قصة قناة السويس هى من أعقد القصص القانونية فى تاريخ مصر وقد نتج عن إنشائها فرع كامل من فروع القانون الدولى يبحث فى حقوق الملاحة للدول ومراعاة حقوق السيادة للدولة صاحبة الممر الملاحى. فالقناة واقعة بالكامل على أرض مصر من الشرق ومن الغرب. والبحر الإقليمى الذى يحيط بمدخليها هو بحر مصر الإقليمى شمالا وجنوبا.
والمؤكد أن فكرة القناة التى تصل بين البحرين الأحمر والمتوسط هى فكرة قديمة جدا تعود إلى ما قبل الإحتلال العثمانى لمصر عام 1517 حيث أنه من الثابت أن مجلس تجار فينيسيا الإيطالية قد بحث الأمر وعقد العزم بالفعل على الدخول فى مفاوضة مع مصر من أجل التصريح بشق هذه القناة لأن الإيطاليين كانوا أكبر المستفيدين من موقع مصر المتفرد على البحرين الأبيض والأحمر. ولكن الغزوة العثمانية لمصر أنهت تلك المحاولات الأولى.
وفى أثناء حكم العثمانيين لمصر تبنى السلطان مصطفى المشروع لبعض الوقت ولكن وفاته على ما يروى جعلت الفكرة تذوى من جديد.
وبعد ذلك أثناء الحملة الفرنسية يروى أن نابليون بونابرته قد سافر بنفسه لمعاينة موقع المشروع بالقرب من برزخ السويس ولكن لسوء الحظ كان البحر الأحمر يومها هائجا ثائرا مما عضد من الإنطباع السائد وقتها بأن البحر الأحمر يقع منسوبه أعلى من البحر المتوسط بحوالى 9 متر وهو بالطبع خطأ مساحى هندسى. وفيما بعد قام عدة مساحين بإجراء عملية القياس من جديد واستقروا فى النهاية على أن البحرين متساويان تقريبا فى الإرتفاع.
والقناة التى نعرفها اليوم أنشئت باتفاق تجارى (عقد إمتياز) بين الفرنسى فرديناند ديليسبس والخديو محمد سعيد. والخديو محمد سعيد لم يكن حريصا ولا حتى حاذقا لدى إبرامه هذه الإتفاقية. إذ عندما صدر عنه إمتياز قناة السويس عام 1854 سمح هذا العقد للشركة بأن تلتزم الحكومة المصرية بتقديم 80% من العمالة اللازمة للتنفيذ. ولم يكن الأمر مبنيا على السخرة كما أشيع بعد ذلك ولكنه كان مبنيا على الإجبار مع دفع أجر يقال أنه يزيد على سعر السوق السائد فى ذلك الزمان. وهذا الشرط وحده كفيل بمراجعة الإتفاق من أساسه حيث أن الشركة هى مؤسسة تجارية تسعى للربح وعليها أن تبذل العناية الواجبة وعلى نفقتها وبطريقتها الخاصة لتدبير اليد العاملة للمشروع. ونص الإمتياز على صرف المواد الغذائية للعاملين فى المشروع مجانا على نفقة الشركة وكذلك خدمات العلاج التى تقدم للمرضى منهم.
كذلك أعطى صك الإمتياز للشركة حق معاقبة من لا يؤدى عمله من العمال بطريقة ترضى الشركة بالخصم المالى فقط ومنع أى عقوبة أخرى كالعقوبات البدنية. وبهذا النص وضعت الحكومة المصرية العمال فى وضع أفضل كثيرا من الوضع الذى كان عليه العمال المصريون العاملون تحت الإشراف البريطانى أثناء مد خطوط السكك الحديدية من الأسكندرية إلى القاهرة والسويس حيث يروى أن عشرة آلاف مصرى من الفلاحين المسخرين قد هلكوا فى يوم واحد فقط بسبب الجوع فى الصحراء. ويبدو أن هذا الخلط بين المشروعين هو ما إستقر فى وجدان الفلاحين المصريين وفى التراث الشعبى عن المشروع إذ أن أحدا لا يتذكر اليوم المهالك التى صاحبت خط السكة الحديد بينما يعتقد كثيرون أن تلك المهالك مرتبطة بمشروع حفر القناة. وأغلب الظن لو صحت الروايات هو أن الفلاحين لم يكنوا يعرفون فى أى مشروع هم يبذلون الجهد والكد وذلك بسبب الجهل السائد فى ذلك الزمان.
ونص صك الإمتياز الذى سلم إلى ديليسبس شخصيا فى إحتفال أقيم بالقلعة – مقر الخديو - بمدينة القاهرة فى يوم 18 نوفمبر عام 1854 على أن تنشأ ترعة مياه عذبة على طول المسافة التى كانت تقطعها القناة القديمة من وادى النيل إلى السويس وعلى أن تكون الأراضى العامة الغير مملوكة ملكية خاصة والمتاخمة لهذه الترعة على الجانبين ملكا للشركة تحصل عليها بدون مقابل لتستزرعها لصالحها!! وهو شرط أيضا غريب فى بابه.
وقد نص الإمتياز أيضا على أن تحصل مصر على 15% من صافى الربح الذى تدره القناة بينما يحصل حملة الأسهم على 75% ويحصل مؤسسو الشركة (ديليسبس ومن بدأوا معه المشروع ) على 10% من تلك الأرباح الصافية. أى أنهم يحصلون على ثلثى ما تحصل عليه الدولة المصرية.
ونص المرسوم أيضا على أن تكون رسوم العبور التى تحددها الشركة مع الحكومة المصرية متساوية لجميع السفن بغض النظر عن جنسيتها. وكذلك حدد مرسوم الإمتياز مدة 99 عاما منذ يوم إفتتاح القناة للملاحة لكى تصبح بعد ذلك ملكا للدولة المصرية حيث تؤول كل ممتلكات الشركة إلى مصر لقاء دفع تعويض عما تتركه الشركة للمصريين من معدات وأصول يحدد بطريقة ودية بين الطرفين أو بناء على إجراءات تحكيم يجرى فى حينه.
ومضى المرسوم بعد ذلك فى تحديد الضرائب التى ستفرض على المشروع ثم انتهى بعبارات مثل نحن خديو مصر نتعهد بأن نتعاون بإخلاص ومعنا كل موظفى الدولة فى مصر مع الجهود المبذولة من جانب السيد/ ديليسبس والشركة التى ينوى إنشاءها من أجل إنفاذ واستغلال مشروعه وذلك بكل ما فى وسعنا.
ولابد من القول أن دليسبس كان رجلا داهية يعرف ماذا يفعل حيث أنه هو من قام بإقناع السلطان العثمانى فى القسطنطينية بجدوى مشروعه بعد أن مثل أمامه وقدم له المشروع الذى كانت إنجلترا أهم حلفاء السلطان تقف منه موقفا سلبيا لأن مصر لم تكن قد إحتلت بعد بالجنود البريطانيين. وانجلترا لم تكن مرحبة بقناة تتحكم فى طرق الملاحة البحرية ولا تخضع لسيطرتها المباشرة حيث أنها تعودت على التحكم فى الطرق الملاحية كقوة بحرية عظمى كان كل من باب المندب ومضيق جبل طارق من بين ما يخضع لسيطرتها. وإقناع السلطان العثمانى بالمشروع كان أمرا حيويا لتنفيذه حيث أن مصر كانت تابعة قانونيا للدولة العثمانية وتعد جزءا من ممتلكاتها وقد أعيد تأكيد ذلك فى معاهدة لندن التى ثبتت حكم محمد على فى مصر وجعلت السلطة وراثية فى عائلته بعد مماته ولكنه كان يحمل لقب نائب الملك Vice Roy أى أنه ينبغى عليه وعلى خلفائه العودة للباب العالى فى مثل هذه الأمور الهامة التى تمس أراضى الإمبراطورية العثمانية، وكان هذا هو نفس المركز القانونى للخديو محمد سعيد فكان لزاما عليه الحصول على موافقة السلطان، وهى المهمة التى قام بها فرديناند دليسبس بنجاح.
ولم تشارك القوى الأخرى إنجلترا فى موقفها السلبى هذا. ففرنسا كانت فى صف المشروع بالطبع حيث أن الشركة كانت مسجلة فى فرنسا وصاحب الفكرة فرنسى. والنمسا التى كانت إمبراطورية لها ميناء تريست على البحر المتوسط كانت تمنى نفسها برواج كبير ناتج عن تسهيل الحركة التجارية البحرية بين شرق العالم وغربه وكانت تشجع المشروع بل أن مساحين نمساويين كانوا من ضمن من أثبت تساوى منسوب كل من البحرين ودحض فكرة إرتفاع مستوى البحر الأحمر. وإيطاليا لم تكن أيضا قد وجدت كدولة موحدة بعد ولكن النشاط التجارى البحرى الإيطالى نشاط قديم وقد كان تجار فينيسيا يحلمون بهذا المشروع قبل ذلك بأكثر من 400 عام. أما ألمانيا التى لم تكن أيضا قد وجدت كدولة موحدة بعد فقد كانت الدول البحرية فيها فى صف الفكرة التى تقرب المسافات وتسهل التجارة بين الشرق والغرب، حتى أن فرديناند ديليسبس ارسل فى عام 1858 خطابا طويلا لرئيس تحرير إحدى الصحف فى مدينة كولن يشكره فيه على موقف الصحافة الألمانية "الإيجابى والحضارى من المشروع، خلافا لمواقف آخرين".