ربما يذكر بعضكم قصة the citadelالتي درسناها في ثانوية عامة. وقد كانت تدور حول فساد نظام الرعاية الصحية في بريطانيا حتي مجيء الحكومة الاشتركية برئاسة كليمينت اتلي الي الحكم بانتخابات خسرها تشرشل رغم انتصاره في الحرب. فقد قامت الحكومة في عام 47 بتاميم النظام الطبي وضمان رعاية صحية لكل مواطن كنوع من التعويض عما عاناه أفراد الشعب جميعا من أهوال الحرب.
وهو نفس ما تحارب امريكا اليوم للحصول عليه وهو نفس ما يتمتع به الألمان منذ نهاية القرن التاسع عشر.
اي ان المقصود هو قضية مجتمعية هامة جدا تتعلق بحياة ومستقبل الشعوب.
ولكن...
ولكن البعد الإجتماعي الذى يشكل الفكرة الأساسية من القصة وهي عرض المظالم التي كان الفقراء ومتوسطو الدخل في المجتمع يتعرضون لها قد غرقت في التفاصيل بحيث أنها اختفت تماما وفهم الطلبة فقط أن القصة إنما تدور أحداثها حول الطبيب الشاب الذى يواجه حالة من الفساد ولا يستطيع إتخاذ قرار بشأنها وفى النهاية يسلك الطريق الصحيح ولا يترك نفسه ليندرج مع هذا الفساد الطبي المالي.
وهذه هي بالضبط مأساة التعليم الذي كانت ثورة يوليو تشرف عليه.
فالقسم العلمي الذي كنا جميعا تقريبا فيه نشأ تعليمه بدون أي مركبة اجتماعية تجعل من خريجيه أعضاءا فاعلين في المجتمع إذ أن فكرة الترابط بين أبناء نفس الوطن كانت غائبة في ذلك التعليم. وجيلنا كان حظه ربما أفضل من حظ من لحقه من أجيال وذلك بسبب التلاحم النسبي بعد هزيمة يونيو وأثناء حروب الاستنزاف ثم حرب أكتوبر التي شهدناها في أول عام من الدراسة الثانوية واستمر حماسها حتي اغتيال الرئيس السادات علي أقصي تقدير أن لم يكن قد توقف في العام الحاسم 1977 بحدثيه الكبيرين انتفاضة يناير في البداية وزيارة القدس في النهاية.
ولكن هذا الحماس العاطفي لا ولم يغن عن أهمية غرس الفكرة الاجتماعية أثناء فترة التعليم سواء كان أساسيا أو ثانويا.
والتعليم في القسم الأدبي لست اعرف عنه الكثير ولكن من الممكن أن أتصور انه لم يكن أفضل حالا فيما يتعلق بالصلة بينه وبين فكرة الترابط.
وهذا الانفصال بين التعليم والمجتمع ليس سببه ماديا حتي لا يتذرع أحد بنقص الموارد.
فالفصل والمقاعد والمدرس يمكن استعمالها بهذه الطريقة أو تلك دون أي تكاليف إضافية.
خذ منهج التاريخ مثلا، فقد كان مليئا بالأحداث التي تدل علي شيء معين، وهو حدوث نهضة شاملة في عهد محمد علي . لكن الخط الدراسي الذى كانت تتبناه الدولة كان ينهي الدرس بالقول إن محمد علي لم يكن يريد مصلحة مصر بل كان يبغي مصلحته الشخصية بإنشاء حكم ملكي وراثي لأبنائه وأسرته!!!!
فجاء التقييم النهائي لتجربة محمد علي سلبيا تماما رغم ما كان فيه من نجاح مدوي. وكانت المقارنة دائما تعقد بين المجتمع الملكى الظالم والمجتمع الإشتراكي الناجح القئم على الكفاية والعدل..
هذا في الوقت الذي كانت طوابير الفراخ والصابون والسكر تمتد أمام كل جمعية وبقال تموين لساعات طويلة في ظل الحكم "الذي يبغي مصلحة مصر"ولا يريد انشاء حكم وراثي!!!
وهكذا نشأ فراغ فكرى بين التعليم والمجتمع ولم يكن من الممكن أن يستمر هذا الفراغ بدون ملء.
وانا شخصيا أذكر أحد الزملاء من رقيقي الحال في مدرستي ممن حاولوا ملء هذا الفراغ بين التعليم والمجتمع.
وفي الجغرافيا مثلا أتذكر جيدا جدا أنني أنهيت دراسة جغرافية مصر في ثانية إعدادي دون أن اعرف أسماء عواصم المحافظات المصرية بينما كنت أعرف جغرافية سوريا والعراق وليبيا واليمن وغيرهم من الدول العربية حيث أن اسم جميع كتب الجغرافيا كان "جغرافية الوطن العربي "ولم يكن هناك وضع خاص لمصر |
وفي أحد أيام تلك السنة سألني ابي رحمه الله عن عاصمة البحيرة فلم أحر جوابا!! فأعاد السؤال عن عاصمة الغربية فوقفت مشدوها. فاعاد نفس السؤال عن المنوفية وكانت الإجابة هز الكتفين !!
ثم جاءت الطامة الكبرى عندما سألني عن عاصمة القليوبية وهي المحافظة التي بها بلدنا الأصلي وارضنا فلم يختلف الوضع في شيء!!!
مع ملاحظة أنني كنت اول الفصل وأحرز نتائج مبهرة في كل المواد بما فيها الجغرافيا طبعا!!!
وكاد الرجل أن يجن الي درجة أنه أشعل سيجارة وهو غير مدخن وكان وقتها في مثل عمرى اليوم بالضبط وقال إنه سوف يذهب في الصباح للقاء ناظر المدرسة لمعرفة الحقيقة لأنه علي ما يبدو شك في صدقي اوفي صحة الشهادات الممتازة التي احضرها الي المنزل!!!
وهنا عند هذه المرحلة الحرجة من العلاقات التربوية تدخلت يد القدر الرحيمة ممثلة في امي التي نجحت في إقناعه أن العيب هو في المناهج حيث أنني اعرف درعا وحمص وكركوك وتعز ووهران وصفاقس والأحساء ولم يفت علي سوى حفر الباطن بالإضافة إلي "بعض"الأسماء الأخرى مثل دمنهور وطنطا والأراضي المقدسة (بنها) وعليه فلا داعي لمقابلة الناظر حيث أنني أجيد ما درسته من جغرافية الاماكن الهامة جدا!!!!
وأظن انه قد قابل الناظر بعد ذلك دون موعد وفاتحه في الأمر لكن الأخير أخبره بعظمة ابنه في مجال الجغرافيا بالإضافة إلي الرياضيات والطبيعة واللغات فسكت ابي واعتبر أن "البلد باظت" فقط دون الحاجة الي مزيد من التدخلات.
والواقع هو أن البلد كانت قد "باظت"فعلا ولكن أحدا لم يتخذ أي إجراء مضاد بما فيهم ابي نفسه!!!
والتربية الوطنية كانت فصلا كاملا من الهزل التعليمي حيث كان الحديث حول تلك الاشتراكية القائمة علي الكفاية والعدل بينما المواطن العادي لا يجد صابون إلا ج11 ولا زيت إلا متسخا ولا سكر إلا بالصراصير ولا خبز إلا بالرمل!!!
فكيف يصدق أي عاقل كلام الكتاب المدرسي؟
وهكذا نشأ لدينا عدد كبير من الأجيال يجيدون العلوم التي ليس لها وطن مثل الرياضة والطبيعة والكيمياء بينما يجهلون علوم الوطن من تاريخ وجغرافيا ونظام المجتمع ومبادئ القانون. وهذه العلوم الأخيرة المرتبطة بالوطن هي ما ينبغي أن يعرفه التلاميذ حتي ينشأ لديهم حس وطني.
وصديقنا في مدرستي الثانوية لم يجد ما يملأ به الفراغ بين التعليم والحياة إلا بالانضمام الي جماعة دينية فأطلق في الصف الثاني الثانوي لحيته وقصر بنطاله وحاول عدة مرات أن يأتي للمدرسة بالجلباب والشبشب ولكن وكيل المدرسة منعه من ذلك..
كان ذلك قبل أن يحدث التنامي الديني أو بمعني أدق التسونامي الديني الذي اكتسح الحياة المصرية في الثمانينات وقلبها رأسا على عقب ملءا للفراغ الذي أشرت إليه سابقا.
وانا شخصيا نشأت في منزل كنت أسمع فيه يوميا أن "البلد باظت"ولكنني لم الحظ أن احدا يقوم بأي مجهود لمنع أو وقف هذا التردي الملحوظ لهم طبعا وليس لي.
ولهذا فما نراه اليوم من فشل ذريع من جانب الصفوة العربية المتعلمة هو حصاد النظام التعليمي الكاذب (تماما كالحمل الكاذب) الذي عرفته أجيال ثورة يوليو سواء فى مصر أو الدول العربية الثورية..
فالتعليم الكاذب pseudoقد طالنا جميعا ولم يستثن أحدنا. ومن استطاع أن يغير ذلك الواقع في نفسه بعد ذلك هم قلة قليلة أعتقد أنكم من أهلها.
ولكن تبقي مشكلة التعليم الفارغ وليس فقط الكاذب هي أعمق أزمة تواجه الأمة العربية في تاريخها الطويل جدا جدا..