قبل التعرض للحكم ينبغى القول أن المزايدة على مفهوم حقوق الإنسان فى الشرق الأوسط ربما تكون قد وجدت بدايتها الأولى فى تلك القضية. وبيان ذلك أن دليسبس كتب إلى صحيفة شمال الراين فى مدينة كولونيا بألمانيا معلقا على الحملة الصحفية البريطانية ضد السخرة قائلا "إن هذا يذكرنى بمحاكم التفتيش فى القرون الوسطى حينما كانت الكنيسة تحكم على المخالفين لها بالحرق حتى الموت تحت ذريعة أن فى ذلك تطهير لهم وغسل لأرواحهم من ذنوب إرتكبتها أجسادهم وعقولهم فى حق العقيدة المقدسة. وهو نوع من التطهير كان يتم رغم أنف صاحبه الذى ربما لم يكن يريد هذه الطريقة البشعة من التطهير". وهو هنا كان يشبه الحملة الحكومية البريطانية المتذرعة بحقوق الإنسان فى مصر بالكنيسة الكاثوليكية التى تحتكر الحقيقة ولا تسمح لغير نظرها بالوجود إلى درجة تنفيذ أحكام إعدام فى حق من يخالفونها فى النظر مع عدم الإخلال بالمن عليهم بأن ذلك فيه مصلحة لهم حيث يتم تطهير أرواحهم.
ودليسبس كان يرى فى نفسه مكانة قريبة من مرتبة المرسل السماوي الذى سوف يجلب الخير الوفير على الشعب المصرى المسكين عن طريق شق هذه القناة التى ستأتى بالعالم كله حضارة وثقافة وتعليما إلى ارض مصر لتعمرها وتجعلها من الأمم الراقية. وهو مفهوم قريب من مفهوم الأمة العظيمة صاحبة الرسالة الحضارية (فرنسا). وبريطانيا وفقا لهذا النظر الدليسبسى كانت ماضية فى طريقها للإضرار بالشعب المصرى عن طريق السعى إلى إيقاف العمل أو تعطيله، تماما كالكنيسة التى لم تكن ترى إلا وجهة نظرها ولا تأبه بالضرر الواقع على من يراد له "التطهير".
والتعبير الوحيد الذى أصاب فيه دليسبس فى كل ما كتب هو تعبير الشعب المصرى المسكين، وهو ما سوف يتأكد بقرار التحكيم، فإلى القرار.
صدر قرار التحكيم فى يوليو 1864 وقد كان يوم 6 يوليو"يوما سعيدا"فى حياة شركة قناة السويس كما يقول التعبير الغربى فى مثل هذه الحالات. لقد حكم الإمبراطور نابليون الثالث بأن تحصل الشركة على التعويضات التالية:
38 مليون فرنك تدفعها الدولة المصرية للشركة تعويضا عن المعدات التى تحتاجها الشركة لتعويض نقص العمال المصريين وكذلك عن فرص العمل التى سوف يتم شغلها من الآن فصاعدا بعمالة أجنبية بعد قرار الباب العالى بخفض عدد العمال المصريين بنسبة 70%.
30 مليون فرنك تدفعها الدولة المصرية للشركة نظير تنازل الأخيرة عن الأراضى الممتدة على مسار الترعة العذبة وإرجاعها للدولة المصرية.
6 مليون فرنك تدفعها الدولة المصرية إلى الشركة كتعويض عن ملكية الأخيرة للترعة التى تنقل المياه العذبة حيث أنها تتنازل عنها لمصر بعد أن قامت بحفرها.
10 مليون فرنك تدفعها الدولة المصرية إلى الشركة كنعويض عن النفقات التى تكبدتها الشركة فى حفر الترعة العذبة (ترعة الإسماعيلية الآن).
تقسط قيمة التعويضات المذكورة أعلاه (84 مليون فرنك) على 16 قسطا سنويا حدد حكم التحكيم قيمتها ومواعيد سدادها.
والحكم بادى الظلم والإنحياز ضد الخديو الذى لم يكن واعيا لما يفعله. فقد ضمنت الشركة هكذا قسطا سنويا صافيا من الدخل قيمته 5250000 فرنك كل عام لمدة 16 عاما هو قدر التعويضات التى حكم بها الإمبراطور "الصديق".
وفى سياق الحكم لم يفت على الإمبراطور "الصديق"أن يضيف المهانة إلى الظلم حيث أنه وصف الفلاح المصرى بأنه "كسول بطبعه .. غير مكترث ولا يبالى إن كان الأمر يتعلق بمصلحته". وهذه العبارات وحدها تجعل من هذا المحكم "الصديق"غير صالح لتولى مسئولية التحكيم حيث أنه بتضمين حكمه لها قد عبر عن فقدانه لحياد القاضى من قبل أن يبدأ التحكيم.
والآن نحاول دراسة هذا الحكم من وجهة النظر الإقتصادية والقانونية.
أولا لابد من ملاحظة أن موقف الباب العالى من هذا الأمر كان هو المتسبب فى هذا التعويض القاسى الذى نزل بالمالية المصرية. فقد أرادت الدولة العثمانية أن ترضى الحليف البريطانى الذى كان صاحب أكبر نفوذ سياسى على الدولة العثمانية، أرادت أن ترضيه فاصدرت تلك القرارات التى نتج عنها اللجوء إلى التحكيم غير عابئة بما سوف يحدث لمصر من جرائها. وقد ظل الباب العالى معتمدا على المساندة البريطانية حتى تبدل الحال وقامت دولة ألمانيا الموحدة فى عام 1871 ومع الوقت بدأت أمورها كدولة تستقر وتتحول إلى قوة كبيرة، أو هكذا توسم فيها السلطان، فبدل تحالفه وأصبحت ألمانيا هى الحليف الأكبر للباب العالي إلى درجة وضع الأسطول التركى فى الحرب العالمية الأولى وضعا مباشرا تحت قيادة الأدميرال سوشون الألمانى المتمركز فى البوسفور. أى أنه فى الحالة الماثلة قامت الدولة العثمانية بتبدية مصالحها الأوروبية وتحالفاتها على مصلحة مصر التى كانت جزءا من ممتلكاتها القانونية وإن لم تكن ممتلكات فعلية. ثم أن تركيا تركت مصر تدفع هذه التعويضات وحدها دون أى تدخل أو مساندة من الدولة العثمانية فكانت هذه التعويضات إلى جانب تكاليف أخرى مثل حرب الحبشة وتحديث مدينتى القاهرة والأسكندرية عوامل مباشرة فى التمهيد لاحتلال مصر من قبل إنجلترا عام 1882. وقد اثبتت الأيام بعد ذلك عدم مبالاة الدولة العثمانية بمصر إذ أنها لم تحرك ساكنا ضد حليفها الأكبر بريطانيا عندما قامت الأخيرة باحتلال مصر إحتلالا سافرا رغم كون الدولة العثمانية هى صاحبة الولاية القانونية على مصر. وهذا الموقف العثمانى لابد من دراسة إستمراره منذ مؤتمر لندن عام 1840 الذى قلم أظافر محمد على وحتى قبيل إندلاع الحرب العالمية الأولى. فعلى إمتداد هذه الفترة كانت إنجلترا (وفيما بعد ألمانيا) تملى على الباب العالى والأخير يسمع وينفذ دونما إعتبار لمصالح الشعوب التى يعد الباب العالى هو ممثلها القانونى.
والدليل الأكبر على ذلك هو تضمين القرارات السلطانية شأن ترعة المياه العذبة سواء من جهة ملكيتها أو من جهة تكلفة إنشاءها أو من جهة الأراضى المحيطة بها على الجهتين وكلها أمور لا تمت لموضوع السخرة بأى صلة. والصحيح هو أن إنجلترا أرادت بهذه القرارات التى أوحت بها للباب العالى أن تنهى حياة المشروع بالقضاء على الشركة قضاءا نهائيا.
والمؤكد هو أن موقع مصر الممتاز فى ذلك الزمان قبل تطور الطائرة والصاروخ لم يكن يوما نعمة على أهلها إن كانوا لا يتمتعون بالإستقلال. فمنذ سقوط مصر فى إحتلال الإغريق ثم الرومان ثم العرب ثم الترك ثم الفرنسيين والإنجليز وهى تعانى نتيجة موقعها هائل الأهمية. وهكذا وفى حالتنا الماثلة تحول موقع مصر إلى ورقة فى يد الباب العالى يستغله فى توازناته الدولية دون مراعاة مصلحة من يقطنون فى هذا البلد المسكين.
والآن نعود إلى قرار التحكيم.
وأول ما يلجأ إليه المرء عند تقييم هذا الحكم هو معرفة الموقف التنفيذى للمشروع على الأرض. كنا قد عرفنا أن مياه البحر المتوسط قد تدفقت عبر القناة ووصلت إلى بحيرة التمساح فى شهر نوفمبر عام 1862 أى قبل قرار التحكيم بحوالى 20 شهرا. وهذا يعنى فى الحقيقة أن أكثر من نصف العمل فى القناة قد تم بنجاح بالإضافة إلى إتمام ترعة الإسماعيلية بالكامل حيث أنها سبقت فى التنفيذ أعمال الحفر فى المياه المالحة. وبذلك يمكن إعتبار أن الموقف التنفيذى كان يتخطى النصف من كل أعمال المشروع (ترعة مياه عذبة وقناة مالحة تم أكثر من نصفها). ولما كان الحكم قد ألزم مصر بأن تدفع 38 مليون فرنك تعويضا عن نقص العمالة المصرية وبسبب إستبدال عمالة أجنبية وافدة بها، وباعتبار الموقف التنفيذى للمشروع يتبين للمرء أن مشروعا قدرت تكلفته الكلية بما فيها الترعة العذبة بمائتين مليون فرنك قد تقرر صرف تعويض له عن بند واحد فقط هو بند العمالة بما يعادل 38 مليون فرنك من حوالى 75 مليون فرنك حجم عمل متبقى لم يشرع فيه بعد. وهى نسبة تزيد عن النصف، وذلك فقط لتعويض بند العمالة. هذا عن بند أولا من الحكم.
أما عن الأراضى التى أعادتها الشركة إلى الدولة المصرية فمن الثابت بنص صك الإمتياز أن الشركة قد تقاضتها بدون مقابل من الدولة وذلك عقب صدور الأمر الخديوى بالإمتياز أى خلال عام 1855 والتحكيم جرى فى عام 1864 أى أنه قد مر على حيازة الشركة لهذه المساحات من الأراضى ما لا يزيد بحال من الأحوال عن 8 سنوات. ولما كانت هذه الأراضى تعتمد فى زراعتها حصريا على المياه القادمة من الترعة فيمكن القول بأن تاريخ نهو أعمال الترعة هو نفسه تاريخ البدء فى إستزراع المساحات على جانبيها. ولهذا فمن غير المستساغ أن تحصل الشركة على هذا التعويض الكبير (30 مليون فرنك) بسبب إرجاعها لأراض لم تدفع فيها أى مقابل ولم تستصلحها بأى طريقة من طرق الإصلاح المستدام وذلك لقصر المدة. وكان الأجدى بالمحكم لو أنه ليس منحازا أن يقوم بحساب المكسب الذى قد يعود على الشركة من زراعة هذه المساحات خلال مدة العقد (رغم أن الشركة هى شركة إدارة قناة بحرية وليست إستثمارا زراعيا) وتعويض الشركة بالقدر المعقول عن هذا الكسب الفائت. إلا أن قرار المحكم جاء جائرا ومنحازا ولسوء حظ الشعب المصرى المسكين الذى دفع الفاتورة وحده من الضرائب ثم من الإحتلال لم يلاحظ أحد رجال الخديو هذه المغالطات.
وثالثة الأثافى جاءت فى الحكم بتعويض الشركة بمبلغ 6 مليون فرنك من جانب الحكومة المصرية بسبب تنازلها عن "ملكية الترعة"التى قامت بشقها على نفقتها. ثم زاد المحكم الملح على الجرح بأن حكم بمبلغ 10 مليون فرنك إضافية نظير العمل الذى قامت به الشركة فى شق الترعة رغم أنها قد تقاضت 6 مليون فرنك من البند السابق نظير تنازل عن ملكية ترعة لم تكن تملكها يوما واحدا وإنما كانت فيها صاحبة إمتياز محدود بمدة زمنية. ولست أدرى كيف لم يخطر ببال الحكومة المصرية التى دفعت كل تلك التعويضات أن تطالب الشركة بشراء المياه التى تتدفق فى الترعة فى الفترة المتبقية من العقد حيث أن الحكومة قد إشترتها ملكية أرض ومياها ومجهودا. ولكنه مستودع الخبرة الذى لابد أنه إعتبر أن الماء والكلأ والنار ملك للجميع فطبق ذلك على العقود التجارية !!!
والظاهر أن نابليون الثالث كان يتوقع معارضة أو فصال من جانب المصريين حيث أن الملاحظ أنه وضع الثقل الأكبر للتعويضات فى كفة المعدات والرجوع عن توريد العمال وهى بنود لا يستطيع المصريون التنصل من تبعة قرار الباب العالى عليها بينما جعل الوزن الأخف لأمور يمكن الطعن عليها مثل ملكية ترعة غير مملوكة أو مكسب أرض زراعية غير مضمون.. وعلى كل حال فقد كان المصريون كعادتهم طيبين ولم يعترضوا على أى شىء ولا حتى طالبوا الباب العالى بتحمل نصيبه من نتائج قراره الأهوج ولا باعوا مياه الترعة ولا فعلوا أى شىء سوى إنتظار المقادير التى جاءتهم بعد أقل من 18 عاما بالإحتلال.
وهكذا جاء الدس البريطانى لدى الباب العالى بنتيجة عكسية، إذ بدلا من أن تفلس الشركة ويتوقف المشروع كما توقع الإنجليز من جراء القرارات السلطانية الثلاث، نجح دليسبس فى تحويل المؤامرة البريطانية إلى حدث سعيد للغاية فى تاريخ الشركة معتمدا على الجهل المصرى بحقوق البلاد وتواجد عقلية الوارث السخى لدى الخديو إسماعيل بعد أن كانت أيضا هى التى تتحكم فى تصرفات الخديو سعيد عند إصدار الإمتياز. وشتان بين عقلية الوارث السخى هذه وبين عقلية منشىء الثروة أو المورث التى كانت تحكم تصرفات محمد على إذ لم يكن ليسمح أبدا بهذا الإهدار الساذج للموارد المصرية. وسوء النية البريطانى واضح فى الإيعاز بالقرارات السلطانية الثلاثة حيث أن موضوع الترعة العذبة ليس له أى علاقة بمسألة حقوق الإنسان التى كانت هى الذريعة خلف إصدار هذه القرارات الشاهانية كما كان يقال عنها فى ذلك الزمان. ولعل هذا هو سبب خفض قيمة التعويض عن ملكية وشق الترعة إذ ربما يكون نابليون الثالث قد توقع معارضة مصرية فى شأن الترعة كما أسلفت.
وعلى كل حال فانجلترا عندما إستقرت الأوضاع للشركة وتم إفتتاح القناة فى عام 1869 وتأكدت أهميتها الملاحية بادرت بالتدخل السريع لشراء حصة الخديو إسماعيل من أسهم الشركة والتى كانت تبلغ 15% أو أكثر قليلا عندما تعرضت ماليات مصر للأزمة فى عام 1876 وتم ذلك سرا وبليل (بالفعل بالليل) دون إستشارة البرلمان وبتمويل من البارون روتشلد حيث أقرض الحكومة البريطانية المال اللازم لتلك الصفقة نظرا لأهميتها الهائلة لاستراتيجية بريطانيا لاحتواء القناة والسيطرة عليها. ودفع المال بسرعة للخديو وتم نقل حيازة صكوك الأسهم وتحميلها فى صناديق خشبية على ظهر سفينة بريطانية خرجت مسرعة من مياه الأسكندرية وخطت بذلك حكومة بريطانيا الخطوة الثانية (عقب مؤتمر لندن عام 1840) على طريق إحتلال مصر بأن أصبحت مصلحتها الإقتصادية مرتبطة بشركة قناة السويس. وكما أسلفت فإن حصة بريطانيا فى تلك الشركة زادت بعد ذلك لتصل إلى أكثر من 44% عند التأميم.
وهكذا تحسن الوضع المالى للشركة بعد هذا الحكم وقد قابل دليسبس مساهمى الشركة فى جمعية عمومية عقدت فى باريس فى أغسطس 1864 أى بعد أسابيع قليلة من صدور الحكم ودخل منتشيا منتصرا مزهوا بنجاحه بعد أن كان يخشى هذا الإجتماع بسبب الضائقة التى كانت تمر بها الشركة والتهديد الذى كاد أن يفلسها ويضعه تحت طائلة القانون. وافتتحت القناة فى عام 1869 واقيم حفل هائل حضره كبار القوم من أوروبا وتكفلت الدولة المصرية ذات الخبرة المنعدمة بتكاليف الحفل وكان ذلك على ما يروى أحد أسباب الإفلاس المفضى إلى الإحتلال.