عندما تحدّث البروفسور الأميركي لاري روربو، وهو أستاذ في المعلوماتية في جامعة كاليفورنيا ويدير مركز "تراست" TRUST Center فيها، أحسّ كثيرون أن كلامه يخفي بأكثر مما يظهر، بمعنى أنه سار فيه على عادة بعض الأكاديميين مِمَن يفضلّون أن تكون أحاديثهم العامة تَلميحاً وتَحفيزاً للأذهان على التفكير، أكثر من تكون إلقاءً لخُلاصات تبدو حاسِمَة كأنها تسعى للقول بأنها "الكلمة الفصل"في موضوعها.
القلاع لا تحمي
في سياق تحفيز الأذهان على التفاعل مع المشاكل قبل الدخول في محاولة إيجاد حلول لها، ركّزت مُداخَلَة روربو في "مؤتمر قطر السنوي للبحوث 2013" (راجِع "الحياة"في 10 كانون أول/ديسمبر 2013)، على موضوع الأمن المعلوماتي Cyber Security. وبدت مُداخلته مثيرة تماماً لأنها طَرحت فِكْرَة غير مألوفة، على الأقل في النقاش العربي العام عن المعلوماتية والأمن فيها. إذ دعا روربو مُداخلته إلى إنشاء نُظُم تجمع الشقّ الاجتماعي مع الشقيّن الإلكتروني والمادي (= الأجهزة والحواسيب والخوادم والكوابل والشبكات السلكية واللاسلكيّة وغيرها) Resilient Physical- Societal Cyber security Systems. وبحسب روربو، يهدف هذا المزيج لتكوين نُظُم مَرِنَة، بمعنى أن تمتلك القدرة على امتصاص الضربات والانطلاق إلى الحلول. ورأى أن هذه المُرونَة تشكّل بداية الحُلول الواقعيّة للأمن المعلوماتي في أزمنة تشتدّ فيها الضربات الإلكترونيّة كما تغدو أشد تعقيداً ودَهاءً. وشدّد أيضاً على أن المُرونَة في الحماية تمثّل بديلاً عَملانيّاً وواقعيّاً، عن الدُخول في محاولات بائسة لتشييد "قلاع"معلوماتية منيعة تَستَعصى على الضربات الإلكترونيّة، بمعنى أن هذا الاستعصاء بات شبه مستحيل.
وفي المقابل، أشار روربو إلى موانع تنتصب في وجه هذه المُرونَة. وتشمل هذه الموانع أشياء كالحوادث الطبيعية الكبيرة (بسبب ما تخلّفه من أضرار على البُنيَة التَحتيّة الإلكترونيّة)، والشراسة المتزايدة للهجمات الإلكترونيّة، ووجود مُكوّنات وبرامج معلوماتيّة ضعيفة أصلاً وغيرها. وأوضح أن مُرونَة النُظُم تظهر في سرعة امتصاص الضربات الأمنية الرَقَمية، والقدرة على إعادة تشغيل الأجهزة والخدمات. ولاحظ أن هذه الصورة عن نُظُم تضْرَب وتَستَرد عافيتها، بدل أن تكون عصيّة على منال الضربات الإلكترونيّة أصلاً، ربما لا تروق للعامة، لكنها أمر واقعي.
استِدراج صحافي!
بتردّد مألوف ممن يعرف أن كلامه يؤخذ مرجعاً وحُكماً، وافق روربو على اعتبار أن ما فعلته "وكالة الأمن القومي" National Security Agency الأميركية في برنامج "بريزم" Prismللتجسّس الإلكتروني الشامل، يشكّل تهديداً قويّاً للأمن الرَقَمي عالميّاً بشبكاته واتصالاته. وأثناء رحلة في الباص بين "مركز المحاضرات"في الدوحة وفندق "رينيسانس"، جرى "استدراج"روربو صحافيّاً إلى حديث يستكمل مُداخلته الآنفِة الذِكر. ورأى هذا الخبير المعلوماتي أن انغماس "وكالة الأمن القومي"في برنامج للتجسّس الشامل، يعطي مثالاً قويّاً عن الانزلاق من الحماية الى التجاوز. ولفت إلى أن الملمح القوي في هذه التجربة هو أن التجسّس الواسع جاء مُنسجماً مع عمل الوكالة أصلاً لكونه في صلب عملها، بل أنه لم يتعارض حتى مع المسارات القانونيّة التي تعتمدها هذه الوكالة!
وأضاف روربو: "فعلت "وكالة الأمن القومي"ما كانت تفعله دوماً، بل ما كان يُطلب منها باستمرار. ربما إذا نظرنا إلى الأمر من هذه الزاوية تصبح الأشياء أشد قسوة. هناك شيء ما أساسي وأصيل أدى إلى الوصول إلى هذا الوضع، من دون أن يبدو مهنيّاً وسياسيّاً كتجاوز واختراق للخصوصيات وحقوق الأفراد والدول، بل من دون التنبّه إلى كونه خطراً على الأمن الرَقَمي عالميّاً. إنه درس قويّ، يجدر الاستفادة منه، خصوصاً أن النِقاشات حول الهَجَمات الإلكترونيّة والحرب الشبكيّة والخصوصيّة الفرديّة والحقوق الإنسانيّة والسياسيّة للدول والأفراد، هي موضوعات تتدخّل فيها السياسة والإيديولوجيا بشدّة".
وفي هذا السياق، ذكّر روربو بأن فقدان التأييد الشعبي أمر حسّاس لأن الانخراط الاجتماعي مُكوّن أساسي في المُرونَة الرَقَمية. وذكّر بوجود تحالفات شتّى بين حكومات وشركات ومؤسسات كبرى في بحوث الأمن المعلوماتي، خصوصاً "تحالف بحوث الأمن المعلوماتي" Cyber Security Research Alliance الذي يجمع الشركات الأساسيّة في صناعتيّ المعلوماتية والاتصالات المتطوّرَة.