجهة نظره كان أولا إبرام وثيقة التأمين هذه التى تحدث كيسنجر عنها وثانيا ربماالقيام بخداع إسرائيل. أما دوافع كيسنجر فهى نفسها دوافع كل سياسى أمريكى جاء منذ ذلك الحين: الإستحواذ على مصر فى السلة الغربية للتحالف الدولى.

التغلغل العلمانى فى العالم الإسلامى-14

$
0
0

من كتاب الأعلام والأقزام فى ميزان الإسلام للدكتور السيد حسين العفانى

 

فزماننا هذا زمان تنطق فيه الرويبضة (١)، ويعلو التحوت الوعول فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "إنها ستأتي على الناس سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون

.فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة "قيل: وما الرويبضة؟ قال: "السفية يتكلم في أمر العامة " (١). * وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "من أشراط الساعة .. أن يعلو التحوت الوعول "أكذلك يا عبد الله بن مسعود سمعته من حبي؟ قال: نعم ورب الكعبة. قلنا وما التحوت؟ قال: "فسول الرجال، وأهل البيوت الغامضة، يرفعون فوق صالحيهم، والوعول أهل البيوت الصالحة " (٢).

 

 

حينئذ تتحول الحياة إلى مستنقع آسن، وترتكس الدجاجلة ومعهم الغوغاء في الحمأة الوبيئة، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم، ويعلو أهل الله بمرتعهم الذكي، ومرتقاهم العالي، ونورهم الوضيء، فعيشهم عيش الملوك، بل أحلى، ودينهم دين الملائكة.

 

أي شيطان لئيم قاد خطا الجموع الشاردة عن منهج الله إلى هذا الجحيم.

 

لقد فسدت الأرض بالبعد عن الإسلام، وأسنت الحياة، وتعفنت قيادات الفكر من العمالقة الدجاجلة، والقمم الشامخة الزائفة، وذاقت البشرية الويلات من قيادات الفكر المتعفنة و"ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس "، وكانت النكبة القاصمة لما نحي الإسلام عن الحياة، وتطاول عليه الرعاع والغوغاء ممن يسمونهم قادة الفكر وأعلام الأدب

 

 

.والصحافة وأهل الحداثة من التنويريين الإرهابيين التقدميين أعداء الإسلام الظلامي الذين تطاولوا على الله وسخروا من دينهم وأنكروا وتنكروا لكل معلوم من الدين بالضرورة، وارتفعت لهم راية وصوت، ونجحت عصابة المضللين الخادعين أعداء البشرية.
ارتقوا -كما يزعمون- في الإبداع المادي، وارتكسوا في المعنى الإنساني وذاق الغافلون على أيديهم القلق والحيرة والضياع، والشك.
عناد وجحود فكانت الشقوة النكدة، والخواء القاتل، والضياع الذي ما بعده ضياع.
جهل الدجاجلة من القمم الشوامخ ورواد الفكر أن هذه البشرية -وهي من صنع الله- لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده سبحانه، وقد جعل الله في الإسلام مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}.
* وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} ولكن هؤلاء لا يريدون أن يردوا القفل إلى صانعه .. بل تطاولوا على هدي الإسلام وتطاولوا على الوحي المنزل من السماء، وتطاولوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى سنته وشريعته، وتطاولوا على تاريخ الإسلام والصحابة، ووجهوا وجهتهم قبل الغرب.
يرمرم في فتات الغرب قوتا ... ويشرب من كئوسهم الثمالة
يقبل راحة الإفرنج دوما ... ويلثم دونما خجل نعاله
وأتى شعرهم وأدبهم بكل قبيح وبكل رذيلة وبكل دمار.
ومن الغرائب أن هذا رائج ... تغدو به صحف النفاق وترجع  وله من العشاق ألف قبيلة ... وله من الأبواق جيش مقزغ
يجثو بأحضان الكبار مؤربا ... وإذا مشوا أومت إليه الأصبع
إن شرقوا فالشرق أقدس قبلة ... أو غربوا فالغرب نعم الموضع
يجري مع التيار يعرف طبعه ... وعلى لحون العازفين يوقع
يمضي إلى المأوى الحرام ملبيا ... ويؤم حانات المساء ويكرع
هل يستوي الشعران: شعر مؤمن ... ومدجج بالكفر لا يتورع؟!
هل يستوي البحران هذا ماؤه ... عذب وذاك الآسن المستنقع؟! (١)
ولله در العشماوي حين يقول فيهم:
كم شاعر جعل الإلحاد منهجه ... تواثبوا نحوه بالشوق واعتنقوا
ساروا وفي دربهم وحل فإن وقفوا ... غاصوا وإن حركوا أقدامهم زلقوا
أبناء جلدتنا لكنهم هجروا ... وأهل ملتنا لكنهم مرقوا (٢)
لقد مسخوا عقل الأمة وضميرها وفكرها ويومها ومستقبلها وأضاعوا شباب الأمة ووقعوا في التيه الكبير .. لقد قالوا في الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - ما يستحي منه كبار الشياطين وزعموا أن الأديان من نبت الأرض، وأن القرآن من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا فصل الإسلام ومنهجه عن الحياة فصلا تاما، فتصدت لهم الأقلام المتوضئة.
كتائب الأحرف البيضاء قادمة ... يزفها قلم يزهو به ورق
صهيله قلم يصغي الزمان له ... ونقعه لحجاب الشمس يخترق
وسرجه كلمات لا يخالطها ... زيف ولا يرتمي في حضنها نزق
مسافر والأماني البيض لاهثة ... وراءه وبحار الشوق تصطفق
* وهذا لون من أشرف أنواع الجهاد قال الله تعالى لنبيه: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} [التحريم: ٩].
فلا يترك دجاجلة الفكر، والعناصر المفسدة الجائرة الظالمة تهاجم إله الكون والإسلام والشرع من داخل مجتمع المسلمين دون أن يتصدى لهم أهل الله -وحواريو الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذين يذبون عن الوحي والسنة .. فهذا أخص أنواع الجهاد، فجهاد الكفار بالسيف والسنان، وجهاد الزنادقة والذين يطعنون في الإسلام يكون بالقلم واللسان، وهو جهاد الخاصة يردون الشبه في وجوه الكالحين الكارهين للإسلام الكريهين، المبغضين للإسلام البغيضين .. الفاسدين المفسدين قال تعالى عن القرآن: {وجاهدهم به جهادا كبيرا} فاللهم اكتب لنا بجمعنا هذا نصيبا من هذ الجهاد وارزقنا فيه النية الصادقة.
إن هذا الجمع لسحق كل نابح ناعق يتطاول على الإسلام، ولسحق كل حية وأفعى تبث السم في الدسم، ولفضح كل دجال وكل مهرج من الحواة.
نعلم أن الرفعة كل الرفعة في اتباع هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأن الذلة كل الذلة في المحادة لله ورسوله وإن قال عنهم الناس أنهم القمم الشوامخ وعمالقة الأدب والفكر وأساتذة الأجيال وعرابو الحداثة والقومية والشعوبية قال تعالى: {إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم .. } الآية إلى قوله: {إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين} [المجادلة: ٥: ٢٠].
فلكل محاد كبت وقهر وذل ومهانة جزاء التبجح والجحود - وهذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لا بد أن يكون على الرغم مما قد يبدو أحيانا من الظاهر الذي يخالف الوعد الصادقإن المؤمن لا يخالجه شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لا بد أن تظهر في الوجود، وأن الذين يحادون الله ورسوله هم الأذلون وأن الله ورسوله هم الغالبون. وأن هذا هو الكائن ولا بد أن يكون، ولتكن الظواهر غير هذا ما تكون! .. هذا في الدنيا أما في الآخرة فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين ثم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة" (١) اقرءوا إن شئتم: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا}.
هؤلاء الذين تكبروا على الله ورسوله وشرعه مآلهم كما ورد عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال" (٢).
فيا أمثال الذر اخسئوا فلن تعدوا قدركم. يا من تزدحم أنفسكم باللدد والخصومة لله ورسوله وشرعه مهما أتقنتم الدجل والكذب والتمويه والدهان فإن الله سيفضح نياتكم وسيراها الناس في محيا وجوهكم .. إن الناس فترة من الزمان خدعها منكم زلاقة اللسان، ونعومة الدهان ثم كشف الله ما تخفي سرائركم، وما عاد الناس ينخدعون بظواهركم بعد أن ثاب الناس إلى ربهم وعادوا وتمسكوا بهدي نبيهم.
* قال تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله. الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} [الرعد: ١٧] هذا هو وحي السماء إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يلم في طريقه غثاء، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان، هذا الزبد نافش راب منتفخ .. ولكنه بعد غثاء .. والماء من تحته سارب ساكن هادئ .. ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة، .. كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة، أو آنية أو آلة نافعة للحياة فإن الخبث يطفو، وقد يحجب المعدن الأصيل، ولكنه بعد خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء ..
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا ولكنه بعد زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة له ولا تماسك فيه .. والحق يظل هادئا ساكنا، وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار، أو ضاع أو مات .. ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح ينفع الناس.
كذلك يضرب الله الأمثال، وكذلك يقرر مصائر الدعوات، ومصائر الاعتقادات ومصائر الأعمال والأقوال.
* قال تعالى: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب} [الرعد: ١٩].
فالعمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح.
إنه ليس أشقى على وجه الأرض من هؤلاء الدجاجلة الذي حرموا طمأنينة الأنس بالله، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون؛ لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله.   .  . خالق الكون.
ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء؟ ولم يذهب؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة، يشق طريقة في الحياة فريدا وحيدا شاردا في فلاة بعد أن بعد عن هدي السماء.
* قال تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} [الإسراء: ٨١].
جاء الحق بقوته وصدقه وثباته، وزهق الباطل واندحر وذهب الدجاجلة من أساتذة الجيل الزائفين إلى مزابل التاريخ، فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت، ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق.
إنها حقيقة لدنية {إن الباطل كان زهوقا} وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة، فالباطل ينتفخ وينتفج وينفش؛ لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة، ومن ثم يحاول أن يموه على العين، وأن يبدو عظيما كبيرا ضخما راسخا، ولكنه هش سريع العطب، كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليا ثم تخبو سريعا وتستحيل إلى رماد؛ بينما الجمرة الذكية تدفئ وتنفع وتبقى، وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء.
* قال تعالى: {إن الباطل كان زهوقا} .. لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته، إنما يستمر حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية؛ فإذا تخلخلت تلك العوامل، ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار، فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده، وقد تقف ضده الأهواء والظروف والقوى، ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى، ويكفل له البقاء؛ لأنه من عند الله الذي جعل "الحق "من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول.
* قال تعالى: {إن الباطل كان زهوقا} ومن ورائه شياطين الإنس والجن، فوعد الله أصدق وسلطان الله أقوى، وما من مؤمن ذاق طعم.   الإيمان، إلا وذاق معه حلاوة الوعد، وصدق العهد، ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن أصدق من الله حديثا؟
وفي القرآن والإسلام شفاء ورحمة، شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة، فهو يصل القلب بالله، فيسكن ويطمئن، ويرضى فيستروح الرضا من الله والرضا عن الحياة؛ والقلق مرض، والحيرة نصب، والوسوسة داء، ومن ثم فهو رحمة للمؤمنين.
وفي الإسلام شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير ممن سنعرض نماذج منهم شطوا وبالغوا في شططهم وشطحهم، وهم في الدنيا مغلوبون من أهل هذا القرآن .. مغلوبون من أهل الله قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين" (١).
والمسلم ذو نسب عريق، ضارب في شعاب الزمن، وعقيدة الإسلام هي وطنه وهي قومه، وهي أهله، ومن ثم يتجمع الطيبون الطاهرون القانتون العابدون عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج.
إن المسلم واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}.
* ويبقى الميزان الدقيق للإيمان في النفوس قال تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم
جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} [المجادلة: ٢٢].
فلله در من وقف تحت راية الحق والعقيدة .. لا نسب ولا صهر، ولا أهل ولا قرابة، ولا وطن، ولا جنس، ولا عصبية ولا قومية .. وإنما الإسلام والإسلام فقط "إنه الإسلام أمي وأبي "حين تكون المحادة لله ولرسوله تنبت كل الوشائج من أرض وجنس ووطن ولون وعشيرة ونسب وصهر إذا انبتت الوشيجة الأولى وشيجة الإسلام .. فالولاء لله ولرسوله .. وما نرضى بغير كتابة الإيمان من الرحمن فى قلوب اشتاقت إلى الأنهار والجنان وقد ذكرت في جمعي رموزا وعمالقة وقمما زائفة منهم من تزندق وتطاول وأتى بالكفر البين، ومنهم من انحرف عن الجادة كثيرا، ومنهم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا وهو بهذا الخلط يموه على عوام المسلمين فأغلظنا القول لمن تزندق ومرق غيرة على ديننا فهو أحب إلينا من ذواتنا من ذواتنا.
أدافع عن دين عظيم وهبته ... عطاء مقل مهجتي وفؤاديا
نحمله في شغاف قلوبنا وحبات أعيننا نشرف بحمله.

وقد بينت في جمعي هذا زيف الدجاجلة، وبسطنا القول في بيان باطلهم والرد عليهم مما جمعناه وأطلنا فيه النفس من الغيورين على دينهم كالأستاذ أنور الجندي الذي يحتوي جمعي هذا الكثير والكثير من ترجمته لأهل الباطل والرد عليهم وعزوت إليه كلامه، فإن من بركة العلم عزوه إلى قائله، رحمه الله وشكر الله له وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" (١).  .وهناك وقفة هامة لا بد من بيانها أنا لا نقطع لمعين من المسلمين بالنار إلا من حدده الشارع وأن هناك فرق كبير بين كفر النوع وكفر العين، وأنه ليس من قصد الحق كمن تعمد قصد الباطل- فمن بين هذه التراجم من يصدق عليهم القول {هم العدو فاحذرهم} وهناك منهم من دافعوا عن الإسلام في بعض الميادين وتصدوا لشانئيه ولكنهم في ميدان آخر شطوا فكان لا بد من بيان خطئهم كمحمد عبده، والعقاد، ومحمد عمارة، ومحمد إقبال .. وعسى أن يمتد العمر بالمرء فيضعهم كلهم في هذا الفصل "إسلاميون ولكن"فالله وحده يعلم في أي ظرف يخرج هذا الكتاب.

ولقد أحلنا على المراجع قدر الطاقة وأقسم بالله أني ما أتيت بكلمة إلا من كلام الثقات وأحلت إلى المصادر مثل ترجمة عرابي فقد ذكرت مواقفه الموجودة في ثبت المصادر والمراجع كقول الشيخ محب الدين الخطيب والدكتور محمد محمد حسين والشيخ الجنبيهي وهو من كبار علماء الأزهر ..
اللهم وأنت العليم بالنيات .. أجعل هذا العمل وهذا الجمع كله خالصا لوجهك الكريم فما كان لك يا مولاي سيبقى وما كان لغيرك يضمحل ويفنى.
اللهم وارزقني ثواب المجاهدين الذين يذبون عن شرعك ودينك وارزقني الغيرة على إسلامك وهدي نبيك - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم استرني بالعافية، واعصمني بهدي نبيك، اعصمني واحرسني بعينك التي لا تنام.
يا حي يا قيوم برحمتك استغيث فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ..
اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت.
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات.   والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
اللهم صل على محمد وآله وارزقني أفضل الشهادة في سبيلك، وارزقني أعالى الجنان وجوار نبيك - صلى الله عليه وسلم - واجعل لي في قلوب المؤمنين ودا ولا تجعل الحياة علي نكدا ..
اللهم اجعل كل أنفاسي وقفا على الذب عن دينك، واحفظني بالإسلام واقفا، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، ولا تشمت بي عدوا حاسدا.
اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه.
اللهم إني أسالك لذة العيش بعد الموت وحسن النظر إلى وجهك الكريم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه
العفاني
***
 هم العدو فاحذرهم
* هم العدو فاحذرهم:
لا بد من إعادة النظر في تقويم الرجال من منظور الإسلام، والإسلام فقط، لا نريد أن ننقص من قدر أحد، ولكننا كما يقول الدكتور محمد محمد حسين -رحمه الله-: "لا نريد أن تقوم في مجتمعنا أصنام جديدة معبودة لأناس يزعم الزاعمون أنهم معصومون من كل خطأ، وأن أعمالهم كلها حسنات لا تقبل القدح والنقد، حتى إن المخدوع بهم والمتعصب لهم والمروج لآرائهم ليهيج ويموج إذا وصف أحد الناس إماما من أئمتهم بالخطأ في رأي من آرائه، في الوقت الذي لا يهيجون فيه ولا يموجون حين يوصف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لا يقبلون أن يوصف به زعماؤهم المعصومون" (١).
إن ضرب أسوار القداسة حول الكبار -كما يقولون- أخطأوا أم أصابوا إنما هو خيانة فكرية للأمة بأسرها وتزييف لهالات التقديس التي يحاطون بها من حملة القماقم أو خبثاء الطوايا، وهذا ما يؤدي حتما إلى إعادة فتح الملفات فور زوال العمى عن البصائر وبمجرد انحسار هالات المجد التي كان يعيشها الكبار من قبل.
إن الرجل يستطيع أن يعمي على من في الأرض ولكن لا يستطيع أن يعمي على ملك الملوك .. ومن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله الستر بينه وبين المخلوقين وكشف للناس عواره، ومن خان أول منعم عليه

 

وهو الله يخون أمته بأسرها، فلزام على الأقلام المتوضئة أن تبين دجل هذه القمم وعوارهم وغشهم لأمتهم، ونقول لكل من يحاول الرفع من شانهم {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة}.
 
* محمد علي باشا مؤسس العلمانية بمصر الحديثة:

 

"كتب الشيخ محمد عبده في المنار ١٩٠٢/ ١٣٢٢ هـ بمناسبة مرور مائة سنة على تأسيس ملك هذه الأسرة قال:
إن لمحمد علي ثلاثة أعمال كبيرة كان كل منها موضع خلاف نافعا كان أو ضارا بالمسلمين في سياستهم العامة:
١ - تأسيس حكومة مدنية في مصر (أي علمانية) كانت مقدمة لاحتلال

 

الأجانب لها.
٢ - قتاله للدولة العثمانية بما أظهر به للعالم كله ولدول أوربا خاصة ضعفها وعجزها وجرأهم على التدخل في أمور سياستها.

 

٣ - مقاتلة الوهابية والقضاء على ما نهضوا به من الإصلاح الديني في جزيرة العرب مهد الإسلام ومعقله.
* وكتب الشيخ محمد عبده في العدد التالي مقالة بإمضاء مؤرخ قال:
هذا يعني أن محمد عبده ومدرسته لا ينسون مساوئ محمد علي في نسخ الأحكام الشرعية وإعلانه -العلمانية- في مصر، وهو أول من تجرأ في العالم الإسلامي على استبدال القوانين الأوربية بالشريعة الإسلامية، ولا ينسون قتاله لخليفة المسلمين مما يعد حرابة، ولا ينسون قضاءه على دولة السعوديين العربية المسلمة المصلحة السلفية، ولا ينسون أن (توفيقا) هو الذي تآمر على ثورة عرابي واستدعى الانجليز لاحتلال مصر واحتمى بجيشهم .. " (١).
قال الشيخ محمد عبده:
"ما الذي صنع محمد علي؟ .. لم يستطع أن يحيي ولكن استطاع أن يميت. كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش ويحز آخرا على من كان معه أولا وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه، وهكذا. حتى إذا سحقت الأحزاب القوية وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يدع منها رأسا يستتر فيه ضمير (أنا). واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلا لجمع السلاح من الأهلين. وتكرر ذلك منه مرارا حتى فسد بأس الدين. وزالت ملكة الشجاعة منهم. وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها، فلم يبق في البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه.
أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه عن أصله الكريم، حتى انحط الكرام، وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي، ليصير البلاد المصرية جميعا إقطاعا واحدا له ولأولاده، على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة ".
ثم يقول:
"إن محمد علي قد ملأ مصر بالأجانب والدخلاء، يستعين بهم على إقرار نفوذه، وأذل المصريين بإطلاق يد هؤلاء الدخلاء فيهم، يحكمون على هواهم، لا هدف لهم إلا مرضاة الأمير صاحب الإقطاع الكبير".

ثم ينفي عنه ما ينسب إليه من إصلاح، بل ينسب إليه قتل كل روح.  للشهامة أو النخوة في مصر، مما ظهر أثره عند غزو الإنكليز لها، فيقول:

"حمل الأهالي على الزراعة، ولكن ليأخذ الغلات. ولذلك كانوا يهربون من ملك الأطيان كما يهرب غيرهم من الهواء الأصفر والموت الأحمر، وقوانين الحكومة لذلك العهد تشهد بذلك.
يقولون إنه أنشأ المعامل والمصانع. ولكن هل حبب إلى المصريين العمل والصنعة حتى يستبقوا تلك المعامل من أنفسهم؟ .. وهل أوجد أساتذة يحفظون علوم الصنعة وينشرونها في البلاد؟ .. أين هم؟ .. ومن كانوا؟ .. وأين آثارهم؟ .. لا .. بل بغض إلى المصريين العمل والصنعة بتسخيرهم وفي العمل والاستبداد بثمرته. فكانوا يتربصون يوما لا يعاقبون فيه على هجر المعمل والمصنع لينصرفوا عنه ساخطين عليه، لاعنين الساعة التي جاءت بهم إليه.
يقولون إنه أنشأ جيشا كبيرا فتح به المالك ودوخ به الملوك. وأنشأ أسطولا ضخما تثقل به ظهور البحار، وتفتخر به مصر على سائر الأمصار، فهل علم المصريين حب التجند، وأنشأ فيهم الرغبة في الفتح والغلب، وحبب إليهم الخدمة في الجندية، وعلمهم الافتخار بها؟ .. لا .. بل علمهم الهروب منها، وعلم آباء الشبان وأمهاتهم أن ينوحوا عليهم معتقدين أنهم يساقون إلى الموت بعد أن كانوا ينتظمون في أحزاب الأمراء ويحاربون ولا يبالون بالموت أيام حكم المماليك .. هل شعر مصري بعظمة أسطوله أو بقوة جيشه؟ وهل خطر ببال آحد منهم أن يضيف ذلك إليه، بأن يقول: هذا جيشي وأسطولي، أو جيش بلدي وأسطوله؟ .. كلا .. لم يكن شيء من ذلك .. فقد كان المصري يعد ذلك الجيش وتلك القوة عونا لظالمه، فهي قوة لخصمه.

ظهر هذا الأثر عندما جاء الإنكليز لإخماد ثورة عرابي. دخل الإنكليز.  ..مصر بأسهل ما يدخل به دامر على قوم (١). ثم استقروا ولم توجد في البلاد نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها. وهو ضد ما رأيناه عند دخول الفرنساويين في مصر. وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى والموت الأخير، وجهله الأحداث فهم يسألون أنفسهم عنه ولا يهتدون إليه".

وعند ذلك يبلغ محمد عبده قمة العنف والهياج، وقد أوشك أن يختم مقاله فيقول:
"لا يستحي بعض الأحداث من أن يقولوا أن محمد علي جعل من جدران سلطانه بنية من الدين. أي كان دعامة للسلطان محمد علي؟ .. دين التحصيل؟ .. دين الكرباج؟ .. دين من لا دين له إلا ما يهواه ويريده؟ وإلا فليقل لنا أحد من الناس: أي عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة الدين الإسلامي الجليل" (٢).
وانظر إلى المقال الذي هاجم فيه رشيد رضا (٣) محمد علي لتعرف أي صنف من الرجال كان محمد علي .. وتعال معي إلى بسط في سيرته.
"يقول توينبي أن مصر بدأت تتجه نحو الاصطباغ بالصبغة الأوروبية منذ أيام محمد علي متفوقة على تركيا (٤) كما يرى جب أنها سبقت تركيا في ذلك" (٥).

 

 

.يكن يخطر على بال الجبرتي من الأعمال وأضعاف أضعاف ما انتقده عليه، وسجله في تاريخه.
ونحن بعد ذلك نومئ إيماءات سريعة لضيق المقام. فمن ذلك بيعه للغلال والحبوب إلى الإنجليز وغيرهم من الإفرنج حتى شحت الغلال وغلت الأسعار وخلت منها الأسواق، بل أمر بمداهمة البيوت والدور لكبس الأقوات المدخرة، بدون ثمن (١) لسوقها إلى الكفار الإنجليز الذين كانت تجوب أساطيلهم البحار لضرب المسلمين والتربص ببلادهم، والاستعداد للاستيلاء عليها. وأحدث مكوسا جديدة، وفرض ضرائب باهظة، حتى لقد ارتفعت الأسعار بشكل عظيم، وزاد ثمن كثير من البضائع إلى أكثر من عشرة أضعاف ثمنها (٢).
وحل الكرب والضيق بالمسلمين، وأوذوا في معاشاتهم وأرزاقهم إيذاء عظيما (٣).
وإن كان من ذكرنا من بكوات مصر قد ركنوا إلى بعض النصارى، واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين، فإن محمد علي كان قد اعتاد أن يكون. .أغلب المحيطين به من النصارى واليهود (١)، الذين قد تغلغلوا في حكومته وبلاطه، خصوصا نصارى الأرمن من أعداء الملة الذين هم خاصته وجلساؤه وأهل مشورته، وشركاؤه في اختلاس أموال الدولة ونهب خيراتها، والذين ليس لهم شغل إلا فيما يزيد مكانتهم وحظوتهم عند مخدومهم وموافقة أغراضه، وتحسين مخترعاته، وربما ذكروه ونبهوه على أشياء تركها أو غفل عنها من المبتدعات، وما يتحصل منها من المال والمكاسب (٢).
وقد أظهر الجبرتي -رحمه الله- ألمه وتأسفه لما وصل إليه حال الكفار، والمكانة التي تبوءوها في عهد محمد علي وأنهم صاروا أعيان الناس، ويتقلدون المناصب الرفيعة ويلبسون ثياب الأكابر، ويركبون البغال والخيول المسومة والراهوانات وأمامهم وخلفهم العبيد والخدم، وبأيديهم العصي يطردون الناس ويفرجون لهم الطرق (٣)، ويتسرون بالجواري بيضا وحبوشا، ويسكنون المساكن العالية الجليله يشترونها بأغلى الأثمان.
ومنهم من له دار بالمدينة ودار مطلة على البحر للنزهة، ومنهم من عمر له دارا، وصرف عليها ألوفا من الأكياس، وكذلك أكابر الدولة لاستيلاء كل. من في خطه على جميع دورها، وأخذها من أربابها بأي وجه، وتوصلوا بتقليدهم مناصب البدع (١) إلى إذلال المسلمين؛ لأنهم يحتاجون إلى كتبة وخدم وأعوان والتحكم في أهل الحرفة بالضرب والشتم والحبس من غير إنكار، ويقف الشريف والعامي بين يدي الكافر ذليلا (٢).
ومن البديهي بعد أن قد أحاط محمد علي نفسه ببطانة من اليهود والنصارى، أن يعتمد عليهم كثيرا، وأن يسند إليهم عددا كبيرا من المناصب الهامة في الدولة، ومع ذلك فلولا خوفه وخشيته من إثارة المسلمين وتألبهم عليه لاعتمد عليهم بالكلية ولأسند إليهم جميع المسئوليات والناصب دون مواراة.
وهذا ما عبر عنه محمد علي بنفسه حين هلك كاتب الخزينة في عهده وكان رجلا نصرانيا يدعى عبود النصراني، وكان محمد علي يحبه ويثق فيه ويقول عنه: لولا الملامة لقلدته الدفتردارية (٣).
والملامة التي كان يخشاها محمد علي هي جزء من بقايا هذه العقيدة الطيبة في نفوس المسلمين من بغض للكفار ومعاداتهم تجعل الباشا المفتون بهؤلاء الكفار يتوقف بعض الشيء في ولائه السافر لهم، وفي نقل خطوات مسيرته التغريبية بالأمة (٤).
ومع ذلك فإن هؤلاء الكفار كانوا يشكلون مراكز الثقل في دولة محمد علي، وخصوصا في المجالات المهمة كالشئون المالية والتعليمية والعسكرية،.   ولئن كان الدفتردار ليس واحدا منهم (١). فإن جميع الوظائف المالية الأخرى تقريبا قد احتكرها النصارى وغيرهم. فقد مر معنا أن كاتب الخزينة كان نصرانيا، وكذلك فإن جميع الكتبة والصيارفة كانوا من النصارى أيضا.
أما وزارة الخارجية فطبيعي جدا أن تكون من نصيب النصارى حيث العلاقات كانت قائمة على أشدها مع الدول الأوربية وقد أسند هذا المنصب الهام إلى وزير أرمني يدعى باغوص بك الأرمني (٢).
أما إدارة الجمارك وهي من الوظائف المهمة فقد كان يرأسها رجل نصراني له أعوان وجند كما يقول الجبرتي يحجزون أمتعة الناس، ويقبضون على المسلمين، ويسجنونهم، ويضربونهم حتى يدفعوا ما عليهم، ومن العجب على حد قوله أن بضائع المسلمين يؤخذ عشرها وبضائع الإفرنج والنصارى ومن ينتسب إليهم يؤخذ عليها من المائة اثنان ونصف (٣).
وما دام أن رئيس الجمارك نصراني حقود فلا نعجب بعد ذلك من التفاوت المذهل في أخذ الرسوم على الواردات من البضائع بين المسلمين وغيرهم. حيث يؤخذ على المسلمين من الرسوم أربعة أضعاف ما يؤخذ على غيرهم من كفار العالم.
٥. ٢% إلى ١٠% تفاوت ظالم، وربما كان ذلك تأليفا للوافدين من التجار كما فعل الباي!! وعلى أي حال فلا يعدو ذلك المثال عن كونه واحدا من الأمثلة الصارخة على استهانة محمد علي بعقيدة الولاء والبراء وعدم.  تقديره لها.
وقد أصبحت مصر في عهد محمد علي وبالذات القاهرة محط نزول الكافرين من كل جنس، وذلك باستدعائه لكثير منهم، وفتحه المجال أمام استثماراتهم وتجاراتهم، مما جعل البلد تضيق بالسكان، وتغص بالقادمين من الكفار الذين ضايقوا المسلمين في معايشهم حتى إن الإنسان ليقاسي الشدة والهول إذا مر بالشارع من الازدحام الشديد، وبالإضافة إلى طوائف اليهود والنصارى فقد استدعى أعدادا غفيرة من الدروز والمتاولة والنصيرية وغيرهم من الفرق الخارجة عن الإسلام (١)
وحق لمدينة مثل القاهرة التي لم يكن يتجاوز طولها في ذلك الوقت الخمسة كيلو مترات أن تكتظ بهؤلاء الكافرين الذين تسابقوا إليها من كل حدب وصوب.
وفي تلك الفترة التي نقوم بدراستها كانت تكثر الاضطرابات، وتشيع الفتن والمصادمات، خصوصا بسبب ثورات العسكر المتلاحقة لقطع المرتبات وغير ذلك، وكان الشعب هو الضحية لتلك الثورات المحمومة.
وفي إحدى تلك الثورات العسكرية التي نهبت فيها الأسواق، وحطمت خلالها الحوانيت. أراد المسلمون في أثنائها أن يحصنوا بعض الحارات النافذة ويقوموا بإغلاقها حتى يقطعوا الطريق على جموع العساكر الهائجة ولكن كتخدا الباشا (٢) منعهم من ذلك، في نفس الوقت الذي كان محمد علي يمد فيه النصارى بالبارود وآلات الحرب، بعد أن أتموا تحصين جهاتهم على أكمل وجه (٣)، وهذه الواقعة تغني عن أي تعليق، وتدل على مدى العلاقة المريبة.في الخفاء بين محمد علي ونائبه من جانب وبين النصارى من جانب آخر.
وحين قام محمد علي بإجراء واسع النطاق لهدم الدور والمساكن التي بها شيء من الخلل، كانوا يأمرون صاحب البيت الذي تم الكشف عليه بهدمه ثم تعميره، وإن كان يعجز عن ذلك فإنه يؤمر بإخلائه، ويعاد بناؤه على طرف الميري (١) وتصير من حقوق الدولة فهدمت مئات الدور التي كان يملكها أو يسكنها المسلمون.
أما النصارى فلنستمع إلى كلمة الجبرتي في ذلك حيث قال: وأما نصارى الأرمن وما أدراك ما نصارى الأرمن الذين هم أخصاء الدولة الآن فإنهم أنشؤوا دورا وقصورا وبساتين بمصر القديمة .. فهم يهدمون أيضا وينقلون لأبنيتهم ما شاءوا ولا حرج عليهم، وإنما الحرج والمنع والحجر والهدم على المسلمين من أهل البلدة فقط (٢).
وعندما تولى الحسبة رجل يدعى مصطفى كاشف أراد أن يعيد الكفار إلى حالتهم التي كانوا عليها قبل مجيء محمد علي إلى سدة الحكم، فأمر مناديه بمصر القديمة أن ينادي على نصارى الأرمن والأروام والشوام بإخلاء البيوت التي عمروها وزخرفوها وسكنوا بها والمطلة على النيل، وأن يعودوا إلى زيهم الأول من لبس العمائم الزرق، وعدم ركوبهم الخيول والبغال

 

 

والراهوانات الفارهة واستخدامهم المسلمين.
ولكن محمد علي قطع الطريق على هذا الإصلاح، وأمر بكف هذا المحتسب بعد أن تم زجره وتأنيبه، وذلك بعد أن تقدم أعاظمهم إليه بالشكوى وهو يراعي جانبهم لأنهم صاروا أخصاء الدولة وجلساء الحضرة وندماء الصحبة كما يقول الجبرتي (١).
ويمتد حبل الموالاة والمودة للكافرين في عهد محمد علي إلى شيء آخر له خطورته البالغة، وهو فتحه البلاد على مصراعيها لأفواج النصارى الصليبيين للبحث والتنقيب، واكتشاف الآثار، ودراسة الأماكن دراسة دقيقة بل ومساعدته لهم وتذليله الصعاب في طريقهم (٢).
وإذا تجاوزنا هدفهم الرئيسي لتلك العمليات والتنقيب، وهو وضع أيديهم على مراكز الثروة، ودراستهم للمواقع دراسة تخطيطية، مما أفادهم ولا شك في احتلال مصر فيما بعد عام ١٨٨٢ م خصوصا إذا علمنا أن كثيرا من هؤلاء المنقبين كانوا من الإنجليز.
فإن هناك أهدافا أخرى قد تفوق ما ذكرناه خطورة لم يفطن لها كثير من الباحثين وندع الكلام لأحد المستشرقين ليكشف لنا هذه الأهداف البعيدة.
يقول ذلك المستشرق في كتابه "الشرق الأدنى؛ مجتمعه وثقافته": "إننا في كل بلد إسلامي دخلناه، نبشنا الأرض لنستخرج حضارات ما قبل الإسلام، ولسنا نطمع بطبيعة الحال أن يرتد المسلم إلى عقائد ما قبل الإسلام، ولكن يكفينا تذبذب ولائه بين الإسلام وبين تلك الحضارات .. " (٣).
وعلى ضوء ما سبق من أهداف نستطيع أن نفسر اهتمامات هؤلاء.  النصارى بشق البلاد طولا وعرضا، وإنفاقهم الأموال الطائلة في كشف الآثار وتعريتها بدءا بالفرنسيين ثم بالإنجليز الذين ساروا على خط واحد في تنفيذ هذه الأهداف الخبيثة (١).
يقول الشيخ محمد قطب: "ولكن المخطط الخبيث الذي حمله الصليبيون معهم وهم يجوسون خلال الديار كان هو نبش الأرض الإسلامية لاستخراج حضارات ما قبل التاريخ لذبذبة ولاء المسلمين بين الإسلام وبين تلك الحضارات، تمهيدا لاقتلاعهم نهائيا من الولاء للإسلام " (٢).
وبذلك يكون محمد علي باشا قد ساعد هؤلاء الصليبيين فى تنفيذ مخططاتهم والوصول إلى أهدافهم بفتح البلاد لهم شرقا وغربا يجوبونها بحرية تامة.
ويذكر الشيخ محمد قطب أن فرنسا قد احتضنت محمد علي احتضانا كاملا لينفذ لها كل مخططاتها حيث أنشات له جيشا مدربا على أحدث الأساليب ومجهزا بأحدث الأسلحة المتاحة يومئذ وكان ذلك بإشراف سليمان الفرنساوي، وأنشات له أسطولا بحريا حديثا وترسانة بحرية في دمياط،.  . . وأنشأت له القناطر الخيرية لتنظيم عملية الري في مصر، وكل ذلك كما يقول الشيخ ليس حبا في شخص محمد علي أو حبا في مصر، وإنما كان ذلك لتنفيذ المخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بعد أن اضطرت للرحيل، وكان ذلك المخطط الخبيث يرمي إلى عدة أمور منها: القضاء على الدولة العثمانية، والقيام بتغريب العالم الإسلامي عن طريق تغريب مصر - بلد الأزهر (١).
وقد قام محمد علي بالدور خير قيام! فإن الجيش الذي صنعته له فرنسا، وقام بتدريبه سليمان باشا الفرنساوي قد استخدمه محمد علي لا فى محاولة الاستقلال عن الدولة العثمانية فحسب، بل في محاربة الدولة نفسها! وقد كاد أن يقضي عليها لولا تدخل بريطانيا خوفا من استئثار فرنسا بصداقة السلطان وبالنفوذ في مصر، وفي الوقت نفسه لتخدم الهدف العام للصليبية بطريقة أخرى؛ فقد أوقفت بريطانيا محمد علي عند حده في الظاهر، ومنعته من مهاجمة الدولة، وفي الوقت ذاته ضمنت له الاستقلال الفعلي عن الدولة، والاستئثار بحكم مصر حكما وراثيا ينتقل في ذريته، مع التبعية الإسمية للسلطان!! هذا بينما تجمعت أوربا الصليبية كلها لتحطيم محمد علي في معركة "نافارين"لأنه نسي نفسه وتجرأ على مهاجمة دولة صليبية هي اليونان، فقد كبرته الصليبية وسلحته لمحاربة الإسلام فقط، فإذا فعل ذلك فله كل العون، وأما إذا هاجت أطماعه لحسابه الخاص، فمس أحد الصليبيين بسوء، فهنا يجب تأديبه، بل تحطيمه تحطيما كاملا إذا لزم الأمر (٣).
على أن الجرم العظيم الذي تولى كبره محمد علي باشا هو قيامه بضرب الاتجاه الإسلامي السلفي في الجزيرة العربية تظاهرا بطاعة السلطان.  العثماني الذي فقد السيطرة على بلاد الحرمين الشريفين، واتخذ من ذلك ستارا لتنفيذ مخططات بريطانيا وفرنسا اللتين رأتا الوجود السعودي يشكل خطرا على مصالحهما، خصوصا في الخليج العربي والبحر الأحمر (١).
وقد كان على رأس تلك الجيوش التي وجهها محمد علي ضباط فرنسيون وبعض النصارى (٢).
وقد سرت فرنسا بذلك العمل الحربي المدمر، وكذلك بريطانيا وأبلغت فرنسا محمد علي عن طريق قنصلها في القاهرة أنها ممنونة مما رأته من اقتداره عن نشر أعلام التمدن في البلاد الشرقية (٣)، ومن ذلك بالطبع ضرب الاتجاه السلفي في الجزيرة العربية.
أما تغريب العالم الإسلامي فقد عمل محمد علي على تحقيقه بفرض سياستين تغريبيتين، كانت الأولى تقضي بابتعاث الطلاب الشبان وإرسالهم إلى أوربا ليتعلموا هناك.
وكان هذا -كما يقول الشيخ محمد قطب- أخطر ما فعله في الحقيقة .. لأنه من هناك بدأ "الخط العلماني"يدخل ساحة التعليم، ومن ورائه ساحة الحياة في مصر الإسلامية (٤)، وقد كان من هؤلاء المبتعثين الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي إمام إحدى البعثات وشيخها، والذي عاد حاصلا معه بذور التغريب والعلمنة كالدعوة إلى تحرير المرأة، وأخذ يسهم في زعزعة عقيدة الولاء والبراء بإغراقه في مديح أوربا الكافرة والثناء عليها في كتب كثيرة لعل من أبرزها كتابه في مدح باريس (٥) والذي قيل إنه أهداه إلى محمد.  علي فقبله باحترام. وقد بلغ عدد من أرسل من المصريين إلى سنة ١٨٤٢ م مائة تلميذ (١).
وقد كاد أن يتم إرسال أطفال بين الثامنة والتاسعة إلى أووبا، واشترط نوبار باشا وهو سكرتير إبراهيم باشا ولي عهد محمد علي ونجله الأكبر أن يفصل بعضهم عن بعض في المعيشة أو يوضع كل اثنين في غرفة صغيرة (٢).
ولكن هذا المخطط الخبيث أوقف تنفيذه بسبب هلاك إبراهيم باشا- حتى جاء الخديوي توفيق ونفذ ذلك المخطط وبدأ بإرسال نجليه الأميرين عباس حلمي ومحمد علي إلى سويسرا وكان عمر الأول اثنتي عشرة سنة والثاني عشر سنوات (٣).
أما السياسة التغريبية الثانية التي سار عليها محمد علي فهي إنشاء نظام تعليمي جديد على نسق الأنظمة التعليمية في الغرب.
يقول الدكتور أحمد عزت عبد الكريم: "ومهما يكن من شيء، فقد ظهر لمحمد علي أن التعليم في الأزهر لا يمكن أن يحقق أغراضه .. كما ظهر له أن التعليم الغربي أو التعليم الذي عرفته أوربا في عصره كان وحده الوسيلة لتحقيق أغراضه، وكان هذا كافيا ليحمل محمد علي أن يحول وجهه عن الأزهر و"الكتاتيب"وينشئ بجانبها "نظاما تعليميا"قائما بنفسه، مقتبسا من الغرب، وليس بينه وبين النظام التعليمي القديم إلا ما يكون بين نظامين.  يقومان جنبا إلى جنب ويتجاذبان تعليم نابتة البلاد (١).
وإلا فلو كان محمد علي مسلما حقا ولم يكن منفذا لأهداف الغرب ومخططاته لاتجه إلى إصلاح الأزهر والتعليم في عصره بردهما إلى الوضع الصحيح، ووضع كل إمكانياته التي استغلها في التغريب في سبيل ذلك الهدف الكبير.
ولكن محمد علي قد أصر على السير بالأمة في المضمار التغريبي المؤدي إلى الخياة الغربية وأساليبها وثقافتها، فقرر إنشاء نظام تعليمي كامل من المرحلة الابتدائية إلى المراحل العليا، وفتح المدارس على نمط المدارس الغربية.
وقد لجأ محمد علي إلى طريق الترجمة، حيث ترجمت كثير من الكتب في مختلف العلوم والقوانين العسكرية والبحرية، وقام بابتعاث الطلاب إلى هناك، واستقدام الأساتذة الأجانب إلى المدارس الجديدة التى أنشأها (٢).
على أن هناك هدفا خطيرا كان يرمي إليه محمد علي باشا من وراء إنشاء هذا النظام التعليمي الجديد ألا وهو إلغاء دور الأزهر في المجتمع ومن ثم القضاء عليه بصورة غير مباشرة، وذلك حين يقوم بفتح العديد من المدارس ذات المميزات العالية التي تؤهل الدارسين فيها لتبوؤ المناصب الهامة، والأعمال الرفيعة في دولة الباشا.
يقول الدكتور أحمد عزت عبد الكريم: "ولكن ابتعاد الأزهر عن مجال التوظيف أو عدم اتخاذه الأهبة لإعداد تلامذته بما يؤهلهم للحياة.   .وللمجتمع الذي يعيشون فيه لم يلبث أن باعد بينه وبين كثير من خاصة الناس وصرفهم عنه إلى حد كبير. فقد كانت المناصب التي يصيبها خريجو المدارس، والثراء والاحترام اللذان يحظون بهما في أنحاء البلاد من سواد الناس ومن إليهم .. كل أولئك كان يخلب ألبابهم ويستهويهم إلى المدارس التي تقدم لهم هذا كله" (١).
وهل يكون إلغاء دور الأزهر وتحجيم أنشطته إلا بصرفه عن مجالات التوظيف، أو على الأصح بصرف مجالات التوظيف عنه .. ؟ وقطع صلته بالحياة العامة .. ؟
وحين أنشأ محمد علي مدارسه الحديثة كان محتاجا إلى معلمين للغة
العربية ولم يكن هناك بالطبع غير الأزهر.
لذا فقد اتجه محمد علي إليه وأخذ منه ما يكفي مدارسه ومكاتبه من المعلمين، فكانوا فريقا هاما من موظفي المدارس (٢).
ولكن يا ترى كيف كانت معاملته لهؤلاء الأزهريين الذين أعوزته الحاجة إليهم وقاموا بدور كبير في تدريس اللغة العربية وفروعها. داخل المدارس التي أنشاها كما بشهد بذلك كل من كتب في التعليم في ذلك العصر .. ؟
يجيبنا على ذلك الدكتور أحمد عزت عبد الكريم فيقول: "وكانت الحكومة تعلم أنهم لم يكونوا يمنحون في الأزهر مرتبات كبيرة، ولهذا نراها تبخل عليهم بتلك المرتبات وترى أنهم إنما يقومون "بمقاصد خيرية"ثوابها عند ربهم!! فقد كان هناك مدرسون بل رؤساء مدرسين قضوا بمدارسهم اثنا عشر.  .عاما لا يصيبون من الحكومة إلا مائتي قرش في الشهر، وهو قدر ضئيل يناله خريج مدرسة خصوصية حديث العهد بالوظائف، ثم هي تبخل عليهم بعد هذا ببضعة قروش تضيفها إلى مرتباتهم.
أما مكاتب المبتديان (١) فقد كان نظارها من علماء الأزهر .. وكان المشايخ من الأزهر وما إليه هم القائمون بالتدريس في مكاتب المبتديان .. وكان مرتب الواحد منهم أربعين قرشا في الشهر أي بزيادة عشرة قروش على مرتب (الحلاق) أو الخياط .. وكان كاتب المكتب يصيب من المرتب أكثر مما يصيبه المعلم بعشرين قرشا وكان يحمل الحكومة على هذا ما ذكرنا من أنها كانت تعلم أن أهل الأزهر لم يكونوا يصيبون فيه إلا أجرا ضئيلا أن كانوا قوما زاهدين، لا يغرنهم متاع الحياة الدنيا" (٢).
وما ذكر من تبرير ساقط لا يمكن أن يخفي أبدا مقدار البغض والاحتقار الذي كان يكنه محمد علي للأزهر ورجاله.
وإن كان الإنجليز فيما بعد قد نهجوا نفس السياسة في احتقار الأزهريين وبخسهم مرتباتهم وحقوقهم، وفي إقصائهم عن مجالات التوظيف (٣).
فليس ذلك بمستغرب منهم، ولكنا نستغرب أشد الاستغراب أن يقوم.   .بمثل ذلك من يحسب على الإسلام والمسلمين، ويدعي الإسلام مثل محمد علي.
ولكن سرعان ما يزول هذا الاستغراب إذا عرفنا أن القائمين على التعليم في عهد محمد علي كان معظمهم من الغربيين النصارى، فمجلس شورى المدارس وهو الهيئة العليا للتخطيط والتنفيذ كان جميع أعضائه من الأجانب ما عدا ثلاثة.
على أن هناك أمرا تجدر الإشارة إليه حول ما ذكر من ضآلة الأجور والمرتبات في الأزهر والتي كان من أهم أسبابها قيام محمد علي بالاستيلاء على الأوقاف التابعة للأزهر وضمها للدولة، وبالتالي إحكام السيطرة على المشايخ والقائمين على التعليم من رجال الأزهر (١).
وحتى الكتاتيب التي تعلم القرآن الكريم والعلوم الأولية للناشئة من أبناء المسلمين، لم تنج من غائلة محمد علي؛ فقد ذكر الجبرتي -رحمه الله- أن كثيرا من المكاتب أغلقت بسبب تعطل أوقافها واستيلاء محمد علي عليها (٢).
وذكر الشيخ محمد عبده أن ما أبقاه محمد علي من أوقاف الأزهر والأوقاف الأخرى لا يساوي جزءا من الألف من إيرادها. وأنه أخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي إلى اليوم (في عهد الشيخ محمد عبده) لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرر له بدل ذلك ما يساوي أربعة آلاف جنيه في السنة (٣).   
هذه السياسة التغريبية التي نهجها محمد علي والمفروضة قهرا على المسلمين كانت تنفيذا للمخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب اضطرارها إلى الرحيل كما سبق وذكرنا.
وهو أمر أكده المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي في قوله: "كان محمد علي ديكتاتورا أمكنه تحويل الآراء النابليونية إلى حقائق فعالة في مصر" (٢).
وهل يشك باحث عاقل بعد كل هذه الحقائق التي أوردناها أن محمد علي كان صنيعة من صنائع الغرب وعميلا من عملائهم.
وسواء أكان وصوله إلى سدة الحكم نتيجة تخطيط صليبي أو على الأخص تخطيط فرنسي أو كان نتيجة لدهاء محمد علي ومكره ونفاقه أو كان للأمرين معا (٣)، فإن هذا كله لا يغير شيئا، ولا ينفي أن محمد علي قد احتوته الدول الغربية، وأخذت تقوده في ركابها، خصوصا وأن فيه من الصفات والخلال التي ينشدها المستعمرون دائما كجنون العظمة وغلظة القلب. 
وفظاظة الطبع ورقة الديانة أو عدمها (١).
وقد عمل محمد علي طوال سنوات حكمه على القضاء على عقيدة الولاء والبراء، واستخدام سياسة العسف والإرهاب والتنكيل في أنحاء مملكته لينتزع هذه العقيدة من قلوب المسلمين، ويقضي عليها قضاء مبرما (٢).
قال الرحالة الإنجليزي (كنغليك) الذي زار الشرق الإسلامي في الثلث الأخير من حكم محمد علي ١٢٥٢ - ١٢٥٣هـ (١٨٣٣ - ١٨٣٤م) غامزا الباشا المفتون، وذاكرا تبعيته للغرب وعدم استقلاله الكامل بإصدار القرار إلا بعد موافقة أسياده عليه.
يقول: "وبرغم وجود الجيوش المصرية الكثيرة فقد فهم كل فلاح (٣) أن أربعة أو خمسة من الوجوه الشاحبة في فيينا أو بطرسبورج أو لندن (٤) يمكن أن ينزلوا الباشا المصري من عليائه بمجرد ورقة يكتبون عليها حكمهم عليه. وكان علم الأهالي أن قوة محمد علي مستمدة من القائد الفرنسي وفنونه الحربية ومن المحركات والآلات الإنجليزية .. " (٥).
وقد قام ابنه إبراهيم باشا (٦) بإلغاء كافة القيود المفروضة على النصارى.  واليهود في كل بلد سيطر عليه تحت دعوى المساواة والحرية، وذلك في أثناء حكمه للشام من قبل أبيه، وقام بإعطاء النصارى امتيازات؛ ومن ذلك فتح محلات علنية لبيع الخمور في دمشق والسماح بحمل الصلبان وشرب الخمر في الشارع (١).
وعندما ذهب إليه نفر من علماء الشام يشكون إليه انقلاب الأوضاع ويبسطون أمامه ألمهم من استعلاء الذميين وركوبهم الخيل كالمسلمين لم يكن من إبراهيم إلا أن سخر منهم سخرية مرة وردهم كاسفي البال؛ إذ نصحهم أن يركبوا الجمال من اليوم حتى يصيروا أعلى من النصارى كافة؟ (٢).
وقد شمخ النصارى بأنوفهم، وأشرأبت أعناقهم خصوصا رجال الدين منهم في عهد محمد علي وابنه إبراهيم باشا؛ ومن ذلك أن بطريرك الروم مكسيموس في حلب وقت احتلال إبراهم باشا لها كان يدور أحيانا في شوارع حلب وهو راكب بأبهة زائدة وموكب حافل يتلقى المسلمون منه ذلك كارغام لهم وتعالي عليهم وقاصدا إهانتهم (٣).
أما اليهود فقد شملهم عطف الباشا، ونعموا بالحرية التي أطلقها لهم والامتيازات التي منحهم إياها.
وحادثة يهود صفد أوضح مثال على ذلك؛ يوم أن ثار المسلمون عليهم ونهبوا بعض أموالهم وممتلكاتهم، ولسنا الآن بصدد الحديث عن هذه الثورة وأسبابها، إنما الذي يعنينا هو ما حدث بعد هذه الثورة من إصرار القناصل.  الأوربيين على دفع التعويض من خزينة الدولة العلوية، وقد بالغ كل من القناصل واليهود في تقدير حجم الخسائر والمنهوبات، أما قنصل بريطانيا في الإسكندرية فقد قدر من مكانه هناك أن خسائر اليهود قد بلغت سبعين ألف جنيه، وهو رقم يفوق ما وقع أضعافا مضاعفة.
ولم يسع محمد علي تحت ضغط القناصل إلا أن يصدر أمرا بتعويض اليهود ولكن ليس من خزينة الدولة التي يملكها، بل من أموال وممتلكات المسلمين الذين تحمل فقراؤهم والمعسرون منهم ثقل هذا التعويض.
ومع علم محمد علي بكذب ادعاءات اليهود والقناصل ومبالغتهم في تقدير الخسائر إلا أنه كما قال: "ما دام أصدقاؤنا القناصل أصروا وصمموا على ذلك فتخلصنا من هذه القائلة. فقد صدرت الأوامر خطية إلى سليمان باشا (الفرنساوي) ببيع أملاك وعقارات هؤلاء الفقراء لتقسم أثمانها على المدعين كذبا - وتلك الأوامر مرسلة عن طيه لتسليمها إلى القناصل ليوصلوها بمعرفتهم إلى الباشا المومى إليه" (١).
ومع عظم الهالة التي أحيط بها محمد علي من قبل المستشرقين ومن اقتفى أثرهم من المؤرخين القوميين والعلمانيين حول ما قام به من إصلاحات في كثير من المجالات التعليمية والاقتصادية والعسكرية إلا أنه من الثابت من سيرة محمد علي أنه يكره المصريين ويحتقرهم ويزدريهم أيما ازدراء، كما قال أحدهم: إن محمد علي كان يحب مصر ولم يكن يحب المصريين.
وليس أدل من ذلك إلا قوله يخاطب الفرنسيين ويفاوضهم على مسألة.   .احتلال الجزائر وهو: "ثقوا أن قراري .. لا ينبع من عاطفة دينية فأنتم تعرفونني وتعلمون أنني متحرر من هذه الاعتبارات التي يتقيد بها قومي .. وقد تقولون أن مواطني حمير وثيران وهذه حقيقة أعلمها" (١).
وقد كان محمد علي باشا متواطئا مع الفرنسيين عند احتلالهم للجزائر، حتى لقد هم -بعد أن جاءته الأوامر بالطبع! - أن يقوم بنفسه باحتلال الجزائر خدمة للفرنسيين وعملا لحسابهم الخاص إلا أن أسياده رفضوا تلك الفكرة التي تهيج المسلمين وتثيرهم بعد أن ينكشف أمر عميلهم؛ لذا بادروا إلى إلغائها، واكتفى محمد علي بتزويد الفرنسيين في الجزائر بالغلال (٢).
ويذهب الدكتور سليمان الغنام إلى أن بريطانيا لما علمت بعزم محمد علي ثارت ثائرتها وهددته بنسف أسطوله إن هو فكر في ذلك (٣).
وبعد فهذه وقفة متأنية مع واحد ممن حكموا المسلمين فترة طويلة وعملوا على القضاء على مظاهر هذه العقيدة بشكل مباشر تمثل في سياسة العسف والإرهاب. وبشكل غير مباشر اتخذ التغريب له مسارا، وإن كان الشكل الثاني كانت له آثار بعيدة المدى، على عكس الأول الذي ما زاد هذه العقيدة في نفوس المسلمين إلا رسوخا. واستحق بذلك جد الأسرة العلوية أن يكون رائد التغريب الأول في العالم الإسلامي، وعلى رأس من لجوا في موالاة الكافرين، وأمعنوا في اتباعهم، وسعوا في تقويض هذه العقيدة العظيمة بكل ما أوتوه من وسائل القوة التي كانوا يملكونها.
 
  * السيد عمر مكرم ومواجهته لمحمد علي وغدر محمد علي به:
بلغ محمد علي من العتو والظلم والصلف مبلغا كبير الدرجة أنه أمر الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر بلزوم داره وعدم الخروج منها ولا حتى إلى صلاة الجمعة (١).
وقد تبوأ (محمد علي) عرش مصر وتمكن من حكمها بمساعدة العلماء الذين أوصلوه إلى سدة الحكم بشرط إقامة الشريعة والعدل، ولكن ما إن ثبت أقدامه في السلطة حتى غدر بهم وقلب لهم ظهر المجن، فكان أول عمل قام به أن نفى نقيب الأشراف الشريف (عمر مكرم) الرجل الأول في إيصاله إلى الحكم وأول من بايعه من الناس.
وسبب ذلك كثرة المظالم والمغارم التي أحدثها (محمد علي باشا)، حيث اجتمع الناس في الأزهر وأبطلت الدروس، واجتمع المشايخ والسيد عمر وكتبوا عرضحال إلى الباشا يذكرون فيه المحدثات من المظالم، وحبس شخص من أهل العلم بلا ذنب، وقد تعاهدوا وتعاقدوا على الاتحاد وترك المنافرة.
فأرسل إليهم الباشا رسولا يسألهم عن طلبهم فعرفوه بما سطروه إجمالا وبينوه له تفصيلا، فقال: ينبغي ذهابكم إليه وتخاطبونه مشافهة بما تريدون، وهو لا يخالف أوامركم ولا يرد شفاعتكم. فقالوا بلسان واحد: لا نذهب إليه أبدا ما دام يفعل هذه الفعال، فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله رجعنا إليه وترددنا عليه، كما "كنا في السابق فإننا بايعناه على العدل لا على الظلم والجور.
فحاول الرسول إقناعهم بالمجيء فأبوا أشد الإباء، وقالوا: لا نجتمع.  عليه أبدا ولا نثير فتنة، بل نلزم بيوتنا ونقتصر على حالنا، ونصبر على تقدير الله بنا وبغيرنا، فأخذ منهم العرضحال ووعدهم برد الجواب، وبعد عودته أطلق ذلك الشخص الذى كان محبوسا، وتأخر الجواب.
ولكن العلماء لم يكونوا على قلب رجل واحد فإن فيهم الانتهازيين وطلاب المناصب، وهل أتي الناس قديما وحديثا إلا من قبل هؤلاء الذين أضاعوا علمهم ورغبوا في الفاني عن الباقي؟! وهل تمكن الطغاة والمتجبرون إلا على أكتاف هؤلاء الطغمة المنسوبة إلى العلم ممن جعلوه وسيلة إلى قضاء مآربهم، وحظوظ نفوسهم؟!.
ثم اجتمع شيخان من مشايخ الأزهر هما: الشيخ المهدي والشيخ الدواخلي، مع محمد أفندي طبل ناظر المهمات في حكومة محمد علي، وقد كان الثلاثة على غير وفاق مع السيد عمر، وتناجوا مع بعضهم.
ثم ذهب الشيخان المذكوران إلى السيد عمر وأخبراه عن أن محمد أفندي ذكر لهم أن الباشا لم يحدث شيئا من تلك المظالم، وقد كذب من نقل ذلك، وقال: إنه يقول: إني لا أخالف أوامر المشايخ، وعند اجتماعهم معه يحصل كل المراد.
ولكن السيد عمر قد سئم من ألاعيب محمد علي وخبرها جيدا، فبين لهذين الشيخين أن ما قاله محمد أفندي كذب لا أصل له، وأراهم بعض الأوراق التي تشتمل على المطالبة بهذه المظالم الجديدة، وقال لهم: أما الذهاب إليه فلا أذهب إليه أبدا وإن كنتم تنقضون الأيمان والعهد الذي وقع بيننا فالرأي لكم، ثم انفض المجلس.
"وأخذ الباشا يدبر في تفريق جمعهم وخذلان السيد عمر، لما في نفسه منه من عدم إنفاذ أغراضه ومعارضته له في غالب الأمور، ويخشى صولته ويعلم أن الرعية والعامة تحت أمره إن شاء جمعهم وإن شاء فرقهم،.  وهو الذي قام بنصره وساعده وأعانه وجمع الخاصة والعامة حتى ملكه الأقليم".
ثم ذهب الشيخان المذكوران وديوان أفندي وعبد الله بكتاش الترجمان، وحضر الجميع عند السيد عمر، وطال بينهما الكلام، والسيد عمر مصمم على الامتناع.
"ثم قام المهدي والدواخلي وخرجا صحبة ديوان أفندي والترجمان وطلعوا إلى القلعة وتقابلوا مع الباشا، ودار بينهم الكلام، وقال في كلامه: أنا لا أرد شفاعتكم، ولا أقطع رجاءكم، والواجب عليكم إذا رأيتم مني انحرافا أن تنصحوني وترشدوني.
ثم أخذ يلوم على السيد عمر في تخلفه وتعنته، ويثني على البواقي، ويقول عنلا: وفي كل وقت يعاندني ويبطل أحكامي ويخوفني بقيام الجمهور.
فقال الشيخ المهدي: هو ليس إلا بنا وإذا خلا عنا فلا يسوي بشيء، إن هو إلا صاحب حرفة أو جابي وقف؛ يجمع الإيراد ويصرفه على المستحقين (١)، فعند ذلك تبين قصد الباشا لهم ووافق ذلك ما في نفوسهم من الحقد للسيد عمر.
ثم عادوا إلى السيد عمر وأخبروه بأن الباشا يقبل الشفاعة، ولم يقع منه خلاف، وأخبروه بقول الباشا: "وأما ما تفعلونه من التشنيع والاجتماع بالأزهر، فهذا لا يناسب منكم وكأنكم تخوفوني بهذا الاجتماع وتهيج الشرور وقيام الرعية، كما كنتم تفعلون في زمان المماليك فأنا لا أفزع من.  ذلك وإن حصل من الرعية أمر فليس لهم إلا السيف والانتقام (١).
ثم إن المشايخ وديوان أفندي وعبد الله بكتاش اجتمعوا في بيت السيد عمر مكرم وتكلموا في شان الطلوع إلى الباشا ومقابلته، فحلف السيد عمر إنه لا يطلع إليه ولا يجتمع به ولا يرى له وجها إلا إذا أبطل المظالم التي أحدثها، وبين موقفه قائلا:
إن جميع الناس يتهموني معه، ويزعمون أنه لا يتجارأ على شيء يفعله إلا باتفاقي معه، وامتنع عن الطلوع، فاتفقوا على طلوع الشيخ عبد الله الشرقاوي والمهدي والدواخلي والفيومي وذلك على خلاف غرض السيد عمر، فلما طلعوا إلى الباشا وتكلموا معه وقد فهم كل منهم لغة الآخر الباطنية.
وحاول الباشا أن يراوغهم ويظهر أنه أبطل المظالم، ثم عادوا إلى السيد عمر وأخبروه بما وقع، فأخبرهم بكذب ذلك للمرة الثانية، وعاتب المشايخ لمسايرتهم له وعدم إنكارهم عليه، "ووجه عليهم اللوم في نقضهم العهد والأيمان، وانفض المجلس وتفرقت الآراء، وراج سوق النفاق وتحركت حفاظ الحقد والحسد وكثر سعيهم وتناجيهم بالليل والنهار، والباشا يراسل السيد عمر ويطلبه للحضور إليه والاجتماع به ويعده بإنجاز ما يشير عليه به.
وأرسل إليه كتخدا (النائب) ليترفق به، وذكر له أن الباشا يرتب له كيسا في كل يوم، ويعطيه في هذا الحين ثلثمائة كيس خلال ذلك فلم يقبل، ولم يزل الباشا متعلق الخاطر بسببه، ويتجسس ويتفحص عن أحواله وعلى من يتردد عليه من كبار العسكر، وربما أغوى به بعض الكبار فراسلوه سرا وأظهروا له كراهتهم للباشا وأنه إن انتبذ لمفاقمته ساعدوه وقاموا بنصرته عليه

.

 

غطرسة إسرائيلية (3)

$
0
0

 

وهنا لابد من ذكر حقيقة هامة جدا وهى أن إفتراض وقوع مؤامرة بين الرئيس السادات وأمريكا وإسرائيل للقيام بما كان القذافى يسميه "حرب التحريك"بدلا من حرب التحرير هو نوع من الهلوسة التاريخية والسياسية. فإسرائيل بلد ينهض على الديموقراطية والإنفتاحية، مما يجعل من القيام بحرب تمثيلية متفق عليها بين الطرفين أمرا خارجا على القانون لأنه يتسبب فى فقدان حياة آلاف أو مئات أو عشرات أو حتي آحاد الإسرائيليين بالإضافة إلى الإصابات والتشوهات للجرحي. ولم ولا ولن يوجد سياسى إسرائيلى واحد يستطيع الإتفاق على أمر كهذا. ثم أن عدد ضحايا الحرب من القتلى الإسرائيليين تخطى الألفين وخمسمائة مقاتل، من بينهم فقط 400 قتيل سقطوا فى ليلة واحدة يوم 14 أكتوبر من أجل العبور إلى الغرب لتحقيق الثغرة الشهيرة. وبنسبة تعداد السكان كان عدد قتلى إسرائيل حوالى 1 فى 1500 من السكان. وهذه النسبة لو طبقناها فى مصر فى ذلك الوقت عندما كان تعداد مصر 40 مليون ستأتى بعدد خسائر فى الأرواح يزيد عن 25 ألف قتيل، فى مصر فقط ناهيك عن خسائر سوريا. وهو رقم لم يقع فى مصر. وقد نظرت لجنة القاضى أجرانات رئيس المحكمة العليا فى كل ملفات الحرب لكى تجرى تحقيقا عادلا منصفا لتحدد أين كانت المسئولية فى هذه الهزة إن لم تكن هزيمة. وإتضح من تقرير اللجنة أن الأخطاء كانت على الجانب العسكرى فقط أى رئيس الأركان ورئيس مخابرات الجيش وقائد جبهة سيناء بينما خرجت جولدا مائير بدون إتهام لها بأى تقصير. والسبب واضح طبعا.

 

فالعمل السياسى لا يمكن المحاسبة عليه لأن القرار يبنى على معلومات تتقدم بها الجهات المعنية فى كل الدولة. أما العمل العسكرى فهو مما يمكن المحاسبة عليه لأن واجب القادة العسكريين هو ممارسة أقصى درجة من الحرص فى التعامل مع الطرف الآخر وفى تحليل المعلومات التى ترد إليهم. وهذا فى مجال المحاسبة القانونية. أما الحساب السياسى فهو قائم فى كل وقت عن طريق عدم إنتخاب هذا السياسى من جديد. وقد شعرت جولدا مائير بهذا الأمر فتقدمت باستقالتها بعد صدور تقرير لجنة التحقيق رغم حصولها على تبرئة من التقصير ولكن الحساب السياسى هو ما لم تكن تود أن تنتظره، بالإضافة إلى عوامل السن وفتح الطريق أمام الجيل الجديد (رابين) ليتولى المسئولية.

أما تهمة الغطرسة فلا يمكن إثباتها وليس لها عقوبة فى قوانين العقوبات.

ومن الثابت أيضا أن الإدارة الأمريكية كانت فى البداية شبه واثقة من قدرة إسرائيل العسكرية على دحر الهجوم المصري السوري المشترك وحدها بقدراتها الجوية الفائقة على الجبهتين. وقد كان من مهارة التخطيط العربي فى تلك الفترة أنهم لم يستعملوا الصواريخ الحديثة التى كانوا قد حصلوا عليها من الإتحاد السوفيتي إلا فى يوم السادس من أكتوبر لأول مرة وذلك حرصا على عامل المفاجأة، وقد تحقق للعرب بالفعل ما أرادوا حيث كانت صواريخ الأرض - جو من عوامل حسم المعارك فى البداية لصالح الجيشين العربيين إذ غلت يد الطيران الإسرائيلي عن التدخل الفعال بسبب حائط الصواريخ هذا.

 

وبناءا على هذه الثقة الأمريكية فى القدرة الإسرائيلية لم تتحرك الولايات المتحدة لإمداد إسرائيل بأى معدات جديدة إلا عقب إستغاثة رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير بالرئيس بهنري كيسنجر ثم نيكسون شخصيا، والسبب هو أن مسئولى والبنتاجون كانوا يعتقدون كما أسلفت فى القدرة المتفوقة لإسرائيل. وكان هناك شخصان فقط هما من أرادا البدء بشحن الإمدادات إلى إسرائيل فى كل الإدارة الأمريكية، وهما الرئيس شخصيا وهنرى كيسنجر. 

 

وعند هذه اللحظة الفارقة يحار المرء فى فهم الدوافع الحقيقية لهنرى كيسنجر الذى كان هو صاحب القرار الفعلي فى تلك الفترة حيث أن الرئيس نيكسون كان غارقا فى مشاكله الداخلية المتعلقة بفضيحة ووترجيت.

 

وقصة الثغرة بدأت يوم 13 أكتوبر بتحليق طائرات إستطلاع أمريكية فوق مصر قامت بتصوير الجبهة من إرتفاع عال جدا لا تصل إليه الصواريخ المصرية وأبلغت القيادة الإسرائيلية بوجود تلك الثغرة الغير محكمة بين كتلتي الجيشين الثاني والثالث المصريين، وهو ما قد قام القائد الإسرائيلي للمظلات آريل شارون باستغلاله بمبادرة شخصية منه رغم رفض القيادة لهذه المغامرة. وقد كلفت هذه المغامرة كما أسلفت أكثر من 400 قتيل إسرائيليى فى ليلة واحدة وهو ثمن عال جدا على المجتمع الإسرائيلي.

 

وقصة الثغرة أشهر من أن أتناولها من جديد ولكن الذى يهم فى هذا السياق هو أثر الإتصالات المصرية مع الولايات المتحدة  قبل وأثناء المعارك على ما وقع بعد ذلك من أحداث.

 

إذ أن الإتصالات الأمريكية المصرية لم تتوقف عند حد اللقاءات فى أمريكا أوائل عام 1973،  بل تعدت ذلك إلى إتصالات خلال القتال نفسه. إذ أن حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي للرئيس المصرى، والذى كان قد قابل كيسنجر فى مطلع العام، أرسل برسالة أخرى عبر القنوات السرية إلى كيسنجر يبلغه فيها أن مصر "لا تنوي تعميق نطاق العمليات".وهذه الفقرة سماها محمد حسنين هيكل فيما بعدالفقرة الكارثية لأنها تقوم بتعريف الأمريكيين بالنوايا المصرية مسبقا..

 

فهل هي بالفعل فقرة كارثية؟

التغلغل العلمانى فى العالم الإسلامى-15

$
0
0

من كتاب الأعلام والأقزام فى ميزان الإسلام للدكتور السيد حسين العفانى 

 

 
فلم يخف على السيد عمر مكرم (١) ولم يزل مصمما وممتنعا عن الاجتماع به والامتثال إليه ويسخط عليه".
وفي ذلك الوقت أمر الباشا بكتابة عرضحال بسبب المطلوب لوزير الدولة وهي أربعة آلاف كيس، ويذكر أنها صرفت في مشاريع وأعمال؛ كسد ترعة الفرعونية ومحاربة الأمراء المصرية (المماليك) - حتى دخلوا في طاعة الدولة، وعمارة القلعة والقناة التي تنقل المياه إليها وحفر الخلجان والترع.
ثم أرسله إلى السيد عمر ليضع خطه وختمه عليه فامتنع وقال: "أما صرفه على سد الترعة فإن الذي جمعه وجباه من البلاد يزيد على ما صرفه أضعافا كثيرة، وأما غير ذلك فكله كذب لا أصل له، وإن وجد من يحاسبه على ما أخذ من القطر المصري من الفرض والمظالم لما وسعه الدفاتر".
فلما أخبر الباشا بذلك حنق واغتاظ في نفسه وطلبه للاجتماع به فامتنع، فلما أكثر عليه قال: إن كان ولا بد فأجتمع معه في بيت السادات، وأما طلوعي إليه فلا يكون، فلما أخبر بذلك ازداد حنقه وقال: "إنه بلغ به أن يزدريني ويرذلني ويأمرني بالنزول من محل حكمي إلى بيوت الناس".
ثم اجتمع الباشا مع المشايخ في اليوم الثاني في بيت ولده إبراهيم، وأرسل رسولا من طرفه ورسولا من طرف القاضي يطلبه للحضور ليتحاقق ويتشارع معه، فرجعا وأخبرا بأنه شرب دواء ولا يمكنه الحضور في هذا اليوم، فعند ذلك أحضر الباشا خلعة، وألبسها الشيخ السادات على نقابة الأشراف وأمر بكتابة فرمان بخروج السيد عمر ونفيه من مصر يوم تاريخه، فتشفع المشايخ في إمهاله ثلاثة أيام حتى يقضي أشغاله، فأجاب إلى ذلك؛ فتقبل السيد عمر أمر النفي بصدر رحب.  وفي يوم الأحد أول رجب عام ١٢٢٤ هـ اجتمع المودعون للسيد عمر، ثم حضر محمد كتخدا، فعند وصوله قام السيد عمر وركب في الحال، وخرج صحبته وشيعه الكثير من المتعممين وغيرهم وهم يتباكون حوله حزنا على فراقه، وكذلك اغتم الناس على سفره وخروجه من مصر لأنه كان ركنا وملجأ ومقصدا للناس ولتعصبه لنصرة الحق (١).
وفي صبح ذلك اليوم، حضر الشيخ المهدي عند الباشا وطلب وظائف السيد عمر فأنعم عليه الباشا بنظر أوقاف الإمام الشافعي، ونظر وقف سنان باشا ببولاق، وحاسب على المنكسر له من الغلال مدة أربع سنوات فأمر بدفعها له من خزينته نقدا، وقدرها خمسة وعشرون كيسا، وذلك في نظير اجتهاده في خيانة السيد عمر حتى أوقعوا به ما ذكر (٢).
وفي مستهل شعبان نمق مشايخ الوقت عرضحال في حق السيد عمر، بأمر الباشا، ليرسله إلى الدولة وذكروا فيه سبب عزله ونفيه عن مصر، وعدوا له مثالب ومعايب وجنحا وذنوبا:
منها أنه أدخل في دفتر الأشراف أسماء أشخاص ممن أسلم من القبط واليهود.
ومنها أنه أخذ من الألفي (أحد زعماء المماليك الكبار) مبلغا من المال ليملكه مصر في فتنة أحمد باشا خورشيد، وأنه كاتب الأمراء المصريين أيضا في وقت الفتنة ليأخذوا مصر على حين غفلة من أهلها في يوم قطع الخليج (الاحتفال بوفاء النيل).
وأنه أراد إيقاع الفتن في العساكر لينقضن دولة الباشا ويولي خلافه.  .ويجمع عليه طوائف المغاربة والصعائدة وأخلاط العوام وغير ذلك، وذلك على حد من أعان ظالما سلط عليه.
وكتبوا عليه أسماء المشايخ وذهبوا به إليهم ليضعوا ختومهم عليه، فامتنع البعض من ذلك وقال: هذا كلام لا أصل له، ووقع بينهم محاججات ولام الأعاظم الممتنعين على الامتناع، وكان من الممتنعين الشيخ أحمد الطحطاوي مفتي الحنفية، وكان ذلك سببا في عزله عن ذلك المنصب بعد أن اتفق الأشياخ والمتصدرون على عزله، فاعتكف في داره لا يخرج منها إلا قليلا واعتزلهم ولم يخالطهم وهم يبالغون في ذمه والحط عليه لكونه لم يوافقهم في شهادة الزور، "والحامل لهم على ذلك كله الحظوظ النفسانية والحسد، مع أن السيد عمر كان ظلا ظليلا عليهم وعلى أهل البلدة ويدافع ويرافع عنهم وعن غيرهم، ولم تقم بعد خروجه من مصر لهم راية، ولم يزالوا بعده في انحطاط وانخفاض" (١).


* أولاد محمد علي باشا وأحفاده ومنحهم الإرساليات التنصيرية العون والتأييد:
أما أولاد الباشا وأحفاده من بعده، فقد ظلوا يتعاهدون ما غرسه لهم والدهم وجدهم من غراس التغريب والعلمنة، ويسيرون في نفس الطريق التي مهدها أمامهم، ويتسابقون إلى كسب ولاء الغرب، وخطب وده (٢).
(فسعيد باشا) قد توالت أعطياته وسخاؤه على منح الإرساليات التنصيرية فوق ما تحلم به من عون وتأييد.
فقد تفضل ذات مرة بإهداء إحدى الإرساليات قطعة أرض بالقاهرة في حي الخرنفش، وليته اكتفى بذلك، بل قام بمنحهم ٣٠ ألف فرنك سنة ١٨٥٩ م (١).
ومن العجيب أن الأقباط لم ينشئوا لهم مدارس "نظامية"حتى عهد (إسماعيل) (٢) حين توالت عليهم هباته فأنشأوا مدرستهم الكبرى بجانب كنيستهم العامة وجعلوا التعليم فيها بالمجان، وأباحوا لبعض المسلمين الالتحاق بها (٣).
أما اليهود فقد كان لهم مدرسة خاصة بابنائهم في عصر "محمد علي "أسسها أحد أثريائهم ويدعى (مسيو كريمو) وسميت المدرسة باسمه.   .أما في عهد (إسماعيل باشا) فقد صار لليهود أربعة مكاتب بالقاهرة؛ اثنان منها للبنين ومثلهما للبنات، ولهم مدرسة نظامية بالقاهرة أيضا، كما أنهم لم يهملوا إنشاء مكاتب لهم بالإسكندرية.
أما طوائف النصارى الأخرى فليسوا أقل مما ذكرنا؛ فإن الطائفة الأرمنية هي من أقل الطوائف في عهد محمد علي التي أنشات مدارس على النظام الأوربي، فقد أسست مدرسة (كالرسديان) ببولاق سنة ١٨٢٨ م وهي تابعة لبطركخانتها الأرثوذكسية.
أما الطائفة اليونانية ففي سنة ١٨٤٧ م أسست مدرسة (توستا) بشارع جامع مسجد العطارين بالأسكندرية، وكانت هذه المدرسة أول مدرسة أنشاها اليونانيون بمصر. ومنذ ذلك الوقت أخذوا في تأسيس مدارس لهم.
أما الإيطاليون فقد بدأوا في إنشاء مدارسهم في مصر حوالي سنة ١٨٦٠م (١).
وبمثل هذه التسهيلات والدعم انتشرت الإرساليات في مصر بشكل كبير، وانبرى النصارى على تنوع جنسياتهم، واختلاف طوائفهم ومذاهبهم يتسابقون في إنشاء المدارس التنصيرية، وتشييد دور العبادة الكنسية دون حسيب أو رقيب، بل قد قدم لهم ما لم يدر بخلدهم من الدعم والتشجيع.
ومع أن هذه المدارس وتلك الإرساليات قد قامت بجهود ضخمة في تحقيق أهدافها التنصيرية، إلا أن نجاحها كان ضعيفا أو أن النجاح لم يحالفها، وذلك بسبب ما قدمناه في بداية هذا الموضوع من أن الجماهير المسلمة كان يرتكز في قلوبها بغض الكافرين وعداوتهم.
ومع هذا الفشل الذريع الذي منيت به هذه المؤسسات الصليبية فقد.    .حاول القساوسة والمنصرون أن يلجأوا إلى وسائل أخرى ويغطوا على ما يرمون إليه من أهداف باتت مكشوفة، فقام أحدهم ويدعى (بارثلميو) بفتح مدرسة بالاكتتاب لتعليم الأطفال من جميع الأديان، فقبل (محمد علي) أن تقوم الحكومة المصرية بجميع نفقاتها على ألا يدخلها إلا الصريون فقط بشرط عدم التدخل في ديانتهم (١).
حقا إنه شرط غريب .. فكيف يعهد بمدرسة للأطفال إلى قسيس نصراني ثم يشترط عليه عدم التدخل في ديانتهم؟ وفي اعتقادنا أن هذا الشرط ليس أكثر من طعم في ذلك الشرك الذي اتفق على نصبه كل من محمد علي والمنصرين. وذلك للإيقاع بأبناء المسلمين ودفعهم بين براثن التنصير.
أما حين تولى مقاليد الحكم (الخديوي إسماعيل) الذي كان يسعى إلى جعل مصر قطعة من أوربا كما قال (٢)، فقد تأسست عدة مدارس حرة بالمجان لكل الأديان في سنة ١٨٦٩ م بسبب رعاية الخديوي ودعمه السخي حتى يحقق أمنيته المنشودة في جعل مصر قطعة من أوربا (٣).
وفي نفس الوقت الذي كنا نرى خلاله هؤلاء الحكام يتسابقون إلى دعم المدارس الأجنبية وإزاحة العوائق من طريقها، نرى أنهم قد أهملوا تعليم المسلمين في بلادهم فلم يلتفتوا إليه إلا قليلا.
(فسعيد باشا) في الوقت الذي أهمل فيه تعليم المصريين نجده يقدم إلى المدارس الأجنبية كل التسهيلات التي تساعدها على أداء رسالتها، فقدم إليها الأراضي التي تبني عليها مدارسها مجانا، ومنحها المساعدات المالية الضخمة -كما سبق أن ذكرنا- والكتب الدراسية التي تطلبها، بل كانت الدولة تدفع. مرتبات المدرسين الذين تعينهم المدارس لتدريس اللغة العربية.
وفي رأي أحد المؤرخين الأجانب للتعليم في هذه الفترة أن ما منحه سعيد للفرير (١) والإيطاليين بالإسكندرية يفوق ما أنفقه على ميزانية التعليم طوال حكمه (٢).
ومع الإمعان في السير داخل الطريق التغريبي، والإيغال في منعطفاته ومنحدراته من قبل حكام مصر أصبح عدد المدارس الأجنبية يفوق عدد المدارس الحكومية التي أنشأتها الحكومة في فترات من حكمها؛ ففي سنة ١٨٧٥م كان عدد المدارس الأجنبية ٩٣ مدرسة، بها ٨٩١٦ تلميذا وتلميذة، بينما كان عدد المدارس الحكومية ٣٦ مدرسة، بها ٤٨٧٨ تلميذا وتلميذة. وفي سنة ١٨٨٧ م كان عدد المدارس الحكومية ٤٠ مدرسة كان عدد الطلاب فيها ٥٥٠٠ طالب، بينما كان عدد المدارس الأجنبية ١٩١ مدرسة، كان عدد الطلاب فيها ٢٢٧٦٤ طالب (٣).
وفي هذه الأرقام والإحصائيات ما يغني عن التعليق، وبرهان ساطع على تولي هؤلاء الحكام للكفار، وفسح المجال لهم في بلاد المسلمين يعيثون فيها فسادا، بل وتقديمم الدعم والعون والتشجيع إلى مؤسساتهم وقسسهم ومنصريهم.
أما الاهتمام بالتعليم في الأزهر فأقل ما يمكن أن يقال أنه كان عندهم ملقى في زوايا الإهمال والنسيان.
 
.وكما رأينا (الباي أحمد) لا يحيد قيد أنملة عن آراء وزيره المؤتمن الفرنسي (جوزاب دافو) ويقوم بتنفيذ ما يقرره ويراه، حتى لو كان ذلك في أخطر أمور البلاد وأهمها كالنواحي الدفاعية والعسكرية لتسقط البلاد فريسة سهلة تحت الاحتلال الفرنسي.
فإن (الخديوي إسماعيل) كان لا يثق إلا بكل ما هو آت من الغرب، وبكل ما هو أوربي؛ ففي المجال العسكري مثلا كان الضابط الأوربي الجديد مقدما على من هو أعلى منه رتبة وأكثر خبرة وتمرسا من الضباط المصريين والمسلمين بالطبع.
هذه الثقة العمياء التي منحها (الخديوي إسماعيل) العسكريين النصارى، وهذا الولاء المعلن الذي أولاهم إياه كانت له عواقب وخيمة جدا، ودفعت البلاد الثمن باهظا لتلك السياسة الخرقاء. ولعل أصدق مثال على ذلك هو هذه الحادثة المؤلمة التي يرويها لنا واحد ممن عاشوا وقائعها، وهو القائد المعروف (أحمد عرابي) (١) (المتوفى سنة ١٣٢٩ هـ)؛ فحين قام (الخديوي إسماعيل) بتسيير حملة عسكرية إلى بلاد الحبشة عام ١٢٩٢ هـ وعهد بقيادتها إلى (راتب باشا) سردار العساكر المصرية، وأمر هذا القائد أن يكون مقيدا برأي أركان حربه الجنرال (لورنج) وهو أمريكي كما يقول أحمد عرابي: "لا يعرف الفنون العسكرية، وإنما كان رئيس فرقة في الحرب الأمريكية من ضمن الفرق غير النظامية أي (المتطوعين) وكان أكثر رجال أركان الحرب الذين معه من بني جنسه فكان هذا الترتيب سبب الفشل الذي حاق بالمصريين في تلك الحملة".
ثم يذكر أحمد عرابي كيفية سير هذه الحملة ووصولها إلى الحبشة ويبين. سبب الفشل الذي منيت به، والمصير الأسود الذي واجهته فيقول: "وكان أحد القسس الفرنساويين المبشرين في بلاد الأحباش يتردد كل يوم على رئيس أركان الحرب الجنرال (الورنج) الأمريكي مستطلعا أحوال الجيش المصري حتى علم مقداره، واتفق معه على الحركة الحربية التي تكون سببا لهلاك الفرقة المصرية عند الصدمة الأولى، وكان يبلغ معلوماته كل يوم إلى الملك (ملك الحبشة) فحشد هذا الملك جيشه وكان عدده ينيف على الثلاثمائة ألف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال على حسب عادتهم في الدفاع عن كيان بلادهم" (١).
ثم كتب عرابي فصلا بعنوان "في خيانة أركان الحرب، الأمريكيين الموظفين في الجيش المصري"فكان مما قاله حول هذه الخيانة: "واستعد جميع أركان الحرب الأوربيين والأمريكيين للحملة فألقوا جانبا طرابيشهم الرسمية ولبسوا قبعاتهم ثم ربطوا في أعناقهم مناديل بيضاء إشارة إلى أنهم مسيحيون ليأمنوا على أنفسهم الخطر عند اختلاط الجيشين على حسب الاتفاق مع القسيس السابق ذكره.
ثم ذكر ما حل بالجيش المسلم من هلاك عظيم، وسقوطه بين قتيل وأسير وجريح، عدا الغنائم التي غنمها الأحباش النصارى من هذا الجيش البائس (٢).
* وصدق الله العظيم حين يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} [آل عمران: ١١٨].
"وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال للمشرك ذي الجرأة والنجدة الذي أراد القتال معه في غزوة بدر: "فارجع فلن أستعين بمشرك " (١).
وهكذا كان الجيش المصري المسلم في هذه الحملة الخاسرة ضحية لتآمر الجنرالات الصليبيين الذين ركن إليهم (الخديوي إسماعيل) ووثق فيهم ثقة عمياء، وكبل قائد الجيش العام بأوامر أحدهم ممن ليس لديهم أية دراية بالأمور العسكرية.
بل إننا نكاد نجزم أن هذه الحملة وما تلاها من حملات إلى بلاد الحبشة في عهد (الخديوي إسماعيل) لم تكن من باب التوسع والفتوحات كما يعتبرها كثير من المؤرخين، وإنما كانت من باب إلقاء الجيش المصري إلى التهلكة والإبادة.
ولسنا نهدف بالطبع إلى استقصاء الحديث عنها، والدخول في أسبابها والظروف المحيطة بها، ولكن ذلك لا يمنعنا أن نشير إلى ما يؤيد ما ذهبنا إليه آنفا لعلاقة ذلك بموضوع الولاء والبراء فنقول أن حكم (الخديوي إسماعيل) في ذلك العصر قد بلغ من الضعف والعجز مبلغا عظيما بسبب الديون الضخمة التي أرهق البلاد بها، مما تمخض عنه أن تستأثر الدول الدائنة وفي مقدمتها دولتا بريطانيا وفرنسا بالسلطة في عهده؛ حيث قامت كل منهما بتعيين وزير مراقب في الظاهر، ومهيمن على نصاب الأمور والسلطة في الحقيقة.
فكيف يمكن لدولة أثقلتها الديون، وأنهكها الإفلاس والعجز أن تسير الحملات الحربية الباهظة التكاليف في بلاد مجهولة وصعبة التضاريس من.   أجل التوسع فقط .. ؟ ولماذا لزم الوزيران الصمت حيال هذه الحملات التي ترهق ميزانية الدولة التي عينا لمراقبتها، واستخلاص الديون منها .. ؟
وإذا كان النفوذ الأوربي قد تغلغل في عهد (إسماعيل) تغلغلا عظيما، وأصبحت حكومته وقصوره وسراياه تعج بالأوربيين والأمريكيين، فكيف تسمح أوربا الصليبية ومن ورائها الوزراء والقناصل والجنرالات الموجودون في حكومة الخديوي بأن يقوم هذا الحاكم بغزو الحبشة النصرانية وفتحها.
في الواقع أن هذا أمر لا يمكن حدوثه مطلقا إلا إذا كانت هناك أهداف غير ظاهرة يراد تحقيقها وأكبر دليل على هذا أن جده محمد علي باشا لما عزم على غزو الحبشة سنة ١٨٤٠ م حذره السفير الإنجليزي (سالت) وقال له: "تقع الحبشة (أثيوبا) تحت حمايتنا وهي البلد الوحيد في أفريقيا الذي اعتنق الدين المسيحي، وصمدت صمودا طويلا مظفرا خلال أجيال أمام هجمات المسلمين، ولا ينبغي لأحد أن يتوقع من أوربا عامة ومن إنكلترا خاصة أن تقف موقف اللامبالاة إذا ما تعرض هذا البلد للهجوم .. وهناك كثيرون من جمعية الكتاب المقدس في بريطانيا يهتمون بمستقبل هذا البلد" (١).
 
*دفاع الدكتور محمد عمارة عن محمد علي باشا والرد عليه:
قال الدكتور عنه: "ارتادت مصر للشرق والوطن العربي عصر التنوير واليقظة والنهضة في ظل الدولة المدنية الحديثة التي أسسها محمد علي باشا الكبير""التراث " (١٨٩)، ويخصص الدكتور مبحثا كاملا في كتابه "العلمانية"للدفاع عن اتهامات "لويس عوض"التي ردد فيها علمانية محمد علي باشا وأثبت الدكتور إنه لم يكن علمانيا أبدا فهو لم يحدث أي تغيير في القضاء أو يلغي المدارس الدينية وأما بعثاته فهي لعلوم الدنيا دون غيرها من.   .. العلوم الإنسانية".
قال سليمان بن صالح الخرابيشي في كتابه "محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة" (٦٦٤ - ٦٧١):
"قلت: عندما يحكم المسلم على إنسان ما فإنه يستعرض أعماله ويتأملها بمنظور إسلامي شرعي فيذكر حسناته إن كان له حسنات ويذكر سيئاته .. والدكتور إنما ذكر الأمور التي يعتقد إنها حسنات لمحمد علي باشا فهو عنده رائد الدولة المصرية الحديثة الذي انتشلها من (ظلمات) المماليك إلى (نور) التقدم والمدنية بفضل جهوده في التربية وإرسال البعثات وتنظيم الجيش وفتح المدارس المدنية .. إلخ. ولكنه لم يذكر حرفا واحدا عن دوافع محمد علي باشا لذلك وعن غدره بالمسلمين (أعني المماليك) وعن حقده على العلماء الذين وثقوا فيه، وكانوا السبب في تمليكه مصر (أعني عمر مكرم ومن معه) وعن الأمر الكبير الذي يميز حياة الكبير! وهو عداوته للتوحيد وأهله ومحاربته للموحدين ممن أهل الجزيرة تنفيذا لأوامر أسياده من شيوخ (الخرافة) في تركيا والدول الغربية الكافرة وكل ذلك في سبيل كسب دنيوي وطموح شخصي بالغ فيه هذا الجندي (التركي)! كان الأولى بالمفكر الاسلامي أن ينبه القارئ إلى هذا الذنب العظيم الذي ارتكبه الباشا وأبناؤه في حق دعاه التوحيد .. وإما التمجيد والثناء على (مدنيته) و (تقدميته) فهذه تجعل المرء يرتاب كثيرا في مدى صدق الدكتور في ادعائه السلفية التي تخلى عن أهلها في أدنى موقف. وإما حكم رجال الإسلام في محمد علي وحقيقة علمانيته التي نفاها الدكتور. فقد قال الشيخ محمد قطب:
"كان محمد علي شخصا سيئ السمعة .. معروفا بالقسوة وغلظ الكبد .. ترسله الدولة العثمانية لتأديب القرى التي تتأخر في دفع ما يفرض عليها من المال، فيعسكر هو وأفراد حملته التأديبية حول القرية ينهبون    ويسلبون ويفزعون الآمنين، حتى يرى أهل القرية أن الأفضل لهم أن يدفعوا الأموال المطلوبة -وإن أبهظتهم- خير من الذل والفزع الذي يعانونه من محمد علي وأفراد حملته! وكان محبا للعظمة إلى حد الجنون .. صفات كلها صالحة .. ! وليس بين يدي الآن ما يقطع بأن فرنسا هي التي تدخلت لدى السلطان لإرساله واليا على مصر .. وإن كانت الظروف تشير إلى ذلك.
ولكنه جاء على أي حال .. واليا من قبل الدولة العثمانية على مصر .. عام ١٨٠٥ من الميلاد، أي بعد مغادرة الحملة الفرنسية بثلاثة أعوام، كانت مصر في أثنائها قد عادت إلى حكم المماليك مع الولاء للسلطان واحتضنته فرنسا احتضانا كاملا لينفذ لها كل مخططاتها! أنشأت له جيشا مدربا على أحدث الأساليب ومجهزا بأحدث الأسلحة المتاحة يومئذ بإشراف سليمان باشا الفرنساوي! وأنشات له أسطولا بحريا على أحدث طراز يومذاك وأنشأت له ترسانة بحرية في دمياط. وأنشأت له القناطر الخيرية لتنظيم عملية الري في مصر.
هل كان هذا كله حبا في شخص محمد علي؟ أو حبا في مصر؟! إنما كان لتنفيذ المخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب اضطرارها إلى الرحيل.
لقد قام محمد علي بدور خطير في نقل مصر من المرتكز الإسلامي إلى شيء آخر يؤدي بها في النهاية إلى الخروج من الحيز الإسلامي .. سواء كان واعيا تماما. لهذا الدور، أو مستغلا من قبل الصليبية لتنفيذه. والذي يغلب على حسنا -على ضوء التجربتين الأخيرتين، تجربة كمال أتاتورك وجمال عبد الناصر- أنه كان واعيا للدور وضالعا فيه. ولكن يستوي أن يكون ضالعا بوعي أو مستغلا مستغفلا .. فهو في الحالين يؤدي ذات الدور، ويؤدي الدور إلى ذات النتائج بصرف النظر عن النوايا الداخلية للمنفذين. ولكن يبقى شيء مؤكد في جميع الأحوال .. أن "المسلم "الحق لا يمكن بحال أن يقوم بمثل هذا الدور لا واعيا ولا مسغفلا؛ لأن إسلامه يمنعه أن يتلقى "التوجيه"من أعداء الإسلام. لكي نفهم حقيقة الدور الذي قام محمد علي في خدمة أعداء الإسلام، ينبغي أن نفهم ماذا كان يريد الأعداء.
لقد كانوا يريدون القضاء على الإسلام بصفة عامة، ولكنهم وضعوا في مخططهم أهدافا مرحلية معينة تمكنهم -في تصورهم- من القضاء الأخير على الإسلام .. من هذه الأهداف: القضاء على الدولة العثمانية، والقيام "بتغريب"العالم الإسلامي مع العناية الخاصة بتغريب مصر -بلد الأزهر- وتصدير التغريب منها إلى بقية العالم الإسلامي.
فأما القضاء على الدولة العثمانية فالأمر فيه واضح. وأما عملية التغريب -عن طريق الغزو الفكري- فمهمتها الأولى قتل روح الجهاد الإسلامية ضد الصليبيين للقضاء على المقاومة المستمرة التي يلقاها الغزو الصليبي المسلح، وذلك بإزالة الحاجز العقيدي الذي يذكر المسلم دائما بأنه مسلم وأعداؤه كفار يجب أن يجاهدهم ولا يسمح لهم باحتلال أرضه الإسلامية فإذا "تغرب"لم يعد هذا الحاجز قائما في نفسه، ولم يعد يثير عنده ما يثيره الإسلام في نفس المسلم. كما أن التغريب هو الذي يضمن تبعية العالم الإسلامي للغرب -بعد أن يخضع عسكريا له- لأنه حين يتغرب، يحس أن انتماءه لم يعد للإسلام وإنما للغرب، فلا يشعر برغبة في الانفصال عنه، وحتى إن رغب في يوم من الأيام أن "يستقل"ففي حدود التبعية العامة التي لا تخرجه من حوزة سادته، ومن النطاق الذي يضربه السادة حوله.
والآن وقد أدركنا تخطيط الأعداء فلننظر دور محمد علي بعد "احتوائه "من قبل فرنسا.
كانت الخطة الصليبية -التي اضطلعت فرنسا بتنفيذها في مصر- هي.     تكبير محمد علي وإغرائه بالاستقلال عن السلطان، فتنفصل بذلك قطعة من أرض المسلمين عن الدولة الإسلامية (وذلك يضعفها ولا شك) ثم يكون محمد علي نموذجا مغريا لغيره من الولاة، فيستقلون تباعا عن الدولة رغبة في السلطان الذاتي، فتتفكك عرى الدولة وتنهار .. وفي ذات الوقت كانت الخطة في تغريب مصر -بعد استقلالها- لضمان تبعيتها الدائمة للغرب وانفصالها النهائي عن الإسلام.
وقام محمد علي بالدور المطلوب خير قيام! فإن الجيش الذي صنعته له فرنسا، وقام بتدريبه سليمان باشا الفرنساوي قد استخدمه محمد علي لا في محاولة الاستقلال عن الخلافة فحسب، بل في محاربة الخليفة نفسه! وقد كاد يتغلب على جيش الخليفة بالفعل لولا تدخل بريطانيا .. تظاهرا بالوقوف في صف الخليفة، وغيره في الحقيقة من أن تستأثر فرنسا "بصداقة"السلطان، وبالنفوذ في مصر! وفي الوقت نفسه لتخدم الهدف العام للصليبية بطريقة أخرى .. فقد أوقفت بريطانيا محمد علي عند حده في ظاهر الأمر، ومنعته من مهاجمة الخليفة، وفي الوقت ذاته ضمنت له الاستقلال الفعلي عن الخليفة، والاستئثار بحكم مصر حكما وراثيا ينتقل في ذريته، مع التبعية الاسمية للسلطان!! (هذا بينما تجمعت أوربا الصليبية كلها لتحطيم محمد علي في معركة نافارين؛ لأنه نسي نفسه وتجرأ على مهاجمة دولة صليبية هي اليونان! فقد كبرته الصليبية وسلحته لمحاربة الإسلام فقط، فإذا فعل ذلك فله كل العون. أما إذا هاجت أطماعه لحسابه الخاص، فمس أحد الصليبيين بسوء، فهنا يجب تأديبه بل تحطيمه تحطيما كاملا إذا لزم الأمر!! ).
أما الجانب الآخر من المهمة وهو عملية التغريب، فقد نفذها محمد علي بسياسة الابتعاث التي اتبعها، بإرسال الطلاب الشبان إلى أوربا ليتعلموا هناك .. وكان هذا أخطر ما فعله في الحقيقة؛ لأنه من هناك بدأ الخط.  "العلماني"يدخل ساحة التعليم، ومن ورائه ساحة الحياة في مصر الإسلامية.
وقد يقول قائل: إنه لم يكن أمامه من سبيل للنهوض بمصر إلا هذا السبيل! وهو قول مردود فلو كان في مكان محمد علي قائد مسلم واع، يريد أن ينهض بمصر الإسلامية -أي على أسس إسلامية وقاعدة إسلامية- فقد كان أمامه سبيل آخر، هو النهوض بالأزهر -معقل العلم لا لمصر وحدها بل للعالم الإسلامي كله- برده إلى الصورة الزاهية التي كانت عليها المعاهد الإسلامية في عصور النهضة، حيث كانت تعلم العلم الشرعي والعلوم الدنيوية، وكان يتخرج فيها الأطباء والمهندسون والرياضيون والفلكيون والفيزيائيون والكيميائيون المسلمون الذي علموا العلم لأوربا يوما من الأيام!
فإذا كانت بلاده -أو بلاد العالم الإسلامي جمعاء- تفتقر إلى المتخصصين في هذه العلوم، الذين يحتاج إليهم الأزهر لينهض بمهمته، ففي وسعه يومئذ أن يرسل أفرادا بأعيانهم، يختارون اختيارا دقيقا، على أساس دينهم وتقواهم، وحصافتهم ورزانتهم، بعد أن يكونوا قد تجاوزوا سن الفتنة، وأحصنوا بالزواج فلا ينزلقون في مزالق الفساد الخلقي .. فيتخصصون في مختلف العلوم ويعودون ليدرسوا للطلاب في بيئتهم الإسلامية، فيظل الشباب محافظا على إسلامه، ويتزود من العلوم بما ينفض عنه تخلفه العلمي، ويعيد إليه الحاسة العلمية التي فقدها المسلمون خلال عصر التخلف الطويل .. وعندئذ "تنهض "مصر، بل ينهض العالم الإسلامي كله من طريق الأزهر الذي يؤمه الدارسون من جميع بلاد العالم الإسلامي .. ويكون هذا القائد المسلم قد أدى أجل خدمة للإسلام والمسلمين. فهل فكر محمد علي على هذا النحو، أو هل كان قمينا أن يتجه هذه الوجهة؟! لو كان هذا لما أختاروه! ولما جاءوا به ليؤدي دوره "العظيم"إنما كانت صياغته النفسية كلها.  و"التوجيه"الذي يتلقاه، كله إلى الجانب الأخر .. جانب التغريب. لذلك أرسل الشبان الصغار بأعداد متزايدة إلى أوربا، وهم في سن الفتنة، غير محصنين بشيء .. "لينهلوا"من العلم إن شاءوا، ومن الفساد إن شاءوا، أو من العلم والفساد معا في غالب الأحيان .. ثم يعودوا، ليكونوا رأس الحربة المتجه إلى الغرب، الذي يجر بلاده كلها إلى هناك! ولا عبرة بأنه كان يرسل مع كل بعثة إماما يؤمهم في الصلاة ويعلمهم أمور دينهم! فقد كان للصلاة حتى ذلك الوقت قداستها في حس المسلمين، ولا يتصور وجود "مسلم "لا يؤديها! أو هي في أقل الاعتبارات "تقليد"له قداسته، لا يمكن أن يخرج عليه مسلم! لذلك لم يتكن يتصور أن تكون هناك مجموعة من المسلمين بغير إمام يؤمهم في الصلاة، ولا يمكن أن يقدم محمد علي على كسر ذلك التقليد المقدس في ذلك الحين" (١).
وقال الشيخ محمود شاكر: "رغم اندحار الحملة الفرنسية على الشرق فإن رسالة نابليون إلى كليبر بقيت هي الأساس في عملية الاستشراق والمستشرقين. يقول نابليون في رسالته: "اجتهد في جمع ٥٠٠ أو٦٠٠ شخص من المماليك حتى متى لاحت السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف وتسفرهم إلى فرنسا، وإذا لم تجد عددا كافيا من المماليك فاستعض عنه برهائن من العرب ومشايخ البلدان فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يحتجزون مدة سنة أو سنتين يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية
ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا ولما يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يضم إليهم غيرهم كنت قد طلبت مرارا جوقة تمثيلية وسأهتم اهتماما، خاصا بإرسالها لك لأنها ضرورية للجيش وللبدء في تغيير تقاليد البلاد". ومضت السنون والاستشراق في عمل دائب وتدبير متماد. وتولى أمر مصر رجل كانت تركيا بعثته مع ٣٠٠ من الجند في أواخر الحملة الفرنسية هو محمد علي عام ١٨٠٥ م - ١٢٢٠ هـ وكان في الخامسة والثلاثين من عمره جاهلا لم يتعلم قط شيئا من العلوم وكان لا يقرأ ولا يكتب ولكنه استطاع خداع المشايخ والقادة الذين آثروا ولايته على ولاية المماليك الذين لم يستطيعوا التصدي والوقوف أمام حملة نابليون. لم يكن الاستشراق وبخاصة الفرنسي غافلا عن هذا المغامر الجديد الذي صعد إلى حكم مصر فنرى أنه عندما قامت ولايته على الديار المصرية أحاطت به قناصل المسيحية الشمالية إحاطة كامله -والقناصل هم الاستشراق نفسه في صورته السياسية- فبدأوا يوغرون صدره على المشايخ والقادة الذين نصبوه واليا على مصر ويخوفونه عاقبة سلطانهم على جماهير الأمة فاستجاب لطنينهم وغدر بالمشايخ والقادة الذين وقفوا بجانبه وكانت مذبحة القلعة وغيرها وبهذا ظفر الاستشراق بالمشايخ الكبار ومهد لعزل الأزهر ومشايخه عن قيادة الأمة بل استطاع أن يؤلب الدولة التركية على ما يحدث من يقظة إسلامية في قلب الجزيرة العربية على يد محمد بن عبد الوهاب فاستجابت دار الخلافة بغفلتها إلى هذا التأليب وأرسلت جيوش محمد علي لقتال المسلمين في الجزيرة العربية ووجدها محمد علي فرصة لتحقيق آماله في التوسع وبسط نفوذه على بلاد أخرى وبهذا أدرك الاستشراق وأدركت المسيحية الشمالية مأربا من أكبر مآربها في وأد اليقظة التي كانت تهددهم بها دار الإسلام في جزيرة العرب التي كانت تخشى المسيحية الشمالية أن تنضم هذه اليقظة إلى اليقظة الكائنة في دار الإسلام في مصر فيومئذ لا يعلم غير الله ما تكون العواقب، وتم كل ذلك.  على يد مسلمين جهلة يوجههم الاستشراق والمسيحية الشمالية من حيث لا يبصرون ولا يعلمون ماذا يراد بهم ولا إلى أي هوة من الهلكة يساقون.
ثم كانت بعثات محمد علي التي لم تكن نابعة من عقل هذا الجندي الجاهل بل كانت نابعة من عقول تخطط وتدبر لأهداف بعيدة المدى محققة بذلك ما جاء في رسالة نابليون لكليبر سالفة الذكر .. " (١).
وقال الشيخ سفر الحوالي: " .. حدثت نفرة شديدة بين علم الأزهر الذي كان يعتقد أنه يمثل الثقافة الإسلامية أصدق تمثيل وبين علم الغرب الذي بدا لأعين الأزهريين علما غريبا خاصا بالكفار. من هذا الخطأ التاريخي تقريبا نشأت الازدواجية الخطرة في العالم الإسلامي: تعليم ديني ضيق محدود وتعليم لا ديني يشمل نشاطات الفكر كلها. وقد حاول محمد علي في أول الأمر أن يدخل العلوم الحديثة ضمن مناهج الأزهر إلا أنه خشي معارضة الأزهريين فقام على الفور بانشاء نظامه التعليمي الحديث هكذا أنقسم التعليم في مصر إلى نظام ديني ونظام مدني حديث" (٢).
قلت: أي نظام علماني.
وقال الدكتور أحمد فرج: "كان محمد علي الذي اعتلى حكم مصر بعد خروج الفرنسيين كنابليون فكلاهما كانت تحركه أهداف علمانية" (٣).
ويقول: "كان محمد علي امتدادا لنابليون في مصر ومبادئ العلمانية التي أرساها نابليون وجيوشه الفرنسية مكن لها محمد علي بعد ذلك بعد أن قوض سلطة الأزهر وأضعف نفوذ علماء الدين وأتى بكل ما لا يتفق وفكرة الحاكم في التصور الإسلامي الذي يجسد صورة العدل بمعناها الشرعي.   لقد مهدت أوربا -خاصة فرنسا- كيف تحكم مصر بعد خروج الفرنسيين منها. وكانت خطة محمد علي في التحديث استمرارا لخطة نابليون وأقام محمد علي دولته العلمانية التي لا تفرق بين مواطن وآخر إلا بمقدار ما يقدمه لها من خدمات دونما اعتبار لدين أو عرف أو لون، تماما كما فعلت فرنسا بعد نجاح ثورتها الكبرى وبنفس الأسلوب والمبادئ التي حملها نابليون وجيشه إلى كل بقعة وطئتها أقدامهم من العالم وكان محمد علي كنابليون يمضي كالسهم لا يوقف تقدمه شيء لضعف العلماء وقلة الأفاضل منهم وقلة حيلتهم" (١). قلت: ومن العجيب أن الدكتور أحمد فرج نقل مقالا لمحمد عبده نشر في المنار يقول فيه: "إنه -أي محمد علي- أطلع نجم العلم في البلاد ولكنه لم يفكر في بناء التربية على قاعدة من الدين والأدب أو وضع حكومة منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل وحتى الكتب التي ترجمت إلى فنون شتى ترجمت برغبة من الأوربيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد وحرم المصريين من بلوغ الرتب في الجيش لذلك لم تلبث تلك القوة أن تهدمت واندثرت وظهر الأثر عندما جاء الإنجليز لإخماد ثورة عرابي .. ثم استقروا ولم توجد من البلاد نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها. ولقد لا يستحي بعض الأحداث من أن يقول: إن محمد علي جعل من جدران سلطانه بنية من الدين .. فليقل لنا أحد من الناس أي عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة للدين الإسلامي إلا مسألة (الوهابية) وأهل الدين يعلمون أن الإغاره فيها كانت على الدين لا للدين" (٢). قلت: فليت الدكتور كعادته قد تابع شيخه في هذه المسالة! (٣). 
 
* رفاعة الطهطاوي (١٨٠١ - ١٨٧٣) يثنى على رقص الغرب وهو رائد الإصلاح! أو التغريب,وتلميذ جومار ألبار:
سبق الكلام عنه، ونزيد بقول (جب): "كانت المصادر الأولى التي أخذ الفكر الأوربي يشع منها هي المدارس المهنية التي أنشاها محمد علي والبعثات العلمية التي أرسلها إلى أوربا"، ويذكر أن منها "مدرسة الألسن "التي كان يشرف عليها العالم الفذ رفاعة الطهطاوي وهو تلميذ جومار ألبار".
انظر إلى الطهطاوي في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"وهو يحدث أبناء أمته عن نوادي ومراقص باريس، وتعظيم المجتمع الفرنسي للمرأة!!! يقول:
"والغالب أن الجلوس للنساء، ولا يجلس أحد من الرجال إلا إذا اكتفت النساء، وإذا دخلت امرأة على أهل المجلس ولم يكن ثم كرسي خال قام لها رجل وأجلسها. ولا تقوم لها امرأة لتجلسها، فالأنثى دائما في هذه المجالس معظمة أكثر من الرجل، ثم إن الإنسان إذا دخل بيت صاحبه فإنه يجب عليه أن يحيى صاحبة البيت قبل صاحبه ولو كبر مقامه ما أمكن، فدرجته بعد زوجته أو نساء البيت" (١).
ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس وكأنه نوع من العياقة والشلبنة (!!! ) لا من الفسق، فلذلك كان دائما غير خارج عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر فإنه من خصوصيات النساء؛ لأنه لتهيج الشهوات، أما في باريس فإنه نط مخصوص لا يشم منه رائحة العهر أبدا!!، وكل إنسان يعزم امرأة يرقص معها، فإذا فرغ الرقص عزمها آخر للرقصة الثانية، وهكذا، وسواء كان يعرفها أو لا، وتفرح النساء بكثرة الراغبين في الرقص معهن.  لسآمة أنفسهم من التعلق بشيء واحد، كما قال الشاعر:
أيا من ليس يرضيها خليل ... ولا ألفا خليل كل عام
أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام
وقد يقع في الرقص رقصة مخصوصة بأن يرقص الإنسان ويده في خاصرة من ترقص معه، وأغلب الأوقات يمسكها بيده، وبالجملة فمس المرأة أيا كان من الجهة العليا من البدن غير عيب عند هؤلاء النصارى، وكلما حسن خطاب الرجل مع النساء ومدحهن عد هذا من الأدب" (١).
هذا الكلام يوحي لقارئه بدلالات نذكر منها اثنتين:
ا- إن الأخلاق ليست مرتبطة بالدين، وهي فكرة انقدحت في ذهن الشيخ لكنه لم يستطع أن يعبر عنها بجلاء، فها هو المجتمع يمارس ألوان الدياثة التي لا يرضاها الدين طبعا ولكنها مع ذلك ليست خارجة عن قوانين الحياء، ولا يشم منها رائحة العهر بل هي معدودة في باب الأدب!!!! وقد نمت هذه الفكرة وترعرعت حتى قيل صراحة: أن الحجاب وسيلة لستر الفواحش، وأن التبرج دليل على الشرف والبراءة، ومن ثم فلا علاقة بين الدين والأخلاق.
٢ - إن هذا المجتمع الديوث يكرم المرأة ويحترمها، وفي المقابل نرى المجتمع الإسلامي يحافظ على العرض لكنه يحتقر المرأة -حسب الواقع آنذاك - وبذلك نصل إلى المفهوم الذي وجد في أوربا نفسه وهو أن حقوق المرأة مرتبطة بتحررها من الدين فما لم ينبذ الدين فلن تحصل على هذه الحقوق!
وهكذا وجدت البذرة الأولى لما سمي "بقضية المرأة"! (٢).


لقد انبهر رفاعة الطهطاوي وفتن بفرنسا، والثورة الفرنسية ولا ينكر أحد طبيعتها اللادينية والأثر التلمودي فيها.
انظر إلى ما قاله الطهطاوي وكأنما هو يترجم مع الشرح عبارات روسو وفولتير. يقول:
"ومن زاول علم أصول الفقه، وفقه ما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد جزم بأن جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة إليها وجعلوها أساسا لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم، قل أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات. فما يسمى عندنا بعلم أصول الفقه يشبه ما يسمى عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية، وهو عبارة عن قواعد عقلية تحسينا وتقبيحا، يؤسسون عليها أحكام المدنية. وما نسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية، وما يتمسك به أهل الإسلام من محبة الدين والتولع بحمايته مما يفضلون به عن سائر الأمم في القوة والمنعة يسمونه محبة الوطن".

... "ولما كانت أعمال كل نوع من أنواع المخلوقات وكل عضو من أعضاء فرد ذلك النوع منقادة لنواميس طبعية عمومية خصته الحكمة الإلهية كان لا يمكن مخالفة هذه النواميس بدون اختلال للنظام العام والخاص، وهذه النواميس الطبيعية التي خصت بها العالم القدرة الإلهية عامة للإنسان وغيره .. فينبغي للإنسان أن لا يتجارى على هذه الأسباب ويتعدى حدودها، حيث إن المسببات الناتجة عنها منتظمة محققة .. فعلى الإنسان أن يطبق أعماله على هذه الأسباب التي تقدم ذكرها ويتمسك بها وإلا عوقب عقابا إلهيا لمخالفة خالق هذه الأسباب .. وأغلب هذه النواميس الطبيعية لا يخرج عنها حكم الأحكام الشرعية، فهي فطرية خلقها الله سبحانه وتعالى مع الإنسان وجعلها ملازمة له في الوجود، فكأنها قالب له نسجت على منواله.  ..وطبعت على مثاله وكأنما هي سطرت في لوح فؤاده بإلهام إلهي بدون واسطة، جاءت بعدها شرائع الأنبياء بالواسطة وبالكتب التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فهي سابقة على تشريع الشرائع عند الأمم والملل، وعليها في أزمان الفترة تأسست قوانين الحكماء الأول وقدماء الدول وحصل منها الإرشاد إلى طرق المعاش في الأزمنة الخالية كما ظهر منها التوصل إلى نوع من انتظام الجمعيات التآنسية عند قدماء مصر والعراق وفارس واليونان، وكان ذلك من لطف الله تعالى بالنوع البشري حيث هداهم لمعاشهم بظهور حكماء فيهم يقننون القوانين المدنية لا سيما الضرورية لحفظ المال والنفس والنسل .. " (١).

ويقول في مؤلف آخر مثنيا على الدستور الفرنسي (الشرطة):
"فيه أمور لا ينكر ذوو العقول أنها من باب العدل .. ومعنى الشرطة في اللغة اللاتيني ورقة، ثم تسومح فيها فأطلقت على السجل المكتوب فيه الأحكام المقيدة، فلنذكره لك وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتعرف كيف قد حكم عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا، لذلك عمرت بلادهم وكثرت مصارفهم وتراكم بناهم وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع فيها من يشكو ظلما أبدا والعدل أساس العمران" (٢).
وانظر إلى أثر رفاعة في تلميذه محمد عثمان جلال (١٨٢٩ - ١٨٩٨) لترى موجة عاتية من موجات التغريب فقد كانت أبرز آثاره الأدبية ترجمات لبعض المؤلفات الفرنسية ذات الشهرة مثل بول وفرجيني، وخرافات لافونتين وبعض ملاهي موليير، والأمر الذي يجب التنويه به في عمله هذا.  ليس هو فكر الترجمة في ذاتها بل الروح التجديدية التي تكمن وراءها (! ) فقد ترجم لافونتين إلى شعر سهل لا تصنع فيه ولا رهق، إلا أنه حين ترجم ملاهي موليير كتبها بلهجة العامة في مصر، ولم يكن الوقت قد حان بعد للإقدام على مثل هذا العمل الجريء (! ) غير أن ما تجلى في تلك الخطوة من انفكاك تام من أسر الماضي كان دليلا على روح العصر، قال الخديوي إسماعيل: "أن مصر أصبحت قطعة من أوروبا"، ولذا كان لا بد للأدب المصري من أن يعبر عن استقلاله عن التقاليد الآسيوية والإفريقية" (١).


* عبد الرحمن الكواكبي أول من نادى بفكرة العلمانية حسب مفهومها الأوربي الصريح:
يقول عبد الرحمن الكواكبي (ت ١٩٠٢): "يا قوم وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد، وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين، وأجلكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون. فهذه أمم أوستريا وأميركا قد هداها العلم لطرائق الاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري .. ".
"دعونا ندبر حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم الآخرة فقط (! ) دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا وهي فلتحيا الأمة، فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء أعزاء" (٢).   .
 
* وكم ذا بمصر من المبكيات .. واإسلاماه أكبر مؤتمر للتبشير (التنصير) يعقد بمنزل أحمد عرابي!!! فليعد عرابي للسؤال جوابا بين يدي الله {أفغير دين الله يبغون}:
أتسلم الأمة أزمة أمورها لمن لا يعرفون معنى الولاء والبراء وهل يصدق مخبول أنه في بيت زعيم المصريين أحمد عرابي عقد أول مؤتمر تنصيري لتغيير دين الأمة وهذا أمر متواتر يعلمه كل من قرأ التاريخ.
نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عينا لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عينا للدموع تعار
وما تزال بقلبي ألف مبكية .. !!!!
تحت عنوان "مؤتمر القاهرة سنة ١٩٠٦"نقل الأستاذ محب الدين الخطيب إلينا الآتي:
"كان القسيس "زويمر"رئيس إرسالية التبشير العربية في البحرين أول من ابتكر فكرة عقد مؤتمر عام يجمع إرساليات التبشير البروتستانية للتفكير في مسألة نشر الإنجيل بين المسلمين. وفي سنة ١٩٠٦ أذاع اقتراحه وأبان الكيفية التي يكون بها، فوضعت هذه الفكرة على بساط البحث في (ميسور) من ولاية (أكرا) في الهند؛ لأن هذه الولاية ذات أهمية كبرى من حيث المسائل الإسلامية لوجود مدرسة (عليكر) هناك. ثم عرض الاقتراح على مؤتمر التبشير الذي ينعقد في مدينة (مدراس) الهندية كل عشر سنوات فأجاز عقده وأن اتخاذ الهند قاعدة لتأسيس النظامات الخاصة بتبشير المسلمين بالنصرانية أمر طبيعي وبديهي؛ لأن مسلمي الهند أخذوا على عاتقهم منذ القرن التاسع عشر تأييد السياسة الإنكليزية للتغلب على الهندوس.
ولما تقرر عقد المؤتمر شرع القسيس (زويمر) وزميل له يعدان المعدات لتأليف لجنة مؤقتة تضع برنامج مذكرات المؤتمر وتدعو المبشرين المنتشرين في.  كل البلاد للاشتراك به وفي يوم ٤ من أبريل من سنة ١٩٠٦ افتتح المؤتمر في القاهرة في منزل عرابي باشا في باب اللوق وبلغ عدد مندوبي إرساليات التبشير ٦٢ بين رجال ونساء. وكان عدد منا ومندوبي إرساليات التبشير الأمريكية التي في الهند وسوريا والبلاد العثمانية وفارس ومصر واحدا وعشرين ومندوبو إرساليات التبشير الإنكليزية خمسة واشتركت في المؤتمر الإرساليات الأسكتلندية والإنكليزية المنفردة والألمانية والهولندية والسويدية وإرسالية التبشير الدنمركية الموجودة في بلاد العرب.
انتخب القسيس (زويمر) رئيسا للمؤتمر، وعين معه نائب رئيس وكتبة، وحددت أيام الجلسات.
وهذا برنامج المسائل التي تفاوضوا فيها:
ملخص إحصائي عن عدد المسلمين في العالم، الإسلام في أفريقية، الإسلام في السلطنة العثمانية، الإسلام في الهند، الإسلام في فارس، الإسلام في الملايو، الإسلام في الصين، النشرات التي ينبغي إذاعتها بين المسلمين المتنورين والمسلمين العوام، التنصر، الارتداد، وسائل إسعاف المتنصرين المضطهدين، شئون نسائية إسلامية، موضوعات تتعلق بتربية المبشرين والعلاقات بينهم وكيفية التعليم في الإسلام.
وهذه الموضوعات جمعت على حدة في كتاب كبير اسمه "وسائل التبشير بالنصرانية بين المسلمين"ثم صنف القسيس زويمر كتابا جمع فيه بعض تقارير عن التبشير وسماه "العالم الإسلامي اليوم".


* وسائل لتبشير المسلمين بالنصرانية:
جمع هذا الكتاب ونشره القسيس (فلمينغ) الأمريكي وكتب عليه هذه الكلمة "نشرة خاصة"بمعنى أنه طبع ليتنقل في أيدي فئة خاصة من رجال.   التبشير لا ليطلع عليه كل الناس وقد ضمنه المباحث التي دارت في مؤتمر القاهرة واختتمه بنداءين استنهض بأحدهما همم رجال النصرانية ليجمعوا قواهم ويتضافروا بأعمال مشتركة وعمومية فيستولوا على أهم الأماكن الإسلامية. والنداء الثاني خاص بأعمال نسائية.
أما الفصل الأول من الكتاب فيبحث في الطريقة التي ينبغي انتهاجها في التبشير وعما إذا كان مفيدا ضم إرساليات تبشير المسلمين إلى إرساليات تبشير الوثنيين، وفضل بقاءهما منفصلتين.
وفيه البحث أيضا عما إذا كان الإله الذي يعبده المسلمون هو إله النصارى واليهود أم لا؟ وقد صرح (الدكتور لبسيوس) في مؤتمر القاهرة بأن إله الجميع واحد إلا أن القسيس زويمر خالفه في هذا الرأي فقال: إن المسلمين مهما يكونوا موحدين فإن تعريفهم لإلههم يختلف عن تعريف المسيحيين؛ لأن إله المسلمين ليس إله قداسة ومحبة ..
وفي الفصل الثاني والثالث بحث في الصعوبات التي تحول دون تبشير المسلمين العوام وذكر الوسائل التي يمكن استجلابهم بها وتحبيب المبشرين إليهم، وأهم هذه الوسائل العزف بالوسيقى الذي يميل إليه الشرقيون كثيرا، وعرض مناظر الفانوس السحري عليهم وتأسيس الإرساليات الطبية بينهم، وأن يتعلم المبشرون لهجاتهم العامية واصطلاحاتها نظريا وعمليا، وأن يدرسوا القرآن ليقفوا على ما يحتويه، وأن يخاطبوا العوام المسلمين على قدر عقولهم ومستوى علمهم، ويجب أن تلقى الخطب عليهم بأصوات رخيمة وبفصاحة، وأن يخطب المبشر وهو جالس ليكون تأثيره أشد على السامعين، وأن لا تتخلل خطاباته كلمات أجنبية عنهم، وأن يبذل عناينه في اختيار الموضوعات، وأن يكون واقفا على آيات القرآن والإنجيل عارفا بمحل المناقشة، وأن يستعين قبل كل شيء بالروح القدس والحكمة الإلهية، ومن الضروري أن.   يكون خبيرا بالنفس الشرقية وأن يستعمل التشبيه والتمثيل أكثر مما يستعمل القواعد المنطقية التي لا يعرفها الشرقيون.
وختم المؤلف هذين الفصلين بأن أكثر المسلمين الذين تنصروا إنما هم من العامة والأميين.
وفي الفصل الرابع يأتي ذكر الصعوبات التي تقف في سبيل تبشير المسلمين المتنورين وهذه الصعوبات هي التي جعلت المؤتمر يترك المذاكرة في بادئ الأمر بمسألة التنصير، فخاض في البحث عن الوسائل التي يكون لها تأثير -ولو قليلا- على الناشئة الإسلامية لتدرك الأمور الاجتماعية والخلقية والأدبية.
وهنا قال سكرتير المؤتمر: إن الخطة العدائية التي انتهجها الشبان المسلمون المتعلمون اضطرت المبشرين في القطر المصري إلى محاولة إعادة ثقة الشبان المسلمين بهم، فصار هؤلاء المبشرون يلقون محاضرات في موضوعات اجتماعية وخلقية وتاريخية لا يستطردون فيها إلى مباحث الدين، رغبة في جلب قلوب المسلمين إليهم. وأنشاوا بعد ذلك في القاهرة مجلة أسببوعية اسمها (الشرق والغرب) افتتحوا فيها بابا غير ديني يبحثون فيه بالشئون الاجتماعية والتاريخية، وأسسوا أبضا مكتبة لبيع الكتب بأثمان قليلة والغرض من ذلك استجلاب الزبائن ومحادثتهم في أثناء البيع.
وقد مضى على ذلك ثلاث سنوات تسنى فيها للمبشرين أن يتوصلوا إلى النتائج الآتية:
الأولى: أنهم عرفوا أحوال البلاد وأفكار المسلمين وشعورهم وعواطفهم وميولهم.
الثانية: أنهم حصلوا على ثقة عدد من المسلمين بهم.
الثالثة: أن المبشرين تحققوا أنهم بتظاهرهم في وداد المسلمين وميلهم إلى.  ما تطمح إليه نفوسهم من الاستقلال السياسي والاجتماعي والنشأة القومية يمكنهم أن يدخلوا إلى قلوبهم.
وبناء على هذا ساعد المبشرون الشبان المسلمين فى تأسيس جمعية الغرض منها إيجاد صلة وتقرب بين الطبقة المتعلمة والطبقات المتعددة التي تتألف الأمة منها وإنماء روح الاتفاق هذه هي الطريقة التي استحسنها المبشرون بعد أن علموا أن الأمور التي يتذرعون بها وتكون صبغتها دينية لا ريب أن عاقبتها الفشل. ولكن المبشرين الذين هم على شيء من الجرأة يقولون إنهم سمعوا بعض المسلمين يشكون من الزواج في الإسلام وتعدد الزوجات وتربية المرأة وعدم وجود التسامح الديني.
وكل ما خاض فيه المؤتمر من هذه المباحث يختص بالمجهودات التي يبذلها المبشرون لتبشير الشبيبة الإسلامية التي تعلمت على الطريقة الأوربية وفي مدارس الحكومة وما يلقونه من الصعوبات والفشل في تنصيرها.
أما الذين تعلموا على الطريقة الشرقية في الأزهر وما يماثله فلم يتكلم أعضاء المؤتمر عنهم إلا بعض اقتراحات ونظريات: من ذلك أن أحد أعضاء المؤتمر أفاض في وصف ما للجامع الأزهر القديمم من النفوذ وإقبال الألوف عليه من الشبان المسلمين في كل أقطار العالم. وتساءل عن سر نفوذ هذا الجامع منذ ألف سنة إلى الآن ثم قال: إن السنيين من المسلمين رسخ في أذهانهم أن تعليم العربية في الجامع الأزهر متقن ومتين أكثر منه في غيره والمتخرجون في الأزهر معروفون بسعة الاطلاع على علوم الدين، وباب التعليم مفتوح في الأزهر لكل مشايخ الدنيا خصوصا وأن أوقاف الأزهر الكثيرة تساعد على التعليم فيه مجانا؛ لأن في استطاعته أن ينفق على ٢٥٠ أستاذا. ثم تساءل عما إذا كان الازهر يتهدد كنيسة المسيح بالخطر، وعرض اقتراحا يريد به إنشاء مدرسة جامعة نصرانية تقوم الكنيسة بنفقاقها وتكون.   مشتركة بين كل الكنائس المسيحية في الدنيا على اختلاف مذاهبها لتتمكن من مزاحمة الأزهر بسهولة وتتكفل هذه المدرسة الجامعة بإتقان تعليم اللغة العربية.
ثم قال إن في الإمكان مباشرة هذا العمل في دائرة صغيرة وهي أن تخص أولا بتعليم المسلمين المتنصرين وتربيتهم تربية إسلامية ليتمكن هؤلاء من القيام بخدم جليلة في تنصير المسلمين الآخرين.
وختم كلامه قائلا: ربما كانت العزة الإلهية قد دعتنا إلى اختيار مصر مركز عمل لنا لنسرع بإنشاء هذا المعهد المسيحي. لتنصير الممالك الإسلامية.
وفي الباب الخامس ذكر المولف ما دار في المؤتمر عن النشرات التي ينبغي للمبشرين إذاعتها لتنصير المسلمين. وقد ظهر للمؤتمر أن التوراة مترجمة إلى معظم اللغات الإسلامية وأكثر لهجاتها، أما أدبيات التبشير ومؤلفاته فمترجمة إلى اللغات الإسلامية المهمة فقط.
وقد اقترح أحد المندوبين أن تراجع المؤلفات التي قدم عليهم العهد لإصلاحها واستخدامها في تبشير المسلمين المتنورين الذين اقتبسوا علومهم في المعاهد العصرية مثل مدرسة أكسفورد وبرلين، إلى وجوب تخفيف اللهجة في المجادلات الدينية.
وقال مندوب آخر: إن الحاجة الشديدة إلى نشر كتب في الموضوعات الدينية الآتية: أسماء وألقاب المسيح التي في الأناجيل، طبيعة الخطيئة الأصلية، ضرورة الغفران، الجنة وكيفية الحصول عليها، الروح القدس وأعماله، عقيدة سر التجسد، الإنسان فرد اجتماعي وخالقه ليس كذلك، وأن الإله الاجتماعي يشمل الثالوث، الشيطان وكيفية الخلاص منه.


* إرساليات التبشير الطبية:
خاض المؤتمر بعد ذلك في مسالة إرساليات التبشير الطبية، فقام المستر. (هاربر) وأبان وجوب الإكثار من الإرساليات الطبية لأن رجالها يحتكون دائما بالجمهور ويكون لهم تأثير على المسلمين أكثر مما للمبشرين الآخرين. وهنا ذكر المستر هاربر حكاية طفلة مسلمة عني المبشرون بتمريضها في مستشفى مصر القديمة، ثم ألحقت بمدرسة البنات البروتستانية في باب اللوق، وكانت نهاية أمرها أن عرفت كيف تعتقد بالمسيح بالمعنى المعروف عند النصارى.
وذكر أيضا عن رجل مسلم كان يحضر محاضرات المبشرين لإثارة الجلبة والضوضاء، واتفق أنه مرض فدخل مستشفى المبشرين وبعد أن لبث فيه مدة شفي وخرج منه فصار يحضر المحاضرات في هذه المرة، ولكن بخشوع زائد وبعد ذلك بقليل تعمد وأصبح نصرانيا على مذهب البروتستان.
ثم قام الدكتور أراهارس طبيب إرسالية التبشير في طرابلس الشام فقال: إنه قد مر عليه اثنان وثلاثون عاما وهو في مهنته فلم يفشل إلا مرتين فقط وذلك عقب منع الحكومة العثمانية أو أحد الشيوخ لاثنين من زبائنه من الحضور إليه.
وأورد إحصاء لزبائنه فقال: إن ٦٨ في المائة منهم مسلمون ونصف هؤلاء من النساء وفي أول سنة مجيئه إلى حيث يبشر بلغ عدد زبائنه ١٧٥ وفي آخر سنة كان عددهم ٢٥٠٠ وختم كلامه قائلا:
يجب على طبيب إرساليات التبشير أن لا ينسى ولا في لحظة واحدة أنه مبشرقبل كل شيء ثم هو طبيب بعد ذلك.
وقام بعده الدكتور تمباني وذكر الصعوبات التي يلقاها الطبيب في التوفيق بين مهنتي التبشير والطب كما حدث معه هو. إلا أن ما بذله من المجهودات قد أعانه على النجاح حتى تمكن من تأسيس مستشفى التبشير من طريق الاكتتابات. وكان أول مكتتب لهذا المستشفى التبشيري رجلا مسلما.
وخطب الأستاذ سمبسون بعد ذلك -في بيان فضل الإرساليات.  الطبية- ومما قاله: إن المرضى والذين ينازعهم الموت بوجه خاص لا بد لهم من مراجعة الطبيب وحسن أن يكون هذا الطبيب (المبشر) في جانب المريض عندما يكون في حالة الاحتضار التي لا بد أن يبلغها كل واحد من أفراد البشر.
ثم خطبت المس (أناوستون) فتكلمت عن إرسالية التبشير الطبية في مدينة طنطا قائلة: إن ٣٠ في المائة من الذين يعالجون في مستشفى هذه الإرسالية هم من الفلاحين المسلمين وأكثرهم من النساء. أما طريقة التبشير في هذا المستشفى فهي أن يذكر الإنجيل للمرضى بأسلوب بسيط لا يدعو إلى التطرف في المناقشة إذ المستشفى يجمع بين جدرانه نساء ورجالا.


* الأعمال النسائية في التبشير:
كان لهذا الموضوع اهتمام كبير من أعضاء المؤتمر؛ لأنه خاص بنصف مسلمي العالم فقالت المس (ولسون): إن النساء المبشرات يستعن في الهند بالمدارس وبالعيادات الطبية وزيارة قرى الفلاحين لينشرن النصرانية، بين طبقات الناس.
وخطبت المس (هلداي) في حث المبشرين على الرفق بالمرأة المسلمة.
وتناوبت السيدات المبشرات الخطابة في أخبار نجاحهن في المناطق التي انتدبن للتبشير فيها. فقالت إحداهن: إن المسلمات الفارسيات يظهرن ميلا شديدا للعلم بالرغم من جهلهن باتساع نطاقه وهن يعتقدن أن الذي يعرف جغرافية البلاد نابغة. ولقصة الابن المسرف التي في الإنجيل وللمزمار الحادي والخمسين تأثير شديد على النفس المسلمة.
وقالت مبشرة أخرى إن مدرسة البنات البروتستانية التي في الخرطوم فيها من ٨٠ إلى ٩٠ تلميذة مسلمة ولأهلهن الحرية في السماح لهن بقراءة.   العهد الجديد (الإنجيل وذيوله) أو في منعهن من ذلك إلا أن المدرسة في هذه السنة لم يرد عليها طلب استثناء واحدة من التلميذات من قراءة الإنجيل.
وانتقل المؤتمر بعد ذلك إلى موضوع تربية النساء اللاتي يتطوعن للتبشير.


* المتنصرون والمرتدون:
تساءل القس (جون فان ايس) عن الأركان التي يشترط توافرها في الشخص المتنصر أو النصراني الشرقي الذي يدخل في المذهب البروتستاني.
وبعد أن بحث في ذلك قال: إن المحبة التي يعرفها نصارى الشرق تشوبها نزعة الاعتقاد بالقضاء والقدر وعقيدة الشرقيين عموما ضرب من الخرافات وإن تكن مبادئ الإيمان موجودة لديهم جميعا.
ثم تساءل عما إذا كان المسلم المتنصر أهل لنشر النصرانية وأجاب على ذلك بأن هذا الأمر هو محك إخلاصه؛ لأن نشر الدعوة أمر تقتضيه روح الإسلام وبهذا كان الإسلام دين دعوة وتبشير وكم بالحري لو انتفعنا بهذه المزية وأدخلناها في النصرانية.
وتناقش المؤتمر بعد ذلك بشأن المتنصرين المضطهدين ووسائل استخدام المخلصين منهم وإدخال الأطفال الذين اعتنقوا المذهب البروتستاني في المدارس العادية والصناعية.


* شروط التعمد:
بسط القسيس (جصب) القول في هذا البحث وسأل عن الشروط التي يجب أن تتوفر في المسلم المتنصر ليكون أهلا للتعميد، ثم قال: إن المبشرين الكاثوليك يعمدون الناس ليجعلوهم مسيحيين أما نحن فنعمدهم لأنهم مسيحيون. وذكر بعد ذلك أيام التجربة والمعلومات الدينية التي يجب على.  المتنصر معرفتها وبحث فيما إذا كان يحق له أن يتلقى سر التناول.
واستطرد المؤتمر إلى مسألة تعدد الزوجات عند المسلمين، وعن موقف المرأة التي تعمد زوجها هل يفرق الإسلام بينها وبينه أم لا؟ وعما إذا كان يجوز للمتنصر أن يتزوج ثانية أم لا؟ فتقرر أن هذه المسائل عويصة وقد سبق الخوض فيها في مؤتمر (لمبث) سنة ١٨٨٨ م.
وأن الظروف تقضي باعتبار المسلم المتنصر وهو ذو زوجات متعددة بأنه تحت تجربة إلا إذا كان تنصره في ساعة الاحتضار. أما هذه المسائل نفسها فقد تركت بدون حل.
كيف يتقرب المسلمون؟
خطب القسيس (هاريك) في هذا الموضوع فعرض على المؤتمر نتيجة أبحاثه التي أجراها في بلاد السلطنة العثمانية فمنها أنه عرف أن لا فائدة لطريقة المناظرة والجدل التي وضعها الدكتور (بفندر) المبشر ولم يكن من نتائجها غير وقوف الحكومة العثمانية في وجه المبشرين والذين ينتمون إليهم.
أما ترجمة الإنجيل وكتب التبشير إلى اللغة التركية بدون مناقشة ومجادلة فكانت أكثر فائدة وأعم نفعا وقد تبين أنه بمجرد اشتراء المسلمين لهذه الكتب ومطالعتها لها صارت تتبدد أوهامهم القديمة. ثم قال: إن الجدل والمناظرة يبعدان المحبة التي لها وقع كبير على قلوب الأغيار وتأثير عظيم في نشر النصرانية فالمحبة والمجاملة هما آلة المبشر لأن طريق الاعتقاد غايته دائما هو قلب الإنسان. وقال بعد ذلك: يرى بعضهم أن الموازنة بين حياة وأخلاق الأمم النصرانية وحياة وأخلاق الأمم الإسلامية تنتج دائما رجحان النصرانية على الإسلام.
وأنا أيضا أوافق على رأي هؤلاء ولكن من الوجهة المادية. وفي هذه الأيام نجد جمهورا عظيما من متنوري المسلمين يرغب في المناظرة والجدل.   والعثمانيون يشيرون بازدراء إلى ما حدث في بلاد الروس النصرانية في السنة الماضية خصوصا في أوربا "يريد اضطهاد نصارى روسيا ليهودها"، ويقولون لنا هذه هي نصرانيتكم وأنتم الذين كنتم قبل زمن قليل تتهموننا بلا شفقة بأنا أرقنا قليلا من الدماء أثناء استغلالنا بقمع فتنة .. وعلق القسيس على ذلك بوجوب تحلي حياة المبشر بمبدأ المسيحية قبل أن يعنى بالأمور النظرية كيما يظهر للمسلم أن النصرانية ليست عقيدة دينية ولا دستورا سياسيا بل هي الحياة كلها. وأنها تحب العدل والطهر وتمقت الظلم والباطل: نفتح للمسلم مدارسنا ونتلقاه في مستشفياتنا ونعرض عليه محاسن لغتنا ثم نقف أمامه منتظرين النتيجة بصبر وتعلق بأهداف الأمل إذ المسلم هو الذي امتاز بين الشعوب الشرقية بالاستقامة والشعور بالمحبة ومعرفة الجميل.
بهذه الطريقة فقط يمكن للمبشر أن يدخل إلى قلوب المسلمين ولو أن أحدا أظهر لنا شغفا وميلا عظيما إلى طرد كل العثمانيين من أوربا ومن وجه الأرض كلها يجب أن نجيبه قائلين بل سنتحد إن شاء الله مع العثمانين وندعوهم بكل إخلاص للاشتراك معنا في اقتباس أنوار النصرانية.


* موضوعات تبشيرية:
خاض المؤتمر بعد إتمامه الموضوع السابق في موضوعات كثيرة منها كيفية عرض العقيدة النصرانية والمناظرة فيها والوسائل التي يجدر التذرع بها لنشر مبادئها والاحتكاك بالنفوس الإسلامية والوقوف أمام صبغة الإسلام والصفات التي ينبغي أن يتصف بها مبشر المسلمين بالنصرانية والإنجيل.
ثم قام القسيس (ثرونتن) وعرض على المؤتمر هذه النظريات الأولية:
ا- الشعب البسيط يلزمه إنجيل بسيط.
٢ - الشرق سئم المجادلات الدينية.
٣ - الشرق يحتاج إلى دين خلقي روحي.  
واستنتج من هذه النظريات الأولية القواعد الآتية:
١ - يجب أن لا نثير نزاعا مع مسلم.
٢ - يجب أن لا يحرض المسلم على الموافقة والتسليم بمبادئ النصرانية إلا عرضا وبعد أن يشعر المبشر بأن الشروط الطبيعية والعقلية والروحية قد توفرت في ذلك المسلم.
٣ - إذا حدث سوء تفاهم حول الدين المسيحي أن يزال في الحال ولو أفضى الأمر إلى المناقشة.
أما (لفروا) أسقف مدينة لاهور فيرى أن المبشر الذي يعد نفسه لمجادلة المسلمين في أمور الدين يجب أن تتفوق فيه الصفات الخلقية والاستقامة التامة على المزايا العقلية، وأن يكون مقتنعا بصحة البراهين التي يحتج بها وأن يكون صحيح المجاملة وأن يضع الأمل بالفوز على خصمه نصب عينية ويحاول حمل خصمه على الرضوخ للحقيقة. وهذا الأسقف يستنكر قسوة التعاليم القديمة ويرى أنها كانت ترمي إلى التغلب على العدو لا إلى اكتساب مودته. ثم قال: ويظهر لي أن كثيرا من إخواننا المبشرين يريدون أن يبشروا الناس برشقهم بالحجارة لا بعرض الحقيقة عليهم. نعم إن هذه الطريقة قد تفيد ولكني أشك في موافقتها للتبشير وبما ينتج عنها من الحالات النفسية.
وختم كلامه قائلا: يحب على المبشر أن يتذرع بالصبر والسكينة وأن يكون حاكما على عواطفه إلى الغاية القصوى. وأن لا يخالج نفسه أقل ريب في أنه هو الذي سيفوز.
وهذا كان آخر مناقشات المؤتمر. ثم قام القسيس زويمر رئيس المؤتمر وقال:
إن انعقاد هذا المؤتمر كان بالتقريب نتيجة لأعمال (شبان التبشير.  المتطوعين) أما البحث في أحوال العالم الإسلامي وتبشيره بالنصرانية فقد سبق الخوض فيه في مؤتمر كلفلند. وهذه الخريطة التي نراها أمامنا الآن موسوعة باسم "خريطة تنصير العالم الإسلامي في هذا العصر"، قد بعثت الأمل في قلوب ألوف من الطلبة في مؤتمر (ناشفيل) الذي انعقد في شهر فبراير (شباط) الماضي والتبشير متوقف على وجود زمرة من المبشرين المتطوعين الذين يقفون حياتهم ويضحونها في هذا السبيل، ثم ختم كلامه راجيا أن يكون لندائه صدى في المدارس الجامعة في أوربا وأمريكا" (١).
"ومن الأمور العجيبة في ذلك العهد أن (أحمد عرابي) الذي اكتوى بخيانة الصليبيين أثناء الحملة على الحبشة، ورأى تآمرهم وغدرهم، يقع في شراكهم، وينخدع بهم، ولنستمع له عندما عين وكيلا لنظارة الجهادية حيث يقول: "ولما استلمت منصبي الجديد كثر توارد المتظلمين علي من أرجاء البلاد .. في تلك المدة حضر إلى منزلي الرجل المتفاني في حب الحق والعدل والحرية!!، محب الشرقيين عموما والمصريين خصوصا!!! (المستر ولفرن سكاون بلانت)، وكان معه صاحبه العلامة (القس الصابرنجي) صاحب جرنال النحلة، وعرض علي قبول صداقته لي فقبلت منه ذلك، فمد يده إلي ومددت يدي إليه، وتصافحنا وتعاقدنا على الصداقة والإخلاص.
وكنت أظن أننا بواسطته وبفخامة مركزه في قومه، وشدة غيرته على الحرية نتمكن من تذليل الصعوبات التي يلقيها قناصل الإنجليز في طريق حريتنا ونجاح بلادنا بدعوى الإنسانية والعدل والإنصاف بين الأمم والشعوب، وهذا ما يدعيه الغربيون زورا وتضليلا دائما وهي كلمات محبوبة يدسون بها السم في الدسم ليتمكنوا من الاستيلاء على مشارق الأرض ومغاربها طمعا
وجشعا. وكذلك حضر لزيارتنا كاتم أسرار ملكة الإنجليز محب الحرية (السير وليم جريجري) الرجل الإرلندي الذي كان قد تولى حكومة جزيرة سيلان مرتين إجابة لرغبة أهل تلك البلاد" (١).
فوا عجبا متى كان الصليبيون والقساوسة متفانين في حب الحق والعدل والحرية، عاشقين للشرقيين عموما، وللمصريين خصوصا. وغريب أمر هذا الرجل .. فهل كل من يهرع إلى مكتبه أو يزوره في بيته يكون محبا للحرية والعدل حتى ولو كان أمينا لأسرار ملكة بريطانيا!!.
والحقيقة التي يؤسف لها أن "القائد أحمد عرابي"الذي قاد الثورة الشعبية ضد الإنجليز و (الخديوي توفيق) عام ١٨٨٢ م كان في الواقع بعيدا عن عقيدة أهل السنة والجماعة، جاهلا لكثير من قضاياها المهمة التي على رأسها عقيدة الولاء والبراء والتي أجزم أنه لم يع معناها أبدا.
بالإضافة إلى عدم وضوح المنهج وصفاء الرؤية، واعتقاده الساذج أنه يمكن أن يستغل علاقاته بهؤلاء الماكرين في إزالة الصعوبات التي كان يضعها الإنجليز في طريق حرية البلاد واستقلالها.
هذا الخلل الخطير في شخصية الزعيم (أحمد عرابي) كان من الأسباب الخطيرة في انهزام الجيش المصري، وانتصار الجيش البريطاني بكل سهولة.
فحين احتل الإنجليز الإسكندرية عزم عرابي على ردم مدخل القناة ليمنع الأسطول الإنجليزي من إنزال جنوده في الجبهة الشرقية، ولكن المستر ديلسبس أثناه عن عمله هذا، ووعده بمنع الأسطول من المرور في القنال.  ..اعتمادا على حيادها (١).
ولكن هذه الوعود سرعان ما تلاشت، وخدع بها القائد (عرابي) وعبر الأسطول الإنجليزي قناة السويس ليطوق البلاد من الشرق والغرب، وتقع الكارثة، ويجثم الاحتلال الإنجليزي على صدر مصر قرابة السبعين عاما.
حقا إنها مأساة متكررة، فكم رزئت الأمة بأعداد من الحكام والقواد الذين لم يكونوا جديرين ومؤهلين لقيادتها، ومع إخلاص بعضهم إلى أن جهلهم بالعقيدة الصحيحة كان سببا في إخفاق إخلاصهم، ونكبة أممهم وشعوبهم، ومن هؤلاء القائد (أحمد عرابي) الذي تصدى لقيادة الثورة والجهاد، وخلفه جموع الأمة وعلماؤها، ولكنه كان غير خليق بالقيادة بسبب ما ذكرنا (٢).
"وهذه الثورة العرابية لو قدر لها أن تنجح فربما كانت سبقت مصطفى كمال أتاتورك بأشياء كثيرة فها هو محمود سامي البارودي أحد زعمائها يقول:
"كنا نرمي منذ بداية حركتنا إلى قلب مصر جمهورية مثل سويسرا، ولكنا وجدنا العلماء لم يستعدوا لهذه الدعوة؛ لأنهم كانوا متأخرين عن زمنهم، ومع ذلك فسنجتهد في جعل مصر جمهورية قبل أن نموت" (٣).
.* أحمد عرابي والماسون:
"أنشأ الأفغاني في الإسكندرية "جمعية مصر الفتاة"، ولم يكن فيها مصري حقيقي واحد، وإنما كان أغلب أعضائها من شباب اليهود .. ! كانت هذه الجمعية سرية وكان لها صحيفة تنطق باسمها هي صحيفة "مصر الفتاة"ذكر ذلك الشيخ محمد عبده في كتابه "أسباب الحوادث العرابية" (١).
ويظهر أنهم كانوا من الأتراك النازحين؛ لأنه كان معروفا عن الأتراك المعادين لسياسة السلطان عبد الحميد أنهم يهربون إلى مصر، وإلا فما معنى قول الشيخ محمد عبده: "لم يكن فيها مصري واحد". وقد كان لهذه الجمعية دور خطير في إدارة ثورة عرابي، وهذا ما يجعلنا نشك في إخلاص أحمد عرابي في ثورته، خاصة وأنه ثبت أنه ماسوني. ورغم أن هذه الجمعية تأسست في الإسكندرية، إلا أنه أصبح لها فروع في مختلف المدن المصرية، وكانت هذه الجمعية أشبه ما تكون بجمعية تركيا الفتاة، التي حركت الثورة ضد السلطان عبد الحميد وانتهت بخلعه.
وهنا يعلق الدكتور محمد حسين على التشابه بين هاتين الجمعيتين فيقول: "هذا التشابه بين الاسمين وبين الأهداف الثورية لكل منهما، مع الاتفاق الزمني؛ لأن مؤسس تركيا الفتاة على ما هو معروف هو مدحت المعاصر للثورة العرابية، يوحي بوجود صلة ويؤيد وجود هذه الصلة أن عددا كبيرا من أعضاء الحزبين التركي والمصري كانوا من الماسون، وأن الحزبين كليهما كانا متأثرين بمبادئ الثورة الفرنسية التي كان بعض زعمائها ومفكريها من الماسون أيضا" (٢). إذن لا بد أن تكون جذور هذين الحزبين واحدة، ولا.   .يستبعد أن تكون الماسونية هي التي أوعزت إلى جمال الدين الأفغاني بتشكيل هذا الحزب أو الجمعية.
والذي يؤيد القول بأن هذه الجمعية كانت وراء ثورة عرابي وأن للماسونية الدور الأكبر في أمثال هذه الجمعيات السرية التي لا يعرف أعضاؤها ومحركوها ما جاء في البحوث التي نشرتها الجامعة الأمريكية في بيروت إذ تقول: " .. ويكفي أن نقول: أنه كان للماسونية دور كبير في هذه الجمعيات لم يكشف بعد، ولم توضح جوانبه الخفية .. ونحن نعلم أن الجمعيات الماسونية وعلى رأسها مكالييري اليوناني، قامت بدور كبير في حركة الانتفاض على حكم عبد الحميد في تركيا.
وأحب أن أشير أيضا إلى تأثر بعض هذه الجمعيات بتنظيم جمعيات الكاربوناري كما كان الأمر في "جمعية مصر الفتاة"التي نظمها عدد من يهود الإسكندرية بالاشتراك مع بعض المثقفين المصريين على غرار جمعيات الكاربوناري، وفي الجمعيات السرية في العهد الحميدي" (١). من هذا تفهم أن جمعية مصر الفتاة هي صورة مصغرة عن جمعية تركيا الفتاة، وكلاهما يعملان سرا بأوامر الماسونية اليهودية العالمية" (٢).
 
* الثعلب والجاسوس البريطاني "بلنت"تنبه له مصطفى كامل وصادقه أحمد عرابي!!
هناك صداقة مريبة جمعت بين بلنت وكل من الأفغاني ومحمد عبده وأحمد عرابي، وكان بلنت من أشد الناس تفانيا في خدمة مصالح الإنجليز رغم أنه يتظاهر بصداقته للشرق المتمثل بالشعوب التابعة لتركيا، وبعدائه.    .للحكومات البريطانية، بل كان أحيانا يتظاهر بالدفاع عن قضايا الشعوب الشرقية ويقف بجانبهم، كما وقف بجانب عر بي ودافع عنه بعد أسره، كان هذا نوعا من الدهاء والحنكة الإنجليزية.
بلنت واضع كتاب "مستقبل الإسلام "الذي يدعو فيه إلى هدم الخلافة الإسلامية بنقلها من السلاطين العثمانيين إلى العرب الضعفاء، ويدعو إلى الاعتماد على الإنجليز في إقامة خلافة إسلامية قوية. بلنت كان على صلة بزعماء الثورة العرابية التي انتهت باحتلال مصر من قبل قومه (١).
بلنت شجع عرابي على الثورة، وهو يعلم أنه ضعيف لا يستطيع الوقوف أمام جيوش الاحتلال، وهو الذي زين لعرابي الحكم الجمهوري الذي قام من أجل تحقيقه، ووقف أمام الخديوي يطالب بالتخلي عن السلطة، ففي خطاب عرابي إلى صديقه بلنت يقول: "ثم خلع إسماعيل فزال عنا عبء ثقيل، ولكنا لو كنا نحن قد فعلنا بأنفسنا لكنا تخلصنا من أسرة محمد علي بأجمعها، ولم يكن فيها أحد جدير بالحكم سوى سعيد، وكنا عندئذ أعلنا الجمهورية" (٢).
بلنت أودى بصاحبه عرابي وثورته وبلاده في الهاوية، ومع ذلك لم يفطن عرابي لخطره بل بقي على صداقته له بعد ذلك، وتولى بلنت الدفاع عنه بعد أسره ومحاكمتة (٣).
يقول الدكتور محمد محمد حسين واصفا بلنت: "والمستر بلنت كان غريبا جدا في تصريحاته، كان لا يفتر عن التنقل بين مضارب الأعراب في مصر وفي سوريا وفي نجد، يدعو المصريين إلى الثورة، ويتكلم بعد وقوعها.    .باسم عرابي، ويقدم صورا مضللة عن صفته الرسمية وقدرته السياسية" (١)، ولذا فقد لفت أنظار الكثيرين، ممن درس حياة جمال الدين الأفغاني، هذه الصداقة الحميمة لهذا الثعلب والجاسوس البريطاني، الذي تنبه له مصطفى كامل وغفل عنه جمال الدين.
وكان الدكتور محمد محمد حسين قد شعر بهذه الصلة المشبوهة بين جمال الدين وبلنت فراح يتساءل ويقول: "وفيم كانت صلة الأفغاني بهذا الرجل بلنت، ينزل ضيفا عليه عندما زار انجلترا؟ ويكتب إلى محمد عبده من بورسعيد وهو في طريقه إليها يطلب إليه أن يكون رده بعنوان المستر بلنت .. " (٢).
وكان جمال الدين يحكي أفكار بلنت في مسألة الخلافة، فقد دعا المستر بلنت المسلمين في كتابها مستقبل الإسلام"إلى نقل الخلافة من العثمانيين إلى العرب (٣). وكذلك جمال الدين كان يدعو إلى وضع الشريف حسين خليفة المسلمين بدلا من السلطان عبد الحميد الثاني (٤). وهذا يؤكد صحة قول السلطان عبد الحميد بأنهما اتفقا في وزارة خارجية بريطانية على هدم الخلافة العثمانية. ثم إن بلنت هذا رجل ملحد لا يؤمن بدين ولا شريعة، فهل يصح لمسلم مؤمن بالله واليوم الآخر أن يصادق رجلا ملحدا، يقول الدكتور محمد محمد حسين: "بلنت كان من المتحررين الذين لا يؤمنون بالمسيحية، ولا يحسنون الظن بالكنيسة الكاثوليكية" (٥).
والغريب أنه كان له اتصال وثيق بجميع من اشتغلوا بالمسألة المصرية من المصريين والأجانب منذ عهد عرابي إلى أن مات (١). فقد صادق محمد عبده وبقي يراسله وينشر أفكاره حتى بعد موت جمال الدين الأفغاني، فهو الذي توسط لدى المعتمد البريطاني كرومر، بعد احتلال مصر على أثر ثورة عرابي وطرد محمد عبده من مصر، على إعادة الشيخ محمد عبده إلى مصر (٢). ولما عاد محمد عبده إلى مصر كان أول هدف له هو ترك السياسة ومجانبة الخصام مع الحكومة البريطانية.
وقد قال اللورد كرومر نفسه في كتابه "مصر الحديثة": "إن العفو صدر عن الشيخ محمد عبده بسبب الضغط البريطاني" (٣).
وأعجب من هذا أن تجد بعض المؤرخين المغفلين يقول: بأن بلنت كان رجلا أرستقراطيا وثريا، وكان يحب العرب والشرق ويدافع عن قضاياهم ويعطف على ثوراتهم وقادتهم ومفكريهم، منهم جمال الدين الأفغاني وأحمد عرابي ومحمد عبده وغيرهم، وكذا كانت صداقته لهم شريفة!! (٤).
ويقول الشيخ محمد الجنبيهي وهو من علماء الأزهر المعروفين بالصلاح والتقوى في كتابه "بلايا بوزا"يعارض فكر طه حسين ومحمد عبده: يقول الجنبيهي في صلة محمد عبده باللورد كرومر وبالمستر بلنت "لما شرعت القوة البريطانية في نفي الخونة العرابيين، ذلك النفي الصوري، كان.   نفي ابن عبده الغرابلي في البلاد الشامية وحده ليفتن فيها من أراد الله فتنته.
فلما انقضت مدة النفي، ورجع إلى الديار المصرية، كانت ثقة اللورد كرومر به أكبر ثقة. فسكن في "منشية الصدر"بعيدا عن عيون الرقباء وكانت الواسطة بينه وبين اللورد رجلا إنكليزيا اسمه "بلنت" .. " (١).
يقول الدكتور محمد محمد حسين في كتابه "الإسلام والحضارة العربية" (ص ٩٤) بالهامش "يرى المؤلف (٢) أن عرابي كان خائنا، وأنه كان يمثل الجناح الحربي في مدرسة الأفغاني، بينما كان محمد عبده يمثل الجناح الفكري، ويستدل على ذلك بصلتهما المشتركة وصلة أستاذهما الأفغاني من قبل بالمستر بلنت، الذي كان يعمل على تمزيق الدولة الإسلامية. فالمستر بلنت -كما هو معروف- هو الذي تولى الدفاع عن عرابي في محاكمته، وهو الذي أصدر بيانا باسم الثورة العرابية نشره في جريدة التيمز، يصف فيه الحزب الوطني الذي أعد للثورة بأنه "حزب سياسي لا ديني""الاتجاهات الوطنية" (١/ ١٥٤).


* موقف محمد الهدي السنوسي شيخ السنوسيين من الحركة العرابية:
لم يقتنع المهدي السنوسي بجدوى الثورة، كأسلوب لتحقيق مطالب عرابي؛ لأنها تتيح للأجانب التدخل، وقد وضح هذا الرأي في رسالة بعث بها محمد الشريف أخو المهدي إلى الشيخ مصطفى المحجون شيخ زاوية الطيلمون بتاريخ شعبان ١٣٠٦ هـ بمناسبة قيام إحدى قبائل برقة بالعصيان على الدولة العثمانية، إذ قال فيها: "ونرجو أن تكون الفتنة التي بالوطن قد طفئت؛ لأنها مخيفة سيئة العاقبة، تشبه الفتنة العرابية التي من أجلها حل.    .بالوطن الشرقي وأهله ما حل؛ لأنهم يحركونها ويعجزون عنها فتكون العاقبة التسليم للأجانب، فلو أنهم سلكوا طريقا غير هذا لكان أسهل وآمن عاقبة ولسوف تكشف الأيام الكثير عن خبايا الثورة العرابية" (١).


* جمال الدين الأسد آبادي المشهور بالأفغاني:
لقد قدمنا صفحات كثيرة من الفكر المشبوه لهذا الرجل ورئاسته للمحفل الماسوني "كوكب الشرق"وعضوية محمد عبده فيه كما يؤكد ذلك الشيخ محمد رشيد رضا (٢)، واعتناقه لفكر وحدة الوجود.
وقد تعرضنا وسنتعرض لفكره بإسهاب في المدرسة العقلية وكتابات الدكتور محمد محمد حسين ونزيد هنا بمحاولته وتلاميذه - وهي المحاولة الأولى في التاريخ الإسلامي للتقريب بين الإسلام والمذاهب البشرية الوضعية، فهو يقول عن الاشتراكية:
"وهكذا دعوى الاشتراكية .. وإن قل نصراؤها اليوم فلا بد أن تسود في العالم يوم يعم فيه العلم الصحيح ويعرف الإنسان أنه وأخاه من طين واحد أو نسمة واحدة وأن التفاضل إنما يكون بالأنفع من المسعى للمجموع".
ويقول: "أما الاشتراكية في الإسلام فهي ملتحمة مع الدين الإسلامي ملتصقة في خلق أهله، منذ كانوا أهل بداوة وجاهلية، وأول من عمل بالاشتراكية بعد التدين بالإسلام هم أكابر الخلفاء من الصحابة، وأعظم المحرضين على العمل بالاشتراكية كذلك من أكابر الصحابة أيضا" (٣). أما.  .تلميذه الشيخ محمد عبده فيستحسن الأنظمة الجمهورية النيابية معتقدا أنها هي الوسيلة الحديثة للشورى الإسلامية، يقول:
"والمبايعة لا تتوقف على صحتها على الشورى ولكن قد يحتاج فيها إلى الشورى لأجل جمع الكلمة على واحد ترضاه الأمة فإذا أمكن ذلك بغير تشاور بين أهل الحل والعقد كأن جعلوا ذلك بالانتخاب المعروف الآن في الحكومة الجمهورية وما هو في معناها حصل المقصود" (١).
أما قضية المرأة فقد اعتقد الأفغاني أن من أعظم علل الشرق أن المرأة فيه ليست متساوية مع الرجل في الحقوق والواجبات، وكان من تلاميذه الذين سرت فيهم هذه الفكرة محمده عبده، وقاسم أمين الذي كان مترجما لجمعية العروة الوثقى (٢، ٣)
وكانت أفكار محمد عبده منطلقا للهجوم على موقف الشريعة من المرأة (٤).
ولعل الله يمد في العمر لنكشف عن كل جوانب الفكر المشبوه لهذه المدرسة التي تضم الأفغاني ومحمد عبده، وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد، وسعد زغلول وغيرهم .. (٥)


* الشيخ محمد عبده تلميذ الأفغاني:
سبق الحديث عنه وسيأتي أيضا أثناء الحديث عن المدرسة العقلية. ولقد كان التلميذ الوفي للأفغاني، وكان أمل المخطط اليهودي الصليبي -كما.  أوضح كرومر وجب وغيرهما- أن تكون حركة الشيخ مماثلة تماما لحركة (سير أحمد خان) مؤسس جامعة (علي قره) بالهند التي تسمت (المعتزلة الجدد) وكانوا مفتونين بحضارة الغرب منبهرين بها إلى أقصى حد.
ولكن ظروف مصر غير ظروف الهند، كما أن الشيخ وإن كان اعتزاليا متطرفا (١) لم يستطع أن يصدم المشاعر الإسلامية بأكثر مما فعل حيث قامت ضد بعض تصرفاته ضجة في كثير من أنحاء العالم الإسلامي (الفتوى الترنسفالية، فتوى إباحة صناديق التوفير .. ). وليس ثمة شك في أن "مصر الحديثة"التي يريدها كرومر هي دولة لا دينية لا صلة لها بالإسلام وحكومتها ستكون على الشرط الذي مر آنفا، أما محمد عبده فلم تكن لديه كما يبدو صورة واضحة، وإنما كان يهدف إلى الاصلاح الذي ينشده في ظل الاحتلال الإنجليزي. ولهذا فإن التعاون بين كرومر والشيخ يعني تقديم تنازلات من الأخير للأول، أما العدو المشترك لهما فهم العلماء. "غير الأحرار"الذين كانوا -رغم ما فيهم- ينفرون من المحتل والعمل معه في أية صورة!
وابتدأ محمد عبده عمله الاصلاحي بمهاجمة الأزهر ونقد المحاكم ونقد الحياة الاجتماعية وكرومر من ورائه يقطف الثمار.
لقد كانت بريطانيا -كعادتها- عازمة على إلغاء الشريعة الإسلامية فور تمكنها في البلاد، غير أن كرومر رأى أن أفضل وسيلة لذلك هو تفريغ المحاكم الشرعية من محتواها بأن يتولاها علماء "ذوو طابع تحرري"تتم تربيتهم بإشرافه هو والشيخ في معهد خاص لقضاة الشرع، وقوى عزمه على.  ذلك، المعلومات التي يذكر أنه حصل عليها عن الكلية التي أنشاتها في سراجيفو حكومة النمسا والمجر (١) لتخريج قضاة الشرع المسلمين والتي يقول عنها أنها: "كلية أثبتت نجاحها من كل الوجوه"، ويتحدث عن ذلك في تقريره السنوي لحكومته عام ١٩٠٥:
" .. وقد وضعت هذه المعلومات تحت تصرف لجنة ذات كفاية ممتازة يرأسها المفتي الأكبر السابق (محمد عبده) بقصد وضع خطة مشابهة تلائم ظروف مصر وحاجاتها، وقد أتمت اللجنة عملها في شهر يونيه السابق ووضعت النظم المقترحة تحت تصرف الحكومة .. وهذه النظم تزود الطالب ببرامج ثقافية ذات طابع تحرري لا تحصر الطالب في الدراسات الدينية الخاصة (٢).
والعجيب حقا أن محمد عبده لم يكن يرى حرجا من اقتباس القوانين التشريعية الغربية، ما دام ذلك يحقق (الإصلاح في نظره) بل يقول العقاد - وهو من المعجبين به- إنه: "علم أن المراجع العربية لهذه القوانين لا تعطيه الإحاطة الواجبة بتلك المبادئ في أصولها المأثورة عند فلاسفة التشريع الغربيين فشرع في تعلم اللغة الفرنسية" (٣). كما أن إعجابه بالثقافة الغربية هو الذي جعله يبالغ في انتقاص الأزهر مطلقا عليه لفظ "الإصطبل أو المارستان أو المخروب"، ويحاول إصلاحه وإصلاح التعليم كله على الطريقة الغربية ويقول:
"إن كان لي حظ من العلم الصحيح .. فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر وهو إلى.  .الأن لم يبلغ ما أريد له من النظافة" (١).
لا شك أن الأزهر كان بحاجة إلى الإصلاح، ولكن الإصلاح الذي يريده الإنجليز -ومعهم الشيخ- كان من نوع آخر، لا سيما وأن شبح سليمان الحلبي يهدد كرومر كل حين (٢).
وكان من أعظم خطط الإنجليز للقضاء على الشريعة الإسلامية إنشاء "مجلس شورى القوانين"الذي كانوا يحكمون مصر من خلاله، والذي قدم الشيخ له خدمات جليلة مما دفع المستشار القضائي الإنجليزي إلى رثائه في تقريره عن المحاكم لعام ١٩٠٥ قائلا:
"ولا يسعني ختم ملاحظاتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر يوليه الفائت وأن أبدي أسفي الشديد على الخسارة التي أصابت هذه النظارة بفقده .. ".
إلى أن يقول:
"وفوق ذلك فقد قام لنا بخدمة جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم ما أحدثناه أخيرا من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية وغيرها من الإصلاحات القضائية، إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها ويناضل عنها ويبحث عن حل يرضي الفريقين كلما اقتضى الحال ذلك (! ) وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته نظرا لسمو مداركه وسعة اطلاعه وميله لكل ضروب الإصلاح والخبرة الخصوصية التي اكتسبها أثناء توظفه في محكمة الأستئناف وسياحاته إلى مدن أوربا (! ) ومعاهد العلم .. " (٣).

الفسطاط

$
0
0

الفسطاط موضع جدل الآن أطرافه وزارة الآثار، محافظة القاهرة، أجهزة أخري، والسبب عدم توحد الأطراف المشرفة علي الأثر في جهة واحدة، المنشآت الأثرية تتبع الآثار، الطرق تتبع المحافظة، إذا كانت الآثار الإسلامية فالشعائر ومن يقوم بها تتبع الأوقاف. هذا الوضع لن ينتهي إلا بتوحيد جميع الاختصاصات في جهة واحدة حتي لا يتفرق الدم بين الأطراف التي من المفروض أنها تنتمي إلي حكومة واحدة، ما يجري من خلاف علني حول أرض الفسطاط نموذج حي علي ذلك. هناك أرض مجاورة لمتحف الحضارة الذي لم يفتتح بعد، جزء منها به شواهد أثرية، وجزء آخر مجاور لا توجد به شواهد. هذه المساحة وضع البلطجية ايديهم عليها بعد تضعضع الدولة إثر ثورة يناير ودبيب الوهن إلي مؤسساتها، خاصة الشرطة، استخدام البلطجية هذه الأرض لفرز مخلفات القمامة وحرق ما تبقي منها. بدأت محافظة القاهرة عدة خطوات تنفيذية لوضع حد لهذا، دخل الوضع في مرحلة كر وفر. أجهزة المحافظة تتحرك بقرار من الدكتور جلال السعيد وهو عالم محترم ومثقف ويعرف تماما ماذا تعني الآثار، يتم إزالة المخلفات فيعود البلطجية من جديد، يتم توجيه خطابات رسمية إلي وزارة الآثار لاستلام الأرض ولكن لا شيء يحدث. اضطر المحافظ إلي التنسيق مع الداخلية، تدخلت قوات الشرطة لإزالة المخلفات وإبعاد البلطجية وتم القبض عليهم، قامت المحافظة بإنشاء سور وبوابة حتي لا يتم الاستيلاء علي الأرض مرة أخري.

وضعت خطة لرصف الطرق المحيطة بها، رئيس الوزراء ابراهيم محلب زار المنطقة، بدأ التخطيط لرصف الطريق من جامع عمرو بن العاص إلي الكنيسة المعلقة وقصره علي المشاة. انه استكمال للمشروع الذي بدأه ممدوح البلتاجي وزير السياحة الأسبق وتم خلاله إنشاء سوق الفسطاط الذي صممته المعمارية الكبيرة مني زكريا. وقد جاء هذا السوق متناسقا مع المنطقة حتي يبدو كأنه أثر قديم بعكس جامع عمرو المجاور الذي يبدو كأنه بناء حديث مع انه أول مسجد في افريقيا ويرجع ذلك إلي أسلوب الترميم والذي كان أقرب إلي إعادة البناء، المشروع الجديد الذي تتبناه المحافظة رصد له مبلغ خمسون مليون جنيه، وهذه المنطقة لا مثيل لها في العالم، إذ تضم آثارا من عصور مختلفة متعاقبة ومدينة قبطية قديمة لا مثيل لها في العالم. وأهم أول مسجد في افريقيا »عمرو بن العاص« و«الكنيسة المعلقة» أقدم وأجمل كنائس العالم، ومعبد بن عزرا أقدم المعابد اليهودية، ما تأكدت منه ان المحافظة لن تقيم أي بناء ولن تنشئ أي حديقة فوق الأرض التي اغتصبها البلطجية وتم استردادها، المهم ان تتقدم وزارة الآثار وتجري حفرياتها وتنسق مع المحافظة والجهات الأخري ذات الصلة بدلا من توجيه الاتهامات أو بث معلومات مغلوطة، ويعكس هذا ظاهرة لا تبدو إلا في مراحل الضعف، الصراع بين مؤسسات الدولة الواحدة، وهذا ما يجب حسمه.


القهوة العربية كتمرين ذهني

$
0
0

تحولت المقاهي العربية منذ زمن طويل إلى ساحة للنقاش السياسي، بعدما أصبحت السياسة فعلاً مغلقاً على النظم الحاكمة من دون سواها. ومع اندلاع «الربيع العربي»، فقدت المقاهي بعضاً من معناها السياسي إلى حين، ثم عادت مع تعثر «الربيع» إلى سيرتها الأولى. حديث الأمس في «قهوة البستان» بوسط القاهرة كان عن الأسبوع الحالي باعتباره ضبابياً، فالمشير عبد الفتاح السيسي لم يعلن ترشحه الرسمي لانتخابات الرئاسة المصرية بعد، والأزمة السورية ما زالت متدحرجة من دون بوادر لاختراقات تفاوضية جديدة، والملف النووي الإيراني ينتظر الحسم التفاوضي في الصيف. أما أزمة شبه جزيرة القرم، فالاستفتاء المقرر فيها للانضمام إلى روسيا لن يكون نهاية المطاف على أي حال. إذ إن النعم المتوقعة من الاستفتاء ستنقل الكرة إلى ملعب بوتين، فهل سيوافق ويضم القرم إلى روسيا ويدخل في مواجهة مكشوفة مع الغرب قد تنسحب إلى ملفات خلافية أخرى، أم يتريث قليلاً لقراءة المؤشرات قبل الإعلان عن قراره؟ الأرجح، وفقاً لمصادر «قهوة البستان»، أن بوتين سيتريث في الإعلان عن موقفه، وبالتالي، فمن غير المرجح أن يشهد الأسبوع الحالي حسماً من أي نوع في قضايا السياسة المحلية والإقليمية والدولية. ولما كان الحال كذلك، وأيضاً لمقاومة الاكتئاب الزاحف بثقة، فقد سار اتجاه هذا المقال إلى تقليب النظر في الأشياء التي تبدو روتينية في حياتنا والإضاءة على خلفياتها وجوانبها الخافية، وفي مقدمها تناول مشروب القهوة المثبت علمياً مقاومته للاكتئاب، والذي استمد المقهى اسمه منه. باختصار، تحاول السطور القادمة القيام بتمرين ذهني يدفع بلادة فكرية يتوقع أن ترتسم في أفق هذا الأسبوع.

القهوة بين العرب وتركيا

يرتبط احتساء القهوة بالعادات والتقاليد السائدة عند الشعوب العربية كما عند غيرهم من الشعوب، فالقهوة هي مشروب مفضل يومي في بلدان كثيرة حول العالم. وترتبط القهوة بالشعور الوطني العارم في حوض البحر الأبيض المتوسط أيضاً، إذ يعرف كل من سافر إلى اليونان مثلاً أن طلب «قهوة تركية» من نادل الفندق أو المطعم سيعني مناقشة مطولة عن كون الاسم الصحيح لما تريد هو «القهوة اليونانية». وعلى ذات المنوال إذا تجرأت كمصري على طلب «قهوة تركية» في لبنان، فستواجه فوراً بنظرات العتاب لأن ... القهوة عربية. دخلت القهوة دول المنطقة قادمة من أفريقيا في بدايات القرن السادس عشر، أولاً إلى اليمن ومنه إلى مكة والقاهرة، فسوريا، ومن ثم في منتصف القرن السادس عشر إلى تركيا. وبالرغم من معارضة بعض رجال الدين في البلاط العثماني لمشروب القهوة، فقد تم افتتاح أول مقهى في اسطنبول العام 1554، قبل أن يعود السلطان مراد الثالث ليمنع القهوة وتناولها في نهايات القرن السادس عشر. وظل مشروب القهوة عرضة للمنع في السلطنة العثمانية حتى صدور قانون التنظيمات العام 1839، هو الذي قنن تناول القهوة في تركيا من وقتها وحتى اليوم. تختلف طريقة إعداد القهوة وطهوها في دول العالم المختلفة، حيث يعتاد الناس في الغرب على احتسائها صباحاً بكمية فنجان كبير مع طعام الإفطار، في حين يعود بعضهم لتناول فنجان كبير آخر بعد الظهر. أما القهوة العربية فتختلف عن مثيلاتها الأوروبية والأميركية من حيث المذاق والكمية وطرق الإعداد، بل إن طرق تحميص حبات البن تختلف في القهوة العربية عن القهوة الغربية. وحتى داخل البلدان العربية ذاتها، تختلف طريقة إعداد القهوة، ففي مصر، مثلاً، يحتسي المصريون القهوة على «الطريقة التركية»، أي بالحرص على وجود طبقة من الرغوة في الفنجان صغير الحجم، كدليل على جودة طهوها. وفي مناسبات اجتماعية بعينها، مثل الخطوبة أو العزاء، لا بد من توافر الرغوة التي يطلق عليها المصريون «الوجه»، حيث لا يمكنك التلذذ بقهوة من دون وجه! وفي لبنان، يفضل اللبنانيون احتساء القهوة مرة ومغلية وبدون وجه، وأيضاً بكميات أكبر من المصريين المحبين للشاي، ولكن تلك قصة أخرى!
لطالما تمتعت بالتجول في محال بيع القهوة العربية بالقاهرة، وعاينت الفوارق بين حبات القهوة وأنواعها بين بن غامق وبن فاتح و«قهوة محوجة» (مخلوطة بالتوابل) و«قهوة سادة»، أي طحين حبات القهوة بدون إضافة توابل. في محال القهوة الشهيرة بلبنان، تجتمع الكرة الأرضية في جولة بين القهوة البرازيلية والكولومبية، والكينية والاثيوبية، والفيتنامية والاندونيسية، وحيث يمكنك أن تجد القهوة المخلوطة وفق نسق بعينه، لا يعتمد فقط على جغرافيا البن، وإنما على مقاديره أيضاً، مثل خلطة «الحاج يوسف» أو خلطة «أم أحمد» وهكذا.

القهوة في الخليج

يتفنن العرب في الخليج بإعداد القهوة أيضاً، لكن بطرائق مغايرة، فالقهوة هناك تختلف عن مثيلاتها في مصر ولبنان من حيث مرارتها والفناجين التي تقدم فيها، تلك التي يطلق عليها استكان. سألت أحد أصدقاء الدراسة الخليجيين قبل سنوات طويلة في أوروبا عن نوع القهوة الذي يفضل شراءه، فقال لي بتنهد من يسترجع ذكريات حلوة: إذا أردت شراء قهوة عربية طيبة المذاق، فأطلب «قهوة مزينة برية». حفظت الاسم في ذاكرتي لسنوات طويلة، ثم تحققت زيارة بلد خليجي قبل فترة، فقررت عدم تفويت فرصة لشراء قهوة عربية. تدخل المحل في العاصمة الخليجية وتستمتع برائحة حبات القهوة المحمصة، مثل كل مرة تدخل فيها محلات بيع القهوة، ويحاول أنفك التمييز بين ذاكرة الرائحة في لبنان ومصر وتركيا والخليج. يقابلك عامل المحل عند الدخول، فتعرف من ملامحه وقسماته أنه تايلندي. يسألك بعربية مكسرة عما تريد. تقول باختصار الكلمة التي حفظتها بالذاكرة لسنوات طويلة: قهوة مزينة برية. باحتراف، يقوم بكيل كيلو من حبات القهوة الفاتحة اللون وأصلها من اليمن الشقيق، الذي يشتق اسم القهوة العربية «موكا» من الميناء الشهير فيه (ميناء المخا). تلاحظ أنه يتم تحميص حبات القهوة الخليجية لدرجة خفيفة، مقارنة بحبات القهوة في مصر ولبنان. لكن الاختلاف الأساسي يظهر مع المقادير، حيث يضيف البائع إلى حبات القهوة الخليجية حبات الهيل الخضراء وأعواد القرفة وشعيرات الزعفران، ثم يقوم بطحنها جميعاً حتى يصبح مسحوقاً يضعه في أكياس ليقدمه لك في النهاية. تدفع ثمن القهوة، وتغادر المكان سعيداً بما حصلت عليه.

القهوة العربية كمنتج معولم

تشرع بعد عودتك في شرب القهوة العربية الخليجية بكميات قليلة مع تناول حبات التمر، لتخفيف مرارتها المحببة. تتأمل في الاستكانة التي اشتريتها مع القهوة، فتجدها بيضاء، يمر خط ذهبي عند فوهتها، ومشغولة بشكل تقليدي على الطراز العربي. تقلب الاستكانة بين يديك؛ فتجد نقشاً بالإنكليزية معناه: صنع في الصين. تسترجع مكونات قهوتك العربية وتبحث عن أصلها وفقاً للجغرافيا فتجد التالي: الهيل موطنه الأساسي جنوب الهند وسيريلانكا، ويزرع الآن في غواتيمالا وفييتنام وتنزانيا. أما القرفة فبلدها الرئيس الصين، حيث وجدت هناك قبل ثلاثة آلاف عام، قبل أن ينقلها فاسكو داغاما من سيريلانكا إلى أوروبا في القرن الخامس عشر الميلادي. وإذ يحتاج المرء لانتاج كيلو من الزعفران إلى عدد نباتات يتراوح بين ثمانين ألفا ومئة وخمسين ألف نبتة تزرع على مساحة ألف متر مربع، يقضي العامل الزراعي يوماً كاملاً لقطاف ما وزنه ستون غراماً فقط. ويعد الزعفران أغلى التوابل في العالم قاطبة، وتتوزع مناطق زراعته بين إيران واسبانيا وايطاليا وتركيا واليونان. أما من حيث الثمن الذي دفعته لقاء شراء قهوتك، فكن واثقاً أن أقل الأجزاء منه سيذهب إلى مالكي حقول القهوة في تلك البلاد البعيدة، ومن أقل الأجزاء هذا سيذهب أقل القليل إلى الأجراء الذين يزرعون القهوة لساعات طوال في ظروف عمل قاسية، حتى تصل في النهاية إلى يديك أنت الجالس في استرخاء بالشرق الأوسط. سيلتهم أجزاء أكبر من السعر النهائي الذي دفعت لقاء القهوة كل من البائع النهائي والمستورد في بلدك، وشركات النقل الدولية والضرائب التي تفرضها دولتك على المستوردات، ومن ثم يمكنك التفكير في أولويات دولتك في إنفاق إيراداتها وفقاً لانحيازاتها الاجتماعية والسياسية. تمسك الاستكان وتعود بذاكرتك سنوات طويلة إلى الوراء، مستذكراً المرة الأولى التي عرفت فيها ذلك الفارق الجوهري بين السعر والقيمة، في مثال تطبيقي معولم وحديث.

غطرسة إسرائيلية (4)

$
0
0

كانت مصر دولة معتمدة فى تسليحها بالكامل على الخارج، فلم تكن هناك أي صناعة عسكرية تذكر. وكان المورد الاساسي وربما الوحيد هو الإتحاد السوفيتي. ةفى عام 1998 أدلي رئيس الأركان المصرى الذى خاض المعارك الفريق سعد الدين الشاذلى بحديث إلى قناة الجزيرة عن ذكريات حياته العسكرية. والشاذلى هو الرجل الذى إختلف إختلافا عميقا مع الرئيس السادات فى ليلة التاسع عشر من أكتوبر بمقر القيادة المصرية حول طريقة التعامل مع الثغرة التى نتجت عن مغامرة الجنرال شارون لدخول الضفة الغربية لقناة السويس. وخلافه مع السادات أدي إلى عزله من قيادة الأركان وتوليه وظيفة مدنية هي سفير لجمهورية مصر العربية فى لندن. وقد إختلف مرة ثانية من هذا المنصب الجديد مع الرئيس السادات بسبب زيارة القدس واستقال من الوظيفة ومن كل مصر وظل بالخارج حتى عام 1990 عندما عاد لمصر وحوكم وقضى فترة بالسجن بتهمة إفشاء أسرار عسكرية أثناء وجوده بالخارج. وق\ ظل من أشد معارضى السادات حتى وفاته فى عام 2011. وفى ذلك الحديث قال الفريق الشاذلى أن القوات المسلحة المصرية لم تكن تملك خطة للتعمق داخل سيناء لأكثر من 7 أو 10 كم بعد خط القناة. ثم قال أن السبب يكمن فى عدم وجود صواريخ دفاع جوي يصل مداها إلى ما هو أبعد من ذلك وبالتالى يكون إرسال أي جنود إلى شرق هذا الخط هو عملية إنتحارية لا شئ يرجي منها سوي قتل الأفراد.

وسبب عدم إمتداد تأثير الصواريخ المضادة للطائرات لأكثر من هذا المدي هو أنها لكي تبني تحتاج إلى منشآت ثقيلة من الخرسانات والإمدادات المختلفة وهذه لا يمكن ترحيلها إلى الشرق بغرض بنائها تحت ظروف الحرب الدائرة. ولهذا كان التخطيط أن تظل هذه القواعد الصاروخية فى مكانها الأصلي غرب القناة ويظل المقاتلون المصريون محتمين بمدي تأثيرها لا يخرجون عنه.

وهذه الظروف معروفة جيدا جدا للطرف الذى يورد السلاح لمصر وهو الإتحاد السوفيتي.

وعلى ذلك يكون الإتحاد السوفيتي هو أول طرف يعلم علم اليقين بعدم قدرة مصر على توسيع أو تعميق نطاق العمليات داخل سيناء.

والرئيس السادات قد صرح فى أكثر من مناسبة بعد الحرب بأن ستراتيجيته كانت تتلخص فى عملية واضحة المعالم هي العبور ثو التشبث بشريط (10 سنتيمتر على نص قوله هو شخصيا) وعدم التفريط فى هذا الشريط بأي حال، وهذا الشريط مهما ضاق عرضه فهو كفيل بإحداث الزلزال الذى يجعل إسرائيل تعدل من موقفها "المتغطرس"وتعود إلى رشدها، حيث أن الهدف الستراتيجي لعملية أكتوبر بأسرها هي إثبات تهافت نظرية الدفاع الإسرائيلي القائمة على أن الأراضى المحتلة تضمن لها بقاءا آمنا داخل حدودها الأصلية (رغم أنها لم تقم يوما واحدا يتعريف حدودها الأصلية!!).

والفريق الشاذلى أكد بنفسه فى مذكراته وفى حديثه مع قناة الجزيرة أن المقدرة العسكرية للقوات لم تكن تسمح بأكثر من ذلك.

وعلي ذلك فالقول بأن السادات قد منع الجيش من التقدم فى عمق سيناء هو قول ينطوي إما على جهل أو على سوء طوية. هذا من ناحية مصر والإتحاد السوفيتي.

والآن نفحص أثر هذه الفقرة التى أسماها هيكل كارثية على الولايات المتحدة الأمريكية.

سبق القول بأن الإتصال المصري الأمريكي الذى جري في بداية عام 1973 عقب طرد الخبراء السوفيت بحوال 7 شهور قد أسفر عن خلق شعور لدي الإدارة الأمريكية بأن مصر تريد إبلاغها شيء ما وأنها تريد التصرف بطريقة تشبع الزهو الأمريكي الذى عبر عنه الرئيس دوايت آيزنهاور فى بيان ألقاه بنفسه عقب الغزو البريطاني الفرنسي لمصر عام 1956 والذى أبدي فيه إستياءه من عدم إبلاغ الولايات المتحدة مقدما وعدم إستشارتها. وقد نجح الرئيس السادات فى الغالب فى هذا الأمر نجاحا ملحوظا تبدي فى هرولة هنرى كيسنجر لزيارة القاهرة بمجرد تماسك وقف إطلاق النار على الجبهة المصرية حيث وصل القاهرة فى الأسبوع الأول من شهر نوفمبر والتقي بالرئيس السادات لأول مرة بدون وسطاء.

وهذه الهرولة التى سعي بها هنري كيسنجر لمقابلة السادات هي نتيجة التفاهم المتباعد الذى وقع بين الحكومتين عن طريق زيارة حافظ إسماعيل للولايات المتحدة ثم عن طريق مراسلاته مع كيسنجر بعد ذلك أثناء الأسبوع الأول للقتال. إنها وثيقة التأمين التي تهكم كيسنجر منذ 16 شهرا فقط على السادات لأنه لم يبرمها مع واشنطن مقدما قبل أن يطرد الخبراء السوفيت.

فما هي قيمة هذه الوثيقة بالضبط وما هو الدور الذى لعبته؟

إلغاء وزارة الخارجية أو خفض حجمها

$
0
0

حد يبلغ السيسي، عندي فكرة موفرة أجدع من المصابيح: اقفل وزارة الخارجية (2 مليار جنيه/السنة) أو 90% منها. لن يلاحظ أحد، في الخارج أو الداخل. لا أمزح.

استخدم شباب البلد في إنشاء موقع إلكتروني لكل الاستمارات القنصلية. وكل المراسلات الدبلوماسية تتم بالإيميل بالفعل. إيجار المقار الدبلوماسية كفيل بالانفاق على وزارة الصحة.

فكرة السفارة الدائمة تعود للقرن الثامن عشر. وقد جعلتها وسائل الاتصالات الحديثة من التراث. فمعظم الاتصالات الهامة بين دولتين أصبحت، مع اختراع الاتصالات الدولية للهاتف في الستينات، تجري مباشرة بين العاصمتين. وبالنسبة للمهام القنصلية، فقد حلت تطبيقات الحكومة الإلكترونية محل كل مهام القنصلية، من طلب وتقديم استمارات.

أما بالنسبة للاستثمار الباهظ، ألا وهو العقار الذي يأوي البعثة الدبلوماسية أو القنصلية، فقد قررت المملكة المتحدة (بريطانيا) وكندا في 2012، تقاسم مباني البعثات الدبلوماسية خفضاً للتكاليف.

في نيويورك وواشنطن فقط وزارة الخارجية المصرية لديها أكثر من 20 سائق مصري عشان مدام فتحي سرور لما تيجي تعمل شوبنج.

أهم معيار لكفاءة الدبلوماسي المصري هو إلمامه بكافة أنواع الشوبنج، وسهره على طلبات المسؤولين الزائرين. ولذا تقاس أهمية الدبلوماسي بعدد السائقين تحته، فيقول الدبلوماسيون لبعضهم "فلان ذهب إلى بعثة بخمس سائقين".

أعرف دبلوماسيين شغلوا مناصب في دول هامة لسنوات طويلة، ولا يقدرون حتى الآن على تسمية أهم خمس مناصب بتلك الدولة ولا ذِكر أو نطق أسماء شاغلي تلك المناصب أثناء خدمتهم أو قبلها أو بعدها.

وعن احتياج المسؤولين وزوجاتهم لسائقين حين يزورون مختلف البلدان، فأعتقد أن اتفاقية مع شركة تأجير سيارات مثل "أفيس"كفيلة بتلبية طلبات الزوار. وبدلاً من أفيس، يمكن تشجيع بزنس المصريين في المهجر التعاقد مع شركات سيارات ليموزين يملكها مصريين في كافة أصقاع الكوكب، فهذه المهنة هي أحد أكثر المهن التي برع فيها المصريون المغتربون.

يبقى التحدي الكبير: لو أغلقنا البعثات الدبلوماسية والقنصلية، أين سيجلس المخبرين؟ وكيف يجمعوا تقاريرهم؟

ولو سأل شخص في دولة أجنبية عن غياب بعثة دبلوماسية لمصر، يبقى فيه الخير، وعلينا تعيينه فوراً قنصلاً فخرياً، ونرسل له كرتونة عصير مانجو كل شهرين.

 

 

التغلغل العلمانى فى العالم الإسلامى-16

$
0
0

من كتاب الأعلام والأقزام فى ميزان الإسلام للدكتور السيد حسين العفانى 

ذلك، المعلومات التي يذكر أنه حصل عليها عن الكلية التي أنشاتها في سراجيفو حكومة النمسا والمجر (١) لتخريج قضاة الشرع المسلمين والتي يقول عنها أنها: "كلية أثبتت نجاحها من كل الوجوه"، ويتحدث عن ذلك في تقريره السنوي لحكومته عام ١٩٠٥:
" .. وقد وضعت هذه المعلومات تحت تصرف لجنة ذات كفاية ممتازة يرأسها المفتي الأكبر السابق (محمد عبده) بقصد وضع خطة مشابهة تلائم ظروف مصر وحاجاتها، وقد أتمت اللجنة عملها في شهر يونيه السابق ووضعت النظم المقترحة تحت تصرف الحكومة .. وهذه النظم تزود الطالب ببرامج ثقافية ذات طابع تحرري لا تحصر الطالب في الدراسات الدينية الخاصة (٢).
والعجيب حقا أن محمد عبده لم يكن يرى حرجا من اقتباس القوانين التشريعية الغربية، ما دام ذلك يحقق (الإصلاح في نظره) بل يقول العقاد - وهو من المعجبين به- إنه: "علم أن المراجع العربية لهذه القوانين لا تعطيه الإحاطة الواجبة بتلك المبادئ في أصولها المأثورة عند فلاسفة التشريع الغربيين فشرع في تعلم اللغة الفرنسية" (٣). كما أن إعجابه بالثقافة الغربية هو الذي جعله يبالغ في انتقاص الأزهر مطلقا عليه لفظ "الإصطبل أو المارستان أو المخروب"، ويحاول إصلاحه وإصلاح التعليم كله على الطريقة الغربية ويقول:
"إن كان لي حظ من العلم الصحيح .. فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر وهو إلى  الأن لم يبلغ ما أريد له من النظافة" (١).
لا شك أن الأزهر كان بحاجة إلى الإصلاح، ولكن الإصلاح الذي يريده الإنجليز -ومعهم الشيخ- كان من نوع آخر، لا سيما وأن شبح سليمان الحلبي يهدد كرومر كل حين (٢).
وكان من أعظم خطط الإنجليز للقضاء على الشريعة الإسلامية إنشاء "مجلس شورى القوانين"الذي كانوا يحكمون مصر من خلاله، والذي قدم الشيخ له خدمات جليلة مما دفع المستشار القضائي الإنجليزي إلى رثائه في تقريره عن المحاكم لعام ١٩٠٥ قائلا:
"ولا يسعني ختم ملاحظاتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر يوليه الفائت وأن أبدي أسفي الشديد على الخسارة التي أصابت هذه النظارة بفقده .. ".
إلى أن يقول:
"وفوق ذلك فقد قام لنا بخدمة جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم ما أحدثناه أخيرا من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية وغيرها من الإصلاحات القضائية، إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها ويناضل عنها ويبحث عن حل يرضي الفريقين كلما اقتضى الحال ذلك (! ) وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته نظرا لسمو مداركه وسعة اطلاعه وميله لكل ضروب الإصلاح والخبرة الخصوصية التي اكتسبها أثناء توظفه في محكمة الأستئناف وسياحاته إلى مدن أوربا (! ) ومعاهد العلم .. " (٣).
وقد يكون أخطر آثار محمد عبده التي تعد ركيزة من ركائز العلمانية في العالم الإسلامي إضعاف مفهوم "البراء والولاء، ودار الحرب ودار الإسلام"إذ كان الشيخ أعظم من اجترأ عليه من المنتسبين للعلماء، لا بتعاونه مع الحكومة الإنجليزية الكافرة فحسب، ولكن بدعوته الصريحة إلى موالاة الإنجليز وغيرهم -بحجة أن التعاون مع الكفار ليس محرما من كل وجه- ودعوته إلى التقريب بين الأديان.
حقيقة أن الراي العام الإسلامي قد ثار على بعض فتاوى الشيخ التي أباح بها موالاة الكفار، ولكن تأثيرها في الأمة لا شك فيه، لا سيما في تلك الفترة الحرجة التي تتميز بغبش الرؤية واختلاط المفهومات.
ويليها في الخطورة فتواه حول إباحة الربا بطريق صناديق التوفير معتمدا -كما يرى العقاد- على مفهوم الآية من أنه لا يحرم من الربا إلا الأضعاف المضاعفة!
وأخيرا فإن الشيخ -بقصد أو بدون قصد- قد أوجد القاعدة التي ارتكز عليها من يسمون دعاة الاصلاح (١) للتعلق بأذيال الغرب وإقصاء الإسلام عن توجيه الحياة، إذ ظلوا ينقضون عرى الإسلام عروة عروة حتى أن المعركة الآن أصبحت تدور ضد قانون الأحوال الشمخصية وهو البقية الضئيلة من آثار الشريعة الإسلامية والميزة الأجتماعية التي تميز المسلم من غيره.
لم يكن محمد عبده علمانيا ولكن أفكاره تمثل بلا شك حلقة وصل بين العلمانية الأوروبية والعالم الإسلامي، ومن ثم فقد باركها المخطط اليهودي الصليبي واتخذها جسرا عبر عليه إلى علمانية التعليم والتوجيه في.  ..العالم الإسلامي وتنحية الدين عن الحياة الاجتماعية بالإضافة إلى إبطال العمل بالشريعة والتحاكم إلى القوانين الجاهلية المستوردة، - واستيراد النظريات الاجتماعية الغربية، وهو ما تم جميعه تحت ستار "الإصلاح "أيضا (١). أما الجماهير الإسلامية فقد اتخذت أفكار الشيخ الإصلاحية مبررا نفسيا لتقبلها للتغير العلماني المتدرج في الدول العربية.
وقد صور محمد المويلحي في عمله الرائع "حديث عيسى بن هشام "شيئا من ذلك على لسان أبطال الرواية، إذ يسال أحدهم متعجبا كيف ساغ للمصريين أن يأخذوا بقانون نابليون المخالف للشريعة؟ فيجيب الأخر بأن المفتي أقسم بالله أنه موافق للشريعة (٢).
وانظر كيف حرص المغرضون على تضخيم فتوى محمد عبده ليبتروا هذا الجانب بكامله عن الشريعة، وممن استخدموا لذلك حفني ناصف الذي قال: "إن الربا بفائده ليس من أنواع الربا المحرم، وأن سبب تخلف مصر هو عدم فتح بنوك على الطريقة الغربية"، ثم تلاه من تلاه حتى استصدرت فتوى من أحد شيوخ الأزهر البارزين بإباحته، ولا يزال هذا هو رأي من يسمون أصحاب الاتجاه العصري (٣، ٤).
* قاسم أمين ودعوته المشبوهة إلى تحرير الراة:
ابتعث قاسم أمين إلى فرنسا للدراسة، يقول عنه مؤرخ حياته:
."ويعود قاسم إلى قاعة المحاضرات بجامعة مونبلييه وهو أشد رغبة في تعرف المزيد عن الحياة في أوروبا، وهناك يجد زميلته، "سلافا" .. فلا يتردد في سؤالها أن تصحبه إلى المجتمعات الفرنسية وتقبل هي في سرور باد، وصحبته فتاته إلى كثير من الحفلات وتعرف إلى كثير من الأسر فوجد حياة اجتماعية تختلف عن الحياة في مصر، وجد السفور بدل الحجاب والاختلاط بدل العزلة والثقافة بدل الجهالة" (١).
وعاد قاسم إلى مصر يحمل إلى أمته فكرة خطرة عرضها على أصدقائه فتردد بعضهم وأيده أكثرهم وخاصة الزعماء مثل: سعد زغلول ومصطفى كامل وأحمد لطفي السيد (٢)، وكذلك علي شعراوي زوج هدى شعراوي - الملقبة بزعيمة الحركة النسائية وغيرهم ممن قال عنهم كرومر "أسميهم حبا في الأختصار أتباع المرحوم المفتي السابق الشيخ محمد عبده! " (٣).
وأظهر قاسم فكرته تلك في كتابيه "تحرير المرأة"و"المرأة الجديدة"وعند صدور الأول شك كثيرون في كونه كاتبه لما حواه الكتاب من عرض ومناقشة الأقوال الفقهية والأدلة الشرعية التي كان مثل قاسم قليل البضاعة منها، ولكنهم لم يشكوا في أن الذي دفعه إلى الفكرة أحد رجلين إما كرومر وإما محمد عبده (٤) ويحل لطفي السيد الإشكال في كتابه قصة حياتي إذ يقول:
"إن قاسم أمين قرأ عليه وعلى الشيخ محمد عبده فصول كتاب "تحرير المرأة"في جنيف عام ١٨٩٧ قبل أن ينشره على الناس (١).
وجاء مثل هذا في كتاب "قاسم أمين"أيضا (٢).
وعلى أية حال فقد ظهر كتابه "تحرير المرأة"الذي يمكن تلخيص أفكاره فيما يلي:
١ - إن المرأة مساوية للرجل في كل شيء و "إن تفوقه البدني سببه استعمال الأعضاء" (٣) -ويتضح من هذا تعريضه بالقرآن الكريم وتأثره بالداروينية-.
٢ - "إن الانتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الإسلامية لا للتعبد ولا للأدب بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده "وهي عادة عرضت على المسلمين"من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين منها براء"لكن بالنسبة للأمم الأخرى فإن هذه العادة "تلاشت طوعا لمقتضيات الاجتماع وجريا على سنة التقدم والترقي" (٤).
٣ - إن الحجاب ليس عائقا عن التقدم فحسب بل هو مدعاة للرذيلة وغطاء للفاحشة في حين أن الاختلاط يهذب النفس ويميت دوافع الشهوة!.
وقد حرص قاسم علي تبرئة نفسه من تهمة الدعوة إلى تقليد الغرب في مناداته بهذه الفكرة (٥) مدعيا أن الدافع الوحيد هو الحرص على الأمة والغيرة. على الدين والوطن، فهو يزعم أن أصل فكرته هو الرد على "داركور"المستشرق الذي هاجم الحجاب، ولست أدري ماذا ترك قاسم لداركور!
لكن كتابه الثاني "المرأة الجديدة"يكذب ادعاءاته تلك فهو يقول فيه: "هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه وليس له دواء إلا أن نربي أولادنا على أن يتعرفوا شئون المدنية الغربية، ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها، وإذا أتى ذلك الحين -ونرجو ألا يكون بعيدا- انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس وعرفنا قيمة التمدن الغربي وتيقنا أن من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسسا على العلوم العصرية" (١).
وقد طبق ذلك في بيته فأحضر لابنتيه مربيتين -إحداهما فرنسية والأخرى إنجليزية (٢) وظل قاسم حريصا على دعوته داعيا إلى فكرته "إلى آخر نسمة من حياته القصيرة ففي ليلة وفاته بالسكتة القلبية في ٢٣ إبريل ١٩٠٨م كان يقدم طالبات رومانيات في نادي المدارس العليا" (٣).
يقول الأستاذ أنور الجندي في كتابه "جيل العمالقة"وكتابه "محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل" (٣/ ٦٦٠ - ٦٦٤):
"كانت حركة تحرير المرأة التي قادها قاسم أمين مؤامرة استعمارية تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم البيت المسلم حتى قال محمد فريد: إن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهورا مريعا في الآداب العامة وأحدثت انتشارا مفزعا لمبدأ العزوبة وأصبحت ساحات المحاكم غاصة بقضايا هتك الأعراض.  ...وهرب الشابات من دور أهلهن.
لقد تراجع قاسم أمين بعد قليل من دعوته إلى تحرير المرأة وجاءت (هدى شعراوي) فاحتضنتها دوائر الماسونية والتغريب واليهودية العالمية.
في محاولة لتقويم حركة قاسم أمين لتحرير المرأة بعد أن تسربت وثائق عدة تكشف عن خطة أشبه بالمؤامرة وراء هذه الدعوة، وتطرقت الأسئلة إلى أم المصريين (صفية زغلول) وإلى زعيمة النهضة النسائية في مصر (هدى شعراوي) التي دعت بعض الأقلام التي تجهل الحقيقة أو تخدع كتابها إلى إقامة تمثال لهما والحقيقة أنه لكي تعرض خلفيات هذه القضية يجب أن نذكر شيئا مهما هو أن كتابا ظهر في مصر عام ١٨٩٤ (أي بعد الاحتلال البريطاني بعام واحد لمحام مصري موال لكرومر وللنفوذ الأجنبي يدعى (مرقص فهمي) تحت عنوان "المرأة في الشرق"صور فيها خطة الاستعمار في المطالبة بتحقيق أربعة أغراض:
أولا: القضاء على الحجاب الإسلامي.
ثانيا: إباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب عنها.
ثالثا: تقييد الطلاق ووجوب وقوعه أمام القاضي.
رابعا: منع الزواج بأكثر من واحدة.
خامسا: إباحة الزواج بين المسلمات وغير المسلمين.
وكان هذا المخطط هو النواة للنفوذ الأجنبي الذي تدرس على ضوئه "حركة قاسم أمين"وهدى شعراوي، ذلك أنه لم تمض سنوات خمس حتى ظهر كتاب "تحرير المرأة"فكان ذلك خطوة على الطريق ظن البعض سلامتها، فما هي هذه الخلفيات لهذا الحدث الخطير.
أولا: كتب داود بركات رئيس تحرير الأهرام بجريدته الصادرة في
٤ يناير ١٩٢٨ مقالا قال فيه أن قاسم أمين قرأ كتاب الدوق داركور  "المصريون"ورد عليه بكتاب باللغة الفرنسية وفند اتهاماته .. فلما ظهر هذا الكتاب وصف بأنه لم يكن في صف النهضة النسائية فقد رفع الكتاب من شأن الحجاب وعده دليلا على كمال المرأة، كما ندد بالداعيات إلى السفور وقد رأت فيه الأميرة نازلي فاضل تعريضا.
ثم استطرد يقول: "وكانت الأميرة نازلي فاضل ولها صالون يحضره سعد زغلول ومحمد عبده وجماعة من الطامحين إلى تولي السلطة في مصر تحت قيادة النفوذ البريطاني وبرعاية اللورد كرومر".
ويقول داود بركات متابعا: وقد أشير على جريدة المقطم -وهي لسان الإنجليز في مصر ذلك الوقت- أن تكتب ست مقالات عن الكتاب تفند أخطاء قاسم في هذا الاتجاه ودفاعه عن الحجاب، واستنكاره اختلاط الجنسين .. ثم أوقفت الحملة بعد اتفاق الشيخ محمد عبده وسعد زغلول مع قاسم أمين على تصحيح رأيه.
وقد حمل الشيخ محمد عبده الدعوة إلى تحرير المرأة في دروسه في "الرواق العباسي"بالأزهر حين أعلن أن الرجل والمرأة متساويان عند الله.
وقد ترددت آراء كثيرة بأن الشيخ محمد عبده كتب بعض فصول الكتاب أو كان له دور في مراجعتها ومما أورده لطفي السيد أنه اجتمع في جنيف عام ١٨٩٧ م بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وأن قاسم أمين أخذ يتلو عليه فقرات من كتاب "تحرير المرأة"وصفت بأنها تنم على أسلوب الشيخ محمد عبده نفسه.
ثانيا: كتب فارس نمر صاحب المقطم مقالا في مجلة الحديث (الحلبية) عام ١٩٣٩م وأشار إلى هذا الحادث فقال: "إنه ظهر كتاب للدوق داركور يطعن فيه على المصريين طعنا مرا، ويخص النساء بأكبر قسط منه.  إذ رماهن بالجهل وضعف مكانتهن في المجتمع. فاهتاج الشباب وتطوع قاسم أمين للرد على كتابه".
ويستطرد فارس نمر يقول: وهنا أشير لحقيقة لا يكاد يعلمها إلا ندرة في مصر. هذه الحقيقة أن كتاب قاسم أمين الذي رد فيه على (دوق دار كير) لم يكن في صف النهضة النسائية التي كانت تمثلها الأميرة نازلي .. بل كان الكتاب يتناول الرد على مطاعن المؤلف الفرنسي، ويرفع من شأن الحجاب، ويعده دليلا على كمال المرأة، ويندد بالداعيات إلى السفور، واشتراك المرأة في الأعمال العامة .. ولما ظهر كتابه هذا ساء ما به إخوانه من أمثال محمد المويلحي، ومحمد بيرم، وسعد زغلول .. ورأوا فيه تعريضا جارحا بالأميرة نازلي، فتشاوروا فيما بينهم في الرد واتفقوا أخيرا أن أتولى الكتابة عن هذا الموقف وعرض فصوله وانتقاد ما جاء به خاصا بالمرأة، وبدأت في كتابة سلسلة مقالات عنه .. ولكن ذلك النقد لم يرق في نظر قضاة محكمة الاستئناف، ورأوا فيه مساسا بهيبتهم. لأن قاسم أفندي كان أحدهم ورأوا أن أفضل وسيلة يبذلونها لكي أكف عن الكتابة أن مؤلفه يرجو الأميرة نازلي فاضل لكي تطلب إلي ذلك .. وتطوع الشيخ محمد عبده للقيام بهذه المهمة، وذات مساء حضرت إلي صالون الأميرة كما حضر الشيخ محمد عبده ومحمد بيرم والمويلحي .. وبعد قليل تحدث الشيخ محمد عبده مع الأميرة في هذا الشأن. فالتفتت إلى سموها وقالت لي: أنها لا تجد بأسا في أن أكف عن الكتابة في الموضوع.
وكانت هي لم تقرأ الكتاب ولم تعرف أنه يشمل الطعن فيما تدعو إليه. فلما رأى ذلك محمد المويلحي قال لسموها: أنه يدهش من طلب الأميرة وخاصة لأن الكتاب تعرض لها.
فبدت الدهشة عليها وكانت إحدى نسخ الكتاب موجودة عندها. وعبثا. حاولت أن أقفل باب الحديث في هذا الشان وخاصة بعد أن لمحت عليها معالم الأضطراب والجد والعنف.
فلما اطلعت على ما جاء به ثارت ثورة شديدة ووجهت القول بعنف إلى الشيخ محمد عبده؛ لأنه توسط في هذا الموضوع .. مرت الأيام بعد ذلك واتفق محمد عبده وسعد زغلول والمويلحي وغيرهم على أن يتقدم قاسم أمين بالاعتذار إلى سمو الأميرة.
فقبلت اعتذاره ثم أخذ يتردد على صالونها، وكلما مرت الأيام ازدادت في عينه، وارتفع مقامها لديه. وإذا به يضع كتابه الأول عن المرأة الذي كان الفضل فيه للأميرة نازلي والذي أقام الدنيا وأقعدها بعد أن كان أكثر الناس دعوة إلى الحجاب"انتهى كلام فارس نمر.
ثالثا: أشارت هدى شعراوي في محاضرة لها إلى هذا المعنى وكشفت هذا السر الذي ظل خافيا زمنا طويلا، ولم يكشف إلا بعد وفاة قاسم أمين بعشرين سنة غير أن الذي يلفت النظر أن قاسم أمين عدل عن رأيه هذا من بعده، وتبين له أنه أخطأ الطريق.
وقد تبين هذا حين صرح قاسم أمين في حديث له في صحيفة "الظاهر"التي كان يصدرها المحامي محمد أبو شادي حيث أعلن رجوعه، وأعلن أنه كان مخطئا في (توقيت) الدعوة إلى تحرير المرأة .. هذا التصريح نشرته جريدة "الظاهر"في أكتوبر ١٩٠٦ قال قاسم أمين: "لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب، وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم .. ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس .. فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف عرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق.  الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي .. رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا إليها بألسنة البذاء، ثم ما وجدت زحاما في طريق فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسن جميعا .. إنني أرى أن الوقت ليس مناسبا للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذي قصدته من قبل".
ومعنى كلام قاسم أمين هذا الذي نشره قبل وفاته بعام ونصف عام أن قاسم أمين قد اكتشف بعد سبع سنوات من دعوته (التي جاءت استدراجا ومرضاة لنفوذ وليست خالصة لوجه الله تعالى) أنها لم تكن قائمة على أسسها الصحيحة وهي الدعوة إلى تربية الخلق والإيمان بالله، وأنها لم تكن على طريق الحق .. أو ربما أن قاسم رأى بعد أن تغيرت الظروف بزوال كرومر ووفاة محمد عبده وانطفاء نفوذ نازلي فاضل (ربيبة كرومر) أن يتخفف من هذه التبعة. وربما كان لبعض التجارب أثرها في نفسه .. فها هو يروي أن صديقا عزيزا زاره ذات مرة فلما فتح له الباب قال: جئت هذه المرة من أجل التحدث مع زوجك!! فدهش قاسم .. كيف يطلب مقابلة زوجته.
فقال له صديقه: ألست تدعو إلى ذلك. إذن لماذا لا تقبل التجربة مع نفسك. فأطرق قاسم أمين صامتا ومما يذكر أن السيدة زوجة قاسم أمين كتبت منذ سنوات تعلن أن دعوة قاسم أمين كانت خطيرة وأنها لم تكن قائمة على أساس صحيح.
وقال محمد فريد وجدى: إن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهورا مريعا في الآداب العامة، وأحدثت انتشارا مفزعا لمبدأ العزوبة، وأصبحت ساحات المحاكم غاصة بقضايا هتك الأعراض وهرب الشابات من دور أهلهن. ونعت الدكتورة بنت الشاطئ ما تكشف من حركة تحرير المرأة مما أسمته مهزلة أليمة موجعة.  تقول بنت الشاطئ: "إن الرجال ساقونا لنعمل لحسابهم .. وهم يوهمونا أننا نعمل أو يعملون معنا لحسابنا .. ذلك أن الرجال رتبوا لنا الخروج زاعمين أنهم يؤثروننا على أنفسهم .. ولكنهم كذبوا في هذا الزعم فما أخرجونا إلا ليحاربوا بنا السآمة والضجر في دنياهم".
ثم قالت بنت الشاطئ: "إن المرأة دفعت ضريبة فادحة ثمنا للتطور ويكفي أن أشير في إيجاز إلى الخطأ الأكبر الذي شوه نهضتنا. وأعني به انحراف المرأة الجديدة عن الطريق الطبيعي وترفعها عن التفرغ لما نسميه: خدمة البيوت وتربية الأولاد. ونحن نرى البيوت أصبحت مقفرة منهن. أما الأبناء فتركوا للخدم. وقد نشأ هذا الانحراف الضال نتيجة لخطأ كبير في فهم روح النهضة.
وبلغ من سوء ما وصلت إليه أن نادت مناديات بحذف نون النسوة في اللغة كأنما الأنوثة نقص ومذلة وعار. وأهدر الأعتراف بالأمومة كعمل من الأعمال الأصيلة لنا حتى سمعنا من يسأل كيف تعيش أمة برئة معطلة .. يقصد بالرئة المعطلة هؤلاء الباقيات في بيوتهن يرعين الأولاد .. وزعموا أن المرأة تستطيع أن تجمع بين عملها في البيت ووظيفتها في الخارج"انتهى كلام الدكتورة بنت الشاطئ (١).
وتكشف السيدة صافي ناز كاظم سموم قاسم أمين في كتابه المرأة الجديدة حيث يهاجم المدنية الإسلامية ويدعو إلى التغريب.
يقول: نحن لا نستغرب أن المدنية الإسلامية أخطات في فهم طبيعة. .المرأة وتقدير شأنها فليس خطؤها في ذلك أكبر من خطأها في كثير من الأمور الأخرى.
ثم يقول: الذي أراه أن تمسكنا بالماضي إلى هذا الحد هو من الأهواء التي يجب أن ننهض جميعا لمحاوبتها؛ لأنه ميل إلى التدني والتقهقر، وهذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه وليس له من دواء إلا أننا نربي أولادنا على أن يعرفوا شئون المدنية الغربية، ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها.
فإذا أتى هذا الحين ونرجو أن لن يكون بعيدا - انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس وعرفنا قيمة التمدن الغربي، وتيقنا أنه من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسسا على العلوم العصرية الحديثة.
ولا يمكن أن يوصف هذا الكلام إلا أنه (ردة) من مستشار وصف بالعقل والحكمة ولكنه انزلق مع المنزلقين إلى مطالع المناصب الكبرى والحظوة في صالون نازلي فاضل.
والمعروف أنه بعد أن دافع قاسم أمين عن حجاب المرأة المسلمة في كتابه (المصريون) حدثت مؤثرات من الأميرة نازلي على قاسم أمين مما أدى إلى حدوث متغيرات في فكر قاسم عرفت في كتابه تحرير المرأة، والمرأة الجديدة.
وكان كتاب تحرير المرأة نوعا من الاعتذار للأميرة التي أغضبها كتابه الأول، وقيل: أن الشيخ محمد عبده ومحمد المويلحي وسعد زغلول اتفقوا على أن يقدم قاسم الاعتذار للأميرة نازلي (عندما هاجم المرأة غير المتحجبة في كتابه المصريون) ودفع قاسم أمين الثمن غاليا يتجنى على الحقائق ويحاول أن يلوي عنقها حتى خرج كتابه "تحرير المرأة".
وجاء في كتابه "المرأة الجديدة"فخرج عن أفكاره الأصلية التي كانت تعلي من شأن المدنية الإسلامية. واتجه إلى حجاب المرأة المسلمة وأخذ يحاول أن يدلل على أن حجاب المرأة ليس من الإسلام وأن الدعوة إلى السفور ليس فيها خروج عن صحائح الاسلام.
ومما علمه الاستشراق إياه: القول بأن الشريعة ليس فيها نص يوجب
الحجاب، على الطريقة المعهودة، وإنما هي (عادة) عرضت للمسلمين من
مخالطة الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وألبسوها لباس الدين ونسي قول الله
تبارك وتعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} (١).
 
* مصطفى كامل يعارض حركة "تحرير المرأة":
ولقد عارض الزعيم مصطفى كامل هذه الحركة المشبوهة "حركة تحرير المرأة"وربط بين هذا الاتجاه وبين الاستعمار على أنه وسيلة من وسائله في القضاء على مقومات الأمة، والبقية الباقية من أخلاقها ومعنوياتها .. وهكذا سارع الزعيم الشاب إلى مقاومة هذه الحركة الخائنة، وتحذير الأمة منها، فأشار إليها في أول اجتماع عام عقده عقب صدور هذا الكتاب، وذلك في ٥ شعبان سنة ١٣١٧ الموافق ١٨ سبتمبر سنة ١٨٩٩ حيث قال: "إني لست ممن يرون أن تربية البنات يجب أن تكون على المبادئ الأوروبية، فإن في ذلك خطرا كبيرا على مستقبل الأمة، فنحن مصريون ويجب أن نبقى كذلك، ولكل أمة مدنية خاصة بها، فلا يليق بنا أن نكون قردة مقلدين للأجانب تقليدا أعمى، بل يجب أن نحافظ على الحسن من أخلاقنا، ولا نأخذ عن الغرب إلا فضائله، فالحجاب في الشرق عصمة وأي عصمة، فحافظوا عليه في نسائكم وبناتكم وعلموهن التعليم السليم
الصحيح، وإن أساس التربية التي بدونه تكون ضعيفة ركيكة غير نافعة هو تعليم الدين".
وقد ظل مصطفى كامل حربا عوانا على هذه الحركة، حتى إذا ما أنشئت جريدة اللواء سنة ١٩٠٠ كانت صفحاتها ميدانا عظيما لكل طاعن على قاسم أمين وأفكاره وعصابته الاستعمارية من الخونة والأذناب.
ومما يجدر بالذكر ما كتبه الزعيم مصطفى كامل -رحمه الله- هتكا لستار هذه الحركة وكشفا لصلتها الوثيقة بالاستعمار ذلك المقال الذي نشره في اللواء بتاريخ ٩ فبراير سنة ١٩٠١ وقد جاء فيه ما نصه:
"هذا .. وقد انتشر خبر الكتاب "تحرير المرأة"في جهات من الهند، واهتم الإنجليز بترجمته وبث قضاياه، "وإذاعة مسائله، اهتماما عظيما لما وراء العمل به من فائدة لهم .. وعلم به سلطان ملديفي، وبلغه في هذه الأيام خبر كتاب "المرأة الجديدة"الذي أخرجه أخيرا قاسم أمين ليدعم به أمر كتابه الأول ويفتح به آفاقا جديدة لتحلل المسلمين من دينهم وأخلاقهم، ولما سئل السلطان المذكور عن رأيه في هذه الاتجاهات قال:
"أما تعليم النساء المسلمات فقد أصبح من المسائل الحيوية للإسلام والمسلمين، ولكنه لو مال عن طريق الشريعة الغراء إلى خطة مدنية الغرب الغبراء، كان معولا لهدم أركان الإسلام وفأسا لفتح القبور لأبنائه ودسهم فيها وهم أحياء، أما رفع الحجاب فلا أرضاه لنسائي وبلادي، وأما حق المرأة وحق طلاق زوجها فدعوة لا تصدر من معترف بقول الله في كتابه: {الرجال قوامون على النساء} فنسأل الله السلامة".

ولم يقتصر مصطفى كامل -رحمه الله- في محاربته لهذه الدعوة الاستعمارية علي بيان خطرها على الكيان الوطني والاجتماعي فحسب، ولكنه اهتم بتفنيدها من الناحية الدينية والفقهية، وأفسح لعلماء المسلمين. 

المجال الأعظم في جريدة اللواء لإبداء رأي الإسلام فيها وفي أصحابها. ومن هذه البحوث التاريخية ذلك البحث الذي وضعه السيد عبد الله جمال الدين، ونشرته له اللواء في عددها رقم ٤٥٦، ٤٥٧ بتاريخ ٢٥، ٢٦ من ذي الحجة سنة ١٣١٨ هـ أي في أواخر ٤ سنة ١٩٠٠ ميلادية.
ولما توفي قاسم أوحى الإنجليز إلى شيعته بإقامة حفلة تأبين له، فأقاموا هذه الحفلة وأشاروا فيها بدعوته إلى السفور .. فقابل رجال الحزب الوطني هذه الحركة بإقامة احتفال كبير للدعوة إلى الحجاب ولإبراز أصابع الإنجليز في فتنة السفور" (١).
 
* سعد زغلول وما أدراك ما سعد؟!
تكلمنا عن سعد زغلول، وفضحنا مواقفة المشبوهة، وبينا علاقته بالإنجليز واللورد كرومر .. ولعب زعيم المصريين للقمار (٢) واسلمي يا مصر!!
أما صلته بحركة "تحرير المرأة"المشبوهة فقد أكدها بصفة قاطعة سكرتير سعد فقد ذكر أن سعدا هو الزعيم الحقيقي للحركة النسائية مستشهدا بخطابه الذي ألقاه بمناسبة زيارة وفد مختلط من طلبة مدرسة الحقوق الفرنسية لمصر، ومنه:
"إنني من أنصار تحرير المرأة ومن المقتنعين به؛ لأنه بغير هذا التحرير لا نستطيع بلوغ غايتنا ويقيني بهذا ليس وليد اليوم بل هو قديم العهد فقد شاركت منذ أمد بعيد صديقي المرحوم قاسم بك أمين في أفكاره التي ضمنها كتابه الذي أهداه لي (يريد كتاب المرأة الجديدة) .. " (٣).
..ويضيف الكاتب أن زوجة سعد كانت مثقفة ثقافة فرنسية، وأنه كان يمنحها الحرية الكاملة (! ) ويبدو من مسيرة زوجة سعد أنها أول زوجة زعيم سياسي عربي -تقريبا- تظهر معه سافرة في المحافل والصور، وتتسمى على الطريقة الغربية "صفية زغلول"كما أنها أول من اتخذت بدعة لقب "أم المصريين" (١).
ويذكر الكاتب أن "صفية زغلول"هي الزعيمة النسائية الحقيقية لكنها آثرت ألا تظهر ذلك وأسندت هي وزوجها الأمر إلى هدى شعراوي التي عينها سعد "رئيسة لجنة الوفد المركزية للسيدات" (٢).
على أن سكرتير الزعيم يثبت -دون أن يدري- إدانة الزعيم والحركة النسائية وارتباطهما بالاستعمار، وذلك في معرض حديثه عن صديقة سعد "منيرة ثابت"الملقبة "الفتاة الثائرة"و"أول صحفية مصرية"فهو يقول:
"كانت الوزارة الزيورية تضطهد الصحافة الوفدية وتغلق جرائدها واحدة بعد أخرى ولا تسمح لوفدي بأية رخصة جديدة، وعلى حين فجأة غابت الآنسة منيرة ثابت أياما عن بيت الأمة ثم عادت تحمل رخصتين لصحيفتين جديدتين باسم "الأمل"و"لسبوار"أولاهما عربية سياسية أسبوعية والثانية فرنسية سياسية يومية، وقدمتهما للرئيس (سعد) لتكونا رهن تصرفه أما كيف حصلت على الرخصتين فلا أعرف عنه إلى اليوم شيئا" (٣). ثم تطور الأمر إلى تشكيل أحزاب نسائية أهمها الحزب النسائي (١٩٤٥) وحزب بنت النيل (١٩٤٩)، وقد نشرت الصحف المصرية نفسها فضائح عن هذه الأحزاب تثبت أنها كانت تتلقى الأموال من السفارات الغربية لا سيما الأميركية
.والإنجليزية (١).
ومن أجل ذلك كان سعد زغلول هو الرجل الذي أهداه قاسم أمين كتابه "المرأة الجديدة"وكان لسعد موقفه من المرأة في المظاهرات حيث انتزع النقاب من وجه (هدى شعراوي) علامة على الدخول في عصر السفور (٢).
 
* هدى شعراوي زعيمة ما يسمى بحركة النهضة النسائية وصلتها بالاستعمار:
رائدة "حركة النهضة النسائية"وقد التف حولها "سيزا نبراوي"سكرتيرتها ومنيرة ثابت وباحثة البادية وعصبة ممن خلعن رداء الحياء وسخرن أنفسهن لخدمة الدوائر الصليبية.
اشتد الحماس لهذه الحركة -في فترة عصيبة حرجة- وهذا التوقيت المشبوه يوحي بأن وراء الأكمة ما وراءها! - ذلك أنه في سنة ١٩١٩ هبت مصر في وجه الاستعمار ووقف الشعب بشجاعة مع عدد من المخلصين حقيقة يطالب بحقه من الحرية والحياة، وفي تلك الظروف الصاخبة التي تتميز بالغليان والاضطراب وفي غمرة الثورة العارمة نشطت دعوتان مريبتان متآخيتان، إحداهما استغلت ظروف الثورة لسلخ الأمة عن انتمائها وهي الدعوة إلى اللادينية تحت ستار الشعار الذي رفعته الزعامات المصطنعة "الدين لله والوطن للجميع"والأخرى: دعت إلى نسف الفضائل الإسلامية من خلال دعوتها إلى "تحرير المرأة".
في ذلك الجو العاصف انبرت هدى ورفيقاتها للدفاع عن حقوق الوطن وطرد المحتلين ولكن بماذا؟ لقد خرجن في مظاهرة ومزقن الحجاب وأحرقنه
.في ميدان عام (١)، وكان هذا أعظم إسهام منهن في الثورة، وإذ حدث أن الجنود البريطانيين -لحاجة في نفس يعقوب- طوقوا الشوارع ساعة المظاهرة واعتدوا على بعض المتظاهرات- فقد بدا ذلك في أعين الشعب محاولة من بريطانيا لمنع المرأة المصرية من التحرر، وبذلك اكتسبت الحركة صفة البطولة الوطنية!! (٢).
وتظهر الحقيقة أجلى وأوضح إذ علمنا أنه في تلك الفترة نفسها كان أتاتورك يهدم الإسلام تحت زيف البطولة الوطنية أيضا.
لقد اعتبرت هذه البطولة مبررا كافيا للانقضاض على الأخلاق بل لمهاجمة أحكام الإسلام علانية، إذ ردد دعاة الإباحية قولهم: أليس الجنس اللطيف الذي أدى دوره في الثورة الوطنية بإخلاص جديرا بأن يتساوى في كل شيء مع الجنس الخشن؟ أتريدون أن تقدم المرأة للوطن كل شيء ولا يقدم الوطن لها شيئا؟!.
ولكن الحق لم يلبث أن انشكف واذا بالحركة النسائية في حقيقتها حركة عميلة مريبة ترتبط خارجيا بالدوائر الأستعمارية وداخليا بالزعماء المصطنعين.
أما ارتباطها بالاستعمار -والجمعيات التبشيرية خاصة- فيؤيده خطاب هدى شعراوي الذي ألقته في مؤتمر الأتحاد النسائي الدولي بروما، وهذه مقدمته:
"إنه ليسرني حقيقا أن أرى نفسي بينكن في هذه الجمعية المحترمة التي أمكن للمراة المصرية أن تجيء لتناقش في حقوقها لأول مرة في التاريخ، وأنه لما يدعوني إلى الأغتباط والفخر اختياري لإظهار تلك الرابطة بين بنات النيلوأخواتهن فى أوربا" (١)
وتختتم خطابها قائلة:
"والآن قبل أن أعود أرجو أن تسمحن لي أيتها السيدات على طلبكن بإلحاح إبداء الرغبة في إشراك المرأة المصرية في واجب "الاتحاد"الجليل ولنا عظيم الرجاء في أن نصل بفضل نصائحكن الغالية التي نعتبرها السبيل الهادي والنسج على منوالكن الذي نجد فيه خير كفيل إلى تحقيق آمالنا ورغائبنا، ونضع تحت تصرفكن أنفسنا في خدمة مبادئكن ونشر آرائكن" (٢).
 
* ملابسات زعامة هدى شعراوي ابنة محمد سلطان خائن بلاده وعميل الإنجليز للحركة النسائية:
يقول الأستاذ أنور الجندي: "أما ما هي ملابسات زعامة هدى شعراوي للحركة النسوية، فالواقع أن هناك عدة ملابسات لا يفسرها إلا فهم تاريخ الحركة الوطنية في مصر لرجلين: أحدهما والدها محمد سلطان، والآخر زوجها على باشا شعراوي أما والدها محمد سلطان فيقول الدكتور عبدالعزيز رفاعي في كتابه "محمد سلطان أمام محكمة التاريخ ": إنه كان من أعلام الثورة العرابية، ولكنه تنكر لها في أحلك أوقاتها، ومشى في ركاب أعدائها: الخديوي والإنجليز .. حتى نال حظوته من الخديوي بالإحسان، ومن الإنجليز بالتقدير .. وقد أثبت ما أورده السيد محمد رشيد رضا في كتابه "الأستاذ الإمام محمد عبده" (١/ ٢٥٨، ٢٥٩) عن الدور الذي لعبه محمد سلطان في خدمة مخابرات الإنجليز في سبيل الوصول إلى معسكر العرابيين في التل الكبير. وهكذا حمل لواء الخيانة للثورة العرابية، وطاف ببورسعيد.  .والإسماعيلية بجيش عرابي معلنا الثقة في الجيش الغازي ومطمئنا الأهالي على حياتهم وقد أفهمهم حسن نيات الإنجليز إزاء المصريين، وأبان لهم أنهم لا يستهدفون غزو البلاد. بل يستهدفون تأديب العصاة وتابع سلطان باشا نشاطه فأخذ يفرق الناس عن عرابي. ويجمعهم لمعاونة الإنجليز فأرسل إلى شيخ بدو الهنادي المقيم في الصالحية. ويدعى سعود العماوي والآخر إلى محمد صالح الحوت ليتفق معهما على استمالة العربان ولم يكتف محمد سلطان بنشاطه في الجاسوسية وبث الدسائس في منطقة القناة وفي ميدان المعركة. بل مد نشاطه إلى داخل البلاد ليقضي على كل معاونة شعبية لحركة عرابي. ورافق (ولسلي) قائد القوات البريطانية للتفاوض مع مشايخ العربان، كما كانت الأموال التي أعدها الخديو لرشوة شيوخ البدو في عهدة سلطان (راجع بلنت: التاريخ السري ومذكرة سلطان إلى الخديو في الإسماعيلية بدار المحفوظات التاريخية دوسيه رقم ٢). وكان سلطان هو الذي أبلغ الخديو هزيمة عرابي. ودخل سلطان القاهرة مزهوا يتطلع لفجر جديد في حياته بعد أن سجل خيانته، وكتب تاريخها بنفسه. وقلده الخديو النيشان المجيدي الأول رفيع الشأن ووضعه على صدره بيده، وأعطاه عشرة آلاف جنيه تعويضا للأضرار التي ألحقت به ثم عينه رئيسا لمجلس شورى ولكن ضربة القدر لم تمهله ليتمتع بما اشترى من أطيان فداهمه مرض السرطان واشتد به المرض وتوفي في أوربا سنة ١٨٨٤، وقد أنعم الإنجليز عليه بنيشان سان ميشيل وسان جورج الذي يخول صاحبه لقب "سير". هذه هي خلفية الحياة الاجتماعية لقائدة النهضة النسوية والتي تزوجت وهي في الرابعة عشرة من رجل غني موسر صديق لوالدها يبلغ الخمسين من العمر هو على شعراوي باشا أحد الثلاثة الكبار الذين قابلوا المندوب البريطاني بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (سعد زغلول وعبد العزيز فهمي) بوصفهم من رجال حزب الأمة الموالي للاستعمار البريطاني لعرض مطالب البلاد.
ولم يلبث شعراوي باشا أن توفي وقد كان الثلاثة هم دعاة الولاء.  .البريطاني والتعامل مع الإنجليز والشاجبين لمفاهيم الحزب الوطني في المفاوضة قبل الجلاء. ولقد وجدت السيدة هدى شعراوي الفرصة سانحة للتبرير خاصة وأن السيدة صفية زغلول -ابنة مصطفى فهمي الذي حكم مصر بالحديد والنار خلال أول مراحل الأستعمار البريطاني ثلاثة عشر عاما وزوج سعد زغلول والمسماة بأسماء الأضداد (أم المصريين) - تستأثر بالزعامة السياسية فأرادت أن تفتح مجالا جديدا تنفرد فيه بالزعامة فكان ذلك هو مجال المرأة وخاصة وأنها نزعت نقابها في ثورة ١٩١٩. ولقد تلقفتها جماعات تحرير المرأة العالمية والمنبثة في أوربا وخاصة في باريس وبرلين وبروكسل والتابعة للمحافل الماسونية ومنظمات الصهيونية العالمية، ووجدت فيها طيرا سمينا فدعتها إلى حضور المؤتمرات النسوية العالمية التي كانت الصهيونية العالمية تديرها من وراء ستار، والتي كانت تستهدف إحداث الضجيج حول حقوق المرأة السياسية في البرلمان والحكم وخلخلة المجتمعات الإسلامية ودفعها إلى طريق الانهيار والمعروف أن هدى شعراوي لم تنطلق في دعوتها من أي منطلق إسلامي. بل على العكس من ذلك كانت سيدة سافرة برزة لها صالون ويتحلق حولها عدد من الرجال المجندين لكتابة الخطب والكلمات التي كانت تلقيها في الاحتفالات وكانت تنفق على ذلك من أموال سلطان باشا التي دفعت ثمنها الثورة العرابية.
ودعت إلى تلك الأفكار التي تحرض المرأة على التحرر من القيود الاجتماعية، والانطلاق حتى كان أحدهم يقول لواحدة سألته: "لو كنت بغير أولاد لقلت لك اتركيه ورزقك ورزق قلبك على الله".
والمعروف أن السيدة هدى شعراوي لم تكن تعبأ في دعوتها بالمفهوم الإسلامي للمرأة، أو تصدر عن فهم حقيقي لرسالة البيت والأسرة، ولم تكن تتحرك في هذا الإطار. وإنما كانت تضع أمامها المرأة الغربية كمثل أعلى. ولذلك فقد شجعت أسباب الزينة والأزياء والمودات المستحدثة. وكانت أجنحتها من المثقفات ثقافة فرنسية، وذلك الولاء الماركسي والصهيوني، ولم يكن للمفهوم الإسلامي لديهن أي أهمية.
ويقول الأستاذ حسين يوسف: إنه لم يكن عجبا أن يعمل الاتحاد النسائي بزعامة هدى شعراوي للأهداف التي يحرص الاحتلال على الوصول إليها. وأن يردد في عام ١٩٢٣ نفس المبادئ التي نادى بها مرقص فهمي من قبل، ومن بعده قاسم أمين. ولما كان دعاة تدمير مفاهيم المرأة المسلمة لا ينامون فإنهم يدعون اليوم إلى تجديد ذكرى هدى شعراوي بإقامة تمثال لها.
والهدف هو دعم هذه الأفكار المسمومة التي تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم البيت المسلم" (١).
 
* لطفي السيد وأكذوبة أستاذ الجيل:
هو أستاذ الجيل المستعبد للغرب، المعلن عداوته للثقافة الإسلامية واللغة العربية .. هو أستاذ التغريبيين وسار معه في فلكه زميله ورفيق عمره عبدالعزيز فهمي، وزوج أخته إسماعيل مظهر ثم صديقه الحميم طه حسين ..
ولذا لم يكن غريبا علي أن أقرأ أن عبد الناصر فكر في إسناد رئاسة جمهورية مصر إليه بعد قيام الثورة!!
ولعل تسليط شيء من: الضوء على حياة لطفي السيد -أستاذ الجيل كما سموه ومحور هذه الدعوى- يعطينا لمحة عن دوافع الفكرة وأهدافها:
كان لطفي السيد من أخلص تلاميذ محمد عبده له وأتيحت له الفرصة أكثر من شيخه إذ عاش بعده ما يزيد على أربعين سنة أي أنه عمر أكثر من تسعين عاما.   .  وأهم مناصبه الثقافية توليه لإدارة الجامعة المصرية عند تأسيسها، ثم توليه لوزارة المعارف آخر عمره.
أما أعماله السياسية فقد كان أحد زعماء حزب الأمة باعتباره رئيس تحرير "الجريدة"صحيفة الحزب واشتهر بعداوته لفكرة الجامعة الإسلامية ورفعه شعار مصر للمصريين وشعار "سياسة المنافع لا سياسة العواطف" (١).
ولا يستطيع الكاتبون عن حياته أن يخفوا أنه فاوض "كتشنر"ثم "جراهام"على أن تنفصل مصر عن تركيا وتصبح دولة مستقلة يحكمها الخديوي تحت وصاية بريطانية (٢). أما فكره فكان متأثرا جدا بداروين ومل وروسو وأضرابهم من الغربيين (٣) وكان مع كل ناعق من دعاة التفرنج والعصرية فقد "حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ بها من كاتب أو صحفي آخر" (٤).
وعندما أصدرت الحكومة قرارا بنقل صديقه وشريك دعوته طه حسين من الجامعة -بسبب الضجة التي ثارت حوله- لم يسع لطفي السيد إلا أن يقدم استقالته من منصب وزير المعارف احتجاجا على ذلك (٥).
ومع زعمه أن الفصحى معقدة وقديمة نراه يمضي ربع قرن من حياته في ترجمة كتب أرسطو (٦).
وقد ذكر مؤرخ حياته حسين فوزي النجار بعض الحوادث التي تدل -   .كما يرى- على أنه كان لا يؤمن بالغيبيات والقوى الخفية (١).
وقد عطل لطفي السيد لتأخر مصر وتقدم الغرب بأن مصر تستعمل لغتين لغة للثقافة وأخرى للتخاطب، والحل الذي رآه وقدم له الاقتراحات الكثيرة هو النزول بالفصحى إلى مستوى العامية حتى يتم مع الزمن توحيد اللغتين في لغة واحدة -هي بالطبع- "العامية" (٢).
أما زميله الأول عبد العزيز فهمي فقد كان أكثر جرأة منه حين دعا إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية وهي الدعوة التي ولدت -لحسن الحظ- ميتة! ..
وأما صديقه طه حسين فقد كانت دعوته للعامية صدى واضحا لكتابات المستشرقين. وكذلك آراؤه في الشعر الجاهلي، ورحم الله الرافعي فقد فضح هذه الدعوى وعرى كاتبها (٣).
لقد كان كل دعاة العامية أناسا مشبوهين وصلتهم بالدوائر الاستعمارية واضحة وذلك ما يؤكد أنها كانت جزءا من المخطط اليهودي الصليبي للقضاء على الإسلام، بل إنه من المؤكد أن الدعوة العامية إنما ظهرت أصلا من أفكار المستعمرين وفي أحضان المبشرين يتضح ذلك من أسماء دعاتها الأوائل أمثال (بوريان وماسبيرو) (٤).
وجدير بالذكر أن الذي خلف عبد العزيز فهمي في المجمع اللغوي هو توفيق الحكيم الذي دعا إلى قاعدة "سكن تسلم" (٥)! وليس لمثل هذه.   .الدعوى ثمرة حنظل إلا أن تفتح كليات اللغة العربية والأداب في البلاد العربية الباب لما أسموه "التراث أو الأدب الشعبي"وأن تحضر فيه رسائل جامعية عليا. على أن الفكرة لم تقتصر على مصر.
 
* اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية من الغرب:
الأمر على مناهج كرومر ودنلوب، فقد كان أذيال الفكر الغربي لا يقلون عنهما رغبة في صبغ مصر والعالم الإسلامي بالصبغة اللادينية الغربية.
وقد كان من أهداف أعداء الإسلام ما أوصى به مؤتمر القاهرة التبشيري المنعقد سنة ١٩٠٦ من وجوب إنشاء جامعة علمانية على نمط الجامعة الفرنسية (١) لمناهضة الأزهر والذي قالوا: أنه "يتهدد كنيسة المسيح بالخطر"!.
وقد قام الأذيال بتنفيذ المهمة إذ أنه بعد انتهاء المؤتمر بسنتين تقريبا أسس سعد زغلول وأحمد لطفي السيد وزملاؤهم الجامعة المصرية، وكان النص الأول من شروط إنشائها هو: ألا تختص بجنس أو دين بل تكون لجميع سكان مصر على اختلاف جنسياتهم وأديانهم فتكون واسطة للألفة بينهم" (٢).
وهذا الشرط الجائر -في جامعة تقوم في بلد مسلم وعلى نفقات شعب مسلم- انعكست آثاره على مناهج التعليم في الجامعة، فلم يكن من بينها شيء من علوم الإسلام احتراما لمشاعر القلة غير المسلمة، وهكذا كان التعليم الجامعي الحديث علمانيا من البداية، وكان نتاجه تلك الجموع المستعبدة للغرب فكرا وسلوكا، النافرة من دين آبائها وأجدادها.
ولم يكن الأمر مقصورا على المناهج بل تعداها إلى أسلوب التربية وفلسفة السلوك فقد طبق لطفي السيد الاختلاط بين الذكور والإناث في.  .الجامعة المصرية التي كانت مركزا لأنصار دعوة قاسم أمين المريبة، واستطاع لطفي السيد أن يتحدى الرأي الإسلامي بقوة واقتدار، معلنا ذلك للملأ بقوله بالنص: "ويتصل بخطأ الجماهير في فهم رسالة الجامعة وهي مسألة كانت قليلة الأنصار في الرأي العام. وفي هذا المقام يسرني أن أؤكد لكم أني لم أتعرض إلى جزئية من الجزئيات تجلعني أندم ولو وقتيا على ما شرعته الجامعة من هذه الخطة من غير أن تستفتي الرأي العام" (١).
كما أدخل التقاليد الغربية المنافية للإسلام في صلب النظام الجامعي،. إذ شيدت في إطاره معاهد التمثيل والنحت والموسيقى، كيف لا وقد قال قاسم أمين صديق لطفي السيد في كتابه"كلمات": "لعل أكبر الأسباب في انحطاط الأمة المصرية تأخرها في الفنون الجميلة: التمثيل والتصوير والموسيقى" (٢).
والمؤسف ما أثبته العقاد من أن دراسة الفنون الجميلة من بنات أفكار محمد عبده" (٣)!!!.
* أنور الجندي يعري أستاذ الجيل المزيف:
قال -رحمه الله- تحت عنوان: "لطفي السيد .. وأكذوبة أستاذ الجيل" (٤):
خلفت لنا فترة التبعية للغرب مسلمات خطيرة وكلمات دخيلة وحاولت سحب كثيرة من سحب الغزو الفكري والتغريب أن ترسم صورة خادعة لبعض الشخصيات وكان أخطر ما أطلق في هذه الفترة كلمة عميد الأدب   .على الدكتور طه حسين وأستاذ الجيل على لطفي السيد فإلى أي مدى كان هذا اللقب صحيحا بالنسبة لمنشئ حزب الأمة ومترجم أرسطو والخصم الأول للعروبة وللوحدة الإسلامية جميعا.
وفي الحق إن اسم لطفي السيد لمع لمعانا شديدا وخدع به كثيرون وكان لامتداد العمر وتغير الأوضاع واقتناص بعض الفرص التي جاءت بها الظروف عاملا من عوامل القداسة التي منيت بها مثل هذه الشخصيات بالرغم من فساد جوهرها.
وليس علينا أن نصدر حكما جازما على شخصية ما، يسلم به الجميع ولكن علينا أن نلقي الأضواء الكاشفة على مثل هذه الشخصية من واقع التاريخ وبالوثائق الثابتة ثم ندع القارئ ليحكم هو: هل كان لطفي السيد حقيقة أستاذ الجيل وأي جيل:
أولا: الدعوة إلى قصر التعليم على أبناء الأعيان باعتبار أنهم وحدهم الذين سيتولون الحكم ومقاومة تعليم سواد الأمة ومعارضة الاتجاه إلى المجانية وذلك حتى يمكن المحافظة على وجود طبقة معينة تتولى حكم البلاد دون أن يتاح ذلك لباقي أفراد الشعب.
وقد رد عليه مصطفى كامل صاحب اللواء رئيس الحزب الوطني ولخص آراءه وكشف عن فسادها.
ثانيا: الدعوة إلى العامية: وقد سار في هذا التيار مؤيدا الخطوات التي كان قد قطعها المستشرقون والمبشرون (مولار - وبلكوكس) وكان أبرز ما دعا إليه إبطال الشكل وتغييره بالحروف اللينة وتسكين أواخر الكلمات وإحياء الكلمات العامية والمتداولة وإدخالها في صلب اللغة الفصحى والنزول باللغة المكتوبة إلي ميدان التخاطب العامي وكانت وجهة دعوته: تمصير العربية بإحياء العامية (مقالاته في الجريدة خلال شهري أبريل ومايو ١٩١٣). وقد.  رد عليه عبد الرحمن البرقوقي ومصطفى صادق الرافعي بما يكشف زيف هذا الاتجاه.
ثالثا: مقاومة التضامن العربي الإسلامي وقد عارض مساعدة المصريين لجيرانهم في طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي الاستعماري عام ١٩١١ وكتب في هذا المعنى تحت عنوان "سياسة المنافع، لا سياسة العواطف"مقالات متعددة دعا فيها المصريين إلى التزام الحياد المطلق في هذه الحرب الإيطالية التركية وإلى الضمن بأموالهم أن تبعثر في سبيل أمر لا يفيد بلادهم وقد أثارت هذه المقالات على لطفي السيد عاصفة بل وطعنا جارحا على حد تعبير تلميذه الدكتور محمد حسين هيكل في مذكراته.
رابعا: أيد وجهة النظر البريطانية الاستعمارية في التعاون مع الجاليات المسيطرة المحلية ودعا إلى أن تملك هذه الجاليات في الأراضي المصرية فيكون لها الحق في التملك والسيطرة على البنوك والتجارة وغيرها.
خامسا: مجد اللورد كرومر: الحاكم البريطاني الذي أذل المصريين لمدة ربع قرن مسيطرا على سياسة البلاد وساحقا لكرامتها ومغتصبا لثروتها وحياتها وحياه يوم خروجه من البلاد تحية الأبطال وقال عنه:
"أمامنا الآن رجل من أعظم عظماء الرجال ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا ندا له يضارعه في عظائم الأعمال: هو اللورد كرومر، وقال: لو بقي اللورد كرومر عاما واحدا في منصبه لعد عيده الذهبي في خدمة دولته، نشر هذا في الجريدة في نفس اليوم الذي ألقى فيه كرومر خطاب الوداع فسب المصريين جميعا وقال لهم أن الاحتلال البريطاني باق إلى الأبد.
سادسا: رسم لطفي السيد خلال عمله في الجريدة (١٩٠٧ - ١٩١٤) منهجا للحياة الأجتماعية والسياسية والتربوية والاقتصادية يقوم على التبعية العامة للنفوذ الأجنبي والاحتلال البريطاني والفكر الغربي تحت اسم عبارة.  ماكرة خادعة هي (مصر للمصريين) وقاوم بهذا الفكر ذلك الأتجاه الأصيل الذي كان يحمل لواء دعاة الوطنية الصادقة والفكر الإسلامي النير وكون مدرسة تحقق لها بعد الحرب العالمية الأولى السيطرة على مقدرات الأمور بعد أن أقصى رجال الوطنية الحقة.
سابعا: تبين أن مترجمات لطفي السيد عن أرسطو (التي ترجمت من الفرنسية) "السياسة. الكون والفساد. الأخلاق"وهي منسوبة إليه، تبين أنه ليس مترجمها وأن مترجمها الحقيقي هو قسم الترجمة في دار الكتب المصرية وذلك بشهادة عديد من معاصري هذه الفترة.
ومنهم (الأستاذ أحمد عابدين مدير دار الكتب السابق ولا يزال حيا يرزق).
ثامنا: بالرغم من دعوة لطفي السيد العريضة إلى الدستور والحرية فإن الوزارات التي قبل الاشتراك فيها كانت كلها تتسم بطابع واحد فهي جميعا وزارات انقلاب ضد الدستور والبرلمان والحريات العامة.
يقول الأستاذ فاروق عبد القادر: أن الباحث في لطفي السيد ليس بوسعه أن يتجاهل هذا التناقض كيف للرجل الذي كتب مطالبا بالدستور مدافعا عن الحرية أن يشترك في وزارات عبثت بالدستور وصادرت الحرية، كيف يشترك في وزارات طابعها الإرهاب والسطو على الحريات.
تاسعا: إن حزب الأمة الذي أنشأه لطفي السيد كان بإجماع الآراء صناعة بريطانية أراد بها اللورد كرومر أن يواجه الحركة الوطنية بجموع من الإقطاعيين والثراة والأعيان (الذين وصفهم بأنهم) أصحاب المصالح الحقيقية، وقد كان هدف حزب الأمة والجريدة بقيادة الفيلسوف الأكبر لطفي السيد تقنين الاستعمار والعمل على إيجاد شرعية للاحتلال مع الدعوة إلى المهادنة مع الغاصب وتقبل كل ما يسمح به دون مطالبته بشيء.  
هذه مجموعة من الخطوط العامة نضعها بين يدي القارئ العربي المثقف دون أن نقدم حكما على لطفي السيد وندعه هو أن يصدر هذا الحكم. ولقد تعددت المصادر والأبحاث التي تكشف حقيقة هذا الرجل فليرجع إليها من يشاء وكلها تجمع على أن هذه الدعوة التي حملها لطفي السيد إنما هي خطة دقيقة محكمة من خطط الاستعمار الغربي والنفوذ الأجنبي، فإن اللورد كرومر أراد في إطار عمل مرسوم أن ينشئ في مصر جيلا جديدا يسير في ركب الاستعمار معجبا به مقدرا له ومحبا، ولذلك عمل خلال عشرين سنة أو يزيد على صياغة هذا الجيل عن طريق المدرسة وعن طريق الثقافة، وكانت دعوته الملحة الحارة أن بريطانيا ستسلم مصر لأبنائها متى ظهر هذا الجيل الذي يعمل بالتعاون مع الاستعمار، ولفت نظر الشباب المتعلم وهم جميعا من أبناء الطبقة التي أنشاها النفوذ الاستعماري وسودها وجعلها مركز القيادة السياسية إلى أنهم هم حكام مصر في المستقبل القريب .. وكان حريصا على أن تتشكل هذه القوة أو هذا الحزب في نفس الوقت الذي كان الاحتلال يضرب القوى الوطنية وأصحاب الأصالة ليقضي عليهم ويفرغ البلاد منهم ويسلمها لهذا الجيل الذي كان من قيادته: لطفي السيد وسعد زغلول وعبد العزيز فهمي وقد تشكل حزب الأمة من مجموعة من أصحاب النفوذ وكبار الباشوات والملاك مثال محمود سليمان وحسين عبد الرازق وحمد الباسل وفخري عبد النور وسليمان أباظة وعبد الرحيم الدمرداش والطرزي وغيرهم وكان رأي هؤلاء أن السلطة الفعلية قد آلت كلها إلى كرومر الذي يمثل سلطة الاحتلال وأن مصالحهم الشخصية تقضي عليهم أن يكونوا على وفاق معهم فألفوا حزبهم بصفة رسمية في ٢١ سبتمبر ١٩٠٧ برئاسة محمود سليمان باشا وتولى لطفي السيد قيادة فكرهم وصحيفتهم التي جمعوا لها في ذلك الوقت مبلغ ٣٠ ألف جنيه: وقد ظهرت الجريدة في ٩ مارس ١٩٠٧ تصور الاحتلال على أنه حقيقة واقعة وترى أن عدم الاعتراف بشريعته لا يعني عدم.  وجوده ولا يقلل من سلطته ونفوذه وكانت ترى أن هؤلاء المحتلين ماضون في طريقهم مستقلون بتصريف الأمور، رضي المصريون بذلك أم كرهوا وأن التخلص من الاحتلال يحتاج إلى قوة لم تتوفر للمصريين وأن دعاة الحركة خياليون ينفقون الوقت فيما لا طائل تحته وأنهم أصحاب خيال وتهريج.
وبذلك استطاع لطفي السيد أن يرسي مفاهيم الإقليمية المصرية الضيقة التي تكره العرب وتكره المسلمين وتعارض كل تقارب وكل صلة بل وتكره الاتصال بالفكر الإسلامي الذي هو أساس الثقافة والتعليم. وقد صور هذا المعنى مستشرق غربي هو ألبرت حوراني حين قال عن لطفي السيد ما يلي: كان يرى أن بريطانيا قوية وأن لها مصالح جوهرية في مصر وأنها هي نفسها قد أعلنت عن بقائها في مصر إلى أن تصبح هذه قادرة على حماية المصالح وإذن لا يمكن إخراجها بالقوة.
وقد أعلنت بريطانيا تجديد احتلالها وخلقت الشعور بأنها باقية إلى الأبد وأن مصلحة مصر تقتضي التعاون معها في أي تدبير تتخذه في سبيل إنماء قوة البلاد وهكذا كان ينفث لطفي السيد سموم التثبيط والاسترخاء في وجه دعاة الوطنية ولا يقف عند هذا الحد بل يتهمهم بأنهم خياليون مغالون في الخيال ويتهم خطتهم بأنها ولاء لتركيا بينما لم يكن مصطفى كامل ومحمد فريد إلا دعاة إلى الحرية والاستقلال والجلاء دون أن يلينوا أي لين لتقبل وعود بريطانيا وكانوا في دعوتهم لا يستهدفون العودة إلى النفوذ التركي العثماني، وإنما كانوا يؤمنون بأن حركة الحرية يجب أن تتم داخل إطار أوسع من الإقليمية ويجب أن تكون في إطار الجامعة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية الأصلية التي كانت بريطانيا عن طريق حزب الأمة تهدف إلى تجريد المصريين منها ودفعهم إلى التبعية في التشريع والتعليم والاقتصاد لتكون مصر خاضعة تمام الخضوع.   للقانون الوضعي ولمفاهيم الغرب في التعليم والثقافة ولتنقطع الصلة تماما بين مصر وبين جيرانها عربا ومسلمين وبين الفكر والثقافة في مصر وبين الفكر الإسلامي الأصيل المستمد من القرآن والسنة.
ولقد كان لطفي السيد في دعوته هذه ينتقص أهمية الأرضية الإسلامية للفكر والثقافة والتعليم ويغالي في التبعية للفكر الليبرالي الغربي الذي كان في هذه الفترة خصيصا خصيما للدين والأخلاق.
يقول ألبرت حوراني: "إن الأنطباع القوي الذي تتركه قراءة مقالات لطفي السيد التي نشرها في الجريدة (وهي كل ثروته الفكرية) هو الأندهاش من الدور الصغير الذي لعبه الإسلام في تفكير رجل تتلمذ على (محمد عبده) لا شك أنه كان يشعر بأنه هو ومعظم مواطنيه مسلمون بالوراثة، وأنهم جزء من الأمة، لكن الإسلام لم يكن المبدأ المسيطر على تفكيره فلم يهتم بالدفاع عن الإسلام كالأفغاني، ولا يهتم كمحمد عبده بإعادة الشريعة الإسلامية إلى مركزها كأساس خلقي للمجتمع. وفي هذا يقول: لست ممن يتشبثون بوجوب تعلم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية بعينها، ولكني أقول: بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ يتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره، هذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر.
وهكذا ترى أن مفهومه للأخلاق والدين مستمد من الفكر الغربي ويعلق حوراني فيقول: وهكذا نرى أنه تخلى عن أول مبدأ من مبادئ محمد عبده واستعاض عنه بمبادئ جديدة. ويقول: لقد أخذ يطرح أسئلة جديدة لا تدور حول الشروط التي تؤدي إلى ازدهار المجتمع الإسلامي أو انحلاله.
بقدر ما تدور حول الشروط التي تؤدي إلى ازدهار أي مجتمع أو انحلاله، كذلك لم تكن المفاهيم التي أجاب بها على هذه الأسئلة هي مفاهيم للفكر.  الإسلامي، بل مفاهيم الفكر الأوربي حول التقدم والمجتمع الأفضل.
ويقرر حوراني أن لطفي السيد ورفاقه تأثروا بنمطين من التفكير الأوربي:
أولا: تفكير كونت، ورينان، وبلي، وسبنسر، ودوركايم الذين ذهبوا إلى أن المجتمع البشري متجه بحكم سنة التقدم نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل واتساع أفق الحرية الفردية وحلول التعاقد الحر والمصلحة الفردية محل العادات والأوضاع الراهنة.
ثانيا: تفكير جوستاف لوبون الذي يقول بفكرة الطبع القومي، وأن كل شعب له بنية ذهنية ثابته بثبوت بنيته الجسدية.
ويقول الحوراني:
إن لطفي السيد يحدد فكرة الأمة على أساس الأرض، لا على أساس اللغة والدين، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية بل بأمة مصرية هي: أمة القاطنين أرض مصر، وكان شعوره بوجود مصر شديد بحيث أهمل الدين بالنسبة لعناصر الوحدة الأخرى. فمعظم القاطنين في مصر يشتركون في الأصل واللغة والدين.
ولا نستطيع أن نتجاوز عرض حياة لطفي السيد دون أن نذكر زيارته للجامعة العبرية في القدس ١٩٢٤ واشتراكه في استقبال الوفد الصهيوني إلى مصر بزعامة الدكتور وايزمان حيث أقيم له حفل شاي بفندق الكونتيال ١٩٢٦م" (١)
* حزب الأمة (الإنجليزي) ومفكره ومنظره لطفي السيد:

 

معلوم أن هذا الحزب من صنع كرومر، وتولى لطفي السيد قيادة فكره وصحيفته "الجريدة "وهو الذي احتضن الدعوة إلى تحرير المرأة، فكان لطفي السيد في مقدمة المروجين لها على صفحات جريدة "الجريدة"وهي لسان الحزب المذكور. ومن المعروف أن أعضاء حزب الأمة الذين أطلق الإنجليز عليهم اسم "الرجال المعتدلون"؛ لأنهم حاربوا مصطفى كامل وناوؤه؛ لأنه جعل مبدأه في مقاومة الاستعمار يقوم على أساس الجلاء ووحدة وادي النيل، ووصفوه بالرجل العنيف .. وكفى حزب الأمة خزيا وهوانا وذلا أن كان من زعمائه الهلباوي "جلاد دنشواي"وفتحي زغلول شقيق سعد زغلول وعضو المحكمة المخصوصة التي حكمت بما حكمت به في دنشواي والذي قال فيه أحمد شوقي:

 

إذا ما جمعتم أمركم وهممتم ... بتقديم شيء للوكيل ثمين

 

خذوا حبل مشنوق بغير جريرة ... وسروال مسجون وقيد سجين

 

ولا تقرءوا شعري عليه فحسبه ... من الشعر حكم خطه بيمين

 

ولا تنشروه في شبرد (١) بل انشروا ... على ملأ في دنشواى حزين

 

 

* الحملة علي اللغة العربية، الفصحى والدعوة إلى العامية:
كانت حملة لطفي السيد على اللغة العربية الفصحى هي أخطر الأعمال التي قام بها والتي دفعته بالتبعية؛ لأن يواصل الخطة التي بدأها الاستعمار البريطاني بقيادة ولكوكس وقد كانت محاولته ماكرة خبيثة بدأها في ١٨٩٩

..

 

في مجلة الموسوعات حيث ادعى أن اللغة العربية أصبح تعلمها أبعد منالا من تعلم اللغات الأجنبية، ودعا إلى تسكين حروف الهجاء وفك الإدغام، وإهمال الشكل، وسخر من هذه الضوابط كلها، ثم وسع نطاق الدعوة عام ١٩١٣ في جريدة الجريدة فكتب أكثر من سبع مقالات (إبريل- ومايو ١٩١٣) وهو في هذه الحملة كان خادعا فهو لم يفاجئ القارئ بالحملة على اللغة العربية (وكذلك خصوم اللغة العربية يفعلون ذلك فلا يكشفون عن خصومتهم) بل يصدرون عن غيرة مفتعلة تدعوهم إلى ادعاء الحافظة عليها حين يوجهون سمومهم وهو لم يدع إلى ترك الكتابة بالفصحى إلى العامية بل تسلل إلى ذلك بطريقة فيها كثير من المكر والمداورة وكانت دعوته إلى إدخال الكلمات الأجنبية (الأتومبيل والبسكلت والجاكته والبنطلون وغيرها) إلى اللغة العربية، وقال: أنها دخلت اللغة فعلا وأننا لا نستطيع أن نضع لها ولا لغيرها من المسميات الجديدة أسماء جديدة.
وقال: الأسماء الجديدة ما لها لو أخذناها (زي ماهية).
وقال: أن اللغة ملك للأمة وللكتاب الحرية في الزيادة عليها بأساليب جديدة وألفاظ جديدة، وأنه لا حرج على الكاتب أو المترجم أن يستعمل من الألفاظ ما شاء لما شاء من المعاني، ويقول: نريد أن لا نذر (اللغة العامية) أو لغة الشعب تموت بإبعاد عربيتها وفصيحها عن عالم الكتابة والعلم ونريد أن نرفع لغة العامة إلى الاستعمال الكتابي وننزل بالضروري من اللغة المكتوبة إلى ميدان التخاطب والتعامل، وقال: إن العامية وأسماها لغة، لها مشخصات ثابتة تحددها من جميع الجهات وتجعلها مميزة تميزا تاما ودعا إلى استعمال العامية في الكتابة.
وقال: إن كل الحروف تكون ساكنة ولا تتحرك إلا بحروف العلة".
هذه هي المؤامرة التي حمل لواءها لطفي السيد الذي اختير بعد ذلك
رئيسا لمجمع اللغة العربية وقد عاشت هذه الأفكار قائمة في حياته وفكره بل وعمل المجمع إلى تحقيقها بعد أن ضم إليه عدد من خصوم اللغة العربية أمثال طه حسين وعبد العزيز فهمي الذي دعا إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية ومن بعد ذلك عدد كبير من هؤلاء السطويين التغريبيين.
وقد وقف عبد الرحمن البرقوقي ومصطفى صادق الرافعي في مجلة البيان موقفا حاسما جريئا في الدفاع عن اللغة العربية وقد حملا لواء الاتهام للطفي السيد مؤمنين بأن القضاء على اللغة العربية هو قضاء على أقدس مقدسات الأمة الإسلامية.
وكتب مصطفى صادق الرافعي يرد عليه تحت عنوان: "الرأي العامي في اللغة العربية الفصحى:
زعموا أنهم يريدون أن تسهل الألفاظ وتنكشف المعاني وتكون الكتابة في استوائها وجمالها كصفحة السماء فهل البلاغة العربية إلا تلك، وهل هذا أمر غير عربي بل وهل يعرفون -أصلحهم الله- أن الطفل يرى كل ما يدور في مسمعه من ألفاظ والديه كأنه إنما يلفق لهما اعتصاما واعتسافا واستكراها إذ لا يفهم من كل ذلك شيئا إلا بمقدار ما يعتاد وعلى حسب ما تبلغ حاجته.
ثم ما هو حكم العامي -وهو في كل أمة الطفل العلمي- بجانب أهل العلوم، أتراه يلقف عنهم إلا بميزان تلك الغريزة الفطرية في الطفل الصغير مع أبويه فلم لا تحمي العلوم وألفاظها وأساليب التعبير عنها ونحو ذلك مما تتراخى به شقة الفهم إذا تعاطاه ذهن العامي أو حاوله ويكون سداد العلماء فيما تطيقه العامة وسداد العامة فيما يطيقه الأطفال.
وأنت إذا تخطيت أمر الطفل اللغوي والطفل العلمي وأسندت في حد هذه الطفولة لم تر إلا طراز أصحابنا وهم أطفال الأقلام فهل يكبر عليهم أن  يكبروا ويشيدوا وأن يساوقوا الفطرة في مجراها فيأخذوا الشيء بأسبابه ويأتوا الأمر من بابه، يصدرون رأيهم على جهل فإذا كشف لهم معناه وبصرتهم بمصايره ووقفت بهم على حدوده وأريتهم وجوههم في مرآة النصيحة أنكروا ما جئت به وحسبوك تمتري الكذب وأصروا واستكبروا استكبارا لأن رأس علمهم أن يظنوا لا أن يحققوا ما يظنون فالرأي هو الرأي في ذاته لا ما يتعلق به ولا ما ينادى إليه.
اللغة مظهر من مظاهر التاريخ والتاريخ صفة الأمة فكيفما قلبت أمر اللغة من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها واشتمالها جلدة أمة أخرى، فلو بقي للمصريين شيء متميز من نسب الفراعنة لبقيت لهم جملة مستعملة من اللغة الهيروغليفية وأن في العربية سرا خالدا هو هذا الكتاب المبين (القرآن) الذي يجب أن يؤدى على وجهه العربي الصريح ويحكم منطقا وإعرابا بحيث يكون الإخلال بمخرج الحرف الواحد منه كالزيغ بالكلمة عن وجهها وبالجملة عن مؤداها، ثم هذا المعنى الإسلامي (الدين) المبني على الغلبة والمعقود على أنقاض الأمم والقيم على الفطرة الإنسانية؛ والقرآن الكريم ليس كتابا يجمع بين دفتيه ما يجمعه كتاب أو كتب فحسب، إذ لو كان هذا أكبر أمره لتحللت عقده، وإن كانت وثيقة ولأتى عليه الزمان، أو بالحري لنفس من أمره شيء كثير عن الأمم ولاستبان منه مساغ للتحريف والتبديل من غال أو مبطل ولكانت عربيته الصريحه الخالصة عذرا للعوام والمستعجمين في إحالته إلى أوضاعهم إذا ثبت لهم قدره على ذلك.
وليس يقول بهذا إلا ظنين قد انطوى صدره على غل واجتمع قلبه على داخلة مكروهة وإلا جاهل من طراز أولئك لا يستطيل نظره بتجربة ولا ينفذ بعلم، وإنما هو آخذ بذنب الرأي لا بوجهه ولكن بتوجه معه ولا يقبل به ولكن يدبر به الرأي.   إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة العربية فلا يزال أهله مستعربين به متميزين بهذه الجنسية حقيقة أو حكما حتى يتأذن الله بانقراض الخلق وطي هذا البسيط، ولولا هذه العربية التي حفظها القرآن على الناس وردهم إليها وأوجبها عليهم لما اطرد التاريخ الإسلامي ولا تراخت به الأيام إلى ما شاء الله ولما تماسكت أجزاء هذه الأمة ولا استقلت بها الوحدة الإسلامية، ثم لتلاحمت أسباب كثيرة بالمسلمين ونضب ما بينها فلم يبق إلا أن تستلحقهم الشعوب وتستلحقهم الأمم على وجه من الجنسية الطبيعية -لا السياسية- فلا تتبين من آثارهم بعد ذلك إلا ما يثبت عن طريق الماء إذا انساب الجدول في المحيط، على أنك لو اعترضت على من يهجن العربية ويزري على سبكها لرأيته أجهل الناس بتركيبها وحكمة اشتقاقها ووجوه تصريفها ثم لرأيت له غرة في تاريخ قومها فهو أن عرف منه شيئا فقد تجرد من ثمرة المعرفة كان يحفظ طلاسم لا يتخبط فيها حتى يتخبطه الشيطان من المس، ثم ترى الآفة الكبرى أنه مستدرج من حيث لا يعلم فهو يكافئ محبة لغة أجنبية أحكمها بعداوة لغته التي جهلها ويجزي منفعة تاريخ علمه بمضرة التاريخ الذي لم يعلمه والناس أعداء ما يجهلون.
٣٠ ربيع الثاني ١٣٣٠ (البيان)


* سياسة الجريدة ورئيسها لطفي السيد:
قال الدكتور محمد محمد حسين: أن الجريدة كانت تصور الاحتلال على أنه حقيقة واقعة، وترى أن الاعتراف بشرعيته لا تعني عدم وجوده ولا يقلل من سلطته أو نفوذه وقد دعا لطفي السيد إلى الولاء للثقافة الغربية والفكر الغربي وهاجم الحركة الوطنية وتأول تصرفات الاستعمار البريطاني وبرر وجوده في مصر وقدم مقاييس مختلفة عما كان يؤمن به التوجه الوطني والإسلامي في ذلك الوقت وأيد سعد زغلول في عدم تعليم العلوم باللغة.  العربية وتعليمها باللغات الأجنبية، ودعا إلى مقاومة تعليم سواد الأمة وعارض الاتجاه إلى المجانية ومجد مزايا السياسة البريطانية ومدح اللورد كرومر عدو الوطنية المصرية، وقال عنه: أنه رجل من أعاظم الرجال.
هذا هو النهج الذي سارت عليه الجريدة لسان حال حزب الأمة.
قال الشيخ عبد العزيز جاويش: أما الجريدة فإنها منذ اليوم الأول لها وهي موالية للاحتلال على نحو فيه ذكاء وبراعة فهي تدعي أنها تمثل وجهة نظر أصحاب المصالح الحقيقية وهم أصحاب البيوتات والقصور وممثلو الطبقة الارستقراطية المصرية التي كونها كرومر وقدمت ولاءها للإنجليز وتؤمن الجريدة بأن الاحتلال أمر واقع لا سبيل لمقاومته ومن المصلحة الانتفاع بما يمكن الحصول عليه، ولكن المواقف المتوالية كانت تكشف تبعية الجريدة يوما
بعد يوم، ولم يكن طيبا من الجريدة على لسان لطفي السيد فيلسوف الحرية أن تؤيد عودة قانون المطبوعات ومن رأي جاويش أنها فعلت ذلك لأنها تعلم أنه لن ينفذ عليها:
"وفي الوقت الذي يدعو فيه الحزب الوطني إلى مجلس الأمة المنتخب الممثل للأمة يذهب لطفي السيد إلى أن (مجلس الشورى) الذي صنعه الإنجليز يصح أن يطلق عليه مجلس الأمة، ويقول جاويش في استهلال إحدى معاركه مع مدير الجريدة:
"إذا سألنا مدير الجريدة عن المجلس الممثل للأمة، ذلك المجلس الذي نطالب به ونلح في طلبه؛ لأننا الآن محرومون من مجلس يمثل الأمة تمثيلا بكافة طبقاتها، وإذا جارينا مدير الجريدة في اعتبار مجلس الشورى ممثلا للأمة لاعتبر أن كل ما تقرره كأنه صادر عن مجموعها وهذا ما لا يقول به أعضاء الشورى أنفسهم فأين هذه. القواعد التي يقررها الآن مدير الجريدة من مبدأ سلطة الأمة الذي ينادي به في كل حين، هل يتفق هذا المبدأ الشريف السامي.  مع اعتباره مجلس الشورى بنظامه الحاضر ممثلا للأمة أمام السلطة التنفيذية.
و (يلاحظ أن مجلس الشورى ليس مجلسا منتخبا على النحو البرلماني وليس رأيه ملزما للحكومة، وقد صنعه الإنجليز بعد أن ألغوا الدستور)، ثم يعرض جاويش لما ذكره لطفي السيد من وصف (مصطفى كامل) صاحب اللواء بأنه لا ينطق إلا بالكفر، وأن سياسة اللواء خرقاء وكتاباته عصبية ليست من العقل في شيء).
وقال جاويش: إذا كان ما تحتوي عليه خطبة الإسكندرية لمصطفى كامل كفرا فالإيمان في مذهب "الجريدة"هو الرضا بالاحتلال وعدم المطالبة بالاستقلال وهل يمكن أن يقال. أن حزب الأمة متحد مع الحزب الوطني.
وأشار جاويش إلى موقف لطفي السيد من الذين هاجموا تكريم كرومر عند انتهاء مدة حكمه وحملة مصطفى كامل عليه إذ ذاك وقال جاويش:
"أنسيت حملته الصادقة على الجريدة عندما كانت تدعو القوم إلى إقامة احتفال باللورد كرومر وتنشر "في صحيفتك الجريدة هذه العبارة:
"ومما يذكر لجناب اللورد كرومر من علو الهمة والثبات على مبدأه أن كبار الأعيان طلبوا إليه أن يقدموا له هدية تذكارا لشخصه يذكر به المصريون الذين أقام بينهم هذا الزمن الطويل، موفور القسط من الرفعة الذاتية والشمم وحسن اللقاء والحلم".
وردد جاويش في مجال تصوير الفرق بين مفاهيم الجريدة واللواء للوطنية قول مصطفى. كامل: "أن سياسة الجريدة تدلنا على أنها أشد الجرائد تعلقا بالاحتلال وحسبنا قدحها فيمن استنكروا الاحتفال باللورد كرومر أعدى أعداء المصريين والطاعن على الإسلام والمسلمين (١٨/ ١١/١٩٠٧ اللواء) وأضاف جاويش: قوله ولا عجب من أن يكون مدير الجريدة هو الآلة الخاضعه لهذه السياسة.   وأشار جاويش إلى الفارق الواضح بين اتجاه الجريدة وحزب الأمة وبين اتجاه الحزب الوطني في موقف خطير، عندما هوجمت طرابلس الغرب فنهضت مصر كلها لتدافع عنها وتقدم لها الأموال والرجال والأسلحة لمقاومة الاحتلال الإيطالي الباطش، الذي كان يدمر السواحل الليبية جارة مصر، هنالك تصدى لطفي السيد للأمر فسخر من المصريين لموقفهم من طرابلس وقال:
ما لنا نحن وهذا الأمر، إن ما يحدث هناك لا يهم مصر ولا دخل لنا فيه ودعا إلى سياسة المنافع لا العواطف، ودعا الحكومة إلى محاكمة من يحملون لواء الدعوة إلى مساعدة طرابلس.
وقال جاويش: "لقد خسر الذين فتنتهم وساوس صدورهم، وأعمتهم عن الحق سخافات مكتشفاتهم، يحاولون أن يصرفوا الأمة المصرية الإسلامية عن تخفيف ويلات إخوانهم الذين أغارت عليهم دولة الخيانة والغدر، إخوانهم في الإنسانية.
إن مساعدة المصريين للدولة العثمانية مساعدة حربية أمر لا يصح معه اتهامهم بالتعصب.
أي مدير الجريدة، أي عدو نفسه، هل نقمت منا أن ندعو المسلمين لنجدة المسلمين، وأن نستنفر الموحدين لإغاثة الموحدين، فماذا كنت تريد، أن الأمر لم يزد على أعمال الإعانة، أعمدنا إلى السيوف فسللناها والى البنادق فصوبناها وإلى الرماح فشددناها؟!.
أي عدو بلاده، رأيت مصر العزيزة مشرفة على موسمها المالي، ثم رأيت بنظارتك كيف تجلب إليها الأموال من كل جانب فعز عليك أن تحسد ذا نعمة، وشق على نفسك أن يستفيد غيرك من أصحاب المزارع، ثم تعلم (ومثلك من تعلمه الفلسفة).
مكانك مكانك أيها الجبان فما لك بميادين تميتك صورتها وتصعقك.   ذكراها إن لم تشأ فخير لك أن تحفر الأرض بأظافرك، وأن تتردى فيها ثم ارطم رأسك بالحجارة حتي يخرج من دماغك ذلك المخ الذي كان سبب شقائك وأصل بلائك".
وقد أخرجت مدرسة الجريدة جيلا من الكتاب عرف فيما بعد بحزب الأحرار الدستوريين وانطوى تحت لوائه في هذه المفاهيم طه حسين ومحمد حسين هيكل ومحمود عزمي وعلي عبد الرازق، وقد تمددت هذه الأفكار في هؤلاء مقاومة للوحدة الإسلامية وللعروبة وقبول الاحتلال والتفاهم معه وقصر التعليم على أبناء البيوتات وحدهم والولاء للفكر الغربي والفلسفة اليونانية والديمقراطية الليبرالية الغربية.


* لطفي السيد وترجمة مؤلفات أرسطو:
رحم الله الشافعي إذ يقول: "إنما فسد العرب لما تركوا الفطرة واتبعوا
لسان أرسطوطاليس".
"لم يكن أرسطو معلما للمسلمين ".
يقول الأستاذ أنور الجندي:
كان الأستاذ أحمد لطفي السيد (أستاذ الجيل) هو أول من ترجم فلسفة أرسطو بترجمة كتاب "الأخلاق"إلى العربية عن الترجمة الفرنسية التي قام بها من اليونانية (بارتلي سلنهيار) كمنطلق لتيار جديد أراد به (التغريب) إدخال الفكر الفلسفي اليوناني إلى الأدب العربي الحديث من طريق شخصية لامعة مثل (أرسطوطاليس) وكانت تلك خطة خطيرة غاية الخطورة، ذلك أن العرب والمسلمون في العصر العباسي عندما ترجمت الفلسفة اليونانية رفضوا أرسطو وهاجموه، وكشف زيف منهجه وأنشأوا المنهج العلمي التجريبي الذي تبناه روجر بيكون وكان أول خطوات الغرب نحو التجريد بعد التبعية لعصر التأمل الذي كان سمة الفكر الإغريقي، وهكذا نجد أن الغرب أخذ من.  المسلمين المنهج التجريبي في أول عصر النهضة، ثم جاء فأعطى المسلمين منهج أرسطو في أول عصر النهضة العربية على يد لطفي السيد في مقدمة ترجمة كتاب "الأخلاق".
والسؤال هو: هل حقا كان لطفي السيد أستاذ الجيل صادقا فيما قال وفيما دعا إليه العرب والمسلمين من اتخاذ أرسطو منطلقا إلى النهضة الجديدة، وقد مضت كتاباته وكتابات طه حسين وغيره من بعده دعوة ملحة إلى هذا الطريق. أم أن الأمر كان فيه شبهة وخدعة؟!.
وهل كان حقا (أرسطو) هو منطلق الحضارة الغربية في عصر النهضة وما بعدها، أم أن أول عمل قامت به النهضة هو نقض أرسطو وتزييفه، والحملة على منهجه واعتبار منهجه هو عامل التجميد الذي عاش فيه الغرب معتقلا قرونا حتى جاء نور الفجر مع منهج التجريب الإسلامي الذي أطلق الطاقات إلى عصر العلم الحديث، ندع هذا للباحثين، لقد كان علماء المسلمين انطلاقا من القرآن هم الذين أنشأوا المنهج العلمي التجريبي الذي كان أول حجر في بناء الحضارة والعلم بشهادة:
دراير وبريفولت وجوستاف لوبون في القديم، وسارتون وهونكه وغيرهم في العصر الحديث ومن أهم الكتب في هذا الشأن كتاب هونكه "شمس الله تشرق على الغرب"وكتاب "أوربا ولدت في آسيا".
إذن فلم يكن لطفي السيد صادقا في دعواه ولم يكن عميد الأدب العربي طه حسين أمينا حين نقل إلينا هذا المعنى، ذلك أن المسلمين نقدوا أرسطو أولا (في القرن الرابع الهجري)، ثم جاء الأوربيون فنقدوه ورفضوه فى القرن (الخامس عشر الميلادى)، واستعملوا أسلوب المسلمين في نقده، والتمسوا منهج المسلمين الذي دفعهم إلى ذروة الحضارة والعلم والتكنولوجيا الآن.

 

عائد من تونس

$
0
0

عائد من تونس

حزب "نداء تونس" ( بورقيبيين وانصار بن علي ) يتقدم بسرعة كبيره مسقطاً حزب

المرزوقي من الشبكة. ويواجه المرزوقي منافسة محددة المعالم

وأقصد النهضة الإسلامي الذين مالوا الآن لعقد تفاهم مع نداء تونس في مواجهة الجبهة

الشعبية والتحالف الديمراطي عموماً. وقد انكشفت هذه التركيبة في تعاونهما ونجاحهما

في اسقاط قانون العزل السياسي الاسبوع الماضي. مما عرض الغنوشي لمواجهة

تمردات في حزبه وانشقاق قليلين وبعض التصدع في مكانته الحزبية ...يقولون هناك ...

رغم خدمة حالة مصر يونيو لهم الا ان الغنوشي لا يمل من ادارة تحالفات ... ولو بائسة

ولكنها ضامنة للبقاء.

Viewing all 560 articles
Browse latest View live