Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

الإمام أحمد بن حنبل

$
0
0

( الإمام أحمد بن حنبل ) 
  للشيخ : ( سيد حسين العفاني )

لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه مثل وقدوة، فما بلغوا ما بلغوا إليه من توفيق الله لهم ورضائه عنهم إلا بزهدهم وورعهم وخوفهم من الله عز وجل، وممن اقتدى بهم في ذلك الإمام الجليل أحمد بن حنبل، فكانت حياته حافلة بالاستقامة على دين الله، والصبر على محاربة البدع.

إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].

نمضي مع سلسلة شيوخ الإسلام.

كن بالخير موصوفاً ولا تكن للخير وصّافاً، فإن الواو والراء والدال لا تشم منها رائحة الورد.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل فتيلة المصباح تضيء للناس وتحرق نفسها)، واليوم موعدنا مع الإمام حقاً وشيخ الإسلام صدقاً أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني أحد الأئمة الأربعة، وإمام أهل السنة والجماعة.

 

ولد الإمام أحمد في ربيع الأول سنة (164هـ).

مات أبوه شاباً وتولت أمه تربيته.

أم تربي مثل الإمام أحمد وأم تربي مثل الشافعي ، وأم تربي مثل سفيان الثوري ، فكل أم خلفت ابناً وصنعت منه رجلاً عظيماً.

فقد كانت أم سفيان الثوري تقول: يا بني! تعلم العلم وأنا أكفيك بمغزلي هذا.

وأم الشافعي تبيع له أنقاض بيتها.

كذلك أم الإمام أحمد صنعت من ابنها رجلاً، إذ مات زوجها وهو شاب، فولدت هذه الأم الجبل الإمام العظيم أحمد بن حنبل، ولكن لا يعرف ما اسمها؟ إلا أنه يكفيها أنها صنعت الإمام أحمد .

يقول الإمام أحمد : ثقبت أمي أذني وصيّرت فيهما لؤلؤتين، فلما ترعرعت نزعتهما، فكانتا عندها ثم دفعتهما إلي، فبعتهما بنحو من ثلاثين درهماً.

 

 

 
 
 بداية طلبه للحديث

تلقى الإمام أحمد الحديث، وكان بداية طلبه للحديث وهو ابن خمس عشرة سنة، أي: في العام الذي مات فيه مالك وحماد بن زيد.

سمع الإمام أحمد من ابن بشير، وأكثر عنه حتى سمع منه أكثر من ثلاثة آلاف حديث، وقد تأدب الإمام أحمد في مجلس شيوخه غاية الأدب، قال: ما نلنا هذا العلم إلا بالذل ولا نبذله إلا بالذل، ومكث أربع سنوات في مجلس هشيم بن بشير شيخه لا يكلمه في مسألة هيبة له.

ومن شيوخ الإمام أحمد سفيان بن عيينة الهلالي وأيوب بن النجار وأبو خالد الأحمر وعِلي بن ثابت ويزيد بن هارون.

فالإمام أبو خالد كان يجلس له في مجلس الدرس تسعون ألفاً، وقد روى الإمام أحمد في المسند عن مائتين وثمانين شيخاً من شيوخ الحديث، وكتب عنه شيخه هشيم بن بشير ثلاثة آلاف حديث.

 زوجات الإمام أحمد وأولاده

رحل إلى الكوفة لطلب الحديث ولم يكن استأذن والدته، فرجع إلى أمه ليستأذنها في الرحلة لطلب العلم فبارك الله له في طلبه.

تزوج الإمام أحمد وهو ابن أربعين سنة فرزقه الله خيراً كثيراً.

إذاً: الإمام أحمد أجّل الزواج لسن الأربعين لشغله بطلب الحديث، وأمر الزواج يختلف من رجل إلى رجل، والأحكام الشرعية للزواج تدور بين الندب والوجوب والإباحة والكراهية والتحريم، فالرجل الذي يتعلم وليس له حاجة في النساء ولا يملك أي مال لا يتزوج؛ لأنه لو تزوج فإنه سيفتن هذه المرأة، وفي نفس الوقت هو لا يستطيع الباءة.

وشيخ الإسلام ابن تيمية لم يتزوج، والإمام النووي لم يتزوج، والإمامأحمد أخّر الزواج لسن الأربعين، فالشاب الذي لا يستطيع الزواج عليه بالصوم فإنه له وجاء، وطالب العلم الأولى له أن يؤخِّر.

تزوج الإمام أحمد عباسة بنت الفضل فولدت له أكبر أبنائه صالح ابن الإمام أحمد.

ثم توفيت فتزوج بعدها ريحانة فولدت له عبد الله، وقيل: إنها كانت عوراء اختارها لدينها.

ثم اشترى جارية اسمها حُسْن، والجارية حين ينكحها تصبح أم ولده، مثلمارية فهي لم تكن من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها كانت جارية للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أنجبت إبراهيم صارت أماً لولده، فالإمام أحمد اشترى جارية فولدت له أم علي زينب ، ثم ولدت له الحسنوالحسين وماتا، ثم ولدت الحسن ومحمداً فعاشا حتى بلغا سن الأربعين سنة، ثم ولدت له سعيداً.

إذاً: هذا حال الإمام أحمد وحال زوجاته.

 مصدر علم الإمام أحمد

قال أبو بكر بن أبي شيبة : لا يقال لـأحمد بن حنبل: من أين قلت؟ لأنه نهر جار، ولا يقال له: أين دليلك، ودليله على ذلك السمع.

قال ابن نمير : كنا عند وكيع بن الجراح فجاءه جماعة من أصحاب الإمامأبي حنيفة ، فقالوا: هل هنا رجل بغدادي؟ يقصدون الإمام أحمد، فلم يعرفه وكيع ، فبينما وكيع جالس إذ طلع أحمد بن حنبل فقالوا: هو هذا! قال: هاهنا يا أبا عبد الله ، فجعلوا يذكرون عن أبي عبد الله الذي ينكرون، هذا يقول: كذا! وهذا يقول: كذا! وهذا جعل أبو عبد الله يحتج بالأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لـوكيع : بحضرتك. فقال: رجل يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا أقول له؟

ثم قال وكيع : ليس القول إلا ما قلت يا أبا عبد الله ! فقال القوم لـوكيع: خدعك والله البغدادي.

وقال عالم: وضع أحمد بن حنبل عندي نفقته فقلت له: يا أبا عبد الله! بلغني أنك ذو حسب ونسب، فقال: يا أبا النعمان! نحن قوم مساكين.

وقال أبو زرعة الرازي لـعبد الله بن الإمام أحمد : كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث -مليون حديث- قال الذهبي : هذه حكاية صحيحة تدل على سعة علم الإمام أحمد وكانوا يعدون له الأحاديث المقررة والآثار عن الصحابة وفتاوى التابعين وتفسيراتهم، كل هذا كان يحفظه الإمام أحمد، فقد بلغ ما يحفظه من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الموقوفة عن الصحابة والمقطوعة وفتاوى التابعين ألف ألف حديث، وفي عصرنا هذا الذي يحفظ رياض الصالحين يقولون عنه: شيخ!

 كتب الإمام أحمد وعلمه

بلغت كتب الإمام أحمد يوم مات حمل اثني عشر جملاً، ما كان على ظهر كتاب منها حديث إلا ويحفظه.

قال الإمام الحافظ إبراهيم الحربي : رأيت أبا عبد الله كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين.

وقال إسحاق بن راهويه شيخ الإمام البخاري : كنت أجالس أحمد وابن معين ونتذاكر فأقول: ما فقه هذا الحديث ما تفسيره؟ فيسكتون جميعاً إلاأحمد .

وقال أبو بكر الخلال تلميذ الإمام أحمد : كان أحمد قد كتب كتب أهل الرأي -وهم الأحناف- وحفظها ثم لم يلتفت إليها.

وقال يحيى بن آدم الإمام الحافظ : أحمد بن حنبل إمامنا.

وكان الإمام أحمد أعلم الناس قاطبة بحديث سفيان الثوري ، قال شيخهعبد الرحمن بن عدي : من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري فلينظر إلى هذا. وأشار إلى الإمام أحمد .

قال المروزي تلميذ الإمام أحمد : غشي على الإمام أحمد عند ابن عيينة لما زحمه الناس، فقال شيخه سفيان بن عيينة : مات خير الناس، ظن أنه قد مات لما اشتد الزحام، والإمام أحمد يقول: كفى! وهم يدوسون عليه فغشي عليه، ثم أفاق بعد ذلك رحمه الله.

أراد شيخ أن يدخل على الإمام أحمد فقال: كنا عند ابن عيينة سنة ففقدتأحمد بن حنبل أياماً فدللت على موضعه، فجئت فإذا هو في شبيه بكهف في مكان يسمى جياد بمكة بعد الصفا، فقلت: سلام عليكم أأدخل؟ قال: لا، ثم قال بعد ذلك: ادخل. قال: فدخلت عليه فإذا عليه قطعة لبد خلق -يعني: قطعة من الصوف مقطعة- فقلت له: لم حجبتني؟ فقال: حتى استترت منك، فقلت: ما شأنك؟ قال: سُرقت ثيابي، مثل ما كانوا في مجلس مالك بن دينار فقعد الرجل يقول كلاماً فأبكى الجميع، وبعدها أتى يبحث عن نعله فلم يجده فقال: كلنا يبكي فمن سرق النعل؟ فقال هذا الرجل: فبادرت إلى منزلي فجئته بمائة درهم فعرضتها عليه فامتنع، فقلت: قرضاً فأبى. وظل ينقصها حتى بلغت عشرين درهماً فأبى، فقمت وقلت: ما يحل لك أن تقتل نفسك، فقال: ارجع، فرجعت، فقال: أليس قد سمعت معي من ابن عيينة ؟ قلت: بلى قال: تحب أن أكتبه وأن أنسخه لك؟ قلت: نعم. فقال: اشتر لي ورقاً فاشترى له الورق، فنسخ له الإمام أحمد من كتابه في هذه الأوراق فكتب بدراهم اشترى منها ثوبين، وهذا يدل على عفّة العلماء وورعهم، وربما جمع أحدهم المرقعات من المزابل فغسلها في نهر دجلة فصنع منها ثوباً يكسو عورته، ثم يبكي ويقول: ما ضرهم ما أصابهم! جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة.

واستمع إلى العجب العجاب من إمام أهل السنة:

قال الإمام أحمد : قدمت صنعاء أنا ويحيى بن معين فمضيت إلى عبد الرزاق في قريته.

الإمام أحمد اكترى نفسه عند الجمّالين حمالاً يأخذ متاع الناس الحجيج الذاهبين من مكة إلى اليمن، فكان يخدمهم وهو إمام أهل السنة، وذلك لأنه سمع أن عند عبد الرزاق الصنعاني إمام أهل اليمن ومحدثها أحاديث ليست عنده، فأراد أن يأتي إلى عبد الرزاق ، ولا توجد وسيلة إلا أن يخدم قافلة للحجيج ذاهبة إلى اليمن.

ذهب الإمام أحمد ووصل إلى بيت عبد الرزاق في قريته، قال: فلما ذهبت أدق الباب، قال لي بقّال: لا تدق فإن الشيخ يُهاب، وعبد الرزاق الصنعانيكانت له هيبة عظيمة مثل الإمام مالك يقولون عنه:

يدع الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان

نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان

وكان الملك العادل ملك مصر، كان إذا رأى عبد الغني المقدسي يقوم له فيقولون له: إنه فقير وإنه قارئ، قال: والله ما دخل عليَّ مرة إلا وخُيِّل إليّ أنه سبع، فالبقال يقول للإمام أحمد : لا تدق عليه الباب فإن للمشايخ هيبة، قال: فلما ذهبت أدق الباب قال لي بقال تجاه داره: مه لا تدق فإن الشيخ يُهاب، فجلست حتى إذا كان قبل المغرب خرج، فوثبت إليه وفي يدي أحاديث انتقيتها، فسلمت وقلت له: حدثني بهذه رحمك الله فإني رجل غريب. فقال: ومن أنت؟ وزبرني -يعني كلمه بشدة- فقلت: أنا أحمد بن حنبل فتقاصر عبد الرزاق وضمني إليه، وقال: بالله أنت أبو عبد الله ؟ ثم أخذ الأحاديث وجعل يقرؤها حتى أظلم الليل، فقال للبقال: هلم المصباح حتى خرج وقت المغرب، وكان عبد الرزاق يؤخر صلاة المغرب، ولما ذكر الإمام عبد الرزاق الصنعاني الإمام أحمد دمعت عيناه وقال: بلغني أن نفقته نفدت قال: فأخذت بيده، فأقمته خلف الباب وما معنا أحد فقلت: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير، إذا بعنا الغلة أشغلناها في شيء، يعني: القمح أو الذرة أو الشعير قال: وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها وأرجو أن لا تنفقها حتى يتهيأ شيء.

قا عبد الرزاق: فقال لي: يا أبا بكر لو قبلت من أحد شيئاً قبلت منك.

ولم يقبل الإمام أحمد بن حنبل .

وكان أحمد بن حنبل يصلي إماماً بـعبد الرزاق الصنعاني فسها الإمامأحمد ، فسأل عنه عبد الرزاق : لماذا سها في صلاته بالقرآن؟ فأخبر أنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام، يعني: من شدة الجوع نسي آيات من كتاب الله عز وجل.

 منزلة الإمام أحمد بن حنبل عند العلماء المعاصرين له

كان شيخه يزيد بن هارون كثير المداعبة والمزاح، فما كان يترك المزاح إلا في حضور الإمام أحمد فكان يترك المزاح أدباً، وكان يوقره ولا يمازحه.

قال قتيبة : وأشار إلى أحمد بن حنبل : إذا رأيت رجلاً يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة، ولو أدرك أحمد سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد لكان هو المقدم عليهم.

وقيل لشيخه قتيبة بن سعيد: يضم أحمد إلى التابعين، قال: إلى كبار التابعين، لو لا أحمد لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا بأسرها.

وقال الشافعي : خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل والإمام أحمد بن حنبل قال عن شيخهالشافعي : ما من رجل مس محبرة ولا تناول قرطاساً إلا وللشافعي في عنقه منة ودين، كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن؛ فانظر هل عن هذين من عوض؟ هذا أدب الشيوخ وأدب التلامذة مع شيوخهم.

وقال إسحاق بن راهويه رحمه الله: أحمد حجة بين الله وبين خلقه.

وقال علي بن المديني : أحمد أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه؛ لأن سعيداً كان له نظراء -أي: ناس أمثاله في العلم- ولم يكن لـأحمدنظراء.

وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حافظ الحديث: إني لأتدين بذكرأحمد بن حنبل ، ما رأيت رجلاً أعلم بالسنة منه، وكان أهل الحديث الحفاظ في مجلس فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة فجعلوا يذكرون الإمام أحمدفقال رجل بعض هذا: أنتم كل جلسة تقضونها في ذكر أحمد بن حنبل أو ماذا؟ فقال يحيى : وكثرة الثناء على أحمد تستنكر؟ لو جلسنا مجالسنا بالثناء عليه ما ذكرنا فضائله بكمالها.

وقال ابن معين الإمام العظيم: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل ، وقال: ما رأيت من يحدث لله إلا ثلاثة: يعلى بن عبيد والقعنبي الراوي عن الإمام مالكوأحمد بن حنبل رحمه الله، كان الإمام أحمد أفضل أهل زمانه.

وقال أبو داود : كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط، قال الله تبارك وتعالى: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] يعني: ما كان لهم هم ولا شاغل إلا الكلام عن الآخرة، لا يعرفون شيئاً من أمور الدنيا.

قال الشافعي : لو كُلِّفت شراء بصلة من السوق ما استطعت أن أعي مسألة من مسائل العلم.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه).

وكان الإمام أحمد يرهن نعله، ولم يشتر نعله بخمسة وسبعين جنيهاً، أو أكثر، إنما هي نعل استمر في استخدامها ست عشرة سنة كما قال ابن الجوزي ورهنها يتقوت بها.

قال الحميدي : ما دمت بالحجاز وأحمد بالعراق وابن راهويه بخراسان لا يغلبنا أحد، يعني: لا يغلبنا أحد من المبتدعة، كانت مجالس أحمدمجالس الآخرة.

قال أبو عمير بن النحاس الرملي عن الإمام أحمد رحمه الله: ما كان أخبره بالدنيا، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عُرضت له الدنيا فأباها والبدع فنفاها.

قال علي بن المديني : أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحدث إلا من كتاب، وأنظر إلى أدب الكبار مع الكبار.

وهذا الإمام البخاري يقول: أشتهي أن أدخل بغداد فيحدثني علي بن المديني وأحدثه، وقال: ما استصغرت نفسي بين يدي عالم قط إلا بين يديعلي بن المديني ، وعلي بن المديني هذا يقول عن الإمام أحمد : أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحدِّث إلا من كتاب.

 زهد الإمام أحمد بن حنبل وقيامه الليل

قال الإمام أحمد لبعض أصحابه لما ذكر الدنيا: قليلها يجزئ وكثيرها لا يجزئ.

وذكر الإمام أحمد الفقر فقال: مع الفقر الخير، وكان الإمام أحمد يؤثره على الدنيا.

ولو لم يكن للفقر إلا أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام يستريحون من تعب يوم القيامة، والله عز وجل يختار لنبيه دائماً الأكمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) (من أصبح منكم آمناً في سربه) أي: مطمئناً على أولاده وعلى نفسه (معافى في بدنه) أي: عنده صحة، (عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).

وهذا رجل غني جداً كان يقول لهم: وددت لو أتخذ كل ملكي وآكل الأكلة التي أنتم تأكلونها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً).

كان يمر الهلال، والهلال، والهلال ولا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، وكان يعيش على الأسودين: التمر والماء.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوى من شدة الجوع وما يجد من الدقل ورديء التمر إلا ما يسد به جوفه، وما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً قط من يوم أن بعثه الله، ولا رأى شاة سمينة قط.

وسيدنا يوسف عليه السلام ما كان يشبع وهو على خزائن مصر، يقول: أخاف أن أشبع وأنسى الجياع.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو لبست فأفنيت، أو أكلت فأبليت).

قال صالح : ربما رأيت أبي يأخذ الكسر ( كسر الخبز ) ينفض الغبار عنها، ويصيرها في قصعة ويصب عليها ماء ثم يأكلها بالملح، وما رأيته اشترى رماناً ولا سفرجلاً ولا شيئاً من الفاكهة إلا أن تكون بطيخة فيأكلها بخبز وعنب وتمر.

قال صالح : قال لي أبي: كانت والدتك تغزل غزلاً دقيقاً فنبيع الأستار بدرهم أو أقل أو أكثر فكان ذلك قوتنا.

قال: وكنا إذا اشترينا الشيء نستره عن أبي كي لا يراه فيوبخنا، وكان ربما خُبز له فيجعله في فخارة مع عدس وشحم، وقليل من التمر فيجيء الصبيان فيصوت بعضهم فيدفعه إليهم.

فالإمام أحمد يعطيهم الفخارة وفيها قليل من التمر فيضحكون منه ولا يأكلون، وكان يأتدم بالخل كثيراً، وكانت له قلنسوة خاطها بيده فيها خط، فإذا قام من الليل لبسها، وكنا نسمعه كثيراً يقول: اللهم سلم.. اللهم سلم، أتى إليه رجل وعليه فرو خلق وخريقة على رأسه، وهذا الرجل حاف في برد شديد فسلم عليه وقال: يا أبا عبد الله ! قد جئت إليك من موضع بعيد ما أردت إلا السلام عليك، وأريد عبادين، وأريد إن أنا رجعت أسلم عليك، فقال: إن قدر، فقام الرجل وسلم وأبو عبد الله قاعد، فما رأيت أحداً قام من عند أبي عبد الله حتى يقوم أبو عبد الله له إلا هذا الرجل.

فقال لي أبو عبد الله : ما أشبهه بالأبدال، أو قال: إني لأذكر به الأبدال، وأخرج إليه الإمام أحمد أربعة أرغفة وقال: لو كان عندنا شيء لواسيناك.

وقال المروزي: قلت لـأبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك.

قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً بأي شيء.

وقلت: قدم رجل من طرسوس فقال: إنا كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء لـأبي عبد الله ، وكنا نمد المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله ، ولقد رمي عنه بحجر والعلج متترس بدرقة، فلما رموه بالحجر ودعوا باسم أبي عبد الله فذهب الحجر برأس هذا الفارس، فتغير وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً ومكراً. هذا خوف الكبار على أنفسهم.

وقال المروزي: رأيت طبيباً نصرانياً خرج من عند أحمد ومعه راهب فقال: إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله .

وقال علي بن أبي فزاره جارنا: كانت أمي مقعدة -أي: مصابة بالشلل- من نحو عشرين سنة، فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو لي.

فأتيت إلى الإمام فدققت عليه في دهليزه، فقال: من هذا؟

قلت: رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء لها، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب وقال: نحن أحوج أن تدعو هي لنا، ثم قال: فوليت منصرفاً وأنا حزين، فخرجت عجوز وقالت: قد تركته يدعو لها.

فقال: فدققت الباب، فخرجت أمي على رجليها تمشي.

قال عبد الله بن الإمام أحمد : كان أبي في كل يوم وليلة يصلي ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته، فكان يصلي كل يوم مائة وخمسين ركعة، وهنا يستفاد شيء فقهي أن صلاة الليل من النفل المطلق؛ وأفضل الصلاة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ما زاد عن إحدى عشرة ركعة، أو عن ثلاث عشرة ركعة، ولكن هذا الحديث لا يدل على المنع من أن تزيد على الثلاث عشرة ركعة أو إحدى عشرة ركعة، وليس في الزيادة ابتداع لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر ركعة كما يقولتميم الداري: كنا نقرأ بالمئين، وكنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا عند طلوع الفجر خشية أن يفوتنا الفلاح (السحور).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن تكثير الركعات كانت عوضاً عن طول القيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ركوعه نحواً من قراءة خمسين آية، وسجوده نحواً من ذلك، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قدامة والإمام النووي وابن عبد البر وجماهير علماء المسلمين، والشيخابن باز والشيخ ابن عثيمين ، فالمراد: صلاة معظم الليل والله أعلم.

 تبرك الإمام أحمد بآثار النبي صلى الله عليه وسلم

قال عبد الله بن أحمد :كان أبي يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه يقبِّلها، وربما وضعها على عينه، وربما غمسها في الماء وشربه يستشفي به؛ وهذا خاص بآثار النبي صلى الله عليه وسلم.

قال عبد الله بن الإمام أحمد : ورأيت أبي أخذ قصعة النبي صلى الله عليه وسلم فغسلها في زير الماء ثم شرب فيها.

قال الإمام الذهبي : قلت: أين المتنطع المنكر على أحمد ؟ وقد ثبت أن عبد الله بن الإمام أحمد سأل أباه عن لمس رمانة منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أرى بذلك بأساً -أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع-

 بعد الإمام أحمد عن الولاة وعطاياهم

ذكر أن الإمام أحمد أتت عليه ثلاثة أيام ما طعم فيها شيئاً، فبعث إلى صديق له يلتمس منه دقيقاً، فجهّزوه للإمام أحمد بسرعة وعملوا له عشاءً كي يأكل سريعاً، فقال: كيف ذلك؟ فقالوا: تنور صالح مسجر، فقال: ارفعوا. ولم يأكل؛ وذلك لأن ابنه صالح كان يقبل هدايا وأعطيات الخليفة، ثم قام فأمر بشد باب بينه وبين صالح لكونه كان يأخذ جائزة المتوكل.

هذا هو الإمام أحمد ! كان أبعد الناس عن مجلس السلاطين، يقول سعيد بن المسيب : إذا رأيتم العالم يرتاد أبواب الأمراء فاشهدوا أنه لص.

 قراءة الإمام أحمد للقرآن وصبره على مرضه

قال عبد الله بن الإمام أحمد : كان أبي يقرأ كل يوم سبعاً من القرآن، يختمه كل أسبوع مرة.

وكان الإمام أحمد يخرج لطلب الحديث وهو غلام صغير قبل صلاة الفجر، فكانت أمه تستحلفه بالله أن يمكث في البيت حتى يؤذن المؤذن لصلاة الفجر ثم يخرج لطلب الحديث.

وكان الإمام أحمد يحيي الليل وهو غلام، بات معه رجل من علماء الحديث فأعد له وضوءه من الليل، فلما أصبح أتى فوجد الماء على حاله فقال: طالب علم لا يكون له ورد من الليل! قال: إني على سفر فقال: حج مسروقفما مات إلا ساجداً، يعني ما أتى عليه الليل إلا وهو ساجد متنفل وهو في سفره للحج.

قال صالح : كان أبي إذا دعاه رجل يقول: ليس يحرز الرجل المؤمن إلا حفرته.

الأعمال بخواتيمها، ثم لما كان في مرض الموت قال: أخرج لي كتاب عبد الله بن إدريس وقال: اقرأ عليّ حديث ليث : إن طاوساً كان يكره الأنين في المرض قال: فما سمعت لأبي أنيناً حتى مات.

ودخلت عليه امرأة وهي مخة بنت الحارث الحافي فقالت: يا إمام! أنين المريض شكوى؟

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

فقال: والله ما سئلت عن مثل هذا السؤال من قبل، ثم قال لها: نرجو أن لا يكون كذلك، وما علم الإمام أحمد بهذه المسألة إلا في مرض الموت فما أنَّ حتى مات.

ثم قالت له: إنا نغزل غزلنا على ضوء مصباح الشارع فإذا مر قوم من الظاهرية -وكانوا ظلمة- ربما غزلنا بعض الغزل على ضوء مصباحهم، فهل نبيّنه للناس؟

فقال: بينيه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

ثم قال الإمام لابنه عبد الله : اتبعها يا بني! فانظر أي البيوت تدخل، فقال: دخلت في بيت بشر ، قال: من بيتهم خرج الورع.

وكان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة من مسائل الزهد والورع قال: تسألونني عن الزهد وفيكم بشر ، مثل هذه لا تخرج إلا من بيت بشر .

 

خوف الإمام أحمد من الله

كان الإمام أحمد إذا ذكر الموت خنقته العبرة، وكان يقول: الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت هان عليّ كل أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنما هي أيام قلائل، ما أعدل بالفقر شيئاً، لو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر.

قال الإمام أحمد : أريد أن أكون في شعب من شعاب مكة حتى لا أعرف، لقد بليت بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحاً ومساءً.

يقول ذلك من خوفه من الشهرة.

قال المروزي: ذكر لـأحمد أن رجلاً يريد لقاءه، فقال: أليس قد كره بعضهم اللقاء يتزين لي وأتزين له.

التقى سفيان الثوري بـالفضيل بن عياض فتذاكرا فرقاً فدمعت أعينهما، فقال الإمام سفيان الثوري : إني لأرجو أن يكون مجلسنا هذا خير مجلس جلسناه علينا بركة، قال: ترجو هذا؟ إني أخاف أن يكون أشأم مجلس جلسناه علينا شؤماً.

فقال سفيان للفضيل : لم؟

قال: ألست عمدت إلى أحسن ما عندك من الكلام فأخرجته لي، وعمدت أنا إلى أحسن ما عندي من الكلام فأخرجته لك فتزينت لي وتزينت لك، فراءيتني وراءيتك، فعبدتني وعبدتك!

فبكى سفيان وقبّل رأس الفضيل بن عياض وقال: أحياك الله كما أحييتني.

قال الإمام أحمد : ليتنا نترك الطريق ما كان عليه بشر بن الحارث الحافي.

فقلت له: إن فلاناً يقول: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها، بل زهد في الناس.

فأنت تجد الرجل يملك مليون جنيه، يريد أن يدخل انتخابات الشعب ومجلس الشورى، وهو يعلم أنه لا أحد يعلم، وأنه ساقط ساقط، فينفق منها ربع مليون جنيه.

إذاً: الرجل يبذل المال من أجل الشهرة، فالزهد في المال شيء بسيط جداً، وإن كانت الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة وأنت تركتها كلها فإن الزهد قصر الأمل، والزهد الزهد في النفس؛ فلما قيل للإمام أحمد أنت لم تزهد في الدراهم وحدها، بل زهدت في الناس، قال: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيَّ.

هذا هو الإمام أحمد ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 


Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

Trending Articles