وهنا لابد للمرء أن يلاحظ الفرق الثقافى بين الولايات المتحدة ومصر. فالتحكيم الذى جرى بشأن قناة السويس كان سابقا على تحكيم آلاباما الذى جرى بين الولايات المتحدة وبريطانيا عقب الحرب الأهلية الأمريكية بحوالى سبع سنوات. ولكن الأمريكيين اصروا قبل الموافقة على مبدأ التحكيم على أن توضع قواعد ثابتة ومتفق عليها يجرى التحكيم على أساس منها، أى ما نطلق عليه اليوم مشارطة التحكيم. وهو ما أغفلته مصر بطبيعة الحال.
ثانيا كانت هيئة التحكيم التى أجرت تحكيم ألاباما الشهير مختلطة من جنسيات لا تنتمى إلى طرفى النزاع بينما عهد الخديو إسماعيل بمهمة التحكيم إلى "صديقه"نابليون ملك فرنسا لكى يفصل فى نزاع بين الخديو وشركة فرنسية!! وهذه الشركة الفرنسية تنفذ مشروعا تتأمل فيه فرنسا زيادة كبيرة فى نفوذها فى العالم. وهكذا جرى تحكيم بلا قواعد ولا مشارطة مسبقة بل ولا حتى إتفاق عقدى على إجرائه وبلا فريق مصرى يقوم بمهمة الدفاع عن مصلحة الدولة المصرية. (تكرر هذا الموقف العاجز من جانب مصر عدة مرات فى عصرنا هذا حيث تبرم إحدى هيئات الدولة عقدا مع جهة أجنبية ثم تكتشف هيئة مصرية أخرى أنها لا توافق على مثل هذا الإتفاق فتفسخه حكومة مصر وتكون قد إتفقت على تحكيم دولى تأتى نتيجته فى غير صالح مصر). وهذه الظاهرة لا استطيع أن أفسرها فى عصرنا هذا إلا من خلال منظور التعالى الساذج. فالمسئول المصرى يتعالى على قضاء بلاده ويرفض الخضوع لولايته ويشعر بأنه مميز عن أقرانه بسبب أنه قد إتفق على "تحكيم دولى"وهو غير عارف لما يخفيه هذا النص من مفاجآت سيئة لصاحبنا المتعالى. وهنا يظهر فرق مستوى خبرة أجهزة الدولة بين الأمم. وقد تكررت مواقف عديدة فى العصر الحالى ظهر فيها عجز مستودع الخبرة الحكومى فى دول مثل إيطاليا واليونان عن فهم طبيعة الإلتزامات التى يقيد بها هؤلاء الخبراء حكومة بلادهم ولا تأتى نتائج هذا العجز المعرفى إلا بعد فوات الأوان. بينما دول أخرى مثل إنجلترا كان فهم المشرع فيها سريعا فأصدر قانونا يمنع المحليات من الإقتراض المباشر من البنوك الإستثمارية التى كانت سبب الأزمة فى اليونان وإيطاليا.
والآن نعود إلى موضوعنا الأصلى وقناة السويس.
على أثر الضغط البريطانى الشديد على الباب العالى وعلى أثر الحملة المنظمة التى شنتها الصحافة البريطانية - ليس على المشروع فى ذاته وإنما على "السخرة"التى رأوها متمثلة فى إجبار العمال على البذل الجهد فى المشروع لقاء أجر، أصدر الباب العالى 3 قرارات كانت حاسمة فى مسار المشرع
1. إعتبارا من تاريخ صدور القرارات لا تمد الحكومة المصرية الشركة إلا بستة آلاف عامل بدلا من 20 ألف.
2. رفع أجر العامل اليومى لكى يصل إلى 2 فرنك و16 سنت وهو أجر يزيد عن ضعف الأجر الذى يدفع فى كل مصر.
3. إلغاء البند فى الإلتزام الذى يتيح للشركة الحصول على الاراضى الواقعة على جانبى الترعة وإعادة هذه الاراضى للدولة المصرية.
وبالطبع فإن الدولة المصرية التى يقف على راسها الخديو لم يكن لها إلا أن تصدع بأمر الباب العالى الذى يمثل السلطة العليا فى البلاد فأعلنت مصر (فى عهد الخديو إسماعيل الذى بدأ عام 1863) عن تنفيذ قرارات الباب العالى. وقد كان فى تلك القرارات هلاك الشركة حيث أن التكاليف قد زادت عليها بينما كان المشروع فى منتصف الطريق بالإضافة إلى أن المساهمين كانوا قد حصلوا على وعد بالإفتتاح والبدء فى جنى ثمرات إستثمارهم فى مشروع كان ينظر إليه وقت الإكتتاب – أيضا بفعل التأثير البريطانى – على أنه مثيل لنوعية مشاريع غزو الفضاء فى عصرنا هذا بسبب شائعة فرق المنسوب بين البحرين. وكانت الشركة تعانى من ضائقة مالية لا تستطيع بسببها أو تبنى بوابات من الحديد (يبدو أن المقصود هو أهوسة حيث أنها لم تكن تصنع فى مصر بعد) فجاءت الضربة الإدارية من الباب العالى شبه قاصمة لنشاط الشركة. وبالطبع هللت الصحافة البريطانية "للنصر الذى أحرزته الإنسانية فى حربها على السخرة والإستعباد"!!
ونفس هذه الصحافة البريطانية التى زفت للناس بشرى النصر على السخرة لم تنبس بكلمة فى شأن السخرة الأخرى التى مارستها الدولة البريطانية بصفتها دولة الإحتلال فى كل مكان من الهند إلى أفريقيا إلى مصر كما أنها لم تخرج بكلمة واحدة حول ضلوع الأسطول البريطانى فى تهريب الافيون من البنجال إلى الصين والتسبب فى إدمان 15 مليون إنسان لهذا السم المخدر. ولكن هذه قصص ليس هنا محلها.
وهكذا بدا الموقف مخيفا للشركة ومهددا لبقائها نفسه.
وفى هذه الظروف العصيبة للشركة وقع التحكيم الذى لم يكن متفقا لا على بنوده ولا على إجراءاته ولا على نفاذ قراره ولا على أى شىء بشأنه. وهنا كان الدور التاريخى الذى لعبه نابليون الثالث ملك فرنسا الذى ركن إليه الخديو إسماعيل لكى يحكم بين طرفين أحدهما شركة تابعة لفرنسا.
كان نابليون الثالث ملك فرنسا رجلا قد درس العلوم العسكرية وتخصص فى المدفعية وكان حاكما أتوقراطيا لا يشاور وزرائه وكان معتدا بنفسه إلى درجة الغرور بالإضافة إلى إيمانه – مثل جميع من حكموا فرنسا – بالدور الكونى "للأمة العظيمة" la Grande Nation التى تنشر الحضارة والعلم والتنوير فى ربوع العالم. وهو الملك الفرنسى الذى هزم على يد الألمان فى موقعة سيدان الرهيبة عام 1870 وكان هو شخصيا على أرض المعركة وقد قام بتسليم سيفه للقائد الالمانى فون مولتكه قائلا: "هذا هو سيفى أسلمه لكم دليلا على إستسلامى أما الجيش فلا أعلم عنه شيئا" !! وقد أيدت فرنسا الوحدة الإيطالية قبل تلك المعركة بسنوات قليلة جدا وساندت الإيطاليين فى حربهم لكى يستقلوا عن النمسا والمجر. وهذه الخطوة بالذات كانت متصلة بقناة السويس حيث أنها جرت فى ستينات القرن التاسع عشر أثناء الحفر مما جعل إنجلترا ترسل جزءا من أسطولها إلى الأسكندرية تهديدا لفرنسا التى زاد نفوذها بالفعل بإنشاء دولة إيطالية حليفة جديدة تدين بفرنسا بجميل المساعدة على تحقيق وحدتها القومية عقب مئات السنين من التشرذم. فقد رأت إنجلترا أن نفوذ فرنسا سيرتفع فى أوروبا وسيرتفع فى مجال التجارة والحركة البحرية فلعلها ارادت تخويف فرنسا بإيهامها أنها مقدمة على غزو مصر!! وهذا الفصل من تاريخ مصر لا يعرف كثيرون عنه شيئا.
المهم لدينا هو أن نابليون الثالث كان يرى بصفته رجل سياسة أن مشروع القناة هو مشروع حيوى للنفوذ والسلطة الفرنسية فى العالم حيث أن الشركة كانت متفقة مع الدولة فى مصر على أنهما يحددان سعر المرور فى القناة وهو أمر يجعل إنجلترا التى تعبر سفنها هذا الطريق باستمرار إلى الهند ومن الهند خاضعة لإرادة فرنسية تضع الرسوم بمشاركة مصر التى تعلم إنجلترا أن مستودع الخبرة بها يكاد يكون منعدما مما يودى فى النهاية إلى أن فرنسا تحدد تكاليف الرحلات الإمبراطورية البريطانية وهو ما لم تكن الدولة العظمى فى ذلك الزمان ترضى به أبدا. (شىء مشابه لتحديد سعر البترول فى عصرنا هذا وهو ما قد يدفع بالأمور إلى الحرب كما وقع فى عام 1990).
وفى ظل هذه الإعتبارات المعقدة دخلت مصر التحكيم واستأمنت الملك نابليون على إجرائه والنطق بالقرار فيه.. فماذا قرر الملك؟