وكان دليسبس قد قام بزيارة إنجلترا عام 1855 عقب نجاحه لدى الباب العالى لكى يحاول إقناع حكومتها بتقليل معارضتها لمشروعه وقابل اللورد بالمرستون رئيس الوزراء الجديد والدبلوماسى السابق الذى كان هو المحرك الرئيسى لانجلترا فى مؤتمر لندن عام 1840 الذى قلم أظافر محمد على وقلص نفوذه بأن ألب الدول الأوروبية عليه حفاظا على كيان الدولة التى أسماها قيصر روسيا "الرجل المريض على البوسفور"، حيث أن إرث الإمبراطورية العثمانية المترهلة كان يمثل حلبة صراع بين الدول الأوروبية وهو ما كان يطلق عليه المسألة الشرقية. وبالمرستون هذا لم يكن سياسيا بارعا بل كان عدائيا ومحتد المزاج ويتدخل فى كل ركن من أركان العالم حتى أن الصحافة أطلقت عليه Lord Firebrand أى أنه كان عامل إزعاج لمن تعاملوا معه. وفى لقاء دليسبس مع رئيس الوزراء عبر الأخير عن قلقه من عدم الصلاحية الفنية للمشروع !!! وكأن هذا هو من شواغل رؤساء الوزارات !!!
ولكن دليسبس الداهية رد على مناورة رئيس الوزراء الإنجليزى ففاقت براعة الأول ذكاء الثانى بمراحل حيث أنه دعا إلى تشكيل لجنة فنية على أعلى مستوى من الخبراء الأوروبيين من كافة الدول، النمسا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا وهولندا لكى تجتمع فى باريس ثم تشد الرحال إلى مصر لمعاينة المشروع على الطبيعة. والطرف الوحيد الذى غاب عن هذه اللجنة هى الولايات المتحدة الأمريكية التى لم تكن قوة عالمية فى ذلك الزمان.
وصلت لجنة المهندسين فى نوفمبر عام 1855 إلى مصر وكان عدد أعضائها 11 من كل الجنسيات بالإضافة إلى دليسبس ورينان بك وموجول بك من الحكومة المصرية (وهما بالطبع ليسا من المصريين) وقد لقيها الخديو محمد سعيد بحفاوة بالغة وعاملهم كما يروى فى الكتب التى تحدثت عن تلك الحقبة معاملة الملوك من حاملى التاج حيث أنهم يحملون على رؤوسهم تاج العلم!! وقد ذكر بعد ذلك أن إقامتهم فى مصر كلفت الدولة المصرية 300 ألف فرنك فرنسى دفعها الخديو رغم أن هذا يعد من صميم عمل الشركة التجارية التى أسسها دليسبس وليست مسئولية مانح الإمتياز. وقد بدأت اللجنة الفنية الهندسية عملها فى مصر برحلة نيلية كانت بالغة الرخاء حتى يستكشفوا البلد ويتعرفوا على النيل !! وأوصت بعد ذلك بالبدء أولا فى شق ترعة المياه الحلوة حتى يمكن من خلالها إمداد موقع العمل فى الصحراء بالماء والغذاء اللازمين للعمال. وفى بداية يناير 1856 قدمت لجنة المهندسين الدولية تقريرها للخديو محمد سعيد وفيه ذكرت أن التكلفة النهائية للمشروع لن تتعدى 200 مليون فرنك فرنسى وأن المشروع مجز وله جدوى إقتصادية حيث أنه يربط بين الشرق والغرب وأن الصعوبات التى تكتنف العمل فى ميناءى السويس وبورسعيد (الميناء المستحدث) هى صعوبات تنفيذية عادية ولا تشكل قلقا هندسيا.. وكلها كما نرى معلومات عادية لا قيمة لها يستطيع أى مهندس متوسط الخبرة أن يدلى بها بأتعاب أقل كثيرا جدا من عشر ما تكبده الخديو من تكاليف.
وهكذا فى نوفمبر عام 1857 بدأ الإكتتاب فى أسهم شركة قناة السويس وكان سعر السهم 500 فرنك وبلغ عدد الأسهم المطروحة للبيع 400 الف سهم وبذلك يكون رأس مال الشركة هو نفسه مبلغ 200 مليون فرنك التى قدرت اللجنة الهندسية أنه يكفى لإنجاز المشروع. وقد تم بيع حوالى 207 ألف سهم بمجرد الطرح فى ذلك اليوم. وكان أن بدأ الحفر من شمال القناة عند بورسعيد فى أبريل 1858 حتى وصل إلى بحيرة التمساح فى نوفمبر 1862.
ولكن فى تلك الأثناء وقعت مشكلة وخلاف قانونى تسبب عنهما توقف العمل لبعض الوقت وكلفا مصر كثيرا من المال بسبب سوء صياغة عقد الإلتزام (الإمتياز) الذى منحه الخديو محمد سعيد.
كانت إنجلترا غير مستريحة بالمرة إلى فكرة مضيق مائى يسيطر على حركة التجارة والاساطيل العسكرية ولا يكون واقعا فى نطاق سيطرتها. (هذا الموقف تكرر مرة أخرى قبيل الحرب العالمية الأولى حينما مول البنك الألمانى دويتشه بنك مشروع سكك حديد الحجاز وهو ما كان سيربط بين مكة والمدينة وإسطنبول مرورا بدمشق مع تفريعة إلى بغداد. وبذلك تكتمل شبكة مواصلات أرضية على مساحة هائلة لو أنها إتصلت أيضا بالسكة الحديدية الموجودة فى مصر لاتصل العراق بمصر مباشرة عبورا بسوريا وفلسطين ووصولا إلى إستنبول. وهذا ما كان يخيف إنجلترا فسعت أثناء مرحلة البناء إلى أن يبنى هذا الخط فى فلسطين قريبا جدا من الساحل حتى يمكن لمدافع الأسطول البريطانى فى حال الحرب أن تدمره من البحر لتمنع حركة الجيوش التركية). وكانت عملية الدس على السلطان فى إستنبول لا تتوقف. وكان القنصل الإنجليزى يقضى أمسيته فى محاولة إقناع الأتراك ألا يصرحوا بهذا الإمتياز بينما كان القنصل الفرنسى يقضى الأمسية التالية فى محاولة محو أثر ما أوعز به قنصل إنجلترا. وقد ظهر التردد التركى بقوة فى حقيقة أن الديوان (مجلس الوزراء) قد عقد 17 جلسة كاملة خصصت جميعها فقط لبحث موضوع القناة والإمتياز حتى وافق فى النهاية وأعطى دليسبس موافقة السلطان.
ولكن الصحافة البريطانية على قدر ما كانت تبتعد عن أن تمالىء الحكومة البريطانية فى موقفها العدائى للمشروع، إلا أنها كانت تهاجم طريقة التشغيل الإجبارية للفلاحين المصريين الذين كان تشغيلهم يتم بقوة الدولة المصرية حسب مقتضى عقد الإمتياز الذى أشرت إليه سالفا. وبذلك فإن الخديو إسماعيل عندما إعتلى أريكة مصر عقب وفاة الخديو محمد سعيد كان مضطرا إلى إيقاف المشروع بسبب الهجوم الشديد عليه من جانب إنجلترا التى كانت تعبر عن سخطها مما أطلقت عليه السخرة، متناسية ما وقع للفلاحين المصريين أثناء بناء خط السكة الحديد من هلاك تحت إدارتها المباشرة.
وعند هذه النقطة لابد من الوقوف أمام عقد الإمتياز.
فالعقد لم يتضمن أى شرط للتحكيم فى حال الخلاف. وكل ما ذكر عن التحكيم هو أنه فى حالة عدم الإتفاق الودى بين الطرفين عند إنتقال الملكية من الشركة للدولة المصرية بعد نهاية مدة الإمتياز (99 عاما) يلجأ الطرفان للتحكيم.
أما خلافات الطرفين أثناء تنفيذ العقد فلم يرد بشأنها نص. ومن الواضح أن العقد لم يحدد المحكمة المختصة بنظر الخلافات الناشئة عن العقد. وكان الأجدر بالخديو أن يحدد فى العقد المحكمة المختصة بنظر الخلافات حول تنفيذه. ولو أن الرد على ذلك جاء بأن مصر لم يكن فيها فى ذلك الوقت محاكم تستطيع نظر هذه القضايا كان من الممكن إشتراط إختصاص محاكم تركيا مثلا بالفصل فى النزاعات التى قد تنشأ حول تنفيذ العقد. ولكن التساهل فى الحقوق كان فى تلك الفترة شديدا وكان مبناه الجهل وعدم الخبرة بالإضافة إلى الإنبهار بكل ما هو أجنبى. أضف إلى ذلك أن الرعايا الأجانب كانت لهم مميزات وامتيازات على كامل أرض الإمبراطورية العثمانية ومن ضمنها بالطبع مصر.