داعش فون أوبنهايم
كان ماكس فون أوبنهايم باحثا في الآثار القديمة ومهتما بالشرق وحضاراته الزائلة.
وقد كان من عائلة أوبنهايم المالية اليهودية في كولن بغرب ألمانيا إذ أن والده كان سالومون أوبنهايم صاحب بنك S. Oppenheimالمعروف حتي اليوم.
ولكنه كان في نفس الوقت النظير المقابل للضابط البريطاني توماس لورنس الذي أرسلته بريطانيا غداة قيام الحرب لكي يؤلب القبائل العربية علي العثمانيين ويدمر خط سكك حديد الحجاز لمنع نقل القوات العثمانية.
وكانت خطة ماكس فون أوبنهايم هي إعلان الجهاد بين المسلمين في الشام والعراق لكي تنتصر الدولة العثمانية بقوة هذا الجهاد الذي يمارسه العرب. بينما كانت خطة إنجلترا هي سلخ المناطق العربية عن تركيا بإشعال الثورات ضد السلطان العثماني (الذي كان علي كل حال مجرد صورة لا حول لها ولا قوة إذ كانت السلطة الحقيقية في يد الضباط الثلاثة أنور وطلعت وجمال).
وبالطبع فشلت خطة الجهاد ونجحت خطة القومية العربية واندحرت الدولة العثمانية حليفة ألمانيا في الحرب ثم إندحرت بعدها المانيا نفسها وأصبح الأمر مجرد حكايات تاريخية.
ولكن..
ماالذي ظل باقيا من خطة ماكس فون أوبنهايم حتي اليوم؟
كنت قد كتبت لكم من قبل عن تطور فكرة الدولة القومية خلال القرن التاسع عشر علي الأقل في أوروبا والولايات المتحدة التي كانت تشجع ثورات اللاتين ضد الإستعمار الإسباني وكلنا نذكر خطاب الرئيس مونرو في حالة الإتحاد حين طالب بأن تكون أمريكا للأمريكيين وذلك مبكرا في عام 1823. وهي نفس الفترة التي قامت فيها حركة قومية في اليونان ضد العثمانيين وساهم الجيش المصري في محاولة إخمادها إلي جانب الجيش العثماني ولم ينل المصريين منها سوي الهزيمة النكراء وحرق أسطولهم وتشتيت جيشهم في موقعة نفارين عام 1827. وكان مؤسس هذه الحركة القومية هو ريجاس فاليستينليس من منطقة فالستين في شمال اليونان والذي إستلهم الدستور الفرنسي بل ونشيد الميرسييز الفرنسي وجعله نشيدا قوميا لليونان ولكنه لم ير ثمرة نجاحه إذ قتله الأتراك.
المهم أن تلك الحركة القومية تبعتها حركات أخري أوروبية في كل من إيطاليا التي حققت وحدتها عام 1859 وبلجيكا الكاثوليكية التي إنفصلت عن هولندا البروتستانتية عام 1830 وألمانيا التي حققت وحدتها عام 1871 وتبعتها محاولات إيرلندا التي إمتدت حتي مؤتمر الصلح في فرساي عام 1919.
المهم في كل ذلك أنه قد نشأت نظريتان أثناء الحرب العالمية الأولي للحصول علي التأييد المطلوب من المنطقة التي أصبحت تنتج المادة الوحيدة التي تصلح وقودا للآلات الحربية الحديثة، البترول.
كانت النظرية البريطانية تقول بأن هذه الشعوب العربية مظلومة ومهضوم حقها بسبب القهر التركي للعرب وعلي ذلك لابد من نقل الافكار الجديدة عن الدولة القومية إلي هذه المنطقة. وهكذا ظهرت الحركات القومية وكان أولها تطبيقا في مصر.
وكانت هناك النظرية الأخري التي تتبناها ألمانيا والتي تري أن الحفاظ علي الدول المتعددة القوميات (كالنمسا مثلا أو روسيا) لا يكون إلا بعنصر الدين.
وقد حدث أن زار القيصر الالماني الآستانة عام 1898 في طريقه لأداء زيارة الاراضي المقدسة في أورشليم وأعلن أن الإمبراطورية الألمانية تعد نفسها صديقة للعقيدة الإسلامية وللسلطان العثماني.
وكانت الدولة العثمانية تعتمد في معظم سياستها الخارجية علي نصيحة وإرشاد إنجلترا خصوصا في فترة حكم الملكة فكتوريا التي إتسعت في عهدها أملاك بريطانيا إلي الحد الاقصي في تاريخها. وكانت الدولة العثمانية تحاول التلاعب علي التناقض القائم بين السياستين البريطانية والفرنسية حيث أنهما كانتا الدولتين الوحيدتين من ذوات الإهتمام الستراتيجي العالمي.
إلا أن توحيد الإمارات الألمانية في دولة واحدة عام 1871 قد خلق قوة أوروبية صتاعية ذات وزن سكاني وإقتصادي هائل مما قلب الموازين السارية وأفضي إلي تقارب فرنسا مع بريطانيا تقاربا وصل إلي منتهاه في الإتفاق الودي المنعقد بينهما عام 1904. وهذا الإتفاق الودي دفع الدولة العثمانية إلي تغيير ستراتيجيتها بحيث إقترب حكام الدولة الجدد من الضباط العثمانيين من الدولة الألمانية المحكومة بالطريقة التقليدية التي تناسب فكرهم وليس من فرنسا وبريطانيا المحكومتين بالديموقراطية.
وكان قيصر روسيا في منتصف القرن التاسع عشر قد صرح لسفير فرنسا بأن الدولة العثمانية هي الرجل المريض علي البوسفور، وهو مصطلح كان له الرواج وقتها فأصبح التسابق الإستعماري يجري علي الأملاك المفككة خارج القارة الأوروبية حيث أنها كانت قد فقدت كل أملاكها الأوروبية. أي أن التسابق كان علي الشرق الأوسط بالذات.
ومنطقة شرق الشام ما بين العراق حاليا وسوريا حاليا هي منطقة قلاقل وفتن نظرا لتعدد الأعراق والمذاهب، خلافا لمصر التي لا تعرف هذه المذهبية الشديدة والقبلية العالية. وكانت نفس هذه المنطقة قد شهدت كل الأحداث الهامة في التاريخ سواء الممتد الطويل أو الإسلامي الاقصر.
ومنطقة داعش اليوم هي نفسها منطقة نهر الزاب التي جرت علي ارضها معركة إنهاء الخلافة الأموية وانتصار الخلافة العباسية منذ حوالي 1300 عام.
وأظنها كانت الطريق الذي مشي عليه التتار في زحفهم علي مصر عقب سقوط بغداد. والسبب في كثرة الحروب هناك هو كما ذكرت التعدد العرقي والديني والقبلي.
والسيد توماس لورانس البريطاني كان من دارسي اللغة العربية والثقافة والتاريخ العربي. والسيد ماكس فون أوبنهايم كان أيضا كذلك.
ومن الغريب أن الساسة المصريين عندما تم توقيع الإتفاق الودي Entente cordialeهاجوا وماجوا وأرغوا وأزبدوا وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها وعلي رأسهم مصطفي كامل الذي كان يعقد الآمال الطوال علي مساندة فرنسية. وقد جاء ذلك الغضب وذلك لعلمهم أن إتفاق القوتين الكبيرتين في ذلك الزمان لن تكون نتيجته في صالح القوي الصغيرة مثل مصر. (وقع وضع مشابه لذلك عام 1990 عندما إنهار الإتحاد السوفيتي وأنهي المعسكر الغربي الحرب الباردة بالحسم لصالحه فتاهت كثير من الدول التي كانت تستند إلي الدولة الكبري التي سقطت). بل أن جيلنا في دروس التاريخ في المدرسة الإعدادية قد تعلم أن الإتفاق الودي كان إتفاقا علي مصر !!!
والحقيقة أن هذا الإتفاق كان مناط إنعقاده هو مواجهة الثقل الألماني الصناعي العسكري الإقتصادي المالي الذي كان يخيف كل من إنجلترا وفرنسا علي السواء. وفي تلك الفترة أنشىء خط سكك حديد الحجاز الذي يصل تركيا بالعراق والشام ومنه تفريعة متجهة إلي فلسطين والقدس مما يجعل مصر أيضا متصلة بتركيا والعراق والشام بخط واحد. وكان المشروع بتمويل من الدويتشه بنك وبمعدات ألمانية. وبريطانيا لم تكن أبدا راضية عن إنشاء هذا الخط منذ البداية وكان أول ما قامت به في الحرب الأولي هو تحطيمه في عدة نقاط حتي يصبح بلا قيمة عسكرية وقد عرفنا كيف كانت توجيهات وزارة الحرب البريطانية إلي قنصل بريطانيا في القدس إذ طلبوا منه العمل علي جعل مسار الخط قريبا من ساحل البحر في فلسطين حتي يكون في مرمي مدافع الأسطول البريطاني لو أريد تدميره في حرب قادمة!!