وحديث الإحتلال يطول وقد لا ينتهى. إذ أن السبب الحقيقى لدخول البريطانيين إلى مصر كان هو الحرص على وقوع قناة السويس فى يد السلطة البريطانية. والأسباب الحقيقية وراء كل ما حدث منذ نهايات عصر إسماعيل فى سبعينات القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية فى أربعينات القرن العشرين هى أيضا أسباب متعلقة بقناة السويس. صحيح أن أهميتها قد قلت بنسبة ما نتيجة إختراع الطائرات والصواريخ التى لا تحتاج إلى مرور بحرى، إلا أن النقل التجارى بل والحربى أيضا لا يزال معتمدا عليها بكثافة.
وقصة إحتلال مصر عام 1882 معروفة ولا داع لتكرارها. فقد راوغت إنجلترا بأن أعطت الإنطباع بأنها ستهاجم مصر من جهة الغرب فى الأسكندرية بينما كان الإستعداد الحقيقى هو للهجوم من الشرق. وقد أرسلت القيادة تستدعى جيشا من الهند لكى ينضم للأسطول القادم من أوروبا. وقد حاول عرابى أن يردم القناة حتى لا تستعمل فى مرور القوات الغازية ولكن دليسبس رئيس الشركة أقنعه بالعدول عن تلك الخطة حيث أن القناة منشأة دولية لا يمكن المساس بها ولا تستطيع الجيوش البريطانية أن تغزو مصر عن طريقها، وقد صدقه عرابى.
وبالفعل دخلت السفن البريطانية من بورسعيد وحدث إنزال فى الإسماعيلية وكذلك وصلت سفن قادمة من الهند تحمل جنودا لإكمال عملية الإحتلال. وبالطبع كان أول هدف للقوات الغازية هو معدات ومبانى شركة القناة حتى لا يتوقف العمل ولا تحدث لحركة الملاحة أية أضرار. وبعد أن تم وضع كل ذلك تحت الحماية البريطانية زحف الجيش إلى القاهرة عبورا بالتل الكبير حيث وقعت المعركة وانتهى الأمر بالإحتلال. والذى يعنينا هنا ليس الإحتلال ولكن القناة. ودور القناة فى تسهيل الإحتلال كان لا ينكر. ولا أقصد هنا التسهيل المادى بعبورها إذ أن الجيش كان لديه القدرة على النزول فى بورسعيد والسويس بنفس الكفاءة. ولكننى أقصد التسهيل القانونى المتمثل فى أن الغرض المعلن لبريطانيا من هذه العملية العسكرية كان هو حماية الحركة الملاحية التجارية المعتمدة على المرور فى القناة. وهذه الحجة كانت كافية لأن يقبل الجميع بهذا الإحتلال. وأول الجميع بالطبع كان هو الباب العالى، المستأمن على مصر !!!
والآن وقد إستقرت الأوضاع لبريطانيا فى مصر عقب الإحتلال فقد كانت فرنسا لا تزال قلقة من وضع يد بريطانيا على القناة أولا بسبب الوجود المادى الفعلى فى مصر وثانيا بسبب الوجود القانونى بشراء أسهم فى شركة القناة طمعا فى المزيد من السلطة فى إدارة شئونها. ولذلك إقترحت فرنسا مؤتمرا دوليا يبحث الملاحة فى قناة السويس يعقد فى إستنبول وكان ذلك فى عام 1888 ودعيت إليه الأمم البحرية فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وروسيا والنمسا وألمانيا وهولندا وإسبانيا وبالطبع الدولة العثمانية التى قامت بدور المضيف. واللافت للنظر هو تسمية المؤتمر نفسه. حيث سمى مؤتمر القنسطنطينية بدلا من مؤتمر إستنبول وهو الإسم الرسمى للمدينة منذ عام 1452. وإسم القسطنطينية يبدو أنه إسم عزيز على الأوروبيين حيث أنهم أرادوا إعادته مرة أخرى عقب هزيمة الأتراك فى الحرب العالمية الأولى بحيث تصبح تلك المدينة هى عاصمة المسيحية الشرقية وتضم اليونان إلى سلطتها ولكن الإجراءات السريعة التى واجه بها مصطفى كمال أتاتورك هذه الخطة نجحت فى إفشالها. وعلى كل حال فالدولة العثمانية لم تعترض حتى على الإسم فاستقرت المعاهدة الناتجة عن هذا المؤتمر تاريخيا تحت إسم معاهدة القسطنطينية.
وكان الغرض من عقد مؤتمر القسطنطينية هو تدويل القناة بالكامل لكى تصبح ممرا مائيا دوليا مفتوحا للملاحة فى كل وقت وتحت أى ظرف من الظروف ولا تكون لمصر المسكينة أية سلطة على إقليمه. وهذا المبدأ خطير للغاية إذ أن القناة كما رأينا تقع داخل إقليم مصر شرقا وغربا ومدخلاها من الشمال والجنوب هما مياه إقليمية مصرية أى أنه بذلك يصبح ممرا مائيا داخليا مصريا مائة فى المائة. والأمر الغريب فى كل ذلك هو موقف الباب العالى. فهذا المفهوم هو فى الواقع سلخ لجزء من مصر عن السيادة المصرية التى هى فى النهاية تابعة للسيادة الأعلى، أى العثمانية. ولكن الأتراك قبلوا كالعادة ولم يعترضوا على شىء من هذا حيث أننا قد تأكدنا من قبل أن مصر لم تكن تعنيهم فى شىء.
وفرنسا وإنجلترا كانا فى ذلك الوقت خصمين إن لم نستعمل كلمة عدوين. وفى نهايات القرن التاسع عشر فى عام 1888 تولى القيصر الشاب فيلهلم الثانى عرش ألمانيا. وكان طموحا مائلا للزهو حيث أن جدته لأمه هى الملكة فكتوريا ملكة إنجلترا. وكان هذا القيصر يرى أن لألمانيا دور فى العالم ومكانة لم تصل إليها بعد. ولهذا فقد طالب بنصيب لألمانيا فى المستعمرات وقام ببناء أسطول ألمانى أراد به أن ينافس سيدة البحار فى ذلك الوقت، بريطانيا العظمى. ولكن الساسة البريطانيين كانوا يراقبون تحركاته وتطور ألمانيا ببالغ القلق وكانوا يتوقعون حربا مع ألمانيا عاجلا أم آجلا. ولهذا فقد سعى البريطانيون إلى محاصرة ألمانيا من الجانبين بعقد تحالفات مع جاريها الكبيرين، فرنسا وروسيا. وفى سياق ذلك وقعت كل من بريطانيا وفرنسا الإتفاق الودى بينهما فى عام 1904 وبذلك إنتهت الخصومة بينهما ودخلا الحرب العالمية الأولى جبهة واحدة ضد ألمانيا التى كانت قد تحالفت مع الباب العالى بعد أن بدل الأخير تحالفه الأساسى مع بريطانيا إلى تحالف ألمانى.
وفى هذا الجو المشحون بالتوتر بين فرنسا وبريطانيا عقد مؤتمر القسطنطينية عام 1888 بغرض تدويل الممر الملاحى بصفة نهائية على مقتضى الإقتراح الفرنسى.
وإتفاقية القسطنطينية هذه منذ 125 عام هى الوثيقة الوحيدة من كل ما جاء ذكره من وثائق والتى لا يزال لها أثر قانونى ولا تزال سارية وقائمة بأحكامها وشروطها إلى اليوم بعد أن زالت كل الوثائق الأخرى. ولهذا فلابد من الوقفة الفاحصة لنصوصها.
والواقع أن المرء يندهش من بجاحة القوى المشاركة فى ذلك المؤتمر، ولم تكن الدولة العثمانية أقلها بجاحة!!
فالطلب الفرنسى كان هو فتح القناة باستمرار لجميع الدول بلا إستثناء فى جميع الأحوال من سلم وحرب !! والنص بهذه الصياغة لا يعنى سوى نزع السيادة عن القناة نهائيا وتحويلها إلى ممر فى أعالى البحار لا سلطان لأحد عليه.
وهو أمر غريب جدا فى مبناه ومعناه. إذ أن ذلك يعنى أن سفن الدول المحاربة ضد مصر تصبح صاحبة حق مرور داخل المياه الإقليمية المصرية فى البحرين الأبيض والأحمر وصولا إلى مداخل القناة فتعبرها مخترقة الخطوط المصرية وتخرج سالمة من الجهة الأخرى ومصر لا تحرك ساكنا!!! وهذا ما نصت عليه المادة الأولى من الإتفاقية. ويأسف المرء أن يقر بأن من دافع داخل المؤتمر عن حق مصر فى السيادة على أراضيها وصيانة دفاعاتها والحفاظ على بحرها الإقليمى لم يكن الطرف صاحب السيادة القانونية "الشرعية"على مصر ، الباب العالى، ولكن كانت قوة الإحتلال "الغير شرعى"هى من قامت بتلك المهمة، بريطانيا !!
فقد أصرت بريطانيا على نص المادة العاشرة من الإتفاقية والذى يفرغ المادة الأولى من محتواها فى حالات الدفاع عن مصر بحيث أصبح من حق مصر منع الدول المعادية من إستعمال القناة رغم الصياغة الغائمة للمادة العاشرة. وكان هذا هو أساس رفض مصر مرور جميع السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى إسرائيل فى القناة عقب حرب 1948 حيث أنه طلب من مصر الموافقة على مرور تلك السفن.
والآن إلى نصوص الإتفاقية الوحيدة الباقية منذ تلك الايام حتى يومنا هذا.