عندما قام الإمبراطور شين شيوانجدى بتوحيد كل أقاليم الصين تحت إمرته بالحرب والقوة العسكرية الطاحنة لكل من عاداه فى بدايات القرن الثالث قبل الميلاد كان أول ما قام به عقب هذا التوحيد هو توحيد مقاييس الطول والوزن لكل هذه الأقاليم كما قام بتوحيد اللغة وطريقة الكتابة التى قام بتعليم الموظفين علي أساس من هذه اللغة وكان هو منشىء الصين الموحدة التى سميت على إسمه (شين).
والحقيقة أن هذا الدرس هو ما وعاه العالم فيما بعد إذ أنه تيقن أن وجود نظام موحد للمقاييس هو الوسيلة الوحيدة لتحرير التجارة وتسهيل نقل البضائع.
ولو ألقى المرء اليوم نظرة واحدة على عالم اليوم لفهم فورا أهمية الوحدات والمقاييس ولغة التخاطب.
فالوحدات هى المتر فى الطول والكيلو فى الوزن والساعة فى الزمن والتقويم هو التقويم الجريجورى وطريقة تسجيل كل العلوم من كيمياء وطبيعة ورياضيات وطب هى كلها ذات أساس تم وضعه من قبل الأوروبيين. واللغة المستعملة عالميا هى لغة أوروبية والأبجدية المفهومة للكل هى أبجدية أوروبية وخطوط الطول والعرض مرجعيتها أوروبية إنجليزية مما يترتب عليه أن تكون الثقافة السائدة فى كل العالم هى الثقافة الأوروبية سواء فى الفن والأدب وجوانب الحياة جميعها.
وهذه هى المركزية الأوروبية التى باتت تحكم العالم منذ أكثر من 400 عام.
بل أن مقاييس الجمال هى فى حقيقتها مقاييس أوروبية بيضاء شقراء وطريقة تفصيل الملابس والموضة وبناء المساكن هى جميعها طرق أوروبية.
وسرعان ما تطور ذلك إلي مدرسة فكرية سياسية تري أن مركز الحضارة في العالم بأسره هو أوروبا التي تقوم وحدها بوضع القواعد التي يسير عليها العالم طوعا أو غصبا. فالرياضات أغلبها أوروبية المنشأ والموسيقى كذلك والسينما ووسائل الترفيه وكل ما يحيط بحياة الإنسان منذ أكثر من 200 عام هو من المخترعات الأوروبية. وفكرة العملة الورقية وفكرة البورصة وكل الأفكار الاقتصادية الحديثة مصدرها هي تلك القارة الصغيرة الضيقة علي سكانها المحاربة دائما بين شعوبها.
والقانون مصدره القانون الروماني أو الجرماني. بل إن الدين المسيحى أصبح مركزه روما رغم أنه منتج شرق أوسطي.
كما نتج عن ذلك أيضا أن صراعات أوروبا أضحت صراعات تخص العالم أجمع ولا تقتصر على تلك القارة. إذ أنه منذ أن نجح الأوروبيون سواء إسبان أو برتغال أو فرنسيون أو هولنديون أو إنجليز، منذ أن نجح هؤلاء فى إخضاع شعوب قارات العالم الجديد فى الأمريكتين وأستراليا إتسع نطاق الثروات المتنواجدة فى االحيازة الأوروبية إتساعا هائلا بحيث تضاعفت الثروة إلى أكثر من مائة مرة حتى وإن قامت الثورات فيما بعد فى تلك البلاد سواء فى الشمال الأمريكى أو فى الجنوب فقد ظلت القارة الأوروبية بما لها من تأثير ثقافى هائل هى مركز العالم. وبالتالى كان الإخلال بالتوازن القائم فى هذا المركز الهام والوحيد سببا لحروب عانت فيها كل البشرية. والحرب العالمية الأولى هى حرب أوروبية بين صربيا مستندة إلى روسيا والنمسا مستندة إلى ألمانيا. والحرب العالمية الثانية هى حرب أوروبية بين ألمانيا معتدية على بولندا وإنجلترا التى أعطت ضمانات لاستقلال تلك الدولة قبل الغزو بقليل. إلا أن عواقب تلك الحرب طالت البشرية كلها ومن الملاحظ أن جميع الدول كانت مضطرة قسرا لأن تتخذ موقفا إزاء هذا الطرف أو ذاك.
والحرب الباردة التى إستمرت 40 عاما هى فى حقيقتها صراع للسيطرة على أوروبا وكانت مدينة برلين هى الرمز لذلك الصراع حيث قسمت إلى قسمين مثلها مثل أكبر تجمع سكانى فى أوروبا وهو ألمانيا التى كانت أيضا منقسمة إلى قسمين.
ومدينة لندن تعد اليوم ومنذ أكثر من قرنين من الزمان هى عاصمة العالم الإقتصادية والثقافية.
ونشأ عن ذلك ايضا شعور بالتفوق العنصرى لدى الأوروبيين على غيرهم. والحقيقة أن هذا التفوق العنصرى هو شعور كان يراود أهل روما القديمة حيث كانوا يعتبرون الشعوب الأخرى إما عبيد أو أجانب مستسلمة Dediticii وهم فى الحالتين أحقر شأنا وأقل حقوقا.
وقد تعرض هذا الشعور بالتفوق لامتحانات عديدة فى القرن العشرين ربما وجب أن نقف أمامها بالملاحظة.
كان أول هذه الإختبارات هو فى تركيا عندما قام ضابط من الجيش التركى المنهزم والمنحل بتجميع فلول من الجنود والأهالى يتحدى بهم قرارات معاهدة فرساى لإعادة السيطرة اليونانية على مدينة إستنبول (القسطنطينية) وجعلها عاصمة المسيحية الشرقية كما كان الحال عليه قبل حوالى 500 عام وذلك ضمن سيطرة يونانية على ولاية إزمير التى تغاضى الحلفاء عن إستيلاء اليونان عليها. وبالفعل نجح هذا الضابط التركى فى مسعاه وغير من الوضع السياسى العسكرى على الأرض فطرد اليونانيين وأبقى مدينة إستنبول فى السيادة التركية وأثبت أنه يمكن تحدى التفوق الأوروبى حتى من جانب طرف مهزوم فى حرب ضارية. صحيح أنه بعد ذلك إستبدل الحروف اللاتينية بالحروف العربية التى كانت مستعملة فى تركيا وهو ما يعد نوعا من الإعتراف بالتفوق الأوروبى وصحيح أيضا أنه أمر بترجمة قانون الإلتزامات السويسرى إلى اللغة التركية ليصبح هو القانون المدنى التركى الذى يحكم علاقات الأفراد، كما أنه صحيح أنه قرر إلغاء الخلافة العثمانية التى كانت قد هزمت جيوشها فى تلك الحرب، ولكن الصحيح أيضا أن خليفة المسلمين محمد وحيد الدين كان قابلا لشروط فرساى مستسلما لكل ما أملاه المنتصرون ولم يتخذ أى خطوة فى سبيل تحسين تلك الشروط المجحفة ناهيك عن تنظيم أى نوع من أنواع المقاومة. وبذلك فقد حق عليه الخلع حيث أنه كان رجلا ضعيفا لا يخشى إلا على مركزه الشخصى وقبل التضحية بأقاليم من أرض الدولة مقابل أن يظل هو خليفة.
وهذا النصر الذى حققه كمال أتاتورك على الغرب كان مدويا فى الشرق حيث أنه أثبت للشرقيين أنه يمكن هزيمة الإرادة الأوروبية المتفوقة (عنصريا) لو خلصت الهمم وشحذت القدرات.
والنصر الآخر الذى أظهر عدم تفوق العرق الأوروبى كان فى الشرق الأقصى فى الثلاثينات عندما غزت القوة العسكرية الآسيوية (اليابانية) فيتنام المستعمرة الفرنسية وهزمت القوات الأوروبية (الفرنسية) واحتفظت لنفسها بالسلطة العليا مع ترك الفرنسيين يمارسون أعمال الإدارة المتوسطة.
ثم جاءت الهزيمة الثالثة بعد ذلك بسنوات قليلة فى كل من كوريا وفيتنام مرة أخرى. إذ هرولت حكومة الولايات المتحدة إلى توقيع إتفاق لإنهاء الحرب الكورية لمجرد دخول الصين الشعبية طرفا فيها وتعرض الجيش الأمريكى فى نهاية عام 1950 إلى هزيمة مهينة على يد الصينيين الذين نجحوا فى التسلل بمئات الألوف وبأسلحتهم ثم مفاجأة الأمريكيين فى شتاء قارس تسبب فى خسائر عالية بين صفوف القوات الأمريكية ذات العرق والعقل والتخطيط الأوروبى مما جعل الرئيس ترومان يعلن حالة الطوارىء لأول مرة فى تاريخ أمريكا ويرفع ميزانية الدفاع إلى أربعة أمثالها.
ثم جاء التحدى الثالث مرة أخرى من فيتنام حيث نجحت قوات من الفلاحين الفيتناميين فى مفاجأة القوات الأوروبية الفرنسية فى ديان بيان فو عام 1954 وأجبرتها على الإستسلام السريع حيث أنهم حركوا مدافع ثقيلة إلى أعلى الجبال المحيطة بالمعسكر الفرنسى وهو شىء أشبه بعبور هانيبال جبال الألب قبل ذلك بأكثر من ألفى عام. وانتحر القائد الأوروبى بعد أن فشل فى مواجهة القائد الآسيوى الجنرال جياب.
ثم جاءت الضربة الأكثر إيلاما بعد ذلك أيضا من فيتنام حين أرادت أعتى قوة عسكرية فى التاريخ أن تستعرض عضلاتها فى ذلك البلد الصغير المعروف عنه الروح القتالية العالية فما كان من الفيتناميين إلا أن لقنوا القوة العظمى درسا لا ينساه الأمريكيون حتى اليوم، رغم أوروبية أصولهم وآسيوية خصومهم.
.
↧
المركزية الأوروبية EUROCENTRISM
↧