تميز أول تصريح أصدره بابا الفاتيكان الجديد بالصراحة الشديدة. فقد صرح فى أول يوم بأنه يخشى على الكنيسة الكاثوليكية من أن تتحول إلى منظمة من منظمات المجتمع المدنى الغير هادفة للربح (NGO) . وهو تصريح فى منتهى القوة والصدق.. وهذا البابا الجديد هو أول بابا للكنيسة الكاثوليكية من خارج القارة الأوروبية. ليس هذا فقط. بل أنه أيضا أول بابا يحمل هذا الإسم الذى إختاره لنفسه، فرانسيسكوس، ولهذا فهو الأول.
وسبب صدق هذا التصريح هو نفسه على ما أظن سبب إستقالة البابا الألمانى بيندكت السادس عشر.
ولو أنكم تذكرون ما كتبته لكم من قبل عن الأزمة التى تعانى منها الولايات المتحدة بالتغيرات العرقية والديموجرافية التى أقصت تقريبا أو هى فى طريقها لتقصى الجنس الأوروبى الأبيض عن الإمساك بدفة الأمور هناك، فعليكم الآن ملاحظة أن الكنيسة الكاثوليكية تمر بأزمة شبيهة.
فالعقيدة الكاثوليكية منذ حقبة الستينات والثورات الإجتماعية التى وقعت فيها وهى تعيش فى خطر داهم. فأفكار الحرية والإنفتاحية سواء فى التفكير أو فى العلاقات أو فى تطبيق الأفكار الحرة على أرض الواقع، كل تلك العوامل قد جعلت من الكنيسة الكاثوليكية كائنا منقرضا أو فى سبيله للإنقراض.
وبغض النظر عن التاريخ التسلطى لهذه الكنيسة وعن ماضيها المعادى للعلوم والآداب بصفة عامة حيث أن فكرها قد جمد عند مفاهيم معينة قد تخطاها الزمان منذ أكثر من 400 عام، بغض النظر عن هذا كله، إلا أنها اليوم لا تزال تعانى من أمراض مرتبطة بتلك الفترة سواء فى نشأتها أو فى إستمرار وجودها.
وأول تلك الأمراض هى الجمود الإجرائى. فالتقاليد الكنسية أصبحت فى ذاتها هدفا أو على الأقل جزءا هاما من مسببات وجود الكنيسة. ويكفى أن يلاحظ المرء طريقة إنتخاب البابا مثلا لكى يدرك ما أعنيه. فالكرادلة يقيمون ما يطلق عليه المجمع المقدس. (بالمناسبة كلمة كاردينال تعنى محورى أو مفصلى بمعنى هام جدا والمقصود بها أن الكاردينال هو الذى يمثل مفصل الباب إلى الجنة). ولا تزال هذه الكلمة القديمة مستخدمة فى اللغات الأوروبية كالانجليزية والألمانية بمعنى محورى أو مفصلى فيقال إرتكب فلان خطأ كاردينال – أى خطأ شديد العاقبة لأنه محورى. ومن غير المعقول ولا هو مقبول فى القرن الواحد والعشرين أن يطلق على إجتماع الكرادلة مجمع مقدس. صحيح أن التقاليد القديمة لها سحرها الذى يريد كثيرون الحفاظ عليه – وأنا أولهم بلا منازع –، إلا أن مسألة القداسة لابد أن يتم التصرف فيها بنوع من الكياسة.
ولكن هذا الجمود الإجرائى ليس هو الخطر الذى يتهدد الكنيسة. بل أن الخطر خطر موضوعى.
والخطر الموضوعى يتركز فى أن الكنيسة فقدت تقريبا كل عناصر قوتها الجاذبة. فالسلك الكنسى لم يعد يجد من يريد أن يدخل فيه. ونفوذ الكنيسة فى إضمحلال مستمر منذ عشرات السنين. وحركات المجتمع المدنى توجه المشرع على جانبى الأطلنطى إلى توجهات تتعارض صراحة مع مقتضى التعاليم المسيحية. والمسيحية على الجانب الغربى للأطلنطى أصبحت كبورصة الإصدارات الجديدة فى عالم الأسهم، يدخلها سنويا العديد من الكنائس التى تحمل إسم المسيح ولكنها منفصلة فكريا وعقيديا عن الكنيسة الكاثوليكية. كما أن التغيير فى العقائد الكاثوليكية قد ينشأ عنه إنهيار الصرح بأسره حيث أن تلك العقائد والطقوس هى فى مجموعها ما يشكل القاعدة الصلبة للكنيسة الكاثوليكية.
وكلمة الكاثوليكية تعنى الجامعة، أى أنها تجمع بين الشعوب على قلب رجل واحد ولا تفرق بين الأجناس البشرية وهو مفهوم مرادف لمفهوم لا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى والذى يشكل أساسا من أسس الإسلام أيضا.
إلا أن تركيز السلطة بشدة فى يد الكنيسة لأكثر من عشرة قرون جعل أى محاولة لتجديدها هى حرث لقاع البحر.
فالمجتمعات الأوروبية المؤمنة الطيعة التى كانت هى منشأ قوة الكنيسة سياسيا فى بداية الألف الثانية بعد الميلاد قد تبدلت وتعدلت وأصبحت مجتمعات متمردة لا ترى لوجود الكنيسة داعيا سوى كموروث ثقافى يخرج عنه من حين إلى آخر بيان أو إعلان يثير بعضا من التعليقات الضاحكة أو الغاضبة ثم يدخل من جديد إلى زوايا النسيان.
وهذا الوضع الذى تتواجد فيه الكنيسة الكاثوليكية هو غالبا ما سبب إستقالة البابا السابق بيندكت السادس عشر كما أسلفت. فهو رجل كهنوت وأستاذ فى علمه كما أن له نظرة ثاقبة وتحليل متين. وأظنه قد أدرك أن تغيير الكنيسة من الداخل لابد وأن يحمل فى طياته مشاكل كبيرة لعله لم يرد أن يدخل التاريخ بصفته أول من أشعلها. كما أنه يعلم بالتأكيد أن مستقبل الكنيسة – إن كان لها مستقبل – لم يعد واقعا فى أوروبا وإنما هو فى العالم الثالث سواء كان ذلك أفريقيا أو أمريكا الجنوبية أو شرق آسيا.
ولعل البابا بيندكت يذكر المأزق الذى واجهه البابا السابق عليه – كارول فويتيلا البولندى المعروف بإسم يوحنا بولس الثانى – فى بلده الأصلى بولندا حيث زارها آخر مرة فى التسعينات عقب نجاح ثورة نقابة التضامن على النظام الشيوعى فى ذلك البلد، والتى كانت حركة ترعاها وتمولها وتنظمها الكنيسة الكاثوليكية بالتعاون مع المخابرات الأمريكية.. وفى تلك الزيارة الأخيرة وبخ البابا بنى وطنه من البولنديين على النزعة المادية التى لاحظ هو أنها قد سادت فيهم واستشرت عقب سقوط الشيوعية وأعلن أنه لن يزور بولندا مرة ثانية حيث أن قوانين إباحة الإجهاض مثلا هى مما لم يكن يستطيع البابا البولندى قبوله.
أقول أن البابا المستقيل بيندكت السادس عشر لعله أدرك مغزى تلك الأحداث التى واجهت سلفه فى مسقط رأسه.
فبولندا بلد كاثوليكى للغاية والكنيسة فيه كانت قوية بل وكانت هى الحصن العاصم من قهر السلطة الشيوعية منذ الأربعينات. والكنيسة كما أسلفت مولت ونظمت ونسقت مع المخابرات الأمريكية أداء حركة تضامن وكل الحركات المعارضة التى أفضت إلى نهاية المعسكر الشرقى وتصدع الستار الحديدى.
ولكن الأحداث قد تخطت الكنيسة الكاثوليكية فيما بعد. فقد رأى البابا البولندى أن شعبه قد تنكر للقيم الكاثوليكية وللكنيسة الكاثوليكية التى كان لها دور مباشر فى تحريره. فالقيم القائمة على الحرية والحياة المنفتحة قد دخلت إلى بولندا وفاقت فى إنتشارها القيم الكاثوليكية التقليدية. وكانت الكنيسة تمنى نفسها بمستودع كبير من المؤمنين سوف تكسبه إلى صفها فى أوروبا الشرقية عقب هزيمة النظم الشيوعية القهرية هناك، ولا سيما أن الكنيسة فى تلك الدول – المجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا وليتوانيا – كانت مركزا من مراكز الدفاع عن المواطنين وحقوقهم. ولكن ذلك المستودع من المؤمنين لم يتحقق للكنيسة.
صحيح أنه قد وقعت صحوة مسيحية عامة فى أعقاب إنهيار الشيوعية بسبب الإعتقاد أنه قد وجب توجيه الشكر للرب على فضله فى إزالة تلك النظرية السياسية الإجتماعية، إلا أن تلك الموجة قد انحسرت وانكسرت وفى نفس الوقت كسرت قلب البابا البولندى يوحنا بولس الثانى.
والمشكلة الثانية التى تواجه الكنيسة الكاثوليكية هى تحول مركز الثقل من داخل أوروبا إلى خارجها. فالكنائس الموجودة فى البرازيل أو الأرجنتين أو الفليبين أو نيجيريا أصبحت جميعا هى الكنائس التى تضم الأعداد الغفيرة من المؤمنين بينما كنائس أوروبا شبه خاوية ولا يؤمها سوى بعض العجائز.
وأوروبا كانت هى المعقل الثقافى للكاثوليكية ومنها إنتشرت العقيدة إلى أرجاء الأرض. والبابا الجديد فرانسيسكوس هو من أصل إيطالى ولكنه عاش طيلة حياته فى الأرجنتين، أى أن آباءه هم الذين كانوا يوما ما إيطاليين.
وهو لذلك قد إختار إسم فرانسيسكوس القديس الذى كان فى مدينة أسيسي بإيطاليا فى القرن الثالث عشر والذى كان فقيرا ويحارب من أجل قضايا الفقراء ويعيش بين ظهرانيهم ويرفض التملك والعرض الدنيوى الزائل.
ولهذا فقد صرح البابا الجديد أنه إختار لنفسه هذا الإسم لأنه يريد أن تكون كنيسته منحازة للفقراء بل هى كنيسة الفقراء.
والكنيسة الأصلية الأوروبية فى روما كان لها دائما أثر وسلطان نافذ فى بلاد أمريكا الجنوبية. وهذا الأثر يظهر حتى اليوم فى الإختلاف اللغوى بين البرازيل وباقى دول القارة. فالبابا هو الذى قرر قسمة القارة بين الدولتين الإسبانية والبرتغالية منذ 400 عام وزيادة بخط وضعه هو بيده يفصل بين الثقافتين الكاثوليكيتين. فأصبحت البرازيل برتغالية اللغة والباقى إسبانى اللغة وذلك إلى يومنا هذا.
ولكن تاريخ الكنيسة لم يكن دائما ناصع البياض فى تلك القارة الفتية. فقد كان موقف الكنيسة تقليديا فى غير صالح حركات التحرير سواء من الإستعمار الأوروبى القديم فى القرن التاسع عشر أو الإستعمار الجديد (أمريكى بطبيعة الحال) فى القرن العشرين. وكلنا نذكر مشهد الجناح التقليدى المحافظ بعد سماع نبأ هزيمته أمام السياسى اليسارى سلفادور آلليندى عام 1970 وكان من بين من ظهرت على وجوههم علامات الصدمة رئيس الكنيسة الكاثوليكية الشيلانية.
وعلى كل حال فقد إنتهى حكمه وعمره بضربة ( 11 سبتمبر ) عام 1973 بانقلاب قاده أوجوستو بينوشيه. وتأييد الكنيسة لخصوم آلليندى السياسيين هو مما يثقل كاهل هذه الكنيسة حتى اليوم فى شيلى.
أما فى الأرجنتين حيث مسقط رأس البابا الجديد فقد قام رجال إنقلاب عام 1976 على الرئيسة إيزابيللا بيرون بالتخلص من آلاف المعارضين وقيل بعد ذلك من خلال إعترافات بعض رجال البوليس السرى أنهم كانوا يحقنوهم بمخدر ثم يلقون بهم من الطائرة فى المحيط حتى يغرقوا ولا يعودون !!! وهذا هو محل الإتهام الذى يواجهه البابا الجديد عقب إنتخابه، أنه لم يفعل ما فيه الكفاية ضد نظام الطغيان الذى لم يسقط هناك إلا عام 1982 بسبب الهزيمة فى حرب فوكلاند ثم بانتخاب الرئيس راؤول ألفونسين الذى كان رئيسا توافقيا ديموقراطيا تصالحيا وخلفه بعد ذلك كارلوس منعم.
ورغم كل ذلك إلا أن الكنيسة الكاثوليكية لا تزال قوية فى أمريكا الجنوبية بل هى أقوى منها فى أوروبا.
ولعل السبب فى ذلك هو التوزيع الديموجرافى فى أمريكا الجنوبية والذى يشابه إلى حد بعيد التوزيع الديموجرافى فى الولايات المتحدة الأمريكية. فتركيز العدد الأكبر من السكان هو فى القرى والكاونتيز التى تتسم بالتقليدية ولا تتدخل فيما لا يعنيها شأن تغييره. أما فى أوروبا فالتركيبة الإجتماعية والديموجرافية هى جد مختلفة.
والآن نعود لفحص أسباب ضعف الكنيسة فى أوروبا ونتائج ذلك فى المستقبل المنظور.
أظن أن أول أسباب ضعف الكنيسة فى أوروبا هو سوء السمعة أو التاريخ الغير نظيف لهذه الكنيسة. وهذه السمعة السيئة ترجع إلى عدة عوامل أهمها مثلا نظام التعليم الذى لا يتستر على تلك الفظائع التى قامت الكنيسة بارتكابها عبر القرون وإنما يتعرض لها بوضوح وينتقدها ويحاول عرض التاريخ بحيادية باعتباره نزاع بين الإنسان والإنسان وليس باعتباره بين الإنسان والدين. وهذا فرق جوهرى بين نظام التعليم المصرى أو العربى عموما والنظام الأوروبى فى التعليم. كما أن التعليم لا يدافع عن شىء إسمه المسيحية الصحيحة فهو لا يعرف ما هى المسيحية الصحيحة وإنما يعرض للوقائع كما هى ويبين التطورات التى خضعت لها تلك العقيدة ولا يعطى خطا فكريا محددا.
والسبب الثانى هو الجمود المسيطر على تلك المؤسسة حيث أنها نادرا ما تعترف بأخطائها أو تبدى الأسف على إرتكابها. فالكنيسة الكاثوليكية فى روما أبدت أسفها مثلا على إكراهها لجاليليو جاليليى على الرجوع عن أفكاره فى عام 1992 أى بعد حوالى 400 عام من وقوع ذلك القهر القائم على الجهل.
وثالث هذه الأسباب هو ثراء الكنيسة الفاحش حيث أنها من كبار ملاك الاراضى فى أوروبا وبالذات فى الدول اللاتينية كإسبانيا والبرتغال وإيرلندا وكذلك فى النمسا. وبالطبع فالأحوال المالية للكنيسة تعد من الأسرار العليا التى لا يعرف عنها كثيرون والتى لم تبدأ بالتكشف إلا بموت البابا الإيطالى يوحنا بولس الأول بعد 35 يوما فقط من إنتخابه مما أثار شائعات تسميمه بسبب سعيه إلى كشف الحلقة الداخلية من رجال الكنيسة القائمين على غسيل الأموال والتعاون مع المافيا وما إلى ذلك من الأنشطة المشبوهة. وقد زاد إنتحار روبرتو كالفى أحد كبار رجال البنوك الإيطاليين أسفل كوبرى فى لندن على تأجيج نيران الشائعات حول ذلك التورط الكنسى فى نشاطات لا علاقة لها بالعمل اليسوعى.
ثم يأتى أهم هذه الأسباب جميعا وهو مجافاة الكنيسة للعصر الذى تعيش فيه أوروبا، سياسيا وإجتماعيا.
فالمرأة الأوروبية تريد أن يكون لها حق الإجهاض. وفى الغرب حاربت المرأة طويلا لكى تحصل عليه وقد كان. أما فى الشرق وفى ظل الأنظمة الشيوعية فقد كان الإجهاض متاحا ونشأت الأجيال على طبيعة وجوده فى حياتهم القانونية والإجتماعية. ولتلافى الحمل يستعمل العازل الطبى للرجال مثلا أو الوسائل الأخرى للنساء. إلا أن الكنيسة ترى أن فى ذلك مجافاة لإرادة الرب وتريد منع تلك الوسائل عن طرفى العملية الجنسية. أضف إلى ذلك مسائل الإيدز والواقى الطبى الذى لا تريد الكنيسة حتى السماح به رغم أهميته فى الحماية.
وهذا الإتجاه الكنسى لا يجد له فى أوروبا نصيرا، بل على العكس فالمدارس والإعلام والمؤسسات الإجتماعية كلها تحث على إستعمال العوازل الطبية للرجال أو الوسائل الأخرى للنساء وذلك للوقاية من شرور الإيدز أو لعدم الإضطرار للحمل غصبا عن الإرادة مما ينتج فى النهاية أطفالا لا حنان بهم ولا رأفة عليهم.
والدولة الوحيدة التى تحفظت على ألا تتعارض نصوص إتفاقية ماستريشت مع حظر الإجهاض هى آيرلندا الجنوبية الكاثوليكية، وهى دولة تاريخها مشابه لباكستان حيث أن أساس إنفصالها عن الشمال كان هو الحرص على العقيدة.
ولعل هذا الإغتراب عن الحياة الحديثة هو السبب الأساسى فى عزوف الأوروبيين عن الكنيسة الكاثوليكية، بل أنه تسبب فى عزوف بعض الأساقفة عن رئاسة الكنيسة. فمنذ 3 أسابيع فقط وعقب إستقالة البابا بيندكت السادس عشر عقد المؤتمر السنوى للأساقفة الكاثوليك الألمان فى ترير بغرب ألمانيا وفيه طالبوا برفع العزوبية عنهم بل وطالب بعضهم بالسماح بزواج المثليين. وأنا شخصيا معتقد أن هذا كان سببا اساسيا وحاسما فى تقديم إستقالة البابا الألمانى الشهر الماضى (أيضا 11 فبراير) حيث أنه أدرك بثاقب نظره أن الكنيسة مقبلة على تغييرات هائلة لم يرد أن يكون طرفا فيها أو أن تقع فى عهد بابويته.
والآن وبعد كل ذلك فما هى عواقب خروج منصب البابا من أوروبا وما الذى سوف يؤول إليه الحال فى عهد البابا الأرجنتينى المنحاز إلى الفقراء؟
أظن أن أول هذه العواقب هى وقوع خلاف بين هذا البابا الجديد المنحاز للفقراء من ناحية والمؤسسة المالية الكنسية التى يشرف عليها بنك الفاتيكان من ناحية أخرى. والبابا الذى أعلن إنحيازه للفقراء ربما لا يعى جيدا أبعاد مقولته هذه بسبب عدم معرفته بدهاليز علاقات القوى فى الكنيسة. ومن اللافت للنظر أنه كان قليل التردد على روما ولم يخدم سوى فى الأرجنتين على ما قرأت أى أنه لم يكن يوما من العليمين ببواطن الأمور. وهذه النقطة بالذات ستكون من مكامن ضعفه لو أنه أراد فعلا تطبيق مقولة كنيسة الفقراء.
وبعيدا عن الشئون المالية فإن النتيجة الثانية لاختيار هذا البابا من جنوب أمريكا قد تكون تحفيف القيود على إستعمال وسائل منع الحمل حيث أن هذه المشكلة ألحّ فى أمريكا الجنوبية منها فى أوروبا بسبب الفروق الديموجرافية واختلاف الثقافة السائدة بين المجتمعين. فنسبة الشباب فى أمريكا اللاتينية أعلى منها فى أوروبا مما يؤدى إلى كثرة حالات الحمل الغير مرغوب فيه. وعلى البابا الجديد أن يثبت أنه متفهم لمشاكل المجتمع الأمريكى اللاتينى بتخفيف قيود إستعمال هذه الوسائل خلافا لما كان عليه سلفاه خلال الأعوام الخمسة وثلاثين السابقة.
ومن ضمن ما يمكن توقعه من هذا التغيير فى قيادة الكنيسة أن يكون للكنائس الكاثوليكية فى العالم الثالث مزيد من حرية الحركة أو صوتا مسموعا بنسبة أكبر مما هو الآن. وعلى ذلك فإن نقط التماس بين الأديان سوف تصبح أكثر أهمية، الفليبين مثلا أو نيجيريا.
أذكر أنه فى عام 1993 وقبيل زيارة البابا يوحنا بولس لأفريقيا والتى شملت السودان، أن كاردينال جنوب السودان أرسل إليه برسالة الغرض منها ثنيه عن الزيارة فقد كتب له يقول "إن من تقومون بزيارتهم ومصافحتهم هم من يقتلون ويضطهدون المسيحيين هنا فى هذا البلد"ولكن البابا تجاهل هذا التحذير وأتم الزيارة. ولكن الوضع بعد إنتخاب بابا الفقراء قد يختلف عن ذلك. فقد يترتب على ذلك – على ما أظن – أن الكرادلة والأساقفة فى تلك المناطق المتلامسة مع المناطق الإسلامية سوف يكون لهم صوت أعلى داخل الكنيسة عما هو الوضع عليه الآن. فالمناطق التى يتهجم فيها المسلمون (بوكو حرام) على الكنائس مثل نيجيريا سوف تزداد فيها إجراءات الإستعداد لصد مثل تلك الهجمات وذلك بسبب إطلاق نوع من حرية القرار حول رد الفعل من جانب روما ولهذا فقد تهدأ الأمور هناك لو عرفت بوكو حرام أن هناك رد فعل مرتقب لهجماتها الإرهابية.
ويتبقى من تلك التوقعات بشأن بابا الفقراء أن تتساهل الكنيسة قليلا فى شأن السلك الكنسى بحيث ربما ترفع العزوبية التى هى فى الحقيقة بلا سند من عقيدة بل هى مستندة إلى القانون الكنسى ويمكن للبابا لذلك أن يرفعها من نص القانون، خصوصا وأن الكنائس الأخرى مثل البروتستانتية والكنائس الحرة التى لا ترتبط بمذهب بعينه، لا تعترف بها إلا فى أحوال محددة.
ويتبقى أن أذكر أن بلدا هاما كالبرازيل (وهى قوة عالمية صاعدة) أصبحت الكنيسة الكاثوليكية مهددة فيه بنفس ما حدث للكنائس الكاثوليكية الأوروبية بسبب إقدام الشعب على الكنائس الأخرى وعزوفه عن الكنيسة التى كانت تقليديا هى الأقوى فى البرازيل. ولموضوعى العزوبية وتنظيم الحمل دخل كبير فى هذا الإتجاه الملحوظ فى البرازيل.
باختصار فإن المطلوب من البابا الجديد هو نفسه المطلوب من كل سياسى منتخب: الشفافية، التحديث إلى جانب تنفيذ الوعود.
كل ذلك إن كان يريد لكنيسته أن تظل معلما من معالم الفكر الدينى وليست مجرد واحدة من منظمات عديدة للمجتمع المدنى كما عبر وبألفاظه هو عن خشيته من وقوع ذلك.