Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

ذكرى قصف دريسدن (4)

$
0
0

وقد إنضمت ألمانيا إلى هذه الإتفاقية فى عام 1910 وبذلك أصبحت ملتزمة بما جاء فيها من قواعد حماية المدنيين ومنع إستخدام الأسلحة الكيماوية.
إلا أن هذا لم يمنع القوات الألمانية من إستخدام الغازات السامة فى حرب الخنادق على أرض فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى.
وهذا الإستخدام للغازات السامة كان محل جدا كبير فى أيام الحرب حيث أنه بدأ سرا ثم أصبح سرا معلنا مما أدى إلى الرد عليه من جانب إنجلترا بنفس السلاح.

وحتى قيام الحرب العالمية الأولى كانت معركة لايبزج قبل ذلك بقرن كامل والتى سبق أن أشرت إليها هى أكبر معركة سجلها التاريخ المدون سواء من حيث حجم الجيوش المشتبكة فيها أو من وجهة نظر عدد الضحايا. ولكن الحرب العالمية الأولى جاءت بمقاييس لم تعرفها البشرية من قبل. فالمتحاربون كانوا يستعملون التكنولوجيا الحديثة بكثافة، قطارات تنقل الجنود والسلاح إلى خط النار مباشرة، مدافع آلية لا تحتاج إلى تعمير، دبابات مصفحة دخلت لأول مرة فى التاريخ إلى خدمة الجيوش، طائرات تقصف المحاربين من أعلى ولا يملكون لها ردا رادعا بالإضافة إلى كابلات التلجراف والتليفون التى كانت تنقل التعليمات بسرعة البرق وتتسبب فى تحركات سريعة لم تعهدها البشرية من قبل. فالجيش الألمانى مثلا بعد أن كان على بعد 18 كيلو من باريس صدر إليه أمر بإرسال فرقتين إلى الجبهة الشرقية لمحاربة الروس وتم نقلهم على وجه السرعة بالقطارات مما خلخل الجبهة الألمانية وأوجد بها ثغرة شبية بالثغرة التى وقعت على جبهة قناة السويس بعد ذلك بستين عاما مما أغوى الإنجليز بمهاجمة الألمان إعتقادا أن قصف المدفعية المكثف قد أوقع بهم عدد كبير ومؤثر من الضحايا، لكن الألمان كانوا قد حفروا خنادق عميقة تحفظ معظم قوتهم من قصف مدفعية الإنجليز مما أدى إلى مفاجأة البريطانيين مفاجأة سيئة للغاية خسروا بسببها أكثر من 19 ألف قتيل من الشروق وحتى غروب شمس ذلك اليوم الذى لا ينسى فى التاريخ على جبهة السوم فى فرنسا أول يوليو 1916.
وأكثر من ذلك، فقد أرسلت الولايات المتحدة بعد أن دخلت الحرب مليونى جندي أمريكى بالسفن إلى الأراضى الفرنسية فى عام1917 للمساهمة فى الحرب إلى جانب الحلفاء، وهو رقم لم يكن قد تم نقله من قبل فى التاريخ بهذه السرعة والكفاءة.
وهكذا بدأ إخضاع التكنولوجيا لأول مرة لصالح المجهود الحربي أو قل مجهود القتل المنظم. أضف إلى كل ذلك إستعمال الأسلحة الكيماوية (غاز الخردل وغيره من الغازات السامة) والذى تسبب فى عاهات مستديمة لمن ينجو من الموت إختناقا به. وعقب الحرب وإمتلاء المستشفيات والمصحات بالمشوهين وأصحاب الأمراض العصبية الناتجة عن الغازات، على طرفى الجبهة سعت الدول الأوروبية إلى التوصل إلى إتفاق جديد بشأن ممارسة النزاعات المسلحة فكان أن إتفقوا على حظر الأسلحة البيولوجية والكيماوية فى إتفاقية عام 1925.
واستمر الحال على ما هو عليه إلى أن قامت الحرب العالمية الثانية فى عام 1939 وذلك باعتداء ألمانى لا شك فى كونه خرق لكل الإتفاقات وأهمها إتفاق ميونيخ عام 1938 والذى بمقتضاه حصلت ألمانيا على إقليم السوديت (الجنوب) فى تشيكوسلوفاكيا من أجل أن يتجنب العالم الحرب.
والواقع أن من بدأ بقصف المدن كما أسلفت هو الطيران الألمانى فى غارات لندن منذ سبتمبر عام 1940 ثم أعقب ذلك بغارة كوفنترى فى نوفمبر من نفس العام كنوع من الرد على قصف أسطول إيطاليا قبل ذلك بيومين.
وقد مر عام 1941 لا تزيد فيه الغارات عن المعتاد ولا ذكر فيه لغارات المدن إلا منها ما كان يقع على لندن حيث أن المتحاربين كانوا مشغولين كل فى همه، ألمانيا فى روسيا وإنجلترا فى مصر إلى أن وقعت الواقعة يوم 7 ديسمبر عام 1941 والتى أدخلت أمريكا فى الحرب طرفا أساسيا. وقد نتج عن هذا الدخول الأمريكى إلى المعترك أن تحول الإقتصاد الأمريكى بالكامل إلى إقتصاد حرب حيث تحولت المصانع إلى إنتاج السلاح وبالذات الدبابات والطائرات وهو ما أدى إلى تراكم قوة عتاد ونيران هائلة للحلفاء على الاراضى البريطانية.
وبمجرد توارد أنباء الهزيمة الألمانية فى روسيا عقد تشرشل إجتماعا مع روزفلت فى الدار البيضاء بالمغرب إتفقا فيه على "تنسيق"العمل بينهما لتخفيف الضغط على الإتحاد السوفيتى بأن تتتابع الغارات البريطانية ليلا والأمريكية نهارا على ألمانيا حتى يجبر الشعب قيادته على التسليم.
إلا أن نقطة التحول فى هذا الخروج الواضح عن الإتفاقيات المعقودة جاء عقب توارد أخبار هزيمة ستالينجراد فى يناير عام 1943 والتى حاول وزير الدعاية جوبلز أن يخفف من وقعها على الجماهير فى ألمانيا بأن أدلى بخطابه الشهير الذي أعلن فيه أن الحرب قد تحولت إلى حرب شاملة وسط صراخ الموافقين والمهللين داخل الصالة الرياضية فى برلين فى فبراير عام 1943. وبذلك فقد أعطى الألمان أعداءهم الذريعة التى كانوا يحتاجون إليها لكى يبدأو قصف المدن بالطريقة الوحشية التى جاء تنفيذها خلا أعوام 43 و44 ثم ختمها هجوم دريسدن عام 1945. فالحرب إن كانت شاملة - هكذا كان المنطق البريطانى - فقد تحلل فيها الطرفان من إلتزاماتهما العقدية وأصبح الصراع تحطيم متبادل وطحن عظام وعلى الأضعف أن يطلب التسليم. وهكذا وبعد 6 أسابيع فقط من خطاب جوبلز الشهير جاءت غارة لوبيك التى كانت إفتتاحية قصف المدن من الجو إذ وقعت فى نهاية مارس 1943. ثم أعقبها قصف كولونيا ثم برلين ثم هامبورج وهكذا.
وبهذا النظر إلى الأمور يمكن القول بأن الطرف الذى بدأ بالخروقات كان هو الجانب الألمانى. إلا أن حقيقة وجود قائمة لدى المخابرات البريطانية عليها 57 مدينة ألمانية مرتبة ترتيبا يعطى كل منها درجة من 1 إلى 5 وفق قابليتها للإحتراق هو مما لا يمكن تبريره بأى حال من الأحوال. فالغرض من إعداد هذه القائمة هو بالضبط ممارسة ترويع المدنيين عن طريق الحريق المباشر. كذلك فإن إستعمال القنابل الحارقة هو مما لا يمكن أن ينظر إليه إلا على أنه سبق إصرار وتعمد إيقاع قدر هائل من الآلام والمعاناة فى صفوف المدنيين.
كذلك فإن إتفاقية الدار البيضاء والتى تقضى باستئناف القصف من الجو بواسطة السلاح الجوى الأمريكى عقب القصف البريطانى فى الليلة السابقة فى منهج واضح التكرار فى كل الغارات هو أيضا مما لا يمكن رؤيته إلا من منظور جريمة حرب إذ أن النهار التالى لكل غارة ليلية هو الوقت الذى يفترض فيه أن تقوم فرق الإنقاذ على الأرض بإخلاء الجرحى - ومعظمهم من المدنيين بالطبع - ودفن الموتى ورفع الأنقاض وإنقاذ المحتجزين وهكذا.. وبالطبع لم تكن كل هذه الأعمال ممكنة فى ظل قصف جديد من السماء تقوم به الطائرات الأمريكية التى تجىء محملة بقنابل حارقة أيضا بنسبة الثلثين مع ثلث قنابل تقليدية تماما كما كانت الطائرات البريطانية فى الليلة السابقة.
ويزيد على كل ذلك التزيد فى عدد الطائرات فى كل غارة حيث كانت الطائرات البريطانية وحدها قرب نهاية الحرب تجاوز الألف طائرة على عدة موجات ثم تليها طائرات أمريكا التى تتعدى الألفى طائرة وهي مبالغة ليس لها ما يبررها لاسيما وأن الدفاعات الجوية الألمانية كانت قد إنعدمت تقريبا وأن هذه الأهداف كانت فى معظمها مدنية كما عرفنا.
وأخيرا فإن إستعمال القنابل الحارقة كان يحرم من يتواجدون على الأرض فى المخابىء من الأكسيجين اللازم للتنفس فمات الآلاف خنقا فى الملاجىء والمخابىء.
وهذه كلها مما لا يمكن قبول ذريعة الجزاء من جنس العمل بشأنه.

هكذا فقد وقعت الغارة على دريسدن كما أسلفت فى ليل ذلك اليوم الشتوى قارس البرودة ثم جاءت فى الصباح الطائرات الأمريكية لكى تقصف ما تبقى من تلك المدينة التعسة وقد صرح أحد الطيارين الأمريكيين بعد ذلك بسنوات أنه لم يجد شيئا يقصفه حيث أنه لم تكن هناك أهداف عسكرية وأنه لم يشهد سوى خرابا وجثثا وحرائق من الليلة السابقة وأنه منذ تلك اللحظة - تماما كزميله البريطانى الذى شارك قبل ذلك بنصف عام فى الغارة الوحشية على هامبورج (والتى شاركت فيها 3000 طائرة من الطرفين على مدى 5 أيام والتى بدأت القصة بسردها باعتبار السيدة تونج كانت مفتاح هذه الخواطر)، قرر ذلك الطيار الأمريكى أيضا أنه لن يستمر فى ذلك العمل الوحشى وترك الخدمة عقب الحرب مباشرة وأصبح داعية سلام Pacifist.
وقد صدرت بعد الحرب أصوات خافتة تقول أن قصف دريسدن لم يكن له مبرر عسكرى وأنه جاء إنتقاما من المدنيين وأنه يرقى إلى مرتبة جريمة حرب ولكن بالطبع فليس للمهزوم حق الحديث ضد من قهره فى معركة كان المهزوم هو الذى بدأ بها. ثانيا فقد وقعت دريسدن فى نصيب الإتحاد السوفيتى عند قسمة ألمانيا ...
والإتحاد السوفيتى لم يكن يقبل أى رأى معارض أو حتى مختلف مع الرواية الرسمية للأحداث وبالتالى ظل ما حدث فى نطاق الجزاء العادل الذى إستحقه الشعب الألمانى فى مقابل السكوت على حاكم مجنون (وهو بالفعل كان مجنونا).. وبالطبع فإن إتفاقية السلام التى سبقت عقد الوحدة بين طرفى ألمانيا والتى أنهت الحرب قانونيا وثبتت حدود ألمانيا إلى الأبد شرقا وغربا قد روعى فيها عدم الرجوع بأى مطالبة من أى نوع من التعويضات على المنتصرين لا من الجانب الشرقى ولا من الجانب الغربى ولا على الغرب (أمريكا وإنجلترا) ولا على الشرق (الإتحاد السوفيتى).
وفى نهاية التسعينات قامت ملكة إنجلترا إليزابيث الثانية بزيارة دريسدن وهامبورج وألقى الطرفان خطب تعبر عن الأمل فى المستقبل وأن ذلك ينبغى أن يكون آخر الأحزان كما نقول فى مصر وافتتحت الملكة كنيسة العذراء التى تهدمت فى تلك الليلة والتى تعد الرمز المعمارى لمدينة دريسدن وقامت بالصلاة فيها مع المستشار الالمانى وتماسكت الأيدى ونسى الطرفان ماحدث.
والآن فإن أوروبا تحاول تخطى تلك المآسى بأن تبنى قارة موحدة تقوم على الديموقراطية ومنع الحروب من أى نوع بين أقطارها وهو الهدف الأساسى للإتحاد الأوروبى الذى تعرف كل دولة من أعضائه ماذا تعنى الحرب وأى ثمن دفعته فيها على مدى الألف عام المنصرمة.
الحرب العالمية الأولى ما بين 9 و15 مليون قتيل
الحرب العالمية الثانية ما بين 50 و60 مليون قتيل بما فيهم القتلى على جبهة اليابان
عدا الجرحى والمشوهين والمدن الخربة والأيتام والارامل
وهى أهوال عاشتها جميع الأجيال التى سبقتنا بما فيها جيل آبائنا المباشرين.
ما أسعد مصر التى لم تضطر لأن تدخل فى كل ذلك الكرب بطريقة مباشرة والفضل يعود لنخبة متعلمة كانت تحكم مصر فى تلك الفترات العصيبة من تاريخ الإنسانية..


Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

Trending Articles