تأليف : محمد السويسي
تشكلت هيئة التنسيق الشمالية من الأحزاب والقوى الوطنية والإسلامية وممثلين عن الإدارات الرسمية والنقابات في مدينة طرابلس أثناء الحرب الأهلية بين عامي 1975و1977 ، مع غياب الدولة وانفراط عقد الجيش والقوى الأمنية لسيطرة المليشيات الحزبية على الأرض .
وعندما نشبت الحرب كان رشيد كرامي رئيساً للوزراء فانشغل من موقعه الحكومي في بيروت في محاولات مستميتة ، ذهبت عبثاً ، لمنع استفحال الأزمة والحد من الإقتتال الطائفي الذي طال كل لبنان . ولم يعد إلى طرابلس إلا في العام 1981 بناء لرغبة ملحة من سوريا والقوى الوطنية لترأس هيئة التنسيق الشمالية لتفعيلها ، إذ كان لسوريا ممثلاً فيها برتبة ضابط في المخابرات .
في 23 آب/أغسطس من العام 1982 إنتخب بشير الجميل ، قائد القوات اللبنانية ، رئيساً للجمهورية تحت حراب الإحتلال الإسرائيلي ، فلقي معارضة وعدم اعتراف به من السوريين الذين اعتادوا ان تكون لهم الكلمة الأولى في هذا الإستحقاق الرئاسي ، كما اعتراض رشيد كرامي بشن هجوم لاذع على بشير الجميّل من منصة هيئة التنسيق الشمالية رافضاً الإعتراف برئاسته ، باعتبار أن انتخابه قد حصل بانتقاء وضغط إسرائيلي ، بتجاوز رأي المسلمين أصحاب الشراكة الحقيقية في إنتقائه ، وفق الدستور والميثاق الوطني .
ولم يطل الأمر ، إذ اغتيل الرئيس بشير الجميّل بعد أسابيع من إنتخابه دون ان تعرف الجهة المحرضة على قتله مع تبادل الإتهام بين سوريا وإسرائيل ، ليتم إنتخاب أخيه الشيخ أمين الجميل رئيساً للجمهورية بديلاً عنه بموافقة سوريا ، إلا انه اتٌهم حبيب الشرتوني المنتسب للحزب القومي السوري الإجتماعي بتنفيذ عملية الإغتيال والقي القبض عليه ، ليهرب من سجنه فيما بعد .
وسبب تأخر الرئيس كرامي في العودة لطرابلس لسنوات عدة ، رغم إنتهاء الحرب الأهلية واستقالته من الحكومة ، يعود الى خلافه مع الأحزاب اليسارية في المدينة التي اعتقدت ان غيابه يتيح لها أن تقيم حكم إدارة محلية يتيح لها السلطة والنفوذ بديلاً عن الدولة . لذا أقدمت على تهشيم تمثال عبد الحميد كرامي ، رأس العائلة الكرامية وأحد زعماء الإستقلال ، المنصوب في الساحة الرئيسية لمدخل المدينة بالقرب من السراي الحكومي التي دمروها وأحرقوها مع بدء الأحداث ، بما اغضب الرئيس رشيد كرامي ممتنعاً عن العودة الى مدينته مع هذا الجو المشحون ضده وضد عائلته التي رحلت عن المدينة تجنباً للعنف والتهويل المعادي لها . ولكن تأمين رواتب الموظفين وتأمين المواد الغذائية والخبز والكهرباء و المياه كانت أكبر من قدرات الأحزاب بمجموعها ، لذا اكتفوا بإدارة الأزمة ، والإنضواء تحت جناح الرئيس رشيد كرامي فيما بعد .
إلا أن ترأس رشيد كرامي لهيئة التنسيق أعاد هيبة الدولة وسلطاتها رغم أنه كان قد استقال من منصبه وجاء الرئيس شفيق الوزان مع بداية عهد الرئيس أمين الجميل ، إلا أن العلاقة كانت متوترة بينه وبين رشيد كرامي على خلفية مخاصمته لأخيه الشيخ بشير ورفضه الإعتراف بشرعية إنتخابه . فكان الرئيس كرامي يستعمل من موقعه في هيئة التنسيق التي كان يتراسها يومياً ، منصة إنتقاد قوية ضد تقصير الحكومة بحق مدينة طرابلس .
ظل الخلاف قائماً بين الرئيس سليمان فرنجية منذ حرب السنتين إذ أن الرئيس رشيد كرامي امتنع عن التوقيع على إنزال الجيش لقمع المقاومة الفلسطينية ، على غير رغبة رئيس الجمهورية ، واعتكف في منزله في بيروت لتنشب الحرب الأهلية ومن ثم ليستقيل مع انتخاب أمين الجميل رئيساً للجمهورية وتكليف شفيق الوزان بديلاً عنه .
عمل السوريين جهدهم لجمع سليمان فرنجية ورشيد كرامي على مدى شهور عدة ، إلا أن كل محاولاتهم فشلت ، ولم ينجح الأمر إلا بعد الإجتياح الإسرائيلي الثاني لمدينة بيروت في العام 1982 وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا بإشراف الجنرال أرئيل شارون قائد الحملة العسكرية الإسرائيلية .
عندها اقتضت الظروف توحيد الجهود بين جميع القوى الوطنية في مواجهة العدو الإسرائيلي بما أدى إلى لقاء الرئيسين فرنجية وكرامي بصلحة دائمة لم تنقطع إلا بالوفاة حيث رتب السوريون اللقاء بينهما في منطقة الكشفية التابعة للجيش اللبناني في قضاء البترون على الطريق الساحلي .
ومع تولي الرئيس رشيد كرامي هيئة التنسيق في المدينة بناء لرغبة السوريين والأحزاب والفعاليات عادت عجلة الدولة قوية الى سابق عهدها في تسيير الإدارات التي حازت من الرئيس كرامي إهتمامه الكبير ، إلا ان تعطيل مرافق مدينة طرابلس الرسمية مع إحتلال القوات السورية لها بدءاً من المصفاة والمرفأ حتى المطار والمعرض كان يتنامى ، وكأنهم اخذوا على عاتقهم وفق ممارساتهم تجاهها ، تعطيل مرافق طرابلس الخاصة أيضاً في منطقة البحصاص عند مدخلها الجنوبي ، حيث كانت تضم مصانع الحديد والخشب والزيوت والقطنيات الأهم والأضخم في كل لبنان ، وذلك لمصلحة الإقطاع المالي في سوريا ولبنان ليتم تعطيل آلآف العمال وتشريدهم وبالتالي ضرب إقتصاد المدينة ؛ كما حاولوا التهويل على البنوك الكبرى من خلال الأحزاب التابعة لهم بقصد إغلاقها ، إلا أنه تم تدارك الأمر ووضع حد له لمنع إقفالها .
وكان الرئيس كرامي رغم كل جهوده يقف عاجزاً امام أطماع السوريين في تعطيل هذه المرافق بتفاهم مع الأحزاب اليسارية المتواطئة معهم وفق مصالح ومنافع مشتركة ، إلى حد أن الرئيس كرامي لم يستطع التصدي لمجزرة ارتكبها السوريين بحق أبناء حي التبانة في عتمة الليل شمالي المدينة بحجة أنهم إرهابيين ، فسقط المئات من الأبرياء بين قتلى وجرحى دون ذنب اقترفوه سوى محاولة ظالمة لتطويع المدينة وإرهابها .
وكان السوريون قد استدعوا الرئيس كرامي الى دمشق لمحادثات عاجلة مع الرئيس حافظ الأسد ، حيث احتجزوه إلى حين تحديد موعد له لمقابلته لإبعاده عن مدينته قبل أيام من ارتكاب المجزرة.