قبل أى حديث لابد لى أن أعتذر عن إستعمال هذه العبارة المأخوذة عن الكتاب المقدس عنوانا لهذه الملاحظات، إلا أننى لم أستطع التفكير فى أنسب منها لهذا الغرض.
جمهورية ألمانيا الإتحادية هى التنظيم الذى نشأ على أنقاض الدولة الألمانية النازية التى حطمها الحلفاء فى عام 1945 واقتسموا أرضها فيما بينهم.
وقد قسمت ألمانيا كما نعلم إلى ثلاث قطاعات رئيسية واحد للأمريكيين وآخر للبريطانيين وثالث للسوفيت. إلا أن مؤتمر بوتسدام بعد نهاية الحرب كان هو المناسبة التى نجح خلالها رئيس الوزراء البريطانى ونستون تشرشل فى إقناع الحليفين الآخرين برفع مقام فرنسا من قوة مهزومة ومحتلة أثناء الحرب إلى قوة منتصرة وحليف له ندية بالحلفاء الآخرين عن طريق منحها جزءا من ألمانيا تحتله كقطاع فرنسى أسوة بالقوى الأخرى.
وبعد قليل من نهاية الحرب بدأت الخلافات تدب بين المنتصرين خصوصا بعد أن بدأ الإتحاد السوفيتى فى القطاع الخاص به فى شرق ألمانيا فى تنفيذ سياسة مختلفة تماما عن السياسة الغربية المتبعة من جانب القوى الأخرى فى الغرب. وفى النهاية قرر الحلفاء الغربيون التصرف بمفردهم وبقيادة أمريكية فأعلنوا ضم القطاعات الغريبة الثلاث وطلبوا من مجموعة من الخبراء القانونيين والموظفين الإداريين الألمان فى تلك المناطق أن يكتبوا مسودة دستور لدولة تضم هذه القطاعات الثلاث تمهيدا لعرضه للتصويت عليه من قبل مجلس برلمانى يتكون من أعضاء منتخبين لبرلمانات الولايات حيث لم يكن هناك برلمان إتحادي بعد.
وقد قام هؤلاء الخبراء بمهمتهم وكتبوا مسودة الدستور وعرض على هذا المجلس البرلمانى وقبله وأصبح هذا الدستور ساريا منذ ذلك الحين وحتى اليوم، مع عديد من التعديلات التى لحقت به خلال 65 عاما هى كل عمره.
وقد كانت المادة العاشرة منه تنص على أن سرية الإتصالات والبريد والخطابات هى حق مكفول للمواطنين ولا يمكن تنظيمه أو التضييق منه إلا بقانون.
إلا أن الحليفين الغربيين أمريكا وبريطانيا لم تكنا تقنعان بهذا الترتيب، فقد أرادا فرض رقابة كاملة على الإتصالات والبريد والتليفونات والبرقيات سواء فى الداخل أو فى التعامل الخارجى. ولهذا أبرم إتفاق سري بين المستشار الأول للجمهورية الوليدة كونراد آديناور من ناحية والأمريكيين والبريطانيين من ناحية أخرى على السماح لهم بممارسة جميع أنواع الرقابة على هذه الإتصالات بدون أى معارضة أو تدخل من جانب الحكومة الألمانية التى لم يكن لها سوى أن تغض الطرف عن ذلك إذ لم يكن لها فى أمرها حكم.
وبذلك كانت الحكومتان البريطانية والأمريكية تمارسان الرقابة والهيمنة الكاملة على كل كلمة تكتب أو تنطق أو تنقل داخل ألمانيا. وفى سبيل تحقيق هذا الغرض كانت الخطابات تفتح وتقرأ ثم يلقى بها فى سلة المهملات حيث أن تسليمها لمستقبليها أصبح غير ممكن دون كشف وقوع عملية الرقابةوبالتالى كان التخلص من تلك الخطابات هو الحل الأكثر أمنا لضمان سرية العملية الرقابية !!
وبالطبع لم تتنازل كل من إنجلترا والولايات المتحدة عن هذا الحق الرقابى المكفول باتفاق سري واستمر تنفيذ هذا الإتفاق السرى عبر الحكومات المختلفة والمتعاقبة حتى جاء عام 1968 بثورة الشباب وما صاحبها من مظاهر قلق إجتماعى يبشر بتغيير كامل فى بناء النظام العام للدولة الألمانية.
وهنا كان لابد لأجهزة الأمن الألمانية نفسها أن تحصل على حق مشابه لما حصل عليه الحليفان الغربيان، ولكن ذلك لم يكن أمرا يمكن الوصول إليه بقرار سرى من رئيس الحكومة بل لزم تعديل الدستور لكي يسمح بذلك.
وقد كانت الفرصة مواتية إذ أن الحكومة الإتحادية فى ذلك الوقت كانت حكومة تحالف من الحزبين الكبيرين الإشتراكى والمسيحى الديموقراطى مما يؤهلها للحصول على الأغلبية اللازمة فى البرلمان بدون عناء.
كان نص المادة المذكورة عاما ويعطى مساحة واسعة من الحرية بلا رقابة من الدولة، إذ كان يفيد بأن
"أسرار الخطابات والبريد والإتصالات التليفونية لا يمكن المساس بها، إلا أنه يجوز تحديدها بمقتضى قانون".
ولما كان صدور هذا القانون يجعل منه عرضة للفحص الدستورى من قبل المحكمة الفيدرالية الدستورية مما يصعب معه ممارسة الرقابة التى كانت الحكومة الألمانية تستهدفها فقد تفتقت القريحة القانونية الألمانية عن فكرة ربط هذا الإختصاص فى مواد الدستور بحيث يقطع طريق الفحص الدستورى على المحكمة فى المستقبل.
ولهذا أضيف بند ثانيا إلى المادة رقم 10 من الدستور فى عام 1968 لكى يصبح النص كالتالى:
"1. أسرار الخطابات والبريد والإتصالات التليفونية لا يمكن المساس بها، إلا أنه يجوز تحديدها بمقتضى قانون".
2. يجوز تحديد سرية الإتصالات المذكورة فى الفقرة السابقة بمقتضى قانون. وفى حالة أن يكون هذا التحديد لصالح حماية النظام الأساسى الديموقراطى الحر أو لاستمرار أو أمن الإتحاد الفيدرالى أو لأحد الولايات فمن الممكن أن ينص القانون على عدم إبلاغ الشخص محل الرقابة وعلى أن يحل أعضاء ممثلون عن الشعب محل آلية الفحص القضائى لهذه الإجراءات".
وهذا النص المعدل يعنى ببساطة سقوط حق المواطن فى التقاضى أمام المحاكم، ناهيك عن أنه لا يبلغ أصلا بكونه محل رقابة من الدولة. ولكون هذا النص موجود فى نص دستورى فلا يمكن للمحكمة الدستورية – كما سلف البيان – أن تفحص هذا الإجراء.
وهكذا نشأت فى البرلمان الألمانى لجنة تسمى لجنة G10أى اللجنة المختصة بالمادة العاشرة من الدستور وهى التى تقرر كيفية التعامل الألمانى الحكومى مع قطاع الرقابة على الإتصالات فى غيبة كاملة للمحاكم التى أخرجها المشرع الدستورى من هذا الإختصاص.
كل ذلك دون الإخلال بالحق الأصلى لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا لممارسة الرقابة على الإتصالات داخل ألمانيا، والذى لم يعد يمارس بالطريقة القديمة عن طريق فتح الخطابات الورقية وإنما عن طريق التنصت على الإنترنت والتليفونات المحمولة وغيرها من وسائل التواصل.
وفى هذا السياق تم التنصت على تليفون المستشارة ميركل من جانب الهيئة الأمريكية للأمن القومى وهى لا تستطيع الجهر بالشكوى حيث أن ذلك هو تنفيذ لاتفاق قديم كما سلف البيان.
وهكذا ففى البدء كانت الكلمة وفى النهاية أيضا هى الكلمة التى تسعى كل الحكومات إلى معرفة محتواها ومن قائلها ولمن ومتى وفى أى موضوع..