يقوم أوباما حاليا بزيارة إسرائيل والاراضى الفلسطينية. وهو مشهد يتكرر بطريقة دورية كل حوالى 8 سنوات. وسوف يتكرر فى المستقبل أيضا. وسوف يسمع الفلسطينيون كلاما معادا ومكررا عن إنشاء دولة فلسطينية وعن فكرة الدولتين. وسوف تدعو أمريكا الدول العربية إلى المساهمة "بما لديها من نفوذ"فى عملية السلام. وسوف يستمر طرح المبادرات والإعلان عن الإلتزام برؤية سلمية وتعايش قائم على حسن الجوار. كل هذا لن يتغير فيه شىء خلال العشرين عاما القادمة.
يقوم النظام السياسى الأمريكى على حقائق الديناميكية والتحرك السريع. فجميع الوجوه ذات النفوذ التى نراها اليوم فى السلطة التنفيذية هى وجوه لم تكن معروفة منذ 5 سنوات وسوف تختفى بعد أقل من 3 أعوام. وهذا هو طابع الولايات المتحدة حيث أن السياسيين لا يمكثون فى الحكم التنفيذى طويلا بل ينتقلون بعد إنتهاء مدتهم إلى القطاع الخاص وينتهى نفوذهم.
وهذه الحقيقة الأمريكية هى ما يغيب عن أذهان العرب غيابا كاملا. فمراكز إتخاذ القرار ووضع السياسات فى الولايات المتحدة ليست البيت الابيض ولكنها فى الكونجرس وجماعات الضغط وشحذ النفوذ التى تدور فى فلكه أو بالأحرى يدور الكونجرس فى فلكها. أما وضع الآمال على وعد من رئيس أو إلتزام من وزير خارجية أمريكى فهو سراب ليس وراءه سوى مزيد من العطش. وأظن أن آخر رئيس أمريكى كان قادرا على إنفاذ رغباته كان هو ريتشارد نيكسون قبل أن يدخل فى فضيحة ووترجيت التى أنهت حياته السياسية ولوثت سمعته تاريخيا. ومنذ ذلك الحين أصبح مركز رئيس الدولة فى أمريكا أقل نفوذا عما كان عليه قبلها وارتفع نفوذ الكونجرس واللجان النوعية التى تتفرع عنه.
ولأننا نحن العرب نعلى جدا من شأن السلطة التنفيذية فى بلادنا ونسمو بها فوق كل السلطات، فإن واضعى السياسة فى كل الدول العربية بلا إستثناء يحاولون دائما أن يعكسوا فهمهم الضيق للأمور على المجتمعات الأخرى. فترى التركيز فى العلاقات الخارجية منصبا على أعضاء السلطة التنفيذية، وزراء خارجية أو رؤساء حكومات فى أفضل الأحوال، بينما هؤلاء هم سياسيون منتخبون تنتهى حياتهم السياسية سريعا ولا أحد يتذكر ما قالوه وما وعدوا به. وأمريكا بالذات حالة فريدة للغاية حيث أن عمر السياسيين فيها أقصر كثيرا من كل البلاد الأخرى فى الغرب.
إذ بينما ظل ميتران 14 عاما فى الحكم وهلموت كول 16 عاما وجاك شيراك 12 عاما وتونى بلير 10 سنوات فإن أطول مدة لرئيس أمريكى ظل فى الحكم 8 سنوات منهم سنتان على الأقل بلا مجهود فى مجال السياسة الخارجية حيث أنه يتعلم فى العام الأول ولا يريد أن يخطىء ثم أنه خارج من الحكم فى العام الأخير ولا يريد أن يقيد خلفه !!!
ونحن فى العالم العربى لم نع هذا الدرس جيدا حتى الآن. فكارتر وريجان وبوش وكلينتون جميعا قد رحلوا عن السلطة ورحلت معهم وعودهم واقوالهم وتطميناتهم. وسوف يرحل أوباما فعليا فى خلال أقل من 3 سنوات حيث أن العام الأخير لرئيس لن ينتخب هو عام بلا جدوى.
وعلى الجانب الآخر فإن إسرائيل تفهم هذه الأمور جيدا جدا ولا تعطى الإدارة الأمريكية أكثر مما تستحق من الإهتمام، بل هى تركز على الكونجرس وجماعات الضغط حوله. فهذه الجماعات هى من يملك السلطة فى أمريكا وليس الرئيس.
والرئيس الموجود الآن فى البيت الأبيض هو رئيس إستثنائى بكل المقاييس. فهو لم يكن يوما حاكما لأحد الولايات وخبرته التنفيذية تكاد تكون منعدمة. كما أن تاريخه فى الكونجرس لم يزد عن ثلاثة سنوات ركز بعدها جهوده على حملته الأولى حتى نجح فيها ودخل البيت الأبيض بسبب عجز الجمهوريين عن إيجاد مرشح له جاذبية ويستطيع دخول المنافسة. كذلك فقد نجح كما نجح كارتر من قبله لأنه كان يمثل بصيصا من الأمل عقب كارثة حلت بالبلاد، فيتنام ووترجيت فى حالة كارتر وحكم المحافظين الجدد بحروبه فى العراق وأفغانستان والأزمة المالية الخانقة فى حالة أوباما. أى أن أوباما هو الإستثناء تماما كما كان كارتر.
وأوباما فى أمريكا هو رئيس منهمك فى عدة معارك مع الكونجرس حول كل شىء تقريبا. حول الميزانية وحول الإقتراض وحول التأمين الصحى وحول قوانين حمل السلاح وحول طريقة التعامل مع الصين بل حتى حول تعيين وزير للدفاع وكان قبلها قد حدث خلاف حول تعيين سوزان رايس وزيرة للخارجية ولا أستبعد أن يكون هناك خلاف أيضا بينه وبين الكونجرس حول سياسة أمريكا فى الشرق الأوسط.
والشاهد أنه ليس هناك من هو أقدر على التعامل مع الولايات المتحدة من إسرائيل، سوى إنجلترا بالطبع. وكلاهما تفهم ديناميكيات المجتمع الأمريكى بطريقة كاملة وتتفاعل معها دائما بنجاح.
والغريب أن كليهما يستعمل مصطلح "العلاقة الخاصة"لدى وصف علاقته بالولايات المتحدة. والولايات المتحدة لم تنف ذلك أبدا بالنسبة لانجلترا ولم تنف وجود تلك العلاقة مع إسرائيل منذ أن صاغ جيمى كارتر ذلك المصطلح فى السبعينات من القرن الماضى. والمعروف أن الدولة الوحيدة التى تتقاسم مع أمريكا معلومات المخابرات وبالذات صور الأقمار الصناعية الأمريكية لكل أرجاء العالم بمنتهى الإنفتاح هى إنجلترا. ويقال أن إسرائيل قد إنضمت إلى هذه الدائرة الضيقة للغاية حديثا. وقد أدت تلك الصور الأمريكية إلى نصر بريطانى على الأرجنتين فى عام 1982 فى حرب فوكلاند حيث كانت المعلومات الإستخباراتية هى العامل الحاسم فى نصر بريطانى على بعد آلاف الأميال من أرض بريطانيا، بالإضافة إلى بعض المعاونة من دولة شيلى أثناء حكم بينوشيه. وإنجلترا كانت هى دائما الدولة الواقفة خلف الولايات المتحدة فى كل حروبها – عدا فيتنام- وذلك منذ كوريا وحتى العراق. وكانت إستراتيجية الحرب الباردة ضد الإتحاد السوفيتى تقوم على بدء الحرب – إن هى وقعت – بغارات من سلاح الجو البريطانى – وليس الأمريكى - على غرب الإتحاد السوفيتى لتحطيم مطاراته ومراكز تجميع أسلحته المجهزة لغزو أوروبا. كل ذلك على الرغم من وقوع ألمانيا الغربية وقوعا مباشرا على خط النار مع الكتلة الشرقية، حيث أن ثقة أمريكا فى الكفاءة العسكرية البريطانية هى أكبر من ثقتها فى الكفاءة الألمانية أو الفرنسية. أو لعله الولاء.
والرئيس فى النظام الأمريكى هو واحد من عدة وجوه تمسك السلطة. ولكنه ليس أقواها بكل تأكيد. فرئيس الدولة فى ألمانيا أو إنجلترا أو فرنسا يمكنه مثلا حل البرلمان سواء بإرادته (فرنسا) أو باقتراح من رئيس الوزراء لو أنها دولة برلمانية (إنجلترا وألمانيا). أما أمريكا فوضع الكونجرس فيها لا يمس. ولا يحق للرئيس حل البرلمان (الكونجرس) عن أى طريق كان.
وقد كان حسنين هيكل محقا تماما فى ملاحظته التى أدلى بها فى صيف عام 2009 عقب خطاب أوباما فى جامعة القاهرة والذى على عادة المصريين تمت المغالاة فى أهميته. فقد قال هيكل أن أوباما لو أراد عمل تغيير أو تجديد فى السياسة الأمريكية لأدلى بخطابه تحت قبة الكونجرس وليس تحت قبة الجامعة فى القاهرة !! وهو قول يحمل قدرا من التهكم على الإنتليجينسيا المصرية التى غالت فى تقييم وزن الخطاب ولكنه فى نفس الوقت قول سليم تماما من حيث الموضوع. وأذكر أن أوباما فى أوائل حملته الأولى قد قدم وعدا بتصفية معسكر دلتا فى جوانتانامو وقد إنتهت مدة رئاسته الأولى ولم يفعل شيئا فى هذا الإتجاه. كما أنه صرح فى إحدى تجلياته بأنه يريد تخليص العالم من مخزونه من السلاح النووى بما فى ذلك سلاح الولايات المتحدة نفسها ولكن إتضح بعد ذلك أنه كان متحمسا أكثر مما ينبغى لأى شخص أن يتحمس، ناهيك عن أن يكون هذا الشخص هو رئيس الولايات المتحدة.
والرؤساء الثلاثة السابقين من الحزب الديموقراطى - كارتر وكلينتون وأوباما - كانوا جميعا مصحوبين بهذه الظاهرة.. فالكلمات والتصاريح تخرج من أفواههم سريعة ومتلاحقة وواعدة لكنها تصطدم دائما بالواقع الاشد قسوة مما يظنوه ومما يعتقده من يتلقى تلك التصريحات. والواقع القاسى الذى أقصده هو عدم قدرتهم – ولا قدرة أى رئيس أمريكى بعد نيكسون – على إحداث تغيير حقيقى ملموس فى السياسات الأمريكية حيث أن القوة موزعة بطريقة معقدة حتى لا تقع فى يد طرف واحد. والمرة الوحيدة المشهورة التى حاول فيها العرب ممارسة لعبة السياسة والإنتخابات فى أمريكا كانت فى حملة عام 2000 ولصالح الحزب الجمهورى ومرشحه جورج بوش الإبن وقد فاز بالفعل وعايش العرب بعد ذلك سياساته وأفكاره لمدة 8 سنوات كاملة.
وأوباما الذى أنهى اليوم زيارته لكل من إسرائيل والأراضى الفلسطينية والأردن لم يحقق فى زيارته سوى شيئا واحدا، وهو حمل نيتانياهو على تقديم الإعتذار لرئيس الوزراء التركى أردوجان عن الغارة الفجة التى قام بها الجيش الإسرائيلى منذ 3 سنوات على السفينة التركية فى المياه الدولية مع التأكيد على إلتزامه بدفع تعويضات لأهالى الضحايا. وقد قبل أردوجان الإعتذار وانتهت القضية. وكانت قضية أخرى قد إنتهت قبل ذلك بأربع وعشرين ساعة وهى قضية الأكراد فى تركيا بإعلان عبد الله أوجلان من سجنه أن الحزب الكردى المعارض لتركيا (حزب العمال الكردى) قرر أن يوقف جميع عملياته العسكرية داخل الأراضى التركية بأثر فورى. وهو ما يعنى أن تستفيد تركيا من الوضع الجديد، غالبا فى مقابل التغاضى عما سوف يفعله الأكراد فى كل من العراق وسوريا (بعد إزاحة الاسد) بصفة أن هاتين الدولتين من الدول الممزقة إقليميا وعرقيا. وجدير بالذكر هنا أن عقود شركة إيكسون موبيل الأمريكية للبترول فى شمال العراق ليست مبرمة مع الحكومة فى بغداد ولكنها مبرمة مع "الإدارة الكردية"فى تلك المنطقة دون المرور على حكومة بغداد. أى أن ذلك هو باختصار بداية تكوين دولة كردية، طبعا على حساب الاراضى العربية أو التى حسبها العرب أرضا لهم. والظاهر أن أمريكا قد قررت أن الوقت قد حان لإعطاء كل المحاربين المحرومين ما كانوا يصبون إليه ولرفع كل الحواجز عن الجميع حتى تضع ظروف القوى الطبيعية كلا فى المكان الذى يستحقه والذى يستطيع التوصل إليه من واقع قوته الذاتية. فخرج الإخوان من مكامنهم وخرج الأكراد من مخابئهم لكى يساهم كل منهم فى إعادة رسم الخريطة الكبرى للشرق الأوسط. ولست أدرى إن كان أحد ممن يمسكون السلطة فى مصر مدرك لما هو قادم علينا. وهذا القادم علينا يطلقون عليه فى العلوم السياسية البلقنة BALKANISATION وهو لفظ مشتق من إقليم البلقان حيث كانت تتلاقى الحضارات الإسلامية والمسيحية بشقيها الكاثوليكى والأرثوذكسى وكانت تتصارع فيه قوى تبدأ فى إنجلترا وتنتهى فى روسيا عبورا بكل أوروبا الغربية وكل أوربا الشرقية وتركيا وفى بعض الأحيان مصر فى عهد محمد على. وكلمة البلقنة تعنى التفتت أو التفتيت، حيث يحارب كل تيار التيارات الأخرى نيابة عن قوى أكبر منه وتتغير التحالفات تقريبا بصفة أسبوعية إن لم تكن يومية.
أما على صعيد الفلسطينيين فلم تؤد زيارة أوباما إلى أى شىء إطلاقا. والظاهر أن مشكلة فلسطين سوف يكون حلها فى غزة أو بمعنى اصح عن طريق مصر وليس عن طريق إسرائيل.