الي الذين قرأوا مقال محمود عبد الفضيل حول "العالم اليوم والصراعات الكبري الدائرة"، أضيف هنا مقال سابق لي عما تصوره استراتيجيون امريكيون عن نظام عالمي بقيادة الصين تحت نفس شعار الهيمنة الامريكية وهو ..."وفاق بكين "او اجماع بكين اشارة الي النظام الاقتصادي العالمي .... الخ ... وصراع العولمات الان يتجاوز الاقاليم .. حتي بات الارهاب عولمياً !
«إجماع بكين» أمام «إجماع واشنطن»
تاريخ النشر: الثلاثاء 14 مايو 2013
ظلت الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة، أربعين عاماً بعد الحرب الثانية- ناهيك عن قرون قبلها- حتى بلورت هيمنتها الاقتصادية، بل والسياسية الشاملة على العالم في ثمانينيات القرن العشرين. وعندما استقرت برامج "التكيف الهيكلي"وشروط أو "وصفة"صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية؛ عندئذ سُمَّي ذلك "إجماع واشنطن"، أو قل الخطة الشاملة "لعالم واحد"من كافة الجوانب، حتى العسكرية التي تصورناها سقطت مع الاستعمار التقليدي، ولكنها هنا عادت مع المدرسة "النيوليبرالية"الأميركية، أو ما سمي بالرأسمالية المتوحشة، وصاغ مبادئها العشرة "جون وليامسون"سنة 1989. لكن فجأة، ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، تبزغ قوة شبحية ذات تأثير بالغ في هذا العالم نفسه، وتُجبر قيادته، على تغيير بعض أساليبها بأشكال مختلفة، نتيجة "الحضور"الخاص والمؤثر اقتصادياً وسياسياً... أعني حضور الصين. ولم يكن ذلك بالطابع الصيني المنعزل القديم، حيث كان ترويعها يسمى "التنين الأصفر"و"رهاب الشيوعية"، ولكنه هنا ذلك الحضور الناعم على مستوى القارات الثلاث الكبرى، بل وخارج دائرة الرأسمالية التقليدية. ولكنه بالأساليب الرأسمالية نفسها، ولذا يجري الآن الاتفاق على تسمية ذلك "إجماع بكين"مقابل "إجماع واشنطن".
وفيما تابعته من مصادر، فإن المصطلح قد طرحه الباحث الأميركى "جوشوارامو"عام 2004. والواضح من التعريف به أنه من مدرسة "كيسنجر"صاحب "الاختراق العظيم"إلى الصين أوائل سبعينيات القرن الماضي. ولذا يتحفظ مثقفون صينيون على المصطلح "مؤقتاً"على ما يبدو في تحليلات أمثال "لي زينج" Lixing أو "لي جيباو"، في دراسة موسعة نشرها مركز "كاساس"في كيب تاون حديثاً... وغيرهم مما نشرته لهم مؤسسة "فاهامو"المعروفة في موقع "بامبازوكا"من نيروبي ولندن. وكلها تحت عناوين "الصين وأفريقيا"أو الصين في أفريقيا.
يتفق مجمل المحللين على أن "إجماع بكين"يشكل تحدياً خطيراً لـ"إجماع واشنطن"أميركي الصنع، وركيزة العولمة الحديثة، لأنه يبشر بـ"النموذج الصيني"كنموذج لتنمية بديلة"، وهو ما لا يقبله الغرب، على الأقل لأنه تحت شعار "الخصائص الصينية"التي تضعها الصين للحديث عن "اشتراكية السوق"أو "الرأسمالية الموجهة". وفى تقدير الخائفين من مشروع الهيمنة الجديد أن العولمة لا تقبل بمصطلحات: التقدم - التصنيع- النمو- الكفاءة- التنافسية- العقلنة- الإبداع في الإدارة بديلًا لمصطلحات إجماع واشنطن عن "السوق- التجارة ثم التنمية". وبهذه التعريفات التي أسماها "رامو"نفسه بالعناصر العشرة "لإجماع بكين"... يمهد الفكر الغربي للتنبيه لما خلف الإجراءات الاقتصادية الصينية من "القوة الناعمة"للصين ممثلة في سمعتها التنظيمية، وما بدأت تنتبه له من عناصر ثقافية، وتطوير الخطاب السياسي، بل وما تجده من قبول لدى معظم "النظم الحاكمة"، خاصة الأفريقية التي ترى في إجماع بكين قبولًا بها هي نفسها وإمكان استمرارها، وفى هذا الإطار كانت قفزة أوائل القرن بزيارة الرئيس الصيني لعشر دول أفريقية، وافتتاح عشرات المشروعات الصينية بالقارة.
ويدهش مفكر أفريقي مثل "كويسي براه"- غاني في جنوب أفريقيا- من هذا الاتجاه لأن "الغرب"لا يحق له التعليق على "الحضور الصيني"، وهو الذي استغل واستبعد أفريقيا لعدة قرون، بينما لم تظهر الصين على الساحة الأفريقية إلا منذ بضعة عقود! كما أن الغرب أيد سياسة الحزب الواحد والديكتاتوريات الأفريقية بما فيه الكفاية، وحتى مع ادعاءات مساندة الديمقراطية مؤخراً.
أما المفكرون الصينيون، فيرون أن المفهوم يفرض نفسه تدريجياً رغم عدم سعي الصين لذلك على الأقل في المدى القريب! ويعبر أحدهم "لي زينج"بأنه إذا واصل النموذج الصيني نجاحه. فإن "إجماع بكين"سيواصل نموه. ويبدو أن كاتباً غربياً معروفاً مثل "أريف ديرليك"، قد رأى ذلك أيضاً بقوله إن "إجماع بكين"، ليس في تمكين الصين اقتصادياً فقط، ولكن في قدرته على الحشد لمعارضي "إجماع واشنطن الإمبريالي"!
لابد هنا أن يتعرف القارئ إلى نقاط التأسيس، أو الإغراء في "إجماع بكين"، الذي يهدد وحدة نفوذ العولمة!
دعونا نضع الكثير من النقاط تحت منظار التساؤل، وأحياناً الدهشة. والصين دائماً مدهشة! فالكتابات الصينية المنشورة في كتب أفريقية، ولا نقول في بكين، تشير إلى دولة تقوم على ثلاثية: الجيش -الحزب- الحكومة. لكن هذه الدولة نفسها تتقدم على عناصر أخرى، مثل:
1- قيمة الإبداع وليس "استلام التقدم"من آخر الخيط كما ذكر أحدهم!
2- ضمان ديمومة عملية التنمية، والمساواة وليس مجرد الرفاهية.
3- تنظيم فوضى التوقعات والمخاوف السياسية التي يعانى منها علم الاجتماع الحديث وعلم إدارة الأزمات!
وكذلك الاستقلال الذاتي للمشروعات، أي أنها باختصار تنتقل من الاقتصادوية إلى المجتمعية.
يتحدث الصينيون أكثر في أسباب تقدمهم عن الإصلاح الزراعي كقوة دفع للإنتاج، والدور الكبير الذي تحول لـ"الأسر المعيشية". والملكية الخاصة هنا تصبح أكثر أهمية لتيسير التسويق للمنتج الزراعي، ثم يتحدث عن الإصلاح الاقتصادي الأوسع- بالتدريج أيضاً، وضرورة شعور المواطنين بالعائدات، نتيجة طبيعة اقتصاد "مملوك من الجميع؛ لكنه محكوم من الدولة، ومراقب بالقوانين لضبط آليات السوق، ويقولون صراحة "إن ذلك غير ممكن دون دور فعال لحزب الدولة الصيني لضمان السياسة الكلية وتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي".
وبهذه السياسة "التدريجية"، يمكن الوصول لتعددية على مستوى العالم، وخلق قوة متعددة الأطراف.
"القفزة "الصينية الجديدة تختلف عن قفزتها الكبرى في الخمسينيات، فالسابقة كانت إلى الداخل، أما "القفزة "الجديدة فتتم نحو الخارج بتسارع لافت! قفزة إلى مواقع خطيرة، مثل السودان ودارفور وجنوب السودان ومالي! وقفزات في مواقع شك، مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا وإثيوبيا، وليبيا والمغارب عموماً، ثم قفزات إلى مواقع تاريخية تحدثنا عنها قبلا، في شرقي ووسط أفريقيا...(تنزانيا- الكونغو).
هي قفزات بالفعل مع مطلع القرن الواحد والعشرين تجعل علاقات الصين التجارية مع أفريقيا تقفز من عشرة مليارات دولار عام 2001 إلى 189.5 مليار دولار 2012 وتوقع وصولها إلى 385 مليار عام 2015! مقارناً ذلك ببلوغ تجارة الولايات المتحدة إلى 108.9 مليار فقط عام 2012. ومع ملاحظة أن سعى الصين ليصير "الين"عملة دولية، أمام الدولار بعد أن هاجمت الدولار كبديل للذهب في الاحتياطي العالمي. وأن عدداً متزايداً من البنوك الأفريقية بدأ يتخذ "الين"عملة لاحتياطيها، أو جزءاً منها مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا، سعى البعض لشراء سندات صينية... الخ.
لابد أن ننبه هنا أيضاً أن "الهجوم الصيني"تقابله حملة بعيدة التأثير من تيارات متأثرة بالدعاية الرأسمالية المضادة من جهة، بل وتيارات أخرى تقدمية تخشى من تغيير "التنمية البديلة"المتوقعة إلى عالم "الإمبريالية الاشتراكية"، التي سقطت أيضاً في الاتحاد السوفييتي، بعد ما أبدته من تسلط وحماية لديكتاتوريات معروفة. والحديث يطول بالطبع عن مخاوف من انتشار البضائع الصينية، أو رخص أسعارها المعطل لأي تنمية محلية، أو خلق نفوذ اقتصادي لطبقات اجتماعية سيئة السمعة، ومن رأسمالية "كمبرادورية"بطبعها لا تساند الاستقلال الوطني، الذي كانت تسعى له دائماً "الدول النامية"أو "دول التحرر الوطني"! وكانت الصين الشعبية الاشتراكية تقف إلى جانبها، ثم أن الصين التي تدخل الآن بين قوى العولمة، لم تُبد إلا مؤخراً بعض مواقف التصدي لنفوذ قوى العولمة العسكرية المهيمنة.
ويبقى السؤال الأساسي: كيف يساعد نمو العلاقات مع الصين في إقامة بنية استقلالية حقيقية في بلدان أفريقيا؟! اللافت والمثير أن كثيراً من المثقفين الذين كانوا إلى جانب "الماوية"الثورية مازالوا يتفهمون وضع الصين "العالمي"الجديد، مؤكدين أهمية تطورها الإيجابي لمصلحة توازن القوى العالمي الجديد، مختلفين في ذلك عن المخاوف السائدة في دوائر الأممية الاشتراكية التقليدية.