ولما كانت المدارس التي سوف تعمل بها هذه الفتاة في حال تعيينها هي من المدارس الحكومية التابعة للدولة فإن الزي الذي يدل علي دين معين هو في حقيقته ربط بين مؤسسة من مؤسسات الدولة بالصورة الخارجية لدين معين وذلك في عيون التلاميذ الذين سوف يتصورون أن المدرسة بما تمثله من قيمة تربوية قد تتحول إلي قدوة شخصية وبذلك تصبح المدرسة مجالا للإنحياز إلي دين بعينه ولا يتحقق المقصود من نص المادة المذكورة.
وهذا النظر لا يقتصر فقط على الإسلام بل أنه يشمل المسيحية أيضا إذ أن المحكمة الدستورية الإتحادية كانت قد حكمت في منتصف التسعينات بإزالة التمثال الخشبي للمسيح المصلوب من كافة فصول المدارس الحكومية وذلك بعد أن رفع أحد الآباء دعوي يطالب فيها بالإزالة لأنه يمثل إنحيازا من المدرسة تجاه دين بعينه وكان ذلك في ولاية بافاريا المعروف عنها إرتباطها بالمذهب الكاثوليكي.وقد نجح في دعواه وحصل بالفعل علي حكم بالإزالة ولكنه لم ينفذ بسبب قيام تظاهرات شعبية تعترض علي الحكم وبالتالي تقاعست الشرطة عن تنفيذه. كما أن المتقدمين للوظائف العامة وخصوصا التعليمي منها يستبعدون لو عرفت عنهم ميول شيوعية أو فاشية أو تخريبية أو غير متفقة مع القيم العامة للمجتمع كما أسلفت، أي أنه هناك سوابق علي إستبعاد أشخاص آخرين من وظائف التعليم ولا علاقة لهم بالإسلام..
وفي حالة الإسلام في هذه الدعوي فإن التساوي بين الأجناس مثلا هو من نقاط عدم التلاقي بين القيم الديموقراطية والقيم الإسلامية، أو الحرية المتاحة في الأمور الجنسية أو الحظر علي أفكار معينة أو الدخول في مناقشة المعتقدات الغيبية أو الخروج من الدين الإسلامي إلخ. كذلك فإن عقوبة الإعدام التي تنظمها أحكام الشريعة الإسلامية فى بعض الحالات تقف في تعارض واضح مع الإلغاء الكامل لتلك العقوبة في نص المادة 102 من الدستور الألماني..
نظرت المحكمة الدستورية الإتحادية الدعوي وكانت لها وقفة ينبغي دراستها تفصيلا علي ضوء قراءة مقاطع من الحكم.. فإلي الحكم..
كانت وجهتا النظر السابق عرضهما هما المتنازعتان أمام المحكمة، نص قانون تنظيم عمل وتعيين وحقوق موظفي الدولة (الإخلاص للدستور ولقيم الحرية والديموقراطية كشرط من شروط التعيين) ونص الدستور الالماني سواء في في المادة 33 (الحق في تولي الوظائف العامة) والمادة 4 (ممارسة حرية الإعتقاد بشقيها السلبي للتلاميذ والإيجابي للمعلمة). فالمادة 4 تنص علي أن حرية الإعتقاد والضمير والتفكير سواء منه الديني أو الدنيوي لا تمس، وكذلك تنص علي أن ممارسة الشعائر الدينية لا مساس بها وذلك بضمان الدولة.
وكانت أول نقطة في تحليل الموقف هي التقرير إن كان إرتداء الحجاب هو أمر من صلب الدين الإسلامي أم لا؟ قالت المحكمة أن هذا الأمر لا وزن له في الدعوي لأن السيدة لها الحق في إرتداء الحجاب تحت أي مسمي سواء كان دينيا أو دنيويا. أما محل الدعوي هو المفاضلة بين النصوص لتغليب أحد النظرين علي الآخر.
ثم إنتقلت المحكمة بعد ذلك إلي حق الآباء في تنشئة أطفالهم علي نهج من الفكر الذي يراه الآباء متوافقا مع أفكارهم وطريقة نظرهم للحياة والقيم. وهذا الحق منصوص عليه في المادة 6 من الدستور. وقد رأت المحكمة أن قيام مدرسة مسلمة ترتدي حجابا ظاهرا بالتدريس لأطفال هو مما يعطل حرية الآباء في إختيار نوع الفكر الذي يحكم وينظم تربية عقول وارواح هؤلاء الأطفال، وهذا هو ما يطلق عليه الفقه تعبير "الحرية السلبية"أو حرية المتلقي (التلاميذ) في عدم التأثير عليهم بما لا يتفق وقناعات أهلهم.
وبعد ذلك إنتقلت المحكمة إلي تحليل محتوي "الحرية الإيجابية"فقالت في حكمها أن الفتاة تمارس حقا في التعبير عن إنتمائها لدين معين وهو ما يندرج تحت المادة 4 من الدستور لأن ممارسة الشعائر والطقوس الدينية مضمونة من الدولة ولذلك فهي لم ترتكب ما يسيء إلي أي شخص. وبذلك وقفت المحكمة موقفا علي الأقل محايد تجاه الحجاب.
ولكن..
ولكن هناك نصوص قانون تنظيم عمل وتعيين وحقوق الموظفين العاملين في ولاية بادن فرتمبرج، وهذه لا يجب أن تغفلها المحكمة فما هي طريقة حل هذه المعضلة؟
ذكرت المحكمة أن إستناد اللجنة إلي قانون موظفي ولاية بادن فرتمبرج هو إستناد صحيح ولا غبار عليه، ولكن في نطاق دولة القانون وإعمالا للتعريف الذى ذكر في البداية فلابد أن يكون القانون الذي تستند إليه الولاية في قراراتها الإدارية (مثل قرارات قبول ورفض تعيين الموظفين) قانونا واضحا ومحددا بدقة. وقالت المحكمة أن نص إحترام الدستور والإخلاص للقيم الدستورية من حرية وديموقراطية لا يعد نصا كافيا لكي يفسر علي أساسه حظر حجاب النساء المسلمات، بل علي مشرع الولاية (برلمان ولاية بادن فرتمبرج) أن يحدد في قانونه الخاص صور الحظر وأسبابها حيث أن الأصل في الأشياء هو الإباحة والإستثناء هو المنع، وعلي ذلكلابد أن يأتي المنع من خلال نص قانونيوإلا إعتبر رفض تعيين الفتاة المحجبة رفضا تعسفيا لا يصح له أن يكون في دولة تحترم القانون وتسمي نفسها دولة سيادة حكمه.
وعلي ذلك حكمت المحكمة بإلغاء قرار اللجنة الرافض لتعيين المعلمة المسلمة لأنه لا يستند إلي صحيح القانون بسبب عدم وجود نص يحظر ذلك.
وتم تعيين الفتاة المسلمة بحكم محكمة ألمانية في دولة تحترم القانون.
ومعني ذلك هو أن الآباء الذين لا يريدون لأطفالهم أن يتلقوا تعليما علي يد إمرأة محجبة عليهم أن يبحثوا لأبنائهم عن مكان آخر غير هذه المدرسة !!
وبهذه المناسبة فقد إلتقطت ولاية أخري هي ولاية بريمن طرف الخيط وقام البرلمان فيها بإعداد وإصدار قانون للموظفين في مجال التعليم بالذات يقضي بحظر الحجاب للنساء في مجال الوظيفة العامة من العاملات بالتعليم وضمنه في قانون المدارس، وبذلك لا يمكن للمحجبة أن تعمل في وظيفة عامة بالتعليم في ولاية (مدينة) بريمن ولا يمكن لحكم المحكمة الدستورية في ولاية بادن فرتمبرج أن يجد له تطبيقا في ولاية بريمن بسبب إختلاف الوضع القانوني بين الولايتين. أما الموظفة الأفغانية بطلة القصة فلا يمكن فصلها حتي لو تغير القانون في ولايتها حيث أن الأثر الرجعي ممنوع، وهو مبدأ آخر من مبادىء الدستور في دولة من دول حكم القانون..
صدر هذا الحكم التاريخي في عام 2003.
رفعت الجلسة..