الدولة العثمانية - عوامل النهوض وأسباب السقوط
تأليف: علي محمد محمد الصلابي
المبحث الأول
عثمان مؤسس الدولة العثمانية
في عام ٦٥٦هـ/١٢٥٨م ولد لارطغرل ابنه عثمان الذي تنتسب إليه الدولة العثمانية (١) وهي السنة التي غزا فيها المغول بقيادة هولاكو بغداد عاصمة الخلافة العثمانية، وكانت الأحداث عظيمة، والمصائب جسيمة، يقول ابن كثير: "ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لايظهرون وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الحانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم (٢).
لقد كان الخطب عظيم والحدث جلل، والأمة ضعفت ووهنت بسبب ذنوبها ومعاصيها ولذلك سلط عليها المغول، فهتكوا الأعراض، وسفكوا الدماء، وقتلوا الأنفس، ونهبوا الأموال، وخربوا الديار، في تلك الظروف الصعبة والوهن المستشري في مفاصل الأمة ولد عثمان مؤسس الدولة العثمانية، وهنا معنى لطيف ألا وهو بداية الأمة في التمكين هي أقصى نقطة من الضعف والانحطاط تلك هي بداية الصعود نحو العزة والنصر والتمكين، إنها حكمة الله وإرادته ومشيئته النافذة.
قال تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين} (سورة القصص:٣).
وقال سبحانه وتعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض} (القصص، آية: ٥،٦).
.ولاشك أن الله تعالى قادر على أن يمكن لعباده المستضعفين في عشية أو ضحاها، بل في طرفة عين قال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون .. } (النحل: ٤٠).
فلا يستعجل أهل الحق موعود الله عزوجل لهم بالنصر والتمكين، فلابد من مراعاة السنن الشرعية والسنن الكونية، ولابد من الصبر على دين الله عزوجل: {ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض} (سورة محمد: ٤).
والله إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه وأتى به شيئاً فشيئاً بالتدرج لادفعة واحدة.
وبدأت قصة التمكين للدولة العثمانية مع ظهور القائد عثمان الذي ولد في عام سقوط الخلافة العباسية في بغداد.
أولاً: أهم الصفات القيادية في عثمان الأول:
عندما نتأمل في سيرة عثمان الأول تبرز لنا بعض الصفات المتأصلة في شخصيته كقائد عسكري، ورجل سياسي، ومن أهم هذه الصفات:
١. الشجاعة: عندما تنادى أمراء النصارى في بورصة ومادانوس وأدره نوس وكته وكستله البيزنطيون في عام ٧٠٠هـ/١٣٠١م لتشكيل حلف صليبي لمحاربة عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية واستجابت النصارى لهذا النداء وتحالفوا للقضاء على الدولة الناشئة تقدم عثمان بجنوده وخاض الحروب بنفسه وشتت الجيوش الصليبية وظهرت منه بسالة وشجاعة أصبحت مضرب المثل عند العثمانيين (١).
٢. الحكمة: بعد ما تولى رئاسة قومه رأى من الحكمة أن يقف مع السلطان علاء الدين ضد النصارى، وساعده في افتتاح جملة من مدن منيعة، وعدة قلاع حصينة، ولذلك نال رتبة الإمارة من السلطان السلجوقي علاء الدين صاحب دولة سلاجقة الروم. وسمح له سك العملة باسمه، مع الدعاء له في خطبة الجمعة في المناطق التي تحته (٢).
٣. الاخلاص: عندما لمس سكان الأراضي القريبة من إمارة عثمان أخلاصه للدين تحركوا لمساندته والوقوف معه لتوطيد دعائم دولة اسلامية تقف سداً منيعاً أمام الدولة المعادية للاسلام والمسلمين (٣).
.٤. الصبر: وظهرت هذه الصفة في شخصيته عندما شرع في فتح الحصون والبلدان، ففتح في سنة ٧٠٧هـ حصن كته، وحصن لفكه، وحصن آق حصار، وحصن قوج حصار. وفي سنة ٧١٢هـ فتح حصن كبوه وحصن يكيجه طرا قلوا، وحصن تكرر بيكارى وغيرها وقد توج فتوحاته هذه بفتح مدينة بروسة في عام ٧١٧هـ/١٣١٧م، وذلك بعد حصار شديد دام عدة سنوات، ولم يكن فتح بروسة من الأمور السهلة بل كان من أصعب ما واجهه عثمان في فتوحاته، حيث حدثت بينه وبين قائد حاميتها اقرينوس صراع شديد استمر عدة سنوات حتى استسلم وسلم المدينة لعثمان. قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} (سورة آل عمران:٢٠٠).
٥. الجاذبية الايمانية: وتظهر هذه الصفة عندما احتك به اقرينوس قائد بروسه واعتنق الاسلام أعطاه السلطان عثمان لقب (بك) وأصبح من قادة الدولة العثمانية البارزين فيما بعد، وقد تأثر كثير من القادة البيزنطيين بشخصية عثمان ومنهجه الذي سار عليه حتى امتلأت صفوف العثمانيين منهم (١)، بل أن كثيراً من الجماعات الاسلامية انخرطت تحت لواء الدولة العثمانية كجماعة (غزياروم) أي غزاة الروم، وهي جماعة اسلامية كانت ترابط على حدود الروم وتصد هجماتهم عن المسلمين منذ العصر العباسي، وقد أعطتها هذه المرابطة خبرات في جهاد الروم عمقت فيها انتماءها للاسلام والتزامها بكل ماجاء به الاسلام من نظام، وجماعة (الإخيان) (اي الاخوان) وهم جماعة من أهل الخير يعينون المسلمين ويستضيفونهم ويصاحبون جيوشهم لخدمة الغزاة وكان معظم أعضاء هذه الجماعة من كبار التجار الذي سخروا أموالهم للخدمات الاسلامية مثل: إقامة المساجد والتكايا و"الخانات"الفنادق، وكانت لهم في الدولة مكانة عالية، ومن هذه الجماعة علماء ممتازون عملوا في نشر الثقافة الاسلامية وحببوا الناس في التمسك بالدين، وجماعة (حاجيات روم) أي حجاج أرض الروم، وكانت جماعة على فقه بالاسلام، ومعرفة دقيقة لتشريعاته، وكان هدفها معاونة المسلمين عموماً والمجاهدين خصوصاً وغير ذلك من الجماعات (٢).
٦. عدله: تروي معظم المراجع التركية التي أرّخت للعثمانيين أن أرطغرل عهد لابنه عثمان مؤسس الدولة العثمانية بولاية القضاء في مدينة قره جه حصار بعد الاستيلاء عليها من. .البيزنطيين في عام ٦٨٤هـ/١٢٨٥م وأن عثمان حكم لبيزنطي نصراني ضد مسلم تركي، فاستغرب البيزنطي وسأل عثمان: كيف تحكم لصالحي وانا على غير دينك، فأجابه عثمان: بل كيف لا أحكم لصالحك، والله الذي نعبده، يقول لنا: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} (سورة النساء،) وكان هذا العدل الكريم سبباً في اهتداء الرجل وقومه الى الاسلام (١).
إن عثمان الأول استخدم العدل مع رعيته وفي البلاد التي فتحها، فلم يعامل القوم المغلوبين بالظلم أو الجور أو التعسف أو التجبر، أو الطغيان، أو البطش وإنما عاملهم بهذا الدستور الرباني: {أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد الى ربه فيعذبه عذاباً نكراً - وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً} (سورة الكهف: آية: ٨٧،٨٨). والعمل بهذا الدستور الرباني يدل على إيمان وتقوى وفطنة وذكاء وعلى عدل وبر ورحمة.
٧. الوفاء: كان شديد الإهتمام بالوفاء بالعهود، فعندما اشترط أمير قلعة اولوباد البيزنطية حين استسلم للجيش العثماني، أن لايمر من فوق الجسر أي عثماني مسلم الى داخل القلعة التزم بذلك وكذلك من جاء بعده (٢). قال تعالى {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا} (سورة الاسراء: آية)
٨. التجرد لله في فتوحاته: فلم تكن أعماله وفتوحاته من أجل مصالح اقتصادية أو عسكرية أو غير ذلك، بل كان فرصة تبليغ دعوة الله ونشر دينه ولذلك وصفه المؤرخ احمد رفيق في موسوعته (التاريخ العام الكبير) بأنه (كان عثمان متديناً للغاية، وكان يعلم أن نشر الاسلام وتعميمه واجب مقدس وكان مالكاً لفكر سياسي واسع متين، ولم يؤسس عثمان دولته حباً في السلطة وإنما حباً في نشر الاسلام) (٣).
ويقول مصر اوغلو: "لقد كان عثمان بن أرطغرل يؤمن إيماناً عميقاً بأن وظيفته الوحيدة في الحياة هي الجهاد في سبيل الله لأعلاء كلمة الله، وقد كان مندفعاً بكل حواسه وقواه نحو تحقيق هذا الهدف" (٤).
هذه بعض صفات عثمان الأول والتي كانت ثمرات طبيعية لإيمانه بالله تعالى والاستعداد. لليوم الآخر، وحبه لأهل الإيمان وبغضه لأهل الكفر والعصيان وحبه العميق للجهاد في سبيل الله والدعوة إليه ولذلك كان عثمان في فتوحاته يطلب من أمراء الروم في منطقة آسيا الصغرى أن يختاروا أحد ثلاثة أمور هي الدخول في الاسلام، أو دفع الجزية، أو الحرب، وبذلك أسلم بعضهم، وانضم إليه البعض الاخر وقبلوا دفع الجزية. أما ماعداهم فقد شن عليهم جهاداً لاهوادة فيه فانتصر عليهم، وتمكن من ضم مناطق كبيرة لدولته.
لقد كانت شخصية عثمان متزنة وخلابة بسبب إيمانه العظيم بالله تعالى واليوم الآخر، ولذلك لم تطغ قوته على عدالته، ولا سلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه، وأصبح مستحقاً لتأييد الله وعونه، ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة وهو تفضل من الله تعالى على عبده عثمان، فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في آسيا الصغرى من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار، لقد كانت رعاية الله له عظيمة ولذلك فتح له باب التوفيق وحقق ماتطلع إليه من أهداف وغاية سامية لقد كانت أعماله عظيمة بسبب حبه للدعوة الى الله، فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف، وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان، فكان إذا ظفر بقوم دعاهم الى الحق والايمان بالله تعالى وكان حريصاً على الأعمال الأصلاحية في كافة الأقاليم والبلدان التي فتحها، فسعى في بسط سلطان الحق والعدالة، وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان، مثلما كان معادياً لأهل الكفران.
ثانياً: الدستور الذي سار عليه العثمانيون:
كانت حياة الأمير عثمان مؤسس الدولة العثمانية، جهاداً ودعوة في سبيل الله وكان علماء الدين يحيطون بالأمير ويشرفون على التخطيط الإداري والتنفيذ الشرعي في الإمارة ولقد حفظ لنا التاريخ وصية عثمان لابنه أورخان وهو على فراش الموت وكانت تلك الوصية فيها دلالة حضارية ومنهجية شرعية سارت عليها الدولة العثمانية فيما بعد يقول عثمان في وصيته: (يابني: اياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين وإذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين مؤئلاً.
يابني: أحط من أطاعك بالأعزاز. وأنعم على الجنود، ولا يغرنك الشيطان بجندك وبمالك، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة. يابني: إنك تعلم أن غايتنا هي أرضاء الله رب العالمين، وأن بالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق، فتحدث مرضات الله جل جلاله.
يابني: لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد، فنحن بالاسلام نحيا وللاسلام نموت، وهذا ياولدي ما أنت له أهل) (١).
وفي كتاب (التاريخ السياسي للدولة العلية العثمانية) تجد رواية آخرى للوصية: (اعلم يابني، أن نشر الاسلام، وهداية الناس إليه، وحماية أعراض المسلمين وأموالهم، أمانة في عنقك سيسألك الله عز وجل عنها) (٢).
وفي كتاب مأساة بني عثمان نجد عبارات أخرى من وصية عثمان لابنه أورخان تقول: (يابني، أنني أنتقل الى جوار ربي، وأنا فخور بك بأنك ستكون عادلاً في الرعية، مجاهداً في سبيل الله، لنشر دين الاسلام.
يابني، أوصيك بعلماء الأمة، أدم رعايتهم، وأكثر من تبجيلهم، وانزل على مشورتهم، فانهم لايأمرون إلا بخير.
يابني، اياك أن تفعل أمراً لا يرضى الله عز وجل، واذا صعب عليك أمر فاسأل علماء الشريعة، فانهم سيدلونك على الخير.
واعلم يابني أن طريقنا الوحيد في هذه الدنيا هو طريق الله، وأن مقصدنا الوحيد هو نشر دين الله، وأننا لسنا طلاب جاه ولا دنيا) (٣).
وفي التاريخ العثماني المصور، عبارات اخرى من وصية عثمان تقول: (وصيتي لابنائي واصدقائي، اديموا علوا الدين الاسلامي الجليل بادامة الجهاد في سبيل الله. أمسكوا راية الاسلام الشريفة في الاعلى باكمل جهاد. أخدموا الاسلام دائماً؛ لان الله عز
وجل قد وظف عبداً ضعيفاً مثلي لفتح البلدان. اذهبوا بكلمة التوحيد الى اقصى البلدان بجهادكم في سبيل الله ومن انحرف من .عن الحق والعدل حرم من شفاعة الرسول الأعظم يوم المحشر
يابني: ليس في الدنيا أحد لا يخضع رقبته للموت وقد اقترب اجلي بأمر الله جل جلاله اسلمك هذه الدولة واستودعك المولى عز وجل. اعدل في جميع شؤونك .... ) (١).
لقد كانت هذه الوصية منهجاً سار عليه العثمانيون، فأهتموا بالعلم وبالمؤسسات العلمية وبالجيش، وبالمؤسسات العسكرية، وبالعلماء واحترامهم، وبالجهاد الذي أوصل فتوحاً الى اقصى مكان وصلت إليه رايته جيش مسلم وبالامارة وبالحضارة) (٢).
هذه الوصية الخالدة هي التي سار عليها الحكام العثمانيون في زمن قوتهم ومجدهم وعزتهم وتمكينهم.
ترك عثمان الأول الدولة العثمانية وكانت مساحتها تبلغ ١٦.٠٠٠ كيلومتر مربع واستطاع أن يجد لدولته الناشئة منفذ على بحر مرمرة واستطاع بجيشه أن يهدد أهم مدينتين بيزنطيتين في ذلك الزمان وهي: ازنيق وبورصة (٣).
[التعليق على الوصية] (*)
ونستطيع أن نستخرج الدعائم والقواعد والأسس التي قامت الدولة العثمانية من خلال تلك الوصية:
١ - (يابني اياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين):
إنها دعوة الى الالتزام بشرع الله في كل صغيرة وكبيرة، وبحيث يكون حكم الله وأمره مهيمناً على كل شيء قال تعالى: {إن الحكم إلا لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لايعلمون} (سورة يوسف: آية٤٠).
يعني: (ما الحكم الحق في الربوبية والعقائد والمعاملات إلا لله وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لايمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه، ولا بعقله واستدلاله ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة) (١) لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية والحاكمية لله تعالى قال سبحانه: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (سورة النساء: آية ١٠٥) فكما أن تحقيق العبودية غاية من إنزال الكتاب فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله (٢).
إن عثمان يوصي إبنه كحاكم من بعده لدولة إسلامية أن يتقيد بحكم الله في أعماله، لأنه يعلم أن إقامة حكم الله من خلال الحاكم المسلم عهد وميثاق ذكره الله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به، إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور} (سورة المائدة: ٧). فهذا تذكير من الله تعالى لعباده المؤمنين بنعمته عليهم في الشرع الذي شرعه لهم في هذا الدين العظيم، المرسل به الرسول الكريم، وأخذ للعهد والميثاق عليهم في متابعته ونصرته وإبلاغه والقيام به، وهذا مقتضى البيعة التي كان الصحابة يبايعون عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على السمع والطاعة في المنشط والمكره، كما أن الإخلال بعهد الحاكمية جاهلية قال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} (سورة المائدة: ٥٠). ففي الآية الكريمة إنكار وتوبيخ وتعجب من حال من يتولى عن حكم الله وهو يبغي حكم غيره والآية تعبير لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم يبغون حكم الجاهلية التي هي هوى وجهل لايصدر عن كتاب ولايرجع إلى وحي (٣).
إن تحقيق الحاكمية، تمكين للعبودية، وقيام بالغاية التي من أجلها خلق الإنسان والجان، قال تعالى: {وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (سورة الذاريات: ٥٦). أي ليطيعوه وحده لاشريك له (١).وإن المفهوم الواسع الرحيب للعبادة ليشمل علائق وأعمالاً كثيرة، منها مايمكن أن يقيمه الأفراد ومنها مالايمكن تحقيقه على الوجه الأكمل إلا في ظل دولة الإسلام وهذه المعاني الرفيعة كانت واضحة في ذهن المؤسس الأول للدولة العثمانية ولذلك وصى الأمير أورخان بهذه العبارة المنهجية المسددة (يابني إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين) وهذا التوجيه من عثمان لابنه كفرد وكرئيس لدولة وفي طياته معنى كون العبادة لها أصلان:
احدهما: أن لا يعبد إلا الله، والثاني: أن يعبد بما أمر وشرع (٢). فإنه مما لاشك فيه كانت الدولة العثمانية حريصة على حماية هذين الأصلين بمحاربة الشرك في داخلها وعملت على تقليص نفوذه خارجها وكانت حريصة على حماية الشرع ضد من يعاود الاعتداء عليه بابتداع أو تحريف أو تغيير أو تبديل، وكل ذلك من حرص أميرها والعلماء الذين من حوله على تحقيق العبودية لله على الوجه المرضي، وعلى حماية الدين من دخائل وانتحالات المضلين، وبهذا تكون دولة بني عثمان أخذت الصبغة الشرعية. (لقد كانت نشأتها إسلامية، خالصة، مشبوبة بإيمان عميق، متوجهة الى أهداف عقائدية) (٣).
٢ - إذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين مؤئلاً:
إن الله تعالى قد شرع نظام الشورى لحكم بالغة، ومقاصد عظيمة، ولما فيها من المصالح الكبيرة، والفوائد الجليلة التي تعود على الأمة والدولة والمجتمع بالخير والبركة ولذلك أمر عثمان الاول إبنه أن يجعل من العلماء مجلس شورى له في معضلات الأمور وفي هذا الارشاد امتثال لأمر الله واقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- قال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (سورة آل عمران: آية:١٥٩).
..قال الاستاذ سيد قطب -رحمه الله-: (وبهذا النص الجازم {وشاورهم في الأمر} يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم - حتى ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يتولاه، وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكاً في أن الشورى مبدأ اساسي لايقوم نظام الاسلام على أساس سواه) (١).
- وقال تعالى: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} (سورة الشورى: آية: ٣٨).
يقول الاستاذ عبدالقادر عودة -رحمه الله- (الشورى من دعائم الايمان وصفة من الصفات المميزة للمسلمين، سوى الله بينها وبين الصلاة والإنفاق في قوله: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}. فجعل للاستجابة لله نتائج بين لنا أبرزها، وأظهرها، وهي إقامة الصلاة والشورى والانفاق، واذا كانت الشورى من الايمان فإنه لا يكمل إيمان قوم يتركون الشورى، ولا يحسن إسلامهم إذا لم يقيموا الشورى إقامة صحيحة، ومادامت الشورى صفة لازمة للمسلم لايكمل إيمانه إلا بتوفرها، فهي إذن فريضة إسلامية واجبة على الحاكمين والمحكومين، فعلى الحاكم أن يستشير في كل أمور الحكم والإدارة والسياسة، والتشريع وكل مايتعلق بمصلحة الأفراد أو المصلحة العامة، وعلى المحكومين أن يشيروا على الحاكم بما يرونه في هذه المسائل كلها، سواء استشارهم الحاكم أو لم يستشرهم (٢).
والأحاديث القولية والسنة الفعلية الدّالة على وجوب الشورى كثيرة ونكتفي بما ذكرنا خوفاً من الإطالة.
وفي رواية أن عثمان أمر ابنه بأن ينزل على رأي العلماء في قوله: (وأنزل على مشورتهم فإنهم لايأمرون إلا بخير .. ) (٣) وكأن عثمان - رحمه الله - يرأى أن الشورى ملزمة للحاكم وقد ذهب إلى هذا الرأي مجموعة من العلماء المعاصرين منهم العلامة أبو الأعلى المودودي - رحمه الله -: (وخامسة قواعد الدولة الإسلامية حتمية تشاور قادة الدولة وحاكمها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم، وامضاء نظام الحكم بالشورى. يقول تعالى: {وأمرهم شورى بينهم}، {وشاورهم في الأمر} (٤).
(إن قاعدة: {وأمرهم شورى بينهم} تتطلب بذاتها خمسة أمور: خامسها التسليم بما يجمع عليه أهل الشورى أو أكثريتهم، أما أن يستمع ولي الأمر إلى آراء جميع أهل الشورى ثم يختار هو بنفسه بحرية تامة، فإن الشورى في هذه الحالة تفقد معناها وقيمتها، فالله لم يقل: (تؤخذ آراؤهم ومشورتهم في أمرهم) وإنما قال: {وأمرهم شورى بينهم} يعني أن تسير الأمور بتشاور فيما بينهم، وتطبيق هذا القول الإلهي لايتم بأخذ الرأي فقط، وإنما من الضروري لتنفيذه وتطبيقه أن تجري الأمور وفق ما يتقرر بالإجماع أو الأكثرية .. ) (١).
وهكذا نرى الأمير عثمان يسبق كثير من العلماء والمفكرين المعاصرين في ذهابه إلى أن الشورى ملزمة ويأمر بأنه بالنزول عند رأي العلماء ولكونهم لايأمرون إلا بخير.
لقد ساهمت الشورى في بناء الدولة العثمانية وتماسك رعاياه وعززت السلطان السياسي والجهادي والدعوي للدولة وكانت الآراء تتقلب وفقا لجدارتها، وبمقدار انسجامها مع عقيدة الأمة ودستور الدولة، لقد كان الحكام العثمانيون يريدون لحكمهم أن يستمر ولنظام دولتهم أن يستقر ولذلك حرصوا على الإلمام بحقيقة الأوضاع ببلادهم وجعلوا من الشورى خير سبيل لتحقيق هذه الغاية.
ولقد تطورت الشورى في الدولة العثمانية بل أصبح لكل أقليم حاكم يطلق عليه باشا وله مجلس الديوان يتشاورون في شؤون الحكم والرعية، ولقد شكلت مجالس وعين نواب وممثلون لكل جماعة واتيحت الفرصة للاختيار وتتطور الأمر حتى وصل في عهد السلطان محمد الفاتح إلى تشكيل مجلس استشاري لأمور الدولة.
إن أشكال الشورى وأساليب تطبيقها ووسائل تحقيقها وإجراءاتها كانت في زمن الدولة العثمانية عرضة للاجتهاد والبحث والاختيار، أما أصل الشورى في إدارة شؤون الدولة فكان بالنسبة لهم من قبيل المحكم الثابت الذي لايجوز تجاهله أو إهماله وإن كان تاريخ الدولة العثمانية لايخلو من ظهور بعض السلاطين المتسلطين.
٣ - يابني أوصيك بعلماء الأمة، أدم رعايتهم وأكثر من تبجيلهم:
.كان عثمان على صلة متينة مع كبار العلماء والفقهاء وكبار الصالحين في عهده وكثيراً ما يجلس الساعات الطوال بين أيديهم ويتلقى مواعظهم ويستفيد من علمهم ويشاورهم في أمور الدولة وكان يتردد على المولى الشيخ (إده بالي) القرماني المولد وقد زوجه ابنته بسبب رؤيا: (كان في أحد الأيام يبيت عنده، فرأى في المنام قمراً خرج من حضن الشيخ ودخل حضنه، وعند ذلك نبتت شجرة عظيمة سدت أغصانها الآفاق، وتحتها جبال عظيمة تتفجر منها الأنهار، والناس ينتفعون بتلك الأشجار لأنفسهم ودوابهم وبساتينهم، فقص هذه الرؤيا على الشيخ فقال: لك البشرى، بما نلت مرتبة السلطنة، وينتفع بك وبأولادك المسلمون، وإني زوجت لك ابنتي هذه .. (١).
لقد حاول بعض الكتاب أن يجعل من تلك الرؤيا اسطورة لا حقيقة لها مع أن هذه الرؤيا ذكرت في كتاب مهم اسمه الشقائق النعمانية في تاريخ الدولة العثمانية، وهذا الكتاب أفاد وأجاد في ذكر علماء وفقهاء الدولة لفترات زمنية ممتدة.
إن هذه الرؤيا لاتخالف العقل ولا النقل، لأن عثمان الأول رحمه الله كان رجلاً تقياً ورعاً ومن ثمار التقوى الرؤيا الصالحة وثناء الخلق ومحبتهم: قال تعالى: {ألا إنّ أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البُشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ... } (يونس: ٦٢ - ٦٤).
والبشرى في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين، في غير مكان من كتابه وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الرؤيا الصالحة من الله .. " (٢) وعنه عليه الصلاة والسلام: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة" (٣) وعن أبي ذر قال: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس "فقال تلك عاجل بشرى المؤمن" (٤).
إن عثمان الأول - رحمه الله - وضع الله له محبة في قلوب المسلمين لجهاده وتقواه وصلاحه.
.إن وصية عثمان لابنه بإحترام العلماء اصبحت منهجاً سار عليه حكام الدولة العثمانية وهذا يدل على التزام العثمانيين بشرع الله تعالى، لأن الشريعة أعطت اعتباراً للعلماء وبنته على أمرين:
- أن طاعتهم طاعة لله - عزوجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالتزام أمرهم واجب.
- أن طاعتهم ليست مقصودة لذاتها بل هي تبعٌ لطاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
والأدلة على هذه المنزلة وهذا الاعتبار للعلماء في الشريعة كثيرة منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (سورة النساء، الآية: ٥٩).
وقد اختلف المفسرون في أولي الأمر منكم على أقوال فقيل: هم السلاطين وذوو القدرة.
وقيل: هم أهل العلم.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - "يعني أهل الفقه والدين، وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، فأوجب الله سبحانه طاعتهم على عباده " (١).
(والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبعٌ لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء ولما كان قيام الإسلام بطائفتين، العلماء والأمراء، وكان الناس لهم تبعاً، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما (٢).
والدليل الثاني: أن الله - سبحانه - أوجب الرجوع إليهم وسؤالهم عما أشكل: قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون} (سورة الأنبياء، الآية: ٧).
(وعموم هذه الآية، فيها مدح أهل العلم، وأن أعلى أنواعه، العلم بالكتاب المنزل، فإن الله أمر من لايعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث في ضمنه تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم، وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعة .. ) (٣).
إن الآيات والأحاديث التي تبين دور العلماء كثيرة ونكتفي بما ذكرنا.
.لقد كان العلماء في مسير الدولة العثمانية مرجع للسلاطين عند الفتن والملاحم والمحن وكانت لهم مقدرة عظيمة على حشد الناس تحت لواء الجهاد في سبيل الله تعالى، وإقامة شرعه على الرعية وكانوا لايسمحون للسلطان أن يتجاوز أحكام الشرع وإلا ربما هيجوا عليه الناس وعزلوه، وكانت أحكام العلماء والفقهاء تستنبط من:
١ - القرآن الكريم:
قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (سورة النساء: ١٠٥).
فهو المصدر الأول الذي يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشؤون الحياة البشرية، كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكاماً قاطعة لإصلاح كل شعبة من شعب الحياة، كما بين القرآن الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم.
٢ - السنة المطهرة:
هي المصدر الثاني الذي يستمد منه العلماء الأحكام ومن خلالها يعرفون الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن ممثلة في قيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأمة ومن خلال السنة يمكن التعرف على نوعية المجتمع المثالي الذي ينشده الإسلام.
٣ - إجماع الأمة:
وخاصة الصحابة، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدين قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} (النساء: ١١٥).
٤ - مذهب العلماء والمجتهدين:
قال تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (سورة النساء، آية: ٨٣).
والآية دليل على الأخذ بالاجتهاد إذا عُدم النص والإجماع (١)، ولأن العلماء في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - كالأنبياء في بني إسرائيل، فهم المؤتمون على نقل العلم، والمفوضون في استنباط الأحكام المتجددة في عمومات الشريعة، لا لعصمة اختصوا بها - فليس في الإسلام كهنوت - ولكن لأهليتهم في أن يُسموا - "أهل الذكر "والله تعالى يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون} (سورة النحل، آية: ٤٣).
لقد كان علماء الدولة العثمانية على فهم عميق لروح الشريعة وقواعدها ولهم المقدرة على معالجة مايستجد من قضايا في ضوء هذا الفهم، وكانت لهم القدرة على فهم ضبط المناط في الأحكام وقياس الفروع على الأصول فيها. .ولقد كان المذهب الحنفي له القدح المعلى عند علماء الدولة وإن كانوا لايستغنون عن بقية المذاهب السنية التي كانت لها احترامها عند السلاطين العثمانيين.
لقد حرص علماء الدولة العثمانية على أن يكون نظامها السياسي على عقيدة التوحيد، وتطبيق شريعة الله، وتقوم على الشورى، وأن يقوم نظامها الاقتصادي على التعامل بالذهب والفضة، وعدم التعامل بالربا، وعدم الاستغلال والاحتكار، وعدم الاتجار بما حرم الله، وأن يقوم نظامها السلوكي والأخلاقي الإجتماعي على أساس عقيدة الإسلام، وأن يقوم نظامها التعليمي والإعلامي على قاعدة من العلوم الشرعية، وأن تقوم علاقتها الدولية على أساس عقيدة الإسلام التي وضعها الله سبحانه وتعالى - حيث قال: {لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} (آية: ٨،٩ سورة الممتحنة).
لقد كان العلماء والفقهاء في الدولة العثمانية يشرفون على تطبيق شرع الله، وإقامة الحدود، وتحريم ماحرم الله، ولا تستحل إلا ما حرم الله (١).
لقد كان معظم سلاطين الدولة يحترمون العلماء ويجلونهم.
٤ - (اعلم يابني، أن نشر الإسلام وهداية الناس إليه وحماية أعراض المسلمين وأموالهم، أمانة في عنقك سيسألك الله عزوجل عنها) (٢)
لقد فهم عثمان الأول - رحمه الله - أن دين الإسلام، دين دعوة مستمرة، لاتتوقف حتى تتوقف الحياة البشرية من على وجه الأرض وأن من أهداف الدولة الإسلامية دفع عجلة الدعوة إلى الأمام ليصل نور الإسلام إلى كل إنسان. إن الدولة العثمانية كانت ترى من مسؤلياتها القيام بوظيفة الدعوة ونشرها في أرجاء الأرض وربط السياسة الخارجية على الأسس الدعوية العقدية، قبل بنائها على الأسس المصلحية النفعية، وذلك كما كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يقوم بتبليغ الدعوة إلى الآفاق امتثالاً لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين} (سورة المائدة، ٦٧).
.وقد امتثل عليه الصلاة والسلام للأمر وأرسل إلى ملوك الأرض، فكتب إلى ملوك الروم، فقيل له: إنهم لايقرءون كتاباً إلا إذا كان مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة وختم به الكتب إلى الملوك، وبعث كتباً ورسلاً إلى ملوك فارس والروم، والحبشة ومصر والبلقاء واليمامة في يوم واحد، ثم بعث إلى حكام عمان والبحرين واليمن وغيرهم (١).
ولذلك اقتدى عثمان - رحمه الله - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته وسار أبناءه من بعده على هذا المنهج وظهرت في الدولة جماعة الدعوة وكان الحكام والسلاطين يقفون معها ويدعمونها مادياً ومعنوياً، ولقد سلك العثمانيون دولة وشعباً سبلاً متعددة من أجل إدخال النصارى في الاسلام ومن هذه الطرق:
- الاحتفال بمن يعلن اعتناقه للاسلام وإمداده بكل ما يعينه على الحياة والابتهال به في المساجد.
- حرص العثمانيون على التمسك بالدين، والتواضع في أداء الشعائر مما جعل بعض المسيحيين يدخلون في الاسلام.
- معاملة الرقيق من المسيحيين باللين حيث كانوا يعتقونهم إذا ثبت إخلاصهم حتى ولو ظلوا على دينهم ويتولون رعايتهم وبخاصة كبار السن منهم بعد العتق فضلاً عن حسن معاملة من يسلم منهم أو يظل على دينه مما كان دافعاً لكثير منهم على اعتناق الاسلام (٢).
- أقبل كثير من العثمانيين على الزواج من مسيحيات حرمت الكنيسة دخولهن فيها مما حدا ببعضهن الى اتباع أزواجهن.
- قام من دخل في الاسلام من النصارى بدعوة أقاربهم وذويهم لما رأو من سماحة الاسلام وأنسجامه مع الفطرة، ومخاطبته للعقل، وأحياءه للقلب.
- قامت الدولة العثمانية بنقل قبائل اسلامية تابعة لها الى قرى مسيحية ونقلت أعداد من النصارى الى تجمعات اسلامية مما ساعد على انتشار الاسلام تدريجياً.
- قام السلطان مراد باتباع سياسة الأفراج عن الأسرى إذا هم اعتنقوا الاسلام وأسهم ذلك الأسلوب في زيادة عدد المسلمين.
- ومما ساعد على انتشار الاسلام في البلقان تعسف الإقطاعيين المحليين في فرض الضرائب الباهظة أن كبار رجال الدين من الإقطاعيين قد باعوا أسرار الكنيسة ووظائفها من جهة وسعوا في توثيق علاقاتهم بالنظام العثماني بل بعضهم دخل في الاسلام.
.- توسع سلاطين العثمانيين في المنح والعطايا والتقدير لزعماء النصارى الذي أقبلوا على الاسلام وأظهر كثيرون منهم الاخلاص للدولة العثمانية (١).
لقد أهتم العثمانيون بأمر الدعوة الى الله على مستوى الخارجي وادخال الناس في دين الاسلام ولم يتركوا أمر الإصلاح الداخلي في الدولة واحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد بين عثمان الأول -رحمه الله- أن حماية أعراض المسلمين وأموالهم أمانة في عنق الحاكم المسلم وهذه الأمور تدخل تحت عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنفيذ الحدود، والدعوة الى مكارم الأخلاق وتعليم الأمة أمر دينها، ويكون ذلك باشراف الحاكم المسلم، فيترتب على تلك الأمور فوائد ومصالح عامة للأمة والأفراد، والحكام والمحكومين ومن أهم هذه الفوائد:
- إقامة المِلَّة والشريعة وحفظ العقيدة والدين لتكون كلمة الله هي العليا.
قال تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً} (سورة الحج: آية ٤٠).
إن الإنسان لابد له من أمر ونهي ودعوة، فمن لم يأمر بالخير ويدعو إليه أمر بالشر (٢).
- رفع العقوبات العامة: قال تعالى: {وما أصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (سورة الشورى: آية ٣٠). وقال أيضاً في الجواب عن سبب مصابهم يوم أحد: {قل هو من عند أنفسكم} (سورة آل عمران: آية ١٦٥). فالكفر والمعاصي بأنواعها سبب للمصائب والمهالك قال تعالى: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً مما أنجينا منهم ... } (سورة هود: آية ١١٦). وقال: {وماكان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} (سورة هود: آية ١١٧). "وهذه اشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم، فإن الأمة التي يقع فيها الظلم والفساد فيجدان من ينهض لدفعهما هي أمم ناجية لايأخذها الله بالعذاب والتدمير" (٣).
- استنزال الرحمة من الله تعالى؛ لأن الطاعة والمعروف سبب للنعمة قال تعالى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدكم .. } (سورة ابراهيم: آية٧) والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من العبودية لله.
- تحقيق وصف الخيرية في هذه الأمة:
قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}
.- التجافي عن صفات المنافقين:
{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ... } (سورة التوبة: أية ٧).
٥ - (يابني أحط من أطاعك بالإعزاز، وأنعم على الجنود) (١):
إن أمة الاسلام تحتاج لكي تقوم بمهمتها في هداية الناس للخير الى أن تكون صالحة في نفسها، مصلحة لغيرها، فهي الشهيدة على الأمم لأنها أمة الوسط.
قال سبحانه: {وكذلك جعناكم أمة وسطاً لتكون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (سورة البقرة: آية ١٤٣).
وهناك حقوق متبادلة بين الراعي والرعية، والحاكم والمحكوم، ومن وصية عثمان -رحمه الله- لابنه يبين له حق الرعية على الحاكم ولقد حرص العثمانيون كحكام على تنفيذ حقوق الرعية ومن أهم هذه الحقوق التي قاموا بها:
١. العمل على الإبقاء على عقيدة الأمة صافية نقية.
٢. بذل الأسباب المؤدية الى وحدة الأمة.
٣. العمل على حماية الأمة من أعداء الخارج.
٤. أن يعمل الولاة على حماية الأمة من المفسدين والمحاربين.
٥. إعداد الأمة إعداداً جهادياً.
٦. حفظ ماوضعت الشريعة لاجله.
٧. تحصيل الصدقات وأموال الزكاة والخراج والفيء وصرفها في مصارفها الشرعية.
٨. تحري الأمانة في اختيار ارباب المناصب.
٩. اعطاء حقوق الرعية وما يستحقونه في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
١٠. الإشراف المباشر على سير الأمور بين الرعية في كل النواحي الأدارية التي تتعلق بما يصلح أحوالهم (٢).
ومن واجبات الرعية تجاه الحكام:
١ - قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (سورة النساء: آية ٥٩).
وكان المجتمع العثماني شديد السمع والطاعة لحكامه ماداموا ملتزمين بالشريعة؛ لأنهم كانوا على علم بأن طاعة الحكام مقيدة دائماً بطاعة الله ورسوله، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف" (٣).
٢ - النصرة:
كان المجتمع العثماني دائماً يلتف حول حكامه الشرعيين ويلبي دعوة الجهاد ويبذل الغالي والرخيص ويرى ذلك عبادة لله تعالى قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} (سورة المائدة: آية ٢).
.وكان من مفاهيم المجتمع العثماني السائدة عندهم؛ من نصرة الحاكم ألا يهان، ومن معاضدته أن يحترم، وأن يكرّم، فقوامته على الأمة وقيادته لها لإعلاء كلمة الله، تستوجب تبجيله وإجلاله وإكرامه تبجيلاً وإجلالاً وإكراماً لشرع الله سبحانه الذي ينافح ويدافع عنه. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط" (١).
٣ - النصح:
إن المجمتع العثماني كان يناصح ولاة أمره ويرى ذلك من صميم الدين لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدين النصحية -ثلاثاً- قال الصحابة ك لمن يارسول الله؟ قال: لله -عز وجل- ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (٢).
٤ - التقويم:
.لقد استقر في مفهموم المجتمع العثماني أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن استقامة ولاتها، ولذلك نجد في التاريخ العثماني صور مشرفة في تقويم الحكام وأرشادهم ونصحهم، فهذا المولى علاء الدين علي بن أحمد الجمالي المتوفى سنة ٩٣٢هـ، فقد كان عالماً عاملاً يمضي وقته في التلاوة والعبادة والدرس والفتوى، محافظاً على الصلوات الخمس مع الجماعة، وكان كريم النفس، طيب الاخلاق، عظيم المهابة، صدّاعاً بالحق، عفيف اللسان لايذكر أحد بسوء ولعلاء الدين احتساب عظيم مع السلطان سليم خان المتوفى عام ٩٢٦هـ ومن ذلك: أن السلطان سليم أمر بقتل مائة وخمسين من موظفيه، فلما سمع المولى علاء الدين بالأمر ذهب الى الديوان، ولم تكن عادته الحضور الى السلطان إلا لأمر عظيم، فلم يشعر الوزراء وأهل الديوان إلا بدخول الشيخ المفتي عليهم، فوثبوا يستقبلونه حتى أقعدوه في صدر المجلس وقالوا له: أي شيء دعا المولى الى المجيء الى الديوان العالي؟ قال: أريد أن أدخل على السلطان ولي معه كلام، فأستأذنوا له على السلطان، فأذن له وحده فدخل عليه وجلس، وقال: وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وقد سمعت بأنك أمرت بقتل مائة وخمسين رجلاً من أرباب الديوان لايجوز قتلهم شرعاً، فغضب السلطان وكان صاحب حدة، وقال له: لا تتعرض لأمر السلطنة وليس ذلك من وظفيتك، فقال الشيخ: بل أعترض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي، ومهما عشت فإنك ميت ومعروض على الله، وواقف بين يديه للحساب، فإن عفوت فلك النجاة، وإلا فإن أمامك جهنم وعليك عقاب عظيم، ولا يعصمك ملكك ولا ينجيك سلطانك، فما كان من السلطان إلا الاذعان والتسليم أمام نداء الحق من هذا المحتسب، وخضع للحق، وعفا عنهم جميعاً، ثم إن المحتسب لم يكتف بذلك بل طالبه أن يعيد الجميع الى وظائفهم ففعل. رحم الله المولى علاء الدين الذي كان عظيماً باحتسابه جريئاً في الحق لايخشى فيه لومة لائم ولقد تأثر السلطان سليم بهذا العالم وأرسل إليه بعد ذلك وطلب منه أن يكون قاضي العسكر وقال له جمعت لك بين الطرفين لاني تحققت أنك تتكلم بالحق، فكتب إليه وصل اليّ كتابك سلمك الله تعالى وأبقاك وأمرتني بالقضاء وأني أمتثل أمرك إلا أن لي مع الله تعالى عهداً أن لاتصدر عني لفظة حكمت فأحبه السلطان محبة عظيمة (١).
وهكذا سار العثمانيون على المنهج الذي وضعه لهم المؤسس الأول.
.٦ - (ولايغرنك الشيطان بجندك ومالك) (١):
وهذه المعاني يعيشها من فهم القرآن الكريم وتأثر به، وتأمل في سير الانبياء والمرسلين والمصلحين، لأنه يعلم أن التوفيق من الله تعالى وليس بالجند ولا بالمال وهكذا كان موقف يوسف عليه السلام قال تعالى: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} (سورة يوسف: آية ١١٠). وهكذا يناجي يوسف عليه السلام ربه؛ فيقول أصبحت ممكناً في الأرض تشد الي الرحال، وتنصاع لكلمتي الرجال، ورزقتني الفهم وصواب تأويل الرؤى، وتفسير الأحاديث ويرجع الفضل الى صاحب المن والفضل يقول ابن القيم: "جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستسلام للرب وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة غيره سبحانه، وكون الوفاة على الاسلام أجل غايات العبد، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء" (٢).
وهذا ذو القرنين عندما تمّ بناء سدِّه العظيم وكان يملك الجنود والمال ويتحكم في الشعوب بالعدل قال: {هذا رحمة من ربي} (سورة الكهف: آية٩٧). إنها عبارة جميلة مباركة تشير الى عدة معاني:
١ - قال سيد قطب: (ونظر ذو القرنين الى العمل العظيم الذي قام به؛ فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تسكره نشوة القوة والعلم، ولكنه ذكر الله فشكره، ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه ... ) (٣).
إن من أعظم صور الذكر أن يتذكر العبد فضل الله عليه، فيستشعر أن فضل الله عليه عظيم؛ فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر.
وهكذا كانت وصية عثمان لابنه يحذره فيه من الشيطان ومسالكه ومداخله ويدعوه الى الاحتراز من كيده.
٧ - (وأن بالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق، فتحدث مرضات الله جل جلاله) (٤)
إن عثمان الأول -رحمه الله تعالى- كان يرى أن نشر دين الله في كل الآفاق من وسائله الجهاد في سبيل الله تعالى، وأن الغاية العليا للجهاد في سبيل الله هي إعلاء كلمة الله لتحقيق عبادته وحدة لا شريك له كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون - ماأريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون - إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (سورة الذاريات: آية ٥٦،٥٨).
.ومفهوم العبادة شامل لنشاط الاسلام كله ويفسر ذلك قوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له - وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (سورة الأنعام: آية).
ومن أجل هذه الغاية انطلق عثمان الأول بجنوده وشعبه مجاهداً في سبيل الله ولسان حاله يقول ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله ومن ضيق الدنيا الى سعتها ومن جور الأديان الى عدل الاسلام، لقد كانت وسيلة العثمانيين من أجل إقامة حكم الله ونظام الاسلام في الأرض الجهاد في سبيل الله.
وعندما حاولت دول النصارى أن تعمل على منع توسع الدولة العثمانية وباشروا في شن هجموهم عليها كانت وسيلة الجهاد كالصخرة العظيمة التي تتحطم عليه محاولتهم المتكررة وامام قادة العثمانيين قول الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين - واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل} (سورة البقرة: آية ١٩٠ - ١٩٢).
ولقد عمل العثمانيون بهذه النصيحة والوصية، فعملوا على إزالة كل العوائق التي تمنع الناس من سماع دعوة الله تعالى التي جاءت لتعطي الناس أكمل تصور للوجود والحياة وبأرقى نظام لتطويرها.
ولقد جاهدت الدولة العثمانية في سبيل الله تعالى وفتح الله على يديها دول وشعوب لازال الإسلام باقياً فيها حتى الآن مثل دول البلقان وعملت على حماية شعوب المسلمين من هجمات النصارى الغاشمة، فكانت سبباً في بقاء الشمال الأفريقي على اسلامه ودينه وعقيدته، وكانت عاملاً مهماً في حماية الأراضي المقدسة من البرتغاليين ومن دخل تحت لوائهم من النصارى الى غير ذلك من الأعمال الجليلة التي سنفصلها في بحثنا هذا بإذن الله تعالى.
٨ - (من انحرف عن سلالتي عن الحق والعدل حرم من شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأعظم يوم المحشر) (١):
إن عثمان -رحمه الله تعالى - يتبرأ من ممن ينحرف عن الحق والعدل من ذريته ويدعوا من جاء بعده بالتمسك بالحق وإقامة العدل.
إن العدل هو الدعامة الرئيسية في اقامة المجتمع الاسلامي والحكم الرباني؛ فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل ولذلك اهتم الاسلام بتقرير هذه القاعدة وتأسيسها وتدعيمها؛ فأكثر الحديث عنها في الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية ومن هذه النصوص:
(قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} (سورة النحل: آية٩) وأمر الله بفعل كما هو معلوم يقتضي وجوبه.
(قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات الى أهلها واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل .. } (سورة النساء: آية ٥٨).
(وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم أو الوالدين والأقربين ان يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا وان تلوا او تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً} (سورة النساء: آية ١٣٥).
ثم إن ترك العدل يعد ظلماً، والله سبحانه وتعالى حرم الظلم وذم أهله وتوعدهم بالعذاب الشديد يوم القيامة والهلاك في الدنيا (١). قال تعالى: {ولاتحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} (سورة ابراهيم: آية ٤٢).
ومن خلال هذه التوجيهات الربانية حرص عثمان على إقامة العدل بين الناس وعمل أن يكون هذا المبدأ واقعاً تعيشه الأمة العثمانية من بعده حيث وكان يتحرك بجيوشه ويوظف كل إمكاناته من أجل نشر التوحيد وتعريف الناس بخالقهم، ولقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان وكان دستوره في التعامل مع الناس قول الله تعالى: {أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد الى ربه فيعذبه عذاباً نكراً - وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى، وسنقول له من أمرنا يسراً ... } (سورة الكهف: آية ٨٧،٨٨).
ولذلك حرص في وصيته على أن يحكم من بعده بالحق والعدل وفي رواية يقول لابنه في الوصية: (اعدل في جميع شؤونك ... ) (٢).
٩ - (يابني لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد، فنحن بالاسلام نحيا وبالاسلام نموت) (٣)
.إن هذه الفقرة من الوصية تبين طبيعة تكوين الدولة العثمانية عن غيرها من الدول، فالغاية التي قامت من أجلها إنما هي الدفاع عن الاسلام ورفع رايته في مشارق آسيا الصغرى والقضاء على الدولة البيزنطية التي كانت تهدد المسلمين في ديارهم ومن ثم أطلق على زعيم هذه الدولة الناشئة لقب الغازي، أي المجهاد في سبيل الله، وكان يتلقى هذا اللقب في حفل مشهود بتسليم يه راية الجهاد من عالم كبير (١) وأن الغازي عثمان -رحمه الله- دعا المسلمين من الترك وغيرهم لينضموا تحت راية الجهاد في سبيل الله فاستجاب له الكثير من المؤمنين الصابرين تحدوهم جميعاً رغبة شديدة في الانتصار لدين الله بالقضاء على الدولة البيزنطية (٢).
المبحث الثاني
السلطان اورخان بن عثمان
٧٢٦ - ٧٦١هـ/١٣٢٧ - ١٣٦٠م
بعد وفاة عثمان تولى الحكم ابنه أورخان، وسار على نفس سياسة والده في الحكم والفتوحات، وفي عام ٧٢٧هـ الموافق ١٣٢٧هـ سقطت في يده نيقوميديا، وتقع في شمال غرب آسيا الصغرى قرب مدينة اسطنبول وهي مدينة أزميت الحالية، فأنشأ بها أول جامعة عثمانية، وعهد بإدارتها إلى داود القيصري، أحد العلماء العثمانيين الذين درسوا في مصر (١) واهتم ببناء الجيش على أسس عصرية وجعله جيشاً نظامياً (٢).
وحرص السلطان أورخان على تحقيق بشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فتح القسطنطينية ووضع خطة استراتيجية تستهدف إلى محاصرت العاصمة البيزنطية من الغرب والشرق في آن واحد، ولتحقيق ذلك أرسل ابنه وولي عهده "سليمان "لعبور مضيق "الدردنيل "والاستيلاء على بعض المواقع في الناحية الغربية.
وفي عام (٧٥٨هـ) اجتاز سليمان مضيق "الدردنيل "ليلاً مع أربعين رجلاً من فرسان الإسلام ولمّا أدركوا الضفة الغربية، استولوا على الزوارق الرومية الراسية هناك، وعادوا بها إلى الضفة الشرقية، إذ لم يكن للعثمانيين أسطول حينذاك حيث لاتزال دولتهم في بداية تأسيسها، وفي الضفة الشرقية أمر "سليمان "جنوده، أن يركبوا في الزوارق حيث تنقلهم إلى الشاطئ الأوربي حيث فتحوا ميناء قلعة "ترنب "، "وغاليبولي "التي فيها قلعة "جنا قلعة "و "أبسالا ""ورودستو "وكلها تقع على مضيق "الدردنيل "من الجنوب إلى الشمال، وبهذا خطا هذا السلطان خطوة كبيرة استفاد بها من جاء بعده في فتح "القسطنطينية " (٣).
أولاً: تأسيس الجيش الجديد ديني تتارى:
إن من أهم الأعمال التي ترتبط بحياة السلطان أورخان، تأسيسه للجيش الإسلامي وحرص
.على إدخال نظاماً خاصاً للجيش، فقسمه إلى وحدات تتكون كل وحدة من عشرة أشخاص، أو مائة شخص، أو ألف شخص، وخصص خمس الغنائم للانفاق منها على الجيش، وجعله جيشاً دائماً بعد أن كان لايجتمع إلا وقت الحرب، وأنشأ له مراكز خاصة يتم تدريبه فيها (١).
كما أنه أضاف جيشاً آخر عرف بالانكشارية (٢)، شكله من المسلمين الجدد الذين ازداد عددهم بعد اتساع رقعة الدولة وانتصاراتها الكبيرة في حروبها مع أعدائها من غير المسلمين، ودخول أعداد كبيرة من أبناء تلك البلاد المفتوحة في الإسلام، ثم انضمامهم إلى صفوف المجاهدين في سبيل نشر الإسلام، فبعد أن يعتنقوا الإسلام ويتم تربيتهم تربية إسلامية فكرياً وحربياً يعينون في مراكز الجيش المختلفة، وقد قام العلماء والفقهاء مع سلطانهم أورخان بغرس حب الجهاد والذود عن الدين والشوق إلى نصرته أو الشهادة في سبيله وأصبح شعارهم (غازياً أو شهيداً) عندما يذهبون إلى ساحة الوغى (٣).
ولقد زعم معظم المؤرخين الأجانب أن جيش الانكشارية تكون من انتزاع أطفال النصارى من بين أهاليهم ويجبرونهم على اعتناق الإسلام، بموجب نظام أو قانون زعموا أنه كان يدعى بنظام (الدفشرية)، وزعموا أن هذا النظام كان يستند إلى ضريبة إسلامية شرعية أطلقوا عليها اسم "ضريبة الغلمان "وأسموها أحياناً "ضريبة الأبناء "، وهي ضريبة زعموا أنها تبيح للمسلمين العثمانيين أن ينتزعوا خمس عدد أطفال كل مدينة أو قرية نصرانية، باعتبارهم خمس الغنائم التي هي حصة بيت مال المسلمين ومن هؤلاء المؤرخين الأجانب الذين افتروا على الحقيقة، كارل بروكلمان، وجيبونز، وجب (٤)، إن الحقيقة تقول أن نظام الدثرمة المزعوم ليس سوى كذبة دُسَّت على تاريخ أورخان بن عثمان ومراد بن أورخان وانسحبت من بعده على العثمانيين قاطبة، فلم يكن نظام الدثرمة هذا إلا اهتماماً من الدولة العثمانية بالمشردين من الأطفال النصارى الذين تركتهم الحروب المستمرة أيتاماً أو مشردين، فالإسلام الذي تدين الدولة العثمانية به يرفض رفضاً قاطعاً ما يسمى بضريبة الغلمان التي نسبها المغرضون من المؤرخين الأجانب إليها.
.لقد كانت أعداد هائلة من الأطفال فقدوا آبائهم وأمهاتهم بسبب الحروب والمعارك، فاندفع المسلمون العثمانيون إلى احتضان أولئك الأطفال الذين هاموا في طرقات المدن المفتوحة بعد فقدانهم لآبائهم وأمهاتهم وحرصوا على تأمين مستقبل كريم لهم وهل من مستقبل كريم وأمين إلا في الإسلام، أفاءن يحرص المسلمون على أن يعتنق الأطفال المشردون التائهون الإسلام، انبرى المفترون يزعمون أن المسلمين كانوا ينتزعونهم من أحضان آبائهم وأمهاتهم؟؟ ويكرهونهم على الإسلام.
ومن المؤسف أن هذه الفرية الحاقدة، وهذا الإفك المبين، وهذا البهتان العظيم التقفه بعض المؤرخين المسلمين يدرسونه في مدارسهم وجامعاتهم وكأنه أمر مسلم به ويطرح على الطلاب كأنه حقيقة من الحقائق ولقد تأثر بكتب المؤرخين الأجانب مجموعة من المؤرخين المسلمين ومن هؤلاء من يشهد له بالغيرة على الإسلام، فأصبحوا يرددون هذا البهتان في كتبهم من أمثال، المؤرخ محمد فريد بك المحامي في كتابه الدولة العلية العثمانية، والدكتور علي حسون في كتابه، تاريخ الدولة العثمانية، والمؤرخ محمد كرد في كتابه خطط الشام، والدكتور عمر عبد العزيز في كتابه "محاضرات في تاريخ الشعوب الإسلامية "والدكتور عبد الكريم غرايبه في كتاب العرب والأتراك.
الحقيقة تقول كل من ذكر ضريبة الغلمان أو أخذهم بالقوة من ذويهم تحت قانون أخذ خمس أطفال المدن والقرى ليس له دليل إلا كتب المستشرقين، كجب، المؤرخ النصراني سوموفيل، أو بركلمان وهؤلاء لايطمئن إليهم في كتابة التاريخ الإسلامي ولا إلى نواياهم تجاه الإسلام وتاريخ الإسلام.
إن الذين يربون تربية خاصة على الجهاد لم يكونوا نصارى وإنما كانوا أبناء آباء مسلمين انخلعوا عن النصرانية، واهتدوا إلى الإسلام، وشرعوا من أنفسهم وعن طواعية لا عن إكراه، يقدمون أبناءهم للسلطان ليستكمل تربيتهم تربية إسلامية، أما باقي الأطفال فقد كانوا من الأيتام والمشردين الذين أفرزتهم الحروب فاحتضنتهم الدولة العثمانية.
إن حقيقة الجيش الجديد الذي أنشأه أورخان بن عثمان هي تشكيل جيش نظامي يكون دائم الاستعداد والتواجد قريباً منه في حالة الحرب أو السلم على حد سواء، فشكل من فرسان عشيرته ومن مجاهدي النفير الذين كانوا يسارعون لاجابة داعي الجهاد ومن أمراء الروم وعساكرهم الذين دخل الإسلام في قلوبهم، وحسن إسلامهم وما كاد أورخان ينتهي من تنظيم هذا الجيش حتى سارع إلى حيث يقيم العالم المؤمن التقي الحاج بكتاش وطلب. منه أن يدعو لهم خيراً، فتلقاهم العالم المؤمن خير لقاء ووضع يده على رأس أحد الجنود، ودعا لهم الله أن يبيض وجوههم، ويجعل سُيوفهم حادة قاطعة، وأن ينصرهم في كل معركة يخوضونها في سبيل الله ثم مال تجاه أورخان فسأله، هل اتخذت لهذا الجيش اسماً .. ؟ قال: لا، قال: فليكن اسمه "يني جري "وتلفظ "يني تشري "أي الجيش الجديد.
وكانت راية الجيش الجديد من قماش أحمر وسطها هلال، وتحت الهلال صورة لسيف أطلقوا عليه اسم "ذي الفقار "تيمناً بسيف الإمام علي رضي الله عنه (١).
لقد كان علاء الدين بن عثمان أخو أورخان صاحب الفكرة وكان عالماً في الشريعة ومشهور بالزهد والتصوف الصحيح (٢).
وعمل أورخان على زيادة عدد جيشه الجديد بعد أن ازدادت تبعات الجهاد ومناجزة البيزنطيين، فاختار عدداً من شباب الأتراك، وعدداً من شباب البيزنطيين الذين أسلموا وحسن إسلامهم، فضمهم إلى الجيش واهتم اهتماماً كبيراً بتربيتهم تربية إسلامية جهادية.
ولم يلبث الجيش الجديد حتى تزايد عدده، وأصبح يضم آلافاً من المجاهدين في سبيل الله.
لقد كان أورخان وعلاء الدين متفقين على أن الهدف الرئيسي لتشكيل الجيش الجديد، هو مواصلة الجهاد ضد البيزنطيين وفتح المزيد من أراضيهم بهدف نشر الإسلام فيها، والاستفادة من البيزنطيين الذين أسلموا في نشر الإسلام بعد أن يكونوا تلقوا تربية إسلامية جهادية وترسخت في قلوبهم مبادئ الإسلام سلوكاً وجهاداً.
وخلاصة القول، أن السلطان أورخان، لم ينتزع غلاماً نصرانياً واحداً من بيت أبيه، ولم يكره غلاماً نصرانياً واحداً على اعتناق الإسلام، وأن كل ما زعمه بروكلمان وجيب وجببونز، كذب واختلاق، ينبغي أن تزال آثاره من كتب تاريخنا الإسلامي (٣) إن من مقتضيات الأمانة العلمية، والأخوة الإسلامية، تضع في عنق كل مسلم غيور، وخاصة العلماء والمثقفين والمفكرين، والمؤرخين والمدرسين، والباحثين، والإعلاميين، أمانة نسف هذه الفرية ودحض هذه الشبهة التي ألصقت بالعثمانيين وأصبحت كأنها حقيقة لاتقبل النقاش والمراجعة والحوار.
ثانياً: سياسة أورخان الداخلية والخارجية:
كانت غزوات أورخان منصبة على الروم ولكن حدث في سنة (٧٣٦هـ-١٣٣٦م) أن توفي أمير قره سي - وهي إحدى الإمارات التي قامت على أنقاض دولة سلاجقة الروم واختلف ولده من بعده وتنازعا الإمارة. واستفاد أورخان من هذه الفرصة فتدخل في النزاع وانتهى بالإستيلاء على الإمارة وقد كان مما تهدف إليه الدولة العثمانية الناشئة أن ترث دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى وترث ماكانت تملكه واستمر الصراع لذلك بينها وبين الإمارات الأخرى حتى أيام الفاتح حيث تم إخضاع آسيا الصغرى برمتها لسلطانه.
واهتم أورخان بتوطيد أركان دولته وإلى الأعمال الإصلاحية والعمرانية ونظم شؤون الإدارة وقوى الجيش وبنى المساجد وانشأ المعاهد العلمية (١) وأشرف عليها خيرة العلماء والمعلمون وكانوا يحظون بقدر كبير من الاحترام في الدولة، وكانت كل قرية بها مدارسها وكل مدينة بها كليتها التي تعلم النحو والتراكيب اللغوية والمنطق والميتافزيقا وفقه اللغة وعلم الإبداع اللغوي والبلاغة والهندسة والفلك (٢) وبالطبع تحفيظ القرآن وتدريس علومه والسنة والفقه والعقائد.
وهكذا أمضى أورخان بعد استيلائه على إمارة قره سي عشرين سنة دون أن يقوم بأي حروب، بل قضاها في صقل النظم المدنية والعسكرية التي أوجدتها الدولة، وفي تعزيز الأمن الداخلي، وبناء المساجد ورصد الأوقاف عليها وإقامة المنشآت العامة الشاسعة، مما يشهد بعظمة أورخان وتقواه، وحكمته وبعد نظره، فإنه لم يشن الحرب تلو الحرب طمعاً في التوسع وإنما حرص على تعزيز سلطانه في الأراضي التي يتاح له ضمها. وحرص على طبع كل أرض جديدة بطابع الدولة المدني والعسكري والتربوي والثقافي وبذلك تصبح جزءاً لايتجزأ من أملاكهم، بحيث أصبحت أملاك الدولة في آسيا الصغرى متماثلة ومستقرة.
وهذا يدل على فهم واستيعاب أورخان لسنة التدرج في بناء الدول وإقامة الحضارة، وإحياء الشعوب.
وما أن تمّ أورخان البناء الداخلي حتىحدث صراع على الحكم داخل الدولة البيزنطية وطلب الأمبراطور (كونتاكوزينوس) مساعده السلطان أورخان ضد خصمه، فأرسل قوات من العثمانيين لتوطيد النفوذ العثماني في أوربا. وفي عام ١٣٥٨ أصاب زلزال مدن تراقيا.
.