هناك قضية هامة جدا تتعلق بمسئولية المرؤوسين عن أعمالهم في حالات الأوامر الخاطئة الصادرة من الرؤساء وهي قضية غرق السفينة فكتوريا أمام سواحل لبنان منذ 120 عاما بسبب تنفيذ أمر خاطئ.
البحرية البريطانية هي فخر البلاد وسبب مجدها وهي ما تعتمد عليها بريطانيا العظمي منذ موقعة الارمادا عام 1588 وحتي يومنا هذا في عام 1893. وادميرال البحرية هو من كبار الشخصيات البريطانية قاطبة حيث لا ينعقد لواء قيادتها إلا للممتازين من الضباط أصحاب الخبرة العريضة والانضباط الكامل.
وتقاليد البحرية التي وضعت بقانون ينظمها منذ عام 1642 عقب الهزيمة المهينة علي يد الهولنديين هي تقاليد صارمة لا هوادة في تنفيذها.
وفي نهاية القرن التاسع عشر كانت سفن الأسطول البريطاني قد تحولت الي البخار بدلا من الشراع وأصبح مبناها من الحديد بدلا من الخشب. وهذا التحول جعل التصادم بين السفن يتحول الي كوارث حيث أن تصادم الحديد يتسبب في شق السفينة الاخري كما يشق السكين قطعة من الجبن، ناهيك عن قوة الدفع الهائلة التي تنتج عن المروحة التى تدار بالمحرك البخارى (وهذه المروحة هي اختراع نمساوي من منتصف القرن التاسع عشر).
Si Vis Pacem Para Bullem
هي عبارة لاتينية تعني "أن كنت تنشد السلام فكن مستعدا للحرب".
وانجلترا كانت في تلك الفترة تروج لمقولة pax britannica أي أن العالم يعيش حقبة من السلام المستقر في ربوعه بسبب رعاية انجلترا لشئون هذا العالم.
وهل توجد وسيلة لحفظ السلام العالمي علي الطريقة البريطانية أفضل من أسطول قوى منتشر يحفظ هذا السلام ويردع كل من يهدده؟
والادميرال جورج تايرون كان نائب رئيس البحرية الملكية في يومنا هذا من عام 1892 وكان مقر قيادة الأسطول علي سطح السفينة فكتوريا التي كان تايرون يستقلها
وقد أراد سيادته إجراء مناورة أمام ساحل لبنان فأمر باصطفاف السفن في صفين متوازيين يسيران في ذات الاتجاه. ولم يكن اللاسلكي قد اخترع بعد فكان التخاطب بين السفن يتم عن طريق لغة الرايات التى ترفع وتخفض بطريقة متفق عليها هي شفرة بين قطع الأسطول.
وهكذا تشكل الصفان المتوازيان علي رأس الصف الأول السفينة فكتوريا وعلي رأس الصف الثاني السفينة كامبرداون برئاسة القبطان ماركهام.
ثم أمر الادميرال الكابتن بيرك قائد السفينة فكتوريا بأن يبلغ باقي السفن أن تدور 180 درجة واحدة بعد الاخري الي الداخل في نفس الوقت.
وقد لاحظ ماركهام أن المسافة الفاصلة بين الصفين لا تتعدي 1000 متر وهي غير كافية لإتمام دورة 180 درجة لسفينتين موازين في نفس الوقت فلم ينفذ الأمر فورا. وهنا لاحظ الادميرال تايرون تأخره فأمر بيرك أن يرسل له إشارة تقول "ماذا تنتظر "؟ ففعل بيرك ذلك مما جعل ميركهام ينفذ الأمر ويبدأ في الاستدارة.
وقد قام بيرك بلفت نظر الادميرال الي قصر المسافة الفاصلة بين الصفين إلا أن الأخير أصر علي تنفيذ أمره كما هو.
وهكذا تكاملت عناصر المأساة ودخلت السفينة كامبرداون بمقدمتها الحديدية المصفحة بسمك 470 مم أي نصف متر تسليح في جانب السفينة فكتوريا وشقتها شقا مفاجئا نتج عنه ثقب هائل في مقدمتها جعلها تغرق واقفة علي مقدمتها راسيا مع بقاء المروحتين في حالة دوران في الهواء.
ونتج عن هذا التصادم موت فورى ل 358 بحارا علي ظهر فكتوريا من ضمنهم مصدر الأمر الادميرال تايرون الذي قال لمن حوله قبل الموت مباشرة "الخطأ كله خطاي وحدي". وبالطبع فهذه كارثة محيقة بأكبر أسطول في العالم وقتها ووصمة عار علي جبين الإمبراطورية البحرية الهائلة فكان أن عقدت محاكمة عسكرية لكل من قبل فكتوريا وقبطان كامبرداون ولم تعقد في لندن وإنما في مالطا
وقف القبطانان وضباط الإشارة أمام المحكمة واتفقوا جميعا علي وضوح الأمر الصادر من الرئيس الأعلي بتنفيذ المناورة بهذه الطريقة. واتفقوا أيضا علي انهم كانوا يعلمون أن خطر التصادم متواجد بسبب قصر المسافة الفاصلة.
واتفقوا علي انهم ابلغوا الادميرال بتلك المعلومات وقال ميركهام انه تردد في تنفيذ الأمر لخوفه من التصادم وشهد معه ضباط فكتوريا علي صحة الواقعة.
أصبح السؤال هل كان له أن يعصي أمرا عسكريا ينافي العقل والمنطق ويهدد حياة الجنود أم أن التنفيذ يسبق التفكير؟
وهذا كان لب وجوهر القضية. بماذا تحكم لو أنك أنت القاضى؟
هؤلاء متهمون بتنفيذ أوامر تتعارض مع صريح العلم البحري والخبرة التي يعرفونها حق المعرفة. ونتج عن نصرفهم هذا موت 358 شخص بريء تماما بالإضافة إلي الخسائر المادية الهائلة والخسائر الأدبية. وهم يدفعون باطاعة الأوامر.
إنقسم الناس بالطبع حول هذا الأمر وبدأت الصحافة فى الهجوم على التساهل والإهمال ولهذا قررت البحرية عقد المحاكمة فى مالطا كما أسلفت حيث أنه فى ذلك الزمان لم يكن السفر هكذا متيسرا مثل اليوم. وقد قدم الناجون من السفينة فكتوريا للمحاكمة بتهمة عدم المحافظة على معدتهم وتعريضها للخطر والغرق وكذلك تعريض حياة 358 بحارا وضابطا للموت.
ويروى أن الملكة فكتوريا نفسها والتى كانت السفينة تحمل إسمها قد قالت فى حديث خاص (لأنه ليس من حقها أن تبدى رأيا لا فى السياسة ولا فى أمور القضاء) أنها ترى أن ماركهام غير مخطىء لأنه نفذ الأمر الصادر إليه وهذا هو الواجب على كل عسكرى بدون مناقشة ولا تأخير.
أما الكابتن ماركهام فقد وجت إليه عبارة لوم فى منطوق الحكم لأنه نفذ الأمر بدون أن يوضح وجهة نظره لرئيسه ولكنه لم يخطىء فى كل ما حدث.
وفى النهاية خرج الجميع بالبراءة حيث أن الخطأ كان خطأ المرحوم الأدميرال تايرون الذى غرق مع السفينة.
وهكذا يسمو الأمر العسكرى على العقل والمنطق فلا مناقشة فى أمر عسكرى بل لابد له من التنفيذ على مقتضى الأصول العسكرية.
على أنه ينبغى القول أن البحرية البريطانية لم تكن دائما هكذا تقدمية ومعاصرة بل على العكس جاءت فترة كانت فيها جامدة التفكير غير مرنة إطلاقا.
والذى طورها وحدث عقيدتها هو الأدميرال جاكى فيشر الذى كانت الإستعدادات البحرية الألمانية فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تسبب له إزعاجا شديدا مما جعله يضع خطة تحديث الأسطول حتى من قبل أن يصبح قائدا للبحرية. وهذا الرجل عانى فى حياته الوظيفية من جمود العقلية الحاكمة فى البحرية إذ أنه كان قائدا لإحدى السفن الحديثة البخارية فى أوائل ثمانينات القرن التاسع عشر وعندما حضرت لجنة التفتيش على سفينته لم يمر التفتيش بسلام رغم الإستعداد والتجهيز التكنولوجى الهائل الذى كان فيشر يحشده. والسبب الذى من أجله لم ينجح فيشر يوضح بجلاء جمود العقلية البحرية فى ذلك الوقت.
فقد أرادت اللجنة إختبار البحارة فى طريقة فرد ولم الشراع القماش حيث أن السفينة رغم أنها بخارية إلى أنه كان لها صاريان عاليان حسب التقاليد المعمول بها. ولما لاحظ أعضاء اللجنة أن البحارة لا يعرفون كثيرا عن فن إستعمال الريح فى تحريك السفن حكموا عليها بالرسوب فى الإختبار. وكانت الكلمة الشهيرة أن البحارة الذين لا يعرفون كيف يستخدمون الريح هم ليسوا بحارة !!!
واشتهرت وقتها عبارة أنه قديما عندما كانت السفن من الخشب كان الرجال من الحديد.
والآن قد أصبحت السفن من الحديد فتحول الرجال إلى خشب !!!
وفيشر هذا هو الذى ساعد إنجلترا على كسب الحرب العالمية الأولى حيث أنه لولا تحديثاته لما إستطاعت البحرية البريطانية أن تقف ندا للبحرية الألمانية الصاعدة والحديثة للغاية فى ذلك الوقت. وفى تلك الفترة أيضا بدأ التحول من البخار الذى ينتج عن حرق الفحم إلى البترول الذى يسهل نقله وتخزينه ويمكن الحصول عليه فى كثير من موانىء الإمبراطورية.