Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all 560 articles
Browse latest View live

بطلان خلافة الأعاجم على العرب

$
0
0

 

 

تأليف : محمد السويسي

"لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"

هذا الحديث يتمسك به الشعوبيين الأعاجم  على محتلف الجنسيات والبعد لمساواة أنفسهم بالعرب ، وبالتالي التسلل الى الأمة العربية وتولي حكمها والسيطرة عليها وعلى مواردها ، دون استطاعة أحد التثبت من صحة هذا الحديث  أو بطلانه ، إذ كتب بعد مئة وستون عاماً من وفاة الرسول الكريم .

ومن هنا سقطت الإمبراطورة العربية في العهد العباسي على غير تعاليم الإسلام لِتحَكَّم الأعاجم بها زوراً .. ولتنتهي ويأتي الأتراك من بعدها.

لذا فإن الحكم العثماني وما سبقه من أنظمة وسلطات ، كان لاشرعياً وباطلاً في كل مفاعليه في حكم العرب ،  لعدم تولي العرب حكم الإمبراطورية الإسلامية بأنفسهم ، ولعدم تكلم سلاطين بني عثمان   اللغة العربية وامتناعهم عن نشر اللغة العربية بين شعوبهم وفي جميع الولايات التابعة لسلطتهم بما يتعارض ولغة القرآن العربية .

لذا فإنه الخلافة العثمانية على بلاد العرب في مضمونها لم تكن سوى احتلالاً للأمة العربية عمل على تأخيرها وأساء اليها . إذ أن الخليفة العثماني أو التركي كان يجب أن يكون عربياً ، إذ لم يكن من الجائز على الخليفة العباسي التنازل عن الخلافة لأعجمي ، لتجاوز حد السلطة المخولة له دينياً مع إفراطه بحق العرب في الأرض والحكم والولاية ، لأن التنازل عن الولاية فيه تنازل عن الأرض خاصة وأنه حصل دون مبايعة من أصحاب الشأن ، خاصة  في الجزيرة العربية .

وعليه فإن تولي الأتراك الخلافة في السلطة على العرب في العام 1519 ميلادية  يتعارض وتوجه الدولة العربية الإسلامية التي وضع أسسها وأرسى دعائمها وفق شروط أساسية  خليفة الرسول الثاني وإمام المسلمين الشيخ عمر بن الخطاب الذي جمع القرأن ومنع كتابة الحديث  حتى لايطغى على النص القرآني  الأصيل بما سمح بتسرب الأعاجم الى الدين الإسلامي والطعن به بالأباطيل المعادية له ، إذ اعتبر عمر بن الخطاب أن القرأن كاف لإدارة أمورالمسلمين  من قبل الراسخين به ن ، وقد ترك لنا نهجه في ذلك في تولية الأئمة والقضاة وقادة الجيوش في سؤال وجواب ،  كان فحواه النص القرآني والإجتهاد والقياس وليس الحديث على الإطلاق .

كما أنه حذر من إدخال أي عنصر عربي الى الجيش الإسلامي ، خاصة القادة والضباط وإلا فقدت الدولة قوتها وتراجع الدين الإسلامي الذي لايمكن أن ينهض ويقوى إلا على أكتاف العرب .وقد صدق في حدسه وتوجهه وتوجيهاته ، إذ لم تعان الأمة العربية وتتراجع قوتها وعنفوانها بما عليه الحال الآن ،إلا بعد ان وضع عليها الأعاجم والشعوبيين يدهم خلال الولاية العباسية فإذا بهم حاقدون على العرب يعملون بهم وبدينهم تهديماً وإضعافاً دون ان يأخذوا بهذا الحديث أو مضمونه أو أحاديث أخرى موضوعة إلا بما يتناسب ومصلحتهم وقد تجاهلوا النص القرىني تماماً ، رافضين أن يحصر الحكم والسلطة في العرب دونهم على بلاد العرب والمسلمين .

وكان أول تدخلهم وتسللهم للدين الإسلامي لتشويه صورته والعمل على تهديمه  هو بكتابة الحديث بشكل خجول مع بداية الدولة العباسية ومن ثم لينشط بالتواتر بعد مئتي عام مع ضعف الخلافة العباسية وعدم قدرتها على تطبيق تعاليم الإسلام وقد استبدوا  بوزاراتها وبلاطها ورئاسة الجند والأفراد  والشرطة ، وشجعوا جماعاتهم على كتابة الحديث واجزلوا لهم العطاء في محاولة لتغليبه على النص القرأني والإكتفاء به بما يتلائم ووضع يدهم على السلطة والحكم تحت عنوان أنه "لافضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" .

ولو افترضنا صحة هذا الحديث فإن هذا لايعني تقدمهم على العرب في حكم بلادهم والفتيا والإجتهاد وتفسير القرآن  ، بل أن المعنى واضح وهو أنه لافضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، أي في العمل الصالح الذي يجزى عليه الإنسان يوم القيامة  وليس الحق في تولية أمور العرب .

ولولا أن الله قد فضل العرب على جميع الأمم وأعطاهم القيادة والنصر على الأمتين الفارسية والرومانية لما أنزل عليهم القرأن ولما أنزله باللغة العربية تكريماً لهم لما عندهم من شآمة وعنفوان ورحمة تفتقدها الشعوب الأخرى . ولقد أثبت العرب في حروبهم أنهم الأكثر رحمة وإنسانية في تعاملهم مع الأمم الأخرى بما لم يسبق له مثيل في التاريخ البعيد والقريب .

وهذه المفاضلة الصريحة والواضحة بين البشر نجدها في قوله تعالى :

  وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ {النحل:71}،

وقال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ {الزخرف:32}،

وقال تعالى ايضاً : لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ {الشورى:49-50}،

وحتى ان هذه المفاضلة لم تفرق بين الأنبياء والرسل  في قوله تعالى :

"تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض " (البقرة 253)

"ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض " (الإسراء 55 )

ويؤيد ذلك في مايحكى عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال:

فما شئتَ كان وإن لم أشأ... وما شئتُ لو لم تشأ لم يكن

خلقت العباد على ما علمت...ففي العلم يجري الفتى والمسن

على ذا مننت وهذا خذلت...وهذا أعنت وذا لم تعن

وهذا شقي وهذا سعيد... وهذا قبيح وهذا حسن

لذا فإن تكريم انسان أو تفضيله عن آخر لايمكن الإعتراض عليه كما جاء في قوله تعالى : 
"فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن " (الفجر:15-16)

إلا أن مايؤلم أن بعض غلاة المسلمين الجهلة قد استدرجوا من دعوات الشعوبيين الى رفض العروبة بحجة أنها لاتأتلف والدعوة الإسلامية ، أو بالأحرى بالمبادىء الإسلامية التي لاتفرق بين عربي وأجنبي إلا بالتقوى .

في ذلك جهل ليس بعده جهل لخطأ في التفسير لايأتلف والنص القرآني وسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولا نهج الخلفاء الراشدين والدولة الأموية وفجر الدولة العباسية من قبل أن يضع الشعوبيين يدهم على السلطة والحكم فيها ويعملوا فيها تفتيتاً وتخريباً .

 إذ أثبتت التجربة على مدى التاريخ أنه لا يؤمن لشعوبي أو أعجمي في حكم العرب والحفاظ على مصالحهم وقد عانوا منهم الويلات .

لذا فإن الشعوبيين فسروا كلمة العروبة بانها الدعوة الى وحدة العرب بالعودة الى سيرة السلف الصالح  بحصر السلطة بالعرب وفق توصية الخليفة عمر بن الخطاب بأنها دعوة الى القومية العربية ؟!  مع ان كلمة القومية العربية تعني القوم العرب ولاتحمل أي معنى آخر بما انها تعتمد وحدة الارض واللغة والتاريخ المشترك .

ومع أن أمرها لايهمنا في موضوعنا هذا بما تسبب من إنقسام حاد في الرأي لقصور في الذهن والفهم العربي ، لاعتمادها التفسير الصهيوني والشعوبي الذين حملوها طابعاً دينياً على غير واقعها وحقيقتها ، إذ ماخص الدين بمضمونها ؟! وذلك دون نقاش ورد وتصحيح ، وقد استحكم الجهل في فهم معناها من بعض المختصين في شأن الدين دون القبول بتفسيرها من فقهاء اللغة العربية .  

إلا أنها مع ذلك لاتنطبق مطلقاً مع مفهوم قوميات الشعوب الأخرى التي تعني العصبية حتى بين أبناء الوطن الواحد . وليس لتفسير كلمة القومية العربية ، اي القوم العرب ، أي مثيل لها أو شبه في تفسير اللغات الأجنبية إن في المعنى او الإتجاه ، إذ لامرادف مثيل لها في قواميس جميع اللغات الأجنبية بما يتطابق ومعناها الوحدوي ..

فالعروبة عندنا تعني إبن الجزيرة وابن مصر والشام والعراق وبلاد المغرب والسودان وكل من يتكلم العربية من المحيط إلى الخليج ، اي كل القوم العرب .

إلا أن الشعوبيين واليهود يرفضون هذا التعريف الوحدوي العروبي بتشويه مضمونه وتحريفه  متهمين  العرب بالأنانية والعصبية  في رفضهم مشاركة الآخرين في حكمهم والتسلط عليهم تحت حجة ضرورة المساواة بين العرب والمسلمين من الأعاجم  ؟!.وفي ذلك تجهيل للعرب واستخفاف بهم وتحقير .

إذ هل تقبل تركيا أن تحكم من العرب وهم اصحاب الرسالة الإسلامية ؟! وهل سمحت الإمبراطوية العثمانية   لعربي ، خلال مسيرة حكمها للعرب على مدة خمسمئة عام ، ان يحكم الإمبراطورية العثمانية التي كان يقوم معظم سلطتها على البلاد العربية رغم تمسكهم بالحديث الشريف بأنه لافضل لعربي على أعجمي ؟!؟

وهل تسمح إيران وفق هذا الحديث الذي تتبناه أن تٌحكم بلادهم من قبل عربي وهي التي عملت على قتل الخليفة عمر بن الخطاب ؟

بالطبع لا ؟ إذن كيف ذلك ؟أيطبقون فحوى الأحاديث علينا ويمتنعون عن تطبيقها عليهم ؟!

إنه الجهل العربي بعدم التصدي لهذا التحريف والإفتراء  في النهج الشعوبي  بوضع الأحاديث الضعيفة وتفسيرها وإلزام العرب بها  ، مما ادى الى ضياع الحكم من أيدي العرب وأن يُحكموا من قبل الشعوبيين مما أثر على إنتشار الإسلام ونهضة العرب وتقدمهم .

ومع ذلك فإن العرب لايتعظون  من ماضيهم وحاضرهم وقد تسللت الأصابع الأجنبية والشعوبية والصهيونية بالباطل والمال الى جيوب بعض من تولوا التشريع بعناوين إسلامية على مدى التاريخ العربي  نزولاً عند رغبة الحكام ، والدين منها براء .

 


القومية العربية

$
0
0

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له ومَن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله .

لقد كثر الحديث عن القومية العربية وكثر الحديث عن الدعوة إليها وكثر الدعاة إليها هنا في الآونة الأخيرة ولقد تبعهم وأيدهم كثير من أبناء الأمة الإسلامية إما عن جهل غير مقصود وإما عن قصدٍ متعمد..ولذلك سنقوم بعرض بعض من الجوانب الخفية لهذه الدعوة وخفاياها المبطنة ولن نجد أفضل من نقد الدعوة القومية من خلال المنظور الإسلامي ..

 

* تعريف عناصر القومية العربية :-

- أختلف الدعاة إليها في عناصرها ، فمن قائل : إنها الوطن ، والنسب ، واللغة العربية . ومن قائل : إنها اللغة فقط.

ومن قائل : إنها اللغة مع المشاركة في الآلام والآمال . ومن قائل غير ذلك .

ويتبين مما سبق ذكره أن الدين ليس من عناصرها عند أساطينهم والصرحاء منهم ، وصرح بعضهم أنها تحترم الأديان كلها من الإسلام وغيره.

 

نشوء القومية العربية:

الليدي آن بلنت وفرسها قصيدةفي أواسط القرن التاسع عشر سافر الرحالة الإنكليزية الليدي آن بلنتإلى نجد وحائل بشمال غرب الجزيرة العربية. وتجوّلت في ربوعها طويلاً فانتهت إلى الإيمان بأنه إذا ما أراد العرب أن يعودوا إلى حياة الصحراء الأصلية وأن تنطلق طاقاتهم الكاملة من مكامنها فلا بد أن يتحرروا أولاً من نير الحكم العثماني واستناداً إلى هذه الفكرة قام بوضع خطة بالغة الحماسة تقتضي بنقل الخلافة من القسطنطينية إلى مكة وذلك برعاية الحكومة البريطانية 0 بعد عقود أدركت الحكومة الإنكليزية صلاحية تلك الخطة فأوفدت لورانس وهو تلميذ بلانت إلى العربية ( الجزيرة )

نجيب عازوري كان أول من دعا العرب إلى وحدة الأمة العربية حيث أسس عام 1895 في باريس جمعية سمّاها "الجمعية الوطنية العربية "انحصر نشاطها في الجالية السورية( أبناء بلاد الشام ) في فرنسا وقد نادت هذه الجمعية بوحدة العرب في أمة واحدة يجمعها الشعور الديني والعرق والتاريخ ولقد اعتبر العازوري أن الأمة العربية في سوريا الطبيعية وشبه الجزيرة العربية.

السير برسي كوكس في مؤتمر الكويت أوائل القرن العشرين يقول "إن حكومة بريطانيا لا تكنّ للعرب إلاّ الحب والنيّة الحسنة وهي ترغب في أن يستعيد العرب أمجادهم وتحرص على جمع كلمة العرب ولمّ شملهم ليكونوا كتلة قوية متماسكة يتمكنوا بواسطتها من صد أي اعتداء يقع على بلادهم في الخارج "ثم وجه السير كوكس كلامه إلى الأمير عبد العزيز آل سعود وقال "إن الخلافة الإسلامية يجب أن تعود للعرب وليس للأتراك حق فيها "انتهى مؤتمر الكويت بتأييد رؤساء ورؤوس القبائل العربية لكل ما يريده الإنكليز بما في ذلك تأييد الثورة على الأتراك لاحقاً "الثورة العربية الكبرى "عدا شيخ قبائل المنتفق وتم تأسيس مكتب إنكليزي خاص في القاهرة لهندسة الثورة

لقد كان الاستعمار وراء هذه الحركة القومية، يغذيها بكل ما يستطيع من سموم وأفكار ومبادئ ليشعلها ثورة ضد دولة الخلافة ثورة من الداخل، ومن الخارج أيضاً، ثورة ينتهي فورانها إلى ارتماء العرب في أحضان الاستعمار.

واتخذ الاستعمار شتى الأساليب لتحقيق هدفه بضرب الخلافة الإسلامية بمعول القومية العربية على الخصوص، وقام القناصل في تركيا وفي البلاد العربية بدورهم في هذا المجال ونشطت الإرساليات التبشيرية في مدارسها ومؤسساتها، وظهرت دعاوى التشكيك بأن مصر فرعونية وأن البربر ليسوا عرباً، وبالتالي لا صلة بين الإسلام وهؤلاء، وبدأت حركة باسم القومية العربية تدعو للفصل بين الإسلام والعروبة.

ولقد استثمرت الدول الاستعمارية الدعوة القومية وسخرت قسماً كبيراً منها لتحقيق أغراضها فيقول إلياس مرقص: »إن قسماً من تلك الثورات ضد العثمانيين كانت من عمل الدول الأجنبية أو بإيعازها«. ولم يكن الأتراك والفرنسيون يغالون كثيراً عندما كانوا يتهمون الحركة العربية بأنها على تعاون وثيق مع السلطات البريطانية.

 

وهكذا عاصرت القومية التركية والقومية العربية سقوط الخلافة وكانت سبباً من أسباب سقوطها، وكانت الحركة القومية العربية على الخصوص ثمرة من ثمار هذا السقوط وأثراً من آثاره، ظل يعمل عمله في تعميق البعد بين الإسلام وواقع العرب المسلمين وباشر أبناء العرب المسلمين بأنفسهم تنفيذ مخططات الاستعمار البغيض في وأد كل ما يمت إلى الإسلام بصلة حسن نية تارة وبسوء نية تارة أخرى، حتى حقق الصليبيون ومن معهم هدفهم في إسقاط الخلافة وتركت العرب يلوكون هذه القومية النتنة التي ما زلنا نعانى منها الشيء الكثير

 

ولقد تطور المفهوم القومي من مجرد كونه عاطفة ومحبة لأمة معينة وأرض معينة إلى عقيدة ومنهج حياة وسلوك، ولذلك يقول دعاة القومية العربية: كل ما في واقعنا اليوم يؤكد بأن انعطافنا التاريخي وانقلابنا الجذري وثورتنا الحقيقية لا يمكن أن تتم بدون عقيدة.. عقيدة تضع القيمة الحقيقية للفرد العربي وتوفر له الحياة الحرة الكريمة التي تتحقق فيها العدالة الاقتصادية عن طريق نظام اشتراكي عادل.. والعدالة السياسية عن طريق نظام ديمقراطي سليم، والعدالة الاجتماعية الخاصة عن طريق تظم تربوية بناءة.. تضع مفهوماً جديداً خلاّقاً للمرأة والأسرة والهيئات ومختلف مرافق الحياة الاجتماعية.. وهكذا أصبحت القومية دينا تقوم مقام شمول الدين الإسلامي في كل نواحي الحياة، بل إنهم جعلوا الإسلام مجرد انتفاضة عربية عارضة ونزعة نحو المثل الأعلى »فالدين الإسلامي وأي دين آخر، إذا توصلنا إلى جوهره وتلمسنا روحه العامة ونظرنا إليه على أنه قيم ومثل وفضائل وتهذيب للحياة وبلورة للإحساس وثقافية محددة.. إن أي دين بالاستناد إلى هذا المفهوم هو انطلاق للعقل ودفع نحو التطور والتجديد«. ويقول آخر: »العروبة نفسها دين عندنا نحن القوميون العرب المؤمنين العريقين من مسلمين ومسيحيين.

 

من شعارات القومية العربية الحرية

لم تخدع أحداً شعارات الحرية التي رفعها و يرفعها القوميون العرب ( بعثيون, ناصريون...) طوال نصف قرن فالحرية في الخطاب القومي العربي كما عند البعث و عبد الناصر تعني التحرر من الاستعمار و ليس الحرية السياسية و الثقافية للمجتمع, لم يكن للحرية و الديمقراطية أي مكان في سياسة عبد الناصر, بل ازدراهما و اعتبرهما إضعافاً للأمة و خيانة عظمى لها, و لأنه ابن بيئة فلاحيّة و عسكرية جاء إلى السلطة بانقلاب, قلم يكن يملك لا الذهنية و لا الثقافة و لا الخبرة لإدارة شؤون البلاد بشكل جيد, فاعتمد على أجهزة الأمن التي سوّت كل شيء بالأرض, ( كله عند الأمن صابون ).

 

* أهدافها :-

-كما عرفه البعض من دعاتها هو فصل الدين عن الدولة ، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع ، والاستعاضة عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى ، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة ( لا بلغهم الله مناهم)

* النظرة الإسلامية إلى الدعوة للقومية العربية ..

- الدعوة إلى القومية العربية وغيرها من القوميات ، دعوة باطلة وخطأ عظيم فادح ومنكر ظاهر وكيد سافر للإسلام وأهله ،وذلك من عدة وجوه :-

 

* الوجه الأول :-

إن الدعوة إلى القومية العربية تفرِّق بين المسلمين ، وتفصل بين المسلم العجمي عن أخيه العربي،وتفرق بين العرب أنفسهم لأنهم كلهم ليسوا يرتضونها ، وإنما يرضاها منهم قوم دون قوم ، وكل فكرة تقسم المسلمين وتجعلهم أحزاباً هي بلا شك فكرة باطلة وهدامة تخالف مقاصد الإسلام وما يرمي إليه من وحدة الصف ولم الشمل والجماعة حيث أن قرآننا يدعونا إلى الاجتماع والوئام..قال الله تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } ، كذلك وكما بينت سابقاً فإن هدف القومية غير هدف الإسلام وإن مقاصدها تخالف مقاصد الإسلام والدليل على ذلك أن الدعوة إلى القومية العربية وردت إلينا وجاءت من أعدائنا الغربيين ليكيدونا بها نحن المسلمين ولفصل بعضنا عن بعض وتحطيم كياننا وتفريق شملنا على نحو قاعدتهم المشؤومة ( فرق تسد ) وذكر كثير من مؤرخي الدعوة إلى القومية العربية ومنهم مؤلف الموسوعة العربية : أن أول من دعا إلى القومية العربية هم الغربيون على أيدي بعثات التبشير في سويا ليفصلوا الترك عن العرب ويفرقوا بين المسلمين، فهل تظن أن خصومنا وأعداءنا يسعون في مصالحنا بابتداعهم هذه الدعوة وعقد المؤتمرات لها ( أول مؤتمر عقد في باريس عام1910) و ابتعاث المبشرين لها..؟

قد يثور التساؤل لدى البعض ما المصلحة التي سوف يجنيها الغرب من الدعوة إلى القومية العربية خصوصاً إذا ما علمنا أن الغرب يزعجه أي تجمع ويقلق راحته أي تكتل ضد مصلحته..؟

 

أقول وكما هو معروف لدى العقلاء أنه إذا كان لابد من أحد الضررين فارتكاب أهونهما أولى حذراً من الضرر الأكبر..وبما أن خوف الغرب من التكتل حول الإسلام أكبر وأعظم كما هو معلوم لدى الجميع.. ولذلك رضي بالدعوة إلى القومية العربية وحفز العرب إليها ليتمكن من شغلهم بها عن الإسلام وليقطع بها صلتهم بالله سبحانه وتعالى لأنهم يعلمون علم اليقين ليس للمسلمين من نصر إلا بتمسكهم بإسلامهم الصحيح..وكما قال الله تعالى : { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور }.

 

* الوجه الثاني :-

إن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذَّر منها ولا ريب أن الدعوة إلى القومية من أمر الجاهلية لأنها دعوة إلى غير الإسلام ومناصرة لغير الحق..وكما قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله : كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية بل لمَّا اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري : ياللمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) وغضب لذلك غضباً شديداً.

 

قال الله تعالى : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية }.. وفي سنن أبي داود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية ).. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ) ولا ريب أن دعاة القومية يدعون الى العصبية ويغضبون لعصبية ويقاتلون على عصبية ولا ريب أيضاً أن القومية العربية تدعو إلى الغي والفخر لأن القومية العربية ليست ديناً سماوياً يمنع أتباعه من البغي والفخر وإنما هي فكرة جاهلية تحمل أهلها وأتباعها على الفخر بها والتعصب لها على من نالها بشيء.

 

كما كان الحال في الجاهلية حيث كانت سنتهم الفخر بالأنساب والأحساب والأسلاف..، والإسلام غير ذلك تماماً حيث أنه يدعونا إلى التواضع والتقوى والتحاب في الله وعدم التفاضل بين جنس وآخر حيث قال الله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم }  ، وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله قد أذهب عنكم عصبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي ، الناس بنو آدم وآدم خُلق من تراب ، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ).

ومن ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ) فذكرها ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وأنا آمركم بخمس ، الله أمرني بهن : السمع والطاعة ، والجهاد ، والهجرة ، والجماعة ، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع ،ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثى جهنم ) قيل : يا رسول الله وإن صلى وصام ؟ قال : ( وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ،فادعوا بدعوى الله سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله ) ولعمري أن هذا الحديث الصحيح من أوضح الأحاديث وأبينها في إبطال الدعوة إلى القومية العربية واعتبارها دعوة جاهلية يستحق دعاتها أن يكونوا من جُثى جهنم وإن صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون. فيا له من وعيد شديد وتهديد أكيد وتحذير ينذر كل مسلم من دعوات الجاهلية والركون إلى معتنقيها وإن زخرفوها بالمقالات السحرية والخطب الرنانة والخيالات الواسعة التي لا أساس لها من الحقيقة ولا شاهد لها من الواقع ، وإنما هو التلبيس والخداع والتقليد الأعمى الذي ينتهي بأهله إلى أسوأ العواقب، نسأل الله السلامة من ذلك.

 

* الوجه الثالث :-

من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية : هو أنها سلّم إلى موالاة كفار العرب وملاحدتهم من أبناء غير المسلمين واتخاذهم بطانة والاستنصار بهم..ومعلوم من هذا الفساد الكبير والمخالفة لنصوص القرآن الكريم والسنة الدالة على وجوب بغض الكافرين من العرب وغيرهم ومعاداتهم وتحريم موالاتهم واتخاذهم بطانة..إستناداً إلى قول الله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولّهم منكم فإنه منهم إن الله لايهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة..} . سبحان الله ما أصدق قوله وأوضح بيانه ، هؤلاء القوميون يدعون إلى التكتل حول القومية العربية مسلمها وكافرها ، يقولون : نخشى أن تصيبنا دائرة ، نخشى أن يعود الاستعمار وأن يطمع الغرب فينا..نخشى أن تسلب ثرواتنا بأيدي أعدائنا ، فيوالون لأجل ذلك كل عربي من يهود ونصارى ومجوس ووثنيين وملاحدة وغيرهم تحت لواء القومية العربية ،ويقولون : إن نظامها لايفرق بين عربي وعربي وإن تفرقت أو اختلفت أديانهم ، فهل هذا إلا مصادمة لكتاب الله و مخالفة لشرع الله وتعدٍ لحدود الله وموالاة ومعاداة وحب وبغض على غيردين الله؟..، فما أعظم ذلك من باطل وما أسوأه من منهج ..القرآن يدعو إلى موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين أينما كانوا وكيفما كانوا، وشرع القومية العربية يأبى ذلك ويرفضه ويخالفه ( قل أأنتم أعلم أم الله ) ويقول الله سبحانه وتعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تُلقون إليهم بالمودة } إلى قوله تعالى { ومن يفعله منكم فقد ضلُ سواء السبيل }.

ونظام القومية يقول : كلّهم أولياء مسلمهم وكافرهم.. والله تعالى يقول : { لاتجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أوعشيرتهم }..، وشرع القومية وشرع دعاتها يقول : اقصوا الدين عن القومية ، وافصلوا الدين عن الدولة ، وتكتلوا حول أنفسكم وقوميتكم حتى تدركوا مصالحكم وتستردوا أمجادكم ، وكأن الإسلام وقف في طريقهم وحال بينهم وبين أمجادهم..؟

هذا والله هو الجهل والتلبيس وعكس القضية وإنه لبهتان عظيم..وكيف يجوز في عقل عاقل أن يكون أبو جهل وأبو لهب وعقبة ابن أبي معيط والنضر بن الحارث وأضرابهم من صناديد الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يومنا هذا إخوانا وأولياء لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة ومن سلك نهجهم وسبيلهم من العرب إلى يومنا هذا..؟

هذا والله أبطل الباطل وأعظم الجهل.. وشرع القومية ونظامها يوجب هذا ويقتضيه وإن أنكره البعض من دعاتها جهلاً أو تجاهلاً و تلبيسا..، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

* الوجه الرابع :-

-يقال إن الدعوة إلى القومية العربية والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولابد إلى رفض حكم القرآن ، لأن القوميون غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام.. وقد صرح بذلك كثير منهم..، وهذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردة السافرة ، كما قال تعالى : { فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شَجَر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلِّموا تسليما } ، وقال الله تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } وقال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .

 

* فالواجب على زعماء القومية العربية ودعاتها أن يحاسبوا أنفسهم ويتهموا رأيهم وأن يفكروا في نتائج دعوتهم المشؤومة وغايتها الوخيمة ، وأن يكرسوا جهودهم ويسخروا طاقاتهم للدعوة إلى الإسلام ونشر محاسنه والتمسك بتعاليمه والدعوة إلى تحكيمه بدلاً من الدعوة إلى قومية أو الوطنية.

 

 

بعض نصوص هذه المحاضرة نقلت من الكتيب القيم للعلامة فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن باز..بعنوان ( نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع ).

 

* نسأل الله أن يصلح قلوبنا ، وأن يعرِّفنا ذنوبنا ، ويمنّ علينا بالتوبة منها ، وأن يهدينا وسائر إخواننا سواء السبيل....إنه على كل شيء قديـــــر .

 

المغنيّة الملتحية وجندي "ويكيليكس"الأنثى: تحدي الدول بالجنس

$
0
0
كونشيتا فورست
بعد هنيهة خاطفة من اهتزاز أميركا بتأثير محاكمة المجنّد/ المجندّة تشيلسي ماننغ، اهتزّت روسيا تحت وطأة فوز "السيدة الملتحية"كونشيتا ورست بالمسابقة 59 من "يوروفيجن"المخصّصة للغناء الشبابي.
وأثناء محاكمتها، بيّنت تشيلسي ماننغ (التي حضرت الى القضية بوصفها الجندي برادلي ماننغ صاحب الميول المثلية)، أن تسريب مئات الآلاف من الوثائق الرسمية لوزارة الخارجية الأميركية، جرى بتأثير إيمانها/ إيمانه بالحرية. هل شكّل الجسد الملتبس للمغنيّة النمساوية كونشيتا ورست (سابقاً المغني توم نيورث) "وثيقة"بالجسد، فكان جسد كونشيتا المزدوج جنسيّاً، وثيقة متحديّة تكفي لهزّ روسيا ودول حليفة، وهي دولة كبرى كالولايات المتحدة؟ لم تُسرّب كونشيتا وثائق سياسية، لكنها هي "تسرّبت"كوثيقة متحدّية بالجسد، عبر عيون 180 مليوناً تابعوا في 45 دولة، ممن تابعوا أغنية "إنهض كطائر الفينيق" Rise Like a Phoenix.
 
أوكرانيا وكونشيتا وتعدّد الهويّات
 
الآنسة حنفيفي لحظة فوز كونشيتا، بدت أوروبا في انقسام واضح حيال جسد تداخلت فيه الهويات الجنسية.
 
إذ ساد الترحيب معظم دول الاتحاد الأوروبي، وبدرجات متفاوتة. فحتى في فرنسا، لم تنس الشوارع التظاهرات الضخمة ضد حقوق مثلي الجنس هذه السنة. ومن المهم ملاحظة هذا التفاوت والتخبّط والتصارع، وهو يفيد لتجنّب الغرق في طوباوية فكريّة تقع في تعميم يوصل إلى رؤية أيديولوجية، تعمّم الحرية ومواصفاتها على طرف وجغرافيا ودول، ولا ترى إلا عكسه في المقلب الآخر. ربما تكون الأشياء أكثر تعقيداً من هذا التبسيط المفرط.
 
ولا يمنع ذلك من القول بأنه مقابل فرح واسع في غربي أوروبا التي لم تخرج من أضخم أزمة اقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية، ساد توتر وعدم ترحيب في دول أوروبا الشرقية وروسيا. وربما يحتاج الأمر إلى بعض المبالغة (وهي ممكنة بتحفّظ) للقول بأن الانقسام على جسد كونشيتا يشبه الانقسام على الجسد الجغرافي لأوكرانيا. وفي ذلك الصراع، سعت أوكرانيا إلى جسد يجمع الشرق بالغرب في مصالحة تاريخية تمضي لمصلحة التحرّر. ولم ترق المصالحة لنظام ما زال ميّالاً إلى الاستبداد في موسكو، وكذلك الحال بالنسبة لدول كثيرة لم تتعمّق فيها ثقافة التسامح سياسياً وجنسيّاً.
 
وأبرزت كونشيتا هذا المعنى بوضوح عندما خاطبت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خصوصاً قانونه المعادي "للترويج للمثلية الجنسية"، بالقول: "لا أعرف إن كان يشاهدنا لكن إذا كان الامر كذلك، كنت واضحة لا شيء يمكن أن يوقفنا".  
 
وانفجر صراع متعدّد الأبعاد بفعل سعي أوكرانيا لامتلاك هويّات متداخلة في الجغرافيا السياسية، مع وجوب ملاحظة كثير من الالتباسات خصوصاً بالنسبة لحقوق فعلية للأقليات المتمرّدة على كييف الميّالة للغرب في أوكرانيا. وأدى الجسد الأوكراني "المتداخل"إلى تفجّر صراعات شتّى.
 
وكذلك تفجّرت مشاعر متعدّدة المنابع، مع التباسات لا تحصى أيضاً، في طول أوروبا وعرضها بعد فوز الجسد المتداخل- المتصالح جنسيّاً، لكونشيتا في مسابقة "يوروفيجن". وفي خط التحفّظ على تبسيط الانقسام، تهاطلت رسائل الخليوي المؤيّدة لكونشيتا من دول أوروبا الشرقيّة، في نفس الوقت الذي تكاثرت فيه على الانترنت عرائض تندّد بها من جمهور الشبكات الاجتماعية في أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا.
 
مستقبل المصالحة التاريخية
 
مثّلت كونشيتا النمسا في مسابقة "يوروفيجن"، فكانت أول نمساوية تفوز بها منذ العام 1966، عندما كانت المسابقة في عقدها الأول.
في لحظة فوزها، ملأت النمساوية كونشيتا المسرح بفستان منسدل على جسد رقيق، منتعلة حذاءً رياضيّاً بكعب عالٍ، فيما امتدت رموش اصطناعيّة من موضة "رموش الفراشة"على العينين. ومع لحية سوداء، أعطى مظهر كونشيتا لصاحبته لقب "ملكة التعمّد".وتعمّدت كونشيتا عدم إخفاء الازدواج في هويتها الجنسيّة، بل اجمتعت هويتها كذكر سابق مع ميلها إلى امتلاك جسد امرأة.
 
وللحظة، بدا ذلك الجسد قريباً من أغنيتها الفائزة "إنهض كفينيق". وكطائر الفينيق الأسطوري، نهض جسد الأنثى الذي كان مختفيّاً في الذكر الذي كانته سابقاً. نهض جسد كونشيتا من موته الرمزي ليعلن حياته مجدداً. وبطريقة نبيلة كليّاً، لم يقتل جسد الأنثى العائد من الغياب، جسد الذكر (المغني نيورث)، بل تصالح معه تماماً عبر لحية رجال.
 
وفي هذا السياق، صنعت كونشيتا فارقاً عن حالات مشابهة كثيرة. ومثلاً، في حال ماننغ، حُسِم الصراع بين هويتي الأنوثة والذكورة على الجسد، لمصلحة الأولى، بمعنى أن المجنّد السابق تحوّل أنثى. أما في حال كونشيتا، فهناك ميل إلى المضي خطوة أبعد للوصول إلى نوع من "مصالحة تاريخية"بين هويتين جنسيتين بينهما صراع تاريخي مديد. وإذ جمعت كونشيتا في جسد واحد هويتين ظُنّ طويلاً أنهما متنافرتان، بل متعاديتان، رسمت آفقاً لحل آخر بين هويتين يجمع بينهما هوية أساسيّة: الكائن الإنساني. الأرجح أن شيئاً كثيراً من هذا المعنى تشي به كلماتها عقب فوزها باللقب الموسيقي "بالنسبة لي، هناك حلم تحقّق. أما بالنسبة لمجتمعنا، فهذا يظهر أن هناك أناساً يريدون المضي قدماً إلى المستقبل، من دون تراجع، ولا الغرق في الماضي".
 
من إسماعيل يسن إلى فغالي
 
أفيش فيلم الآنسة حنفيمن يذكر كتاب المفكر جورج طرابيشي "شرق- غرب: رجولة- أنوثة"، يعرف أن التوازي بين الغرب والأنوثة عميق تماماً، في ثقافة العرب. وفي البلدان العربية، تجاوب جيل مع موضة الهيبز وأغاني البيتلز، فوصف بأنه يقلّد الأنثى والغرب. وراج وصفه بالتخنيث وتبني "الأفكار المستوردة"، بل أن التهمتين سرتا على ليبرالية اليمين واشتراكية اليسار، سواء بسواء. في الغرب، سارت المثلية الجنسية إلى صعود تدريجي، امتد من الالتباس المتحدي للمثليين المهمشين ثقافيّاً في فيلم "توتسي" (داستن هوفمان- 1982) إلى مثلية متآلفة مع الثقافة السائدة، في أفلام كـ"بروكباك ماونتن" (هيث لادجر-2005) و"بيهايند كانديلبرا" (مات ديمون- 2013) و"دالاس بايرز كلوب" (ماثيو ماكونهي وجارِد ليتو- 2013) وغيرها.
 
وفي تجربة الحداثة على الطريقة الناصرية، ظهر فيلم "الآنسة حنفي"لإسماعيل يسين. وفي الفيلم صورة تسخر من الذكورية، وتصوّر تحوّل الأخ الكبير إلى أنثى، مع انقلاب تفكيره في المجتمع والجنس والأسرة. سرت في الفيلم حداثة مملؤة بسذاجة سعيدة، عبر ميل إلى المصالحة مع حرية المرأة في تبسيط مُسطّح تماماً. ومثلاً يصعب انكار أن مظهر إسماعيل يسين كذكر حامل، يحمل كثير من التحدي لثقافة الذكورة العربية، مهما قيل في سطحية تلك المشهدية. ولاحقاً، امتصّت ثقافة الذكورة العربية ذلك الميل الحداثي (عبر تخلّف الثقافة والمجتمع)، فصارت جزءاً منها، على غرار ما حدث مع حداثة التجربة الناصرية عموماً.
 
وسرعان ما صار ظهور الممثل- الذكر في مظهر الأنثى، نوعاً من "الكيتش"الكوميدي المشبّع بذكورة متخلّفة. وعندما يجري ذلك التحوّل، يترافق معه صفات نمطية تعطيها ثقافة الذكور للإناث. وصار ذلك "الكيتش"الفارغ جزءاً من الفن في مصر، بل معظم البلدان العربيّة.
في لبنان حاضراً، تلفت تجربة الالتباس الجنسي عند باسم فغالي. وعلى رغم أنها يفترض أن تعطي بعض القوة لحقوق مثليي الجنس، إلا أن إفراط فغالي في المظهرية والمبالغة في تقديم الصفات النمطية التي تعطيها الثقافة الذكورية السائدة للمرأة ومثليي الجنس، جعل من تجربة فغالي سلبيّة تماماً، بل أنها مؤذية للمثليين.
 
في غير مجلة غربية، جرى الحديث في السنوات الأخيرة عن تجربة استوديو "مدني"في صيدا، وأنه درج خلال ستينات القرن الماضي وخمسيناتها (زمن الحداثة المتحرّرة والمتخبّطة عربيّاً) على تصوير الناس بحسب رغباتهم. واحتوى ارشيفيه على صور تبرز المثلية الجنسية لدى الذكور والإناث، سواء بسواء. ولكن، من الصعب القول أن المثلية الجنسية هي لبنانياً وعربياً، في حال قبول ثقافي، بل أنها لم تصل إلى درجة أن تكون "هامشاً"فعليّاً، بالمعنى الفكري، للثقافة الذكوريّة السائدة. وللحديث صلة. 
الآنسة حنفي

عن أي أزهر أتحدث؟

$
0
0

أثار الرأي الذي أبديته في جريدة الوفد، الخميس الماضي. عبر الحوار الذي أجراه معي الزميل ممدوح الدسوقي بخصوص جامعة الازهر ردود فعل، في معظمها يبدو عدم فهم ما قلته إما سهوا أو أو عمدا. لست بحاجة إلي تأكيد موقفي من الازهر. ما كتبته طوال خمسين عاما يؤكد إجلالي لهذه المؤسسة العريقة التي أعتبرها العمود الرئيسي للثقافة المصرية عبر أكثر من ألف عام ومنبر الجهاد وملجأ الشعب، لكن عن أي أزهر نتحدث؟

الازهر العريق الذي يقع في الجامع والجامعة، الذي تحيط به أروقة الطلاب من جميع انحاء العالم الاسلامي، الازهر الذي كان الطلاب يملأون ساحته، يتنقلون بحرية بين الاعمدة التي يستند إلي كل منها استاذ عالم يلقي درسا ويجلس فوق كرسي ومن هنا جاءت عبارة  »أستاذ كرسي« التي تعبر عن أعلي مراتب العلم، هل نتحدث عن أزهر العلماء الاجلاء عبر العصور وصولا إلي الامام الاكبر فضيلة الشيخ أحمد الطيب، أم عن الجامعة التي تقع في مدينة نصر والتي ليس لها من الازهر إلا الاسم؟، بكل وضوح أعني الازهر المستمر منذ عشرة قرون في مكانه، الجامع والجامعة، والكليات التابعة له، كليات أصول الدين الركن الركين لروح الازهر وفلسفته ومنهجه الاشعري الوسطي الذي نشر الاسلام في العالم بدون تطرف، كذلك كلية الشريعة، وكلية اللغة العربية، وما دار في هذا الفلك من معاهد ومدارس، أعني أزهر العلوم الشرعية، أما الجامعة التي أنشئت في الستينيات فكانت كيانا مفروضا علي الازهر من خارجه، كما قيل وقتئذ الهدف منها إضافة كليات عملية يخرج منها أطباء ومهندسون ومتخصصون في العلوم، يكونون ايضا دعاة، الفكرة نظريا رائعة، لكنها بعد ما يقارب النصف قرن تبدو فاشلة، فلا الجامعة تخرج طلبة درسوا العلوم الحديثة بعمق كنظرائهم في الكليات المماثلة، ولا تخصصوا في العلوم الشرعية مثل الطلبة المتفرغين لدراستها في الكليات التي اشرت إليها والتي تقع بجوار الجامع والجامعة التاريخيين، كان الهدف الحقيقي لانشاء الجامعة الحديثة تقليص دور الازهر التاريخي والذي لم يقتصر علي تدريس العلوم الشرعية، بل كان له دور عام في الحياة السياسية والاجتماعية، لقد أسند مشروع تطوير الازهر - كما سُمي - إلي كمال رفعت وهو أحد رجال الثورة المحترمين، لكن ما علاقته بالازهر؟، تطوير الازهر يجب أن يتم من داخله، نتج عن هذا المشروع تلك الجامعة في مدينة نصر، والتي يسود طلابها الاحباط واليأس من المستقبل نتيجة غموضه وضعف المستوي العلمي للخريجين وهذا يكمن وراء أسباب العنف غير العادي الذي يمارسه الطلاب، يقول رئيس نادي هيئة التدريس إن اقتراحي بالغاء هذه الجامعة، أي إنهاء تبعيتها للأزهر وتحويلها إلي جامعة مثل القاهرة وعين شمس، سوف يؤدي إلي زيادة الإرهاب، إن وجودها بالوضع الحالي أحد أسباب الارهاب الفعلي الذي نري عنفه يوميا، لاول مرة في تاريخ التظاهر الطلابي يدمر الطلبة منشآت تعليمية مفروض أنهم ينتمون إليها وتخصهم، هل فكر أحد من الاساتذة في دراسة هذه الظاهرة؟ ما يستحق الدعم والمساندة هو الازهر الحقيقي وليس هذه الجامعة التي تنتمي إلي الكيان التاريخي بالاسم فقط.

الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط-2

$
0
0

الدولة العثمانية - عوامل النهوض وأسباب السقوط
تأليف: علي محمد محمد الصلابي

 

المبحث الأول
عثمان مؤسس الدولة العثمانية


في عام ٦٥٦هـ/١٢٥٨م ولد لارطغرل ابنه عثمان الذي تنتسب إليه الدولة العثمانية (١) وهي السنة التي غزا فيها المغول بقيادة هولاكو بغداد عاصمة الخلافة العثمانية، وكانت الأحداث عظيمة، والمصائب جسيمة، يقول ابن كثير: "ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لايظهرون وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الحانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم (٢).
لقد كان الخطب عظيم والحدث جلل، والأمة ضعفت ووهنت بسبب ذنوبها ومعاصيها ولذلك سلط عليها المغول، فهتكوا الأعراض، وسفكوا الدماء، وقتلوا الأنفس، ونهبوا الأموال، وخربوا الديار، في تلك الظروف الصعبة والوهن المستشري في مفاصل الأمة ولد عثمان مؤسس الدولة العثمانية، وهنا معنى لطيف ألا وهو بداية الأمة في التمكين هي أقصى نقطة من الضعف والانحطاط تلك هي بداية الصعود نحو العزة والنصر والتمكين، إنها حكمة الله وإرادته ومشيئته النافذة.
قال تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين} (سورة القصص:٣).
وقال سبحانه وتعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض} (القصص، آية: ٥،٦).
.ولاشك أن الله تعالى قادر على أن يمكن لعباده المستضعفين في عشية أو ضحاها، بل في طرفة عين قال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون .. } (النحل: ٤٠).
فلا يستعجل أهل الحق موعود الله عزوجل لهم بالنصر والتمكين، فلابد من مراعاة السنن الشرعية والسنن الكونية، ولابد من الصبر على دين الله عزوجل: {ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض} (سورة محمد: ٤).
والله إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه وأتى به شيئاً فشيئاً بالتدرج لادفعة واحدة.
وبدأت قصة التمكين للدولة العثمانية مع ظهور القائد عثمان الذي ولد في عام سقوط الخلافة العباسية في بغداد.
أولاً: أهم الصفات القيادية في عثمان الأول:
عندما نتأمل في سيرة عثمان الأول تبرز لنا بعض الصفات المتأصلة في شخصيته كقائد عسكري، ورجل سياسي، ومن أهم هذه الصفات:
١. الشجاعة: عندما تنادى أمراء النصارى في بورصة ومادانوس وأدره نوس وكته وكستله البيزنطيون في عام ٧٠٠هـ/١٣٠١م لتشكيل حلف صليبي لمحاربة عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية واستجابت النصارى لهذا النداء وتحالفوا للقضاء على الدولة الناشئة تقدم عثمان بجنوده وخاض الحروب بنفسه وشتت الجيوش الصليبية وظهرت منه بسالة وشجاعة أصبحت مضرب المثل عند العثمانيين (١).
٢. الحكمة: بعد ما تولى رئاسة قومه رأى من الحكمة أن يقف مع السلطان علاء الدين ضد النصارى، وساعده في افتتاح جملة من مدن منيعة، وعدة قلاع حصينة، ولذلك نال رتبة الإمارة من السلطان السلجوقي علاء الدين صاحب دولة سلاجقة الروم. وسمح له سك العملة باسمه، مع الدعاء له في خطبة الجمعة في المناطق التي تحته (٢).
٣. الاخلاص: عندما لمس سكان الأراضي القريبة من إمارة عثمان أخلاصه للدين تحركوا لمساندته والوقوف معه لتوطيد دعائم دولة اسلامية تقف سداً منيعاً أمام الدولة المعادية للاسلام والمسلمين (٣).
.٤. الصبر: وظهرت هذه الصفة في شخصيته عندما شرع في فتح الحصون والبلدان، ففتح في سنة ٧٠٧هـ حصن كته، وحصن لفكه، وحصن آق حصار، وحصن قوج حصار. وفي سنة ٧١٢هـ فتح حصن كبوه وحصن يكيجه طرا قلوا، وحصن تكرر بيكارى وغيرها وقد توج فتوحاته هذه بفتح مدينة بروسة في عام ٧١٧هـ/١٣١٧م، وذلك بعد حصار شديد دام عدة سنوات، ولم يكن فتح بروسة من الأمور السهلة بل كان من أصعب ما واجهه عثمان في فتوحاته، حيث حدثت بينه وبين قائد حاميتها اقرينوس صراع شديد استمر عدة سنوات حتى استسلم وسلم المدينة لعثمان. قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} (سورة آل عمران:٢٠٠).
٥. الجاذبية الايمانية: وتظهر هذه الصفة عندما احتك به اقرينوس قائد بروسه واعتنق الاسلام أعطاه السلطان عثمان لقب (بك) وأصبح من قادة الدولة العثمانية البارزين فيما بعد، وقد تأثر كثير من القادة البيزنطيين بشخصية عثمان ومنهجه الذي سار عليه حتى امتلأت صفوف العثمانيين منهم (١)، بل أن كثيراً من الجماعات الاسلامية انخرطت تحت لواء الدولة العثمانية كجماعة (غزياروم) أي غزاة الروم، وهي جماعة اسلامية كانت ترابط على حدود الروم وتصد هجماتهم عن المسلمين منذ العصر العباسي، وقد أعطتها هذه المرابطة خبرات في جهاد الروم عمقت فيها انتماءها للاسلام والتزامها بكل ماجاء به الاسلام من نظام، وجماعة (الإخيان) (اي الاخوان) وهم جماعة من أهل الخير يعينون المسلمين ويستضيفونهم ويصاحبون جيوشهم لخدمة الغزاة وكان معظم أعضاء هذه الجماعة من كبار التجار الذي سخروا أموالهم للخدمات الاسلامية مثل: إقامة المساجد والتكايا و"الخانات"الفنادق، وكانت لهم في الدولة مكانة عالية، ومن هذه الجماعة علماء ممتازون عملوا في نشر الثقافة الاسلامية وحببوا الناس في التمسك بالدين، وجماعة (حاجيات روم) أي حجاج أرض الروم، وكانت جماعة على فقه بالاسلام، ومعرفة دقيقة لتشريعاته، وكان هدفها معاونة المسلمين عموماً والمجاهدين خصوصاً وغير ذلك من الجماعات (٢).
٦. عدله: تروي معظم المراجع التركية التي أرّخت للعثمانيين أن أرطغرل عهد لابنه عثمان مؤسس الدولة العثمانية بولاية القضاء في مدينة قره جه حصار بعد الاستيلاء عليها من.  .البيزنطيين في عام ٦٨٤هـ/١٢٨٥م وأن عثمان حكم لبيزنطي نصراني ضد مسلم تركي، فاستغرب البيزنطي وسأل عثمان: كيف تحكم لصالحي وانا على غير دينك، فأجابه عثمان: بل كيف لا أحكم لصالحك، والله الذي نعبده، يقول لنا: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} (سورة النساء،) وكان هذا العدل الكريم سبباً في اهتداء الرجل وقومه الى الاسلام (١).
إن عثمان الأول استخدم العدل مع رعيته وفي البلاد التي فتحها، فلم يعامل القوم المغلوبين بالظلم أو الجور أو التعسف أو التجبر، أو الطغيان، أو البطش وإنما عاملهم بهذا الدستور الرباني: {أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد الى ربه فيعذبه عذاباً نكراً - وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً} (سورة الكهف: آية: ٨٧،٨٨). والعمل بهذا الدستور الرباني يدل على إيمان وتقوى وفطنة وذكاء وعلى عدل وبر ورحمة.
٧. الوفاء: كان شديد الإهتمام بالوفاء بالعهود، فعندما اشترط أمير قلعة اولوباد البيزنطية حين استسلم للجيش العثماني، أن لايمر من فوق الجسر أي عثماني مسلم الى داخل القلعة التزم بذلك وكذلك من جاء بعده (٢). قال تعالى {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا} (سورة الاسراء: آية)
٨. التجرد لله في فتوحاته: فلم تكن أعماله وفتوحاته من أجل مصالح اقتصادية أو عسكرية أو غير ذلك، بل كان فرصة تبليغ دعوة الله ونشر دينه ولذلك وصفه المؤرخ احمد رفيق في موسوعته (التاريخ العام الكبير) بأنه (كان عثمان متديناً للغاية، وكان يعلم أن نشر الاسلام وتعميمه واجب مقدس وكان مالكاً لفكر سياسي واسع متين، ولم يؤسس عثمان دولته حباً في السلطة وإنما حباً في نشر الاسلام) (٣).
ويقول مصر اوغلو: "لقد كان عثمان بن أرطغرل يؤمن إيماناً عميقاً بأن وظيفته الوحيدة في الحياة هي الجهاد في سبيل الله لأعلاء كلمة الله، وقد كان مندفعاً بكل حواسه وقواه نحو تحقيق هذا الهدف" (٤).
هذه بعض صفات عثمان الأول والتي كانت ثمرات طبيعية لإيمانه بالله تعالى والاستعداد. لليوم الآخر، وحبه لأهل الإيمان وبغضه لأهل الكفر والعصيان وحبه العميق للجهاد في سبيل الله والدعوة إليه ولذلك كان عثمان في فتوحاته يطلب من أمراء الروم في منطقة آسيا الصغرى أن يختاروا أحد ثلاثة أمور هي الدخول في الاسلام، أو دفع الجزية، أو الحرب، وبذلك أسلم بعضهم، وانضم إليه البعض الاخر وقبلوا دفع الجزية. أما ماعداهم فقد شن عليهم جهاداً لاهوادة فيه فانتصر عليهم، وتمكن من ضم مناطق كبيرة لدولته.
لقد كانت شخصية عثمان متزنة وخلابة بسبب إيمانه العظيم بالله تعالى واليوم الآخر، ولذلك لم تطغ قوته على عدالته، ولا سلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه، وأصبح مستحقاً لتأييد الله وعونه، ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة وهو تفضل من الله تعالى على عبده عثمان، فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في آسيا الصغرى من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار، لقد كانت رعاية الله له عظيمة ولذلك فتح له باب التوفيق وحقق ماتطلع إليه من أهداف وغاية سامية لقد كانت أعماله عظيمة بسبب حبه للدعوة الى الله، فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف، وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان، فكان إذا ظفر بقوم دعاهم الى الحق والايمان بالله تعالى وكان حريصاً على الأعمال الأصلاحية في كافة الأقاليم والبلدان التي فتحها، فسعى في بسط سلطان الحق والعدالة، وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان، مثلما كان معادياً لأهل الكفران.
ثانياً: الدستور الذي سار عليه العثمانيون:
كانت حياة الأمير عثمان مؤسس الدولة العثمانية، جهاداً ودعوة في سبيل الله وكان علماء الدين يحيطون بالأمير ويشرفون على التخطيط الإداري والتنفيذ الشرعي في الإمارة ولقد حفظ لنا التاريخ وصية عثمان لابنه أورخان وهو على فراش الموت وكانت تلك الوصية فيها دلالة حضارية ومنهجية شرعية سارت عليها الدولة العثمانية فيما بعد يقول عثمان في وصيته: (يابني: اياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين وإذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين مؤئلاً.
يابني: أحط من أطاعك بالأعزاز. وأنعم على الجنود، ولا يغرنك الشيطان بجندك وبمالك، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة.  يابني: إنك تعلم أن غايتنا هي أرضاء الله رب العالمين، وأن بالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق، فتحدث مرضات الله جل جلاله.
يابني: لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد، فنحن بالاسلام نحيا وللاسلام نموت، وهذا ياولدي ما أنت له أهل) (١).
وفي كتاب (التاريخ السياسي للدولة العلية العثمانية) تجد رواية آخرى للوصية: (اعلم يابني، أن نشر الاسلام، وهداية الناس إليه، وحماية أعراض المسلمين وأموالهم، أمانة في عنقك سيسألك الله عز وجل عنها) (٢).
وفي كتاب مأساة بني عثمان نجد عبارات أخرى من وصية عثمان لابنه أورخان تقول: (يابني، أنني أنتقل الى جوار ربي، وأنا فخور بك بأنك ستكون عادلاً في الرعية، مجاهداً في سبيل الله، لنشر دين الاسلام.
يابني، أوصيك بعلماء الأمة، أدم رعايتهم، وأكثر من تبجيلهم، وانزل على مشورتهم، فانهم لايأمرون إلا بخير.
يابني، اياك أن تفعل أمراً لا يرضى الله عز وجل، واذا صعب عليك أمر فاسأل علماء الشريعة، فانهم سيدلونك على الخير.
واعلم يابني أن طريقنا الوحيد في هذه الدنيا هو طريق الله، وأن مقصدنا الوحيد هو نشر دين الله، وأننا لسنا طلاب جاه ولا دنيا) (٣).
وفي التاريخ العثماني المصور، عبارات اخرى من وصية عثمان تقول: (وصيتي لابنائي واصدقائي، اديموا علوا الدين الاسلامي الجليل بادامة الجهاد في سبيل الله. أمسكوا راية الاسلام الشريفة في الاعلى باكمل جهاد. أخدموا الاسلام دائماً؛ لان الله عز    
وجل قد وظف عبداً ضعيفاً مثلي لفتح البلدان. اذهبوا بكلمة التوحيد الى اقصى البلدان بجهادكم في سبيل الله ومن انحرف من   .عن الحق والعدل حرم من شفاعة الرسول الأعظم يوم المحشر
يابني: ليس في الدنيا أحد لا يخضع رقبته للموت وقد اقترب اجلي بأمر الله جل جلاله اسلمك هذه الدولة واستودعك المولى عز وجل. اعدل في جميع شؤونك .... ) (١).
لقد كانت هذه الوصية منهجاً سار عليه العثمانيون، فأهتموا بالعلم وبالمؤسسات العلمية وبالجيش، وبالمؤسسات العسكرية، وبالعلماء واحترامهم، وبالجهاد الذي أوصل فتوحاً الى اقصى مكان وصلت إليه رايته جيش مسلم وبالامارة وبالحضارة) (٢).


هذه الوصية الخالدة هي التي سار عليها الحكام العثمانيون في زمن قوتهم ومجدهم وعزتهم وتمكينهم.
ترك عثمان الأول الدولة العثمانية وكانت مساحتها تبلغ ١٦.٠٠٠ كيلومتر مربع واستطاع أن يجد لدولته الناشئة منفذ على بحر مرمرة واستطاع بجيشه أن يهدد أهم مدينتين بيزنطيتين في ذلك الزمان وهي: ازنيق وبورصة (٣).  
[التعليق على الوصية] (*)


ونستطيع أن نستخرج الدعائم والقواعد والأسس التي قامت الدولة العثمانية من خلال تلك الوصية:
١ - (يابني اياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين):
إنها دعوة الى الالتزام بشرع الله في كل صغيرة وكبيرة، وبحيث يكون حكم الله وأمره مهيمناً على كل شيء قال تعالى: {إن الحكم إلا لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لايعلمون} (سورة يوسف: آية٤٠).
يعني: (ما الحكم الحق في الربوبية والعقائد والمعاملات إلا لله وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لايمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه، ولا بعقله واستدلاله ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة) (١) لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية والحاكمية لله تعالى قال سبحانه: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (سورة النساء: آية ١٠٥) فكما أن تحقيق العبودية غاية من إنزال الكتاب فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله (٢).
إن عثمان يوصي إبنه كحاكم من بعده لدولة إسلامية أن يتقيد بحكم الله في أعماله، لأنه يعلم أن إقامة حكم الله من خلال الحاكم المسلم عهد وميثاق ذكره الله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به، إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور} (سورة المائدة: ٧). فهذا تذكير من الله تعالى لعباده المؤمنين بنعمته عليهم في الشرع الذي شرعه لهم في هذا الدين العظيم، المرسل به الرسول الكريم، وأخذ للعهد والميثاق عليهم في متابعته ونصرته وإبلاغه والقيام به، وهذا مقتضى البيعة التي كان الصحابة يبايعون عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على السمع والطاعة في المنشط والمكره، كما أن الإخلال بعهد الحاكمية جاهلية قال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} (سورة المائدة: ٥٠). ففي الآية الكريمة إنكار وتوبيخ وتعجب من حال من يتولى عن حكم الله وهو يبغي حكم غيره والآية تعبير لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم يبغون حكم الجاهلية التي هي هوى وجهل لايصدر عن كتاب ولايرجع إلى وحي (٣).
إن تحقيق الحاكمية، تمكين للعبودية، وقيام بالغاية التي من أجلها خلق الإنسان والجان، قال تعالى: {وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (سورة الذاريات: ٥٦). أي ليطيعوه وحده لاشريك له (١).وإن المفهوم الواسع الرحيب للعبادة ليشمل علائق وأعمالاً كثيرة، منها مايمكن أن يقيمه الأفراد ومنها مالايمكن تحقيقه على الوجه الأكمل إلا في ظل دولة الإسلام وهذه المعاني الرفيعة كانت واضحة في ذهن المؤسس الأول للدولة العثمانية ولذلك وصى الأمير أورخان بهذه العبارة المنهجية المسددة (يابني إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين) وهذا التوجيه من عثمان لابنه كفرد وكرئيس لدولة وفي طياته معنى كون العبادة لها أصلان:
احدهما: أن لا يعبد إلا الله، والثاني: أن يعبد بما أمر وشرع (٢). فإنه مما لاشك فيه كانت الدولة العثمانية حريصة على حماية هذين الأصلين بمحاربة الشرك في داخلها وعملت على تقليص نفوذه خارجها وكانت حريصة على حماية الشرع ضد من يعاود الاعتداء عليه بابتداع أو تحريف أو تغيير أو تبديل، وكل ذلك من حرص أميرها والعلماء الذين من حوله على تحقيق العبودية لله على الوجه المرضي، وعلى حماية الدين من دخائل وانتحالات المضلين، وبهذا تكون دولة بني عثمان أخذت الصبغة الشرعية. (لقد كانت نشأتها إسلامية، خالصة، مشبوبة بإيمان عميق، متوجهة الى أهداف عقائدية) (٣).
٢ - إذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين مؤئلاً:
إن الله تعالى قد شرع نظام الشورى لحكم بالغة، ومقاصد عظيمة، ولما فيها من المصالح الكبيرة، والفوائد الجليلة التي تعود على الأمة والدولة والمجتمع بالخير والبركة ولذلك أمر عثمان الاول إبنه أن يجعل من العلماء مجلس شورى له في معضلات الأمور وفي هذا الارشاد امتثال لأمر الله واقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- قال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (سورة آل عمران: آية:١٥٩).
..قال الاستاذ سيد قطب -رحمه الله-: (وبهذا النص الجازم {وشاورهم في الأمر} يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم - حتى ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يتولاه، وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكاً في أن الشورى مبدأ اساسي لايقوم نظام الاسلام على أساس سواه) (١).
- وقال تعالى: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} (سورة الشورى: آية: ٣٨).
يقول الاستاذ عبدالقادر عودة -رحمه الله- (الشورى من دعائم الايمان وصفة من الصفات المميزة للمسلمين، سوى الله بينها وبين الصلاة والإنفاق في قوله: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}. فجعل للاستجابة لله نتائج بين لنا أبرزها، وأظهرها، وهي إقامة الصلاة والشورى والانفاق، واذا كانت الشورى من الايمان فإنه لا يكمل إيمان قوم يتركون الشورى، ولا يحسن إسلامهم إذا لم يقيموا الشورى إقامة صحيحة، ومادامت الشورى صفة لازمة للمسلم لايكمل إيمانه إلا بتوفرها، فهي إذن فريضة إسلامية واجبة على الحاكمين والمحكومين، فعلى الحاكم أن يستشير في كل أمور الحكم والإدارة والسياسة، والتشريع وكل مايتعلق بمصلحة الأفراد أو المصلحة العامة، وعلى المحكومين أن يشيروا على الحاكم بما يرونه في هذه المسائل كلها، سواء استشارهم الحاكم أو لم يستشرهم (٢).
والأحاديث القولية والسنة الفعلية الدّالة على وجوب الشورى كثيرة ونكتفي بما ذكرنا خوفاً من الإطالة.
وفي رواية أن عثمان أمر ابنه بأن ينزل على رأي العلماء في قوله: (وأنزل على مشورتهم فإنهم لايأمرون إلا بخير .. ) (٣) وكأن عثمان - رحمه الله - يرأى أن الشورى ملزمة للحاكم وقد ذهب إلى هذا الرأي مجموعة من العلماء المعاصرين منهم العلامة أبو الأعلى المودودي - رحمه الله -: (وخامسة قواعد الدولة الإسلامية حتمية تشاور قادة الدولة وحاكمها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم، وامضاء نظام الحكم بالشورى. يقول تعالى: {وأمرهم شورى بينهم}، {وشاورهم في الأمر} (٤).
 
(إن قاعدة: {وأمرهم شورى بينهم} تتطلب بذاتها خمسة أمور: خامسها التسليم بما يجمع عليه أهل الشورى أو أكثريتهم، أما أن يستمع ولي الأمر إلى آراء جميع أهل الشورى ثم يختار هو بنفسه بحرية تامة، فإن الشورى في هذه الحالة تفقد معناها وقيمتها، فالله لم يقل: (تؤخذ آراؤهم ومشورتهم في أمرهم) وإنما قال: {وأمرهم شورى بينهم} يعني أن تسير الأمور بتشاور فيما بينهم، وتطبيق هذا القول الإلهي لايتم بأخذ الرأي فقط، وإنما من الضروري لتنفيذه وتطبيقه أن تجري الأمور وفق ما يتقرر بالإجماع أو الأكثرية .. ) (١).
وهكذا نرى الأمير عثمان يسبق كثير من العلماء والمفكرين المعاصرين في ذهابه إلى أن الشورى ملزمة ويأمر بأنه بالنزول عند رأي العلماء ولكونهم لايأمرون إلا بخير.
لقد ساهمت الشورى في بناء الدولة العثمانية وتماسك رعاياه وعززت السلطان السياسي والجهادي والدعوي للدولة وكانت الآراء تتقلب وفقا لجدارتها، وبمقدار انسجامها مع عقيدة الأمة ودستور الدولة، لقد كان الحكام العثمانيون يريدون لحكمهم أن يستمر ولنظام دولتهم أن يستقر ولذلك حرصوا على الإلمام بحقيقة الأوضاع ببلادهم وجعلوا من الشورى خير سبيل لتحقيق هذه الغاية.
ولقد تطورت الشورى في الدولة العثمانية بل أصبح لكل أقليم حاكم يطلق عليه باشا وله مجلس الديوان يتشاورون في شؤون الحكم والرعية، ولقد شكلت مجالس وعين نواب وممثلون لكل جماعة واتيحت الفرصة للاختيار وتتطور الأمر حتى وصل في عهد السلطان محمد الفاتح إلى تشكيل مجلس استشاري لأمور الدولة.
إن أشكال الشورى وأساليب تطبيقها ووسائل تحقيقها وإجراءاتها كانت في زمن الدولة العثمانية عرضة للاجتهاد والبحث والاختيار، أما أصل الشورى في إدارة شؤون الدولة فكان بالنسبة لهم من قبيل المحكم الثابت الذي لايجوز تجاهله أو إهماله وإن كان تاريخ الدولة العثمانية لايخلو من ظهور بعض السلاطين المتسلطين.
٣ - يابني أوصيك بعلماء الأمة، أدم رعايتهم وأكثر من تبجيلهم:
.كان عثمان على صلة متينة مع كبار العلماء والفقهاء وكبار الصالحين في عهده وكثيراً ما يجلس الساعات الطوال بين أيديهم ويتلقى مواعظهم ويستفيد من علمهم ويشاورهم في أمور الدولة وكان يتردد على المولى الشيخ (إده بالي) القرماني المولد وقد زوجه ابنته بسبب رؤيا: (كان في أحد الأيام يبيت عنده، فرأى في المنام قمراً خرج من حضن الشيخ ودخل حضنه، وعند ذلك نبتت شجرة عظيمة سدت أغصانها الآفاق، وتحتها جبال عظيمة تتفجر منها الأنهار، والناس ينتفعون بتلك الأشجار لأنفسهم ودوابهم وبساتينهم، فقص هذه الرؤيا على الشيخ فقال: لك البشرى، بما نلت مرتبة السلطنة، وينتفع بك وبأولادك المسلمون، وإني زوجت لك ابنتي هذه .. (١).
لقد حاول بعض الكتاب أن يجعل من تلك الرؤيا اسطورة لا حقيقة لها مع أن هذه الرؤيا ذكرت في كتاب مهم اسمه الشقائق النعمانية في تاريخ الدولة العثمانية، وهذا الكتاب أفاد وأجاد في ذكر علماء وفقهاء الدولة لفترات زمنية ممتدة.

 

إن هذه الرؤيا لاتخالف العقل ولا النقل، لأن عثمان الأول رحمه الله كان رجلاً تقياً ورعاً ومن ثمار التقوى الرؤيا الصالحة وثناء الخلق ومحبتهم: قال تعالى: {ألا إنّ أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البُشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ... } (يونس: ٦٢ - ٦٤).

 

والبشرى في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين، في غير مكان من كتابه وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الرؤيا الصالحة من الله .. " (٢) وعنه عليه الصلاة والسلام: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة" (٣) وعن أبي ذر قال: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس "فقال تلك عاجل بشرى المؤمن" (٤).

 

إن عثمان الأول - رحمه الله - وضع الله له محبة في قلوب المسلمين لجهاده وتقواه وصلاحه.

 

 

.إن وصية عثمان لابنه بإحترام العلماء اصبحت منهجاً سار عليه حكام الدولة العثمانية وهذا يدل على التزام العثمانيين بشرع الله تعالى، لأن الشريعة أعطت اعتباراً للعلماء وبنته على أمرين:
- أن طاعتهم طاعة لله - عزوجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالتزام أمرهم واجب.
- أن طاعتهم ليست مقصودة لذاتها بل هي تبعٌ لطاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
والأدلة على هذه المنزلة وهذا الاعتبار للعلماء في الشريعة كثيرة منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (سورة النساء، الآية: ٥٩).
وقد اختلف المفسرون في أولي الأمر منكم على أقوال فقيل: هم السلاطين وذوو القدرة.
وقيل: هم أهل العلم.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - "يعني أهل الفقه والدين، وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، فأوجب الله سبحانه طاعتهم على عباده " (١).
(والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبعٌ لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء ولما كان قيام الإسلام بطائفتين، العلماء والأمراء، وكان الناس لهم تبعاً، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما (٢).
والدليل الثاني: أن الله - سبحانه - أوجب الرجوع إليهم وسؤالهم عما أشكل: قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون} (سورة الأنبياء، الآية: ٧).
(وعموم هذه الآية، فيها مدح أهل العلم، وأن أعلى أنواعه، العلم بالكتاب المنزل، فإن الله أمر من لايعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث في ضمنه تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم، وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعة .. ) (٣).
إن الآيات والأحاديث التي تبين دور العلماء كثيرة ونكتفي بما ذكرنا.

 

 

.لقد كان العلماء في مسير الدولة العثمانية مرجع للسلاطين عند الفتن والملاحم والمحن وكانت لهم مقدرة عظيمة على حشد الناس تحت لواء الجهاد في سبيل الله تعالى، وإقامة شرعه على الرعية وكانوا لايسمحون للسلطان أن يتجاوز أحكام الشرع وإلا ربما هيجوا عليه الناس وعزلوه، وكانت أحكام العلماء والفقهاء تستنبط من:
١ - القرآن الكريم:

 

قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (سورة النساء: ١٠٥).
فهو المصدر الأول الذي يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشؤون الحياة البشرية، كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكاماً قاطعة لإصلاح كل شعبة من شعب الحياة، كما بين القرآن الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم.
٢ - السنة المطهرة:

 

هي المصدر الثاني الذي يستمد منه العلماء الأحكام ومن خلالها يعرفون الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن ممثلة في قيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأمة ومن خلال السنة يمكن التعرف على نوعية المجتمع المثالي الذي ينشده الإسلام.
٣ - إجماع الأمة:

 

وخاصة الصحابة، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدين قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} (النساء: ١١٥).
 
٤ - مذهب العلماء والمجتهدين:

 

قال تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (سورة النساء، آية: ٨٣).
والآية دليل على الأخذ بالاجتهاد إذا عُدم النص والإجماع (١)، ولأن العلماء في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - كالأنبياء في بني إسرائيل، فهم المؤتمون على نقل العلم، والمفوضون في استنباط الأحكام المتجددة في عمومات الشريعة، لا لعصمة اختصوا بها - فليس في الإسلام كهنوت - ولكن لأهليتهم في أن يُسموا - "أهل الذكر "والله تعالى يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون} (سورة النحل، آية: ٤٣).
لقد كان علماء الدولة العثمانية على فهم عميق لروح الشريعة وقواعدها ولهم المقدرة على معالجة مايستجد من قضايا في ضوء هذا الفهم، وكانت لهم القدرة على فهم ضبط المناط في الأحكام وقياس الفروع على الأصول فيها.  .ولقد كان المذهب الحنفي له القدح المعلى عند علماء الدولة وإن كانوا لايستغنون عن بقية المذاهب السنية التي كانت لها احترامها عند السلاطين العثمانيين.
لقد حرص علماء الدولة العثمانية على أن يكون نظامها السياسي على عقيدة التوحيد، وتطبيق شريعة الله، وتقوم على الشورى، وأن يقوم نظامها الاقتصادي على التعامل بالذهب والفضة، وعدم التعامل بالربا، وعدم الاستغلال والاحتكار، وعدم الاتجار بما حرم الله، وأن يقوم نظامها السلوكي والأخلاقي الإجتماعي على أساس عقيدة الإسلام، وأن يقوم نظامها التعليمي والإعلامي على قاعدة من العلوم الشرعية، وأن تقوم علاقتها الدولية على أساس عقيدة الإسلام التي وضعها الله سبحانه وتعالى - حيث قال: {لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} (آية: ٨،٩ سورة الممتحنة).
لقد كان العلماء والفقهاء في الدولة العثمانية يشرفون على تطبيق شرع الله، وإقامة الحدود، وتحريم ماحرم الله، ولا تستحل إلا ما حرم الله (١).
لقد كان معظم سلاطين الدولة يحترمون العلماء ويجلونهم.
٤ - (اعلم يابني، أن نشر الإسلام وهداية الناس إليه وحماية أعراض المسلمين وأموالهم، أمانة في عنقك سيسألك الله عزوجل عنها) (٢)

 

لقد فهم عثمان الأول - رحمه الله - أن دين الإسلام، دين دعوة مستمرة، لاتتوقف حتى تتوقف الحياة البشرية من على وجه الأرض وأن من أهداف الدولة الإسلامية دفع عجلة الدعوة إلى الأمام ليصل نور الإسلام إلى كل إنسان. إن الدولة العثمانية كانت ترى من مسؤلياتها القيام بوظيفة الدعوة ونشرها في أرجاء الأرض وربط السياسة الخارجية على الأسس الدعوية العقدية، قبل بنائها على الأسس المصلحية النفعية، وذلك كما كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يقوم بتبليغ الدعوة إلى الآفاق امتثالاً لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين} (سورة المائدة، ٦٧).

 

.وقد امتثل عليه الصلاة والسلام للأمر وأرسل إلى ملوك الأرض، فكتب إلى ملوك الروم، فقيل له: إنهم لايقرءون كتاباً إلا إذا كان مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة وختم به الكتب إلى الملوك، وبعث كتباً ورسلاً إلى ملوك فارس والروم، والحبشة ومصر والبلقاء واليمامة في يوم واحد، ثم بعث إلى حكام عمان والبحرين واليمن وغيرهم (١).
ولذلك اقتدى عثمان - رحمه الله - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته وسار أبناءه من بعده على هذا المنهج وظهرت في الدولة جماعة الدعوة وكان الحكام والسلاطين يقفون معها ويدعمونها مادياً ومعنوياً، ولقد سلك العثمانيون دولة وشعباً سبلاً متعددة من أجل إدخال النصارى في الاسلام ومن هذه الطرق:
- الاحتفال بمن يعلن اعتناقه للاسلام وإمداده بكل ما يعينه على الحياة والابتهال به في المساجد.
- حرص العثمانيون على التمسك بالدين، والتواضع في أداء الشعائر مما جعل بعض المسيحيين يدخلون في الاسلام.
- معاملة الرقيق من المسيحيين باللين حيث كانوا يعتقونهم إذا ثبت إخلاصهم حتى ولو ظلوا على دينهم ويتولون رعايتهم وبخاصة كبار السن منهم بعد العتق فضلاً عن حسن معاملة من يسلم منهم أو يظل على دينه مما كان دافعاً لكثير منهم على اعتناق الاسلام (٢).
- أقبل كثير من العثمانيين على الزواج من مسيحيات حرمت الكنيسة دخولهن فيها مما حدا ببعضهن الى اتباع أزواجهن.
- قام من دخل في الاسلام من النصارى بدعوة أقاربهم وذويهم لما رأو من سماحة الاسلام وأنسجامه مع الفطرة، ومخاطبته للعقل، وأحياءه للقلب.
- قامت الدولة العثمانية بنقل قبائل اسلامية تابعة لها الى قرى مسيحية ونقلت أعداد من النصارى الى تجمعات اسلامية مما ساعد على انتشار الاسلام تدريجياً.
- قام السلطان مراد باتباع سياسة الأفراج عن الأسرى إذا هم اعتنقوا الاسلام وأسهم ذلك الأسلوب في زيادة عدد المسلمين.
- ومما ساعد على انتشار الاسلام في البلقان تعسف الإقطاعيين المحليين في فرض الضرائب الباهظة أن كبار رجال الدين من الإقطاعيين قد باعوا أسرار الكنيسة ووظائفها من جهة وسعوا في توثيق علاقاتهم بالنظام العثماني بل بعضهم دخل في الاسلام.
.- توسع سلاطين العثمانيين في المنح والعطايا والتقدير لزعماء النصارى الذي أقبلوا على الاسلام وأظهر كثيرون منهم الاخلاص للدولة العثمانية (١).
لقد أهتم العثمانيون بأمر الدعوة الى الله على مستوى الخارجي وادخال الناس في دين الاسلام ولم يتركوا أمر الإصلاح الداخلي في الدولة واحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد بين عثمان الأول -رحمه الله- أن حماية أعراض المسلمين وأموالهم أمانة في عنق الحاكم المسلم وهذه الأمور تدخل تحت عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنفيذ الحدود، والدعوة الى مكارم الأخلاق وتعليم الأمة أمر دينها، ويكون ذلك باشراف الحاكم المسلم، فيترتب على تلك الأمور فوائد ومصالح عامة للأمة والأفراد، والحكام والمحكومين ومن أهم هذه الفوائد:
- إقامة المِلَّة والشريعة وحفظ العقيدة والدين لتكون كلمة الله هي العليا.
قال تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً} (سورة الحج: آية ٤٠).
إن الإنسان لابد له من أمر ونهي ودعوة، فمن لم يأمر بالخير ويدعو إليه أمر بالشر (٢).
- رفع العقوبات العامة: قال تعالى: {وما أصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (سورة الشورى: آية ٣٠). وقال أيضاً في الجواب عن سبب مصابهم يوم أحد: {قل هو من عند أنفسكم} (سورة آل عمران: آية ١٦٥). فالكفر والمعاصي بأنواعها سبب للمصائب والمهالك قال تعالى: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً مما أنجينا منهم ... } (سورة هود: آية ١١٦). وقال: {وماكان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} (سورة هود: آية ١١٧). "وهذه اشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم، فإن الأمة التي يقع فيها الظلم والفساد فيجدان من ينهض لدفعهما هي أمم ناجية لايأخذها الله بالعذاب والتدمير" (٣).
- استنزال الرحمة من الله تعالى؛ لأن الطاعة والمعروف سبب للنعمة قال تعالى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدكم .. } (سورة ابراهيم: آية٧) والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من العبودية لله.
- تحقيق وصف الخيرية في هذه الأمة:
قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}
.- التجافي عن صفات المنافقين:
{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ... } (سورة التوبة: أية ٧).
٥ - (يابني أحط من أطاعك بالإعزاز، وأنعم على الجنود) (١):

 

إن أمة الاسلام تحتاج لكي تقوم بمهمتها في هداية الناس للخير الى أن تكون صالحة في نفسها، مصلحة لغيرها، فهي الشهيدة على الأمم لأنها أمة الوسط.
قال سبحانه: {وكذلك جعناكم أمة وسطاً لتكون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (سورة البقرة: آية ١٤٣).
وهناك حقوق متبادلة بين الراعي والرعية، والحاكم والمحكوم، ومن وصية عثمان -رحمه الله- لابنه يبين له حق الرعية على الحاكم ولقد حرص العثمانيون كحكام على تنفيذ حقوق الرعية ومن أهم هذه الحقوق التي قاموا بها:
١. العمل على الإبقاء على عقيدة الأمة صافية نقية.
٢. بذل الأسباب المؤدية الى وحدة الأمة.
٣. العمل على حماية الأمة من أعداء الخارج.
٤. أن يعمل الولاة على حماية الأمة من المفسدين والمحاربين.
٥. إعداد الأمة إعداداً جهادياً.
٦. حفظ ماوضعت الشريعة لاجله.
٧. تحصيل الصدقات وأموال الزكاة والخراج والفيء وصرفها في مصارفها الشرعية.
٨. تحري الأمانة في اختيار ارباب المناصب.
٩. اعطاء حقوق الرعية وما يستحقونه في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
١٠. الإشراف المباشر على سير الأمور بين الرعية في كل النواحي الأدارية التي تتعلق بما يصلح أحوالهم (٢).
 
ومن واجبات الرعية تجاه الحكام:
١ - قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (سورة النساء: آية ٥٩).

 

وكان المجتمع العثماني شديد السمع والطاعة لحكامه ماداموا ملتزمين بالشريعة؛ لأنهم كانوا على علم بأن طاعة الحكام مقيدة دائماً بطاعة الله ورسوله، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف" (٣).
٢ - النصرة:
كان المجتمع العثماني دائماً يلتف حول حكامه الشرعيين ويلبي دعوة الجهاد ويبذل الغالي والرخيص ويرى ذلك عبادة لله تعالى قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} (سورة المائدة: آية ٢).
.وكان من مفاهيم المجتمع العثماني السائدة عندهم؛ من نصرة الحاكم ألا يهان، ومن معاضدته أن يحترم، وأن يكرّم، فقوامته على الأمة وقيادته لها لإعلاء كلمة الله، تستوجب تبجيله وإجلاله وإكرامه تبجيلاً وإجلالاً وإكراماً لشرع الله سبحانه الذي ينافح ويدافع عنه. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط" (١).
 
٣ - النصح:

 

إن المجمتع العثماني كان يناصح ولاة أمره ويرى ذلك من صميم الدين لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدين النصحية -ثلاثاً- قال الصحابة ك لمن يارسول الله؟ قال: لله -عز وجل- ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (٢).
 
٤ - التقويم:
.لقد استقر في مفهموم المجتمع العثماني أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن استقامة ولاتها، ولذلك نجد في التاريخ العثماني صور مشرفة في تقويم الحكام وأرشادهم ونصحهم، فهذا المولى علاء الدين علي بن أحمد الجمالي المتوفى سنة ٩٣٢هـ، فقد كان عالماً عاملاً يمضي وقته في التلاوة والعبادة والدرس والفتوى، محافظاً على الصلوات الخمس مع الجماعة، وكان كريم النفس، طيب الاخلاق، عظيم المهابة، صدّاعاً بالحق، عفيف اللسان لايذكر أحد بسوء ولعلاء الدين احتساب عظيم مع السلطان سليم خان المتوفى عام ٩٢٦هـ ومن ذلك: أن السلطان سليم أمر بقتل مائة وخمسين من موظفيه، فلما سمع المولى علاء الدين بالأمر ذهب الى الديوان، ولم تكن عادته الحضور الى السلطان إلا لأمر عظيم، فلم يشعر الوزراء وأهل الديوان إلا بدخول الشيخ المفتي عليهم، فوثبوا يستقبلونه حتى أقعدوه في صدر المجلس وقالوا له: أي شيء دعا المولى الى المجيء الى الديوان العالي؟ قال: أريد أن أدخل على السلطان ولي معه كلام، فأستأذنوا له على السلطان، فأذن له وحده فدخل عليه وجلس، وقال: وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وقد سمعت بأنك أمرت بقتل مائة وخمسين رجلاً من أرباب الديوان لايجوز قتلهم شرعاً، فغضب السلطان وكان صاحب حدة، وقال له: لا تتعرض لأمر السلطنة وليس ذلك من وظفيتك، فقال الشيخ: بل أعترض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي، ومهما عشت فإنك ميت ومعروض على الله، وواقف بين يديه للحساب، فإن عفوت فلك النجاة، وإلا فإن أمامك جهنم وعليك عقاب عظيم، ولا يعصمك ملكك ولا ينجيك سلطانك، فما كان من السلطان إلا الاذعان والتسليم أمام نداء الحق من هذا المحتسب، وخضع للحق، وعفا عنهم جميعاً، ثم إن المحتسب لم يكتف بذلك بل طالبه أن يعيد الجميع الى وظائفهم ففعل. رحم الله المولى علاء الدين الذي كان عظيماً باحتسابه جريئاً في الحق لايخشى فيه لومة لائم ولقد تأثر السلطان سليم بهذا العالم وأرسل إليه بعد ذلك وطلب منه أن يكون قاضي العسكر وقال له جمعت لك بين الطرفين لاني تحققت أنك تتكلم بالحق، فكتب إليه وصل اليّ كتابك سلمك الله تعالى وأبقاك وأمرتني بالقضاء وأني أمتثل أمرك إلا أن لي مع الله تعالى عهداً أن لاتصدر عني لفظة حكمت فأحبه السلطان محبة عظيمة (١).
وهكذا سار العثمانيون على المنهج الذي وضعه لهم المؤسس الأول.

.٦ - (ولايغرنك الشيطان بجندك ومالك) (١):

وهذه المعاني يعيشها من فهم القرآن الكريم وتأثر به، وتأمل في سير الانبياء والمرسلين والمصلحين، لأنه يعلم أن التوفيق من الله تعالى وليس بالجند ولا بالمال وهكذا كان موقف يوسف عليه السلام قال تعالى: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} (سورة يوسف: آية ١١٠). وهكذا يناجي يوسف عليه السلام ربه؛ فيقول أصبحت ممكناً في الأرض تشد الي الرحال، وتنصاع لكلمتي الرجال، ورزقتني الفهم وصواب تأويل الرؤى، وتفسير الأحاديث ويرجع الفضل الى صاحب المن والفضل يقول ابن القيم: "جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستسلام للرب وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة غيره سبحانه، وكون الوفاة على الاسلام أجل غايات العبد، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء" (٢).
وهذا ذو القرنين عندما تمّ بناء سدِّه العظيم وكان يملك الجنود والمال ويتحكم في الشعوب بالعدل قال: {هذا رحمة من ربي} (سورة الكهف: آية٩٧). إنها عبارة جميلة مباركة تشير الى عدة معاني:
١ - قال سيد قطب: (ونظر ذو القرنين الى العمل العظيم الذي قام به؛ فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تسكره نشوة القوة والعلم، ولكنه ذكر الله فشكره، ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه ... ) (٣).
إن من أعظم صور الذكر أن يتذكر العبد فضل الله عليه، فيستشعر أن فضل الله عليه عظيم؛ فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر.
وهكذا كانت وصية عثمان لابنه يحذره فيه من الشيطان ومسالكه ومداخله ويدعوه الى الاحتراز من كيده.
 
٧ - (وأن بالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق، فتحدث مرضات الله جل جلاله) (٤)
إن عثمان الأول -رحمه الله تعالى- كان يرى أن نشر دين الله في كل الآفاق من وسائله الجهاد في سبيل الله تعالى، وأن الغاية العليا للجهاد في سبيل الله هي إعلاء كلمة الله لتحقيق عبادته وحدة لا شريك له كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون - ماأريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون - إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (سورة الذاريات: آية ٥٦،٥٨).
.ومفهوم العبادة شامل لنشاط الاسلام كله ويفسر ذلك قوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له - وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (سورة الأنعام: آية).
 
ومن أجل هذه الغاية انطلق عثمان الأول بجنوده وشعبه مجاهداً في سبيل الله ولسان حاله يقول ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله ومن ضيق الدنيا الى سعتها ومن جور الأديان الى عدل الاسلام، لقد كانت وسيلة العثمانيين من أجل إقامة حكم الله ونظام الاسلام في الأرض الجهاد في سبيل الله.
وعندما حاولت دول النصارى أن تعمل على منع توسع الدولة العثمانية وباشروا في شن هجموهم عليها كانت وسيلة الجهاد كالصخرة العظيمة التي تتحطم عليه محاولتهم المتكررة وامام قادة العثمانيين قول الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين - واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل} (سورة البقرة: آية ١٩٠ - ١٩٢).
ولقد عمل العثمانيون بهذه النصيحة والوصية، فعملوا على إزالة كل العوائق التي تمنع الناس من سماع دعوة الله تعالى التي جاءت لتعطي الناس أكمل تصور للوجود والحياة وبأرقى نظام لتطويرها.
 
ولقد جاهدت الدولة العثمانية في سبيل الله تعالى وفتح الله على يديها دول وشعوب لازال الإسلام باقياً فيها حتى الآن مثل دول البلقان وعملت على حماية شعوب المسلمين من هجمات النصارى الغاشمة، فكانت سبباً في بقاء الشمال الأفريقي على اسلامه ودينه وعقيدته، وكانت عاملاً مهماً في حماية الأراضي المقدسة من البرتغاليين ومن دخل تحت لوائهم من النصارى الى غير ذلك من الأعمال الجليلة التي سنفصلها في بحثنا هذا بإذن الله تعالى.
 
٨ - (من انحرف عن سلالتي عن الحق والعدل حرم من شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأعظم يوم المحشر) (١):
إن عثمان -رحمه الله تعالى - يتبرأ من ممن ينحرف عن الحق والعدل من ذريته ويدعوا من جاء بعده بالتمسك بالحق وإقامة العدل.
إن العدل هو الدعامة الرئيسية في اقامة المجتمع الاسلامي والحكم الرباني؛ فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل ولذلك اهتم الاسلام بتقرير هذه القاعدة وتأسيسها وتدعيمها؛ فأكثر الحديث عنها في الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية ومن هذه النصوص:
(قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} (سورة النحل: آية٩) وأمر الله بفعل كما هو معلوم يقتضي وجوبه.
(قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات الى أهلها واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل .. } (سورة النساء: آية ٥٨).
(وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم أو الوالدين والأقربين ان يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا وان تلوا او تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً} (سورة النساء: آية ١٣٥).
ثم إن ترك العدل يعد ظلماً، والله سبحانه وتعالى حرم الظلم وذم أهله وتوعدهم بالعذاب الشديد يوم القيامة والهلاك في الدنيا (١). قال تعالى: {ولاتحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} (سورة ابراهيم: آية ٤٢).
 
ومن خلال هذه التوجيهات الربانية حرص عثمان على إقامة العدل بين الناس وعمل أن يكون هذا المبدأ واقعاً تعيشه الأمة العثمانية من بعده حيث وكان يتحرك بجيوشه ويوظف كل إمكاناته من أجل نشر التوحيد وتعريف الناس بخالقهم، ولقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان وكان دستوره في التعامل مع الناس قول الله تعالى: {أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد الى ربه فيعذبه عذاباً نكراً - وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى، وسنقول له من أمرنا يسراً ... } (سورة الكهف: آية ٨٧،٨٨).
ولذلك حرص في وصيته على أن يحكم من بعده بالحق والعدل وفي رواية يقول لابنه في الوصية: (اعدل في جميع شؤونك ... ) (٢).
 
٩ - (يابني لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد، فنحن بالاسلام نحيا وبالاسلام نموت) (٣)
.إن هذه الفقرة من الوصية تبين طبيعة تكوين الدولة العثمانية عن غيرها من الدول، فالغاية التي قامت من أجلها إنما هي الدفاع عن الاسلام ورفع رايته في مشارق آسيا الصغرى والقضاء على الدولة البيزنطية التي كانت تهدد المسلمين في ديارهم ومن ثم أطلق على زعيم هذه الدولة الناشئة لقب الغازي، أي المجهاد في سبيل الله، وكان يتلقى هذا اللقب في حفل مشهود بتسليم يه راية الجهاد من عالم كبير (١) وأن الغازي عثمان -رحمه الله- دعا المسلمين من الترك وغيرهم لينضموا تحت راية الجهاد في سبيل الله فاستجاب له الكثير من المؤمنين الصابرين تحدوهم جميعاً رغبة شديدة في الانتصار لدين الله بالقضاء على الدولة البيزنطية (٢).
 
المبحث الثاني
السلطان اورخان بن عثمان
٧٢٦ - ٧٦١هـ/١٣٢٧ - ١٣٦٠م


بعد وفاة عثمان تولى الحكم ابنه أورخان، وسار على نفس سياسة والده في الحكم والفتوحات، وفي عام ٧٢٧هـ الموافق ١٣٢٧هـ سقطت في يده نيقوميديا، وتقع في شمال غرب آسيا الصغرى قرب مدينة اسطنبول وهي مدينة أزميت الحالية، فأنشأ بها أول جامعة عثمانية، وعهد بإدارتها إلى داود القيصري، أحد العلماء العثمانيين الذين درسوا في مصر (١) واهتم ببناء الجيش على أسس عصرية وجعله جيشاً نظامياً (٢).
وحرص السلطان أورخان على تحقيق بشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فتح القسطنطينية ووضع خطة استراتيجية تستهدف إلى محاصرت العاصمة البيزنطية من الغرب والشرق في آن واحد، ولتحقيق ذلك أرسل ابنه وولي عهده "سليمان "لعبور مضيق "الدردنيل "والاستيلاء على بعض المواقع في الناحية الغربية.
وفي عام (٧٥٨هـ) اجتاز سليمان مضيق "الدردنيل "ليلاً مع أربعين رجلاً من فرسان الإسلام ولمّا أدركوا الضفة الغربية، استولوا على الزوارق الرومية الراسية هناك، وعادوا بها إلى الضفة الشرقية، إذ لم يكن للعثمانيين أسطول حينذاك حيث لاتزال دولتهم في بداية تأسيسها، وفي الضفة الشرقية أمر "سليمان "جنوده، أن يركبوا في الزوارق حيث تنقلهم إلى الشاطئ الأوربي حيث فتحوا ميناء قلعة "ترنب "، "وغاليبولي "التي فيها قلعة "جنا قلعة "و "أبسالا ""ورودستو "وكلها تقع على مضيق "الدردنيل "من الجنوب إلى الشمال، وبهذا خطا هذا السلطان خطوة كبيرة استفاد بها من جاء بعده في فتح "القسطنطينية " (٣).
 
أولاً: تأسيس الجيش الجديد ديني تتارى:
إن من أهم الأعمال التي ترتبط بحياة السلطان أورخان، تأسيسه للجيش الإسلامي وحرص
.على إدخال نظاماً خاصاً للجيش، فقسمه إلى وحدات تتكون كل وحدة من عشرة أشخاص، أو مائة شخص، أو ألف شخص، وخصص خمس الغنائم للانفاق منها على الجيش، وجعله جيشاً دائماً بعد أن كان لايجتمع إلا وقت الحرب، وأنشأ له مراكز خاصة يتم تدريبه فيها (١).
كما أنه أضاف جيشاً آخر عرف بالانكشارية (٢)، شكله من المسلمين الجدد الذين ازداد عددهم بعد اتساع رقعة الدولة وانتصاراتها الكبيرة في حروبها مع أعدائها من غير المسلمين، ودخول أعداد كبيرة من أبناء تلك البلاد المفتوحة في الإسلام، ثم انضمامهم إلى صفوف المجاهدين في سبيل نشر الإسلام، فبعد أن يعتنقوا الإسلام ويتم تربيتهم تربية إسلامية فكرياً وحربياً يعينون في مراكز الجيش المختلفة، وقد قام العلماء والفقهاء مع سلطانهم أورخان بغرس حب الجهاد والذود عن الدين والشوق إلى نصرته أو الشهادة في سبيله وأصبح شعارهم (غازياً أو شهيداً) عندما يذهبون إلى ساحة الوغى (٣).
 
ولقد زعم معظم المؤرخين الأجانب أن جيش الانكشارية تكون من انتزاع أطفال النصارى من بين أهاليهم ويجبرونهم على اعتناق الإسلام، بموجب نظام أو قانون زعموا أنه كان يدعى بنظام (الدفشرية)، وزعموا أن هذا النظام كان يستند إلى ضريبة إسلامية شرعية أطلقوا عليها اسم "ضريبة الغلمان "وأسموها أحياناً "ضريبة الأبناء "، وهي ضريبة زعموا أنها تبيح للمسلمين العثمانيين أن ينتزعوا خمس عدد أطفال كل مدينة أو قرية نصرانية، باعتبارهم خمس الغنائم التي هي حصة بيت مال المسلمين ومن هؤلاء المؤرخين الأجانب الذين افتروا على الحقيقة، كارل بروكلمان، وجيبونز، وجب (٤)، إن الحقيقة تقول أن نظام الدثرمة المزعوم ليس سوى كذبة دُسَّت على تاريخ أورخان بن عثمان ومراد بن أورخان وانسحبت من بعده على العثمانيين قاطبة، فلم يكن نظام الدثرمة هذا إلا اهتماماً من الدولة العثمانية بالمشردين من الأطفال النصارى الذين تركتهم الحروب المستمرة أيتاماً أو مشردين، فالإسلام الذي تدين الدولة العثمانية به يرفض رفضاً قاطعاً ما يسمى بضريبة الغلمان التي نسبها المغرضون من المؤرخين الأجانب إليها.
.لقد كانت أعداد هائلة من الأطفال فقدوا آبائهم وأمهاتهم بسبب الحروب والمعارك، فاندفع المسلمون العثمانيون إلى احتضان أولئك الأطفال الذين هاموا في طرقات المدن المفتوحة بعد فقدانهم لآبائهم وأمهاتهم وحرصوا على تأمين مستقبل كريم لهم وهل من مستقبل كريم وأمين إلا في الإسلام، أفاءن يحرص المسلمون على أن يعتنق الأطفال المشردون التائهون الإسلام، انبرى المفترون يزعمون أن المسلمين كانوا ينتزعونهم من أحضان آبائهم وأمهاتهم؟؟ ويكرهونهم على الإسلام.
ومن المؤسف أن هذه الفرية الحاقدة، وهذا الإفك المبين، وهذا البهتان العظيم التقفه بعض المؤرخين المسلمين يدرسونه في مدارسهم وجامعاتهم وكأنه أمر مسلم به ويطرح على الطلاب كأنه حقيقة من الحقائق ولقد تأثر بكتب المؤرخين الأجانب مجموعة من المؤرخين المسلمين ومن هؤلاء من يشهد له بالغيرة على الإسلام، فأصبحوا يرددون هذا البهتان في كتبهم من أمثال، المؤرخ محمد فريد بك المحامي في كتابه الدولة العلية العثمانية، والدكتور علي حسون في كتابه، تاريخ الدولة العثمانية، والمؤرخ محمد كرد في كتابه خطط الشام، والدكتور عمر عبد العزيز في كتابه "محاضرات في تاريخ الشعوب الإسلامية "والدكتور عبد الكريم غرايبه في كتاب العرب والأتراك.
 
الحقيقة تقول كل من ذكر ضريبة الغلمان أو أخذهم بالقوة من ذويهم تحت قانون أخذ خمس أطفال المدن والقرى ليس له دليل إلا كتب المستشرقين، كجب، المؤرخ النصراني سوموفيل، أو بركلمان وهؤلاء لايطمئن إليهم في كتابة التاريخ الإسلامي ولا إلى نواياهم تجاه الإسلام وتاريخ الإسلام.
 
إن الذين يربون تربية خاصة على الجهاد لم يكونوا نصارى وإنما كانوا أبناء آباء مسلمين انخلعوا عن النصرانية، واهتدوا إلى الإسلام، وشرعوا من أنفسهم وعن طواعية لا عن إكراه، يقدمون أبناءهم للسلطان ليستكمل تربيتهم تربية إسلامية، أما باقي الأطفال فقد كانوا من الأيتام والمشردين الذين أفرزتهم الحروب فاحتضنتهم الدولة العثمانية.
إن حقيقة الجيش الجديد الذي أنشأه أورخان بن عثمان هي تشكيل جيش نظامي يكون دائم الاستعداد والتواجد قريباً منه في حالة الحرب أو السلم على حد سواء، فشكل من فرسان عشيرته ومن مجاهدي النفير الذين كانوا يسارعون لاجابة داعي الجهاد ومن أمراء الروم وعساكرهم الذين دخل الإسلام في قلوبهم، وحسن إسلامهم وما كاد أورخان ينتهي من تنظيم هذا الجيش حتى سارع إلى حيث يقيم العالم المؤمن التقي الحاج بكتاش وطلب.  منه أن يدعو لهم خيراً، فتلقاهم العالم المؤمن خير لقاء ووضع يده على رأس أحد الجنود، ودعا لهم الله أن يبيض وجوههم، ويجعل سُيوفهم حادة قاطعة، وأن ينصرهم في كل معركة يخوضونها في سبيل الله ثم مال تجاه أورخان فسأله، هل اتخذت لهذا الجيش اسماً .. ؟ قال: لا، قال: فليكن اسمه "يني جري "وتلفظ "يني تشري "أي الجيش الجديد.
 
وكانت راية الجيش الجديد من قماش أحمر وسطها هلال، وتحت الهلال صورة لسيف أطلقوا عليه اسم "ذي الفقار "تيمناً بسيف الإمام علي رضي الله عنه (١).
لقد كان علاء الدين بن عثمان أخو أورخان صاحب الفكرة وكان عالماً في الشريعة ومشهور بالزهد والتصوف الصحيح (٢).
وعمل أورخان على زيادة عدد جيشه الجديد بعد أن ازدادت تبعات الجهاد ومناجزة البيزنطيين، فاختار عدداً من شباب الأتراك، وعدداً من شباب البيزنطيين الذين أسلموا وحسن إسلامهم، فضمهم إلى الجيش واهتم اهتماماً كبيراً بتربيتهم تربية إسلامية جهادية.
ولم يلبث الجيش الجديد حتى تزايد عدده، وأصبح يضم آلافاً من المجاهدين في سبيل الله.
لقد كان أورخان وعلاء الدين متفقين على أن الهدف الرئيسي لتشكيل الجيش الجديد، هو مواصلة الجهاد ضد البيزنطيين وفتح المزيد من أراضيهم بهدف نشر الإسلام فيها، والاستفادة من البيزنطيين الذين أسلموا في نشر الإسلام بعد أن يكونوا تلقوا تربية إسلامية جهادية وترسخت في قلوبهم مبادئ الإسلام سلوكاً وجهاداً.
وخلاصة القول، أن السلطان أورخان، لم ينتزع غلاماً نصرانياً واحداً من بيت أبيه، ولم يكره غلاماً نصرانياً واحداً على اعتناق الإسلام، وأن كل ما زعمه بروكلمان وجيب وجببونز، كذب واختلاق، ينبغي أن تزال آثاره من كتب تاريخنا الإسلامي (٣) إن من مقتضيات الأمانة العلمية، والأخوة الإسلامية، تضع في عنق كل مسلم غيور، وخاصة العلماء والمثقفين والمفكرين، والمؤرخين والمدرسين، والباحثين، والإعلاميين، أمانة نسف هذه الفرية ودحض هذه الشبهة التي ألصقت بالعثمانيين وأصبحت كأنها حقيقة لاتقبل النقاش والمراجعة والحوار.
 
ثانياً: سياسة أورخان الداخلية والخارجية:
 
كانت غزوات أورخان منصبة على الروم ولكن حدث في سنة (٧٣٦هـ-١٣٣٦م) أن توفي أمير قره سي - وهي إحدى الإمارات التي قامت على أنقاض دولة سلاجقة الروم واختلف ولده من بعده وتنازعا الإمارة. واستفاد أورخان من هذه الفرصة فتدخل في النزاع وانتهى بالإستيلاء على الإمارة وقد كان مما تهدف إليه الدولة العثمانية الناشئة أن ترث دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى وترث ماكانت تملكه واستمر الصراع لذلك بينها وبين الإمارات الأخرى حتى أيام الفاتح حيث تم إخضاع آسيا الصغرى برمتها لسلطانه.
 
واهتم أورخان بتوطيد أركان دولته وإلى الأعمال الإصلاحية والعمرانية ونظم شؤون الإدارة وقوى الجيش وبنى المساجد وانشأ المعاهد العلمية (١) وأشرف عليها خيرة العلماء والمعلمون وكانوا يحظون بقدر كبير من الاحترام في الدولة، وكانت كل قرية بها مدارسها وكل مدينة بها كليتها التي تعلم النحو والتراكيب اللغوية والمنطق والميتافزيقا وفقه اللغة وعلم الإبداع اللغوي والبلاغة والهندسة والفلك (٢) وبالطبع تحفيظ القرآن وتدريس علومه والسنة والفقه والعقائد.
 
وهكذا أمضى أورخان بعد استيلائه على إمارة قره سي عشرين سنة دون أن يقوم بأي حروب، بل قضاها في صقل النظم المدنية والعسكرية التي أوجدتها الدولة، وفي تعزيز الأمن الداخلي، وبناء المساجد ورصد الأوقاف عليها وإقامة المنشآت العامة الشاسعة، مما يشهد بعظمة أورخان وتقواه، وحكمته وبعد نظره، فإنه لم يشن الحرب تلو الحرب طمعاً في التوسع وإنما حرص على تعزيز سلطانه في الأراضي التي يتاح له ضمها. وحرص على طبع كل أرض جديدة بطابع الدولة المدني والعسكري والتربوي والثقافي وبذلك تصبح جزءاً لايتجزأ من أملاكهم، بحيث أصبحت أملاك الدولة في آسيا الصغرى متماثلة ومستقرة.
وهذا يدل على فهم واستيعاب أورخان لسنة التدرج في بناء الدول وإقامة الحضارة، وإحياء الشعوب.
 
وما أن تمّ أورخان البناء الداخلي حتىحدث صراع على الحكم داخل الدولة البيزنطية وطلب الأمبراطور (كونتاكوزينوس) مساعده السلطان أورخان ضد خصمه، فأرسل قوات من العثمانيين لتوطيد النفوذ العثماني في أوربا. وفي عام ١٣٥٨ أصاب زلزال مدن تراقيا.
.

 

ورد في الأثر (2)

$
0
0

فقد أدى حادث ووترجيت إلى إهتزاز الثقة عموما فى المؤسسة الديموقراطية الغربية البيضاء وبالذات فى أمريكا وتزامن ذلك مع بدء ظهور الجيل الثانى من أبناء المهاجرين إلى الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية وهم فى العادة ممن يجيدون الإنجليزية بالإضافة إلى بعض بقايا من  لغة الآباء ويفهمون ثقافة البلاد التى هاجر  منها آباءهم أفضل من أى أمريكى آخر.. وبما أنهم ممن تلقوا تعليما مدرسيا وجامعيا أمريكيا فهم يصلحون لتولى مناصب فى الإدارات الأمريكية المختلفة بدءا من عهد كارتر وحتى اليوم.. وهكذا أصبحنا نسمع عن هسبانيك وعرب وباكستانيين وهنود وأوروبيين شرقيين يدخل أبناؤهم فى خدمة الدولة الأمريكية وبالذات الخارجية ومراكز البحث السياسى والإستراتيجى بالإضافة إلى كليات الدراسة السياسية والقانونية.. وقد أدت تلك الظاهرة إلى تقارب أمريكى مع الثقافات الأخرى، وعلى سبيل المثال لا ننس أن فكرة "المظلة العربية"التى خرجت بها إدارة جورج بوش على العالم للتغطية على الحملة الأمريكية على العراق عام 1990 كانت من إختراع السيد/ فيليب حبيب لفظا وتنفيذا، وهو من أصل لبنانى..

 

وقد تزامن ذلك أيضا مع إدارة الرئيس ريجان الذى كان على ما يبدو يؤمن بالمثل الإنجليزى القديم

 

 All is fair in love and war  أى انه فى حالات الحب والحرب يصبح كل شىء مشروعا ومبررا.. وأمريكا كانت فى حالة حرب يقودها رئيس جعل شعاره منذ بدء أول حملاته الإنتخابية "لنعيد إلى أمريكا مجدها من جديد"وهو ما يعنى الإستعداد للدخول فى أى مواجهة لإثبات قدرة أمريكا على تحقيق المجد وعلى الإحتفاظ به..

 

وتزامن كل ذلك مع غزو أفغانستان كما نعلم جميعا ومع الفرصة السانحة التى لمحتها أمريكا فى هذا الغزو لكى تستنزف قدرات العدو إقتصاديا وبشريا.. ولم تجد الولايات المتحدة سلاحا يخدم هذا الغرض افضل من توظيف الدين الإسلامى.. وكانت قد قررت أيضا توظيف الدين المسيحى الكاثوليكى بالذات فى أوروبا الشرقية عن طريق تحالف البابا البولندى يوحنا بولس الثانى مع المخابرات المركزية الأمريكية لجعل "الغطاء الدينى"هو نقطة الإنطلاق لاستنزاف الإتحاد السوفيتى فى بلد تحظى فيه الكنيسة الكاثوليكية بأرضية صلبة للغاية بل وربما أصلب من أرضيتها فى إسبانيا، إنه بولندا

 

والذى يهمنا هنا هو أن أمريكا فى سعيها هذا لاستغلال الدين، سواء إسلامى أو مسيحى، قد حالفها الحظ ونجحت فى الحالتين فى الإيقاع بالخصم والفوز بالغنيمة... ولكن..

 

ولكن هناك دائما رد فعل لكل فعل..

 

ولا أريد هنا تكرار الحديث عن الحادى عشر من سبتمبر وأفغانستان وكل هذه الأمور المعروفة، ولكننى أريد أن أتناول  قوة أمريكا أمام حلفائها أو بمعنى أصح هيبتها.. فالحليف الرئيسى لأمريكا وهى دول أوروبا الغربية من إنجلترا إلى ألمانيا إلى هولندا إلى بلجيكا إلى إسبانيا لا ترتاح لهذا الإتجاه الإستغلالى للمشاعر الدينية لأن الإتحاد الأوروبى يقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة كلما أمكن ذلك.. ففى المحاكم الأوروبية لا يوجد مثلا قسم قبل أداء الشهادة كما هو الحال فى المحاكم الأمريكية.. والحد المسموح به فى أوروبا (عدا إيرلندا الجنوبية) لتداخل الدين مع الحكم وشئون السياسة هو حد متدنى جدا وليس مفتوحا على مصراعيه كما هو الحال فى أمريكا.. وأوروبا تسمح للملحدين بتولى المناصب الوزارية وما تحتها وكذلك للشواذ جنسيا ولا يسأل أحد فى هذه الأمور، خلافا لما جرى عليه العرف الأمريكى..

 

أضف إلى هذا أن ممارسات جورج بوش الإبن قد جعلت الأوروبيين يتأففون كلما فكروا فى إحتمال مجىء رئيس جمهورى من هذا الطراز المتدين إلى سدة الحكم..

 

كما أن الجانب الآخر المتبقى من أوروبا والمتمثل فى الشرق، حيث الموارد الطبيعية الكبيرة، لا يرتاح بطبيعته لوجود أمثال هؤلاء المتطرفين بلا عقل فى البيت الأبيض.. وهذا هو سبب ترحيب كل أوروبا بحلول رئيس جديد فى البيت الأبيض عام 2008 حتى وإن كان من أصول سوداء، فكابوس جو ماك كين وسيناريو مجيئه إلى قيادة العالم الحر كان يشكل هما على صدور القادة الأوروبيين..

 

والصين طبعا والهند وأمريكا الجنوبية (التى أصبحت فى معظمها إشتراكية) كلها من المناطق التى لا ترحب كثيرا بأمثال هؤلاء الرؤساء..

 

وهنا تتلخص معضلة أمريكا، ليس فى بن لادن وليس فى القاعدة ولا حتى فى حادث نيويورك والبرجين، ولكن فى كون التيار الدينى الذى يجتاح كثيرا من العقول الأمريكية يجعل من قيادة أمريكا للعالم الحر محلا  لكثير من الشكوك .. إن التعارض ليس فقط مع مصالح أمريكا الخارجية، ولكنه تعارض بين المصلحة الأمريكية والمزاج الإنتخابى العام لمؤيدى هذا التيار، وهم ليسوا قليلين..

 

وقد لاحظت أنا شخصيا أن أمرا خطيرا كالحزمة التحفيزية للإقتصاد الأمريكى بمبلغ 700 مليار دولار والتى أراد لها جورج بوش أن تجاز فى الكونجرس لم تجز إلا فى فترة رئاسة أوباما.. فماذا يعنى هذا؟

 

إن هذا يعنى باختصار أن غالبية كبيرة من أعضاء الحزب الجمهورى اصبحت لا تفكر سوى فى إعفاءاتها الضريبية وتميزها المالى وكيف تحافظ عليه ولا يهمها فى سبيل ذلك أن يجىء الطوفان.. فالحزمة التحفيزية للإقتصاد كانت مطلوبة لأمريكا بقدر أنها مطلوبة لبقية العالم، حيث أن العالم بأسره كان يعتبر سندات الخزانة الأمريكية هى أضمن الأوعية الإستثمارية على سطح الكوكب، فإن أفلست الولايات المتحدة فهو ما يعنى قيام الساعة !!

 

وقد نشأت حزمة موازية للإقتصاد فى كل من ألمانيا واليابان لإدراك هذين البلدين أن مسئولية القوة الإقتصادية الكبرى لا تحدها حدود الدولة الإقليمية، بل تتخطاها ولا تعترف بها من الأصل..

 

وهذا التسويف وتلك المماطلة فى الكونجرس حتى تم تمرير الحزمة كان مما أثار غضب الأوروبيين على طريقة الولايات المتحدة فى التعامل مع مشاكل كانت هى سبب خلقها الأساسى ولما حلت ساعة المواجهة مع المشاكل أراد أعضاء الكونجرس من الجمهوريين التنصل من عبء الحل..

 

 

 

لقد ساعدت ضربات نيويورك عام 2001 على خلق تحالف دولى ضد القاعدة وضد الإرهاب، ولكنه كان تحالفا قائما على الذعر والتخوف من ضربات الإرهاب، أى على العاطفة.. ولكن غزو العراق بلا مبرر وتشريد مئات الآلاف من أهله وإهدار ثروته الثقافية والمالية كانت كلها أخطاء من جانب الإدارة الجمهورية لم تجد لها نصيرا فى أوروبا سوى السياسيين الباحثين عن البقاء فى الحكم بأى ثمن مثل بلير وبيرلوسكونى وآثنار.. والخطر الكامن فى أوروبا والذى لا تريد أمريكا أن تتفهمه يقع فى أن العامل المحفز للحروب والذى يسمى فى أمريكا دينا يعادل فى أوروبا الفاشية !!

 

وهذه لا يريد الأوروبيون أن يعودوا إليها حتى لو كان الثمن فسخ التحالف مع العم سام.. فالفاشية مدمرة لكل من يعيش فى أوروبا، وهذه هى التجربة التاريخية التى إستخلصها مستودع الخبرة الأوروبي خلال القرون الثلاثة الماضية..

 

 

 

فالشعوب الأوروبية التى ثارت على الحكم الدينى عدة مرات لا تريد أن تعترف بإضافة أشياء "وردت فى الأثر"إلى الدين المسيحى الذى هو فى الأساس ليس قويا فى أوروبا.. وما يفتتح به أحيانا بعض الضباط الأمريكيين أحاديثهم من أنهم يؤمنون بيسوع وأنهم مسيحيون مخلصون طيبون هو مما قد يوقع الضابط الأوروبى فى حرج بالغ إن هو قال ذلك أيضا.. فالدين لا محل له فى العمل..

 

كما أن الأوروبيين يدركون بحسهم التاريخى أن العالم قد تغير والإنسانية قد تبدل حالها عما كانت عليه منذ قرن أو قرنين من الزمان.. فلا الحروب الإستعمارية لها جدوى الآن ولا الإحتلال العسكرى له قيمة إقتصادية، ولا الشعوب الأوروبية نفسها مستعدة لدفع ثمن "المجد وسيادة التاج"كما كان أسلافهم يدفعونه دما ومجازر وعارا فى القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين قبل الحرب العالمية الثانية..

 

كما أن هناك الآن قوتان صاعدتان لا يمكن إهمال وزنهما وأثرهما فى السياسة العالمية وهما الهند والصين، وليس أدل على ذلك من عجز مجلس الأمن عن التدخل فى سوريا بالرغم من التكتل الغربى الخليجى ضد هذه الدولة، فروسيا والصين لا يريدان منطقة أمريكية ممتدة من الخليج للبحر المتوسط بلا إنقطاع..

وهكذا فإن السلاح الأمريكى الذى ربما قد كان ناجحا فى الإيقاع بالسوفيت، قد أصبح بالتأكيد كابحا لمقدرة أمريكا على الإحتفاظ بزعامة العالم الحر كما يسمونه

الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط-3

$
0
0

الدولة العثمانية - عوامل النهوض وأسباب السقوط تأليف: علي محمد محمد الصلابي
 

فانهارت أسوار غاليبولي وهجرها أهلها مما سهل على العثمانيين دخولها. وقد احتج الإمبراطور البيزنطي على ذلك دون جدوى - وكان رد أورخان أن العناية الإلهية قد فتحت أبواب المدينة أمام قواته. ومالبثت غاليبولي أن أصبحت أول قاعدة عثمانية في أوربا، ومنها انطلقت الحملات الأولى التي توجت في النهاية بالإستيلاء على كل شبه جزيرة البلقان .. وحين انفرد حنا الخامس باليولوجس بحكم بيزنطة أقر كل فتوح أورخان في أوروبا في مقابل تعهد السلطان بتسيهل وصول الطعام والمؤن إلى القسطنطينية. وأرسل أورخان أعداداً كبيرة من القبائل المسلمة بغية الدعوة إلى الإسلام ومنع تمكن النصارى من طرد العثمانيين من أوربا (١).
ثالثاً: العوامل التي ساعدت السلطان أورخان في تحقيق أهدافه:
١ - المرحلية التي سار عليها أورخان واستفادته من جهود والده عثمان ووجود الإمكانيات المادية والمعنوية التي ساعدتهم على فتح الأراضي البيزنطية في الأناضول وتدعيم سلطتهم فيها ولقد تميزت جهود أورخان بالخطى الوئيدة والحاسمة في توسيع دولته ومد حدودها، ولم ينتبه العالم المسيحي إلى خطورة الدولة العثمانية إلا بعد أن عبروا البحر واستولوا على غاليبولي (٢).
٢ - كان العثمانيون - يتميزون - في المواجهة الحربية التي تمت بينهم وبين الشعوب البلقانية - بوحدة الصف ووحدة الهدف ووحدة المذهب الديني وهو المذهب السني.
٣ - وصول الدولة البيزنطية إلى حالة من الإعياء الشديد وكان المجتمع البيزنطي قد أصابه تفكك سياسي وانحلال ديني واجتماعي، فسهل على العثمانيين ضم أقاليم هذه الدولة.
٤ - ضعف الجبهة المسيحية نتيجة لعدم الثقة بين السلطات الحاكمة في الدولة البيزنطية وبلغاريا وبلاد الصرب والمجر، ولذلك تعذر في معظم الأحيان تنسيق الخطط السياسية والعسكرية للوقوف في جبهة واحدة ضد العثمانيين (٣).
٥ - الخلاف الديني بين روما والقسطنطينية أي بين الكاثوليك والأرثوذكسية الذي استحكمت حلقاته وترك آثاراً عميقة الجذور في نفوس الفريقين.
٦ - ظهور النظام العسكري الجديد على أسس عقدية، ومنهجية تربوية وأهداف ربانية وأشرف عليه خيرة قادة العثمانيين.

المبحث الثالث
السلطان مراد الأول
٧٦١ - ٧٩١هـ/١٣٦٠ - ١٣٨٩م

كان مراد الأول شجاعاً مجاهداً كريماً متديناً، وكان محباً للنظام متمسكاً به، عادلاً مع رعاياه وجنوده، شغوفاً بالغزوات وبناء المساجد والمدارس والملاجئ وكان بجانبه مجموعة من خيرة القادة والخبراء والعسكريين، شكل منهم مجلساً لشورته، وتوسع في آسيا الصغرى وأوربا في وقت واحد.
ففي أوربا هاجم الجيش العثماني أملاك الدولة البيزنطية ثم استولى على مدينة أدرنه في عام (٧٦٢هـ/ ١٣٦٠م) وكانت لتلك المدينة أهمية استراتيجية في البلقان، وكانت ثاني مدينة في الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية. واتخذ مراد من هذه المدينة عاصمة للدولة العثمانية منذ عام (٧٦٨هـ / ١٣٦٦م)، وبذلك انتقلت العاصمة إلى أوربا، وأصبحت أدرنه عاصمة إسلامية، وكان هدف مراد من هذه النقلة:
١ - استغلال مناعة استحكامات أدرنة الحربية وقربها من مسرح العمليات الجهادية.
٢ - رغبة مراد في ضم الأقاليم الأوربية التي وصلوا إليها في جهادهم وثبتوا أقدامهم فيها.
٣ - جمع مراد في هذه العاصمة كل مقومات النهوض بالدولة وأصول الحكم، فتكونت فيها فئات الموظفين وفرق الجيش وطوائف رجال القانون وعلماء الدين، وأقيمت دور المحاكم وشيدت المدارس المدنية والمعاهد العسكرية لتدريب الانكشارية.
واستمرت أدرنة على هذا الوضع السياسي والعسكري والإداري والثقافي والديني حتى فتح العثمانيون القسطنطينية في عام (٨٥٧هـ- ١٤٥٣م)، فأصبحت عاصمة لدولتهم (١).
أولاً: تحالف صليبي ضد مراد:
مضى السلطان مراد في حركة الجهاد والدعوة وفتح الأقاليم في أوربا، وانطلق جيشه يفتح مقدونيا، وكانت لانتصاراته أصداء بعيدة، فتكون تحالف أوربي بلقاني صليبي باركه. البابا أوربا الخامس، وضم الصربيين والبلغاريين والمجريين، وسكان إقليم والاشيا. وقد استطاعت الدول الأعضاء في التحالف الصليبي أن تحشد جيشاً بلغ عدده ستين ألف جندي تصدى لهم القائد العثماني "لالاشاهين "بقوة تقل عدداً عن القوات المتحالفة، وقابلهم على مقربة من "تشيرمن"على نهر مارتيزا، حيث وقعت معركة مروعة وانهزم الجيش المتحالف، وهرب الأميران الصربيان، ولكنهما غرقا في نهر مارتيزا، ونجا ملك المجر بأعجوبة من الموت أما السلطان مراد فكان في هذه الأثناء مشتغلاً بالقتال في بلاد آسيا الصغرى حيث فتح عدة مدن ثم عاد الى مقر سلطنته لتنظيم ما فتحه من الأقاليم والبلدان كما هو شأن القائد الحكيم (١).
وكان من نتائج انتصار العثمانيين على نهر مارتيزا أمور مهمة منها:
١ - تم لهم فتح إقليم تراقيا ومقدونيا ووصلوا الى جنوبي بلغاريا والى شرقي صربيا.
٢ - اصبحت مدن وأملاك الدولة البيزنطية وبلغاريا وصربيا تتساقط في أيديهم كأوراق الخريف (٢).
أول معاهدة بين الدولة العثمانية والمسيحية:
لما اشتد ساعد الدولة العثمانية خاف مجاوروها، خصوصاً الضعفاء منهم، فبادرت جمهورية (راجوزه) (٣) وارسلت الى السلطان مراد رسلاً ليعقدوا مع السلطان مراد معاهدة ودية وتجارية تعاهدوا فيها بدفع جزية سنوية قدرها ٥٠٠ دوكا ذهب وهذه أول معاهدة عقدت بين الدولة العثمانية والدول المسيحية (٤).
معركة قوصوه:
كان السلطان مراد قد توغل في بلاد البلقان بنفسه وعن طريق قواده مما آثار الصرب، فحاولوا في أكثر من مرة استغلال غياب السلطان عن أوروبا في الهجوم على الجيوش العثمانية في البلقان وماجاورها ولكنهم فشلوا في تحقيق انتصارات تذكر على العثمانيين، فتحالف الصرب والبوسنيون والبلغار وأعدوا جيشاً أوروبياً صليبياً كثيفاً لحرب السلطان الذي. ..كان قد وصل بجيوشه بعد إعدادها إعداداً قوياً الى منطقة كوسفو في البلقان ومن الموافقات التي تذكر أن وزير السلطان مراد الذي كان يحمل معه مصحفاً فتحه على غير قصد فوقع نظره على هذه الآية: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لايفقهون} (سورة الانفال: الآية ٦٥) فاستبثر بالنصر واستبشر معه المسلمون ولم يلبث أن نشب القتال بين الجمعين وحمي وطيسه واشتدت المعركة وانجلت الحرب عن انتصار المسلمين انتصاراً باهراً حاسماً (١).
ثانياً: استشهاد السلطان مراد:
بعد الانتصار في قُوصُووَه، قام السلطان مراد يتفقد ساحة المعركة ويدور بنفسه بين صفوف القتلى من المسلمين ويدعوا لهم، كما كان يتفقد الجرحى، وفي أثناء ذلك قام جندي من الصرب كان قد تظاهر بالموت وأسرع نحو السلطان فتمكن الحراس من القبض عليه، ولكنه تظاهر بأنه جاء يريد محادثة السلطان ويريد أن يعلن اسلامه على يديه، وعند ذلك أشار السلطان للحرس بأن يطلقوه فتظاهر بأنه يريد تقبيل يد السلطان وقام في حركة سريعة بإخراج خنجر مسموم طعن به السلطان فاستشهد رحمه الله في ١٥ شعبان ٧٩١هـ (٢).
أ- الكلمات الأخيرة للسلطان مراد:
"لايسعني حين رحيلي إلا أن أشكر الله إنه علام الغيوب المتقبل دعاء الفقير، أشهد إن لا إله إلا الله، وليس يستحق الشكر والثناء إلا هو، لقد أوشكت حياتي على النهاية ورأيت نصر جند الاسلام. أطيعوا ابني يزيد، ولاتعذبوا الأسرى ولا تؤذونهم ولا تسلبوهم وأودعكم منذ هذه اللحظة وأودع جيشنا الظافر العظيم الى رحمة الله فهو الذي يحفظ دولتنا من كل سوء" (٣) لقد استشهد هذا السلطان العظيم بعد أن بلغ من العمر ٦٥ عاماً.
ب- دعاء السلطان مراد قبل إندلاع معركة قوصوه:
كان السلطان مراد يعلم أنه يقاتل في سبيل الله وأن النصر من عنده ولذلك كان كثير الدعاء والإلحاح على الله والتضرع إليه والتوكل عليه ومن دعاءه الخاشع نستدل على معرفة السلطان مراد لربه وتحقيقه لمعاني العبودية، يقول السلطان مراد في مناجاته لربه: "يا الله.  .يارحيم يارب السموات يامن تتقبل الدعاء لا تخزني يارحمن يارحيم استجب دعاء عبدك الفقير هذه المرة رسل السماء علينا مدراراً وبدد سحب الظلام فنرى عدونا وما نحن سوى عبيدك المذنبين إنك الوهاب ونحن فقراؤك. ما أنا سوى عبدك الفقير المتضرع، وأنت العليم ياعلام الغيوب والأسرار وما تخفي الصدور ليس لي من غاية لنفسي ولا مصلحة ولا يحملني طلب المغنم فأنا لا أطمع إلا في رضاك ياالله ياعليم ياموجود في كل الوجود (١) أفديك روحي فتقبل رجائي ولاتجعل المسلمين يبؤ بهم الخذلان أمام العدو. ياالله ياأرحم الراحمين لاتجعلني سبباً في موتهم، بل أجعلهم المنتصرين، إن روحي أبذلها فداءً لك يارب إني وددت ولازلت دوماً إبغي الاستشهاد من أجل جند الاسلام، فلا ترني ياإلهي محنتهم واسمح لي ياإلهي هذه المرة أن أستشهد في سبيلك ومن أجل مرضاتك ... " (٢).
وفي رواية: (يا إلهي، أنني أقسم بعزتك وجلالك أننى لا أبتغي من جهادي هذه الدنيا الفانية، ولكنني أبتغي رضاك، ولا شيء غير رضاك ياإلهي، أنني أقسم بعزتك وجلالك أنني في سبيلك، فزدني تشريفاً بالموت في سبيلك" (٣).
وفي رواية: "ياإلهي، ومولاي، تقبل دعائي وتضرعي، وأنزل علينا برحمتك غيثاً يطفئ من حولنا غبار العواصف، وأغمرنا بضياء يبدد من حولنا الظلمات، حتى نتمكن من ابصار مواقع عدونا فنقاتله في سبيل اعزاز دينك العزيز.
إلهي ومولاي، ان الملك والقوة لك، تمنحها لمن تشاء من عبادك، وأنا عبدك العاجز الفقير، تعلم سري، وجهري، أقسم بعزتك وجلالك انني لا أبتغي من جهادي حطام هذه الدنيا الفانية، ولكني أبتغي رضاك ولا شيء غير رضاك.
إلهي، ومولاي، أسألك بجاه وجهك الكريم، أن تجعلني فداء للمسلمين جميعاً، ولا تجعلني سبباً في هلاك أحد من المسلمين في سبيل غير سبيلك القويم.
إلهي، ومولاي، ان كان في استشهادي نجاة لجند المسلمين فلا تحرمني الشهادة في سبيلك، لأنعم بجوارك ونعم الجوار جوارك.
إلهي، ومولاي، لقد شرفتني بأن هديتني الى طريق الجهاد في سبيلك، فزدني شرفاً بالموت في سبيلك" (٤).

إن هذا الدعاء الخاشع دليل على معرفة السلطان مراد لله عز وجل، وعلى أنه حقق شروط كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ولقد اجتمعت شروطها في سلوكه وحياته فهو على:
- علم بمعناها المراد بها نفياً وإثباتاً المنافي للجهل بذلك قال تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} (سورة محمد: آية ١٩).
وقال تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} (سورة الزخرف: آية ٨٦). أي بـ "لا إله إلا الله"وهم يعلمون "بقلوبهم مانطقوا به بألسنتهم.
- اليقين المنافي للشك، فقد كان السلطان مراد مستقيناً بمدلول هذه الكلمة، يقيناً جازماً، فإن الايمان لايغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن (١). قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} (سورة الحجرات: آية ١٥).
- قبوله لما أقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه، وانقياده لما دلت عليه من أوامر واجتناب للنواهي قال تعالى: {ومن يسلم وجهه الى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى} (سورة لقمان: آية ٢٢).
قال تعالى: {فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} (سورة
- كان صادقاً مع ربه، مخلصاً اخلاصاً طهر به شوائب الشرك من نفسه قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} (سورة البينة: آية٥).
- كان مخلصاً لخالقه مستعداً لبذل النفس والمال في سبيله قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشدُ حباً لله ... } (سورة البقرة: آية ١٦٥).
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ... } (سورة المائدة: آية ٥٤).

وفي الحديث الصحيح: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" (١).
لقد فهم السلطان مراد حقيقة الايمان وكلمة التوحيد وذاق آثارها في حياته، فنشأت في نفسه آنفة وعزة مستمدة من الايمان بالله، فايقن أنه لا نافع إلا الله، فهو المحي والمميت، وهو صاحب الحكم والسلطة والسيادة ومن ثم نزع من قلبه كل خوف إلا منه سبحانه، فلم يطأطأ راسه أمام احد من الخلق، ولا يتضرع إليه، ولا يرتع من كبريائه وعظمته، لأنه على يقين بأن الله هو القادر العظيم، ولقد اكسبه الايمان بالله قوة عظيمة من العزم والإقدام والصبر والثبات والتوكل والتطلع الى معالي الأمور ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، فكان في المعارك التي خاضها ثابتاً كالجبال الراسية وكان على يقين راسخ بأن المالك الوحيد لنفسه وماله هو الله سبحانه وتعالى ولذلك لم يبالي بأن يضحي في سبيل مرضاة ربه بكل غال ورخيص.
أن السلطان مراد عاش حقيقة الإيمان ولذلك اندفع الى ساحات الجهاد، وبذل مايملكه من أجل دعوة الاسلام.
لقد قاد السلطان مراد الشعب العثماني ثلاثين سنة بكل حكمة ومهارة لا يضاهيه فيها احد من ساسة عصره قال المؤرخ البيزنطي هالكو نديلاس عن مراد الأول: (قام مراد بأعمال هامة كثيرة. دخل ٣٧ معركة سواء في الاناضول أو في البلقان، وخرج منها جميعاً ظافراً، وكان يعامل رعيته معاملة شفوقة دون النظر لفوارق العرق والدين) (٢).
ويقول عنه المؤرخ الفرنسي كرينارد: (كان مراد واحداً من اكبر رجالات آل عثمان، وإذا قوّمنا تقويماً شخصياً، نجده في مستوى أعلى من كل حكام أوروبا في عهده) (٣).
لقد ورث مراد الأول عن والده إمارة كبيرة بلغت ٩٥.٠٠٠كيلومتر مربع وعند استشهاده، تسلم أبنه بايزيد هذه الامارة العثمانية بعد أن بلغت ٥٠٠.٠٠٠كليومتر مربع بمعنى أنها زادت في مدى حوالي ٢٩ سنة أكثر خمسة أمثال ماتركها له والده أوروخان (٤).
.أما النتائج التي ترتبت على انتصار المسلمين في معركة قوصوه ما يلي:
١. انتشار الاسلام في منطقة البلقان وتحول عدد كبير من الأشراف القدامى والشيوخ الى الاسلام بمحض إرادتهم.
٢. اضطرت العديد من الدول الأوروبية الى أن تخطب ود الدولة العثمانية، فبادرت بعضها بدفع الجزية لهم، وقام البعض الآخر بإعلان ولائه للعثمانيين خشية قوتهم واتقاء غضبهم.
٣. أمتدت سلطة العثمانيين على أمراء المجر ورومانيا والمناطق المجاورة للإدرياتيك حتى وصل نفوذهم الى ألبانيا (١).
.المبحث الرابع
السلطان بايزيد الأول
٧٩١ - ٨٠٥ هـ/١٣٨٩ - ١٤٠٢م
بعد استشهاد السلطان مراد تولى الحكم أبنه بايزيد، وكان شجاعاً شهماً كريماً متحمساً للفتوحات الاسلامية، ولذلك أهتم اهتماماً كبيراً بالشؤون العسكرية فاستهدف الإمارات المسيحية في الاناضول وخلال عام اصبحت تابعة للدولة العثمانية، وكان بايزيد كمثل البرق في تحركاته بين الجبهتين البلقانية والأناضولية ولذلك أطلق عليه لقب "الصاعقة" (١).
أولاً: سياسته مع الصرب:
شرع بايزيد في إقامة علاقات ودية مع الصرب مع أنهم كانوا السبب في قيام تحالف بلقاني ضد الدولة العثمانية وكان غرض بايزيد من هذه العلاقة اتخاذ دولة الصرب كحاجز بينه وبين المجر، وكان يشعر بضرورة اتخاذ حليف له في سياسته العسكرية النشطة التي استهدفت الامارات السلجوقية التركية الاسلامية في آسيا الصغرى ولذلك وافق بايزيد على أن يحكم الصرب ابنا الملك (لازار) الذي قتل في معركة قوصوة وفرض عليهما أن يكونا حاكمين على صربيا، يحكمانها حسب قوانين بلاد الصرب واعرافها وتقاليدها وعاداتها، وأن يدينان له بالولاء ويقدمان له جزية وعدداً معيناً من الجنود يشتركون في فرقة خاصة بهم في حروية (٢) وتزوج ابنة الملك لازار.
ثانياً: اخضاع بلغاريا للسيادة العثمانية:
بعد أن تم التفاهم مع الصرب وجه بايزيد ضربه خاطفة في عام (٧٩٧هـ/١٣٩٣م) الى بلغاريا، فاستولى عليها وإخضع سكانها، وبذلك فقدت البلاد استقلالها السياسي. وكان لسقوط بلغاريا في قبضة الدولة العثمانية صدى هائل في أوروبا وانتشر الرعب والفزع والخوف أنحاءها وتحركت القوى المسيحية الصليبية للقضاء على الوجود العثماني في.  .البلقان (١).
ثالثاً: التكتل الدولي المسيحي الصليبي ضد الدولة العثمانية:
قام سيجسموند ملك المجر والبابا بونيفاس التاسع بالدعوة لتكتل اوروبي صليبي مسيحي ضد الدولة العثمانية وكان ذلك التكتل من أكبر التكتلات التي واجهتها الدولة العثمانية في القرن الرابع عشر، من حيث عدد الدول التي اشتركت فيه، ثم أسهمت فيه بالسلاح والعتاد والأموال والقوات وبلغ العدد الاجمالي لهذه الحملة الصليبية ١٢٠.٠٠٠ مقاتل من مختلف الجنسيات (ألمانيا وفرنسا إنجلترا واسكتلندا وسويسرا ولوكسمبرج والأراضي المنخفضة الجنوبية وبعض الامارات الايطالية) (٢).
وتحركت الحملة عام (٨٠٠هـ/١٣٩٦م) الى المجر، ولكن زعمائها وقادتها اختلفوا مع سيجسموند قبل بدء المعركة. فقد كان سيجسموند يؤثر الانتظار حتى يبدأ العثمانيون الهجوم، ولكن قواد الحملة شرعوا بالهجوم، وانحدروا مع نهر الدانوب حتى وصلوا الى نيكوبوليس شمال البلقان وبدؤوا في حصارها وتغلبوا في أول الأمر على القوات العثمانية، إلا أن بايزيد ظهر فجأة ومعه حوالي مئة ألف جندي، وهو عدد يقل قليلاً عن التكتل الأوروبي الصليبي، ولكنه يتفوق عليهم نظاماً وسلاحاً، فانهزم معظم النصارى ولاذوا بالفرار والهروب وقتل وأسر عدد من قادتهم. وخرج العثمانيون من معركة نيكوبوليس بغنائم كثيرة وفيرة واستولوا على ذخائر العدو (٣). وفي نشوة النصر والظفر قال السلطان بايزيد انه سيفتح ايطاليا ويطعم حصانه الشعير في مذبح القديس بطرس برومة (٤).
لقد وقع كثير من اشراف فرنسا منهم الكونت دي نيفر نفسه في الأسر، فقبل السلطان بايزيد دفع الفدية وأطلق سراح الأسرى والكونت دي ينفر وكان قد ألزم بالقسم على أن لا يعود لمحاربته قال له أني أجيز لك أن لاتحفظ هذا اليمين فأنت في حل من الرجوع لمحاربتي إذ لاشيء أحب إليّ من محاربة جميع مسيحي أوروبا والانتصار عليهم (٥).
أما سجسموند ملك المجر كان قد بلغ به الغرور والاعتداد بجيشه وقوته أن قال: لو انقضت السماء عليائها لأمسكناها بحرابنا - فقد ولى هارباً ومعه رئيس فرسان رودس ولما بلغا في فرارهما شاطئ البحر الأسود وجد هناك الأسطول النصراني فوثبا على احدى السفن.   .وفرت بهما مسرعة لا تلوي على شيء وتضاءلت مكانة المجر في عيون المجتمع الأوروبي بعد معركة نيكويوليس وتبخر ما كان يحيط بها من هيبة ورهبة (١) لقد كان ذلك النصر المظفر له أثر على بايزيد والمجتمع الاسلامي، فقام بايزيد ببعث رسائل الى كبار حكام الشرق الأسلامي يبشرهم بالانتصار العظيم على النصارى، واصطحب الرسل معهم الى بلاطات ملوك المسلمين مجموعة منتقاة من الأسرى المسيحين باعتبارهم هدايا من المنتصر ودليلاً مادياً على انتصاره. واتخذ بايزيد لقب (سلطان الروم) كدليل على وراثته لدولة السلاجقة وسيطرته على كل شبه جزيرة الأناضول. كما أرسل الى الخليفة العباسي المقيم بالقاهرة يطلب منه أن يقر هذا اللقب حتى يتسنى له بذلك أن يسبغ على السلطة التي مارسها هو وأجداده من قبل طابعاً شرعياً رسمياً فتزداد هيبته في العالم الاسلامي، وبالطبع وافق السلطان المملوكي برقوق حامي الخليفة العباسي على هذا الطلب لأنه يرى بايزيد حليفه الوحيد ضد قوات تيمورلنك التي كانت تهدد الدولة المملوكية والعثمانية وهاجر الى الاناضول آلاف المسلمين الذين قدموا لخدمة الدولة العثمانية، وكانت الهجرة مليئة بالجنود وممن أسهموا في الحياة الاقتصادية والعلمية والحكومية في إيران والعراق ومارواء النهر- هذا بالاضافة الى الجموع التي فرت من أمام الزحف التيمورلنكي على آسيا الوسطى (٢).
رابعاً: حصار القسطنطينية:
استطاع بايزيد قبل معركة نيكوبوليس أن يشدد النكير على الامبراطورية البيزنطية وأن يفرض على الامبراطور أن يعين قاضياً في القسطنطينية للفصل في شؤون المسلمين وما لبث أن حاصر العاصمة البيزنطية وقبل الامبراطور إيجاد محكمة اسلامية وبناء مسجد وتخصيص ٧٠٠ منزل داخل المدينة للجالية الاسلامية، كما تنازل لبايزيد عن نصف حي غلطة الذي وضعت فيه حامية عثمانية قوامها ٦.٠٠٠ جندي وزيد الجزية المفروضة على الدولة البيزنطية، وفرضت الخزانة العثمانية رسوماً على الكروم ومزارع الخضروات الواقعة خارج المدينة. وأخذت المآذن تنقل الآذان الى العاصمة البيزنطية (٣).
وبعد الانتصار العظيم الذي حققه العثمانيون في معركة نيكوبوليس ثبت العثمانيون أقدامهم في البلقان، حيث انتشر الخوف والرعب بين الشعوب البلقانية، وخضعت البوسنة. وبلغاريا الى الدولة العثمانية واستمر الجنود العثمانيون يتتبعون فلول النصارى في ارتدادهم. وعاقب السلطان بايزيد حكام شبه جزيرة المورة الذين قدموا مساعدة عسكرية للحلف الصليبي (١) وعقاباً للامبراطور البيزنطي على موقفه المعادي طلب بايزيد منه أن يسلم القسطنطينية وإزاء ذلك استنجد الامبراطور مانويل بأوروبا دون جدوى. والحق أن الاستيلاء على القسطنطينية كان هدفاً رئيسياً في البرنامج الجهادي للسلطان بايزيد الاول. ولذلك فقد تحرك على رأس جيوشه وضرب حصاراً محكماً حول العاصمة البيزنطية وضغط عليها ضغطاً لاهوادة فيه واستمر الحصار حتى اشرفت المدينة في نهايتها على السقوط- بينما كانت أوروبا تنظر سقوط العاصمة العتيدة بين يوم وآخر إذا السلطان ينصرف عن فتح القسطنطينية لظهور خطر جديد على الدولة العثمانية (٢).
خامساً: الصدام بين تيمورلنك وبايزيد:
ينتمي تيمورلنك الى الأسر النبيلة في بلاد ماوراء النهر، وفي عام ١٣٦٩م جلس على عرش خراسان وقاعدته سمرقند. واستطاع أن يتوسع بجيوشه الرهيبة وأن يهيمن على القسم الأكبر من العالم الاسلامي؛ فقد انتشرت قواته الضخمة في آسيا من دلهي الى دمشق، ومن بحر آرال الى الخليج العربي وأحتل فارس وأرمينيا وأعالي الفرات ودجلة والمناطق الواقعة بين بحر قزوين الى البحر الأسود وفي روسيا سيطر على المناطق الممتدة بين أنهار الفولجا والدون والدنيبر وأعلن بأنه سيسيطر على الأرض المسكونة ويجعلها ملكاً له وكان يردد: "أنه يجب ألا يوجد سوى سيد واحد على الارض طالما أنه لايوجد إلا إله واحد في السماء" (٣) وقد اتصف تيمورلنك بالشجاعة والعبقرية الحربية والمهارة السياسية وكان قبل أن يقرر أمر أن يجمع المعلومات ويرسل الجواسيس ثم يصدر أوامره بعد تروي وتأني بعيدة عن العجلة وكان من الهيبة بحيث أن جنوده كانوا يطيعون أوامره أيا كانت.
وكان تيمور باعتباره مسلماً يرعى العلماء ورجال الدين وبخاصة اتباع الطريقة النقشبندية (٤).
وكانت هناك عوامل واسباب ساهمت في إيجاد صراع بين تيمورلنك وبايزيد منها:  ١. لجأ أمراء العراق الذين استولى تيمور على بلادهم الى بايزيد، كما لجأ الى تيمور بعض أمراء آسيا الصغرى - وفي كلا الجانبين كان اللاجئون يحرضون من استجاروا به على شن الحرب ضد الطرف الآخر.
٢. تشجيع النصارى لتيمورلنك ودفعه للقضاء على بايزيد.
٣. الرسائل النارية بين الطرفين، ففي إحدى الرسائل التي بعث بها تيمور الى بايزيد أهانه ضمنياً حين ذكّره بغموض أصل أسرته، وعرض عليه العفو على أعتبار أن آل عثمان قد قدموا خدمات جليلة الى الاسلام، ولو أنه اختتم رسالته -بصفته زعيماً للترك- باستصغار شأن بايزيد الذي قبل التحدي وصرح بأنه سيتعقب تيمور الى تبريز وسلطانية (١).
وكان الزعيمان تيمور لنك وبايزيد يسعى كل منهما لتوسيع دولته.

سادساً: انهيار الدولة العثمانية:
تقدم تيمورلنك بجيوشه واحتل سيواس، وأباد حاميتها التي كان يقودها الامير أرطغرل بن بايزيد والتقى الجيشان قرب أنقرة في عام ٨٠٤هـ/١٤٠٢م وكانت قوات بايزيد تبلغ ١٢٠.٠٠٠ مجاهد لملاقاة خصمه وزحف تيمورلنك على رأس قوات جرارة في ٢٠ يوليو ١٤٠٢ (٨٠٤هـ) وانتصر المغول ووقع بايزيد في الأسر وظل يرسف في أغلاله حتى وافاه الأجل في السنة التالية (٢).
وكانت الهزيمة بسبب اندفاع وعجلة بايزيد فلم يحسن اختيار المكان الذي نزل فيه بجيشه الذي لم يكن يزيد عن مئة وعشرين ألف مقاتل بينما كان جيش خصمه لا يقل عن ثمانمائة ألف، ومات كثير من جنود بايزيد عطشاً لقلة الماء وكان الوقت صيفاً شديد القيظ. ولم يكد يلتقي الجيشان في انقرة حتى فر الجنود التتار الذين كانوا في جيش يزيد وجنود الامارات الآسيوية التي فتحها منذ عهد قريب وانضموا الى جيش تيمورلنك ولم يجد السلطان العثماني بعد ذلك ما اظهره هو وبقية جيشه من الشجاعة والاستماتة في القتال (٣).  .لقد فرحت الدول النصرانية في الغرب بنصر تيمورلنك وهزها الطرب لمصرع بايزيد وماآلت إليه دولته من التفكك والانحلال وبعث ملوك انجلترا وفرنسا وقشتالة وامبراطور القسطنطينية الى تيمورلنك يهنئونه على ما احرزه من النصر العظيم والظفر المجيد واعتقدت أوروبا انها قد تخلصت الى الابد من الخطر العثماني الذي طالما روعها وهددها (١).
واستولى تيمورلنك بعد هزيمة بايزيد على ازنيق وبروسة وغيرها من المدن والحصون ثم دك اسوار ازمير وخلصها من قبضة فرسان رودس (٢) (فرسان القديس يوحنا)، محاولاً بذلك أن يبرر موقفه أمام الرأي العام الاسلامي الذي أتهمه بأنه وجه ضربة شديدة الى الاسلام بقضائه على الدولة العثمانية وحاول تيمورلنك بقتاله لفرسان القديس يوحنا أن يضفي على معارك الأناضول طابع الجهاد (٣).
كما أعاد تيمورلنك أمراء آسيا الصغرى الى أملاكهم السابقة، ومن ثم استرجاع الامارات التي ضمها بايزيد لاستقلالها كما بذر تيمور بذور الشقاق بين أبناء بايزيد المتنازعين على العرش (٤).
سابعاً: الحروب الداخلية:
لقد تعرضت الدولة العثمانية لخطر داخلي تمثل في نشوب حرب أهلية في الدولة بين أبناء بايزيد على العرش واستمرت هذه الحرب عشر سنوات (٨٠٦ - ٨١٦هـ/١٤٠٣ - ١٤١٣م) (٥).
كان لبايزيد خمسة أبناء اشتركوا معه في القتال، أما مصطفى فقد ظن أنه قتل في المعركة، أما موسى فقد أسر مع والده ونجح الثلاثة الآخرون في الفرار. أما أكبرهم سليمان فقد ذهب الى أدرنة وأعلن نفسه سلطاناً هناك، وذهب عيسى الى بروسة وأعلن للناس أنه خليفة أبيه، ونشبت الحرب بين هؤلاء الأخوة الثلاثة يتنازعون بينهم اشلاء الدولة الممزقة والأعداء يتربصون بهم من كل جانب. ثم اطلق تيمورلنك الأمير موسى.   ليؤجج به نار الفتنة ويزيدها ضراماً وشدة واخذ يحرضهم على القتال ويغري بعضهم ببعض (١).
وبعد عام ارتحل تيمورلنك بجيشه الأخضر واليابس وترك وراءه البلاد على اسوأ حال من الدمار والخراب والفوضى (٢).
لقد كانت هذه المرحلة في تاريخ الدولة العثمانية مرحلة اختبار وابتلاء سبقت التمكين الفعلي المتمثل في فتح القسطنطينية، ولقد جرت سنة الله تعالى ألا يمكن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطيب، وهي سنة جارية على الأمة الاسلامية لا تتخلف. فقد شاء الله -تعالى- أن يبتلي المؤمنين، ويختبرهم، ليمحص إيمانهم، ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك.
وابتلاء المؤمنين قبل التمكين أمر حتمي من أجل التمحيص، ليقوم بنيانهم بعد ذلك على تمكين ورسوخ قال تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (سورة العنكبوت: آية ٢،٣).
"الفتنة: الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الاعداء وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأمور، ومصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم" (٣).
قال ابن كثير -رحمه الله-: (والاستفهام في قوله تعالى: {أحسب الناس} إنكاري ومعناه: أن الله سبحانه لابد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ماعندهم من الإيمان) (٤) كما جاء في الحديث الصحيح: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل،: يبتلي الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء (٥).
ولقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الابتلاء صفة لازمة للمؤمن، حيث قال: "مثل المؤمن كمثل الزرع لاتزال الريح تميله ولايزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز.حتى تستحصد" (١).
إن سنة الابتلاء جارية في الأمم والدول والشعوب والمجتمعات ولذلك جرت سنة الله بالابتلاء بالدولة العثمانية.
صمد العثمانيون لمحنة أنقرة بالرغم مما عانوه من خلافات داخلية، الى أن أنفرد محمد الأول بالحكم في عام ١٤١٣م، وأمكنه لم شتات الأراضي التي سبق للدولة أن فقدتها، إن إفاقة الدولة من كارثة أنقرة يرجع الى منهجها الرباني الذي سارت عليه حيث جعل من العثمانيين أمة متفوقة في جانبها العقدي والديني والسلوكي والأخلاقي والجهادي وبفضل الله حافظ العثمانيون على حماستهم الدينية وأخلاقهم الكريمة (٢) ثم بسبب المهارة النادرة التي نظم بها أورخان وأخوه علاء الدين دولتها الجديدة وإدارة القضاء المثيرة للإعجاب والتعليم المتواصل لابناء وشباب العثمانيين وغير ذلك من الأسباب التي جعلت في العثمانيين قوة حيوية كاملة، فما لبثت هذه الدولة بعد كارثة أنقرة إلا انبعثت من جديد من بين الأنقاض والأطلال وانتعشت وسرى في عروقها ماء الحياة، وروح الشريعة، واستأنفت سيرها الى الامام في عزم وإصرار حير الأعداء والأصدقاء (٣).  
المبحث الخامس
السلطان محمد الأول

ولد السلطان محمد الاول عام (٧٨١هـ/١٣٧٩م) (١)، وتولى أمر الأمة بعد وفاة والده بايزيد وعرف في التاريخ (بمحمد جلبي).
كان متوسط القامة، مستدير الوجه، متلاصق الحاجبين، ابيض البشرة، أحمر الخدين، واسع الصدر، صاحب بدن قوي، في غاية النشاط وجسوراً، يمارس المصارعة، ويسحب أقوى أوتار الأقواس. اشترك اثناء حكمه في ٢٤ حرباً واصيب بأربعين جرحاً (٢) استطاع السلطان محمد جلبي أن يقضي على الحرب الأهلية بسبب ما أوتي من الحزم والكياسة وبعد النظر وتغلب على أخوته واحداً واحداً حتى خلص له الأمر وتفرد بالسلطان وقضي سني حكمه الثماني في إعادة بناء الدولة وتوطيد اركانها (٣) ويعتبره بعض المؤرخين المؤسس الثاني للدولة العثمانية (٤).
ومما يؤثر عن هذا السلطان أنه استعمل الحزم مع الحلم في معاملة من قهرهم ممن شق عصا طاعة الدولة فإنه لما قهر أمير بلاد القرمان وكان قد استقل عفا عنه بعد أن أقسم له على القرآن الشريف بأن لا يخون الدولة فيما بعد وعفا عنه ثانية بعد أن حنث في يمينه (٥) وكانت سياسته تهدف الى إعادة بناء الدولة وتقويتها من الداخل ولذلك سالم امبراطور القسطنطينية وحالفه وأعاد إليه بعض المدن على شاطئ البحر الاسود وفي تساليا وصالح البندقية بعد هزيمة اسطوله أمام كليتبولي وقمع الفتن والثورات في آسيا وأوروبا واخضع بعض الامارات الآسيوية التي أحياها تيمورلنك ودانت له بالطاعة والولاء (٦).
..  وظهر في زمن السلطان محمد شخص يسمى بدرالدين انتحل صفة علماء الدين الاسلامي وكان في جيش موسى اخو السلطان محمد وتولى منصب قاضي العسكر أعلى مناصب الدولة العثمانية وقتئذ، وكان هذا القاضي قد احتضنه موسى بن بايزيد.
قال صاحب الشقائق النعمانية: (الشيخ بدر الدين محمود بن اسرائيل .. المشهور بابن قاضي سيماونه ولد في قلعة سيماونه في بلاد الروم إحدى قرى أدرنة التي تقع في الجزء الأوروبي من تركيا، كان أبوه قاضياً لها وكان أيضاً أمير على عسكر المسلمين (فيها) وكان فتح تلك القلعة على يده أيضاً ... ولادة الشيخ بدرالدين كانت في زمن السلطان الغازي خداوندكار (مراد الأول) من سلاطين آل عثمان، ثم أخذ الشيخ العلم في صباه عن والده... وحفظ القرآن العظيم وقرأ على المولى المشتهر بالشاهدي، وتعلم الصرف والنحو عن مولانا يوسف، ثم ارتحل الى الديار المصرية. وقرأ هناك مع (اي مزمل) السيد الشريف الجرجاني، على مولانا مبارك شاه المنطقي المدرس بالقاهرة، ثم حج مع مبارك شاه وقرأ بمكة على الشيخ الزيعلي، ثم قدم القاهرة، وقرأ مع السيد الجرجاني على الشيخ أكمل الدين (البايبوري) وقرأ على الشيخ المذكور (اي تعلم وتتلمذ على يد الشيخ بدر الدين) السلطان فرج ابن السلطان برقوق ملك مصر (سلطان مصر المملوكي برقوق).
ثم أدركته (اي الشيخ بدرالدين) الجذبة الالهية، والتجأ الى كنف الشيخ سعيد الأخلاطي الساكن بمصر وقتئذ وحصل عنده ماحصل (اي اصبح مريده). وأرسله الشيخ اخلاطي الى بلدة تبريز للارشاد (الصوفي) حكى انه لما جاء تيمورلنك تبريز ... نال (اي بدر الدين) من الامير المذكور (تيمورلنك) مالاً جزيلاً بالغاً الى نهايته، ثم ترك الشيخ الكل، ولحق ببدليس ثم سافر الى مصر .. ثم الى حلب ثم الى قونية ثم الى تبرة من بلاد الروم ثم دعاه رئيس جزيرة ساقز (وهو نصراني) فأسلم على يدي الشيخ ... ثم لما تسلطن موسى من أولاد عثمان الغازي نصب الشيخ (اي جعل من الشيخ بدر الدين) قاضياً لعسكره ثم أن أخا موسى (محمداً) قتل موسى وحبس الشيخ مع أهله وعياله ببلدة أزنيق) (١).
وفي أزنيق - وهي مدينة في تركيا- بدأ الشيخ بدر الدين محمود بن اسرائيل يدعو الى مذهبه الفاسد، فكان يدعو الى المساواة في الأموال، والأمتعة، والأديان، ولايفرق بين المسلم.   وغير المسلم في العقيدة، فالناس أخوة مهما اختلفت عقائدهم وأديانهم وهو ماتدعو إليه الماسونية اليهودية، وانضم الى هذه الدعوة الباطلة كثير من الاغبياء والجهلة وأصحاب الأغراض الدنيئة وأصبح للمفسد بدرالدين تلاميذ يدعون الى منهجه ومذهبه ومن أشهر هؤلاء الدعاة شخص يسمى (بير قليجة مصطفى) وآخر يقال إنه من أصل يهودي هو (طوره كمال) واليهود دائماً خلف المؤامرات من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحتى عصرنا هذا.
وشاع أمر هذا المذهب الفاسد وكثر أتباعه وتصدى السلطان محمد جلبي لهذا المذهب الباطل وأرسل أحد قواده على رأس جيش كبير لمحاربة بدر الدين وللأسف قتل القائد سيسمان الذي ارسله محمد جلبي على يد الخائن (بير قليجة) وهزم جيشه وأعد السلطان محمد جلبي جيشاً آخر بقيادة وزيره الأول (بايزيد باشا)، فحارب (بير قليجة) وأنتصر عليه في موقعة (قره بورنو) وبعدها أقيم حد الحرابة على (بير قليجة مصطفى) امتثالاً لأمر الله (١) الذي يقول: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (سورة المائدة: آية ٣٣).
واستمر الشيخ بدرالدين في غيه وظن أنه سيتمكن من البلاد بسبب ماتمر به من حالة تمزق كامل وفوضى ضربت بأطنابها في كل ارجاء البلاد وكان بدر الدين يقول: (إني سأثور من أجل أمتلاك العالم، وباعتقاداتي ذات الاشارات الغيبية سأقسم العالم بين مريدي بقوة العلم وسر التوحيد، وسأبطل قوانين أهل التقليد ومذهبهم، وسأحلل -باتساع مشاربي- بعض المحرمات) (٢).
وكان أمير الأفلاق (في رومانيا) يدعم هذا المنشق وهذا المبتدع وهذا الزنديق مادياً وعسكرياً وكان السلطان محمد جلبي لهذه الدعوة الفاسدة بالمرصاد وضيق عليها الخناق، حتى اضطر بدر الدين أن يعبر إلى منطقة دلي أورمان (في بلغاريا الآن (٣)) يقول محمد شرف الدين في مسألة توجه الشيخ بدر الدين إلى دلي أورمان: (إن هذه المنطقة وما يحيط.   .بها من مناطق هي مأوى الباطنية، وهي منطقة تعج بأتباع ثورة بابا إسحق التي قامت ضد الدولة العثمانية في منتصف القرن السابع الهجري، وأن توجه الشيخ بدر الدين إلى هذا المكان وتمكنه من جمع الآلاف المؤلفة من المؤيدين له ولحركته من هذه المناطق لفيه الدلالة الكافية لاختيار الشيخ هذا المكان بالذات) (١).
وفي دلي أورمان بدأت المعونات الأوربية تفد إلى الشيخ، واتسع نطاق الثورة ضد السلطان العثماني محمد الأول، ووصلت فلولا المنشقين أعداء الإسلام الصحيح إلى مابين ٧ - ٨ آلاف مقاتل (٢).
وكان السلطان محمد الأول يتابع الأمور بحذر ويقظة ولم يكن غافلاً عما يفعله الثوار وقام السلطان بنفسه لحرب الشيخ بدر الدين وكان هذا على رأس جيش عظيم في دلي أورمان.
اتخذ السلطان محمد من سيروز (في اليونان الآن) مركزاً لقيادته. أرسل السلطان قواته إلى الثوار فهزمتهم، وتوارى زعيمهم بدر الدين الثائر بعد هزيمته، في منطقة دلي أورمان، فراراً من السلطان (٣).
واستطاعت مخابرات السلطان محمد الأول أن تخترق صفوف الثوار وأن تكيد مكيدة محكمة وقع على أثرها زعيم الثوار المبتدع بدر الدين في الأسر (٤).
وعندما قابل السلطان محمد الأول بدر الدين قال له: مالي أرى وجهك قد اصفر؟
أجابه بدر الدين: إن الشمس يا مولاي، تصفر عندما تقترب من الغروب.
وقام علماء الدولة بمناظرة علمية حرة مع بدر الدين ثم أقيمت محكمة شرعية، وأصدر حكم الإعدام بناء على فتوى العلماء التي استندت إلى توجيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتاكم وأمركم جميعاً على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه " (٥).
إن المذهب الفاسد الذي كان يدعو إليه "بدر الدين "هو نفس مذهب الماسونية اليهودية المعاصرة (القرن الخامس عشر الهجري / العشرون الميلادي) وهو يقوم على إلغاء الحواجز بين.  أصحاب العقيدة الإسلامية الصحيحة وأصحاب العقائد الفاسدة، إذ إنه يقول بالأخوة بين المسلمين واليهود والنصارى وعباد البقر والشيوعيين، وهذا يخالف عقيدة الإسلام التي تؤكد أنه لا أخوة بين المسلمين وبين غيرهم من أصحاب العقائد الفاسدة، لأنه كيف يكون هناك أخوة بين من يحاربون الله ورسوله، وبين المؤمنين الموحدين (١).
كان السلطان محمد الأول محباً للشعر والأدب والفنون وقيل هو أول سلطان عثماني أرسل الهدية السنوية إلى أمير مكة التي يطلق عليها اسم الصرة، وهي عبارة على قدر معين من النقود يرسل إلى الأمير لتوزيعه على فقراء مكة والمدينة (٢).
وقد أحب الشعب العثماني السلطان محمد الأول وأطلقوا عليه لقب بهلوان (ومعناها البطل) وذلك بسبب نشاطه الجم وشجاعته كما أن أعماله العظيمة، وعبقريته الفذة التي قاد من خلالها الدولة العثمانية الى بر الأمان، كما أن جميل سجاياه وسلوكه وشهامته وحبه للعدل والحق جعل شعبه يحبه ويطلق عليه لقب جلبي ايضاً وهو لقب تشريف وتكريم فيه معنى الشهامة والرجولة.
حقيقة إن بعض حكام آل عثمان قد فاقوه شهرة، إلا أن بالإمكان اعتباره من أنبل حكام العثمانيين -فقد اعترف المؤرخون الشرقيون واليونانيون بإنسانيته واعتبره المؤرخون العثمانيون (٣) بمثابة القبطان الماهر الذي حافظ على قيادة سفينة الدولة العثمانية حين هددتها طوفان الغزوات التترية، والحروب الداخلية، والفتن الباطنية.
وفاته:
بعد أن بذل السلطان محمد الأول قصارى جهده في محو آثار الفتن التي مرت بها الدولة العثمانية وشروعه في أجزاء ترتيبات داخلية تضمن عدم حدوث شغب في المستقبل وبينما كان السلطان مشتغلاً بهذه المهمام السليمة شعر بدنو أجله دعى الباشا بايزيد وقال له: (عينت ابني مراد خليفة لي فأطعه وكن صادقاً معه كما كنت معي. اريد منكم ان تأتونني بمراد الآن لانني لا استطيع أن أقوم من الفراش بعد. فان وقع الأمر الألهي قبل مجيئه حذاري ان تعلنوا وفاتي حتى يأتي) (٤).

وفاجأه الموت في سنة ٨٢٤هـ (١٤٢١م) في مدينة أورنة واسلم روحه لخالقه وعمر ٤٣سنة.
وخوفاً من حصول مالاتحمد عقباه لو عُلم موت السلطان محمد الأول اتفق وزيراه ابراهيم وبايزيد على أخفاء موته على الجند حتى يصل أبنه مراد الثاني فأشاعا أن السلطان مريض وارسلا لابنه فحضر بعد واحد وأربعين يوماً واستلم مقاليد الحكم (١).
ولقد كان السلطان محمد الأول محباً للسلام والعلم والفقهاء ولذلك نقل عاصمة الدولة من أدرنة (مدينة الغزاة) الى بروسة (مدينة الفقهاء) (٢) وكان على خلق رفيع، وحزم متين، وحلم فريد، وسياسة فذة في معاملة الأعداء المبحث السادس
مراد الثاني
تولى السلطان مراد الثاني أمر الدولة بعد وفاة أبيه (محمد جلبي) عام (٨٢٤هـ/١٤٢١م)، وكان عمره لايزيد على ثماني عشرة سنة وكان محباً للجهاد في سبيل الله، والدعوة الى الاسلام في ربوع أوروبا (١).
كان معروفاً لدى جميع رعيته بالتقوى، والعدالة والشفقة (٢)، استطاع السلطان مراد أن يقضي على حركات التمرد الداخلية التي قام بها عمه مصطفى والتي كانت تدعم من قبل أعداء الدولة العثمانية وكان الامبراطور البيزنطي مانويل الثاني خلف الدسائس والمؤامرات والمتاعب التي تعرض لها السلطان مراد، فهو الذي دعم عم السلطان مراد الذي اسمه مصطفى بالمساعدات حتى استطاع أن يحاصر مدينة غاليبولي ابتغاء انتزاعها من السلطان واتخاذها قاعدة له إلا ان السلطان مراد قبض على عمه وقدمه للمشنقة ومع ذلك، فقد مضى الامبراطور مانويل الثاني يكيد للسلطان واحتضن شقيقاً لمراد الثاني، ووضعه على رأس قوة استولت على مدينة نيقيافي الأناضول، وسار إليه مراد واستطاع أن يقض على قواته واضطر خصمه للاستسلام ثم قتل. ومن ثم صمم السلطان مراد أن يلقن الامبراطور درساً عملياً، فأسرع بإحتلال سلولنيك، فهاجمها ودخلها عنوة في مارس ١٤٣١م (٨٣٣هـ)، واصبحت جزءً لايتجزأ من الدولة العثمانية.
وكان السلطان مراد يوجه الضربات الموجعة لحركات التمرد في بلاد البلقان، وحرص على تدعيم الحكم العثماني في تلك الديار، واتجه الجيش العثماني نحو الشمال لأخضاع إقليم ولاشيا وفرض عليه جزية سنوية، واضطر ملك الصرب الجديد (ستيف لازار ميتش) الى الخضوع للعثمانيين والدخول تحت حكمهم وجدد ولاءه للسلطان، واتجه جيش عثماني نحو الجنوب، حيث قام بتوطيد دعائم الحكم العثماني في بلاد اليونان.    .ولم يلبث السلطان أن واصل جهاده الدعوي وقام بالقضاء على العوائق في كل من ألبانيا والمجر.
واستطاع العثمانيون أن يفتحوا ألبانيا عام (٨٣٤هـ/١٤٣١م) وركزوا هجومهم على الجزء الجنوبي من البلاد. أما شمالي ألبانيا، فقد خاض العثمانيون فيه جهاداً مريراً، وتمكن الألبانيون الشماليون من القضاء على جيشين عثمانيين في جبال البانيا، كما ألحقوا الهزيمة بحملتين عثمانيتين متعاقبتين كان يقودهما السلطان مراد بنفسه، وتكبد العثمانيون خسائر فادحة أثناء عملية الانسحاب، ووقفت الدول النصرانية خلف الألبان لدعمهم ضد العثمانيين وخصوصاً من حكومة البندقية التي كانت تدرك خطورة الفتح العثماني لهذا الاقليم الهام بشاطئيه وموانئه البحرية التي تربط البندقية بحوض البحر المتوسط والعالم الخارجي، وأنهم في استطاعتهم حجز سفن البنادقة داخل بحر مغلق هو بحر الأدرياتيك. وهكذا لم يشهد السلطان مراد الثاني استقراراً للحكم العثماني في ألبانيا (١).
وأما ما يتعلق بجبهة المجر، فقد استطاع العثمانيون في عام (٨٤٢هـ/١٤٣٨م) أن يهزموا المجريين ويأسروا منهم سبعين ألف جندي وأن يستولوا على بعض المواقع، ثم تقدم لفتح بلغراد عاصمة الصرب، ولكنه أخفق في محاولته وسرعان ماتكون حلف صليبي كبير باركه البابا واستهدف هذا الحلف طرد العثمانيين من أوربا كلية. وشمل الحلف البابوية والمجر وبولندا والصرب وبلاد الأفلاق وجنوة والبندقية والإمبراطورية البيزنطية ودوقية برجنديا، وانضمت إلى الحلف أيضاً كتائب من الألمان والتشيك. وأعطيت قيادة قوات الحلف الصليبي إلى قائد مجري قدير هو يوحنا هنيادي. وقد قاد هنيادي القوات الصليبية البرية وزحف جنوباً واجتاز الدانوب وأوقع بالعثمانيين هزيمتين فادحتين عام (٨٤٦هـ/ ٤٤٢م)، واضطر العثمانيون إلى طلب الصلح (٢) وأبرمت معاهدة صلح لمدة عشر سنوات في "سيزجادن "وذلك في شهر يوليو عام ١٤٤٤م / ٨٤٨هـ تنازل فيها عن الصرب واعترف "بجورج برانكوفيتش"أميراً عليها. كما تنازل السلطان مراد عن الافلاق للمجر، وافتدى زوج ابنته "محمود شلبي "الذي كان قائداً عاماً للجيوش العثمانية، بمبلغ ٦٠ ألف دوقية .. وقد حررت هذه المعاهدة باللغتين العثمانية، والمجرية وأقسم "لاديسلاسي "ملك المجر على الانجيل كما اقسم السلطان مراد بالقرآن على أن تراعي شروط المعاهدة بذمة وشرف.  وحين فرغ مراد من عقد الهدنة مع أعدائه الاوروبيين عاد إلى الأناضول وفجع بموت ابنه الأمير علاء واشتد حزنه عليه وزهد في الدنيا والملك ونزل عن السلطنة لابنه محمد وكان إذ ذاك في الرابعة عشرة من عمره، ولصغر سنه أحاطه والده ببعض أهل الرأي والنظر من رجال دولته ثم ذهب إلى مغنيسيا في آسيا الصغرى ليقضي بقية حياته في عزلة وطمأنينة ويتفرغ في هذه الخلوة إلى عبادة الله والتأمل في ملكوته بعد أن أطمأن إلى استتباب الأمن والسلام في أرجاء دولته ولم يستمتع السلطان طويلاً بهذه الخلوة والعبادة (١) حيث قام الكاردينال سيزاريني وبعض أعوانه بالدعوة إلى نقض العهود مع العثمانيين وطردهم عن أوربا، خصوصاً وأن العرش العثماني قد تركه السلطان مراد لابنه الفتى الذي لا خبرة له ولاخطر منه وقد اقتنع البابا أوجين الرابع بهذه الفكرة الشيطانية (٢) وطلب من النصارى، نقض العهد، ومهاجمة المسلمين وبين للنصارى أن المعاهدة التي عقدت مع المسلمين باطلة لأنها عقدت بدون إذن البابا وكيل المسيح في الأرض وكان الكاردينال سيزاريني عظيم النشاط دائم الحركة لايكل عن العمل، يجد ويسعى للقضاء على العثمانيين ولذلك كان يزور ملوك النصارى وزعمهم ويحرضهم على نقض المعاهدة مع المسلمين ويقنع كل من يعترض عليه نكث المعاهدة ويقول له أنه باسم البابا يبرئ ذمتهم من نكثها ويبارك جنودهم وأسلحتهم، وعليهم أن يتبعوا طريقه فان طريق المجد والخلاص ومن نازعه ضميره بعد ذلك وخشي الاثم فإنه يحمل عنه وزره وإثمه (٣).
لقد نقض النصارى عهودهم، وحشدوا الجيوش لمحاربة المسلمين، وحاصروا مدينة "فارنا "البلغارية الواقعة على ساحل البحر الأسود، والتي كانت قد تحررت على أيدي المسلمين، ونقض العهود هو سَمْتُ ظاهر لأعداء هذا الدين، ولذلك أوجب الله سبحانه وتعالى على المسلمين قتالهم يقول سبحانه: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} (التوبة: ١٢).
لاعهود، ولا مواثيق يرعونها، كما هو طابعهم دائماً. إنهم لا يتورعون عن مهاجمة أي أمة، أي إنسان يلمحون فيه ضعفاً، يقتلون ويذبحون (٤) وصدق الله القائل في تصويرهم:   {لايرقبون في مؤمن إلا ولا ذمّة وأولئك هم المعتدون} (التوبة: ١٠).
وعندما تحرك النصارى وزحفوا نحو الدولة العثمانية وسمع المسلمون في أدرنة بحركة الصليبيين وزحفهم انتابهم الفزع والرعب وبعث رجال الدولة الى السلطان مراد يستعجلون قدومه لمواجهة هذا الخطر وخرج السلطان المجاهد من خلوته ليقود جيوش العثمانيين ضد الخطر الصليبي. واستطاع مراد أن يتفق مع الأسطول الجنوي لينقل أربعين ألفاً من الجيش العثماني من آسيا إلى أوروبا تحت سمع الأسطول الصليبي وبصره في مقابل دينار لكل جندي.
وأسرع السلطان مراد في السير فوصل وارنه في نفس اليوم الذي وصل فيه الصليبيون. وفي اليوم التالي نشبت المعركة بين الجيشين النصراني والإسلامي وكانت عنيفة حامية وقد وضع السلطان مراد المعاهدة التي نقضها أعداؤه على رأس رمح ليشهدهم ويشهد السماء والأرض على الغدر والعدوان وليزيد حماس جنده (١). واقتتل الفريقان، ودارت بينهما معركة رهيبة كاد يكون فيها النصر للنصارى نتيجة حميتهم الدينية وحماسهم الزائد إلا أن تلك الحماية والحماس الزائد اصطدم بالروح الجهادية لدى العثمانيين، والتقى الملك "لاديسلاس "ناقض العهود مع السلطان مراد الوفي بالعهود وجها لوجه واقتتلا، ودارت بينهما معركة رهيبة، تمكن السلطان المسلم من قتل الملك المجري النصراني، فقد عاجله بضربة قوية من رمحه اسقطته من على ظهر جواده فأسرع بعض المجاهدين وجزوا رأسه ورفعوه على رمح مهللين مكبرين وفرحين (٢) وصاح أحد المجاهدين في العدو "أيها الكفار هذا رأس ملككم "وكان لذلك المنظر أثر شديد على جموع النصارى، فاستحوذ عليهم الفزع والهلع، فحمل عليهم المسلمون حملة قوية، بددت شملهم وهزموهم شر هزيمة، وولى النصارى مدبرين يدفع بعضهم ولم يطارد السلطان مراد عدوه واكتفى بهذا الحد من النصر وانه لنصر عظيم (٣).
كانت هذه المعركة في سهول قوصوه في ١٧ أكتوبر ١٤٤٨م (٨٥٢هـ) واستمرت المعركة ثلاثة أيام وانتهت بفوز ساحق للعثمانيين. وقد أخرجت هذه المعركة بلاد المجر لعشر سنوات على الأقل من عداد الدول التي تستطيع النهوض بعمليات حربية هجومية ضد العثمانيين (٤).
ولم تفارق السلطان مراد زهادته في الدنيا والملك فنزل على العرش مرة أخرى لابنه محمد وعاد إلى عزلته في مغنيسيا كما يعود الأسد المنتصر إلى عرينه.
ولقد ذكر لنا التاريخ مجموعة من الملوك والحكام الذين نزلوا عن عروشهم وانقطعوا عن الناس وأبهة الملك إلى العزلة، وأن بعض هؤلاء الملوك قد عادوا إلى العرش ولكن لم يذكر لنا أحد منهم نزل عن العرش مرتين غير السلطان مراد فإنه لم يكد يذهب إلى معتزله بآسيا الصغرى حتى ثار الانكشارية في أدرنة وشغبوا وهاجوا وماجوا وتمردوا وطغوا وأفسدوا وكان السلطان محمد فتى يافعاً حديث السن وخشي بعض رجال الدولة أن يستفحل الأمر ويعظم الخطر ويتفاقم الشر، وتسوء العاقبة فبعثوا إلى السلطان مراد يستقدمونه ليتولى الأمر بنفسه (١) وجاء السلطان مراد وقبض على زمام الأمر وخضع له الانكشارية وأرسل ابنه محمد إلى مغنيسيا حاكماً عليها بالأناضول، وبقى السلطان مراد الثاني على العرش العثماني إلى آخر يوم في حياته، وقد قضاها في الغزو والفتح (٢).

أولاً: مراد الثاني وحبه للشعراء والعلماء وفعل الخير:
يقول محمد حرب: (مراد الثاني وإن كان مقلاً وكان مالدينا من شعره قليلاً، لصاحب فضل على الأدب والشعر لا يجحد، لأن نعمة حلّت على الشعراء الذين كان يدعوهم إلى مجلسه يومين في كل أسبوع ليقولوا ماعندهم، ويأخذون بأطراف الأحاديث والأسمار بينهم وبين السلطان، فيستحسن أو يستهجن، ويختار أو يطرح، وكثيراً ماكان يسدّ عوز المعوزين منهم بنائلة الغمر أو بإيجاد حرفة لهم تدرّ الرزق عليهم حتى يفرغوا من هموم العيش ويتوفروا على قول الشعر، وقد أنجب عصره كثيراً من الشعراء (٣).
لقد حوّل القصر الحاكم إلى نوع من الأكاديمية العلمية ووصل به الأمر أن كان الشعراء يرافقونه في جهاده (٤).
ومن أشعاره: (تعالوا نذكر الله لأننا لسنا بدائمين في الدنيا) (٥). كان سلطاناً عالماً عاقلاً عادلاً شجاعاً، وكان يرسل لأهالي الحرمين الشريفين وبيت المقدس من خاصة ماله فى.كل عام ثلاثة آلاف وخمس مئة دينار، وكان يعتني بشأن العلم والعلماء والمشايخ والصلحاء، مهد الممالك، وأمّن السبل، وأقام الشرع والدين وأذل الكفار والملحدين (١) وقال عنه يوسف آصاف: (كان تقياً صالحاً، وبطلاً صنديداً، محباً للخير، ميَّالاً للرأفة والإحسان) (٢).
ثانياً: وفاته ووصيته:
قال صاحب النجوم الزاهرة: في وفيات عام ٨٥٥هـ في مراد الثاني: (وكان خير ملوك زمانه شرقاً وغرباً، مما اشتمل عليه من العقل والحزم والعزم والكرم والشجاعة والسؤدد، وأفنى عمره في الجهاد في سبيل الله تعالى، وغزا عدَّة غزوات، وفتح عدّة فتوحات، وملك الحصون المنيعة، والقلاع والمدن من العدوِّ المخذول. على أنه كان منهمكاً في اللذات التي تهواها النفوس، ولعل حاله كقول بعض الأخيار - وقد سئل عن دينه - فقال: أُمزقه بالمعاصي وأُرقعه بالاستغفار -، فهو أحق بعفو الله وكرمه، فإن له المواقف المشهورة، وله اليد البيضاء في الإسلام ونكاية العدوّ، حتى قيل عنه إنه كان سياجاً للإسلام والمسلمين - عفا الله عنه، وعوّض شبابه الجنة ... ) (٣).
توفي السلطان في قصر ادرنه عن عمر يناهز ٤٧ عاماً وبناء على وصيته رحمه الله دفن في جانب جامع مرادية في بورصة. ووصى بان لايبنى على قبره شيء وأن يعمل أماكن في جوانب القبر يجلس فيها الحفاظ لقراءة القرآن الكريم وأن يدفن في يوم الجمعة فنفذت وصيته (٤).
وترك في وصيته شعراً، بعد أن كان قلقاً يخشى أن يدفن في قبر ضخم، وكان يريد ألاّ يبنى شيء على مكان دفنه، فكتبها شعراً ليقول: فليأتِ يوم يرى الناس فيه ترابي (٥).
لقد قام السلطان مراد ببناء جوامع ومدارس، وقصوراً وقناطر فمنها جامع ادرنه ذو ثلاثة شرف وبنى بجانب هذا الجامع مدرسة وتكية يطعم فيها الفقراء والمساكين (٦).
 
الفصل الثالث
محمد الفاتح وفتح القسطنطينية
 
المبحث الأول
السلطان محمد الفاتح
هو السلطان محمد الثاني (٤٣١هـ- ١٤٨١م)، يعتبر السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان يلقب بالفاتح وأبي الخيرات. حكم مايقرب من ثلاثين عاماً كانت خيراً وعزة للمسلمين (١). تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في ١٦ محرم عام ٨٥٥هـ الموافق ١٨ فبراير عام ١٤٥١م وكان عمره آنذاك ٢٢ سنة ولقد امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ، مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال حتى أنه اشتهر أخيراً في التاريخ بلقب محمد الفاتح، لفتحه القسطنطينية. وقد انتهج المنهج الذي سار عليه والده وأجداده في الفتوحات ولقد برز بعد توليه السلطة في الدولة العثمانية بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيراً بالأمور المالية فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف. وكذلك ركز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر.
وعمل على تطوير إدارة الأقاليم وأقر بعض الولاة السابقين في أقاليمهم وعزل من ظهر منه تقصيراً أو إهمال وطور البلاط السلطاني وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الإمام وبعد أن قطع أشواطاً مثمرة في الإصلاح الداخلي تطلع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، ولقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه، منها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب المنازعات مع الدول الأوروبية الأخرى، وكذلك بسبب الخلافات الداخلية التي عمت جميع مناطقها ومدنها ولم يكتف السلطان محمد بذلك بل انه عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الامبراطورية البيزنطية، والمعقل الاستراتيجي الهام للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي. 

لفترة طويلة من الزمن، والتي طالما اعتزت بها الامبراطورية البيزنطية بصورة خاصة والمسيحية بصورة عامة، وجعلها عاصمة للدولة العثمانية وتحقيق ما عجز عن تحقيقه أسلافه من قادة الجيوش الإسلامية (١).

أولاً: فتح القسطنطينية:
تعد القسطنطينية من أهم المدن العالمية، وقد أسست في عام ٣٣٠م على يد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول (٢)، وقد كان لها موقع عالمي فريد حتى قيل عنها: "لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها " (٣)، ومنذ تأسيسها فقد اتخذها البيزنطيون عاصمة لهم وهي من أكبر المدن في العالم وأهمها (٤) عندما دخل المسلمون في جهاد مع الدولة البيزنطية كان لهذه المدينة مكانتها الخاصة من ذلك الصراع، ولذلك فقد بشر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بفتحها في عدة مواقف، من ذلك: ما حدث أثناء غزوة الخندق (٥)، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة طمعاً في أن يتحقق فيهم حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لتفتحن القسطنطينية على يد رجل، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) (٦).
لذلك فقد امتدت إليها يد القوات المسلمة المجاهدة منذ أيام معاوية بن أبي سفيان في أولى الحملات الإسلامية عليها سنة ٤٤هـ ولم تنجح هذه الحملة، وقد تكررت حملات أخرى في عهده حظيت بنفس النتيجة.
كما قامت الدولة الأموية بمحاولة أخرى لفتح القسطنطينية وتعد هذه الحملة أقوى الحملات الأموية عليها، وهي تلك الحملة التي تمت في أيام سليمان بن عبد الملك سنة ٩٨هـ (٧).
واستمرت المحاولة لفتح القسطنطينية حيث شهد العصر العباسي الأول حملات جهادية مكثفة ضد الدولة البيزنطية، ولكنها لم تتمكن من الوصول إلى القسطنطينية نفسها.   وتهديدها مع أنها هزتها وأثرت على الأحداث داخلها، وبخاصة تلك الحملة التي تمت في أيام هارون الرشيد (١) سنة ١٩٠هـ.
وقد قامت فيما بعد عدة دويلات إسلامية في آسيا الصغرى كان من أهمها دولة السلاجقة، التي امتدت سلطتها إلى آسيا الصغرى. كما أن زعيمها ألب أرسلان (٤٥٥ - ٤٦٥هـ / ١٠٦٣ - ١٠٧٢م) استطاع أن يهزم امبراطور الروم ديمونوس في موقعة ملاذ كرد عام ٤٦٤هـ/١٠٧٠م ثم أسره وضربه وسجنه وبعد مدة أطلق سراحه بعد أن تعهد بدفع جزية سنوية للسلطان السلجوقي، وهذا يمثل خضوع جزء كبير من امبراطورية الروم للدولة الإسلامية السلجوقية وبعد ضعف دولة السلاجقة الكبرى ظهرت عدة دول سلجوقية كان منها دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى والتي استطاعت مد سلطتها إلى سواحل بحر إيجة غربا وإضعاف الامبراطورية الرومانية.
وفي مطلع القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي خلف العثمانيون سلاجقة الروم (٢) وتجددت المحاولات الإسلامية لفتح القسطنطينية وكانت البداية حين جرت محاولة لفتحها في أيام السلطان بايزيد "الصاعقة "الذي تمكنت قواته من محاصرتها بقوة سنة ٧٩٦هـ - ١٣٩٣م (٣)، وأخذ السلطان يفاوض الإمبراطور البيزنطي لتسليم المدينة سلماً إلى المسلمين، ولكنه أخذ يراوغ ويماطل ويحاول طلب المساعدات الأوربية لصد الهجوم الاسلامي عن القسطنطينية، وفي الوقت نفسه وصلت جيوش المغول يقودها تيمورلنك إلى داخل الأراضي العثمانية وأخذت تعيث فسادا، فاضطر السلطان بايزيد لسحب قواته وفك الحصار عن القسطنطينية لمواجهة المغول بنفسه ومعه بقية القوات العثمانية، حيث دارت بين الطرفين معركة أنقرة الشهيرة، والتي أسر فيها بايزيد (الصاعقة) ثم مات بعد ذلك في الأسر سنة ١٤٠٢م (٤) وكان نتيجة ذلك ان تفككت الدولة العثمانية مؤقتا، وتوقف التفكير في فتح القسطنطينية إلى حين.
وما أن استقرت الأحوال في الدولة حتى عادت روح الجهاد من جديد، ففي أيام السلطان مراد الثاني الذي تولى الحكم في الفترة
٨٢٤هـ-٨٦٣هـ/ ١٤٢١ - ١٤٥١م جرت عدة.  ..محاولات لفتح القسطنطينية وتمكنت جيوش العثمانيين في أيامه من محاصرتها أكثرة من مرة، وكان الإمبراطور البيزنطي في أثناء تلك المحاولات يعمل على إيقاع الفتنة في صفوف العثمانيين بدعم الخارجين على السلطان (١)، وبهذه الطريقة نجح في إشغاله في هدفه الذي حرص عليه، فلم يتمكن العثمانيون من تحقيق ما كانوا يطمحون إليه إلا في زمن ابنه محمد الفاتح فيما بعد.
كان محمد الفاتح يمارس الأعمال السلطانية في حياة ابيه ومنذ تلك الفترة وهو يعايش صراع الدولة البيزنطية في الظروف المختلفة، كما كان على اطلاع تام بالمحاولات العثمانية السابقة لفتح القسطنطينية، بل ويعلم بما سبقها من محاولات متكررة في العصور الإسلامية المختلفة، وبالتالي فمنذ أن ولى السلطنة العثمانية سنة ٨٥٥هـ الموافق ١٤٥١هـ م (٢) كان يتطلع إلى فتح القسطنطينية ويفكر في فتحها ولقد ساهمت تربية العلماء على تنشئته على حب الإسلام والإيمان والعمل بالقرآن وسنة سيد الأنام ولذلك نشأ على حب الإلتزام بالشريعة الإسلامية، واتصف بالتقى والورع، ومحبا للعلم والعلماء ومشجعا على نشر العلوم ويعود تدينه الرفيع للتربية الإسلامية الرشيدة التي تلقها منذ الصغر، بتوجيهات من والده، وجهود الشخصيات العلمية القوية التي أشرفت على تربيته، وصفاء أولئك الأساتذة الكبار وعزوفهم عن الدنيا وابتعادهم عن الغرور ومجاهدتهم لأنفسهم، ممن أشرفوا على رعايته (٣).
لقد تأثر محمد الفاتح بالعلماء الربانيين منذ طفولته ومن أخصهم العالم الرباني "أحمد بن اسماعيل الكوراني"مشهودا له بالفضيلة التامة، وكان مدرسه في عهد السلطان "مراد الثاني"والد "الفاتح". وفي ذلك الوقت كان محمد الثاني
-الفاتح-، أميرا في بلدة "مغنيسيا"وقد أرسل إليه والده عددا من المعلمين ولم يمتثل أمرهم، ولم يقرأ شيئا، حتى أنه لم يختم القرآن الكريم، فطلب السلطان المذكور، رجلا له مهابة وحدّة، فذكروا له المولى "الكوراني"، فجعله معلما لولده وأعطاه قضيبا يضربه بذلك إذا خالف أمره. فذهب إليه، فدخل عليه والقضيب بيده، فقال: أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري، فضحك السلطان محمد خان من ذلك الكلام، فضربه المولى الكوراني في ذلك المجلس.ضربا شديداً، حتى خاف منه السلطان محمد خان، وختم القرآن في مدة يسيرة. . ." (١).
هذه التربية الاسلامية الصادقة، وهؤلاء المربون الأفاضل، ممن كان منهم بالأخص هذا العالم الفاضل، ممن يمزق الأمر السلطاني إذا وجد به مخالفة للشرع أو لاينحني للسلطان، ويخاطبه باسم، ويصافحه ولايقبل يده، بل السلطان يقبل يده. من الطبيعي أن يتخرج من بين جنباتها أناس عظماء كمحمد الفاتح، وأن يكون مسلماً مؤمناً ملتزماً بحدود الشريعة، مقيد بالأوامر والنواهي معظماً لها ومدافعاً عن إجراءات تطبيقها على نفسه أولاً ثم على رعيته، تقياً صالحاً يطلب الدعاء من العلماء العاملين الصالحين (٢).
وبرز دور الشيخ آق شمس الدين في تكوين شخصية محمد الفاتح وبث فيه منذ صغره أمرين هما:
١ - مضاعفة حركة الجهاد العثمانية.
٢ - الإيحاء دوماً لمحمد منذ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي: (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) (٣) لذلك كان الفاتح يطمع أن ينطبق عليه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المذكور (٤).
ثانياً: الإعداد للفتح:
بذل السلطان محمد الثاني جهوده المختلفة للتخطيط والترتيب لفتح القسطنطينية، وبذل في ذلك جهوداً كبيرة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده الى قرابة ربع مليون مجاهد (٥) وهذا عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة، كما عني عناية خاصة بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهلهم للعملية الجهادية المنتظرة كما أعتنى الفاتح بإعدادهم إعداداً معنوياً قوياً وغرس روح الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك، مما أعطاهم قوة معنوية وشجاعة منقطعة النظير، كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في تقوية عزائم الجنود وربطهم بالجهاد الحقيقي وفق أوامر الله.
وقد اعتنى السلطان بإقامة قلعة (روملي حصار) في الجانب الأوروبي على مضيق البسفور في أضيق نقطة منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر الآسيوي، وقد حاول الامبراطور البيزنطي ثني السلطان الفاتح عن بناء القلعة مقابل التزامات مالية تعهد به إلا أن الفاتح أصر على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع، حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة، وصل ارتفاعها الى ٨٢ متراً وأصبحت القلعتان متقابلتين ولا يفصل بينهما سوى ٦٦٠م تتحكمان في عبور السفن من شرقي البسفور الى غربيه وتستطيع نيران مدافعهما منع أي سفينة من الوصول الى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة طرابزون وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة (١).
أ- اهتمام السلطان بجمع الأسلحة اللازمة:
اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الاسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع التي أخذت اهتماماً خاصاً منه حيث أحضر مهندساً مجرياً يدعى (أوربان) كان بارعاً في صناعة المدافع فأحسن استقباله ووفر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية، وقد تمكن هذا المهندس من تصميم وتنفيذ العديد من المدافع الضخمة كان على رأسها المدفع السلطاني المشهور، والذي ذكر أن وزنه كان يصل الى مئات الأطنان وأنه يحتاج الى مئات الثيران القوية لتحريكه، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها (٢).
ب- الاهتمام بالأسطول:
ويضاف الى هذا الاستعداد مابذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لايكمل حصارها دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة وقد ذكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثر من أربعمائة سفينة (٣).  .ج- عقد معاهدات:
كما عمل الفاتح قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة (غلطة) المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بيهما مضيق (القرن الذهبي)، كما عقد معاهدات مع (المجد) و (البندقية) وهما من الامارات الأوروبية المجاورة، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية، حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن القسطنطينية (١) مشاركة لبني عقيدتهم من النصارى متناسين عهودهم ومواثيقهم مع المسلمين.
في هذه الاثناء التي كان السلطان يعد العدة فيها للفتح استمات الامبراطور البيزنطي في محاولاته لثنيه عن هدفه، بتقديم الأموال والهدايا المختلفة إليه، وبمحاولة رشوة بعض مستشاريه ليؤثروا على قراره (٢) ولكن السلطان كان عازماً على تنفيذ مخططه ولم تثنه هذه الأمور عن هدفه، ولما رأى الامبراطور البيزنطي شدة عزيمة السلطان على تنفيذ هدفه عمد الى طلب المساعدات من مختلف الدول والمدن الأوروبية وعلى رأسها البابا زعيم المذهب الكاثوليكي، في الوقت الذي كانت فيه كنائس الدولة البيزنطية وعلى رأسها القسطنطينية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية وكان بينهما عداء شديد وقد أضطر الامبراطور لمجاملة البابا بأن يتقرب إليه ويظهر له استعداده للعمل على توحيد الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية لتصبح خاضعة له، في الوقت الذي لم يكن الأرثوذكس يرغبون في ذلك، وقد قام البابا بناءً على ذلك بإرسال مندوب منه الى القسطنطينية، خطب في كنيسة آيا صوفيا ودعا للبابا وأعلن توحيد الكنيستين، مما أغضب جمهور الأرثوذكس في المدينة، وجعلهم يقومون بحركة مضادة لهذا العمل الامبراطوري الكاثوليكي المشترك، حتى قال بعض زعماء الأرثودكس: (إنني افضل أن أشاهد في ديار البيزنط عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللاتينية) (٣).
ثانياً: الهجوم:
كان القسطنطينية محاطة بالمياة البحرية في ثلاث جبهات، مضيق البسفور، وبحر.  مرمرة، والقرن الذهبي الذي كان محمياً بسلسلة ضخمة جداً تتحكم في دخول السفن إليه، بالإضافة الى ذلك فإن خطين من الأسوار كانت تحيط بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة الى القرن الذهبي، يتخللها نهر ليكوس، وكان بين السورين فضاء يبلغ عرضه ٦٠ قدماً ويرتفع السور الداخلي منها ٤٠ قدماً وعليه أبراج يصل ارتفاعها الى ٦٠ قدماً، وأما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه قرابة خمس وعشرين قدماً وعليه أبراج موزعة مليئة بالجند (١)، وبالتالي فإن المدينة من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصيناً، لما عليها من الأسوار والقلاع والحصون إضافة الى التحصينات الطبيعية، وبالتالي فإنه يصعب اختراقها، ولذلك فقد استعصت على عشرات المحاولات العسكرية لاقتحامها ومنها إحدى عشرة محاولة اسلامية سابقة كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها (٢)،
وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها الى القسطنطينية، وقد تحركت المدافع من أدرنة الى قرب القسطنطينية، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه الى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس ٢٦ ربيع الأول ٨٥٧هـ الموافق ٦ أبريل ١٤٥٣م، فجمع الجند وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة، وذكرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، ومافي فتحها من عز للاسلام والمسلمين، وقد بادر الجيش بالتهليل والتكبير والدعاء (٣).
وكان العلماء مبثوثين في صفوف الجيش مقاتلين ومجاهدين معهم مما أثر في رفع معنوياتهم حتى كان كل جندي ينتظر القتال بفارغ الصبر ليؤدي ما عليه من واجب (٤).  

وفي اليوم التالي قام السلطان بتوزيع جيشه البري أمام الأسوار الخارجية للمدينة، مشكلاً ثلاثة أقسام رئيسية تمكنت من إحكام الحصار البري حول مختلف الجهات، كما أقام الفاتح جيوشاً احتياطية خلف الجيوش الرئيسية، وعمل على نصب المدافع أمام الأسوار، ومن أهمها المدفع السلطاني العملاق الذي أقيم أمام باب طب قابي، كما وضع فرقاً للمراقبة في مختلف المواقع المرتفعة والقريبة من المدينة، وفي نفس الوقت انتشرت السفن العثمانية في المياه المحيطة بالمدينة، إلا أنها لم تستطع الوصول الى القرن الذهبي بسبب وجود السلسلة الضخمة التي منعت أي سفينة من دخوله بل وتدمر كل سفينة تحاول الدنو والاقتراب، واستطاع الاسطول العثماني أن تستولي على جزر الامراء في بحر مرمرة (١).
وحاول البيزنطيون أن يبذلوا قصارى جهدهم للدفاع عن القسطنطينية ووزعوا الجنود على الأسوار، واحكموا التحصينات وأحكم الجيش العثماني قبضته على المدينة، ولم يخلوا الامر من وقوع قتال بين العثمانيين المهاجمين والبيزنطيين المدافعين منذ الايام الأولى للحصار، وفتحت أبواب الشهادة وفاز عدد كبير من العثمانيين بها خصوصاً من الأفراد الموكلين بالاقتراب من الابواب.
وكانت المدفعية العثمانية تطلق مدافعها من مواقع مختلفة نحو المدينة، وكان لقذائفها ولصوتها الرهيب دور كبير في إيقاع الرعب في قلوب البيزنطيين وقد تمكنت من تحطيم بعض الأسوار حول المدينة، ولكن المدافعين كانوا سرعان مايعيدون بناء الأسوار وترميمها.
ولم تنقطع المساعدات المسيحية من أوروبا ووصلت إمدادات من جنوة مكونة من خمس سفن وكان يقودها القائد الجنوي جوستنيان يرافقه سبعمائة مقاتل متطوع من دول أوروبية متعددة واستطاعت سفنهم أن تصل الى العاصمة البيزنطية العتيقة بعد مواجهة بحرية مع السفن العثمانية المحاصرة للمدينة وكان لوصول هذه القوة أثر كبير في رفع معنويات البيزنطيين، وقد عين قائدها جستيان قائداً للقوات المدافعة عن المدينة (٢).
وقد حاولت القوات البحرية العثمانية تخطي السلسلة الضخمة التي تتحكم في مدخل القرن الذهبي والوصول بالسفن الاسلامية إليه، وأطلقوا سهامهم على السفن الأوروبية والبيزنطية ولكنهم فشلوا في تحقيق مرادهم في البداية وارتفعت الروح المعنوية للمدافعين عن المدينة (٣).  

ولم يكل القس ورجال الدين النصارى، فكانوا يطوفون بشوارع المدينة، وأماكن التحصين ويحرضون المسيحيين على الثبات والصبر، ويشجعون الناس على الذهاب الى الكنائس ودعاء المسيح والسيدة العذراء أن يخلصوا المدينة، وأخذ الامبراطور قسطنطين يتردد بنفسه على كنيسة أيا صوفيا لهذا الهدف (١).
ثالثاً: مفاوضات بين محمد الفاتح وقسطنطين:
استبسل العثمانيون المهاجمون على المدينة وعلى راسهم محمد الفاتح وصمد البيزنطيون بقيادة قسطنطين صموداً بطولياً في الدفاع وحاول الامبراطور البيزنطي أن يخلص مدينته وشعبه بكل ما يستطيع من حيلة، فقدم عروضاً مختلفة للسلطان ليغريه بالانسحاب مقابل الأموال أو الطاعة، أو غير ذلك من العروض التي قدمها، ولكن الفاتح رحمه الله يرد بالمقابل طالباً تسليم المدينة تسليماً (٢)، وأنه في هذه الحالة لن يتعرض أحد من أهلها ولا كنائسها للأذى، وكان مضمون الرسالة: (فليسلم لي إمبراطوركم مدينة القسطنطينية وأقسم بأن جيشي لن يتعرض لأحد في نفسه وماله وعرضه ومن شاء بقي في المدينة وعاش فيها في أمن وسلام ومن شاء رحل عنها حيث اراد في أمن وسلام أيضاً) (٣).
كان الحصار لايزال ناقصاً ببقاء مضيق القرن الذهبي في ايدي البحرية البيزنطية، ومع ذلك فإن الهجوم العثماني كان مستمراً دون هوادة حيث أظهر جنود الانكشارية شجاعة فائقة، وبسالة نادرة، فكانوا يقدمون على الموت دون خوف في أعقاب كل قصف مدفعي، وفي يوم ١٨ أبريل (٤) تمكنت المدافع العثمانية من فتح ثغرة في الأسوار البيزنطية عند وادي ليكوس في الجزء الغربي من الأسوار، فاندفع إليها الجنود العثمانيون بكل بسالة محاولين اقتحام المدينة من الثغرة، كما حاولوا اقتحام الأسوار الأخرى بالسلالم التي ألقوها عليها، ولكن المدافعين عن المدينة بقيادة جستنيان استماتوا في الدفاع عن الثغرة والأسوار، واشتد القتال بين الطرفين، وكانت الثغرة ضيفة وكثرة السهام والنبال والمقذوفات على الجنود المسلمين، ومع ضيق المكان وشدة مقاومة الأعداء وحلول الظلام أصدر الفاتح أوامره للمهاجمين بالانسحاب بعد أن أثاروا الرعب في قلوب أعدائهم متحينين فرصة اخرى للهجوم (٥).
وفي اليوم نفسه حاولت بعض السفن العثمانية اقتحام القرن الذهبي بتحطيم السلسلة الحاجزة عنه، ولكن السفن البيزنطية والأوروبية المشتركة، إضافة الى الفرق الدفاعية المتمركزة خلف السلسلة الضخمة من المدافعين عن مدخل الخليج، استطاعوا جميعاً من صد السفن الاسلامية وتدمير بعضها، فاضطرت بقية السفن الى العودة بعد أن فشلت في تحقيق مهمتها (١).
رابعاً: عزل قائد الأسطول العثماني وشجاعة محمد الفاتح:
بعد هذه المعركة بيومين وقعت معركة اخرى بين البحرية العثمانية وبعض السفن الأوروبية التي حاولت الوصول الى الخليج، حيث بذلت السفن الاسلامية جهوداً كبيرة لمنعها، وأشرف الفاتح بنفسه على المعركة من على الساحل وكان قد أرسل الى قائد الأسطول وقال له: (إما أن تستولي على هذه السفن وإما أن تغرقها، واذا لم توفق في ذلك فلا ترجع إلينا حياً) (٢) لكن السفن الأوروبية نجحت في الوصول الى هدفها ولم تتمكن السفن العثمانية من منعها، رغم الجهود العظيمة المبذولة لذلك وبالتالي غضب السلطان محمد الفاتح غضباً شديداً فعزل قائد الاسطول (٣) بعد ما رجع الى مقر قيادته واستدعاه وعنف محمد الفاتح قائد الاسطول بالطه أوغلي وعنفه واتهمه بالجبن، وتأثر بالطة أوغلي لهذا وقال: (إني استقبل الموت بجنان ثابت، ولكن يؤلمني أن أموت وأنا متهم بمثل هذه التهمة. لقد قاتلت انا ورجالي بكل ماكان في وسعنا من حيلة وقوة، ورفع طرف عمامته عن عينه المصابة) (٤).
أدرك محمد الفاتح عند ذلك أن الرجل قد أعذر، فتركه ينصرف واكتفى بعزله من منصبه، وجعل مكانه حمزة باشا (٥).
لقد ذكرت كتب التاريخ أن السلطان محمد الفاتح كان يراقب هذه المعارك البحرية وهو على جواده وقد اندفع نحو البحر حتى غاص حصانه الى صدره وكانت السفن المتقاتلة على مرمى حجر منه فأخذ يصيح لبطله أوغلي بأعلى صوته: ياقبطان! ياقبطان! ويلوح له بيده، وضاعف العثمانيون جهودهم في الهجوم دون أن يأثروا في السفن تأثيراً ليناً (٦).
كانت الهزائم البحرية للأسطول العثماني دور كبير في محاولة بعض مستشاري السلطان.   .وعلى رأسهم الوزير (خليل باشا) إقتناعه بالعدول عن الاستيلاء على القسطنطينية والرضا بمصالحة أهلها دون السيطرة عليها وبالتالي رفع الحصار عنها، ولكن السلطان أصر على محاولة الفتح واستمر في قصف دفاعات المدينة بالمدافع من كل جانب، وفي الوقت نفسه كان يفكر بجدية في إدخال السفن الاسلامية الىالقرن الذهبي، خصوصاً وأن الأسوار من ناحية القرن الذهبي متهاوية، وبالتالي سيضطر البيزنطيون الى سحب بعض قواتهم المدافعة عن الاسوار الغربية من المدينة وبهذا التفريق للقوات المدافعة ستتهيأ فرصة أكبر في الهجوم على تلك الأسوار بعد أن ينقص عدد المدافعين عنها (١).
خامساً: عبقرية حربية فذة:
لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش الى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعداً عن حي غلطة خوفاً على سفنه من الجنوبيين، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة.
جمع محمد الفاتح أركان حربه وعرض عليهم فكرته، وحدد لهم مكان معركته القادمة، فتلقى منهم كل تشجيع، واعربوا عن اعجابهم بها.
بدأ تنفيذ الخطة، وأمر السلطان محمد الثاني فمهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها انزلاج السفن وجرها، وكان أصعب جزء من المشروع هو نقل السفن على انحدار التلال المرتفعة، الا أنه بصفة عامة كانت السفن العثمانية صغيرة الحجم خفيفة الوزن (٢).
وجرت السفن من البسفور الىالبر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال، حتى وصلت الى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو، بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته (٣).
كان هذا العمل عظيماً بالنسبة للعصر الذي حدث فيه بل معجزة من المعجزات، تجلى.  .فيه سرعة التفكير وسرعة التنفيذ، مما يدل على عقلية العثمانيين الممتازة، ومهارتهم الفائقة وهمتهم العظيمة. لقد دهش الروم دهشة كبرى عندما علموا بها، فما كان أحد ليستطيع تصديق ماتم. لكن الواقع المشاهد جعلهم يذعنون لهذه الخطة الباهرة.
ولقد كان منظر هذه السفن بأشرعتها المرفوعة تسير وسط الحقول كما لو كانت تمخر عباب البحر من أعجب المناظر وأكثرها اثارة ودهشة. ويرجع الفضل في ذلك الى الله سبحانه وتعالى ثم الىهمة السلطان وذكاءه المفرط، وعقليته الجبارة، والى مقدرة المهندسين العثمانيين، وتوفر الايدي العاملة التي قامت بتنفيذ ذلك المشروع الضخم بحماس ونشاط.
وقد تم كل ذلك في ليلة واحدة واستيقظ أهل المدينة البائسة صباح يوم ٢٢ أبريل على تكبيرات العثمانيين المدوية، وهتافاتهم المتصاعدة، واناشيدهم الإيمانية العالية (١)، في القرن الذهبي، وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي، ولم يعد هناك حاجز مائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين (٢)، ولقد عبر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال: (ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحول الأرض الى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الأسكندر الأكبر) (٣).
ظهر اليأس في أهل القسطنطينية وكثرت الإشاعات والتنبؤات بينهم، وانتشرت شائعة تقول: ستسقط القسطنطينية عندما ترى سفن تمخر اليابسة" (٤) وكان لوجود السفن الاسلامية في القرن الذهبي دور كبير في إضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن الأسوار الأخرى لكي يتولوا الدفاع عن الأسوار الواقعة على القرن الذهبي إذ أنها كانت أضعف الأسوار، ولكنها في السابق تحميها المياه، مما أوقع الخلل في الدفاع عن الأسوار الأخرى (٥).
وقد حاول الامبراطور البيزنطي تنظيم أكثر من عملية لتدمير الأسطول العثماني في القرن الذهبي إلا أن محاولته المستميته كان العثمانيون لها بالمرصاد حيث أفشلوا كل الخطط والمحاولات.   .واستمر العثمانيون في دك نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع، وحاولوا تسلَّق أسوارها، وفي الوقت نفسه انشغل المدافعون عن المدينة في بناء وترميم مايتهدم من أسوار مدينتهم ورد المحاولات المكثفة لتسلق الأسوار مع استمرار الحصار عليهم مما زاد في مشقتهم وتعبهم وإرهاقهم وشغل ليلهم مع نهارهم وأصابهم اليأس (١).
كما وضع العثمانيون مدافع خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي، مهمتها تدمير السفن البيزنطية والمتعاونة معها في القرن الذهبي والبسفور والمياه المجاورة مما عرقل حركة سفن الأعداء وأصابها بالشلل تماماً (٢).
سادساً: اجتماع بين الملك قسطنطين ومعاونيه:
عقد الملك قسطنطين ومعاونيه ومستشاريه ورجال النصرانية في المدينة اجتماعاً، فأشاروا عليه بالخروج بنفسه من المدينة والتوجه لطلب النجدات من الأمم المسيحية، والدول الأوروبية، ولعل تأتي الجيوش النصرانية، فيضطر محمد الفاتح لرفع الحصار عن مدينتهم، ولكنه رفض هذا الرأي وأصر على أن يقاوم الى آخر لحظة ولا يترك شعبه في المدينة حتى يكون مصيره ومصيرهم واحداً، وأنه يعتبر هذا واجبه المقدس وأمرهم أن لا ينصحوه بالخروج أبداً وأكتفى بإرسال وفود تمثله الى مختلف أنحاء أوروبا لطلب المساعدة (٣) ورجعت تلك الوفود تجر خلفها أذيال الخيبة وكانت الأجهزة الأستخباراتية للدولة العثمانية قد اخترقت القسطنطينية وماحولها بحيث أصبحت القيادة العثمانية على علم تام بما يدور حولها.
سابعاً: الحرب النفسية العثمانية:
ضاعف السلطان محمد الثاني الهجوم على الاسوار وجعله مركزاً وعنيفاً، ضمن خطة أعدها بنفسه أيضاً لإضعاف العدو، وكررت القوات العثمانية عملية الهجوم على الأسوار ومحاولة تسلقها مرات عديدة بصورة بطولية بلغت غاية عظيمة من الشجاعة والتضحية والتفاني، وكان أكثر ما يرعب جنود الامبراطور قسطنطين صيحاتهم وهي تشق عنان السماء وتقول: (الله أكبر الله أكبر) فتنزل عليهم كالصواعق المدمرة (٤).
وشرع السلطان محمد الفاتح في نصب المدافع القوية على الهضاب الواقعة خلف غلطة، وبدأت هذه المدافع في دفع قذائفها الكثيفة نحو الميناء وأصابت احدى القذائف سفينة تجارية فأغرقتها في الحال، فخافت السفن الأخرى واضطرت للفرار، واتخذت من أسوار غلطة ملجأ لها، وظل الهجوم العثماني البري في موجات خاطفة وسريعة هجمة تلوى الاخرى وكان السلطان محمد الفاتح يوالي الهجمات واطلاق القذائف في البر والبحر دون انقطاع ليلاً ونهاراً من أجل انهاك قوى المحاصرين، وعدم تمكينهم من أن ينالوا أي قسط من راحة وهدوء بال، وهكذا أصبحت عزائمهم ضعيفة ونفوسهم مرهقة كليلة، وأعصابهم متوترة مجهودة تثور لأي سبب، واصبح كل واحد من الجنود ينظر الى صاحبه ويلاحظ على وجهه علامات الذل والهزيمة والفشل، وشرعوا يتحدثون علناً عن طرق النجاة والافلات بأرواحهم وما يتوقعونه من العثمانيين اذا ما اقتحموا عليهم مدينتهم.
واضطر الامبراطور قسطنطين الى عقد مؤتمر ثاني، اقترح فيه احد القادة مباغتة العثمانيين بهجوم شديد عنيف لفتح ثغرة توصلهم بالعالم الخارجي وبينما هم في مجلسهم يتدارسون هذا الاقتراح، قطع عليهم أحد الجنود اجتماعهم وأعلمهم بأن العثمانيين شنوا هجوماً شديداً مكثفاً على وادي ليكونس، فترك قسطنطين الاجتماع ووثب على فرسه، واستدعى الجند الاحتياطي ودفع بهم الى مكان القتال، واستمر القتال الى آخر الليل حتى انسحب العثمانيون (١).
وكان السلطان محمد -رحمه الله- يفاجئ عدوه من حين لآخر بفن جديد من فنون القتال والحصار، وحرب الاعصاب وبأساليب جديدة وطرق حديثة مبتكرة غير معروفة للعدو (٢).
ففي المراحل المتقدمة من الحصار لجأ العثمانيون الى طريقة عجيبة في محاولة دخول المدينة حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الأرض من مناطق مختلفة الى داخل المدينة وسمع سكانها ضربات شديدة تحت الأرض أخذت تقترب من داخل المدينة بالتدريح، فأسرع الامبراطور بنفسه ومعه قواده ومستشاروه الى ناحية الصوت وأدركوا أن العثمانيين يقومون بحفر أنفاق تحت الأرض، للوصول الى داخل المدينة، فقرر المدافعون الإعداد لمواجهتها بحفر أنفاق مماثلة مقابل أنفاق المهاجمين لمواجهتهم دون أن يعلموا، حتى إذا وصل العثمانيون الى.  .الأنفاق التي أعدت لهم ظنوا أنهم وصلوا الى سراديب خاصة وسرية تؤدي الى داخل المدينة ففرحوا بهذا، ولكن الفرحة لم تطل إذ فاجأهم الروم، فصبوا عليهم ألسنة النيران والنفط المحترق والمواد الملتهبة، فأختنق كثير منهم واحترق قسم آخر وعاد الناجون منهم أدراجهم من حيث أتوا (١).
لكن هذا الفشل لم يفت في عضد العثمانيين، فعاودوا حفر انفاق اخرى، وفي مواضع مختلفة، من المنطقة الممتدة بين (أكرى فبو) وشاطئ القرن الذهبي وكانت مكاناً ملائماً للقيام بمثل هذا العمل، وظلوا على ذلك حتى أواخر أيام الحصار وقد اصاب أهل القسطنطينية من جراء ذلك خوف عظيم وفزع لايوصف حتى صاروا يتوهمون أن أصوات أقدامهم وهم يمشون ان هي أصوات خفية لحفر يقوم به العثمانيون، وكثيراً ماكان يخيل لهم ان الارض ستنشق ويخرج منها الجند العثمانيون ويملئون المدينة، فكانوا يتلفتون يمنة ويسرة، ويشيرون هنا وهناك في فزع ويقولون: (هذا تركي، ... ،هذا تركي) ويجرون هرباً من أشباح يحسبونها انها تطارهم، وكثيراً ماكان يحدث أن تتناقل العامة الاشاعة فتصبح كأنها حقيقة واقعة رأها احدهم بعيني رأسه وهكذا داخل سكان القسطنطينية فزع شديد أذهب وعيهم، حتى لكأنهم (سكارى وماهم بسكارى)، فريق يجري، وفريق يتأمل السماء، ومجموعة تتفحص الأرض، والبعض ينظر في وجوه البعض الآخر في عصبية زائدة وفشل ذريع.
ولم يكن عمل العثمايين هذا سهلاً، فان هذه الانفاق التي حفروها قد أودت بحياة كثير منهم، فماتوا اختناقاً واحتراقاً في باطن الأرض، كما وقع الكثير منهم في بعض هذه المحاولات في أسر الروم، فقطعت رؤوسهم وقذف بها الى معسكر العثمانيين (٢).
مفاجأة عسكرية عثمانية:
لجأ العثمانيون الى اسلوب جديد في محاولة الاقتحام وذلك بأن صنعوا قلعة خشبية ضخمة شامخة متحركة تتكون من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من الأسوار، وقد كسيت بالدروع والجلود المبللة بالماء لتمنع عنها النيران، وأعدت تلك القلعة بالرجال في كل دور من أدوارها، وكان الذين في الدور العلوي من الرماة يقذفون بالنبال كل من يطل برأسه من فوق الأسوار، وقد وقع الرعب في قلوب المدافعين عن المدينة حينما زحف العثمانيون بهذه القلعة.   واقتربوا بها من الأسوار عند باب رومانوس، فاتجه الامبراطور بنفسه ومعه قواده ليتابع صد تلك القلعة ودفعها عن الأسوار، وقد تمكن العثمانيون من لصقها بالأسوار ودار بين من فيها وبين النصارى عند الأسوار قتل شديد واستطاع بعض المسلمين ممن في القلعة تسلق الأسوار ونجحوا في ذلك، وقد ظن قسطنطين أن الهزيمة حلت به، إلا أن المدافعين كثفوا من قذف القلعة بالنيران حتى أثرت فيها وتمكنت منها النيران فاحترقت، ووقعت على الأبراج البيزنطية المجاورة لها فقتلت من فيها من المدافعين، وامتلاء الخندق المجاور لها بالحجارة والتراب (١).
ولم ييأس العثمانيون من المحاولة بل قال الفاتح وكان يشرف بنفسه على ماوقع: غداً نصنع أربعاً أخرى (٢).
زاد الحصار وقوي واشتد حتى أرهق من بداخل المدينة من البيزنطيين، فعقد زعماء المدينة اجتماعاً ٢٤ مايو داخل قصر الامبراطور وبحضوره شخصياً، وقد لاح في الأفق بوادر يأس المجتمعين من إنقاذ المدينة حيث اقترح بعضهم على الامبراطور الخروج بنفسه قبل سقوط المدينة لكي يحاول جمع المساعدات والنجدات لإنقاذها أو استعادتها بعد السقوط، ولكن الامبراطور رفض ذلك مرة اخرى وأصر على البقاء داخل المدينة والاستمرار في قيادة شعبه وخرج لتفقد الأسوار والتحصينات.
وأخذت الاشاعات تهيمن على المدينة وتضعف من مقاومة المدافعين عنها، وكان من أقواها عليهم ماحدث في يوم ١٦ جمادىالأولى الموافق ٢٥ مايو، حيث حمل أهل المدينة تمثالاً للسيدة مريم العذراء (بزعمهم)، وأخذوا يتجولون به في ضواحي المدينة، يدعونه ويتضرعون الى العذراء أن تنصرهم على أعدائهم، وفجأة سقط التمثال من أيديهم وتحطم، فرأوا في ذلك شؤم ونذير بالخطر، وتأثر سكان المدينة وخصوصاً المدافعين عنها، وحدث في اليوم التالي ٢٦ مايو هطول أمطار غزيرة مصحوبة ببعض الصواعق، ونزلت إحدى الصواعق على كنيسة آيا صوفيا، فتشأم البطريق، وذهب الى الامبراطور وأخبره أن الله تخلى عنهم وأن المدينة ستسقط في يد المجاهدين العثمانيين، فتأثر الامبراطور حتى أغمى عليه (٣).   وكانت المدفعية العثمانيةلا تنفك عن عملها في دك الأسوار والتحصينات، وتهدمت أجزاء كثيرة من السور والأبراج وامتلئت الخنادق بالأنقاض، التي يئس المدافعون من إزالتها وأصبحت إمكانية اقتحام المدينة واردة في أي لحظة، إلا أن اختيار موقع الاقتحام لم يحدد بعد (١).
ثامناً: المفاوضات الأخيرة بين محمد الفاتح وقسطنطين:
أيقن محمد الفاتح أن المدينة على وشك السقوط، ومع ذلك حاول أن يكون دخولها بسلام؛ فكتب الى الامبراطور رسالة دعاه فيه الى تسليم المدينة دون إراقة دماء، وعرض عليه تأمين خروجه وعائلته وأعوانه وكل من يرغب من سكان المدينة الى حيث يشاؤون بأمان (٢)، وأن تحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى ويكونوا بالخيار في البقاء في المدينة أو الرحيل عنها، ولما وصلت الرسالة الى الامبراطور جمع المستشارين وعرض عليهم الأمر، فمال بعضهم الى التسليم وأصر آخرون على استمرار الدفاع عن المدينة حتى الموت، فمال الامبراطور الى رأي القائلين بالقتال حتى آخر لحظة، فرد الامبراطور رسول الفاتح برسالة قال فيها: (إنه يشكر الله إذ جنح السلطان الى السلم وأنه يرضى أن يدفع له الجزية أما القسطنطينية فإنه أقسم أن يدافع عنها الى آخر نفس في حياته فإما أن يحفظ عرشه او يدفن تحت أسوارها) (٣)، فلما وصلت الرسالة الى الفاتح قال: (حسناً عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش او يكون لي فيها قبر) (٤).
وعمد السلطان بعد اليأس من تسليم المدينة صلحاً الى تكثيف الهجوم وخصوصاً القصف المدفعي على المدينة، حتى أن المدفع السلطاني الضخم انفجر من كثرة الاستخدام، وقتل المشتغلين له وعلى راسهم المهندس المجري أوربان الذي تولى الإشراف على تصميم المدفع، ومع ذلك فقد وجه السلطان بإجراء عمليات التبريد للمدافع بزيت الزيتون، وقد نجح الفنيون في ذلك، وواصلت المدافع قصفها للمدينة مرة أخرى، بل تمكنت من توجيه القذائف بحيث تسقط وسط المدينة بالإضافة الى ضربها للأسوار والقلاع (٥).   

تاسعاً: السلطان محمد الفاتح يعقد اجتماع لمجلس الشوري:
عقد السلطان محمد الفاتح اجتماعاً ضم مستشاريه وكبار قواده بالإضافة الى الشيوخ والعلماء، وقد طلب الفاتح من المجتمعين الإدلاء بآرائهم بكل صراحة دون تردد، فأشار بعضهم بالانسحاب ومنهم الوزير خليل باشا الذي دعا الى الانسحاب وعدم إراقة الدماء والتحذير من غضب أوروبا النصرانية فيما لو استولى المسلمون على المدينة، الى غير ذلك من المبررات التي طرحها، وكان متهماً بمواطئة البيزنطيين ومحاولة التخذيل عنهم (١)، وقد قام بعض الحضور بتشجيع السلطان على مواصلة الهجوم على المدينة حتى الفتح واستهان بأوروبا وقواتها، كما أشار الى تحمس الجند لإتمام الفتح، وما في التراجع من تحطيم لمعنوياتهم الجهادية، وكان من هؤلاء أحد القواد الشجعان ويدعى (زوغنوش باشا) وهو من أصل ألباني كان نصرانياً فأسلم حيث هون من شأن القوات الأوروبية على السلطان (٢).
وذكرت كتب التاريخ موقف زوغنوش باشا فقالت: (ما أن سأله السلطان الفاتح عن رأيه حتى استوفز في قعدته وصاح في لغة تركية تشوبها لكنة ارناؤوطية: حاشا وكلا أيها السلطان، أنا لا أقبل أبداً ماقاله خليل باشا، فما أتينا هنا إلا لنموت لا لنرجع. وأحدث هذا الاستهلال وقعاً عميقاً في نفوس الحاضرين، وخيم السكون على المجلس لحظة ثم واصل زوغنوش باشا كلامه فقال: إن خليل باشا أراد بما قاله أن يخمد فيكم نار الحمية ويقتل الشجاعة ولكنه لن يبوء إلا بالخيبة والخسران. ان جيش الاسكندر الكبير الذي قام من اليونان وزحف الى الهند وقهر نصف آسيا الكبيرة الواسعة لم يكن اكبر من جيشنا فإن كان ذلك الجيش استطاع ان يستولي على تلك الأراضي العظيمة الواسعة أفلا يستطيع جيشنا أن يتخطى هذه الكومة من الأحجار المتراكمة، وقد أعلن خليل باشا أن دول الغرب ستزحف إلينا وتنتقم ولكن مالدول الغربية هذه؟ وهل هي الدول اللاتينية التي شغلها مابينها من خصام وتنافس، هل هي دول البحر المتوسط التي لاتقدر على شيء غير القرصنة واللصوصية؟ ولو أن تلك الدول أرادت نصرة بيزنطة لفعلت وأرسلت إليها الجند والسفن، ولنفرض أن أهل الغرب بعد فتحنا القسطنطينية هبوا الى الحرب وقاتلونا فهل سنقف منهم مكتوفي الأيدي بغير حراك، أو ليس لنا جيش   يدافع عن كرامتنا وشرفنا.  ياصاحب السلطنة، أما وقد سالتني رأيي فلأعلنها كلمة صريحة، يجب أن تكون قلوبنا كالصخر، ويجب ان نواصل الحرب دون أن يظهر علينا اقل ضعف أو خور، لقد بدأنا أمراً فواجب علينا أن نتمه، ويجب أن نزيد هجماتنا قوة وشدة ونفتح ثغرات جديدة وننقض على العدو بشجاعة. لا أعرف شيئاً غير هذا، ولا استطيع ان أقول شيئاً غير هذا .... ) (١).
وبدأت على وجه الفاتح أمارات البشر والانشراح لسماع هذا القول، والتفت الى القائد طرخان يسأله رأيه فأجاب على الفور: ان زوغنوش باشا قد اصاب فيما قال وانا على رأيه ياسلطاني. ثم سأل الشيخ آق شمس الدين والمولى الكوراني عن رأيهما. وكان الفاتح يثق بهما كل الثقة فأجابا أنهما على رأي زوغنوش باشا وقالا: (يجب الاستمرار في الحرب، وبالغاية الصمدانية سيكون لنا النصر والظفر) (٢).
وسرت الحمية والحماس في جميع الحاضرين وابتهج السلطان الفاتح واستبشر بدعاء الشيخين بالنصر والظفر ولم يملك نفسه من القول: من كان من اجدادي في مثل قوتي (٣)؟
لقد أيد العلماء الرأي القائل بمواصلة الجهاد كما فرح السلطان حيث كان يعبر عن رايه ورغبته في مواصلة الهجوم حتى الفتح، وانتهى الاجتماع بتعليمات من السلطان أن الهجوم العام والتعليمات باقتحام المدينة باتت وشيكة وسيأمر بها فور ظهور الفرصة المناسبة وأن على الجنود الاستعداد لذلك (٤).

عاشراً: محمد الفاتح يوجه تعليماته ويتابع جنوده بنفسه:
في يوم الاحد ١٨ جمادى الأولى ٢٧ من مايو وجه السلطان محمد الفاتح الجنود إلى الخشوع وتطهير النفوس والتقرب إلى الله تعالى بالصلاة وعموم الطاعات والتذلل والدعاء بين يديه، لعل الله أن يسر لهم الفتح، وانتشر هذا الأمر بين عامة المسلمين، كما قام الفاتح بنفسه ذلك اليوم بتفقد أسوار المدينة ومعرفة آخر احوالها، وما وصلت إليه واوضاع المدافعين عنها في النقاط المختلفة، وحدد مواقع معينة يتم فيها تركيز القصف العثماني، تفقد فيها أحوالهم وحثهم على الجد والتضحية في قتال الأعداء، كما بعث إلى أل غلطة التي وقفت على الحيادمؤكدا عليهم عدم التدخل فيما سيحدث ضامنا لهم الوفاء بعهده معهم، وانه سيعوضهم عن كل ما يخسرونه من جراء ما يحدث. وفي مساء اليوم نفسه أوقد العثمانيون نارا كثيفة حول معسكرهم وتعالت صيحاتهم وأصواتهم بالتهليل والتكبير (١)، حتى خيل للروم أن النار قد اندلعت في معسكر العثمانيين، فإذا بهم يكتشفون أن العثمانيين يحتفلون بالنصر مقدما، مما أوقع الرعب في قلوب الروم، وفي اليوم التالي ٢٨ مايو كانت الاستعدادات العثمانية على أشدها والمدافع ترمي البيزنط بنيرانها، والسلطان يدور بنفسه على المواقع العسكرية المختلفة متفقدا وموجها ومذكرا بالإخلاص والدعاء والتضحية والجهاد (٢).
وكان الفاتح كلما مر بجمع من جنده خطبهم وأثار فيهم الحمية والحماس، وأبان لهم أنهم بفتح القسطنطينية سينالون الشرف العظيم والمجد الخالد، والثواب الجزيل من الله تعالى وستسد دسائس هذه المدينة التي طالما مالأت عليهم الاعداء والمتآمرين وسيكون لأول جندي ينصب راية الإسلام (٣) على سور القسطنطينية الجزاء الأوفى والإقطاعات الواسعة.
وكان علماء المسلمين وشيوخهم يتجولون بين الجنود ويقرأون على المجاهدين آيات الجهاد والقتال وسورة الأنفال، ويذكرونهم بفضل الشهادة في سبيل الله وبالشهداء السابقين حول القسطنطينية وعلى رأسهم أبو أيوب الأنصاري ويقولون للمجاهدين: لقد نزل سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - عند هجرته إلى المدينة في دار أبي أيوب الأنصاري، وقد قصد أبو أيوب إلى هذه البقعة ونزل هنا، وكان هذا القول يلهب الجند ويبعث في نفوسهم أشد الحماس والحمية (٤).
وبعد أن عاد الفاتح إلى خيمته ودعا إليه كبار رجال جيشه اصدر إليهم التعليمات الأخيرة، ثم ألقى عليهم الخطبة التالية: "إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث من أحاديث رسول الله ومعجزة من معجزاته وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير فأبلغوا أبناءنا العساكر فردا فردا، أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدرا وشرفا، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغراء نصب عينيه فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسوها بأذى، ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون. . .) (٥).  
وفي هذا الوقت كان الامبراطور البيزنطي يجمع الناس في المدينة لإقامة ابتهال عام دعا فيه الرجال والنساء والصبيان للدعاء والتضرع والبكاء في الكنائس على طريقة النصارى لعله أن يستجاب لهم فتنجوا المدينة من هذا الحصار، وقد خطب فيهم الإمبراطور خطبة بليغة كانت آخر خطبة خطبها، حديث أكد عليهم بالدفاع عن المدينة حتى لو مات هو، والاستماتة في حماية النصرانية أمام المسلمين العثمانيين، وكانت خطبة رائعة كما يقول المؤرخون أبكت الجميع من الحاضرين، كما صلى الإمبراطور ومن معه من النصارى الصلاة الأخيرة في كنيسة آياصوفيا أقدس الكنائس عندهم (١) ثم قصد الإمبراطور قصره يزوره الزيارة الأخيرة فودع جميع من فيه واستصفحهم وكان مشهدا مؤثرا وقد كتب مؤرخو النصارى عن هذا المشهد، فقال من حضره، (لو أن شخصا قلبه من خشب أو صخر لفاضت عيناه بالدموع لهذا المنظر) (٢).
وتوجه قسطنطين نحو صورة (يزعمون أنها صورة المسيح) معلقة في أحد الغرف فركع تحتها وهمهم بعض الدعوات ثم نهض ولبس المغفر على رأسه وخرج من القصر عند نحو منتصف الليل مع زميله ورفيقه وأمينه المؤرخ فرانتزتس ثم قاما برحلة تفقدية لقوات النصارى المدافعة ولاحظوا حركة الجيش العثماني النشطه المتوثبة للهجوم البري والبحري. وقبيل ذلك الليل بقليل رذت السماء رذا خفيفا كأنما كانت ترش الأرض رشا فخرج السلطان الفاتح من خيمته ورفع بصره إلى السماء وقال: (لقد أولانا الله رحمته وعنايته فأنزل هذا المطر المبارك في أوانه فإنه سيذهب بالغبار ويسهل لنا الحركة) (٣).
الحادي عشر: "فتح من الله ونصر قريب":
عند الساعة الواحدة صباحا من يوم الثلاثاء ٢٠ جمادى الأولى سنة ٨٥٧هـ الموافق ٢٩ مايو ١٤٣٥م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن أصدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار، وخاف البيزنطيون خوفا عظيما، وشرعوا في دق نواقيس الكنائس والتجأ إليها كثير من النصارى وكان الهجوم النهائي متزامنا بريا وبحريا في وقت واحد حسب خطة دقيقة أعدت بإحكام، وكان المجاهدون يرغبون في الشهادة ولذلك تقدموا بكل شجاعة وتضحية وإقدام نحو الأعداء ونال الكثير من المجاهدين الشهادة، وكان الهجوم موزعا على كثير من المناطق، ولكنه مركز بالدرجة الأولى في منطقة وادي ليكوس،

«لن تروي شيئاً لأن الزمن لا يحدث»

$
0
0

«الذكريات هويّة الغرباء أحياناً، ولكن الزمان يضاجع الذكرى وينجب لاجئين». - محمود درويش 


«يا شقيري بدنا سلاح... هات سلاح وخود رواح». كنت أرى الناس وأنا بينهم. وارتصفوا صفوفاً، جلوساً ووقوفاً، على الدكك الاسمنتية الطويلة لـ«الملعب البلدي» في صيدا. كانت الأكفّ تصفّق بايقاعات قصيرة وقويّة. تصفّق أيدي الشباب الكبار بقوّة، وتصل الكفوف إلى بعضها في الوقت نفسه. تمتد الأيادي المصفّقة أمام الصدور، أحياناً فوق الرأس. تقافزت الأجساد على الأقدام. كانت غالبية ثياب الشباب هي قميص وبنطلون بزنار رفيع. حضرت القمصان البيض كثيراً أيضاً، والتفت مناديل قماش على رقابٍ كثيرة، كي تمتصّ العرق. وبدت وجوه الشباب ضاحكة غالباً، وجادة أحياناً، لكنها فوارة.

يغضب أحدهم، وهو ضخم الجسم، ويرفض أن يذعن للأيدي التي تشدّه من الخصر. حاول شابان دفعه بالكتفين. وضع آخرٌ سبابته على فمه عمودياً، وقال: «له...له...له». وعضّ آخر على سبابة ممدودة في يده المكوّرة، فيما عقد حاجبيه وتقلّص وجهه. شوّح الرجل الضخم الجثة والأسمر الوجه بكلتا يديه. كأنه نفض الجميع عنه. كان زبدٌ متجمع عند فمه الزاعق: «خلّصنا يا زلمة. بدي أحكي بدي أحكي»، وأكمل كأنه يهتف في تظاهرة وحده: «ياشقيري ي ي ي، يا شقيري ي ي ي. ما بدنا حكي. بيكفي خطابات. بدنا نحارب. بدنا نرجّع بلادنا». كان وجهه مليئاً بالعرق، كمعظم الناس. تكرّرت إحاطة الأجساد بالرجل. لم يهدأ. جاء رجلان. سارا ببطء. لم يكن على وجهيهما كثيرٌ من العرق. عندما اقتربا من المجموعة الصغيرة حول الرجل، بدت وكأنها تفرّقت فجأة. نظر الرجل الضخم الذي كان يلبس كنزةً صيفية من النايلون السميك والغامق اللون، إلى الرجلين البطيئين. ارتدى كل منهما قميصاً أبيض، ككثيرٍ من الشباب. كانت نظرته ثابتة عليهما. هما نظرا بثبات إليه أيضاً. وصلا إليه. وقف أحدهما إلى يمناه والآخر إلى يسراه. حرّك الرجل رقبته كل مرّة باتجاه أحد الرجلين: «شو يعني؟»، قالها الرجل بلا صراخ، لكنه لم يشوّح بيده. تلفتت ثلاثة وجوه إلى بعضها. كانت الحشود حولهما في صراخٍ مستمر، والجميع يتحرّكون في الاتجاهات كلها. ومن هذه الأجساد الثلاثة، لم يكن أحد يقترب. كانت الشمس ساطعة فوق «الملعب البلدي» في صيدا. في البقعة التي ضمّت الرجال الثلاثة، كان ضوء الشمس كأنه أكثر قوّة، فاستمر وجه الرجل الأسمر في صبّ العرق على جبينه ووجنتيه. مسح بكفيه وجهه. تلاصق الرجلان بجانبي جسمه. ثم سار الثلاثة مبتعدين.

حدث ذلك في العام 1964. كنت أقرأ التاريخ الذي يكتبه المعلم يوميّاً فوق اللوح الأســــــــود المنقّر بنقط بيض، بعضها صغير والآخر أكبر حـــــــــــــــجماً. كان كل معلم يحرص على كتابة التاريخ فوق اللوح، لأننا كنا ننهض ونمحي اللوح عند نهاية كل درس. ودوماً، يكتب التاريخ في الزاوية العليا اليسرى من اللوح.

في «الملعب البلدي»، لم يكن هناك لوح، لكن الناس تجمّعت لاستقبال أحمد الشقيري في العام 1964.
بعد أيامٍ، قال أبي شيئاً، وحرص على تكراره دوماً. كان دوماً يقوله بالطريقة نفسها، بالضحكة عينها، وبقليل من الشخير من أنفه. لم يكن يتعمّد الشخير، لكن نهاية الكلمات كانت دوماً ثقيلة، ومع الضحكة، كان النفس الثقيل الهازئ والساخر (والمتألم كما سأعرف لاحقاً)، يبدو كأنه شخير، لكنه لم يكن كذلك.

«راحوا لعند الشقيري. كان بفندق «كارلتون» في بيروت. وقعد مع الجميع. كان بيناتن فلان، وهذا بتعرفه لسانه طويل. بعدين، فلان فهيم. كل الناس بتشهدله، وما بيخاف من حدا. قال له: «إسمع يا أستاذ شقيري. أنا بحبك. ما تزعل مني، بس أنا زلمي فتت ع الحبوس، وقضيت عمري بالسياسة، ويمكن إنت سمعت عني. مش هيك أستاذ؟ يعني أنا قضيت عمري بالسياسة. أنا بدي أسألك سؤال، وما بدي جواب سياسي. إنت يا أستاذ محامي كبير وديبلوماسي وبتقعد مع الكبار، ومحامي ولسانك حلو والكل بيحبك. بس أنا ما بدي جواب سياسي ودبلوماسي». يصمت أبي قليلاً عند هذه النقطة، ويقلب نظره في الوجوه، ثم يبدأ وجهه بالانفراج والميل إلى التبسّم. «قال له: «يا شقيري، بتحرّر فلسطين؟ شو ردّ عليه الشقيري؟ اتطلع فيه الشقيري وقال له: «إذا توحّدوا العرب، بترجع فلسطين»». ضحكة قصيرة من أبي. يكمل: «يعني الزلمة مناضل ومعروف، وقال للشقيري أنو ما بدو جواب ديبلوماسي. بس الشقيري ما قدر، ردّلو بجواب دبلوماسي. هوي ما سكتلو. قال له: «عفواً، أستاذ شقيري. أنا قلتلك أنو ما تعطيني جواب ديبلوماسي، بس إنت لسه عم بتجاوبني بالديبلوماسي». ويرتفع الابتسام في وجه أبي ليشمل وجهه كله، وتبدأ ضحكته بمخالطة كلامته. «إطّلع فيه الشقيري. وقال له كمان مرّة: «إذا توحّدوا العرب، بترجع فلسطين». يضحك أبي، ويختلط ضحكه بأنفاسٍ ثقيلة، كأنه يطرد شيئاً من أنفه. «ما عندو إلا هالحكي. شو يعني إذا توحدوا العرب. لسه عم يلف ويدور. شو عمل للناس غير الخطابات. واجتمعوا العرب بالقمة عند عبد الناصر. يعني شو عملوا. لسه عم نسمع خطابات. هلق رح نرجّع فلسطين بالخطابات؟».

حدث ذلك في العام 1964. جاء الناس سيولاً إلى الملعب البلدي في العام 1964. وتحدث أبي مستهزئاً ساخراً في العام 1964. بعد ذلك بزمن، سأعرف أنه كان متألّماً. (حينها، لم أعرف ما سيحدث لاحقاً. حدث أنه كان في الخلايا السريّة الأولى لحركة «فتح»، وساهم في عملياتها العسكرية، وأنه دخل السجن العسكري في «ثكنة الحلو». وعُذّب على يد «المكتب الثاني». إذ حدث ذلك لاحقاً).

في 1964، كان أبي يتحدث عن لقاء وفد شعبي مع الشقيري. حضر الشقيري قمة العرب التي عقدها عبد الناصر في «فندق فلسطين» في الإسكندرية. أعرف أن الناس سعوا كثيراً للقاء الشقيري، حين جاء إلى لبنان في العام 1964.
* * *
- توقّف عن الكلام. أنا قابلتك أخيراً. توقّف. كيف تقول 1964، هكذا؟
- لماذا تريدني أن أتوقف عن الكلام؟
- كيف تتحدث عن الزمن؟ كيف نسيت «عشرين عاماً»؟
- أنا لم أنس. نعم، عشرون عاماً، رغم أنهم لم يكونوا «عشرين عاماً»، وأحياناً رغم أنهم أكثر...

* * *


يتحدّث جدّي باستمرار عن ميدالية الشجاعة التي نالها من الجيش التركي. «أنا الجيش العثملي أعطاني ميضاليا». كان يقولها هكذا. يكون وجهه منفعلاً، أحياناً يقولها في نقاش ساخن مع أبنائه عن ضيق الحال في دكان الخضار التي لا ينجح دوماً في تجارتها. يسعفه دوماً أبي. ذات مرّة، كان أبي في مزاج رائق. كان جالساً قرب الصوفا التي تستقر عليها جدتي عندما ترتاح. يحب أبي أمه بطريقةٍ مذهلة. ذات مرّة، لم تكن هناك. لم يكن جدّي هناك. وكان مزاجه رائقاً. تحدث عن جدّي. قال أنه اشتهر دوماً في عكّا بقوّته البدنية الكبيرة لأن «عصبو كتير قوي»، وهو نحيلٌ وطويل. قال أنه في الحرب العالمية الأولى، أُرسل ليمدّ خطّ الهاتف للجيش من يافا إلى بيروت. سار جدّي حاملاً البكرة الضخمة لخيط التلفون، برفقة جندي كان بإمرته. كلما بلغا مكاناً، اتّصلا بالقيادة. لاقهما الجيش العثماني قبل وصولهما إلى بيروت، وهنّأهما على سرعتهما في الوصول. وأُرسل مجدداً ليشارك في «حملة سيناء». وقع في الأسر. ثم هرب وعاد مشياً إلى فلسطين. التقى بالجيش العثماني مجدداً على الطريق. تعرّفوا إليه. نال ميدالية شجاعة. كان ذلك قبل العام 1964 بكثير. عند ذلك العام، كانت الأحاديث في الأسرة، كلها تجمع على أنه مضى على النكبة والخروج من فلسطين «عشرين سنة». على الراديو غنّت فيروز أيضاً العشرين سنة. ربما لم تكن عشرين سنة منذ 1948، لكن الكل كان يقول «عشرين سنة»، في العام 1964.

* * *


- يا أنت. كيف تحكي عن ذلك بثقة؟ كيف تقول عن الزمان بثقة؟
- جاء الناس إلى «الملعب البلدي» في صيدا، قرب «أوتيل طانيوس»، في 1964. ونال جدي ميدالية شجاعة قبل 1964. 
 - أنت لم تفقه شيئاً. كيف استمر الحديث عن عشرين سنة؟ بعد كثير من كرّ الفصول والأيام، ذهبت فيروز إلى الأردن. جاء من أهداها مزهرية، وقال أنه «فادي» الذي غنّته في عشرين سنة. كيف يوجد أكثر من كذا عشرين سنة في عشرين سنة؟
- لا أدري. الناس تستعمل المجاز، حتى في الزمن. كانوا دوماً يقولون عشرين سنة.
- الزمن؟ ما أدراك أن هناك شيء اسمه الزمن؟
- تأتي الفصول سنة من الزمن بعد سنة. يكبر الناس ويشيخ جدّي، سنة من الزمن بعد سنة...
- توقّف. لم تفقه درس «عشرين سنة». يأتي الناس إلى الشقيري. تحدث الفصول وتتكرّر، مراراً ومراراً. يأخذ جدّي ميدالية. يحدث الليل والنهار تكراراً. كل شيء يحدث، لكن الزمن؟
- مهلاً. كيف يحدث كـــــل شيء، مـــــــن دون الــــــــــــزمن؟
- فكّر. كيف يحدث الزمن، إذا كنت أنا أنت؟ نعم. كنت أنا أنت في الملعب البلدي.

سمعت أبي يسخر من الشقيري، وعلمت أنه كان في حركة «فتح» وحمل أعباءً في العمليات الأولى للـ«عاصفة». سمعت جدّتي وجدّي وأعمامي يتحدثون عن فلسطين. ثم حدث ليلٌ كثير، وكذلك نهار. جاءت الفصول كثيراً، وكذلك الأمطار. جاء الناس إلى «الملعب البلدي» في صيدا، وكتب المعلم على اللوح 1964. حدث ذلك كله. لكن الزمن لم يحدث.

(النص جزء من تأمّل ذاتي ينشر قريباً للكاتب)


أزمة الطاقة فى مصر (١)

$
0
0

قطاع البترول المصرى هو أكثر القطاعات جاذبية للإستثمار و مصدر لا يستهان به لجلب العملة الأجنبية و إيراداته قد تفوق إيرادات السياحة إذا ما تم الإلتفات إليه بجدية مع عمل دراسات مُحايدة كفيصل يمكننا من القضاء على الفساد فى كل مجالات القطاع، من ثم سيكون لنا قدرة غير مسبوقة للنهوض به قبل إنهياره.

إنقطاع التيار الكهربائى المُتعمد هو دليل قاطع على أن مشكلة توفير الوقود اللازم لمحطات توليد الكهرباء قد تفاقت و تحولت إلى أزمة طاقة فى مصر.

طبقاً لبيانات البنك الدولى، مصر هى أكبر دولة مُستهلكة للطاقة فى إفريقيا ونظراً لحالة النمو السكانى المتزايدة فإن النمو فى إستهلاك الطاقة يزيد بنسبة ٧% سنوياً. إنتاج الكهرباء فى مصر يعتمد على ثلاث مصادر للطاقة، أولاً الغاز الطبيعى بنسبة ٦٨% و يليه البترول (المازوت ) بنسبة ٢٠% و أخيراً الطاقة الهيدروليكية (السد العالى) بنسة ١٢%.

الحقيقة هى أن مصر لم تكن قادرة على توفير كميات الغاز الطبيعى و المازوت اللازمة لتشغيل المولدات الكهربائية. هناك عجز فى الوقود اللازم و كلما زاد العجز فى الوقود زادت عدد فترات الانقطاع للتيار الكهربائى المُتعمدة و التى حتماً ستتزايد مع قدوم فصل الصيف.

مصر هى دولة مُنتجة و ُمصدرة و مُستهلكة للغاز الطبيعى. نسبة الإستهلاك المحلى للغاز اللازم لمحطات توليد الكهرباء هى ١٥٧,٧ م م م يومياً (مليون متر مُكعب)، نسبة الإنتاج المُخصصة للإستهلاك المحلى تراجعت إلى ١٥٢,٩ م م م لتسبب عجزاً بنسبة ٤,٨ م م م يومياً و ذلك لعدم قدرة الحكومة على سداد مُستحقات شركات إستخراج الغاز. العجز بنسبة ٤,٨ م م م يومياً فى إمدادات المولدات بالغاز الطبيعى هو السبب الرئيسى الرئيسى لإنقطاع الكهرباء على الشعب، ناهيك عن عدم توفير الكميات اللازمة من المازوت و كذلك المحطات المتوقفة بسبب عدم الصيانة.

أما عن تجربة مصر فى تصدير و إستيراد الغاز فهى عبارة اتفاقيات عمولة وسمسرة وليست عقود بيع أو إستيراد غاز كما هو الحال فى الدول التى تحافظ على مواردها الطبيعية.

الوصية : الي نلسون مانديلا في يوم تنصيبه، شعر مداح ملك الزولو

$
0
0
الوصية : الي نلسون مانديلا في يوم تنصيبه شعر مداح ملك الزولو / ترجمة زين العابدين فؤاد

في حفل تنصيب مانديلا

تذكر أيها القائد

عندما كنت سجيناً

كنت تقتات بكسرة من الخبز

جاعت الملايين

حتى نوفر لك تلك الكسرة

 

تذكر أيها القائد

عندما كنت سجيناً

كنت ترتدي قميصاً ملوناً

تعرّت الملايين

حتى نوفر لك ثوباً

 

تذكر أيها القائد

عندما كنت سجيناً

كنت تتنفس بانتظام

أُخمدت مئات الأنفاس

حتى نضمن لك انتظام النفس

 

تذكر أيها القائد

آلاف الآلاف الذين ضحوا

حتى يصنعوا منك رئيساً

 

 

 

[1] هذه القصيدة مكتوبة بلغة الزولو وقد استمعت إلى نصها الأصلي من الشاعر نفسه في ديربن في شهر مارس 1997، وساعدني عدد من الأصدقاء الشعراء من جنوب أفريقيا والذين يجيدون لغة الزولو واللغة الإنجليزية التي ترجمت عنها تلك القصيدة.

ثقافة الفقراء

$
0
0

ربما لا أبالغ إذا أشرت إلي حركة النشر التي تصدر عن المجلس الأعلي للثقافة الآن باعتبارها الأدق في التعبير عن مهام النشر التي يجب أن تقوم بها المؤسسات التابعة لوزارة الثقافة. صدور "الأعمال الكاملة للمازني"عمل جليل. خاصة أن بعضها لم يطبع منذ عقود، أما موسوعة البلدان المصرية«تسعة مجلدات ضخمة حتي الآن» فتكمل الجهد الفريد الذي بدأه محمد رمزي بك المفتش في وزارة المالية والذي قام بتحديد المواقع والأبنية والشوارع والحارات التي ورد ذكرها في الموسوعة التاريخية لابن تغري بردي «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة»، ثم وضع قاموس البلدان المصرية الذي ظهر في الاربعينيات وكانت الضرورة تقتضي إتمامه بعد حوالي سبعين عاما علي صدوره، لما جري من تغيرات في مصر أضافت قري ومدنا جديدة إلي الخريطة وتغير اسماء بلدان وتحرك حدودها.

كل كتاب من هذه يستحق التحية والعرض المفصل. لكنني أتوقف اليوم أمام كتاب مهم، «إعادة إنتاج التراث الشعبي» للباحث في علم الاجتماع سعيد المصري. يذكرني البحث بكتاب صدر في السبعينيات الماضية عنوانه «ثقافة الفقر» وكان عن الحياة في منطقة الكارنتينا بالإسكندرية، يشرح أساليب المعدمين في مصارعة ظروف الحياة، بالطبع تغيرت الظروف في المجتمع المصري خلال العقود الأخيرة بسبب الانفتاح الساداتي المريع والذي نحصد آثاره الآن، كيف يتحايل الفقراء المعدمون علي مغالبة الظروف حتي يمكن استمرار العيش بالحد الأدني. المؤلف معني بعمليات إعادة إنتاج الثقافة الشعبية في إطار تغير ظروف الحياة وله دراسات عديدة في هذا المجال، من أهمها تلك التي صدرت عن المجلس الأعلي للثقافة بتقديم الدكتور محمد الجوهري استاذ علم الاجتماع. تحاول الدراسة رصد وتحليل قدرة الفقراء علي الإنتاج والتداول الثقافي رغم تدني أحوالهم وندرة امكانياتهم. يضاف إلي ذلك أن بحوث التراث الشعبي ترصد شدة ارتباط الفقراء بالتراث الشعبي فهو بمثابة رأسمالهم الحقيقي، رغم الفقر يعتبر الباحث أن أساليب حياة الفقراء تنطوي علي قدر من الثراء ينبغي الكشف عنه، توقفت أمام الفصل الرائع الذي يصف فيه الحياة في بولاق. ايضا الفصول التي ركزت علي عملية التكيف لدي الفقراء مثل عادات الطعام، التوافق مع الضرورة. الشعور بالرضا، الكتاب يسلط الضوء علي الواقع الراهن، يتضح من الدراسة ان متوسط دخل الفرد بالنسبة للمعدمين اثنان وثلاثون جنيها فقط في الشهر. الشرائح الوسطي اثنان وسبعون جنيها، اما الأعلي قتصل إلي تسعة وسبعين جنيها، يعتمد الفقراء الآن أكثر علي الطعام الجاهز بدلا من المطهي »فول ـ طعمية ـ كشري«، الاعتماد علي الشراء بالأجل. في الحوارات تتعد الأمثال الشعبية والحكايات التي تستخلص منها العبر، وينتشر الاحساس بفقدان الثقة، انها ثقافة الفقراء الآن، في هذه الحقبة تحديدا، هذا ما يكشفه الكتاب بدقة.

الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط-4

$
0
0

الدولة العثمانية - عوامل النهوض وأسباب السقوط تأليف: علي محمد محمد الصلابي

 

بقيادة السلطان محمد الفاتح نفسه، وكانت الكتائب الأولى من العثمانيين تمطر الأسوار والنصارى بوابل من القذائف والسهام محاولين شل حركة المدافعين، ومع استبسال البيزنطيين وشجاعة العثمانيين كان الضحايا من الطرفين يسقطون بأعداد كبيرة (١)،
وبعد أن انهكت الفرقة الاولى الهجومية كان السلطان قد أعد فرقة أخرى فسحب الأولى ووجه الفرقة الثانية، وكان المدافعون قد أصابهم الإعياء، وتمكنت الفرقة الجديدة، من الوصول إلى الأسوار وأقاموا عليها مئات السلالم في محاولة جادة للإقتحام، ولكن النصارى استطاعوا قلب السلالم واستمرت تلك المحاولات المستمية من المهاجمين، والبيزنطيون يبذلون قصارى جهودهم للتصدي لمحاولات التسلق، وبعد ساعتين من تلك المحاولات أصدر الفاتح أوامره للجنود لأخذ قسط من الراحة، بعد أن أرهقوا المدافعين في تلك المنطقة، وفي الوقت نفسه أصدر أمرا إلى قسم ثالث من المهاجمين بالهجوم على الأسوار من نفس المنطقة وفوجئ المدافعون بتلك الموجة الجديدة بعد أن ظنوا ان الأمر قد هدأ وكانوا، قد أرهقوا، في الوقت الذي كان المهاجمون دماء جديدة معدة ومستريحة وفي رغبة شديدة لأخذ نصيبهم من القتال (٢) كما كان القتال يجري على قدم وساق في المنطقة البحرية مما شتت قوات المدافعين وأشغلهم في أكثر من جبهة في وقت واحد، ومع بزوغ نور الصباح أصبح المهاجمون يستطيعون أن يحددوا مواقع العدو بدقة أكثر، وشرعوا في مضاعفة جهودهم في الهجوم وكان المسلمون في حماسة شديدة وحريصين على إنجاح الهجوم، ومع ذلك أصدر السلطان محمد الأوامر إلى جنوده بالإنسحاب لكي يتيحوا الفرصة للمدافع لتقوم بعملها مرة أخرى حيث أمطرت الأسوار والمدافعين عنها بوابل من القذائف، واتعبتهم بعد سهرهم طوال الليل، وبعد أن هدأت المدفعية جاء قسم جديد من شجعان الإنكشارية يقودهم السلطان نفسه تغطيهم نبال وسهام المهاجمين التي لا تنفك عن محاولة منع المدافعين عنها وأظهر جنود الإنكشارية شجاعة فائقة وبسالة نادرة في الهجوم واستطاع ثلاثون منهم تسلق السور أمام دهشة الأعداء، ورغم استشهاد مجموعة منهم بمن فيهم قائدهم فقد تمكنوا من تمهيد الطريق لدخول المدينة عند طوب قابي ورفعوا الأعلام
العثمانية (٣).
مما زاد في حماس بقية الجيش للاقحام كما فتّوا في عضد الأعداء، وفي نفس الوقت أصيب قائد المدافعين جستنيان بجراح بليغة دفعته إلى الانسحاب من ساحة المعركة (٤) مما. .أثر في بقية المدافعين، وقد تولى الإمبراطور قسطنطين قيادة المدافعين بنفسه محل جستنيان الذي ركب أحد السفن فارا من أرض المعركة، وقد بذل الامبراطور جهودا كبيرة في تثبيت المدافعين الذين دب اليأس في قلوبهم من جدوى المقاومة، في الوقت الذي كان فيه الهجوم بقيادة السلطان شخصياً على أشده، محاولاً استغلال ضعف الروح المعنوية لدى المدافعين.
وقد واصل العثمانيون هجومهم في ناحية اخرى من المدينة حتى تمكنوا من اقتحام الأسوار والاستيلاء على بعض الأبراج والقضاء على المدافعين في باب أدرنة ورفعت الاعلام العثمانية عليها، وتدفق الجنود العثمانيون نحو المدينة من تلك المنطقة، ولما رأى قسطنطين الأعلام العثمانية ترفرف على الأبراج الشمالية للمدينة، أيقن بعدم جدوى الدفاع وخلع ملابسه حتى لايعرف، ونزل عن حصانه وقاتل حتى قتل في ساحة المعركة (١).
وكان لانتشار خبر موته دور كبير في زيادة حماس المجاهدين العثمانيين وسقوط عزائم النصارى المدافعين وتمكنت الجيوش العثمانية من دخول المدينة من مناطق مختلفة وفر المدافعون بعد انتهاء قيادتهم، وهكذا تمكن المسلمون من الاستيلاء على المدينة وكان الفاتح رحمه الله مع جنده في تلك اللحظات يشاركهم فرحة النصر، ولذة الفوز بالغلبة على الأعداء من فوق صهوة جواده وكان قواده يهنئونه وهو يقول: (الحمدلله ليرحم الله الشهداء ويمنح المجاهدين الشرف والمجد ولشعبي الفخر والشكر) (٢).
كانت هناك بعض الجيوب الدفاعية داخل المدينة التي تسببت في استشهاد عدد من المجاهدين، وقد هرب أغلب أهل المدينة الى الكنائس ولم يأت ظهيرة ذلك اليوم الثلاثاء ٢٠ جمادي الأولى ٨٥٧هـ الموافق ٢٩ من مايو ١٤٥٣م، إلا والسلطان الفاتح في وسط المدينة يحف به جنده وقواده وهم يرددون: ماشاء الله، فالتفت إليهم وقال: لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية الذي أخبر عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهنأهم بالنصر ونهاهم عن القتل، وأمرهم بالرفق بالناس والإحسان إليهم، ثم ترجل عن فرسه وسجد لله على الأرض شكراً وحمداً وتواضعاً لله تعالى) (٣).
الثاني عشر: معاملة محمد الفاتح للنصارى المغلوبين:
توجه محمد الفاتح الى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفاً عظيماً، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة الى بيوتهم بأمان، فأطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة الى مسجد وأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة، وقد أخذ العمال يعدون لهذا الأمر، فأزالوا الصلبان والتماثيل وطمسوا الصور بطبقة من الجير وعملوا منبراً للخطيب، وقد يجوز تحويل الكنيسة الى المسجد لأن البلد فتحت عنوة والعنوة لها حكمها في الشريعة الاسلامية.
وقد اعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع (١).
لقد حاول المؤرخ الأنجليزي ادوارد شيبردكريسي في كتابة "تاريخ العثمانيين الاتراك أن يشوه صوره الفتح العثماني للقسطنطينية ووصف السلطان محمد الفاتح بصفات قبيحة حقداً منه وبغضاً للفتح الاسلامي المجيد (٢) وسارت الموسوعة الأمريكية المطبوعة في عام ١٩٨٠م في حمأة الحقد الصليبي ضد الاسلام، فزعمت أن السلطان محمد قام باسترقاق غالبية نصارى القسطنطينية، وساقهم الى اسواق الرقيق في مدينة ادرنة حيث تم بيعهم هناك (٣).
إن الحقيقة التاريخية الناصعة تقول أن السلطان محمد الفاتح عامل أهل القسطنطينية معاملة رحيمة وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى والرفق بهم، وافتدى عدداً كبيراً من الأسرى من ماله الخاص وخاصة أمراء اليونان، ورجال الدين، واجتمع مع الاساقفة وهدأ من روعهم، وطمأنهم الى المحافظة على عقائدهم وشرائعهم وبيوت عبادتهم، وأمرهم بتنصيب بطريرك جديد فانتخبوا أجناديوس برطيركا، وتوجه هذا بعد انتخابه في موكب حافل منالاساقفة الى مقر السلطان، فاستقبله السلطان محمد الفاتح بحفاوة بالغة وأكرمه أيما تكريم، وتناول معه الطعام وتحدث معه في موضوعات شتى، دينية وسياسية واجتماعية وخرج البطريرك من لقاء السلطان، وقد تغيرت فكرته تماماً على السلاطين العثمانيين وعن الأتراك، بل والمسلمين عامة، وشعر انه أمام سلطان مثقف صاحب رسالة وعقيدة دينية راسخة وانسانية رفيعة، ورجولة مكتملة، ولم يكن الروم أنفسهم أقل تأثراً ودهشة من بطريقهم، فقد كانوا يتصورون أن القتل العام لابد لاحقهم، فلم تمض أيام قليلة حتى كان الناس يستأنفون حياتهم المدنية العادية في اطمئنان وسلام (١).
كان العثمانيون حريصون على الالتزام بقواعد الاسلام، ولذلك كان العدل بين الناس من أهم الأمور التي حرصوا عليها، وكانت معاملتهم للنصارى خالية من أي شكل من أشكال التعصب والظلم، ولم يخطر ببال العثمانيين أن يضطهدوا النصارى بسبب دينهم (٢).
إن ملل النصارى تحت الحكم العثماني تحصلت على كافة حقوقها الدينية، وأصبح لكل ملة رئيس ديني لا يخاطب غير حكومة السلطان ذاتها مباشرة، ولكل ملة من هذه الملل مدارسها الخاصة وأماكن للعبادة والأديرة، كما أنه كان لايتدخل أحد في ماليتها وكانت تطلق لهم الحرية في تكلم اللغة التي يريدونها (٣).
إن السلطان محمد الفاتح لم يظهر ما أظهره من التسامح مع نصارى القسطنطينية إلا بدافع إلتزامه الصادق بالإسلام العظيم، وتأسياً بالنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، ثم بخلفائه الراشدين من بعده، الذين أمتلأت صحائف تاريخهم بمواقف التسامح الكريم مع أعدائهم (٤). 
 
المبحث الثاني
الفاتح المعنوي للقسطنطينية
الشيخ آق شمس الدين


هو محمد بن حمزة الدمشقي الرومي ارتحل مع والده الى الروم، وطلب فنون العلوم وتبحر فيها وأصبح علم من أعلام الحضارة الاسلامية في عهدها العثماني.
وهو معلم الفاتح ومربيه يتصل نسبه بالخليفة الراشد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، كان مولوده في دمشق عم ٧٩٢هـ (١٣٨٩م) حفظ القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره، ودرس في أماسيا ثم في حلب ثم في انقرة وتوفي عام ١٤٥٩هـ.
درّس الشيخ آق شمس الدين الأمير محمد الفاتح العلوم الاساسية في ذلك الزمن وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والعلوم الاسلامية واللغات (العربية، والفارسية والتركية) وكذلك في مجال العلوم العلمية من الرياضيات والفلك والتاريخ والحرب وكان الشيخ آق ضمن العلماء الذين أشرفوا على السلطان محمد عندما تولى إمارة مغنيسا ليتدرب على ادارة الولاية، وأصول الحكم.
واستطاع الشيخ آق شمس الدين أن يقنع الأمير الصغير بأنه المقصود بالحديث النبوي: (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) (١).
وعندما أصبح الأمير محمد سلطاناً على الدولة العثمانية، وكان شاباً صغير السن وجّهه شيخه فوراً الى التحرك بجيوشه لتحقيق الحديث النبوي فحاصر العثمانيون القسطنطينية براً وبحراً. ودارت الحرب العنيفة ٥٤ يوماً.
وعندما حقق البيزنطيون انتصاراً مؤقتاً وابتهج الشعب البيزنطي بدخول أربع سفن ارسلها البابا إليهم وارتفعت روحهم المعنوية اجتمع الأمراء والوزراء العثمانيون وقابلوا السلطان محمد الفاتح وقالوا له: (إنك دفعت بهذا القدر الكبير من العساكر الى هذا الحصار جرياً وراء كلام أحد المشايخ -يقصدون آق شمس الدين- فهلكت الجنود وفسد كثير من العتاد ثم زاد الأمر على هذا بأن عون من بلاد الأفرنج للكافرين داخل القلعة، ولم يعد. ..هناك أمل في هذا الفتح ... ) (١). فأرسل السلطان محمد وزيره ولي الدين أحمد باشا الى الشيخ آق شمس الدين في خيمته يسأله الحل فأجاب الشيخ: (لابد من أن يمنّ الله بالفتح) (٢).
ولم يقتنع السلطان بهذا الجواب، فأرسل وزيره مرة أخرى ليطلب من الشيخ أن يوضح له أكثر، فكتب هذه الرسالة الى تلميذه محمد الفاتح يقول فيها: (هو المعزّ الناصر ... إن حادث تلك السفن قد أحدث في القلوب التكسير والملامة وأحدث في الكفار الفرح والشماتة. إن القضية الثابتة هي: إن العبد يدبر والله يقدر والحكم لله... ولقد لجأنا الى الله وتلونا القرآن الكريم وماهي إلا سنة من النوم بعد إلا وقد حدثت ألطاف الله تعالى فظهرت من البشارات مالم يحدث مثلها من قبل) (٣).
أحدث هذا الخطاب راحة وطمأنينة في الأمراء والجنود. وعلى الفور قرر مجلس الحرب العثماني الاستمرار في الحرب لفتح القسطنطينية، ثم توجه السلطان محمد الى خيمة الشيخ شمس الدين فقبل يده، وقال: علمني ياسيدي دعاءً أدعو الله به ليوفقني، فعلمه الشيخ دعاءً، وخرج السلطان من خيمة شيخه ليأمر بالهجوم العام (٤).
اراد السلطان أن يكون شيخه بجانبه أثناء الهجوم فأرسل إليه يستدعيه لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليه أحد الخيمة ومنع حراس الخيمة رسول السلطان من الدخول وغضب محمد الفاتح وذهب بنفسه الى خيمة الشيخ ليستدعيه، فمنع الحراس السلطان من دخول الخيمة بناءً على أمر الشيخ، فأخذ الفاتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر الى الداخل فإذا شيخه ساجداً لله في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه الأبيض يتدلى على الأرض، ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنور، ثم رأى السلطان شيخه يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه، فقد كان يناجي ربه ويدعوه بأنزال النصر ويسأله الفتح القريب (٥).
وعاد السلطان محمد (الفاتح) عقب ذلك الى مقر قيادته ونظر الى الأسوار المحاصرة فإذا بالجنود العثمانيين وقد أحدثوا ثغرات بالسور تدفق منها الجنود الى القسطنطينية (٦).
ففرح السلطان بذلك وقال ليس فرحي لفتح المدينة إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل   في زمني (١).
وقد ذكر الشوكاني في البدر الطالع أن الشيخ شمس الدين ظهرت بركته وظهر فضله وأنه حدد للسلطان الفاتح اليوم الذي تفتح فيه القسطنطينية على يديه (٢).
وعندما تدفقت الجيوش العثمانية الى المدينة بقوة وحماس، تقدم الشيخ الى السلطان الفاتح ليذكره بشريعة الله في الحرب وبحقوق الأمم المفتوحة كما هي في الشريعة الاسلامية (٣).
وبعد أن أكرم السلطان محمد الفاتح جنود الفتح بالهدايا والعطايا وعمل لهم مأدبة حافلة استمرت ثلاثة أيام اقيمت خلالها الزينات والمهرجانات، وكان السلطان يقوم بخدمة جنوده بنفسه متمثلاً بالقول السائد (سيد القوم خادمهم). ثم نهض ذلك الشيخ العالم الورع آق شمس الدين وخطبهم، فقال: ياجنود الاسلام. اعلموا واذكروا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في شأنكم: (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) (٤). ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويغفر لنا. ألا لاتسرفوا في ما أصبتم من أموال الغنيمة ولاتبذروا وأنفقوها في البر والخير لأهل هذه المدينة، واسمعوا لسلطانكم وأطيعوه وأحبوه. ثم التفت الى الفاتح وقال له: ياسلطاني، لقد أصبحت قرة عين آل عثمان فكن على الدوام مجاهداً في سبيل الله. ثم صاح مكبراً بالله في صوت جهوري جليد (٥).
وقد اهتدى الشيخ آق شمس الدين بعد فتح القسطنطينية الى قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري بموضع قريب من سور القسطنطينية (٦).
وكان الشيخ آق شمس الدين أول من ألقي خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا (٧).
الشيخ شمس الدين يخشى على السلطان من الغرور:
كان السلطان محمد الفاتح يحب شيخه شمس الدين حباً عظيماً، وكانت له مكانة كبيرة في نفسه وقد بين السلطان لمن حوله -بعد الفتح-: (إنكم ترونني فرحاً. فرحي ليس.  .فقط لفتح هذه القلعة إن فرحي يتمثل في وجود شيخ عزيز الجانب، في عهدي، هو مؤدبي الشيخ آق شمس الدين.
وعبر الشيخ عن تهيبه لشيخه في حديث له مع وزيره محمود باشا. قال السلطان الفاتح: (إن احترامي للشيخ آق شمس الدين، احترام غير اختياري. إنني أشعر وأنا بجانبه بالانفعال والرهبة) (١).
ذكر صاحب البدر الطالع أن: ( ... ثم بعد يوم جاء السلطان الى خيمة صاحب الترجمة - أي آق شمس الدين) - وهو مضطجع فلم يقم له فقبل السلطان يده وقال له جئتك لحاجة قال: وماهي؟ قال: ان ادخل الخلوة عندك فأبى فأبرم عليه السلطان مراراً وهو يقول: لا. فغضب السلطان وقال أنه يأتي إليك واحد من الاتراك فتدخله الخلوة بكلمة واحدة وأنا تأبى عليّ فقال الشيخ: إنك اذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها فيمقت الله علينا ذلك والغرض من الخلوة تحصيل العدالة فعليك أن تفعل كذا وكذا وذكر له شيئاً من النصائح ثم ارسل إليه ألف دينار فلم يقبل ولما خرج السلطان محمد خان قال لبعض من معه: ماقام الشيخ لي. فقال له: لعله شاهد فيك من الزهو بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسر مثله للسلاطين العظام فاراد بذلك أن يدفع عنك بعض الزهو .... ) (٢).
هكذا كان هذا العالم الجليل الذي حرص على تربية محمد الفاتح على معاني الإيمان والاسلام والإحسان ولم يكن هذا الشيخ متبحراً في علوم الدين والتزكية فقط بل كان عالماً في النبات والطب والصيدلة، وكان مشهوراً في عصره بالعلوم الدنيوية وبحوثه في علم النبات ومدى مناسبتها للعلاج من الأمراض. وبلغت شهرته في ذلك أن أصبح مثلاً بين الناس يقول: (إن النبات ليحدث آق شمس الدين) (٣).
وقال الشوكاني عنه: ( ... وصار مع كونه طبيباً للقلوب طبيباً للأبدان فإنه اشتهر أن الشجرة كانت تناديه وتقول: أنا شفاء من المرض الفلاني ثم اشتهرت بركته وظهر فضله ... ) (٤). 
وكان الشيخ يهتم بالأمراض البدنية قدر عنايته بالأمراض النفسية.
واهتم الشيخ آق شمس الدين اهتماماً خاصاً بالامراض المعدية، فقد كانت هذه الامراض في عصره تسبب في موت الآلاف، وألف في ذلك كتاباً بالتركية بعنوان "مادة الحياة"قال فيه: (من الخطأ تصور أن الأمراض تظهر على الاشخاص تلقائيا، فالأمراض تنتقل من شخص الى آخر بطريق العدوى. هذه العدوى صغيرة ودقيقة الى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة. لكن هذا يحدث بواسطة بذور حيّة) (١).
وبذلك وضع الشيخ آق شمس الدين تعريف الميكروب في القرن الخامس عشر الميلادي. وهو أول من فعل ذلك، ولم يكن الميكروسكوب قد خرج بعد. وبعد أربعة قرون من حياة الشيخ آق شمس الدين جاء الكيميائي والبيولوجي الفرنسي لويس باستير ليقوم بأبحاثه وليصل الى نفس النتيجة.
وأهتم الشيخ آق شمس الدين أيضاً بالسرطان وكتب عنه وفي الطب ألف الشيخ كتابين هما: (مادة الحياة)، و (كتاب الطب)، وهما باللغة التركية والعثمانية. وللشيخ باللغة العربية سبع كتب، هي: حل المشكلات، الرسالة النورية، مقالات الأولياء، رسالة في ذكر الله، تلخيص المتائن، دفع المتائن، رسالة في شرح حاجي بايرام ولي (٢).
وفاته:
عاد الشيخ الى موطنه كونيوك بعد أن أحسس بالحاجة الى ذلك رغم إصرار السلطان على بقائه في استنبول ومات عام ٨٦٣هـ/١٤٥٩م فعليه من الله الرحمة والمغفرة والرضوان (٣).
وهكذا سنة الله في خلقه لايخرج قائد رباني، وفاتح مغوار إلا كان حوله مجموعة من العلماء الربانيين يساهمون في تعليمه وتربيته وترشيده والأمثلة في ذلك كثيرة وقد ذكرنا دور عبد الله بن ياسين مع يحيى بن ابراهيم في دولة المرابطين، والقاضي الفاضل مع صلاح الدين في الدولة الأيوبية، وهذا آق شمس الدين مع محمد الفاتح في الدولة العثمانية فرحمة الله على الجميع وتقبل الله جهودهم وأعمالهم وأعلى ذكرهم في المصلحين.  
المبحث الثالث
أثر فتح القسطنطينية على العالم الأوروبي والإسلامي


كانت القسطنطينية قبل فتحها عقبة كبيرة في وجه انتشار الاسلام في اوروبا ولذلك فإن سقوطها يعني فتح الاسلام لدخول أوروبا بقوة وسلام لمعتنقيه أكثر من ذي قبل، ويعتبر فتح القسطنطينية من أهم أحداث التاريخ العالمي، وخصوصاً تاريخ أوروبا وعلاقتها بالإسلام حتى عده المؤرخون الأوروبيون ومن تابعهم نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة (١).
وقد قام السلطان بعد ذلك على ترتيب مختلف الأمور في المدينة، وإعادة تحصينها، واتخذها عاصمة للدولة العثمانية وأطلق عليها لقب اسلام بول أي مدينة الاسلام (٢).
لقد تأثر الغرب النصراني بنبأ هذا الفتح، وانتاب النصارى شعور بالفزع والالم والخزي، وتجسم لهم خطر جيوش الاسلام القادمة من استنبول، وبذل الشعراء والادباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد وبراكين الغضب في نفوس النصارى ضد المسلمين، وعقد الامراء والملوك اجتماعات طويلة ومستمرة وتنادى النصارى الى نبذ الخلافات والحزازات وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثراً بنبأ سقوط القسطنطينية، وعمل جهده وصرف وقته في توحيد الدول الايطالية وتشجيعها على قتال المسلمين، وترأس مؤتمراً عقد في روما أعلنت فيه الدول المشتركة عن عزمها على التعاون فيما بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك. وأوشك هذا الحلف أن يتم إلا أن الموت عاجل البابا بسبب الصدمة العنيفة الناشئة عن سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين والتي تسببت في همه وحزنه فمات كمداً في ٢٥ مارس سنة ١٤٥٥م (٣).
وتحمس الأمير فيليب الطيب دوق بورجونديا والتهب حماساً وحمية واستنفر ملوك النصارى الى قتال المسلمين وحذ حذوه البارونات والفرسان والمتحمسون والمتعصبون. للنصرانية، وتحولت فكرة قتال المسلمين الى عقيدة مقدسة تدفعهم لغزو بلادهم، وتزعمت البابوية في روما حروب النصارى ضد المسلمين وكان السلطان محمد الفاتح بالمرصاد لكل تحركات النصارى، وخطط ونفذ مارآه مناسباً لتقوية دولته وتدمير أعدائه، واضطر النصارى الذين كانوا يجاورون السلطان محمد أو يتاخمون حدوده ففي آماسيا، وبلاد المورة، طرابيزون وغيرهم أن يكتموا شعورهم الحقيقي، فتظاهروا بالفرح وبعثوا وفودهم الى السلطان في أدرنة لتهنئته على انتصاره العظيم (١).
وحاول البابا بيوس الثاني بكل ما أوتي من مقدرة خطابية، وحنكة سياسية، تأجيج الحقد الصليبي في نفوس النصارى شعوباً وملوكاً، قادة وجنوداً واستعدت بعض الدول لتحقيق فكرة البابا الهادفة للقضاء على العثمانيين ولما حان وقت النفير اعتذرت دول أوروبا بسبب متاعبها الداخلية، فلقد انهكت حرب المائة عام انكلتر وفرنسا، كما أن بريطانيا كانت منهمكة في مشاغلها الدستورية وحروبها الأهلية، وأما أسبانيا فهي مشغولة بالقضاء على مسلمي الأندلس وأما الجمهوريات الايطالية فكانت تهتم بتوطيد علاقاتها بالدولة العثمانية مكرهة وحباً في المال، فكانت تهتم بعلاقتها مع الدولة العثمانية.
وانتهى مشروع الحملة الصليبية بموت زعيمها البابا واصبحت المجر والبندقية تواجه الدولة العثمانية لوحدهما؛ أما البندقية فعقدت معاهدة صداقة وحسن جوار مع العثمانيين رعاية لمصالحها وأما المجر فقد انهزمت أمام الجيوش العثمانية واستطاع العثمانيون أن يضموا الى دولتهم بلاد الصرب، واليونان والافلاق والقرم والجزر الرئيسية في الأرخبيل. وقد تم ذلك في فترة قصيرة، حيث داهمهم السلطان الفاتح، وشتت شملهم، واخذهم أخذاً عظيماً (٢).
وحاول البابا (بيوس الثاني) بكل ما أوتي من مهارة وقدرة سياسية تركيز جهوده في ناحيتين اثنتين: حاول أولاً أن يقنع الاتراك باعتناق الدين النصراني، ولم يقم بارسال بعثات تبشيرية لذلك الغرض وانما اقتصر على ارسال خطاب الى السلطان محمد الفاتح يطلب منه أن يعضد النصرانية، كما عضدها قبله قسطنطين وكلوفيس ووعده بأنه سيكفر عنه خطاياه ان هو اعتنق النصرانية مخلصاً، ووعده بمنحه بركته واحتضانه ومنحه صكاً بدخول الجنة. ولما فشل البابا في خطته هذه لجأ الى الخطة الثانية خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة،.  وكانت نتائج هذه الخطة الثانية قد بدأ فشلها مسبقاً بهزيمة الجيوش الصليبية والقضاء على الحملة التي قادها هونياد المجري (١).
وأما آثار هذا الفتح المبين في المشرق الاسلامي - فنقول لقد عم الفرح والابتهاج المسلمين في ربوع آسيا وأفريقيا فقد كان هذا الفتح حلم الأجداد وأمل الاجيال، ولقد تطلعت له طويلاً وهاقد تحقق وارسل السلطان محمد الفاتح رسائل الى حكام الديار الاسلامية في مصر والحجاز وبلاد فارس والهند وغيرها؛ يخبرهم بهذا النصر الاسلامي العظيم- وأذيعت أنباء الانتصار من فوق المنابر، وأقيمت صلوات الشكر، وزينت المنازل والحوانيت وعلقت على الجدران والحوائط والاعلام والأقمشة المزركشة بألوانها المختلفة (٢).
يقول ابن إياس صاحب كتاب (بدائع الزهور) في هذه الواقعة: (فلما بلغ ذلك، ووصل وفد الفاتح، دقت البشائر بالقلعة، ونودي في القاهرة بالزينة، ثم أن السلطان عين برسباي أمير آخور ثاني رسولاً الى ابن عثمان يهنئه بهذا الفتح) (٣).
وندع المؤرخ أبا المحاسن بن تغري بردي يصف شعور الناس وحالهم في القاهرة عندما وصل إليها وفد الفاتح ومعهم الهدايا واسيران من عظماء الروم، قال: (قلت ولله الحمد والمنة على هذا الفتح العظيم وجاء القاصد المذكور ومعه اسيران من عظماء اسطنبول وطلع بهما الى السلطان (سلطان مصر إينال) وهما من أهل القسطنطينية وهي الكنيسة العظيمة باسطنبول فسر السلطان والناس قاطبة بهذا الفتح العظيم ودقت البشائر لذلك وزينت القاهرة بسبب ذلك أياماً ثم طلع القاصد المذكور وبين يديه الأسيران الى القلعة في يوم الاثنين خامس وعشرين شوال بعد أن اجتار القاصد المذكور ورفقته بشوارع القاهرة. وقد احتفلت الناس بزينة الحوانيت والأماكن وأمعنوا في ذلك الى الغاية وعمل السلطان الخدمة بالحوش السلطاني من قلعة الجبل .. ) (٤).
وهذا الذي ذكره ابن تغري بردي من وصف احتفال الناس وأفراحهم في القاهرة بفتح القسطنطينية ماهو إلا صورة لنظائر لها قامت في البلاد الاسلامية الاخرى. وقد بعث السلطان محمد الفاتح برسائل الفتح الى سلطان مصر وشاه ايران وشريف مكة وأمير القرمان، كما بعث بمثل هذه الرسائل الى الأمراء المسيحيين المجاورين له في المورة والأفلاق والمجر.  والبوسنة وصربيا وألبانيا والى جميع أطراف مملكته (١).
من رسالة الفاتح الى سلطان مصر:
واليك مقتطفات من رسالة الفاتح الى أخيه سلطان مصر الأشرف اينال وهي من إنشاء الشيخ أحمد الكوراني: ( .. إن من أحسن سنن أسلافنا رحمهم الله تعالى أنهم مجاهدون في سبيل الله ولايخافون لومة لائم ونحن على تلك السنة قائمون وعلى تيك الأمنية دائمون ممتثلين بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لايؤمنون بالله}، ومستمسكين بقوله عليه السلام: (من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) فهممنا في هذا العام عممه الله بالبركة والإنعام معتصمين بحبل الله ذي الجلال والاكرام ومتمسكين بفضل الملك العلام الى أداء فرض الغزاء في الاسلام مؤتمرين بأمره تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ... } وجهزنا عساكر الغزاة والمجاهدين من البر والبحر لفتح مدينة ملئت فجوراً وكفراً التي بقيت وسط الممالك الاسلامية تباهي بكفرها فخراً.
فكأنها حصف على الخد الأغر ... وكأنها كلف على وجه القمر
...... هذه المدينة الواقع جانب منها في البحر وجانب منها في البر، فأعددنا لها كما أمرنا الله بقوله: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة .. } كل أهبة يعتد بها وجميع أسلحة يعتمد عليها من البرق والرعد والمنجنيق والنقب والحجور وغيرها من جانب البر والفلك المشحون والجوار المنشآت في البحر كالأعلام من جانب البحر ونزلنا عليها في السادس والعشرين من ربيع الأول من شهور سنة سبع وخمسين وثمانمائة
فقلت للنفس جدي الآن فاجتهدي
وساعديني فهذا ما تمنيت
فكلما دعوا إلى الحق أصروا واستكبروا وكانوا من الكافرين فأحطنا بها محاصرة وحاربناهم وحاربونا وقاتلناهم وقاتلونا وجرى بيننا وبينهم القتال أربعة وخمسين يوماً وليلة


إذا جاء نصر الله والفتح هين
على المرء معسور الأمور وصعبها
.. ..فمتى طلع الصبح الصادق من يوم الثلاثاء يوم العشرين من جمادي الأولى هجمنا مثل النجوم رجوماً لجنود الشياطين سخرها الحكم الصديقي ببركة العدل الفاروقي بالضرب الحيدري لآل عثمان قد من الله بالفتح قبل أن ظهرت الشمس من مشرقها {سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}، وأول من قتل وقطع رأسه تكفورهم اللعين الكنود فأهلكوا كقوم عاد وثمود فحفظهم ملائكة العذاب فأوردهم النار وبئس المآب فقتل من قتل وأسر من به بقى وأغاروا على خزاينهم وأخرجوا كنوزهم ودفافينهم موفوراً فأتى عليهم حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين فيومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، فلما ظهرنا على هؤلاء الأرجاس الأنجاس الحلوس طهرنا القوس من القسوس وأخرجنا منه الصليب والناقوس وصيرنا معابد عبدة الأصنام مساجد أهل الإسلام وتشرفت تلك الخطة بشرف السكة والخطبة فوقع أمر الله وبطل ما كانوا يعملون ...... (١).
وأرسل السلطان الفاتح رسالة إلى شريف مكة عن طريق سلطان مصر وقد رد سلطان مصر على خطاب السلطان محمد وهداياه بمقطوعة من النثر الأدبي الرفيع وجاءت فيها بعض الأبيات الشعرية المعبرة مثل قول الشاعر:
خطبتها بكراً وما أمهرتها ... إلا قنا وقواضباً وفوارسا
من كانت السمر العوالي مهره ... جلبت له بيض الحصون عرايسا
الله أكبر ما جنيت ثمارها ... إلا وكان أبوك قبلك غراسا (٢)
وقد جاء في رسالة سلطان مصر أيضاً هذا البيت: قال الشاعر:
الله أكبر هذا النصر والظفر ... هذا هو الفتح لا ما يزعم البشر (٣)
وقال شاعر سلطان مصر بمناسبة فتح القسطنطينية:
كذا فليكن في الله جل العزايم ... وإلا فلا تجفو الجفون الصوارم
كتائبك البحر الخضم جيادها ... إذا ما تهدت موجه المتلاطم
تحيط بمنصور اللواء مظفر ... له النصر والتأييد عبد وخادم
فيا ناصر الإسلام يا من بغزوه ... على الكفر أيام الزمان مواسم
تهنَّ بفتح سار في الأرض ذكره ... سرى الغيث يحدوه الصبا والنعايم (١)
رسالة السلطان محمد الفاتح إلى شريف مكة:
وجه السلطان محمد الفاتح رسالة إلى شريف مكة المكرمة بمناسبة فتح القسطنطينية بشره فيها بالفتح، وطلب الدعاء، وأرسل له الهدايا من الغنائم، وهذه بعض فقراتها:
بعد مقدمة في المدح والثناء على شريف "مكة المكرمة "يقول: "فقد أرسلنا هذا الكتاب مبشراً بما رزق الله لنا في هذه السنة من الفتوح التي لا عين رأت ولا أذن سمعت، وهي تسخير البلدة المشهورة بالقسطنطينية، فالمأمول من مقر عزكم الشريفة أن يبشر بقدوم هذه المسرة العظمى والموهبة الكبرى، مع سكان الحرمين الشريفين، والعلماء والسادات المهتدين، والزهاد والعباد الصالحين، والمشايخ، والأمجاد الواصلين، والأئمة الخيار المتقين، والصغار والكبار أجمعين، والمتمسكين بأذيال سرادقات بيت الله الحرام، التي كالعروة الوثقى لا انفصام لها والمشرفين بزمزم والمقام، والمعتكفين في قرب جوار رسول الله عليه التحية والسلام داعين لدوام دولتنا في العرفات، متضرعين من الله نصرتنا، أفاض علينا بركاتهم ورفع درجاتهم، وبعثنا مع المشار اليه هدية لكم خاصة ألفي فلوري من الذهب الخالص التام الوزن والعيار المأخوذ من تلك الغنيمة، وسبعة آلاف فلوري أخرى للفقراء، منها ألفان للسادات والنقباء، وألف للخدام المخصوصين للحرمين، والباقي للمساكين المحتاجين في مكة والمدينة المنورة، زادهما الله شرفاً، فالمرجو منكم التقسيم بينهم بمقتضى احتياجهم وفقرهم، وإشعار كيفية السير إلينا، وتحصيل الدعاء منهم لنا، دائماً باللطف والإحسان إن شاء الله تعالى، والله يحفظكم ويبقيكم بالسعادة الأبدية والسيادة السرمدية إلى يوم الدين (٢)
وقد رد شريف مكة على رسالة السلطان محمد الفاتح:
(وفتحناها بكمال الأدب، وقرأناها مقابل الكعبة المعظمة بين أهل الحجاز وأبناء العرب فرأينا فيها من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، وشاهدنا من فحاويها ظهور معجزة.   ..رسول الله خاتم النبيين وماهي إلا فتح "القسطنطينية "العظمى وتوابعها التي متانة حصنها مشهورة بين الأنام، وحصانة سورها معروفة عند الخواص والعوام وحمدنا الله بتيسير ذلك الأمر العسير وتحصيل ذلك المهم الخطير، وبششنا ذلك غاية البشاشة، وابتهجنا من إحياء مراسم آبائكم العظام والسلوك مسالك أجدادكم الكرام، روّح الله أرواحهم، وجعل أعلى غرف الجنان مكانهم، في إظهار المحبة لسكان الأراضي المقدسة (١)
المبحث الرابع
أسباب فتح القسطنطينية


إن فتح المسلمين للقسطنطينية لم يأتي من فراغ وإنما هو نتيجة لجهود تراكمية قام بها المسلمون منذ العصور الأولى للإسلام رغبة من تلك الأجيال في تحقيق بشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزاد الاهتمام بفتح القسطنطينية مع ظهور دولة بني عثمان ونلاحظ أن سلاطين الدولة العثمانية كانوا أصحاب فقه عميق لسنة الأخذ بالأسباب ومارس محمد الفاتح ذلك الفقه ويظهر ذلك من خلال سيرته الجهادية وحرصه على العمل بقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ... } (سورة الأنفال، آية: ٦٠).
لقد فهم محمد الفاتح من هذه الآية أن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولقد قام بشرح هذه الآية شرحاً عملياً في جهاده الميمون فقام بحشد جيش عظيم لحصار القسطنطينية ولم يتوانا في جلب كل سلاح معروف في زمانه من مدافع، وفرسان، ورماة .. الخ
ولقد كان الجيش الذي حاصر القسطنطينية بقيادة محمد الفاتح قد أعد إعداداً ربانياً فتربى على معاني الإيمان والتقوى، وتحمل الأمانة وأداء الرسالة المنوطة به ولقد تربى على معاني العقيدة الصحيحة وأشرف العلماء الربانيون على تلك التربية ولقد جعلوا من كتاب الله تعالى وسنة نبيه منهجاً لهم في تربية الأفراد، فكانوا يربونهم على:
١ - إن الله تعالى واحد لاشريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأنه منزه عن النقائص، وموصوف بالكمالات التي لاتتناهى.
٢ - وأنه سبحانه خالق كل شيء، ومالكه، ومدبر أمره {ألا له الخلق والأمر} (سورة الأعراف: ٥٤).
٣ - وأنه سبحانه وتعالى مصدر كل نعمة في هذا الوجود، دقت أو عظمت، ظهرت أو خفيت {وما بكم من نعمة فمن الله} (سورة النحل: ٥٣).  
٤ - وأن علمه محيط بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء، ومالا يخفى الإنسان ومالا يعلن: {وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} (سورة الطلاق: ١٢).
٥ - وأنه سبحانه يقيد على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتاب لايترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب {مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (سورة ق: ٨).
٦ - وأنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف مايحبون، وما يهوون، ليعرف الناس معادنهم، من منهم يرضى بقضاء الله وقدره، ويسلم له ظاهراً وباطناً، فيكون جديراً بالخلافة والإمامة والسيادة، ومن منهم يغضب ويسخط فلا يساوي شيئاً ولايسند إليه شيء: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} (سورة الملك: ٢).
٧ - وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه، ولاذ بحماه ونزل على حكمه في كل ما يأتي وما يذر: {إن وليِّ الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين} (سورة الأعراف: ١٩٦).
٨ - وأنه سبحانه وتعالى حقه على العباد أن يعبدوه، ويوحدوه، فلا يشركوا به شيئاً: {بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} (سورة الزمر: ١٦).
٩ - وأنه سبحانه - حدد مضمون هذه العبودية، وهذا التوحيد في القرآن العظيم.
ولقد نهج علماء الدولة العثمانية منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تربية الأفراد والجنود على حقيقة المصير وسبيل النجاة وركزوا في البيان على الجوانب التالية:
١ - إن هذه الحياة مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض، مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} (سورة يونس: ٢٤). {قل متاع الدنيا قليل} (النساء: ٧٧).
٢ - وأن كل الخلق إلى الله راجعون، وعن أعمالهم مسؤولون ومحاسبون وفي الجنة أو في النار مستقرون: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} (القيامة:٣٦).
٣ - وأن نعيم الجنة ينسي كل تعب ومرارة في الدنيا، وكذلك عذاب النار ينسي كل راحة وحلاوة في هذه الدنيا: {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} (سورة الشعراء:
٢٠٥ - ٢٠٧).
٤ - وأن الناس مع زوال الدنيا، واستقرارهم في الجنة، أو في النار، سيمرون بسلسلة طويلة من الأهوال والشدائد: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد .. } (سورة الحج: ١ - ٢). وقال تعالى: {فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً، السماء منفطر به كان وعده مفعولا} (سورة المزمل: ١٧ - ١٨).
٥ - وسبيل النجاة من شر هذه الأهوال، ومن تلك الشدائد، والظفر بالجنة والبعد عن النار (١)، بالإيمان بالله تعالى وعمل الصالحات ابتغاء مرضاته: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير} (سورة البروج: ١١).
ومضى العلماء الربانيون في الدولة العثمانية على منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تبصير الأفراد والجنود والقادة والشعب بدورهم ورسالتهم في الأرض، ومنزلتهم ومكانتهم عند الله وظلوا على هذه الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم، مالهم عند الله، ومادورهم ورسالتهم في الأرض، وتأثراً بهذه التربية الحميدة تولدت الحماسة والعزيمة في نفوس الأفراد والجنود والقادة فهذا محمد الفاتح نفسه الذي تربى على هذا المنهج يفتخر بهذه المعاني والقيم في أشعاره فنجده يقول:
وحماسي: بذل الجهد لخدمة ديني، دين الله
عزمي: أن أقهر أهل الكفر جميعاً بجنودي: جند الله
وتفكيري: منصب على الفتح، على النصر على الفوز، بلطف الله
جهادي: بالنفس وبالمال، فماذا في الدنيا بعد الامتثال لأمر الله
وأشواقي: الغزو الغزو مئات الآلاف من المرات لوجه الله

.رجائي: في نصر الله. وسمو الدولة على أعداء الله (١).

وعندما أراد السلطان محمد فتح مدينة طرابزون وكان حاكمها نصراني وكان يريد أن يباغتها على غرة، فأعد العدة، واستصحب معه عدداً كبيراً من العمال المتخصصين في قطع الأشجار وتعبيد الطرق. وقد صادف الفاتح في طريقه بعض الجبال العالية الوعرة فترجل عن فرسه وتسلقها على يديه ورجيله كسائر الجند (وكانت معه والدة حسن اوزون زعيم التركمان جاءت للإصلاح بين السلطان محمد وابنها) فقالت له: (فيم تشقى كل هذا الشقاء يابني وتتكبد كل هذا العناء، هل تستحق طرابزون كل هذا؟) .. فأجاب الفاتح: ياأماه، إن الله قد وضع هذا السيف في يدي لأجاهد به في سبيله، فإذا أنا لم أتحمل هذه المتاعب وأؤد بهذا السيف حقه فلن أكون جديراً بلقب الغازي الذي احمله وكيف القى الله بعد ذلك يوم القيامة؟ (٢) وهكذا كان معظم الجنود والقادة بسبب تربيتهم الايمانية العميقة.
لقد كان جيش محمد الفاتح في حصار القسطنطينية على جانب عظيم من التمسك بالعقيدة الصحيحة، والعبادات وإقامة شعائر الدين والخضوع لله رب العالمين (٣).
لقد ذكر المؤرخون أسباب كثيرة في فتح القسطنطنية، كضعف الدولة البيزنطية، والصراعات العقدية بداخلها، والتآكل الداخلي للدول الأوروبية بسبب القتال الذي نشأ بين الدول الأوروبية لعقود طويلة وغير ذلك من الاسباب.
أثر تحكيم شرع الله تعالى على الدولة العثمانية في زمن السلطان محمد الفاتح:
إن التأمل في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفي حياة الأمم والشعوب تكسب العبد معرفة اصيلة بأثر سنن الله في الأنفس والكون والآفاق، وكتاب الله تعالى مليء بسننه وقوانينه المبثوثة في المجتمعات والدول والشعوب قال تعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم} (سورة النساء: آية ٢٦).
وسنن الله تتضح بالتدبر في كتاب الله وفميا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان - صلى الله عليه وسلم -
.يقتنص الفرص ويستفيد من الأحداث ليرشد أصحابه الى شيء من السنن، ومن ذلك أن ناقته عليه الصلاة والسلام "العضباء"كانت لا تُسبق، فحدث مرة أن سبقها أعرابي على قعود له، فشق ذلك على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم عليه الصلاة والسلام كاشفاً عن سنة من سنن الله: (حق على الله أن لا يرفع شيء من الدنيا إلا وضعه) (١).
وقد أرشدنا كتاب الله الى تتبع آثار السنن في الأمكنة بالسعي والسَيْر، وفي الأزمنة من التاريخ والسير قال تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} (سورة آل عمران: آية ١٣٧ - ١٣٨).
وأرشدنا القرآن الكريم الى معرفة السنن بالنظر والتفكر قال تعالى: {قل أنظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون، فهل ينظرون إلا مثل أيام الذين خلو من قبلهم، قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين} (سورة يونس: الآيات ١٠١ - ١٠٢).
ومن خلال آيات القرآن يظهر لنا أن السنن الإلهية تختص بخصائص:
أولاً: إنها قدر سابق:
قال تعالى: {ماكان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً} (سورة الأحزاب: آية ٣٨).
أي أن حكم الله تعالى وأمره الذي يقدره كائن لامحالة، وواقع لاحياد عنه، ولا معدل فيما شاء وكان ومالم يشأ لم يكن.
ثانياً: أنها لاتتحول ولا تتبدل:
قال تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم، ثم لايجاورنك فيها إلا قليلاً، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقيلاً، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} (سورة الأحزاب: الآيات ٢٢ - ٢٣، ٦٠ - ٦٢).
وقال تعالى: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لايجدون ولياً ولا نصيراً سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً} (سورة الفتح: الآية ٢٢،٢٣).

.ثالثاً: إنها ماضية لا تتوقف:

قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ماقد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين} (سورة غافر: الآيات ٨٢ - ٨٥).
رابعاً: أنها لاتخالف ولا تنفع مخالفتها:
قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أكثر منهم وأشد قوة وأثاراً في الأرض، فما أغنى عنهم ماكانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ماكانوا به يستهزئون، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده، وخسر هنالك الكافرون} (سورة غافر: الآيات ٨٢ - ٨٥).
خامساً: لاينتفع بها المعاندون ولكن يتعظ بها المتقون:
قال تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} (سورة آل عمران: الآيات ١٣٧ - ١٣٨).
سادساً: إنها تسري على البر والفاجر:
فالمؤمنون والأنبياء أعلاهم قدراً تسري عليهم سنن الله ولله سنن جارية تتعلق بالآثار المترتبة على من امتثل أمر الله أو أعرض عنه وبما أن العثمانيين ألتزموا بشرع الله في كافة شؤونهم ومروا بمراحل طبيعية في حياة الدول فإن أثر حكم الله فيهم واضح بيّن:
وللحكم بما أنزل الله آثار دنيوية وآخرى أخروية أما الآثار الدنيوية التي ظهرت لي من خلال دراستي للدولة العثمانية فإنها:
أولاً: الاستخلاف والتمكين:
حيث نجد العثمانيين منذ زعيمهم الأول عثمان حتى محمد الفاتح ومن بعده حرصوا على إقامة شعائر الله على أنفسم وأهليهم وأخلصوا لله في تحاكمهم الى شرعه، فالله سبحانه وتعالى قواهم وشد أزرهم واستخلفهم في الأرض وأقام العثمانيون شريعة الله في الأرض التي حكموها، فمكن لهم المولى عز وجل الملك ووطأ لهم السلطان.  وهذه سنة ربانية نافذة لاتتبدل في الشعوب والأمم التي تسعى جاهدة لإقامة شرع الله.
وقد خاطب تعالى المؤمنين من هذه الأمة واعداً إياهم بما وعد به المؤمين قبلهم، فقال سبحانه في سورة النور: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض (بدلاً من الكفار) كما استخلف الذين من قبلهم} من بني أسرائيل (١).
ولقد حقق العثمانيون الإيمان وتحاكموا الى شريعة الرحمن، فأتتهم ثمرة ذلك واثره الباقي {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} فحققوا التحاكم الى الدين، فتحقق لهم التمكين.
ثانياً: الأمن والأستقرار:
كانت بلاد آسيا الصغرى مضطربة وكثرت فيها الإمارات المتنازعة، وبعدأن أكرم الله تعالى العثمانيين بتوحيد تلك الإمارات وتوجيهها نحو الجهاد في سبيل الله تعالى يسر الله للدولة العثمانية الأمن والاستقرار في تلك الربوع التي حكم فيها شرع الله.
حيث نجد أن الدولة العثمانية بعد أن استخلفت مكن الله لها وأعطاها دواعي الأمن وأسباب الاستقرار حتى تحافظ على مكانتها وهذه سنة جارية ماضية ضمن الله لأهل الايمان والعمل بشرعه وحكمه أن ييسر لهم الأمن الذي ينشدون في أنفسهم وواقعهم، فبيده سبحانه مقاليد الأمور، وتصريف الأقدار، وهو مقلب القلوب، والله يهب الأمن المطلق لمن استقام على التوحيد وتطهر من الشرك بأنواعه قال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (سورة الأنعام: آية) فنفوسهم في أمن من المخاوف ومن العذاب والشقاء إذا خلصت لله من الشرك، صغيره وكبيره، إن تحكيم شرع الله فيه راحة للنفوس لكونها تمس عدل الله ورحمته وحكمته.
إن الله تعالى بعد أن وعد المؤمنين بالاستخلاف ثم التمكين لم يحرمهم بعد ذلك من التأمين، والتطمين والبعد عن الخوف والفزع.
إن العثمانيين عندما حققوا العبودية لله ونبذوا الشرك بأنواعه حقق الله لهم الأمن في النفوس على مستوى الشعب والدولة.
ثالثاً: النصر والفتح:
إن العثمانيين حرصوا على نصرة دين الله بكل مايملكون وتحققت فيهم سنة الله في نصرته لمن ينصره لأن الله ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته
قال تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز - الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (سورة الحج: آية).
(وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف ... إن الكثيرين ليشفقونا من اتباع شريعة الله والسير على هداه يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم ويشفقون من تألب الخصوم عليهم ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية، وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسل الله - صلى الله عليه وسلم -: {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} (سورة القصص: آية ٥٧)، فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان) (١).
إن الله تعالى أيد العثمانيين على الأعداء ومنّ عليهم بالفتح، فتح الأراضي وإخضاعها لحكم الله تعالى، وفتح القلوب هدايتها لدين الإسلام.
إن العثمانيين عندما استجابوا وانقادوا لشريعة الله جلبت لهم الفتح، واستنزلت عليهم نصر الله.
إن الشعوب الاسلامية التي تبتعد عن شريعة الله تذل نفسها في الدنيا والآخرة.
إن مسؤولية الحكام والقضاة والعلماء والدعاة في الدعوة الى تحكيم شرع الله مسؤولية عظيمة يسألون عنها يوم القيامة أمام الله: (إذا حكم ولاة الأمر بغير ما أنزل الله، وقع بأسهم بينهم .. وهذا أعظم أسباب تغير الدول كما جرى هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره)، فيسلك مسلك من أيده الله ونصره ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه؛ فإن الله يقول في كتابه: {ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} الى قوله تعالى: {ولله عاقبة الأمور} (٢) فقد وعد الله بنصره من ينصره ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لانصر من يحكم بغير ماأنزل الله ويتكلم بما لا يعلم) (٣).
رابعاً: العز والشرف:
إن عز العثمانيين وشرفهم العظيم الذي سطر في كتب التاريخ يرجع الى تمسكهم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ إن من يعتز بالانتساب لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي به تشرف الأمة وبه يعلو ذكرها، وضع رجله على الطريق الصحيح وأصاب سنة الله الجارية في إعزاز وتشريف من يتمسك بكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون} (سورة الأنبياء: الآية ١٠).
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير هذه الآية: (فيه شرفكم) (١) إن العثمانيين استمدوا شرفهم وعزهم من استمساكهم بأحكام الاسلام، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (إنا كنّا أذل قوم، فأعزنا الله بالاسلام، فمهما نطلب العز بغير ماأعزنا الله أذلنا الله) (٢)، فعمر - رضي الله عنه - كشف لنا بكلماته عن حقيقة الارتباط بين حال الأمة عزى وذُلاً، مع موقفها من الشريعة إقبالاً وإدباراً، فما عزت في يوم بغير دين الله، ولا ذلت في يومٍ إلا بالإنحراف عنه قال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً} (سورة فاطر: الآية ١٠) يعني من طلب العزة فيلعتز بطاعة الله عز وجل (٣).
وقال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لايعلمون} (سورة المنافقين: الآية ٨).
إن سيرة سلاطين العثمانيين من أمثال عثمان الأول، ومراد، ومحمد الفاتح تبين لنا أعتزازهم بالاسلام وحبهم للقرآن واستعدادهم للموت في سبيل الله، ولقد عاشوا في بركة من العيش ورغد من الحياة الطيبة وما نالوا ذلك إلا بإقامة دين الله قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (سورة الاعراف: آية ٩٦).
خامساً: انتشار الفضائل وانزواء الرذائل:
لقد انتشرت الفضائل في زمن محمد الفاتح وانحسرت الرذائل؛ فخرج جيل فيه نبل وكرم وشجاعة وعطاء وتضحية من أجل العقيدة والشريعة متطلعاً الى ما عند الله من الثواب.يخشى من عقاب الله لقد استجاب ذلك المجتمع بشعبه ودولته وحكامه الى مايحبه الرحمن والى تعاليم الاسلام.
إن آثار تحكيم شرع الله في الشعوب والدول التي نفذت أوامر الله ونواهيه ظاهرة بينة لدارس التاريخ وإن تلك الآثار الطيبة التي اصابت الدولة العثمانية لهي من سنن الله الجارية والتي لاتتبدل ولا تتغير فأي شعب يسعى لهذا المطلب الجليل والعمل العظيم يصل إليه ولو بعد حين ويرى آثار ذلك التحكيم على أفراده وحكامه ودولته.
إن الغرض من الأبحاث التاريخية الاسلامية الاستفادة الجادة من أولئك الذين سبقونا بالايمان في جهادهم وعلمهم وتربيتهم وسعيهم الدؤوب لتحكيم شرع الله وأخذهم بسنن التمكين وفقه ومراعاة التدرج والمرحلية والانتقاء من أفراد الشعب والارتقاء بهم نحو الكمالات الاسلامية المنشودة. إن الإنتصارات العظيمة في تاريخ أمتنا يجريها الله تعالى على يدي من أخلص لربه ودينه وأقام شرعه وزكى نفسه ولهذا لم يأتي فتحاً عظيماً وفتحاً مبيناً إلا لمن توفرت فيهم صفات جيل التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم.  
  ..المبحث الخامس
أهم صفات محمد الفاتح


لقد ظهرت بعض الصفات القيادية في شخصية محمد الفاتح عند البحث والدراسة ومن أهم هذه الصفات:
١ - الحزم:
وظهر ذلك عندما غلب ظنه أن هناك تقصيراً أو تكاسلاً من جانب قائد الاسطول العثماني بالطه أوغلي عند حصاره للقسطنطينية، فأرسل إليه وقال: (إما تستولي على هذه السفن وإما أن تغرقها وإذا لم توفق في ذلك فلا ترجع إلينا حياً) (١).
ولما لم يحقق بالطه أوغلي مهمته عزله، وجعل مكانه حمزة باشا.
٢ - الشجاعة:
وكان رحمه الله يخوض المعارك بنفسه ويقاتل الأعداء بسيفه وفي احدى المعارك في بلاد البلقان تعرض الجيش العثماني لكمين من قبل زعيم البوغدان استفان حيث تخفى مع جيشه خلف الأشجار الكثيفة المتلاصقة وبينما المسلمون بجانب تلك الاشجار انهمرت عليهم نيران المدافع الشديدة من بين الأشجار وانبطح الجنود على وجوههم وكاد الاضطراب يسود صفوف الجيش لولا أن سارع السلطان الفاتح وتباعد عن مرمى المدافع وعنّف رئيس الانكشارية محمد الطرابزوني على تخاذل جنده، ثم صاح فيهم: (أيها الغزاة المجاهدون كونوا جند الله ولتكن فيكم الحمية الاسلامية) (٢) وأمسك بالترس واستل سيفه ركض بحصانه واندفع به الى الامام لايلوي على شيء وألهب بذلك نار الحماس في جنده فانطلقوا وراءه واقتحموا الغابة على من فيها ونشب بين الأشجار قتال عنيف بالسيوف استمر من الضحى الى الأصيل.
ومزق العثمانيون الجنود البوغدانية شر ممزق ووقع استفان من فوق ظهر جواده ولم ينج إلا بصعوبة وولى هارباً، وانتصر العثمانيون وغنموا غنائم وفيرة (٣).
.٣ - الذكاء:
ويظهر ذلك في فكرته البارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش الى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعداً عن حي غلطة خوفاً على سفنه من الجنويين، وقد كانت المسافة بين الميناءين نحو ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة وشرع في تنفيذ الخطة؛ ومهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها انزلاج السفن وجرها، لقد كان هذا العمل عظيماً بالنسبة للعصر الذي حدث فيه بل تجلى فيه سرعة التفكير وسرعة التنفيذ، مما يدل على ذكاء محمد الفاتح الوقّاد (١).
٤ - العزيمة والإصرار:
فعندما أرسل السلطان محمد الفاتح الى الامبراطور قسطنطين يطلب منه تسليم القسطنطينية حتى يحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى ويكونوا بالخيار في البقاء في المدينة أو الرحيل عنها، فعندما رفض قسطنطين تسليم المدينة قال السلطان محمد: (حسناًعن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر) (٢).
وعندما استطاع البيزنطيون أن يحرقوا القلعة الخشبية الضخمة المتحركة كان رده (غداً نصنع أربعاً اخرى) (٣).
وهذه المواقف تدل على عزيمته وإصراره في الوصول الى هدفه.
٥ - عدله:
حيث عامل أهل الكتاب وفق الشريعة الاسلامية وأعطاهم حقوقهم الدينية ولم يتعرض أحد من النصارى للظلم أو التعدي بل أكرم زعمائهم وأحسن الى رؤسائهم وكان شعاره العدل أساس الملك (٤).
٦ - عدم الاغترار بقوة النفس وكثرة الجند وسعة السلطان:
نجد السلطان محمد عند دخول القسطنطينية يقول: (حمداً لله، ليرحم الله الشهداء.ويمنح المجاهدين الشرف والمجد، ولشعبي الفخر والشكر) (١).
فهو أسند الفضل الى الله ولذلك لهج لسانه بالحمد والثناء والشكر لمولاه الذي نصره وأيده وهذا يدل على عمق إيمان محمد الفاتح بالله سبحانه وتعالى.
٧ - الأخلاص:
إن كثير من المواقف التي سجلت في تاريخ الفاتح تدلنا على عمق اخلاصه لدينه وعقيدته في اشعاره ومناجاته لربه سبحانه وتعالى حيث يقول:
نيّتي: امتثالي لأمر الله (وجاهدوا في سبيل الله).
وحماسي: بذل الجهد لخدمة ديني، دين الله.
عزمي: أن أقهر أهل الكفر جميعاً بجنودي: جند الله.
وتفكيري: منصب على الفتح، على النصر على الفوز، بلطف الله.
جهادي: بالنفس وبالمال، فماذا في الدنيا بعد الامتثال لأمر الله.
وأشواقي: الغزو الغزو مئات الآلاف من المرات لوجه الله.
رجائي: في نصر الله. وسموا الدولة على أعداء الله (٢).
٨ - علمه:
أهتم والده به منذ الطفولة ولذلك خضع السلطان محمد الفاتح لنظام تربوي إشرف عليه مجموعة من علماء عصره المعروفين، فتعلم القرآن الكريم والحديث والفقه والعلوم العصرية -آنذاك- من رياضيات وفلك وتاريخ ودراسات عسكرية نظرية وتطبيقية، وكان من كرم الله للسلطان محمد الفاتح أن أشرف على تعليمه مجموعة من آساطين العلماء في عصره وفي مقدمتهم الشيخ آق شمس الدين والملا الكوراني (عالم الدين عند العثمانيين الأوائل يكون موسوعياً في شتى العلوم المعروفة في عصره). ولقد تأثر محمد الفاتح بتربية شيوخه وظهرت تلك التربية في اتجاهاته الثقافية والسياسية والعسكرية (٣).
ولقد تبحر السلطان محمد في اللغات الاسلامية الثلاثة التي لم يكن يستغني عنها مثقف في ذلك العصر وهي: العربية والفارسية والتركية، ولقد كان السلطان محمد الفاتح شاعراً وترك ديواناً باللغة التركية (٤).
المبحث السادس
شيء من أعماله الحضارية
 
اهتمامه بالمدارس والمعاهد:
كان السلطان محمد الفاتح محباً للعلم والعلماء ولذلك اهتم ببناء المدارس والمعاهد في جميع أرجاء دولته. وقد كان السلطان أورخان أول من أنشأ مدرسة نموذجية في الدولة العثمانية وسار بعده سلاطين الدولة على نهجه وانتشرت المدارس والمعاهد في بروسة وأدرنة وغيرها من المدن.
ولقد فاق محمد الفاتح أجداده في هذا المضمار وبذل جهوداً كبيرة في نشر العلم وإنشاء المدارس والمعاهد وأدخل بعض الاصلاحات في التعليم واشرف على تهذيب المناهج وتطويرها وحرص على نشر المدارس والمعاهد في كافة المدن الكبيرة والصغيرة وكذلك القرى وأوقف عليها الأوقاف العظيمة. ونظم هذه المدارس ورتبها على درجات ومراحل، ووضع لها المناهج، وحدد العلوم والمواد التي تدرس في كل مرحلة، ووضع لها نظام الامتحانات فلا ينتقل طالب من مرحلة الى اخرى إلا بعد اتقانه لعلوم المرحلة السابقة ويخضع لامتحان دقيق وكان السلطان الفاتح يتابع هذه الأمور ويشرف عليها واحياناً يحضر امتحانات الطلبة ويزور المدارس بين الحين والحين ولا يأنف من استماع الدروس التي يلقيها الاساتذة، وكان يوصي الطلبة بالجد والاجتهاد ولا يبخل بالعطاء للنابغين من الاساتذة والطلبة وجعل التعليم في كافة مدارس الدولة بالمجان وكانت المواد التي تدرس في تلك المدارس: التفسير، والحديث، والفقه، والأدب، والبلاغة، وعلوم اللغة من المعاني والبيان والبديع، والهندسة ... الخ.
وأنشأ بجانب مسجده الذي بناه بالقسطنطينية ثمان مدارس على كل جانب من جوانب المسجد أربعة مساجد يتوسطها صحن فسيح وفيها يقضي الطالب المرحلة الأخيرة من دراسته وألحقت بهذه المدارس مساكن للطلبة ينامون فيها ويأكلون فيها طعامهم ووضعت لهم منحة مالية شهرية، وكان الموسم الدراسي على طول السنة في هذه المدارس وأنشأ بجانبها مكتبة خاصة وكان يشترط في الرجل الذي يتولى امانة هذه المكتبة أن يكون.  من أهل العلم والتقوى متبحراً في اسماء الكتب والمؤلفين وكان المشرف على المكتبة يعير الطلبة والمدرسين مايطلبونه من الكتب بطريقة منظمة دقيقة ويسجل اسماء الكتب المستعارة في دفتر خاص وهذا الأمين مسؤول عن الكتب التي في عهدته ومسؤول عن سلامة أوراقها (١) وتخضع هذه المكتبة للتفتيش كل ثلاثة أشهر على الاقل وكانت مناهج هذه المدارس يتضمن نظام التخصص، فكان للعلوم النقلية والنظرية قسماً خاصاً وللعلوم التطبيقية قسماً خاصاً أيضاً، وكان الوزراء والعلماء من أصحاب الثروات يتنافسون في انشاء المعاهد والمدارس والمساجد والأوقاف الخيرية (٢).
اهتمام السلطان محمد الفاتح بالعلماء:
لقد كان للعلماء والأدباء مكانة خاصة لدى محمد الفاتح، فقرب إليه العلماء ورفع قدرهم وشجعهم على العمل والانتاج وبذل لهم الأموال ووسع لهم في العطايا والمنح والهدايا ليتفرغوا للعلم والتعليم ويكرمهم غاية الإكرام ولو كانوا من خصومه؛ فبعد أن ضم إمارة القرمان الى الدولة أمر بنقل العمال والصناع الى القسطنطينية غير أن وزيره روم محمد باشا ظلم الناس ومن بينهم بعض العلماء وأهل الفضل ومن بينهم العالم احمد جلبي بن السلطان امير علي فلما علم السلطان محمد الفاتح بأمره اعتذر إليه واعاده الى وطنه مع رفقائه معززاً مكرماً.
وبعد أن هزم اوزون حسن زعيم التركمان وكان هذا الزعيم لا يلتزم بعهد ويناصر أعداء العثمانيين من أي ملة كانت، فبعد أن هزمه محمد الفاتح وقع في يده عدد كبير من الأسرى، فأمر السلطان الفاتح بقتلهم (إلا من كان من العلماء واصحاب المعارف مثل القاضي محمد الشريحي وكان من فضلاء الزمان، فأكرمه السلطان غاية الاكرام.
وكان السلطان الفاتح يحترم العلماء وأهل الورع والتقى وقد تستبد به في بعض الاحيان نزوة جامعة او غضبة طارئة ولكنه ما يلبث إلا أن يعود الى وقاره واحترامه لهم.
وتحدثنا كتب التاريخ أن السلطان محمد بعث مع احد خدامه بمرسوم الى الشيخ احمد الكوراني - وكان حين ذاك يتولى قضاء العسكر- فوجد فيه أمراً يخالف الشرع فمزقه وضرب الخادم. وشق ذلك على السلطان محمد وغضب من فعل الشيخ وعزله من منصبه، ووقع بينهما نفور وجفوة ورحل الكوراني الى مصر حيث استقبله سلطانها قيتباي وأكرمه  غاية الإكرام
.واقام عنده برهة من الزمن. ومالبث الفاتح أن ندم على ماكان منه فكتب الى السلطان قيتباي يطلب منه ان يرسل إليه الشيخ الكوراني (فحكى السلطان قيتباي كتاب السلطان محمد خان للشيخ الكوراني ثم قال له لا تذهب إليه فاني اكرمك فوق مايكرمك هو. قال: نعم هو كذلك إلا أن بيني وبينه محبة عظيمة كما بين الوالد والولد. وهذا الذي جرى بيننا شيء آخر وهو يعرف ذلك مني ويعرف أني أميل إليه بالطبع فاذا لم أذهب إليه يفهم ان المنع من جانبك فتقع بينكما عداوة. فاستحسن السلطان قيتباي هذا الكلام واعطاه مالاً جزيلاً وهيأ له مايحتاج إليه من حوائج السفر وبعث معه هدايا عظيمة الى السلطان محمد خان. واسند إليه الفاتح القضاء ثم الافتاء واجزل له من العطاء واكرمه اكراماً لامزيد عليه (١).
قال عنه الشوكاني: ( .. وانتقل من قضاء العسكر الى منصب الفتوى وتردد إليه الأكابر وشرح (جمع الجوامع) وكثر تعقبه للمحلى (جلال الدين المحلي المفسر) وعمل تفسيراً، وشرحاً للبخاري وقصيدة في علم العروض نحو ستمائة بيت. وأنشأ بأسطنبول جامعاً ومدرسة سماها دار الحديث وانشالت عليه الدنيا وعمر الدور وانتشر علمه فأخذ عليه الأكابر وحج في سنة ٧٦١هـ احدى وستين وسبعمائة ولم يزل على جلالته حتى (مات) في أواخر سنة ٧٩٣هـ ثلاث وتسعين وسبعمائة وصلى عليه السلطان فمن دونه ومن مطالع قصائده في مدح سلطانه:
هو الشمس إلا أنه الليث باسلا
هو البحر إلا أنه مالك البر
وقد ترجمه صاحب (الشقائق النعمانية) ترجمة حافلة ... وانه كان يخاطب السلطان بأسمه ولا ينحني له، ولا يقبل يده بل يصافحه مصافحة، وانه كان لا يأتي الى السلطان إلا اذا أرسل إليه وكان يقول له، مطعمك حرام وملبسك حرام فعليك بالاحتياط. وذكر له مناقب جمة تدل على أنه من العلماء العاملين ... ) (٢).
وكان السلطان محمد الفاتح لا يسمع عن عالم في مكان اصابه عوزاً وإملاق إلا بادر الى مساعدته وبذل له ما يستعين به على أمور دنياه.
وكان من عادة الفاتح في شهر رمضان أن يأتي الى قصره بعد صلاة الظهر بجماعة من. العلماء المتبحرين في تفسير القرآن فيقوم في كل مرة واحد منهم بتفسير آيات من القرآن الكريم وتقريرها ويناقشه في ذلك سائر العلماء ويجادلونه، وكان الفاتح يشارك في هذه المناقشات ويشجع هؤلاء العلماء بالعطايا والهدايا والمكافآت المالية الجزيلة.
اهتمامه بالشعراء والأدباء:
ذكر مؤرخ الأدب العثماني أن السلطان محمد الفاتح (راعٍ لنهضة أدبية، وشاعر مجيد حكم ثلاثين عاماً كانت أعوام خصب ورخاء وبركة ونماء وعرف بأبي الفتح لأنه غلب على إمبراطوريتين، وفتح سبع ممالك واستولى على مائتي مدينة وشاد دور العلم ودور العبادة، فعرف كذلك بأبي الخيرات) (١).
وكان الفاتح مهتماً بالأدب عامة والشعر خاصة، وكان يصاحب الشعراء ويصطفيهم، واستوزر الكثير منهم مثل أحمد باشا محمود ومحمود باشا وقاسم الجزري باشا، وهؤلاء شعراء (٢) وكان في بلاط الفاتح ثلاثون شاعراً يتناول كل منهم راتباً شهرياً قدره ألف درهم وكان طبيعياً بعد هذا الاهتمام أن يتفنن الشعراء والأدباء في مدح السلطان محمد لما قدمه الى العلم والأدب من كريم الرعاية وجميل التشجيع.
وكان محمد الفاتح ينكر على الشعراء التبذل والمجون والدعارة ويعاقب الذي يخرج عن الآداب بالسجن أو يطرده من بلاطه (٣).
اهتمامه بالترجمة:
كان السلطان محمد الفاتح متقن للغة الرومية ومن أجل أن يبعث نهضة فكرية في شعبه أمر بنقل كثير من الآثار المكتوبة باليونانية واللاتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية من ذلك كتاب "مشاهير الرجال "لبلوتارك ونقل إلى التركية كتاب التصريف في الطب لأبي القاسم الزهراوي الطبيب الأندلسي مع زيادات في صور آلالات الجراحة وأوضاع المرضى أثناء إجراء العمليات الجراحية.
وعندما وجد كتاب بطليموس في الجغرافيا وخريطة له قام بمطالعته ودراسته مع العالم الرومي جورج اميروتزوس ثم طلب اليه الفاتح والى ابنه (ابن العالم الرومي) الذي كان يجيد.اللغتين الرومية والعربية بترجمة الكتاب إلى العربية وإعادة رسم الخريطة مع التحقيق في أسماء البلدان وكتابتها باللغتين العربية والرومية وكافأهما على هذا العمل بعطايا واسعة جمة وكان العلامة علي القوشجي وهو من أكبر علماء عصره في الرياضيات والفلك كلما ألف كتاباً بالفارسية نقله إلى العربية وأهداه إلى الفاتح.
وكان الفاتح مهتم باللغة العربية، لأنها لغة القرآن الكريم كما أنها من اللغات العلمية المنتشرة في ذلك العهد. وليس أدل على اهتمام الفاتح باللغة العربية من انه طلب إلى "المدرسين بالمدارس الثماني أن يجمعوا بين الكتب الستة في علم اللغة كالصحاح والتكملة والقاموس وأمثالها ". ودعم الفاتح حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه بالاكثار من نشر المكاتب العامة وأنشأ له في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم وعين الشيخ لطفي أميناً عليها، وكان بها اثنا عشر ألف مجلد عندما احترقت عام ١٤٦٥م وقد وصف الاستاذ ديزمان هذه المكتبة بأنها بمثابة نقطة تحول في العلم بين الشرق والغرب (١).
اهتمامه بالعمران والبناء والمستشفيات:
كان السلطان محمد الفاتح مغرماً ببناء المساجد والمعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات والأسواق الكبيرة والحدائق العامة وأدخل المياه إلى المدينة بواسطة قناطر خاصة وشجع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات وغيرها من المباني التي تعطي المدن بهاءً ورونقاً واهتم بالعاصمة (استنبول) اهتماماً خاصاً وكان حريصاً على أن يجعلها (أجمل عواصم العالم) وحاضرة العلوم والفنون. وكثر العمران في عهد الفاتح وانتشر واهتم بدور الشفاء ووضع لها نظاماً مثالياً في غاية الروعة والدقة والجمال، فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب - ثم زيد إلى اثنين - من حذاق الأطباء من أي جنس كان، يعاونهما كحال وجراح وصيدلي وجماعة من الخدم والبوابين ويشترط في جميع المشتغلين بالمستشفى أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية، ويجب على الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم وأن لاتصرف الأدوية للمرضى إلا بعد التدقيق من إعدادها، وكان يشترط في طباخ المستشفى أن يكون عارفاً بطهي الأطعمة والأصناف التي توافق المرضى منها وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان ويغشاها جميع الناس بدون تمييز بين أجناسهم وأديانهم (٢).
الاهتمام بالتجارة والصناعة:
اهتم السلطان محمد الفاتح بالتجارة والصناعة وعمل على انعاشهما بجميع الوسائل والعوامل والأسباب وكان بذلك مقتفياً خط آبائه وأجداده السلاطين الذين: (كانوا دائماً على استعداد لإنعاش الصناعة والتجارة بين رعاياهم وأن كثيراً من المدن الكبرى قد ازدهرت ازدهاراً كبيراً عندما خلصها الفتح العثماني مما أصابها في عهد الدولة البيزنطية من طغيان الثروة الحكومية التي عرقلت نهضتها وشلت حركتها، ومن هذه المدن نيقية وكان العثمانيون على دراية واسعة بالأسواق العالمية وبالطرق البحرية والبرية وطوروا الطرق القديمة وانشأوا الكباري الجديدة مما سهل حركة التجارة في جميع أجزاء الدولة واضطرت الدول الأجنبية من فتح موانيها لرعايا الدولة العثمانية ليمارسوا حرفة التجارة في ظل الراية العثمانية وكان من أثر السياسة العامة للدولة في مجال التجارة والصناعة أن عم الرخاء وساد اليسر والرفاهية في جميع أرجاء الدولة وأصبحت للدولة عملتها الذهبية المتميزة (١) ولم تهمل الدولة إنشاء دور الصناعة ومصانع الذخيرة والأسلحة وأقامت القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية في البلاد (٢).
الاهتمام بالتنظيمات الإدارية:
عمل السلطان محمد الفاتح على تطوير دولته ولذلك قنن قوانين حتى يستطيع أن ينظم شؤون الإدارة المحلية في دولته وكانت تلك القوانين مستمدة من الشرع الحكيم وشكل السلطان محمد لجنة من خيار العلماء لتشرف على وضع (قانون نامه) المستمد من الشريعة الغراء وجعله أساساً لحكم دولته، وكان هذا القانون مكوناً من ثلاثة أبواب، يتعلق بمناصب الموظفين وببعض التقاليد ومايجب أن يتخذ من التشريفات والاحتفالات السلطانية وهو يقرر كذلك العقوبات والغرامات، ونص صراحة على جعل الدولة حكومة إسلامية قائمة على تفوق العنصر الإسلامي أياً كان أصله وجنسه (٣).
واهتم محمد الفاتح بوضع القوانين التي تنظم علاقة السكان من غير المسلمين بالدولة ومع جيرانهم من المسلمين، ومع الدولة التي تحكمهم وترعاهم، وأشاع العدل بين رعيته، وجد في ملاحقة اللصوص وقطاع الطرق، وأجرى عليهم أحكام الإسلام، فاستتب الأمن وسادت الطمأنينة في ربوع الدولة العثمانية. وأبقى السلطان محمد النظام الذي كان سائداً لحكم الولايات أيام أسلافه، وأدخل عليه بعض التعديلات الطفيفة التي تناسب عصره ودولته. وكانت الدولة تنقسم إلى ولايات كبرى يحكمها أمير الأمراء وكان يسمى "بكلربك "وإلى ولايات صغرى ويحكمها أمير اللواء، وكان يسمى "سنجق بك "وكلا الحاكمان كان يقوم بأعمال مدنية وعسكرية في آن واحد، وترك لبعض الإمارات الصقلبية في أول الأمر بعض مظاهر الاستقلال الداخلي فكان يحكمها بعض أمراء منها ولكنهم تابعون للدولة ينفذون أوامر السلطان بكل دقة وهو يعزلهم ويعاقبهم اذا خالفوا أوامره أو فكروا في الثورة على الحكومة العثمانية.
وعندما تعلن الدولة الجهاد وتدعوا أمراء الولايات وأمراء الالوية، كان عليهم أن يلبوا الدعوة ويشتركوا في الحرب بفرسان يجهزونهم تجهيزاً تاماً، وذلك حسب نسب مبينة، فكانوا يجهزون فارساً كامل السلاح قادراً على القتال عن كل خمسة آلاف آقجه من إيراد اقطاعه، فإذا كان إيراد اقطاعه خمسمائة ألف آقجة مثلاً كان عليه أن يشترك بمائة فارس، وكان جنود الإيالات مؤلفة من مشاه وفرسان، وكان المشاة تحت قيادة وإدارة باشوات الإيالات وبكوات الالوية (١).
وقام محمد الفاتح بحركة تطهير واسعة لكل الموظفين القدماء غير الأكفاء وجعل مكانهم الأكفاء، واتخذ الكفاية وحدها أساساً في اختيار رجاله ومعاونيه وولاته. واهتم بالنظام المالي ووضع القواعد المحكمة الصارمة في جباية أموال الدولة وقضى على إهمال الجباة وتلاعبهم مما كان يضيع على الدولة ثروات هائلة.
لقد أظهر السلطان محمد في الناحية الإدارية كفاية ومقدرة لاتقلان عن كفايته ومقدرته في الناحيتين السياسية والحربية (٢).
اهتمامه بالجيش والبحرية:
لقد أنشأ الجيش النظامي من زمن السلطان أورخان واهتم من جاء بعده من السلاطين بتطوير الجيش وخصوصاً السلطان محمد الذي أولى الجيش رعاية خاصة، فالجيش في نظره من أسس الدولة وأركانها المهمة، فأعاد تنظيمه وتربيته وجعل لكل فرقة (آغا) يقودها وجعل لقيادة الانكشارية حق التقدم على بقية القواد، فهو يتلقى أوامره من الصدر الأعظم الذي جعل له السلطان القيادة العليا للجيش.    
وقد تميز عصر السلطان محمد الفاتح بجانب قوة الجيش البشرية وتفوقه العددي، بإنشاءات عسكرية عديدة ومتنوعة، فأقام دور الصناعة العسكرية لسد احتياجات الجيش من الملابس والسروج والدروع ومصانع الذخيرة والأسلحة، وأقام القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية، وكانت هناك تشكيلات عسكرية متنوعة في تمام الدقة وحسن التنظيم من فرسان ومشاة ومدفعية وفرق مساعدة، تمد القوات المحاربة بما تحتاجه من وقود وغذاء وعلف للحيوان واعداد صناديق الذخيرة حتى ميدان القتال، وكان هناك صنف من الجنود يسمى "لغمجية "وظيفته الحفر للالغام وحفر الانفاق تحت الأرض أثناء محاصرة القلعة المراد فتحها وكذلك السقاؤون كان عليهم تزويد الجنود بالماء ولقد تطورت الجامعة العسكرية في زمن الفاتح وأصبحت تخرج الدفعات المتتالية من المهندسين والأطباء والبيطريين وعلماء الطبيعيات والمساحات، وكانت تمد الجيش بالفنيين المتخصصين وقد أكسب هؤلاء العثمانيين شهرة عريضة في الدقة والنظام (١).
لقد حرص السلطان محمد على تطوير الجيش البري والقوة البحرية وظهرت أهميتها منذ فتح القسطنطينية، حيث كان للأسطول البحري العثماني دور واضح في احكام حصارها وتطويقها من البحر والبر جميعاً وبعد فتح القسطنطينية ضوعفت العناية بالسلاح البحري، فلم تمضي إلا مدة من الزمن حتى سيطر الأسطول العثماني على البحرين الأسود والأبيض وعندما نطالع كتاب (حقائق الأخبار عن دول البحار) لمؤلفه اسماعيل سرهنك، نلاحظ اهتمام السلطان محمد الفاتح بالبحرية العثمانية، وانه كان اهتماماً بالغاً استحق معه أن يعده المؤرخون مؤسس الاسطول البحري العثماني، ولقد استفاد من الدول التي وصلت إلى مستوى رفيع في صناعة الأساطيل مثل الجمهوريات الإيطالية وبخاصة البندقية وجنوا أكبر الدول البحرية في ذلك الوقت (٢) وعندما وجد في سيئوب سفينة ضخمة نادرة المثال أمر السلطان محمد بأخذها وبناء سفن على نمطها مع ادخال التحسينات عليها (٣).
وكان الأسطول العثماني تشرف الترسانة على إدارته وكانت احد فروع الخاصة وتسمى بطافة العزب، ويبلغ عددهم نحو ثلاثة آلاف جندي بحري تتألف من: القبطان، وقواد السفن، والضباط، والبحارة (٤).  .
 اهتمامه بالعدل:
إن إقامة العدل بين الناس كان من واجبات السلاطين العثمانيين، وكان السلطان محمد شأنه في ذلك شأن من سلف من آبائه - شديد الحرص على إجراء العدالة في أجزاء دولته ولكي يتأكد من هذا الأمر كان يرسل بين الحين والحين إلى بعض رجال الدين من النصارى بالتجوال والتطواف في أنحاء الدولة ويمنحهم مرسوم مكتوب يبين مهمتهم وسلطتهم المطلقة في التنقيب والتحري والاستقصاء لكي يطلعوا كيف تساس أمور الدولة وكيف يجري ميزان العدل بين الناس في المحاكم وقد أعطى هؤلاء المبعوثون الحرية الكاملة في النقد وتسجيل مايرون ثم يرفعون ذلك كله إلى السلطان.
وقد كانت تقرير هؤلاء المبعوثين النصارى تشيد دائماً بحسن سير المحاكم وإجراء العدل بالحق والدقة بين الناس بدون محاباة أو تمييز، وكان السلطان الفاتح عند خروجه إلى الغزوات يتوقف في بعض الأقاليم وينصب خيامه ليجلس بنفسه للمظالم ويرفع إليه من شاء من الناس شكواه ومظلمته.
وكان على إدراك تام بأن رجال الفقه والشريعة هم أعرف الناس بالعدالة وأبصرهم بمواقعها وأشد الناس حرصاً على أنفاذها وكان يرأى أن العلماء في الدولة بمنزلة القلب في البدن، إذا صلحوا صلحت الدولة ولذلك اعتنى الفاتح بالعلم وأهله ويسر سبل العلم على طالبيه وكفاهم مؤونة التعيش والتكسب ليتفرغوا للدرس والتحصيل، وأكرم العلماء ورفع منزلتهم، وقد اعتنى الفاتح بوجه خاص برجال القضاء الذين يتولون الحكم والفصل في أمور الناس فلا يكفي في هؤلاء أن يكونوا من المتضلعين في الفقه والشريعة والاتصاف بالنزاهة والاستقامة وحسب بل لابد إلى جانب ذلك أن يكونوا موضع محبة وتقدير بين الناس، وأن تتكفل الدولة بحوائجهم المادية حتى تسد طرق الإغراء والرشوة، فوسع لهم الفاتح في عيشهم كل التوسعة، وأحاط منصبهم بحالة مهيبة من الحرمة والجلالة والقداسة والحماية (١).
وتحدثنا كتب التاريخ: أن أحد غلمان محمد الفاتح ظهر منه بعض الفساد بأدرنة فأرسل إليه القاضي بعض الخدم لمنعه فلم يمتنع، فركب إليه القاضي بنفسه فاعتدى عليه الغلام وضربه ضرباً شديداً فما أن سمع السلطان الفاتح بذلك حتى أخذه الغضب واستطار به "وأمر. بقتل ذلك الغلام لتحقيره نائب الشريعة. وتشفع الوزراء للغلام لدى السلطان الفاتح فلم يقبل شفاعتهم فالتمسوا من المولى محي الدين محمد أن يصلح هذا الأمر لدى السلطان، ولكن الفاتح أعرض عنه ورد كلامه فقال له المولى محي الدين: إن النائب (أي القاضي بقيامه عن مجلس القضاء بسبب الغضب سقط عن رتبة القضاء فلم يكن هو عند الضرب قاضياً فلم يلزم تحقير الشرع حتى يحل قتله (قتل الغلام) فسكت السلطان محمد خان. ثم جاء الغلام إلى قسطنطينية فأتى به الوزراء إلى السلطان محمد خان لتقبيل يده شكراً للعفو عنه. فأحضر السلطان محمد خان عصاً كبيرة فضربه بنفسه ضرباً شديداً حتى مرض الغلام أربعة أشهر فعالجوه فبرئ ثم صار ذلك الغلام وزيراً للسلطان بايزيد خان واسمه داود باشا. وكان يدعو للسلطان محمد خان ويقول: إن رشدي هذا ما حصل إلا من ضربه (١). أما القاضي المرتشي فلم يكن له عند الفاتح من جزاء غير القتل.
وكان السلطان الفاتح - برغم اشتغاله بالجهاد والفتوحات إلا أنه كان يتتبع كل ما يجري في أرجاء دولته بيقظة واهتمام وأعانه على ذلك ما حباه الله من ذكاء قوي وبصيرة نفاذة وذاكرة حافظة وجسم قوي وكان كثيراً ما ينزل بالليل إلى الطرقات والدروب ليتعرف على أحوال الناس بنفسه ويستمع إلى شكاواهم بنفسه (٢) كما ساعده على معرفة أحوال الناس جهاز أمن الدولة الذي كان يجمع المعلومات والأخبار التي لها علاقة بالسلطنة وترفع إلى السلطان الذي كان يحرص على دوام المباشرة لأحوال الرعية، وتفقد أمورهان والتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعاتها، وقد استنبط السلطان الفاتح هذه المعاني من حال سليمان عليه السلام في قوله تعالى: {وتفقد الطير} وذلك بحسب ماتقتضيه أمور الملك، والاهتمام بكل جزء فيه، والرعاية بكل واحدة فيه وخاصة الضعفاء (٣).
 
المبحث السابع
وصية السلطان محمد الفاتح لأبنه
 
هذه وصية محمد الفاتح لأبنه وهو على فراش الموت والتي تعبر اصدق التعبير عن منهجه في الحياة، وقيمه ومبادئه التي آمن بها والتي يتمنى من خلفائه من بعده أن يسيروا عليها: (ها أنذا أموت، ولكني غير آسف لاني تارك خلفاً مثلك. كن عادلاً صالحاً رحيماً، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز، واعمل على نشر الدين الاسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض، قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولاتفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لايهتمون بأمر الدين، ولايجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش، وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها وسع رقعة البلاد بالجهاد واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد، إياك أن تمد يدك الى مال أحد من رعيتك إلا بحق الاسلام، واضمن للمعوزين قوتهم، وابذل اكرامك للمستحقين.
وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم، واذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.
حذار حذار لا يغرنك المال ولا الجند، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل الى أي عمل يخالف أحكام الشريعة، فان الدين غايتنا، والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا.
خذ مني هذه العبرة: حضرت هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، وأحذ حذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير اهله ولا تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو، واكثر من قدر اللزوم فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك) (١).
١ - (كن عادلاً صالحاً رحيماً):
لقد قام محمد الفاتح بهذه المبادئ مع النصارى الذين اصبحوا من رعايا دولته وعندما دخل القسطنطينية فاتحاً كان يحارب حرب الاسلام (التي لاتهتك فيها حرمة، ولايقتل فيه.  .. صبي ولا شيخ ولا امرأة، ولايحرق فيها زرع، ولا يتلف فيها ضرع، ولايمثل فيها بإنسان، ولاتصيب إلا المقاتلين الذين يحملون السلاح في وجه المسلمين) (١).
كان "محمد الفاتح"وهو يمثل اسلامه وعقيدته ومنهجه الاسلامي في الحرب على تعاليم الصديق (ابي بكر) - رضي الله عنه - في معاملته للروم (لاتخونوا، ولاتغلوا ولاتغدروا، ولاتمثلوا، ولاتقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، ولاتقطعوا شجرة مثمرة، ولاتذبحوا شاة ولا بعيراً إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم ومافرّغوا أنفسهم له ... اندفعوا باسم الله) (٢).
لقد دخل محمد الفاتح الى قلب العاصمة البيزنطية وأعطى عالم الغرب النصراني دروس في العدالة والرحمة وأصبحت معلماً من معالم التاريخ العثماني.
إن الدولة العثمانية سارت على منهج الاسلام، فأخذت منه العدالة والرحمة بالرعايا الذين حكموهم ولقد تحدث عبد الرحمن عزام عن رحمة العثمانيين وعدالتهم بالشعوب التي حكموها فقال: (وقد يظن بعض الناس بما يتناقلون من احاديث أو فكاهات عن بعض العهود للدولة العثمانية أنها كانت دولة عظيمة، ولكن لم تكن صفة الرحمة مميزاتها، وهو خطأ شائع لا يقف أمام البحث والتدقيق ... ولقد سمعت بنفسي حديث هذه الرحمة في "بسرابيا"من رومانيا على نهر "الدنيستز"وقيل لي: إن أمثلة الفلاحين في هذه الأطراف النائية للملك العثماني لا تزال تعبر عن رحمة التركي وعدله. ومنها مايشير الى أن العدل ينزع مع الأتراك من الأرض. وقد لفت نظري في بولونيا ورومانيا وفي بلاد البلقان في رحلاتي المتعددة أمثلة وأساطير لاتزال تشير الى ما استقر في نفوس هذه الأمم المسيحية من احترام التركي المسلم كرحيم عادل.
وفي سنة ١٩١٧م كنت في فيينا فروي لي أن البوليونيين مستبشرون بوصول العساكر العثمانية الى جاليسيا مدداً للنمساويين) (٣).
... بأن العدل والرحمة الاسلامية هما اللذان مكنا للعثمانيين في أوروبا. وبالعدل والرحمة خرجت هذه الأمم من همجيتها وقسوتها وعرفت المساواة والإنصاف، ويكفى أن تعلم أن استرقاق الطوائف بأشنع صورة كان نظاماً دولياً متعاهداً عليه في أوروبا الوسطى.  والجنوبية الى أن قضى عليه العثمانيون. وكانت هناك عهود دولية بين الملداف والبلونيين والمجر لتسليم كل فلاح يرحل من مزرعة سيده من "البويار"الى أحد هذه الأوطان، وكانت المزارع تباع بما عليها من الحيوانات والفلاحين.
جاء العثمانيون الى أوروبا يحملون بين صدورهم عاطفة الرحمة كما أرادها صاحب الدعوة - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن الأتراك أكثر عدة ولا عدداً من أية أمة من الأمم التي سادوها، فوصلوا على رؤسهم جميعاً الى فيينا، تمهد لهم الرحمة صعاب الجبال والبحار والوهاد، كما مهدت للعرب قبلهم إفريقية وآسيا) (١).
إن محمد الفاتح سار على منهج الرحمة والعدالة وأوصى أحفاده من بعده أن يلتزموا نفس المنهج الذي يمثل حقيقة الاسلام.
٢ - (وابسط على رعيتك حمايتك دون تمييز):
وهذا ما قام به السلطان محمد بنفسه حيث حرص على حماية كل رعايا الدولة سواء مسلمين أو نصارى ومن القصص اللطيفة في هذا المعنى أنه كان على أهل جزيرة خيوس دين قدره أربعون ألف دوقة لتاجر من تجار "غلطة"يدعى فرانسسكوا درا بيريو ولما عجز هذا الدائن عن استرداد دينه من أهل الجزيرة رأى السلطان الفاتح أن يقوم هو بهذا الأمر بوصف أن هذا التاجر من رعاياه الذين يجب على الدولة العثمانية حمايتهم واستيفاء حقوقهم وأرسل الى الجزيرة عدة سفن بقيادة حمزة باشا إلا أن أهالي جزيرة خيوس قتلوا بعض الجنود ورفضوا الانقياد ودفع الحقوق. فقال محمد الفاتح للتاجر درالبيريو (أنا الذي سيتحمل دينك من أهل الجزيرة وسأطلب به مضاعفاً ثمناً لدم الجنود الذين هلكوا) (٢).
وسير السلطان الى هذه الجزيرة اسطولاً وقام هو بقيادة الجيوش بنفسه الى الجزر القريبة منها وفتح اينوس بغير حرب ولا قتال وبادرت جزيرتا ايمبروس وساموتراس الى الاستسلام وفتحتا ابوابهما على مصاريعها للعثمانيين، فاضطرت جزيرة خيوس الى دفع ماعليها من دين للتاجر الجنوي ودفعت للسلطان جزية سنوية قدرها ستة آلاف دوقة، ودفعت له فوق ذلك تعويضاً للسفن العثمانية التي غرقت (٣).
إن حماية الرعية والحفاظ على حقوقهم من واجبات الدولة الإسلامية
.٣ - (واعمل على نشر الدين الاسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك
على الأرض)
كان السلطان محمد الفاتح في حروبه لاينسى أنه داعية الى الاسلام ولذلك كان يشجع قواده وجنوده على نشر الدين والعقيدة والاسلام ويثنى على القادة الذين تفتح المدن على أيديهم، فعندما أمر قائده عمر بن طرخان أن يزحف بجيشه الى أثينا واستولى عليها ويضمها الى الدولة العثمانية وتحرك القائد عمر بجيشه واضطرت المدينة للتسليم وزار السلطان الفاتح المدينة بعد عامين من فتحها وقال: (ما أعظم مايدين به الاسلام لابن طرخان).
لقد اهتمت الدولة العثمانية بالدعوة الى الله وتركت بصماتها قوية واضحة في مجال نشر الدعوة في أوروبا؛ فعلى امتداد قرون وتعاقب عصور ودهور ظلت جماعات اسلامية تقاوم شتى انواع الضغوط التي بذلت لتحويلها الى المسيحية ولازالت هذه الاقليات الاسلامية تعيش الى يومنا هذا في بلغاريا ورومانيا وألبانيا واليونان ويوغسلافيا يصل أعدادها الى الملايين من البشر (١) وهذا يرجع الى فضل الله على تلك الشعوب ثم الى سياسة السلاطين العثمانيين الذين يحرصون على هداية الناس ودخولهم في الاسلام.
٤ - (قدم الإهتمام بأمر الدين على كل شيء ولا تفتر في المواظبة عليه):
إن سلاطين الدولة العثمانية قبل زمن محمد الفاتح وبعده نشأوا نشأة اسلامية، خالصة، مشوبة بإيمان عميق، متوجهة الى أهداف عقائدية صريحة، خاضوا من أجلها حروباً دينية شديدة، وكانت أجمل عبارة على ألسن العثمانيين عند التنادي للجهاد الزحف الى الفتوحات إما غاز وإما شهيد، فمنذ بداية تأسيسها أطلق على زعيمها لقب الغازي - أي المجاهد في سبيل الله- وظل هذا اللقب الرفيع يتقدم كل الألقاب والنعوت بالنسبة للسلاطين العظام، وكانت غاية الدولة العثمانية (الدفاع عن الاسلام ورفع رايته على الآنام).
لذلك صبغت الدولة شعباً وسلطاناً، حكومة وجيشاً ثقافة وتشريعاً، نهجاً وضميراً، هدفاً ورسالة، بصبغة اسلامية خالصة منذ النشأة وعلى مدى سبعة قرون لقد كان اهتمام السلاطين بأمر الدين عظيماً وقدموه على كل شيء وواظبوا عليه الى أقصى حدود وأكدوا أنهم لاينتسبون إلا للإسلام وتراثه وحضارته وكان الوطن عندهم هو كل أرض يسكنها المسلمون، وكلمة الملة تعني الأمة والدين معاً، وذلك كان هدف المنهج التربوي في جميع المدارس والجامعات والمعاهد، تصاغ به نفوس الناشئة منذ بداية تعليمهم في الكتاتيب.وجميع المسلمين كانوا يسجلون في دوائر النفوس - سجلات المواليد- وفي التذاكر العثمانية -بطاقات الهوية- كمسلمين فحسب، دون أن يذكر الى جانب ذلك فيما إذا كانوا من الاتراك، أو من العرب أو من الشراكسة أو الألبان أو الأكراد إن مايهم الدولة كان ينحصر في ملتهم في ديانتهم؛ إنهم مسلمون وكفى، واعتبر العثمانيون أي مقاتل مسلم جاهد في سبيل الله ميراثهم البطولي وخلفيتهم التاريخية، وإن تباينت الأنساب، وتباعدت الأزمان؛ من ذلك المجاهد "عبد الله البطال"الذي استشهد في معركة أكرنيون في آسيا الصغرى عام ١٢٢ للهجرة، زمن الدولة الأموية والذي يقول عنه الطبري وهو يعلق على حوادث سنة ١٢٢هـ: (وفيها قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم) (١).
يعتبره العثمانيون بطلهم القومي وبين "عبد الله البطال"العربي وقيام الدولة العثمانية مايقرب من سبعمائة عام، لقد كان تاريخ العثمانيين وأبطال العثمانيين، نسب الإسلام، وتاريخ الاسلام، ومجاهدي الاسلام (٢).
إن سلاطين الدولة العثمانية كانوا يلقبون بكثير من الألقاب والنعوت التي تبين أن هدفهم الأكبر ومقصدهم الأسمى هو خدمة دين الله تعالى، فكانوا يلقبون بمثل سلطان الغزاة، والمجاهدين، وخادم الحرمين الشريفين، وخليفة المسلمين) (٣).
٥ - (ولا تستخدم الأشخاص الذي لايهتمون بأمر الدين ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش):
ولذلك أهتم سلاطين الدولة العثمانية بإنشاء جامعات لتخريج قادة للجيش وللوظائف المهمة في الدولة ووضعوا منهجاً تربوباً لأعداد القادة وخصوصاً في داخل الجيوش وحرصوا على أن يختاروا لمناصب الدولة الأمناء والأكفاء أصحاب العقول والنهى والتقى وأسندوا إليهم الولايات والقيادات في الجيوش ومناصب القضاة، وباعدوا عنهم كل من لايهتم بأمر الدين، ويجتنب الكبائر والفواحش هكذا كان السلاطين الأوائل.
٦ - (جانب البدع المفسدة وباعد الذين يحرضونك عليها):
إن السلاطين العثمانيين الأوائل ساروا على منهج أهل السنة والجماعة وعرفوا خطورة البدع والاقتراب من أصحابها واكتفوا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واجماع الأمة واجتهادات.       .العلماء الراسخين.
إن الشريعة الاسلامية الغراء التي سار عليها السلاطين العثمانيون ذمت البدع.
قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (سورة الانعام: الآية ١٥٣).
وقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم الى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} (سورة الانعام: آية ١٥٩).
قال ابن عطية: (هذه الآية تعمّ أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام. هذه كلها عرضة للزّلل، ومظنة لسوء المعتقد) (١).
وفي الحديث الشريف قال - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (٢).
وفي الصحيح عن حذيفة أنه قال: يارسول الله: هل بعد هذا الخير شر؟
قال: (نعم؛ قوم يستنُّون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي).
قال: قلت: هل بعد ذلك الشرِّ شرُّ؟
قال: (نعم؛ دعاة على نار جهنم، من أجابهم قذفوه فيها).
قلت: يارسول الله: صِفْهم لنا.
قال: (نعم؛ هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا).
قلت: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟
قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم).
قلت: فإن لم يكن إمام ولا جماعة؟
قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة حتى يدرك الموت وأنت على ذلك) (٣).
وعن ابي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: (لست تاركاً شيئاً كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ) (٤).
إن الابتعاد عن المبتدعة ومحاربتهم من صميم الدين، لأن المبتدع:
- لايقبل منه عمل، وينزع منه التوفيق، وملعون على لسان الشريعة، ويزداد من الله بعداً، مانعة من شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، مظنة العداوة والبغضاء بين أهل الاسلام، رافع للسنن، يلقى عليه الذل في الدنيا والآخرة، ويخاف عليه من سوء الخاتمة، ويسود وجهه في الآخرة، ويخشى عليه من الفتنة) (٥).
ولذلك كانت وصية السلطان محمد -رحمه الله- لمن بعده (جانب البدع المفسدة وباعد الذين يحرضونك عليها).
٧ - وسع رقعة البلاد بالجهاد:
إن السلاطين العثمانيين الأوائل قاموا بتوسيع رقعة الدولة بالجهاد وبسطوا الامن وقمعوا الاخطار التي هددت دولتهم، وعملوا على تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا يستطيع الاعداء أن يظفروا بثغرة أو ينتهكوا محرماً ويسفكوا دماً مسلماً أو معاهداً، وعمل السلطان محمد ومن قبله على إعداد الأمة إعداداً جهادياً وقام بواجبه في جهاد الكفرة المعاندين للاسلام حتى يسلموا أو يدخلوا في ذمة المسلمين ولقد صبغ المجتمع العثماني بالصبغة الاسلامية الجهادية الدعوية وكان أفراد الجيش يعدون للحياة الجهادية العنيفة، منذ نعومة أظافرهم، إعداداً دقيقاً، كاملاً ولقد حققت الجيوش العثمانية انتصارات رفيعة في الساحات الأوروبية
 (٦)، لقد (حققت الدولة العثمانية الى عهد سليمان القانوني آمالاً عظيمة كان يستهدفها المسلمون منذ تسعة قرون برفع الراية المحمدية على قلاع كثير من العواصم الكبرى في أوروبا وإخضاع كثير من المماليك والامارات للحكومة الاسلامية وأخذ ظل الاسلام يمتد حتى أوشكت جيوش المسلمين في شرق أوروبا وغربها أن تلتقي في الأرض الكبيرة) (٧).
ومن المؤتمر السابع لوزراء خارجية الدول الاسلامية في استنابول ألقي المجاهد البروفسور المهندس نجم الدين أربكان خطاباً استرجع فيه صدى الماضي الاسلامي الذي مثلته الدولة العثمانية فقال: ( ... إن هذا القصر الذي شاء الله أن يعقد فيه هذا المؤتمر الاسلامي الكبير وقد نقشت على بابه كلمة الاسلام الجامعة: "لا إله إلا الله" .. هو قصر السلطان محمد الفاتح الذي بناه عقب فتح استنبول .. كيف لايكون هذا المكان تاريخياً ومنه كانت تدبر شؤون العالم الاسلامي ردحاً من الزمن؟ وكيف لايكون لتاريخنا ومنه كانت تنطلق جيوش المسلمين الى جميع أنحاء الدنيا، مجاهدة في سبيل الله، تنشر النور والهداية والعدل أينما حلت وحيثما ضربت .. كيف لايكون تاريخياً وفوق هذا الحجر الذي يرتكز عليه الميكرفون كانت تنصب رايات الجيوش الاسلامية، المنطلقة للذب عن ديار المسلمين جميعاً .. وأذكر على سبيل المثال لا الحصر: أن قرار إرسال الاسطول الاسلامي للحيلولة دون وقوع كل من أندونيسيا والفلبين في براثن الاستعمار الهولندي اتخذ من هذا المكان، وفيه أيضاً اتخذت قرارات إرسال الجيوش والأساطيل الاسلامية لحماية شمال أفريقيا من الغزاة الطامعين.  .
وفوق هذا كله فإن هذا البناء التاريخي يضم بين جدرانه لواء الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - وبردته المباركة وسيوفه وكثيراً من آثاره الشريفة ... ) (١).
لقد كانت الدولة تعطي لمبدأ الجهاد أهمية قصوى ولذلك أعدت شعبها وجيشها لتحقيق هذا المبدأ الرباني وحققت من خلاله ثمرات مهمة الاسلام والمسلمين من أهمها:
- إعزاز المسلمين وإذلال الكافرين.
- دخول الناس في دين الله فواجا (٢).
- إسعاد الناس بنور الاسلام وعدله ورحمته.
لقد انصبغت الدولة العثمانية بالروح الجهادية ووضعت أهدافاً لها من أهمها:
- إقامة حكم الله ونظام الاسلام في الأرض.
- دفع عدوان الكافرين.
- إزاحة الظلم عن الناس.
- نشر الدعوة الإسلامية بين البشر (٣).
٨ - (واحرس أموال بيت المال من أن تتبد):
إن السلاطين العثمانيين كانوا يرون أن الدولة هي الهيئة التنفيذية والمعبرة عن رأي الأمة، والمكلفة بحماية مصالحها، فمسؤلية الدولة ليست خاصة بالأمن والدفاع وإنما هي مسؤولة عن رعاية المصالح الاجتماعية وحماية بيت المال من الاسراف والتبذير والمحافظة على مصادر وموارد بيت المال وأهم موارد بيت المال:
- جمع الزكاة المفروضة وتوزيعها في مصارفها المشروعة.
- ترتيب الخراج على أملاك الدولة المعمورة وتحصيل عائدته للإنفاق العام على الجيش وتنمية المرافق العامة.
- جباية الجزية على المعاهدين مقابل إعفائهم من القتال مع المسلمين.
- تحصيل عشور التجارة على الواردات من خارج نطاق الدولة العثمانية.
- التوظيف بقدر الحاجة على افراد الأمة سواء كان تطوعياً أو ألزامياً لإنفاقها في دروب الجهاد وسائر المصالح العامة طبقاً لقاعدة المصالح المرسلة.
- تشغيل الموارد وحمايتها كالحمى والمناجم وإحياء الموات، وتحصيل أنصبة الدولة منها لاستخدامها في مجالات الإنفاق الحكومي (٤).
وعلى الدولة أن تراقب النشاط الاقتصادي وتحرص على تطبيق أحكام الشريعة فيه، وتشمل:
- ضبط المقاييس والمواصفات المعيارية التي يحتاجها الناس في أسواقهم مثل المكاييل والموازيين، ومواصفات البضائع الجيدة.
- منع الغش، وإبطال العقود الفاسدة في البيع والعمل (الاستضاع).
- الأمر بالمعروف في المعاملات كالصدق والعدل والوفاء في المعاملة كالبيع والشراء والنهي عن المنكر في البيوع كالحلف الكاذب على السلعة.
- منع تلقي الركبان والمناجشة في البيع والتدليس والغبن الفاحش وغيره من الأساليب التي تؤدي الى العداوة والبغضاء بين الناس.
- منع ترويج المحرمات كالخمر والخنزير وآلات القمار والميسر، ووسائل اللهو المؤدي الى تمويت القلوب.
- منع مظاهر الترف والإسراف، والتشجيع على نبذها (٥).
٩ - (وإياك أن تمد يدك الى أحد من أموال رعيتك إلا بحق الاسلام):
إن وظيفة الدولة تنفيذ أوامر الشريعة والشريعة جاءت لحفظ أموال الناس التي هي قوام حياتهم. وقد حرم الاسلام كل وسيلة لأخذ المال بغير حق شرعي، قال تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (سورة البقرة: آية١٨٨).
وحرم السرقة وأوجب الحد على من ثبتت عليه تلك الجريمة فقال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله ... } (سورة المائدة: آية ٣٨). وكذلك حرم الاسلام الربا الذي يهدد مصالح الأفراد واقتصاد الدول، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} (سورة آل عمران: آية ١٣٠).
وحرم كذلك الغش والاحتكار والنهب والاختلاس والغلول وغير ذلك من أشكال الاعتداء على المال وكل ذلك داخل في أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنه.
ووظيفة الحاكم حماية أموال الرعية من السرقة والنهب لا أن يمد يده بغير وجه حق ويعتدي على أموال الناس.
١٠ - (واضمن للمعوزين قوتهم وابذل أكرامك للمستحقين):
كان السلاطين العثمانيون يتسابقون في الإحسان للفقراء والمساكين وأبناء السبيل .. وكل من هو محتاج الى البر والإحسان وقامت الدولة بأعمال جليلة في هذا الباب بل أوقف السلاطين والوزراء أوقافاً عظيمة على طلاب العلم والفقراء والمساكين والأرامل وغير ذلك وكان الوقف ركناً اساسياً في اقتصاد الدولة يقول الاستاذ محمد حرب: ( ... نشطت الحركة العلمية في جوامع استنبول (٦) ... وكان صقوللي محمد باشا -على سبيل المثال- ينفق على الحركة العلمية في استانبول من دخل وقف ٢٠٠٠ قرية عثمانية في تشيكوسلوفاكيا (وكانت تابعة للدولة العثمانية) وأسعد أفندي قاضي عسكر الروملي (يعني البلقان) أوقف وقفين كبيرين على تجهيز الفتيات المعدمات اللاتي يصلن الى سن. الزواج. وكان لدى العثمانيين أوقاف كثيرة ومتعددة؛ مثل آخر كانت هناك أوقاف بصرف مرتبات للعائلات المعوزة -غير الأكل- لأن الأكل المجاني له أوقاف عامة أخرى تسمى (عمارت وقفي) أي وقف المطاعم الخيرية وكانت الـ (عمارات) تقدم أكلاً مجانياً لعدد يبلغ ٢٠.٠٠٠ شخص يومياً مجاناً، وكان مثل هذا في كل الولايات ... ) (١).
وكان المطعم الخيري بجامع السليمانية تبلغ ميزانيته عام ١٥٨٦م ما يعادل (١٠) عشرة ملايين دولار أمريكي إلا قليلاً (٢).
وهكذا كانت سياسة الدولة على مستوى السلاطين والامراء والوزراء تضمن للمعوزين قوتهم وتكرم المستحقين بالإكرام.


١١ - (وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة فعظم جانبهم وشجعهم واذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال ... ):
لقد أهتم السلطان محمد الفاتح بترتيب وظائف العلماء في الجوامع الكبرى ووضع لها تقاليد سابقة ونظمها بمرسوم خاص واهم الوظائف في المساجد الكبرى: الخطيب والإمام، والقيم والمؤذن ويقوم المرشحون لهذه الوظائف بطلب العلم في المدارس الدينية الكبيرة التي كثيراً ما كان السلاطين والوزراء يتنافسون على تشييدها تنافساً نبيلاً ويخضع الموظفون الدينيون في العاصمة لسلطة المفتي مباشرة ولكان ينوب عنه في الولايات الكبرى قضاة العسكر؛ أما في الولايات الصغرى فكان الإمام يقوم بكافة المهام الدينية وخاصة في الأرياف.
وكانت المدارس التي تعد الموظفين الدينيين يوجد بها ثلاثة فئات من طلبة العلم: فا (الصوفتا) وهي أدناها تليها فئة المعيدين الذي يحمل الطالب عند التخرج منها لقب (دانشمند) أو عالم. أما الفئة الأعلى فهي منصب المدرس، وبلغ عدد الصوفتا في عهد السلطان مراد الثاني ٩٠ ألفاً. وكانوا كثيراً ما يكون لهم أثر في شؤون الدولة (٣).
وقد استحدث محمد الفاتح لقب شيخ الإسلام وهو الذي يترأس الهيئة الإسلامية في الدولة، وهو يلي السلطان في الأهمية. وكان التشريع والمحاكم والمدارس الملحقة بالمساجد وممتلكات الأوقاف الواسعة جميعها خاضعة له، كما كان خاضعاً له القضاة الشرعيون والقضاة العسكريون والمفتون. وكانت الأولوية في بداية نشأة الدولة العثمانية لقاضي عسكر الذي رافق الجيش المحارب، ثم صارت للمفتي رئيس العلماء والفقهاء في عهد السلطان سليمان القانوني وأصبح المفتي هو شيخ الإسلام نفسه، وحرص السلاطين على تدعيم سلطة شيخ الإسلام فكانوا يلجؤون الى استغلال سلطته والإفادة منها كلما تعرضوا لأزمة خطيرة. وبلغ من ازدياد سلطة شيخ الإسلام أنه كان يحق له إصدار فتوى بعزل السلطان نفسه (٤).
كما كانت الدولة لاتقدم على حرب دون صدور فتوى منه يقرر فيها أن أهداف هذه الحرب لاتتعارض مع الدين وكانت أحكام المفتي نهائية لامعقب عليها وكان الجهاز الإسلامي المنبث في جسم الدولة يضم الأشراف وهم الذين ينحدرون من سلالة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان نقيب الأشراف يحتل مكانة عالية في المجتمع (٥).
لقد قامت الدولة العثمانية بتأسيس جهاز للهيئة الدينية الإسلامية وحرصت على أن تمتد جذورها في أوساط الشعب والجيش وكل رعايا الدولة المسلمين وقد أصبحت أفراد هذه الهيئة يتولون مناصب القضاء والإفتاء وتدريس علوم الدين واللغة والمشاركة على نحو مافي إدارة الأوقاف الخيرية وإقامة ... الدينية والإشراف على المساجد والمؤسسات الدينية والخيرية مثل التكايا والأسبلة وغيرها وكان أفراد من الهيئة الدينية الإسلامية الحاكمة يصحبون شتى فرق الجيش إلى ميادين القتال ويقومون قبل المعركة بتسخين الجنود روحياً ابتغاء رفع روحهم المعنوية ويضربون للجنود أروع الأمثلة على استبسال الجنود المسلمين في صدر الإسلام حين انطلقوا على موجات بشرية متلاحقة من قلب شبه الجزيرة العربية واتجهوا شرقاً إلى العراق وفارس، وشمالاً إلى بلاد الشام، واتجهوا إلى مصر ثم شمال إفريقية، وعبروا البحر المتوسط إلى الأندلس. ويذكرون لهم الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تدور حول الجهاد الديني والفوز بإحدى الحسنيين: النصر أو الاستشهاد. ويشرحون لهم مواقف الصحابة واسترخاصهم الموت حتى استطاعت الجيوش الإسلامية وقتذاك أن تدك معاقل دولة الفرس والدولة البيزنطية، كما كان رجال الهيئة الدينية الإسلامية يؤمون الجنود في صلاة الخوف وهم في ساحات القتال .. (٦).
كان علماء الدولة الذين قادوا الهيئة الدينية ينظرون إلى السلطان على أنه يعتبر إماماً للمسلمين وتجب عليهم طاعة السلطان بصفته ولي الأمر كما يأمرهم سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا .. } (سورة النساء، آية: ٥٩).
وكانوا يعتقدون ليس لولي الأمر طاعة فيما وراء الشريعة لأن الطاعة لهم تبعية، وليست أصلية، إنها طاعة مستمدة من أصل، وليست هي بذاتها أصلا. وقد أشار إلى هذا المعنى أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين في أول خطبة عامة ألقاها بعد مبايعته بالخلافة أوضح فيها منهجه في الحكم وكان مما جاء في هذه الخطبة المشهورة قوله: "أيها الناس إني وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني ...أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .. " (٧).
وهكذا طلب أبو بكر من جموع المسلمين طاعته طالما كان سائراً على هدى الله وسنة رسوله. لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وكان العلماء وعلى رأسهم شيخ الإسلام يعتمدون على الشريعة عند الخلاف مع السلطان أو الصدر الأعظم ولايسمحون لهم أن ينحرفوا عن مبادئ الشريعة (٨) وكان الشعب يقف معهم ويلتحم معهم في القضايا المصيرية، لأن العلماء كانوا يملكون القوتين الروحية والأدبية اللتين تمثلتا في ممارسة أعمال القضاء والإفتاء والإمامة والإشراف على المساجد وإقامة الشعائر الدينية وإدارة المؤسسات الخيرية، ونشاطهم في مجالات التعليم بشتى درجاته وعلى قمتها الدراسات العليا في الكليات حيث كانوا يقومون بتدريس علوم الشريعة الإسلامية وأصول الدين ولذلك كانوا أكثر التفافاً برجل الشارع وأكثر تفاهماً وتعاطفاً وتجاوباً مع الأهلين (٩).
١٢: (حذارِ حذارِ لايغرنك المال ولا الجند وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة فإن الدين غايتنا والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا):

حقيقة دعوة الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية-1

$
0
0
بقلم المؤلف: عبد الله بن سعد الرويشد
الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب علم من أعلام الإصلاح الديني في الشرق الإسلامي في العصر الحديث، وكفاحه ونضاله، ودعوته إلى التوحيد المطلق، الخالص النقي من شوائب الشرك الوثنية، والمطهر من الخرافات والخزعبلات، مضرب الأمثال في كل مكان من العالم الإسلامي على طيلة قرنين من الزمان وإلى قيام الساعة إن شاء الله.
وقد ربى الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب جيلا كاملا، تسلم الراية في حياته وبعد مماته، عمل من أجل رفعة الإسلام، وإعزاز شأن المسلمين، وخلف هذا الجيل الذي ربي على يديه جيل فجيل فجيل، ممن خدموا الإسلام، وعنوا بشئون المسلمين، وناضلوا من اجل استعادة المجد الإسلامي التليد.
 
محمد بن عبد الوهابوشيخ الإسلام المصلح محمد بن عبد الوهاب كان للبيت السعودي الحاكم المجيد معه شأن وأي شأن، فهو الذي حماه بعد الله وآزره ونصره عبر العصور والأيام وبني حكمه على هذه الدعوة للتوحيد وبتوحيد وعلى التوحيد، وأعانه على نشر دعوته الإسلامية السلفية الخيرة، والنهوض بكل ما لديه من طاقة وقوة، وذلك من أجل حماية العقيدة، وصيانة الدعوة، وتصحيح المفاهيم والموازين، والرجوع بالمسلمين إلى حياة العزة والسيادة والنهضة، فقد بنت هذه الأسرة السعودية ملكها على التوحيد وللتوحيد وبالتوحيد.
والإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان طيلة قرنين ونصف حتى اليوم موضع عناية الباحثين والمفكرين والمؤرخين من عرب وشرقيين وغربيين على السواء.
ولا تزال دعوته السلفية عالية الراية، مرفوعة اللواء، عزيزة الجانب، نبيلة المقصد، شريفة الاتجاه، وفيعة الصروح.
 
وقد تحدثت في هذا الكتاب الموجز، عن:
- نسب الإمام
- مولده ونشأته
- رحلاته العلمية
- رحلته خارج الجزيرة العربية
- تنفيذ الدعوة ومراحلها
- مناوأة الدعوة والتآمر عليها
- آل سعود واحتضانهم للشيخ ونصرتهم له
- الخطر الخارجي الذي كان يتهدد الدعوة
- خطب الشيخ ورسائله، وذكرت مثالا من رسائله. 
- أثر الشيخ في النهضة العلمية والأدبية
- مؤلفاته وآثاره العلمية
- انتشار الدعوة خارج الجزيرة العربية
- رسالتان تشرحان حقيقة دعوة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية
- آراء المفكرين والعلماء العرب والمسلمين في الإمام ودعوته ورأى دائرة المعارف البريطانية، وبعض المستشرقين.
- وآراء الباحثين الأمريكيين والأوربيين
- وذكرت موقف الشعر والشعراء من الدعوة السلفية وتأييدهم لها. ومن حسن الحظ أن يصدر هذا الكتاب مع صدور الطبعة الثانية من كتابي عن الإمام محمد بن عبد الوهاب ودعوته السلفية العظيمة في جزأين، وبمناسبة إخراج هذا الكتيب الذي أرجو أن يكون مختصراً مفيداً عن حياة العلامة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته الإسلامية، وعقيدته السلفية، وجهاده وجهوده كما أرجو أن يكون شفراً نفيساً مفيداً لأبناء الإسلام والمسلمين الموحدين.
ثم إنني وأيم الحق دائما وأبداً أشعر من أعماق قلبي بمدى فضل الإمام العظيم محمد بن سعود، وشيخ الإسلام المصلح الكبير محمد بن عبد الوهاب علينا حيث إن كل واحد منهما يكمل الآخر ويسدد خطاه ويباركها ويناصرها، وذلك بإبراز هذه الدعوة وحمايتها ومناصرتها بالنفس والنفيس وباللسان والسنان فلهذه الدعوة السلفية أفضال على أجيالنا المعاصرة، وعلى التاريخ العربي الحديث كافة وعلى كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها، قد عانى لهما لقاء ما قاما به من الأعمال الجسام بإنارة الطريق بمشاعل الإسلام الصحيح في الحياة.
والله أسأل أن يحشرهما مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ولقد طلب منى أستاذنا وشيخنا ووالدنا صاحب الفضيلة والسماحة الشيح عبد العزيز ابن عبد الله بن باز، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة الإرشاد أن أقوم بتأليف كتاب عن الإمام المصلح شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن يكون كتاباً مختصراً ومفيداً إن شاء الله تعالى، وذلك بمنزله بحيّ البديعة بالرياض، ولقد قال سماحته: إني أريد منك أن تؤلف كتاباً آخر مختصراً حيث إن كتابك الأول الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ الجزء الأول والثاني مطول جداً، فبحوثه ومواضيعه كثيرة ومتشعبة والقارئ في هذا الوقت لا يقبل إلا على الكتب الصغيرة والمختصرة، وكتابك الأول لن يقرأه إلا الباحثون والمتخصصون، وهم قلة بالنسبة والمقارنة بالقارئ العادي.
لذا لبيت طلب سماحته جزاه الله عن الإسلام. والمسلمين خير الجزاء وسدد خطاه ووفقه لخدمة الإسلام والمسلمين، فسماحته من علماء السلف الصالح فلكم خدم سماحة الشيخ المسلمين بعلمه وفضله وخلقه وماله وجاهه، فها هو ذا، الكتاب أو المؤلف المختصر بين يديك أيها القارئ الكريم والأخ المسلم أرجو الله أن يحوز رضاك. وأن ينال مثوبته كما أرجوه أن يمنحني فضله وإحسانه إنه تعالى ولي ذلك والقادر عليه والشكر لله من قبل ومن بعد.  
 
حقيقة دعوة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية
ترجمة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته
مدخل
...
حقيقة دعوة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية
إن دارسة مناقب الأعلام تملأ الأجيال المتأخرة روحاً تقدمية، ونفسا طموحة إلى العلا، شريطة أن تكون تلك الدراسة موزونة بميزان الكتاب والسنة، وذلك كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كنا أذل أمة فأعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله"لذلك يطيب لي أن أقدم هذه السيرة العطرة لنابتة البلاد العربية والأجيال الصاعدة خصوصا، ولكافة المسلمين عموماً لتكون حافزا لهم على التمسك بدينهم وعقيدتهم خالصة من شوائب الشرك والبدع والخرافات.  
نسبة الإمام:
هو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن على من سلالة عربية خالصة يمتد نسبها إلى تميم إلى نزار بن معد ابن عدنان، وهو إمام الدعوة السلفية الحديثة، والمجدد للعقيدة الإسلامية السليمة، وهو رائد النهضة الفكرية والعلمية والأدبية في العصر الحديث باتفاق رجالات الفكر وأساطين التاريخ.  مولده ونشأته:
ولد رحمه الله في بلدة العيينة بنجد قريباً من الرياض العاصمة السعودية سنة ١١١٥هـ-١٧٠٣م، في بيت توارث بنوه العلم كابراً عن كابر، وقد كان أبوه عبد الوهاب عالم بلدته وقاضيها، وكذلك كان جده- سليمان من قبله. وقد نشأ الإمام نشأة صالحة، ثم أخذ يتلقى عن أبيه علوم الدين من تفسير وحديث وفقه، وعلوم اللغة من نحو وصرف وغيرهما، وأكثر من القراءة والاطلاع على الكتب المتداولة بين الناس في ذلك العهد. وكان ذكياً ألمعياً ينفذ بذهنه وعقله إلى ما وراء النصوص المدونة، ويميز بين الحق منها والبهرج، فلم يجد فيما قرأ ما يعادل كتب ابن تيمية وابن القيم، فأعجب بها ومال إليها، ورأى كثيراً مما نعاه ابن تيمية على أهل عصره من البدع والضلالات، والمروق عن الدين ومظاهر الشرك ماثلا أمام عينه في معتقدات قومه وأعمالهم، لاسيما العامة منهم، فهو إذاً من الذين تأثروا بمدرسة ابن تيمية وتخرجوا منها على الرغم من طول العهد بينهما، وإن آراء ابن تيمية وابن القيم كان لها أكبر الأثر في توجيه ابن عبد الوهاب والتأثير على حياته. رحلاته العلمية:
وتطلع الشيخ إلى أفق علمي أرحب فدهب إلى مكة المكرمة حاجاً لله تعالى، وملتمساً فيها من العلماء من يشفي غلته ويروي ظمأه، ويظهر أنه لم يظفر بما كان يؤمله فرحل إلى المدينة المنورة، والتقى هناك بالشيخ عبد الله بن إبراهيم ابن سيف، وهو عالم من أهالي المجمعة بنجد أقام بالمدينة، فأخذ ابن عبد الوهاب عنه، أخذ عن عالم مقيم بها هو الشيخ محمد بن حياة السندي.
 
رحلة الإمام خارج الجزيرة:
ولم تكن هذه النفس الطلعة لتقنع بما يحسب الناس أن فيه كفاية وغناء، بل لابد لها أن تنشد الكمال، وتسعى إليه، وتستعذب الصعاب، وتركب الأهوال، وتعتصم بالصبر، وتطلب الحقيقة في مظانها لعلها تظفر بشيء منها، وهكذا كان شأن الشيخ، فلم يجد بدا من الرحلة إلى بعض العواصم الإسلامية التي اشتهرت بكثرة العلماء فيها، وتوارثت البحث في مسائل الدين وعقائده، فرحل إلى العراق، ونزل بلدة الزبير من أعمال البصرة، وأخذ عن أحد فقهائها الشيخ محمد المجموعي ولكن الإمام لم يقنع بالسماع والحفظ، بل برح يناقش ويحاول ويمحص ويوازن بين ما يلقي إليه، وما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، فيجد فيما يقوله العلماء ميلاً وانحرافاً وخروجاً عن نصوص الدين وتعاليمه، وساءه ما عليه الناس من خرافات وأباطيل، فجاهر بآرائه هذه فأنكر ونقد كثيراً من بدع الناس وضلالاتهم وفساد عقائدهم، فثار به فريق من جهال البصرة وآذوه، وخرج منها في وقت الهجير خائفاً يترقب بلا زاد ولاراحلة، وما كان الله ليترك مجاهداً في سبيل دينه، فقيض له رجلاً من أهل الزبير وهي بلدة عراقية أكثر سكانها نجديون، فأعانه وحمله على دابته حتى خرج من هده البلدة.
 
وفكر الشيخ بعد ذلك في مواصلة الرحلة إلى بلاد الشام لعله يجد فيها خيراً مما لقي بالعراق، ولكن الله أراد أن يريحه من سفر قد لا يحصل منه على فائدة تذكر، ففقد ما كان معه من مال، وقفل راجعاً إلى بلاد نجد، ونزل بالأحساء، وأقام مدة لدى الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي الأحسائي من رجال الدين والعلم بها، وكان والد الإمام قد انتقل من العيينة إلى حريملاء بعد نزاع نشب بينه وبين حاكم قريته محمد بن معمر أدى إلى عزله عن قضائها، فرحل الإمام إلى أبيه وأقام معه في بلدته الجديدة.
 
تنفيذ الدعوة ومراحلها:
بدأ الشيخ دعوته في حريملاء ولم تلق هناك نجاحاً يذكر، ولكنه لم ييأس ولم يقنط، وظل يدرس ويرشد ويعظ حتى مات والده في عام ١١٥٣هـ-١٧٤٠م، وهنا أعلن دعوته وجدّ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتبعه بعض أهلها وأيدوه، ولكن كان بحريملاء قبيلة يتبعها جماعة من الجهال يعيثون في الأرض فساداً، ويجاهرون بالفسق والمعاصي، فهتف الشيخ بهم ونادى بوجوب ردعهم وتنفيذ. حكم الشرع فيهم، فأضمروا له البغضاء، وحاولوا الفتك به، فحماه الله منهم وردهم على أعقابهم.
ولم يطلب للشيخ مقام بحريملاء بعد هذا الحادث، فانتقل إلى مسقط رأسه بالعيينة، وتلقاه أميرها عثمان بن أحمد بن معمر بالترحيب، وعاونه في دعوته وتوثقت بينهما أواصر الثقة والمحبة خصوصا بعد أن أصهر الشيخ إلى أسرته، وقد تبعه كثير من الأهالي، ثم شرع في تنفيذ مبادئه علمياً، فاستأجر أناساً ليقوموا بقطع الأشجار التي يعظمها العامة، ثم خرج بنفسه إلى كبراهن فقطعها، ولا بد للشيخ أن يمضي في طريقه بلا وجل ولا تردد، فاتجه بنفسه إلى قبه قبر "زيد بن الخطاب"رضي الله عنه بقرية "الجبيلة"وأعد العدة لهدمها، فاستعان بعثمان لحمايته فاستجاب له، ولكنه أبى أن يتولى الهدم هو أو أحد من رجاله، فتقدم الشيخ وهدمها بنفسه حتى أتى عليها ومضى في سياسته العلمية "فأقام حد الزنى، ونفذ أحكام الشريعة"ومن ثم اشتهر أمره وعظمت هيبته، وأقبل كثير من الناس عليه مبايعين معاهدين.   مناوأة الدعوة
وبينما الدعوة تشق طريقها إلى القلوب الصلدة فتصدعها، وإلى العقول الضالة فتردعها، وإلى النفوس الظامئة من العلم فتبل صداها، وتجلو صدأ الجهالة الذي ران عليها، نرى سليمان بن محمد بن عريعر الحميدي حاكم الأحساء والقطيف ينذر عثمان بن معمر بالثورة عليه، وقطع الخراج عنه إن لم يقتل الشيخ ويقضي على دعوته، ويتخاذل عثمان ويأمر الشيخ بالخروج من بلدته، فسار معه إلى الدرعية ورافقه في الطريق "الفريد الظفير وطوالة الحمراني"من رجال بن معمر بأمر منه، وكان الشيخ يسير في الرمضاء والحر يلفحه، ومعه مروحة من الخوص وهو يردد قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ١.
"وسبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر"وحتى وصل إلى الدرعية، وما قاله بعض المؤرخين من أن ابن معمر قد أمر "الفريد"أن يقتل الشيخ في منتصف الطريق فلا صحة لهذا القول 
 
آل سعود يحتضنون الشيخ وينصرونه:
وصل الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية في اليوم الخامس من شهر رجب عام ١١٥٨هـ ونزل في بيت رجل فاضل هو "عبد الله بن عبد الرحمن بن سويلم"الذي أكرم وفادته، وكتم أمره خوفاً من بطش أمير الدرعية الأمير "محمد بن سعود"ورجاله، وأخذ الشيخ يدعو الناس إلى.  دعوته السلفية سراً، حتى استطاع أن يقنع الأمير "محمد بن سعود"على تأييده ومؤزرته، وأقبل عليه الأمير وبايعه على دين الله ورسوله والجهاد في سبيله، وتنفيذ أحكام الشريعة، وقد عاونه على إتمام هذه المبايعة أخوا الأمير محمد بن سعود وهما مشاري وثنيان، وكان عبد الله بن سويلم حضهما على تأييد الشيخ ومعاهدته من أجل نشر دعوته السلفية الخيرة، فبدأ بزوجة الإمام "موضي بنت أبي وطبان"لتكون عوناً لهما على زوجها، وكانت ذات عقل ودين، فألقي الله في قلبها محبة الشيخ ودعوته، فقالت لزوجها: "إن هذا أتى إليك وهو غنيمة ساقها الله لك، فأكرمه وعظمه واغتنم نصرته، فقبل قولها وألقى الله سبحانه في قلب الأمير محبة الشيخ، فأراد أن يرسل إليه فقال أخوا الأمير وزوجته: "إننا نرى أن تذهب إليه بنفسك، وأن تظهر لأهل الدرعية تكريمه واحترامه والاحتفال به، لأن العلم يُذهَب إليه ولاَ يذهب العلم إلى أحد من الناس، فسار الأمير إليه وقابله في بيت ابن سويلم، ورحب الأمير بالشيخ وقال له: "أبشر ببلاد خير من بلادك، وأبشر بالعز والمنعة"فقال له الشيخ: "وأنا أبشرك بالعز والتمكين، والنصر المبين، وهذه كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"التي دعت إليها الرسل كلهم فمن تمسك بها وعمل بها ونصرها، ملك البلاد والعباد، وأنت ترى نجداً كلها وأقطارها قد سارت على الشرك والجهل والفرقة والاختلاف وقتال بعضهم.  بعض فأرجو أن تكون إمام يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك"وأخذ يشرح له الإسلام وشرائعه، وما يحل وما يحرم، وما عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدعوة إلى التوحيد والقيام في نصره، والقتال عليه، فلما شرح الله صدر الأمير محمد بن سعود بذلك، وتقرر عنده طلب من الشيخ المبايعة على ذلك فبايعه الشيخ على ذلك وقال:
 
"إن الدم بالدم والهدم بالهدم"أي دمي دمك وهدمي هدمك، ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين: أولاهما أننا إذا قمنا بنصرتك والجهاد في سبيل الله، وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترتحل وتستبدل بنا غيرنا، والثانية أن لي على الدرعية قانونا آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول: لا تأخذ منهم شيئا"
 
فقال الشيخ: أما الأولى فلك عليّ عهد الله ورسوله، وأما الثانية فلا فإن لك عليهم الزكاة، ولعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك من الغنائم ما هو خير منها.
 
وبسط الأمير يده، فبايعه الشيخ على دين الله ورسوله، والجهاد في سبيله، وإقامته شرائع الإسلام القرآن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبهذا تم لقاء القمة الإسلامي السياسي بين مؤسس الدولة السعودية الأول الإمام محمد بن سعود، ومؤسس الدعوة السلفية الأول في العصر الحديث الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن هنا دخلت دعوة الشيخ في مرحلة التنفيذ والجد والعمل، وأيد أهل الدرعية صغيرهم.  وكبيرهم دعوة الشيخ، وإتباع تعاليمه السلفية، وبهذا اتحد "الدين والسياسة"وسارا في طريق سليم واحد، لهدف إسلامي نبيل واحد، ثم بدأ الشيخ يراسل ذوي الرأي في بلاد نجد من قضاة وعلماء وأعيان، فاستجاب له البعض وصد عنه آخرون، فسل أعوان الشيخ السيف للجهاد، وأعلنوا الحرب في سبيل الله، وقتال المارقين، ومات في هذه المعركة أبناء الأمير محمد بن سعود وهما فيصل وسعود، وتوفي الأمير محمد، وولي مكانه إمارة الدرعية ابنه عبد العزيز ابن محمد بن سعود، وقد ولد الإمام محمد بن سعود عام ١١٣٨هـ وتوفي عام ١١٧٩هـ الموافق ١٧٢٥ – ١٧٦٥م. وفي عهده وبعد انتقال الإمام الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية أخذت الدرعية في الازدهار، وتشد لها الرحال، وتضرب لها آباط الإبل لمقابلة الشيخ، وطلب العلم عليه، والتزود بعلومه، ومن نبعها الصافي ومعينها النمير، وفيها شيد الأمير مسجد الدرعية الكبير وفي عهد ابنه عبد العزيز زاد ازدهار الدرعية وقصدها الناس من كل مكان للقاء الشيخ ومبايعته، وقد أعلنت حريملاء الانضمام إلى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومؤازرته والاستجابة لدعوته، وقامت في حريملاء حروب وخصومات بين أنصار الدعوة وأعدائها، وكذلك قامت بين حريملاء والدرعية حروب وخصومات أخرى. انتهت بانتصار الدرعية وخضوع حريملاء خضوعا مطلقاً. الخطر الخارجي:
 
على أن هذه الحروب لم تظل في دائرتها الداخلية الضيقة، فقد هجم العراقيون وأهل الحجاز على بلاد نجد بتحريض من الأتراك العثمانيين، وكل يدعي الحفاظ علي الدين والغيرة على تعاليمه، فتبلبلت أفكار المسلمين في سائر البلاد، وقذفت السياسة في هذا الصراع بسيل من الدعايات المغرضة، وخيلت للناس أن الشيخ متنبئ جديد يحاول القضاء على الإسلام والتعفية على آثاره، واستطاعت بذلك أن تؤلب المسلمين عليه في كل مكان. وتوفي الشيخ رحمه الله في إبان هذه المعارك سنة ١٢٠٦هـ-١٧٩٢م وله من العمر اثنان وتسعون عاماً، ولما يشهد نهاية هذا الكفاح الخالد، لكنه رأى مبادئه الإصلاحية ودعوته الإسلامية السلفية تشق طريقها، وتسود في جزيرة العرب بفضل تأييد آل سعود الذين أصبحوا خلفاء في نشر دعوته إلى يومنا هذا، والذين بنوا ملكهم على أساس هذه الدعوة السلفية العظيمة، وإذا كانت الحروب قد نالت من النجديين وأثقلت كواهلهم حيناً من الدهر، فإنها كانت الصقال الذي شحذ عزائمهم، وحرك هممهم، وأثار حماستهم للدفاع عن حوزة بلادهم، ونصرة مبادئهم وكان لهم الغلب في آخر المطاف.
والسر في نجاح النجديين في حركتهم هذه يرجع إلى قوة الإيمان التي بثها الشيخ فيهم، والصمود في سبيل. الدعوة، والاستبسال في الجهاد، وتعبئة قوى الشعب، وتعليمه فنون الحرب إلى جانب تعاليم الشريعة، فلقد كان بمنزل الشيخ مدرسة تسمى "وكر التوحيد"تلقن فيها علوم الدين طرفي النهار وفنون الحرب في أوسطه، وكان لذلك أثر عظيم في تقوية الروح المعنوية عند أنصار الدعوة ورجالها
 
.  خطب الشيخ ورسائله:
قضى الشيخ طوال حياته معلماً وواعظاً، مرشداً مبينا لأحكام الدين، حاضاً على إتباعه والعزوف عما ينافي التوحيد من ضلال وبدع وشرك، ومحرضا على الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، وقد حفظ بعض أحفاده كثيراً من خطبه، ولقد كان في خطبه يميل إلى مخاطبة قوية باللغة التي يفهمونها، وكان همه منصرفا إلى المعاني لا إلى العبارات والتأنق في الأساليب، ولو فشل لأضاع كثيراً من جهده سدى، فما كانت البيئة النجدية في زمنه تتقبل غير الطريق الذي سار عليه.مثال من رسائل الشيخ
وهذه رسالة من رسائل الشيخ التي يشرح فيها عقيدته السلفية، وهي رسالة موجهة منه إلى أهل القصيم بنجد قال رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقده أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث والموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله، الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ١ فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف ولا أمثل صفاته بصفات خلقه، لأنه تعالى لا سمي له ولا كفء، ولا ند له ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه وتعالى أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق من أهل التحريف والتعطيل، فقال الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ٢ فالفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية، وهم وسط في باب وعيد الله المرجئة والوعيدية، هم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله بين الروافض والخوارج.
وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ.  وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأومن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته ولا يخرج عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور، وأعتقد بكل ما أخبر به صلى لله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، وأومن –بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا تدنو منهم الشمس وتنصب الموازيين، وتوزن بها أعمال العباد: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} ١ وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، وأومن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرضه القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم، وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضا، كما قال الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ. إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ١ وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ٢ وهو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا ِلأهله.
 
وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ٣ وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته، وأومن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته، وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم على المرتضى، ثم بقية العشرة المشهود لهم بالجنة، ثم أهل بدر ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضوان الله عليهم، وأتولى أصحاب رسول الله، وأذكر محاسنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساوئهم، وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم عملا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ٤ وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء، وأقر بكرامات الأولياء إلا أنهم لا يستحقون من حق الله شيئا، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار. إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحداً من المسلمين بذنبه، ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد مع كل إمام براً كان أو فاجراً، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله. ومن ولي الخلافة وجبت طاعته وحرم الخروج عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأوكل أسرارهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الظاهرة. فهذه عقيدة وجيزة حررتها لتطلعوا على ما عندي والله على ما نقول شهيد. 
أثر الشيخ في النهضة العلمية والأدبية:
لا مراء في أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الصرخة المدوية، والصيحة التي نبهت الأمة من رقدتها، ووجهت الأنظار إلى البحث والجدل، مناقشة الآراء وقرع الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، وحملت الناس على النظر في الكتاب العزيز، واستظهار كثير من آياته ومن الحديث النبوي الشريف، وهما الغاية القصوى من البلاغة والبيان والعلوم الدينية والعربية، تتشابك وتترابط، ولا يمكن الفصل بينهما إذ أن علوم اللسان العربي كلها ما قامت إلا لخدمة الكتاب والسنة وفهمها فهماً صحيحاً، فكان لا بد من قيام حركة علمية شاملة، ونهضة فكرية عامة، ولكن لم تتكامل الأسباب لتنظيم هذه النهضة وتعميمها إلا قريبا، ومع ذلك خطت خطوات واسعة إلى الأمام، إذا سارت الأمور على هذا المنوال فإنها تبشر بظهور فجر جديد يجعل معه هذه الجزيرة كما كانت من قبل منهلا للآداب، ومنبعاً للعلوم والمعارف، ومهداً للحضارة الحقة والمدنية الصادقة. 
 
مؤلفات الإمام وآثاره العلمية:
تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، وكتاب التوحيد وكشف الشبهات في معنى التوحيد وما يخالفه، وكتاب معرفه العبد ربه ودينه، وكتاب مفيد المستفيد، وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومختصر الإنصاف، وكتاب الكبائر، وله رسالة عن التقليد، ومختصر الشرح الكبير، ومختصر الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، وكتاب النبذة في معرفة الدين الذي معرفته والعمل به سبب لدخول الجنة والجهل به سبب لدخول النار.
 
انتشار الدعوة خارج الجزيرة العربية:
إن استيلاء آل سعود على الحجاز، ودخولهم مكة والمدينة في أوائل القرن الثاني عشر الهجري، أعطى الفرصة لسائر الحجاج من مختلف البلاد الإسلامية ليتعرفوا أهداف الدعوة، ويلتقوا بدعاتها، ويناقشوهم فيما يدعون إليه، وكان من نتائج هذا أن اعتنق بعض الحجاج هذه المبادئ، وتعصبوا لها، ثم حصلوها معهم ودعوا إليها في بلادهم بعد رجوعهم إليها، فانتقلت هذه المبادئ الإصلاحية إلى السودان وإلى الهند وسومطرة في أسيا، وكان هدف دعاتها في كل مكان تحل به هو محاربة الفساد، والقضاء على البدع والخرافات، وتصحيح العقيدة الدينية، ثم محاولة إقامة حكومة صالحة على أساس ديني لتنفيذ الأحكام الشرعية، وتقيم الحدود، كما انتقلت هذه الدعوة إلى مصر والشام وزنجبار واليمن، وكذلك الحركة السنوسية التي ابتدأت في الجزائر أواسط القرن التاسع عشر، ثم غزت طرابلس بعد ذلك، وانتشرت في شمال أفريقيا، ثم مدت رواقها نحو الجنوب، فتمكنت في السودان، وأن هذه الحركة السنوسية ناهضت الاستعمار في كل مكان حلت فيه، والتي كان مؤسسها في مكة يطلب العلم وقت استيلاء آل سعود. عليها، فعاشرهم وتتلمذ على علمائها، وتأثر بدعوتهم، ثم عاد إلى الجزائر وابتدأ حركته الإصلاحية على ضوء تعاليم الإصلاح الدينية الإسلامية التي أضرم نارها في الجزيرة العربية الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وجزاه عن الإسلام خير الجزاء.
 
ومن آثار هذا اللقاء الإسلامي السياسي بين مؤسس الدولة السعودية الأول الإمام محمد بن سعود، ومؤسس الدعوة السلفية الأول في العصر الحديث الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
١- الدعوة إلى توحيد الله لا شريك له، ومحاربة الشرك، وأن لا يصدق شيئاً من العبادة لغير الله لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وتجديد العقيدة الإٍسلامية السلفية الصحيحة، ومحاربة الشرك ونفي البدع، وطرح التقاليد والعادات الباطلة، وتحقيق التوحيد، والدفاع عنه، ومحاربة الخرافات، والتوسل والوسيلة وتحريم التمسح بالقبور والأضرحة، وجعلهم واسطة بينهم وبين الله، والدعوة إلى صدق العبادة وإخلاصها لله رب العالمين، فلا إله غيره ولا معبود سواه.
٢- إعلان الدعوة إلى الله، وجمع القلوب حول هذه الدعوة الإسلامية السلفية التي قيم الله لها دولة قوية تحميها، وسلطة سياسية كبيرة تدافع عنها، وهي الدولة السعودية.  الماجدة الخالدة في صفحات التاريخ دولة القرآن والسنة، دولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٣- تنظيم بيت المال تنظيماً إسلامياً خالصاً على أساس من شريعة الإسلام، وعمل الرسول والصحابة، والسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.
٤- إقامة هذه المملكة العربية السعودية الإٍسلامية السلفية، التي تحكم بكتاب الله وشريعة رسوله، تنفيذاً لقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ١، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ٢، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ٣ ولا شيء ينفذ إلا ما أقره الله ورسوله والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
٥- إلزام الناس بأداء فرائض الصلاة وعدم التهاون في أمور الدين، وحضور الصلوات الخمس في المساجد جمعة وجماعة في أوقاتها.
٦- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة إسلامية على كل مسلم ومسلمة.
٧- الإلزام بطلب العلم وأنه فريضة على كل مسلم ومسلمة
.في كل زمان ومكان.
٨- تعاون الجماعة الإٍسلامية لنشر هذه الدعوة السلفية، والدفاع عنها ومحاربة أعدائها ورد عاديات العدوان عليها.
 
رسالتان هامتان تشرحان عقيدة الشيخ وحقيقة دعوته السلفية
الرسالة الأولى
مقدمة
...
رسالتان هامتان تشرحان عقيدة الشيخ وحقيقة دعوته السلفية
رسالة الحاكم العادل والعالم العامل الإمام عبد العزيز ابن الإمام محمد بن سعود رحمه الله في حقيقة دعوة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى من يراه من العلماء والقضاة في الحرمين الشام ومصر والعراق وسائر علماء الشرق والمغرب:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله عز وجل شأنه، وتعالى سلطانه، لم يخلق الخلق عبثاً، ولا تركهم سدى، وإنما خلقهم لعبادته،. فأمرهم بطاعته، وحذرهم مخالفته، وأخبرهم تعالى أن الجزاء واقع لا محالة، إما في ناره بعدله، أو في جنته بفضله ورحمته، قد أخبر عز وجل بذلك في كل كتاب أنزله، وعلى لسان كل رسول أرسله، كما نطقت بذلك الآيات القرآنية، وأخبرتنا به الأحاديث النبوية، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ١ وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ٢ وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ٣، فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، مختصة بجلاله وعظمته، فهي الغاية المحبوبة له تعالى شأنه والمرضية له، وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ٤ وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم من الرسل، كل قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وذلك أن الإله يطلق على كل معبود بحق أو بباطل والإله الحق هو الله قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ٥ وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ٦ وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}  

الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط-5

$
0
0

الدولة العثمانية - عوامل النهوض وأسباب السقوط تأليف: علي محمد محمد الصلابي

 

إن السلطان محمد الفاتح يحذر وليه من بعده أن ينغمر بالمال أو الجند ويبين له خطورة ابعاد العلماء والفقهاء عن الحاكم، كما يحذره من أن يخالف أحكام الشريعة، لأن ذلك يجلب للأفراد والأمة تعاسة وضنكاً في الدنيا وهلاكاً وعذاباً في الآخرة وإن آثار الابتعاد عن شرع الله وأحكامه تبدو على حياة الأمة في وجهتها الدينية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية.
وإن الفتن تظل تتابع وتتوالى على الناس حتى تمس جميع شؤون حياتهم قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (سورة النور، الآية: ١٣). إن من الآثار عن الابتعاد عن أحكام الشريعة أن تصاب الأمة بالتبلد وفقد الاحساس بالذات وموات ضميرها الروحي فلا أمر بمعروف تأمر به ولا نهي عن منكر تنهى عنه ويحدث لها ماحدث لبني إسرائيل عندما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون .. } (سورة المائدة، الآيات ٧٨ - ٧٩).
فإن أي أمة لاتعظم شرع الله أمراً ونهياً فإنها تسقط كما سقط بنو إسرائيل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأْخُذْنَّ ثم لتأْخُذْنَّ على يد الظالم ولتأطرنه على الحق اصراً، ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله على قلوب بعضكم ببعض ثم ليلعنكم كما لعنهم) (١).
وعندما تتغير النفوس من الطاعة والانقياد لأحكام الله إلى المخالفة والتمرد على أحكام الله تتحقق فيهم سنة الله الماضية بسبب تغير النفوس: {ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (سورة الأنفال: آية ٥٣) كما يترتب على ذلك توقف حركة الفتوح الإسلامية وتحرم شعوب كثيرة من سعادتها في الدنيا والآخرة بسبب تضييع أحكام الشريعة وارتكاب ما يخالفها من أفعال قبيحة وتحدث الحروب فيما بين المسلمين وتكثر الاعتداءات على الأنفس والأموال والأعراض كما يقوى الأعداء وتشتد شوكتهم ويغيب نصر الله على الإسلام والمسلمين ويحرموا من التمكين ويصبحوا في خوف وفزع وجوع، وتضيع المدن والقرى ويتسلط عليها الأعداء وتتوالى المصائب وهذا ما حدث في تاريخ الدولة العثمانية المتأخر.
إن من سنن الله تعالى المستنبطة من حقائق الدين وأحداث التاريخ أنه إذا عصي الله تعالى ممن يعرفونه سلّط عليهم من لايعرفونه كما حدث في تسليط النصارى على المسلمين في الأندلس (٢) وكما فعل اليهود والانجليز والروس .. في تفتيت الدولة العثمانية.
إن السر في قوة العثمانيين وعزهم وشرفهم كامنة في طاعة الله وتنفيذ أحكامه، والالتزام بشريعته والجهاد في سبيله والدعوة إليه ولذلك قال محمد الفاتح لابنه (فإن الدين غايتنا والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا).
١٣ - (واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله):
إن تعزيز هذا الدين وإقامته في الأرض يحقق نتائج طيبة في حياة الأمة والدولة، ومن هذه النتائج تهذيب النفس من الشرور والآثام وترويضها على الخير، لذا كان الوازع الديني ثمرة من ثمار تعزيز هذا الدين ويكون مانعاً من ارتكاب الجريمة ومحاسبة النفس عليها، ويكون ماثلاً أمام العين مما يجعل النفس تخشى الله وتتقيه دائماً وأبداً كما أن تعزيز الدين وإقامة الشرع يحقق المساواة بين الراعي والرعية في الحقوق والواجبات وتنشر العدالة في الدولة الإسلامية لجميع ساكنيها، كما أن في تطبيق الشريعة نزول البركة، وتوالي النعم، إذ ليس هناك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة وطريق مستقل لصلاح الحياة في الدنيا، إنما هو طريق واحد تصلح به الدنيا والآخرة، وفي تطبيقها بركات في النفوس وبركات في المشاعر وبركات في طيبات الحياة، فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، ومن نتائج تطبيقها بناء مجتمع إسلامي معتز بدينه وعقيدته بما التزمه من سلوك مصدره كتاب الله وسُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ففيهما المواد اللازمة لبناء الفرد المسلم والجماعة المسلمة والأمة المسلمة والدولة المسلمة كما أن من النتائج حفز الهمم، وبعث النفوس إلى الأخذ بأسباب العلم والحضارة والرقي والتقدم لما تضمنته تلك الشريعة من الدعوة إلى الحياة كما أنها تتضمن نبذ عفن الحياة الحضاري لمجتمعات الرذيلة أياً كانت وأينما وجدت (٣).
إن الناس يحتاجون إلى العلماء الربانيين ليعلموهم دينهم ويربون نفوسهم على طاعة الله ولذلك لابد من القيادة الإسلامية من احترامهم وتقديرهم وإكرامهم، فهم الذين يبينون  للناس حكم الله ورسوله وتفسير النصوص الشرعية وفق قواعد الإسلام الكلية قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون}.
١٤ - (ولا تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو أو أكثر من قدر اللزوم فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك):
إن هذه الوصية ترشد ولي عهد السلطان محمد الفاتح إلى الاعتدال والتوسط في الاستهلاك وهذه الوصية فهم لأمر الله ورسوله بالقصد والتوسط ولقد أنزل الله كثيراً من الآيات التي تمتدح في التفقه وذم ماسواه من البخل والشح والتبذير والإسراف والترف قال تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولاتبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً} (الإسراء: ٢٩). وقال تعالى يصف المؤمنين: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (سورة الفرقان، الآية: ٦٧).
إن السلطان محمد الفاتح يرى وجوب ابتعاد الحاكم ودولته عن الإسراف لأن فيه معصية الله ورسوله.
إن الدولة العثمانية كدولة مجاهدة كانت لها خطة اقتصادية لتدبير موارد الأمة في ظروف الحرب لتأمين احتياجات جيشها، وتوفير الحاجات الضرورية لشعبها من السلع والخدمات ولذلك كان السلاطين الأوائل في الدولة العثمانية يمنعون الإسراف والتبذير في القطاع الحكومي والقطاع الخاص وكانت الدولة ترشد الاستهلاك العام والخاص حتى لاتقع الأمة في أزمات اقتصادية خلال الحرب التي تسبب في هزائم الأمم، فكانت الدولة بالتعاون مع قطاعات أخرى حكومية وشعبية تقوم بما يلي:
١ - توفير الأموال اللازمة للإنفاق على الحرب، وعلى ضروريات المجتمع من الغذاء والدواء والحماية.
٢ - توفير الإمدادات اللازمة خلال الحروب والأزمات.
٣ - تعويض النقص من مخزون السلع والأجهزة الحيوية من الإنتاج المحلي بقدر الإمكان.
٤ - السيطرة على التضخم في الأسعار الذي يصاحب عادة حالات الحرب.
٥ - التوزيع العادل للسلع والخدمات الضرورية بما يؤمن حد الكفاية لكل فئات المجتمع (١).
إن الدول التي تقع في الترف واللهو وتصرف أموالها، في غير محلها مآلها إلى الهلاك والدمار. ولقد أدى الترف إلى انغماس بعض السلاطين المتأخرين في حياة الفسق واللهو بحيث يقضون أوقاتهم في الملذات وقضاء أوقاتهم بين الحريم وقد أدى ذلك إلى الابتعاد عن أمور الحكم وتركها للصدور العظام وللحريم، فانعكس ذلك على ضعف السلاطين، وعدم قدرتهم على تسيير أمور الدولة وقيادة الجيش، مما أثر على أوضاع الدول وأدى إلى ضعفها ثم اضمحلالها وضياعها فيما بعد (٢).
وفاة السلطان محمد الفاتح وأثرها على الغرب والشرق
في شهر الربيع من عام ٨٨٦هـ - ١٤٨١م غادر السلطان الفاتح القسطنطينية إلى آسيا الصغرى حيث كان قد أُعد في اسكدار جيش آخر كبير. وكان السلطان محمد الفاتح قبل خروجه من استنبول قد أصابته وعكة صحية إلا أنه لم يهتم بذلك لشدة حبه للجهاد وشوقه الدائم للغزو وخرج بقيادة جيشه بنفسه، وقد كان من عادته أن يجد في خوض غمار المعارك شفاء لما يلم به من أمراض إلا أن المرض تضاعف عليه هذه المرة وثقلت وطأته بعد وصوله إلى اسكدار فطلب أطباءه. غير أن القضاء حم به فلم ينفع فيه تطبيب ولا دواء، ومات السلطان الفاتح وسط جيشه العرمرم يوم الخميس الرابع من ربيع الأول ٨٨٦هـ (٣ مايو ١٤٨١م) وهو في الثانية والخمسين من عمره بعد أن حكم نيفاً وثلاثين عاماً (٣).
وبعد أن ذاع نبأ الوفاة في الشرق والغرب، أحدث دوياً هائلاً اهتزت له النصرانية والإسلام، أما النصرانية فقد غمرها الفرح والابتهاج والبشرى وأقام النصارى في رودس صلوات الشكر على نجاتهم من هذا العدو المخيف (٤) وكانت جيوش الدولة العثمانية قد وصلت إلى جنوب إيطاليا لفتح كل ايطاليا وضمها للدولة العثمانية إلا أن خبر الوفاة وصلهم فانتاب الجنود هم شديد وحزن عميق واضطر العثمانيون في الدخول لمفاوضات مع ملك نابولي لينسحبوا آمنين على حياتهم وامتعتهم وعتادهم وتمّ الاتفاق على ذلك إلا أن النصارى لم يفوا بما تعهدوا واعتقلوا بعض الجنود. الذين كانوا في المؤخرة وصفدوهم بالحديد (١).
وعندما وصل خبر وفاة السلطان إلى روما ابتهج البابا وأمر بفتح الكنائس وأقيمت فيها الصلوات والاحتفالات، وسارت المواكب العامة تجوب الشوارع والطرقات وهي تنشد أناشيد النصر والفرح بين طلقات المدافع وظلت هذه الاحتفالات والمهرجانات قائمة في روما طيلة ثلاثة أيام، لقد تخلصت النصرانية بوفاة محمد الفاتح من أعظم خطر كان يهددها (٢).
لم يكن أحد يعلم شيئاً عن الجهة التي كان سيذهب إليها السلطان الفاتح بجيشه، وذهبت ظنون الناس في ذلك مذاهب شتى. فهل كان يقصد رودس ليفتح هذه الجزيرة التي امتنعت على قائده مسيح باشا؟ أم كان يتأهب للحاق بجيشه الظافر في جنوبي إيطاليا ويزحف بنفسه بعد ذلك إلى روما وشمالي إيطاليا ففرنسا وإسبانيا؟
لقد ظل ذلك سراً طواه الفاتح في صدره ولم يبح به لأحد ثم طواه الموت بعد ذلك (٣).
لقد كان من عادة الفاتح أن يحتفظ بالجهة التي يقصدها ويتكتم أشد التكتم ويترك أعداءه في غفلة وحيرة من أمرهم، لايدري أحدهم متى تنزل عليه الضربة القادمة ثم يتبع هذا التكتم الشديد بالسرعة الخاطفة في التنفيذ فلا يدع لعدوه مجالاً للتأهب والإستعداد (٤) وذات مرّة سأله أحد القضاة أين تقصد بجيوشك فأجابه الفاتح: "لو أن شعرة في لحيتي عرفت ذلك لنتفتها وقذفت بها في النار ... " (٥).
إن من أهداف الفاتح أن يمضي بفتوحات الإسلام من جنوب إيطاليا إلى أقصاها في الشمال ويستمر في فتوحاته بعد ذلك إلى فرنسا وأسبانيا وماوراءها من الدول والشعوب والأمم.
لقد تأثر المسلمون في العالم الإسلامي لوفاة محمد الفاتح وحزنوا عليه حزناً عميقاً وبكاه المسلمون في جميع أقطار المعمورة، لقد بهرتهم انتصاراته، واعاد إليهم سيرة المجاهدين الأوائل من السلف الصالح (٦).
قال عن وفاته عبد الحي بن العماد الحنبلي في وفيات سنة ست وثمانين وثمانمائة: ( .. كان.  .من أعظم سلاطين بني عثمان وهو الملك الضليل الفاضل النبيل العظيم الجليل أعظم الملوك جهاداً وأقواهم اقداماً واجتهاداً وأثبتهم جأشاً وقواداً وأكثرهم توكلاً على الله واعتماداً وهو الذي أسس ملك بني عثمان وقنن لهم قوانين صارت كالأطواق في أجياد الزمان وله مناقب جميلة ومزايا فاضلة جليلة وآثار باقية في صفحات الليالي والأيام ومآثر لايمحوها تعاقب السنين والأعوام وغزوات كسر بها أصلاب الصلبان والأصنام من أعظمها أنه فتح القسطنطينية الكبرى وساق إليها السفن تجري رخاءً براً وبحراً هجم عليها بجنوده وأبطاله وأقدم عليها بخيوله ورجاله وحاصرها خمسين يوماً أشد الحصار وضيق على من فيها من الكفار الفجار وسل على أهلها سيف الله المسلول وتدرع بدرع الله الحصين المسبول ودق باب النصر والتأييد ولج ومن قرع باباً ولج ولج وثبت على متن الصبر إلى أن أتاه الله تعالى بالفرج ونزلت عليه ملائكة الله القريب الرقيب بالنصر العزيز من الله تعالى والفتح القريب ففتح استنبول في اليوم الحادي والخمسين من أيام محاصرته وهو يوم الأربعاء العشرين من جمادي الآخرة سنة سبع وخمسين وثمانمائة وصلى في أكبر كنائس النصارى صلاة الجمعة وهي أيا صوفيا وهي قبة تسامى قبة السماء وتحاكي في الاستحكام قبب الاهرام ولا وهت ولا وهت كبراً ولاهرماً وقد أسس في استنبول للعلم أساساً راسخاً لايخشى على شمسه الأفول وبنى مدارس كالجفان لها ثمانية أبواب سهلة الدخول وقنن بها قوانين تطابق المعقول والمنقول فجزاه الله خيراً عن الطلاب ومنحه بها أجراً وأكبر ثواب فإنه جعل لهم أيام الطلب مايسد فاقتهم ويكون به من خمار الفقر افاقتهم وجعل بعد ذلك مراتب يترقون اليها ويصعدون بالتمكن والاعتبار عليها إلى أن يصلوا إلى سعادة الدنيا ويتوسلون بها أيضاً إلى سعادة العقبى وأنه رحمه الله تعالى استجلب
العلماء الكبار من أقصى الديار وأنعم اليهم وعطف باحسانه اليهم كمولانا علي القوشجي والفاضل الطوسي والعالم الكوراني وغيرهم من علماء الإسلام وفضلاء الأنام فصارت استنبول بهم أم الدنيا ومعدن الفخار والعليا واجتمع فيها أهل الكمال من كل فن، فعلماؤها إلى الآن أعظم علماء الإسلام وأهل حرفها أدق الفطناء في الأنام وأرباب دولتها هم أهل السعادة العظام فللمرحوم المقدس قلادة منن لاتحصى في أعناق المسلمين لاسيما العلماء الأكرمين (١).
فرحمة الله ومغفرته ورضوانه على السلطان محمد الفاتح وأعلى ذكره في المصلحين.   
 
الفصل الرابع
السلاطين الأقوياء بعد محمد الفاتح
 
المبحث الأول
السلطان بايزيد الثاني
بعد وفاة السلطان محمد الفاتح تولى ابنه بايزيد الثاني (٨٨٦هـ - ٩١٨هـ) السلطة في البلاد وكان سلطاناً وديعاً، نشأ محباً للأدب، متفقهاً في علوم الشريعة الإسلامية شغوفاً بعلم الفلك. واستعان بالخبراء الفنيين اليونانيين والبلغاريين في تحسين شبكة الطرق والجسور لربط أقاليم الدولة ببعضها (١).
أولاً: الصراع على السلطة مع أخيه:
كان الأمير جم عندما بلغه وفاة أبيه يقيم في بروسة، وقد استطاع أن يتحصل على اعتراف السكان به سلطاناً على الدولة العثمانية في المناطق الخاضعة له، وبعد أن استتب له الأمر في بروسه وماحولها، أرسل إلى أخيه بايزيد يطلب منه عقد الصلح، ويقترح عليه التنازل، ورفض السلطان بايزيد ذلك لأن والده أوصى له بالحكم من بعده، لكن الأمير جم لم يقتنع بذلك فعاد واقترح على أخيه بايزيد تقسيم الدولة العثمانية إلى قسمين: القسم الأوربي لبايزيد والقسم الآسيوي له، ولكن بايزيد رفض أيضاً مبدأ التقسيم من أساسه لأن ذلك سوف يعمل على تفتيت الدولة التي سهر أسلافه على بنائها وتوحيدها، وأصر على أن تبقى الدولة موحدة تحت سلطته وأعد جيشاً ضخماً وسار به إلى بروسه وهاجمها وفر منها جم إلى سلطان المماليك قايتباي في مصر (٢) فرحب به وأكرمه وأمده بجميع ما احتاجه من أموال للسفر مع أسرته إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. ولما عاد من الأراضي المقدسة إلى مصر أرسل إليه السلطان بايزيد يقول له: (بما أنك اليوم قمت بواجباتك الدينية في الحج، فلماذا تسعى إلى الأمور الدنيوية، من حيث أن الملك كان نصيبي بأمر الله، فلماذا تقاوم إرادة الله؟ فأجابه بقوله: هل من العدل أن تضطجع على مهد الراحة والنعيم وتقضي أيامك بالرغد واللذات، وأنا أحرم من اللذة والراحة وأضع رأسي على الشوك (٣)؟ وقام جم بالاتصال بكبار
أتباعه في الأناضول، وأثارهم ضد بايزيد، وتقدم بأتباعه ليغتصب العرش، ولكنه هزم، واستأنف المحاولة فهزم أيضاً.
والتجأ جم إلى رودس حيث يوجد بها فرسان القديس يوحنا، وعقد مع رئيس الفرسان اتفاقاً إلا أنه نقضه تحت ضغط بايزيد وأصبح جم سجيناً في جزيرة رودس، وكسب فرسان القديس يوحنا بهذه الرهينة الخطيرة امتيازات طوراً من بايزيد الثاني، ومرة أخرى من أنصار جم بالقاهرة، فلما تحصل على أموال ضخمة باع رهينته للبابا أنوست الثامن، فلما مات هذا البابا ترك جم لخلفه اسكندر السادس ولكن الأخير لم يبق على جم كثير حيث قتل واتهم في ذلك بايزيد الثاني الذي تخلص من خطر أخيه (١).
ثانياً: موقف السلطان بايزيد من المماليك:
حدثت معارك بين العثمانيين والمماليك على الحدود الشامية إلا أنها لم تحتدم إلى حد التهديد بحدوث حرب شاملة بينهما، وإن كانت قد أسهمت في أن يخيم شعور بعدم الثقة بينهما الأمر الذي أدى إلى تعثر مفاوضات الصلح سنة ١٤٩١م ومع أن السلطان المملوكي "قايتباي "قد ساورته مخاوف من احتمال قيام حرب واسعة بينه وبين العثمانيين سواء لإدراكه ما كان عليه العثمانيون من قوة أو لانشغال جزء هام من قواته في مواجهة البرتغاليين، إلا أن السلطان العثماني "بايزيد الثاني "قد بدّد له هذه المخاوف حيث قام بإرسال رسول من قبله إلى السلطان المملوكي سنة ١٤٩١م ومعه مفاتيح القلاع التي استولى عليها العثمانيون على الحدود وقد لقى هذا الأمر ترحيباً لدى السلطان المملوكي فقام بإطلاق سراح الأسرى العثمانيين، وأسهمت سياسة بايزيد السلمية في عقد صلح بين العثمانيين والمماليك في نفس السنة (١٤٩١م) وظل هذ الصلح سارياً حتى نهاية عهد السلطان بايزيد الثاني عام ١٥١٢م وأكد هذا الحدث على حرص السلطان بايزيد في سياسة السلام مع المسلمين (٢).
ثالثاً: السلطان بايزيد الثاني والدبلوماسية الغربية:
استمرت راية الجهاد مرفوعة طيلة عهد السلطان بايزيد وأدرك الأعداء، أنه لايستطيعون مواجهة القوات الجهادية في حرب نظامية يحققون فيها أطماعهم لهذا لجأوا إلى أسلوب خبيث تستروا به تحت مسمى العلاقات الدبلوماسية لكي ينخروا في عظام الأمة
ويدمروا المجتمع المسلم من الداخل، ففي عهد السلطان بايزيد وصل أول سفير روسي إلى (إسلامبول) عام (٨٩٨هـ / ١٤٩٢م).
إن وصول السفير الروسي عام (١٤٩٢م) على عهد دوق موسكو (إيفان) وما تابع ذلك، وما أعطى له ولغيره من حصانة وامتيازات، فتح الباب أمام أعداء الأمة الإسلامية لكشف ضعفها ومعرفة عوراتها، والعمل على إفسادها والتآمر عليها بعد تدميرها وإضعاف سلطان العقيدة في نفوس أبنائها.
وفي عهد بايزيد الثاني في عام (٨٨٦هـ) استطاع دوق موسكو (إيفان الثالث) أن ينتزع إمارة (موسكو) من أيدي المسلمين العثمانيين، وبدأ التوسع على حساب الولايات الإسلامية (١).
ولا يعني ذلك أن السلطان (بايزيد) وقف موقفاً ضعيفاً أمام هذه الظروف ولكن الدولة كانت تمر بظروف صعبة في محاربتها لأعداء الإسلام على امتداد شبه جزيرة الأناضول، وأوروبا الشرقية كلها، فانشغلت بها (٢).
رابعاً: وقوفه مع مسلمي الأندلس:
تطورت الأحداث في شبه الجزيرة الأيبرية في مطلع العصور الحديثة، فأصبح اهتمام الأسبان ينحصر في توحيد أراضيهم، وانتزاع ماتبقى للمسلمين بها خصوصاً بعد ما خضعت لسلطة واحدة بعد زواج ايزابيلا ملكة قشتالة وفريدناند ملك أراغوان، فاندفعت الممالك الأسبانية المتحدة قبيل سقوط غرناطة في تصفية الوجود الإسلامي في كل اسبانيا، حتى يفرغوا أنفسهم ويركزوا إهتمامهم على المملكة الإسلامية الوحيدة غرناطة، التي كانت رمز للمملكة الإسلامية الذاهبة (٣).
وفرضت اسبانيا أقسى الإجراءات التعسفية على المسلمين في محاولة لتنصيرهم وتضييق الخناق عليهم حتى يرحلوا عن شبه الجزيرة الأيبرية.
نتيجة لذلك لجأ المسلمون - المورسكيون - إلى القيام بثورات وانتفاضات في أغلب المدن الأسبانية والتي يوجد بها أقلية مسلمة وخاصة غرناطة وبلنسية وأخمدت تلك الثورات بدون رحمة ولاشفقة من قبل السلطات الأسبانية التي اتخذت وسيلة لتعميق الكره
والحقد للمسلمين، ومن جهة أخرى كان من الطبيعي أن يرنوا المورسكيون بأنظارهم إلى ملوك المسلمين في المشرق والمغرب لإنقاذهم وتكررت دعوات وفودهم ورسائلهم إليهم للعمل على انقاذهم مما يعانوه من ظلم، وخاصة من قبل رجال الكنيسة ودواوين التحقيق التي عاثت في الأرض فساد وأحلت لنفسها كل أنواع العقوبات وتسليطها عليهم (١).
وكانت أخبار الأندلس قد وصلت إلى المشرق فارتج لها العالم الإسلامي (٢). وبعث الملك الأشرف بوفود إلى البابا وملوك النصرانية يذكرهم بأن النصارى الذين هم تحت حمايته يتمتعون بالحرية، في حين أن أبناء دينه في المدن الأسبانية يعانون أشد أنواع الظلم، وقد هدد باتباع سياسة التنكيل والقصاص تجاه رعايا المسيحيين، إذا لم يكف ملك قشتالة وأراغون عن هذا الاعتداء وترحيل المسلمين عن أراضيهم وعدم التعرض لهم ورد ما أخذ من أراضيهم ولم يستجيب البابا والملكان الكاثوليكيان لهذا التهديد من قبل الملك الأشرف ومارسوا خطتهم في تصفية الوجود الإسلامي في الأندلس، وجددت رسائل الاستنجاد لدى السلطان العثماني بايزيد الثاني، فوصلته هذه الرسالة: ( ..
الحضرة العلية، وصل الله سعادتها، وأعلى كلمتها، ومهد أقطارها، وأعز أنصارها، وأذل عداتها، حضرة مولانا وعمدة ديننا ودنيانا، السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين، كهف الإسلام، وناصر دين نبينا محمد عليه السلام، محي العدل، ومنصف المظلوم ممن ظلم، ملك العرب، والعجم، والترك والديلم، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، ملك البرين وسلطان البحرين، حامي الذمار، وقامع الكفار، مولانا وعمدتنا، وكهفنا وغيثنا، لازال ملكه موفور الأنصار، مقرونا بالانتصار، مخلد المآثر والآثار مشهور المعالي والفخار، مستأثراً من الحسنات بما يضاعف به الأجر الجزيل، في الدار الآخرة والثناء الجميل، والنصر في هذه الدار، ولا برحت عزماته العلية مختصة بفضائل الجهاد ومجرد على أعداء الدين من بأسها، مايروي صدور السحر والصفاح، وألسنة السلاح بأذلة نفائس الذخائر في المواطن التي تألف فيها الأخاير مفارقة الأرواح للأجساد، سالكة سبيل السابقين الفائزين برضا الله وطاعته يقوم الأشهاد (٣) وكانت ضمن الرسالة أبيات القصيدة يمدح صاحبها فيها الدولة العثمانية والسلطان بايزيد، ويدعوا للدولة بدوام البقاء قائلاً:
سلام كريم دائم متجدد ... أخص به مولاي خير خليفة
سلام على مولاي ذي المجد والعلا ... ومن ألبس الكفار ثوب المذلة
سلام على من وسع الله ملكه ... وأيده بالنصر في كل وجهة
سلام على مولاي من دار ملكه ... قسطنطينية أكرم بها من مدينة
سلام على من زين الله ملكه ... بجند وأتراك من أهل الرعاية
سلام عليكم شرف الله قدركم ... وزادكم ملكاً على كل ملة
سلام على القاضي ومن كان مثله ... من العلماء الأكرمين الأجلة
سلام على أهل الديانة والتقى ... ومن كان ذا رأي من أهل المشورة
بعد ذلك وصفت القصيدة الحالة التي يعاني منها المسلمون وماتعرض له الشيوخ والنساء من هتك للإعراض ومايتعرض له المسلمين في دينهم حيث استطرد قائلاً:
سلام عليكم من عبيد تخلفوا ... بأندلس بالغرب في أرض غربة
أحاط بهم بحرٌ من الردم زاخر ... وبحرٌ عميق ذو ظلام ولجة
سلام عليكم من عبيد أصابهم ... مصاب عظيم يالها من مصيبة
سلام عليكم من شيوخ تمزقت ... شيوخهم بالنتف من بعد عزة
سلام عليكم من وجوه تكشفت ... على جملة الأعلاج من بعدة سترة
سلام عليكم من بنات عوائق ... يسوقهم اللباط قهراً لخلوة
سلام عليكم من عجائز أكرهت ... على أكل خنزير ولحم جيفة
بعد ذلك الوصف، أخذت القصيدة تعالج شكلاً آخر، إذ أخذت توضح شعور المسلمين نحو الدولة العثمانية وتقدم الشكوى للسلطان قائلة:
نقبل نحن الكل أرض بساطكم ... وندعوا لكم بالخير في كل ساعة
أدام الإله ملككم وحياتكم ... وعافاكم من كل سوءٍ ومحنة
.وأيدكم بالنصر والظفر بالعدا ... وأسكنكم دار الرضا والكرامة
شكونا لكم مولاي ماقد أصابنا ... من الضر والبلوى وعظم الرزية
ثم تعود القصيدة في شرح المأساة، وتغيير الدين ما إلى ذلك، فاستطردت بقولها:
غدرنا ونصرنا وبدل ديننا ... ظلمنا وعوملنا بكل قبيحة
وكنا على دين النبي محمد ... نُقاتل عمال الصليب بنية
وتلقي أموراً في الجهاد عظيمة ... بقتل وأسر ثم جوع وقلة
فجاءت علينا الروم من كل جانب ... بسيل عظيم جملة بعد جملة
ومالوا علينا كالجراد بجمعهم ... بجد وعزم من خيول وعدة
فكنا بطول الدهر نلقي جموعهم ... فنقتل فيها فرقة بعد فرقة
وفرسانها تزداد في كل ساعة ... وفرساننا في حال نقص وقلة
فلما ضعفنا خيموا في بلادنا ... ومالوا علينا بلدة بعد بلدة
وجاؤوا بأنفاظ عظام كثيرة ... تهدم أسوار البلاد المنيعة
وشدوا عليها الحصار بقوة ... شهوراً وأياماً بجد وعزمة
غدرنا ونصرنا وبدل ديننا ... ظلمنا وعوملنا بكل قبيحة
وكنا على دين النبي محمد ... نقاتل عمال الصليب بنية
وتلقى أموراً في الجهاد عظيمة ... بقتل وأسر ثم جوع وقلة
فجاءت علينا الروم من كل جانب ... بسيل عظيم جملة بعد جملة
ومالوا علينا كالجراد بجمعهم ... فنقتل فيها فرقة بعد فرقة
وفرسانها تزداد في كل ساعة ... وفرساننا في حال نقص وقلة
فلما ضعفنا خيموا في بلادنا ... ومالوا علينا بلدة بعد بلدة
وجاؤوا بأنفاظ عظام كثيرة ... تهدم أسوار البلاد المنيعة
وشدوا عليها الحصار بقوة ... شهوراً وأياماً بجد وعزمة
فلما تفانت خيلنا ورجالنا ... ولم نر من إخواننا من إغاثة
وقلت لنا الأقوات واشتد حالنا ... أحطناهم بالكره خوف الفضيحة
وخوفاً على أبنائنا وبناتنا ... من أن يؤسروا أو يقتلوا شر قتلة
على أن نكون مثل من كان قبلنا ... من الدجن من أهل البلاد القديمة
ثم تحدثت القصيدة عن الخيار في مثل هذه الحالة، فإما القبول بالوضع السابق أو الإرتحال، إذ استطردت قائلة:
ونبقى على آذاننا وصلاتنا ... ولانتركن شيئاً من أمر الشريعة
ومن شاء منا الجر جاز مؤمناً ... بما شاء من مال إلى أرض عدوة
إلى غير ذلك من شروطٍ كثيرة ... تزيد على الخمسين شرطاً بخمسة
فقال لنا سلطانهم وكبيرهم ... لكم ماشرطتم كاملاً بالزيادة
فكونوا على أموالكم ودياركم ... كما كنتم من قبل دون أذية
إلا أن الملكين الكاثوليكيين لم يفيا بتلك المواثيق إذ بدأ غدرهما على المسلمين فقال:
فلما دخلنا تحت عقد ذمامهم ... بدا غدرهم فينا بنقص العزيمة
وخان عهوداً كان قد غرنا بها ... ونصرنا كرهاً بعنف وسطوة
وأحرق ما كانت لنا من مصاحف ... وخلطها بالزبل أو بالنجاسة
وكل كتاب كان في أمر ديننا ... ففي النار ألقوه بهزءة وحقرة
ولم يتركوا فيها كتاباً لمسلم ... ولا مصحفاً يخلى به للقراءة
ومن صام أو صلى يعلم حاله ... ففي النار يلقوه كل حالة
ومن لم يجئ منا لموضع كفرهم ... يعاقبه اللباط شر العقوبة
ويلطم خديه ويأخذ ماله ... ويجعله في السجن في سوء حالة
وفي رمضان يفسدون صيامنا ... بأكل وشرب مرة بعد مرة
وهكذا مضت المسيحية في هتك الإسلام، وذل المسلمين، فمن تدخل في عبادة المسلم إلى شتم الإسلام فقالت القصيدة في ذلك:
وقد أمرونا أن نسب نبينا ... ولا نذكرنه في رخاء وشدة
وقد سمعوا قوماً يغنون باسمه ... فأدركهم منهم أليم المضرة
وعاقبهم حكامهم وولاتهم ... بضرب وتغريم وسجن وذلة
ومن جاءه الموت ولم يحضر الذي ... يذكرهم لم يدفنوه بحيلة
ويترك في زبل طريحاً مجدلاً ... كمثل حمار ميت أو بهيمة
إلى غير هذا من أمور كثيرة ... قباح وأفعال غزار ردية (١)

.بعد ذلك أخذ الملوك الكاثوليك في إذابة المجتمع المسلم وذلك بتغيير الهوية الإسلامية إذ قالت القصيدة:

وقد بدلت أسماءنا وتحولت ... بغير رضا منا وغير إرادة
فآها على تبديل دين محمد ... بدين كلاب الروم شر البرية
وآها على أسمائنا حين بُدلت ... بأسماء أعلاج من أهل القيادة
وآها على أبنائنا وبناتنا ... يروحون للباط في كل غدوة
يعلمهم كفراً وزوراً وفرية ... ولايقدروا أن يمنعوهم بحيلة
وآها على تلك المساجد سورت ... مزابل للكفار بعد الطهارة
وآها على تلك الصوامع علقت ... نواقيسهم فيها نظير الشهادة
وآها على تلك البلاد وحسنها ... لقد أظلمت بالكفر أعظم ظلمة
وصارت لعباد الصليب معاقلاً ... وقد أمنوا فيها وقوع الاغارة
وصرنا عبيداً لا أسارى فنفتدي ... ولا مسلمين منطقهم بالشهادة
ثم تتوجه القصيدة باستجداء السلطان لإنجادهم، وإنقاذهم من تلك المحنة فتقول:
فلو أبصرت عيناك ما صار حالنا ... إليه لجادت بالدموع الغزيرة
فيا ويلنا يابؤس ماقد أصابنا ... من الضر والبلوى وثوب المذلة
سألناك يا مولاي بالله ربنا ... وبالمصطفى المختار خير البرية
عسى تنظروا فينا وفيما أصابنا ... لعل إله العرش يأتي برحمة
فقولك مسموع وأمرك نافذ ... وما قلت من شيء يكون بسرعة
ودين النصارى أصله تحت حكمكم ... ومن ثم يأتيهم إلى كل كورة
فبالله يامولاي منوا بفضلكم ... علينا برأي أو كلام بحجة
فأنتم أولوا الأفضال والمجد والعلا ... وغوث عباد الله في كل آفة
كما طلب المسلمون أن يتوسط السلطان بايزيد الثاني لدى البابا في روما وذلك لما للسلطان من ثقل سياسي في أوروبا فقال:
فسل بابهم أعني المقيم برومة ... بماذا أجازوا الغدر بعد الأمانة
ومالهم مالوا علينا بغدرهم ... بغير أذىً منا وغير جريمة
وجنسهم المقلوب في حفظ ديننا ... وأحسن ملوك ذي وفاء أجلة
ولم يخرجوا من دينهم وديارهم ... ولانالهم غدر ولاهتك حرمة
ومن يعط عهداً ثم يغدر بعهده ... فذاك حرام الفعل في كل ملة
ولاسيما عند الملوك فإنه ... قبيح شنيع لايجوز بوجهة
وقد بلغ المكتوب منكم إليهم ... فلم يعلموا منه جميعاً بكلمة
ومازادهم إلا أعتداء وجرأة ... علينا وإقداماً بكل مساءة
ويشير المسلمون أن توسط ملوك مصر لدى المسيحيين لم تجد شيئاً، بل زادوا تعنتاً فقالوا:
وقد بلغت ارسال مصر إليهم ... ومانالهم غدر ولاهتك حرمة
وقالوا لتلك الرسل عنا بأننا ... رضينا بدين الكفر من غير قهرة
وساقوا عقود الزور ممن أطاعهم ... ووالله مانرضى بتلك الشهادة
لقد كذبوا في قولهم وكلامهم ... علينا بهذا القول أكبر فرية
ولكن خوف القتل والحرق رونا ... نقول كما قالوه من غير نية
ودين رسول مازال عندنا ... وتوحيدنا لله في كل لحظة
بعد ذلك أوضح المسلمون للسلطان بايزيد أنه مع كل ذلك فإنهم متمسكون بالدين الإسلامي ويؤكدون ذلك بقولهم:
ووالله مانرضى بتبديل ديننا ... ولا بالذي قالوا من أمر الثلاثة
وإن زعموا أنا رضينا بدينهم ... بغير أذى منهم لنا ومساءة
فسل وحرا عن أهلها كيف أصبحوا ... أسارى وقتلى تحت ذل ومهنة
وسل بلفيقاً عن قضية أمرها ... لقد مزقوا بالسيف من بعد حسرة
وضيافة بالسيف مزق أهلها ... كذا فعلوا أيضاً بأهل البشرة
وأندرش بالنار أحرق أهلها ... بجامعهم صاروا جميعاً كفحمة
ويكرر المسلمون ويجددوا الاستغاثة بالدولة العثمانية بعد تقديم هذه الشكوى:
فها نحن يامولاي نشكو إليكم ... فهذا الذي نلناه من شر فرقة
عسى ديننا يبقى لنا وصلاتنا ... كما عاهدونا قبل نقض العزيمة
وإلا فيجلونا جميعاً عن أرضهم ... بأموالنا للغرب دار الأحبة
فأجلاؤنا خير لنا من مقامنا ... على الكفر في عز على غير ملة
فهذا الذي نرجوه من عز جاهكم ... ومن عندكم تقضى لنا كل حاجة
ومن عندكم نرجو زوال كروبنا ... وما نالنا من سوء حال وذلة
فأنتم بحمد الله خير ملوكنا ... وعزتكم تعلو على كل عزة
فنسأل مولانا دوام حياتكم ... بملك وعز في سرور ونعمة
وتهدين أوطان ونصر على العدا ... وكثرة أجناد ومال وثروة
وثم سلام الله قلته ورحمة ... عليكم مدى الأيام في كل ساعة (١)
كانت هذه هي رسالة الاستنصار التي بعث بها المسلمون في الأندلس، لإنقاذ الموقف هناك، وكان السلطان بايزيد يعاني من العوائق التي تمنعه من إرسال المجاهدين، بالإضافة إلى مشكلة النزاع على العرش مع الأمير جم، وما أثار ذلك من مشاكل مع البابوية في روما وبعض الدول الأوروبية وهجوم البولنديين على مولدافيا والحروب في ترانسلفانيا والمجر والبندقية وتكوين التحالف الصليبي الجديد ضد الدولة العثمانية من البابا جويلس الثاني وجمهورية البندقية والمجر وفرنسا، وما أسفر عنه هذا التحالف (٢) من توجيه القوة العثمانية.  .لتلك المناطق، ومع ذلك قام السلطان بايزيد بتقديم المساعدة وتهادن مع السلطان المملوكي الأشرف لتوحيد الجهود من أجل مساعدة غرناطة ووقعا اتفاقاً بموجبه يرسل السلطان بايزيد اسطولاً على سواحل صقلية بإعتبارها تابعة لمملكة اسبانيا، وأن يجهز السلطان المملوكي حملات أخرى من ناحية أفريقيا (١) وبالفعل أرسل السلطان بايزيد اسطولاً عثمانياً تحول إلى الشواطئ الأسبانية، وقد أعطى قيادته إلى كمال رايس الذي أدخل الفزع والخوف والرعب في الأساطيل النصرانية في أواخر القرن الخامس عشر (٢)، كما شجع السلطان بايزيد المجاهدين في البحر بإبداء اهتمامه وعطفه عليهم، وكان المجاهدون العثمانيون قد بدأوا في التحرك لنجدة اخوانهم المسلمين، وفي نفس الوقت كانوا يغنمون الكثير من الغنائم السهلة الحصول من النصارى، كذلك وصل عددٌ كبير من هؤلاء المجاهدين المسلمين أثناء تشييد الأسطول العثماني، ودخلوا في خدمته بعد ذلك أخذ العثمانيون يستخدمون قوتهم البحرية الجديدة في غرب البحر المتوسط بتشجيع من هؤلاء المجاهدين (٣)
وهذا الذي كان في وسع السلطان بايزيد الثاني فعله.
لاشك أن تصرفات جم المشينة كانت سبباً أعاق حركة التوسع الإقليمي وعرقلت السلطان بايزيد عن العمل الخلاق، وأصبح اهتمام السلطان منصباً على تعقب أخبار أخيه والعمل على التخلص منه بكافة الوسائل (٤).
وعلى العموم، فقد استطاع بايزيد أن يحرز نصراً بحرياً على البنادقة في خليج لبانتوا ببلاد اليونان عام ٤٩٩م/ ٩٠٥هـ وفي العام التالي استولى على مدينة لبانتو وباستيلاء العثمانيين على مواقع البنادقة في اليونان، أقام البابا (إسكندر السادس) بناء على طلب البنادقة - حلفاً ضد العثمانيين مكوناً من فرنسا واسبانيا. وتعرض العثمانيون لهجوم الأساطيل الثلاثة: الفرنسي والإسباني والبابوي واستطاعت الدولة العثمانية أن تعقد صلحاً مع البنادقة (٥).
وكان بايزيد ميالاً للسلام، ونشطت العلاقات الدبلوماسية بين الدولة العثمانية وأوروبا، وكانت من قبل مقصورة على البلاد الواقعة على حدودها، ولكنها أقيمت بينها وبين. البابوية وفلورنسا ونابلي وفرنسا وعقد صلحاً مع البنادقة والمجر.
اهتم بايزيد بإنشاء المباني العامة وفعل الخيرات، فبنى الجوامع والمدارس والعمارات ودور الضيافة والتكايا والزوايا والمستشفيات للمرضى والحمامات والجسور ورتب للمفتي ومن في رتبته من العلماء في زمنه كل عام عشرة آلاف عثماني ولكل واحد من مدرسي المدارس السلطانية مابين سبعة آلاف وألفين عثماني، وكذلك رتب لمشايخ الطرق الصوفية ومريديهم ولأهل الزوايا كل واحد على قدر رتبته، وصار ذلك أمراً جارياً ومستمراً، وكان يحب أهل الحرمين الشريفين مكة والمدينة (١).
وحدثت في زمانه زلازل عظيمة في القسطنطينية فأخربت ألفاً وسبعين بيتاً ومئة وتسعة جوامع، وجانباً عظيماً من القصور وأسوار المدينة، وعطلت مجاري المياه، وصعد البحر إلى البر، فكانت أمواجه تتدفق فوق الأسوار، ولبثت تلك الزلزلة تحدث يومياً مدة ٤٥ يوماً، وما أن سكنت الأمور كلف السلطان ١٥ ألفاً من العمال بإصلاح ماتهدم (٢).
عاش سبعاً وستين عاماً، وكان قوي البنية، أحدب الأنف، أسود الشعر رقيق الطبع، محباً للعلوم، مواظباً للدرس، وشاعراً أديباً، ورعاً تقياً، يقضي العشرة الأخيرة من شهر رمضان في العبادة والذكر والطاعة، وكان بارعاً في رمي السهام، ويباشر الحروب بنفسه (٣) وكان يجمع في كل منزل حلّ من غزواته ما على ثيابه من الغبار ويحفظه، ولما دنا أجل موته، أمر بذلك الغبار فضرب منه لبنة صغيرة وأمر أن توضع معه في القبر تحت خدّه الأيمن، ففعل ذلك فكأنه أراد بذلك فحوى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله عليه النار". وكان مدة ملكه إحدى وثلاثين سنة إلا أياماً (٤)
كان السلطان بايزيد الثاني عالماً في العلوم العربية والإسلامية، كما كان عالماً في الفلك، مهتماً بالأدب مكرماً للشعراء والعلماء وقد خصص مرتبات لأكثر من ثلاثين شاعراً وعالماً، كما كان هو نفسه شاعراً يمتاز شعره بعمق الإحساس بعظمة الله وقدرته وكانت له أشعار في الحكمة توصي بالاستيقاظ من نوم الغفلة والنظر في جمال الطبيعة التي أبدعها الله وفي ذلك يقول:
استيقظ من نوم الغفلة وانظر إلى الزينة في الأشجار
انظر إلى قدرة الله الحق .. انظر إلى رونق الأزهار
وافتح عينيك لتشاهد حياة الأرض بعد الممات (١)
في ١٨ صفر ٩١٨هـ الموافق ١٢٥ ابريل ١٥١٢م ترك حكم الدولة لابنه سليم الأول (٩١٨ - ٩٢٦هـ / ١٥١٢ - ١٥١٩م) وذلك بدعم من الجيش، الذي كان ينظر إليه على أنه الأمل المرتجى في بعث النشاط الحربي للدولة العثمانية بصورة أوسع ودفع حركة الفتوحات إلى الأمام، ولذلك بادر الجيش إلى معارضة والده وتولية ابنه سليم مكانه (٢).
وتوفي السلطان بايزيد الثاني وهو ذاهب إلى ديمتوقة (٣) فنقل نعشه إلى إسلامبول حيث دفن بجوار جامعه الشريف (٤).
 
المبحث الثاني
السلطان سليم الأول
(٩١٨ - ٩٢٦هـ / ١٥١٢ - ١٥٢٠م)
 
تربع السلطان سليم الأول على العرش العثماني في عام ٩١٨هـ، وقد أظهر سليم منذ بداية حكمه ميلاً إلى تصفية خصومه ولو كانوا من إخوته وأبنائهم، وكان يحب الأدب والشعر الفارسي والتاريخ ورغم قسوته فإنه كان يميل إلى صحبة رجال العلم وكان يصطحب المؤرخين والشعراء إلى ميدان القتال ليسجلوا تطورات المعارك وينشدوا القصائد التي تحكي أمجاد الماضي (١).
عندما ارتقى السلطان سليم الأول العرش العثماني، كانت الدولة العثمانية قد وصلت إلى مفترق الطرق، هل تظل على هذا الوضع وهذا القدر من الاتساع دولة بلقانية أناضولية؟ أو تستمر في التوسع الإقليمي في أوربا؟ أو تتجه نحو المشرق الإسلامي؟
والواقع أن السلطان سليم الأول قد أحدث تغييراً جذرياً في سياسة الدولة العثمانية الجهادية فقد توقف في عهد الزحف العثماني نحو الغرب الأوربي أو كاد أن يتوقف واتجهت الدولة العثمانية اتجاهاً شرقياً نحو المشرق الإسلامي وقد ذكر بعض المؤرخين الأسباب التي أدت إلى تغير السياسة العثمانية منها:
١ - التشبع العسكري العثماني في أوربا، إذ يرى أصحاب هذا الرأي أن الدولة العثمانية كانت قد بلغت مرحلة التشبع في فتوحاتها الغربية بنهاية القرن الخامس عشر، وأنه كان عليها في أوائل القرن السادس عشر أن تبحث عن ميادين جديدة للنشاط والتوسع وهذا الرأي يخالفه الصواب لأن الفتوحات العثمانية لم تنقطع تماماً من الجبهة الغربية، ولكن لاريب في أن مركز الثقل في التوسع العثماني قد انتقل نهائياً من الغرب إلى الشرق (٢) ليس بسبب التشبع كما تقول بعض المصادر غير المدركة للواقع.

 ...٢ - كان تحرك الدولة العثمانية نحو المشرق من أجل إنقاذ العالم الإسلامي بصورة عامة والمقدسات الإسلامية بصورة خاصة من التحرك الصليبي الجديد من جانب الإسبان في البحر المتوسط والبرتغاليون في المحيط الهندي وبحر العرب والبحر الأحمر، الذين أخذوا يطوقون العالم الإسلامي، ويفرضون حصاراً اقتصادياً حتى يسهل عليهم ابتلاعه (١).

٣ - سياسة الدولة الصفوية في إيران والمتعلقة بمحاولة بسط المذهب الشيعي في العراق وآسيا الصغرى، هي التي دفعت الدولة العثمانية إلى الخروج إلى المشرق العربي لحماية آسيا الصغرى بصفة خاصة والعالم السني بصفة عامة (٢).
إن سياسة الدولة العثمانية في زمن السلطان سليم سارت على هذه الأسس ألا وهي القضاء على الدولة الصفوية الشيعية، وضم الدولة المملوكية، وحماية الأراضي المقدسة وملاحقة الأساطيل البرتغالية ودعم حركة الجهاد البحري في الشمال الأفريقي للقضاء على الأسبان ومواصلة الدولة جهادها في شرق أوروبا.
أولاً: محاربة الدولة الصفوية الشيعية:
يعد نسب الصفويين الى الشيخ صفي الدين الأردبيلي
٦٥٠ - ٧٣٥هـ/١٢٥٢ - ١٣٣٤م الجد الأكبر للشاه اسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية.
وقد ألتف حول الشيخ صفي الدين الأردبيلي عدد كبير من الاتباع المريدين نتيجة للدعوة القوية او الدعاية المؤثرة التي قام بها هو وأتباعه من المتصوفة والدراويش الذين استطاعوا نشر دعوتهم لا في إيران وحدها وإنما في بعض أقاليم الدولة العثمانية وفي العراق وبلاد الشام (٣).
استطاع الشيخ صفي الدين عن طريق احدى الفرق التي تزعمها أن يشق طريقه في المجتمع الايراني كما استطاع أن يكسب تأييد ومساندة الكثيرين من الايرانيين مما أدى الى تحول هذه الفرقة الى الدعوة للمذهب الشيعي حيث أشيع أن الشيخ صفي الدين وأولاده ينتمون الى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومن ثم لهم الحق في المطالبة بالحكم وكان صفي الدين قد لجأ الى التقية إذ كان مظهره يوحي بأنه سني الاتجاه بل إنه من أتباع المذهب الشافعي ولما تمهدت السبل أمام هذه الدعوة الشيعية أعلن أحد أحفاده الشاه اسماعيل. الدعوة الشيعية، بل إن السلطان حيدر أكد صلة نسبه بالامام موسى الكاظم ومن ثم أصبحت الدولة الصفوية في ايران تعد نفسها من آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (١).
صمم اسماعيل الصفوي فرض المذهب الشيعي على شعبه وأعلنه مذهباً رسمياً للدولة في ايران، وقضى بالقوة المسلحة على معارضيه واستطاع الصفويون أن يجمعوا حولهم أعداداً غفيرة من الاتباع والمريدين، وتكاتفت الدعاية الشيعية القوية سواء في بقايا (العبيدين) الفاطميين في مصر أو الإسماعيلية أو الأسرة الصفوية نفسها في اعلان المذهب الشيعي في ايران لتتحول كلها من بعد ذلك من المذهب السني الى مذهب الدولة الجديدة وهو المذهب الشيعي.
وكانت ردود الفعل عنيفة خاصة وأن كثيرين من سكان المدن الرئيسية في ايران مثل تبريز كانوا من السنة، بل أن علماء الشيعة أنفسهم كانوا يخشون على المذهب من رفض السنة له وإعلان عصيانهم على الحاكم الصفوي شيعي المذهب.
بذل الشاه اسماعيل الصفوي جهوداً ضخمة في فرض المذهب الشيعي في ايران، فعلى الرغم من التهيئة الروحية للدعوة الشيعية بين سكان ايران الذين كانوا في غالبيتهم من السنة فقد لاقى المذهب اسماعيل الصفوي ان يواجه هذا الموقف بتجنيد العناصر الشيعية للغرض هذا ووجد منها تأييداً ومناصرة واستغل حميتهم لمناصرتهم فدفعهم لضرب معارضيه والتأكيد لمذهبه في ايران.
لجأ السلطان اسماعيل الصفوي الى سياسة ماهرة في تأكيد دعوته السياسية والمذهبية فاعتمد على قبائل الترلباش التركية الأصل لتكون نواة لقوته العسكرية ذلك أن المجتمع الايراني في ذلك الوقت كان يتكون من عناصر مختلفة نتيجة لموجات الغزو المتعاقبة على البلاد مما كان يصعب معه صهر كل هذه العناصر في بوتقة واحدة لقد استطاع اسماعيل الصفوي بهذه السياسة أن يجند الطاقة المذهبية عند هذه العناصر لتكون المحور الذي تلتف حوله وتذوب فيها الفوارق العرقية وتحل محلها وحدة مذهبية يمكن له أن يقيم عليها الكيان السياسي الجديد (٢).
لقد كان اسماعيل الصفوي شرساً في حروبه شديد الفتك بمعارضيه وخصوصاً إن كانوا من أهل السنة ( ...افتتح ممالك العجم جميعها وكان يقتل من ظفر به وما نهبه من الاموال.قسمه بين أصحابه ولا يأخذ منه شيئاً ومن جملة ما ملك تبريز واذربيجان وبغداد وعراق العجم وعراق العرب خراسان وكاد أن يدعي الربوبية وكان يسجد له عسكره ويأتمرون بأمره قال قطب الدين الحنفي في الأعلام انه قتل زيادة على ألف ألف نفس قال بحيث لايعهد في الجاهلية ولا في الاسلام ولا في الأمم السابقة من قبل في قتل النفوس ماقتله شاه اسماعيل وقتل عدة من اعاظم العلماء بحيث لم يبق من أهل العلم أحد من بلاد العجم واحرق جميع كتبهم ومصاحفهم وكان شديد الرفض بخلاف آبائه ومن جملة تعظيم أصحابه له أنه سقط مرة منديل من يده الى البحر وكان على جبل شاهق مشرف على ذلك البحر فرمى بنفسه خلف المنديل فوق ألف نفس تحطموا وتكسروا وغرقوا وكانوا يعتقدون فيه الألوهية ذكر ذلك القطب المذكرو ولم تنهزم له راية حتى حاربه السلطان سليم المتقدم ذكره فهزمه ... ) (١).
لقد تزعم الشاه اسماعيل المذهب الشيعي وحرص على نشره ووصلت دعوته الى الأقاليم التابعة للدولة العثمانية وكانت الأفكار والعقائد التي تنشر في تلك الأقاليم يرفضها المجتمع العثماني السني حيث كان من عقائدهم الفاسدة، تكفير الصحابة، لعن العصر الأول، تحريف القرآن الكريم، وغير ذلك من الأفكار والعقائد فكان من الطبيعي أن يتصدى لتلك الدعوة السلطان سليم زعيم الدولة السنية، فأعلن في اجتماع لكبار رجال الدولة والقضاة ورجال السياسة وهيئة العلماء في عام ٩٢٠هـ/١٥١٤م أن ايران بحكوماتها الشيعية ومذهبها الشيعي يمثلان خطراً جسيماً لا على الدولة العثمانية بل على العالم الاسلامي كله وأنه لهذا يرى الجهاد المقدس ضد الدولة الصفوية وكان رأي السلطان سليم هو رأي علماء أهل السنة في الدولة، لقد قام الشاه اسماعيل عندما دخل العراق بذبح المسلمين السنيين على نطاق واسع ودمر مساجدهم ومقابرهم وازداد الخطر الشيعي ضرواة في السنوات الاخيرة من عهد السلطان بايزيد وعندما تولى السلطان سليم السلطنة قامت اجهزت الدولة العثمانية الأمنية بحصر الشيعة التابعين للشاه اسماعيل والمناوئين للدولة العثمانية ثم قام بتصفية اتباع الشاه اسماعيل، فسجن وأعدم عدداً كبيراً من انصار الشاه اسماعيل في الاناضول ثم قام بمهاجمة اسماعيل نفسه، فتداولت الرسائل الخشنة بينهما حسب المعتاد، وكتب السلطان سليم رسالة الى اسماعيل الصفوي قال فيها: (... إن علمائنا ورجال القانون قد حكموا عليك بالقصاص ياأسماعيل، بصفتك مرتداً، وأوجبوا على كل مسلم حقيقي أن يدافع عن دينه، وأن يحطم الهراطقة في شخصك، أنت وأتباعك. البلهاء، ولكن قبل أن تبدأ الحرب معكم فاننا ندعوكم لحظيرة الدين الصحيح قبل أن نشهر سيوفنا وزيادة على ذلك فإنه يجب عليك أن تتخلى عن الاقاليم التي اغتصبتها منا اغتصباً، ونحن حينئذ على استعداد لتأمين سلامتك .. ) (١).
وكان رد اسماعيل الصفوي على هذا الخطاب ان بعث للسطان العثماني هدية من الافيون قائلاً انه اعتقد ان هذا الخطاب كتب تحت تأثير المخدر (٢).
كذلك جاء في خطاب آخر مشابه: ( ... أنا زعيم وسلطان آل عثمان، أنا سيد فرسان هذا الزمان، أنا الجامع بين شجاعة وبأس أفريدون الحائز لعز الاسكندر، والمتصف بعدل كسرى، أنا كاسر الأصنام ومبيد أعداء الاسلام أنا خوف الظالمين وفزع الجبارين المتكبرين، أنا الذي تذل أمامه الملوك المتصفون بالكبر والجبروت، وتتحكم لدى قوتي صوالج العزة والعظموت، أنا الملك الهمام السلطان سليم خان بن السلطان الأعظم مراد خان، أتنازل بتوجيه إليك أيها الأمير اسماعيل، يازعيم الجنود الفارسية .. ولما كنت مسلماً من خاصة المسلمين وسلطاناً لجماعة المؤمنين السنيين الموحدين .. واذ قد افتى العلماء والفقهاء الذين بين ظهرانينا بوجب قتلك ومقاتلة قومك فقد حق علينا أن ننشط لحربك وتخلص الناس من شَرِكْ) (٣).
أعد السلطان سليم الأول لمعركة فاصلة مع الدولة الصفوية حيث وصل الى استانبول وبدأ في التحرك من استانبول تجاه الأراضي الإيرانية وبعد أن غادر اسكوتراي أرسل يهدد الشاه اسماعيل الصفوي في رسالة يقول فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم قال الله الملك العلام ان الدين عند الله الاسلام ومن يتبع غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، ومن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ماسلف وأمره الى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، اللهم اجعلنا من الهادين غير المضلين ولا الضالين وصلي الله على سيد العالمين محمد المصطفى النبي وصحبه أجمعين ... ) (٤).
وفي نفس الوقت أرسل السلطان سليم الأول الى أحد افراد أسرة آق قويونلو وهو محمد بن فرج شاه بيك يحثه على الاشتراك معه في قتال اسماعيل الصفوي، وبدأت حرب.     الاستطلاع بين المعسكرين المتحاربين، إلا أن سليم الأول قد بدأ التحرك نحو الدخول في القتال حيث عسكر في صحراء ياس جمن على مقربة من أذربيجان، ووصلت الأنباء التي أتت بها عيون ياس جمن تقول أن الشاه اسماعيل الصفوي لا ينوي القتال وأنه يؤخره الى ان يحل فصل الشتاء حتى يهلك العثمانيون برداً وجوعاً (١).
وبدأ سليم الأول يسرع في تحريك الصراع بينه وبين الشاه اسماعيل فارسل إليه للمرة الثانية وأرسل مع رسالته خرقة ومسبحة وكشكولاً وعصا رمز فرق الدراويش وهو بهذا يقصد الى أن يذكره بأصله، وبأهل الأسرة الصفوية التي لاتستطيع الصمود في الحرب، ومع ذلك فقد رد الشاه اسماعيل بطلب المهادنة وتجديد علاقات السلم والصداقة بين الدولتين، ولم يقبل سليم الأول هذا من شاه الصفويين، وأهان رسوله وأمر بقتل رسول الشاه الصفوي وقد أدرك سليم الأول أن خطة أعدائه تتلخص في المهادنة والتباطؤ لتأجيل موعد اللقاء حتى يحين فصل الشتاء، واستمر السلطان سليم في تحركه ووصلته الأخبار أن اسماعيل الصفوي قد بدأ الاستعداد للقتال والحرب بل إنه على وشك الوصول الى صحراء جالديران، فبدأ سليم الأول المسير نحوها فوصلها في أغسطس عام ١٥١٤م واحتل المواقع الهامة بها واعتلى الاماكن الهضبية فيها مما مكنه من ايقاع الهزيمة باسماعيل الصفوي وجنوده وكانت هزيمة ساحقة حلت بالجيش الصفوي الشيعي على ارضه (٢).
واضطر اسماعيل الى الفرار في نفس الوقت الذي كان سليم الأول يستعد فيه للدخول الى تبريز عاصمة الصفويين.
ودخل سليم الاول تبريز وحصر أموال الشاه الصفوي ورجال القلزباس واتخذها مركزاً لعملياته الحربية (٣).
لم ينته الصراع بين السنة في الدولة العثمانية والشيعة في ايران بانتهاء معركة جالديران وانما ازداد العداء حدة وازداد الصراع ضراوة وظل الطرفان يتربص كل منهما بالآخر.
لقد انتصر السلطان سليم بفضل الله تعالى وعقيدته السليمة ومنهجه الصافي، واسلحته المتطورة وجيشه العقدي المتدرب، وعاد الى بلاده بعد أن استولى على كردستان وديار بكر، ومرغش وأبلسين وباقي أملاك دلفاود، وبذلك صارت الأناضول مأمونة من الاعتداء من.   الشرق، وصارت الطرق الى أذربيجان والقوقاز مفتوحة للعثمانيين (١).
وما أن هزمت فارس في موقعة جالديران السابقة أمام السلطان سليم حتى كان الفرس أنفسهم اكثر استعداداً وتقبلاً من قبل للتحالف مع البرتغاليين وبدأت تلك الاستعدادات للارتباط بالبرتغال عقب استيلاء البوكرك على هرمز، عندها وصل سفير من لدى شاه اسماعيل وتم الدخول في اتفاقية محدودة مابين البرتغاليين والصفويين نصت على مايلي: أن يقدم البرتغال اسطوله ليساعد الفرس في غزو البحرين والقطيف كما يقدم البرتغال المساعدة للشاه اسماعيل لقمع الثورة في مكران وبلوجستان وأن يكوّن الشعبان البرتغالي والفارسي اتحاداً ضد العثمانيين، إلا أن وفاة البوكرك التي أتت بعد ذلك قد أعاق ذلك التحالف (٢).
لقد أظهر البرتغاليون تودداً للشاه اسماعيل قبل معركة جالديران وكانوا يهدفون من وراء توددهم للصفويين أن تتاح لهم فرصة تحقيق أهدافهم في إيجاد مراكز لهم في الخليج العربي، وكانوا يدركون أنهم إذا لم يكسبوا ود الصفويين فإن تعاون قوتهم مع القوى المحلية في الخليج قد يؤدي الى فشل البرتغاليين في تحقيق أهدافهم ولاسيما أن مشروعاتهم في إيجاد مراكز نفوذ في البحر الأحمر منيت بالفشل الى حد كبير (٣).
وتبدو سياسة البرتغال الرامية الى التحالف مع الفرس في رسالة ارسلها "البوكيرك"الى الشاه "اسماعيل الصفوي"جاء فيها:
(إني أقدر لك احترامك للمسيحيين في بلادك، وأعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة لاستخدامها ضد قلاع الترك في الهند، وإذا أردت أن تنقض على بلاد العرب أو تهاجم مكة فستجدني بجانبك في البحر الأحمر أمام جدة أو في عدن أو في البحرين أو القطيف أو البصرة، وسيجدني الشاه بجانبه على امتداد الساحل الفارسي وسأنفذ له كل مايريد) (٤).
لقد أدت هزيمة الشاه اسماعيل امام العثمانيين الى حرصه الشديد للتحالف مع النصارى وأعداء الدولة العثمانية ولذلك تحالف مع البرتغاليين وأقرّ استيلاءهم على هرمز في.   مقابل مساعدته على غزو البحرين والقطيف الى جانب تعهدهم بمساندتهم ضد القوات العثمانية وقد تضمن مشروع التحالف البرتغالي الصفوي تقسيم المشرق العربي الىمناطق نفوذ بينهما حيث اقترح أن يحتل الصفويون مصر والبرتغاليون فلسطين (١).
يقول الدكتور عبد العزيز سليمان نواز: ( ... إن الشاه لم يتوقف عن البحث عن حلفاء ضد الدولة العثمانية التي أصبحت القوة الكبرى التي تحول بينه وبين الوصول الى البحر المتوسط وكان مستعداً لان يتحالف حتى مع البرتغاليين أشد القوى خطراً على العالم الاسلامي حينذاك. وهكذا بينما كان البرتغاليين يخشون من وجود جبهة اسلامية قوية ضدهم في المياه الاسلامية، وجدوا أن هناك من يريد أن يتعاون معهم.
ومع أن ملك هرموز -الجزيرة الصغيرة التي أضيرت بشدة في اقتصادياتها التجارية بمجيء البرتغاليين المريعة، إلا أن الشاه وضع مصالحه الخاصة وحقده الشديد على الاتراك العثمانيين في مقدمة اية تسوية او تحالف مع البرتغاليين، فلا غرو أن وافق على أن تظل هرموز تحت السيطرة البرتغالية في مقابل حصوله على الاحساء ولكن حتى هذه الفرصة لم يتحها البرتغاليون لحليفهم الشاه. وكانت النتيجة أن ساعدت سياسة الشاه هذه على تقوية التسلط البرتغالي على الخليج .. ) (٢).
اكتفى السطان العثماني بانتصاره في جالديران واضطر الى الرجوع الى بلاده وترك مطاردة الشاه اسماعيل لعدة أسباب:
١ - حدوث نوع من التمرد بين صفوف ضباط الجيش العثماني على متابعة الحرب في فارس بعد أن حقق السلطان هدفه واضعف شوكة اسماعيل الصفوي.
٢ - خوف السلطان سليم من أن يقع جيشه في كمائن للصفويين إذا توغل في بلادهم.
٣ - رأى أن يهتم بالقضاء على المماليك لأن جهاز أمن الدولة العثمانية ضبط رسائل بين المماليك والصفويين تدل على وجود تعاون ضد الدولة العثمانية (٣).
وكانت نتيجة الصراع بين العثمانيين والصفويين:
١ - ضم شمالي العراق، وديار بكر الى الدولة العثمانية.
٢ - أمن العثمانيون حدود دولتهم الشرقية.
٣ - سيطرة المذهب السني في آسيا الصغرى بعد أن قضى على اتباع وأعوان اسماعيل الصفوي ثم هزيمة الشيعة في جالديران وهذا أشعر الدولة بمسؤوليتها تجاه العالم الاسلامي، وبخاصة بعد أن أعلن نفسه حامياً للمسلمين (١).
٤ - شعور الدولة العثمانية بضرورة القضاء على القوة الثانية ألا وهي دولة المماليك (٢).
٥ - أثر الصدام المسلح بين الدولة العثمانية والصفويين على قيمة ايرادات جمارك الدولة العثمانية من الطرق القديمة في الأناضول. لقد هبطت الايرادات بعد سنة ٩١٨هـ/١٥١٢م نتيجة الحروب القائمة بين الصفويين والعثمانيين، إذ أقفلت معظم الطرق التجارية القديمة، كما سادها الاخطار، وصار التبادل التجاري بين الاقاليم الايرانية والعثمانية محدوداً، إذ انخفض ايراد الدولة العثمانية من الحرير الفارسي (٣).
٦ - استفاد البرتغاليون من صراع الصفويين مع الدولة العثمانية وحاولوا أن يفرضوا على البحار الشرقية حصاراً عاماً على كل الطرق القديمة بين الشرق والغرب (٤).
٧ - دخل السرور على الأوروبين بسبب الحروب بين العثمانيين والصفويين وعمل الأوروبيون على الوقوف مع الشيعة الصفوية ضد الدولة العثمانية لإرباكها حتى لاتستطيع أن تستمر في زحفها على أوروبا (٥).
ثانياً: ضم دولة المماليك:
بعد أن تغلب السلطان سليم الأول على الصفويين في شمال وغربي ايران بدأ السلطان العثماني يستعد للقضاء على دولة المماليك ولقد ساهمت عدة أسباب في توجه العثمانيين لضم الشام ومصر منها:
١ - موقف المماليك العدائي من الدولة العثمانية حيث قام السلطان قانصوه الغوري (٩٠٧ - ٩٢٢هـ/١٥٠١ - ١٥١٦م) سلطان الدولة المملوكية بالوقوف مع بعض الأمراء العثمانيين الفارين من وجه السلطان سليم وكان في مقدمتهم الأمير أحمد أخو. .السلطان سليم، وأرادت السلطات المملوكية أن تتخذ من وجود هؤلاء الأمراء لديها أداة لإثارة مزيد من المتاعب في وجه السلطان سليم، كما كان الموقف السلبي للدولة المملوكية في وقوفها المعنوي مع الشاه اسماعيل الصفوي فهي لم تلتزم الحيادة التامة بين العثمانيين والصفويين، وهي لم تتخذ موقفاً عدائياً صريحاً من السلطان سليم.
٢ - الخلاف على الحدود بين الدولتين في طرسوس في المنطقة الواقعة بين الطرف الجنوبي الشرقي لآسيا الصغرى وبين شمالي الشام. فقد تناثرت في هذه المنطقة إمارات وقبائل تأرجحت في ولائها بين الدولة العثمانية ودولة المماليك. وكان هذا التأرجح مبعث اضطراب في العلاقات بين الدولتين ومصدر نزاع مستمر. وأراد السلطان سليم الأول بادئ ذي بدء أن يحسم مسألة الحدود بالسيطرة التامة على منطقتها وسكانها.
٣ - تفشي ظلم الدولة المملوكية بين الناس ورغبة أهل الشام وعلماء مصر في التخلص من الدولة المملوكية والإنضمام الى الدولة العثمانية، فقد اجتمع العلماء والقضاة والأعيان والأشراف وأهل الرأي مع الشعب، وتباحثوا في حالهم، ثم قرروا أن يتولى قضاة المذاهب الأربعة والأشراف كتابة عريضة، نيابة عن الجميع، يخاطبون فيها السلطان العثماني سليم الأول ويقولون أن الشعب السوري ضاق "بالظلم"المملوكي وإن حكام المماليك "يخالفون الشرع الشريف"، وإن السلطان إذا قرر الزحف على السلطنة المملوكية، فإن الشعب سيرحب به، وتعبيراً عن فرحته، سيخرج بجميع فئاته وطوائفه الى عينتاب. أهل حلب مستعدون لمقابلتكم واستقابلكم، بمجرد أن تضع أقدامكم في أرض عينتاب، خلصنّا أيها السلطان من يد الحكم الشركسي، احمنا أيضاً من يد الكفار، قبل حضور التركمان، وليعلم مولانا السلطان، إن الشريعة الاسلامية، لاتأخذ مجراها هنا، وهي معطلة، إن المماليك إذا اعجبهم أي شيء ليس لهم، يستولون عليه، سواء كان هذا الشيء مالاً أو نساءً أو عيالاً، فالرحمة لاتأخذهم بأحد، وكل منهم ظالم، وطلبوا منا رجلاً من ثلاثة بيوت، فلم نستجب لطلبهم، فأظهروا لنا العداء، وتحكموا فينا، (ونريد) قبل أن يذهب التركمان أن يقدم علينا وزيراً من عندكم أيها السلطان صاحب الدولة، مفوض بمنح الأمان لنا ولأهلينا ولعيالنا، أرسلوا لنا رجلاً حائزاً على ثقتكم يأتي سراً ويلتقي بنا ويعطينا عهد الأمان، حتى تطمئن قلوب هؤلاء الفقراء وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين) (١)أما علماء وفقهاء مصر فقد ذكر عبد الله بن رضوان في كتابه: تاريخ مصر (مخطوط رقم ٤٩٧١) بمكتبة بايزيد في استانبول، إن علماء مصر (وهم نفس الشعب المصري وممثلوه) يلتقون سرّاً بكل سفير عثماني يأتي الى مصر، ويقصون عليه (شكواهم الشريف) و (يستنهضون عدالة السلطان العثماني) لكي يأتي ويأخذ مصر).  
والأمصار، وأنا كنت متوجهاً الى جهاد الرافضة (ويعني الصفويين) والفجار (ويعني بهم البرتغاليين وفرسان القديس يوحنا)، فلما بغي أميركم الغوري وجاء بالعساكر الى حلب واتفق مع الرافضة واختار أن يمشي الى مملكتي التي هي مورث آبائي وأجدادي، فلما تحققت تركت الرافضة، ومشيت إليه) (١).
أ- وقوع الصدام:
بعد التطورات التي حدثت بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية كان على السلطان المملوكي قانصوه الغوري أن يتخذ أحدى المواقف تجاه الحدث اما:
١ - ان يأخذ جانب العثمانيين ضد الصفويين.
٢ - ان يأخذ جانب الصفويين ضد العثمانيين.
٣ - ان يقف على الحياد بين الطرفين.
وفضل الغوري ان يقف على الحياد في ظاهره إلا أن المخابرات العثمانية عثرت على خطاب تحالف سري يؤكد العلاقة الخفية بين المماليك والفرس والخطاب محفوظ في أرشيف متحف طوب قابو في إستانبول.
وكان السلطان سليم يريد الكرة على الشيعة الصفوية في بلاد فارس ومع توتر الأحداث رأي السلطان سليم تأمين ظهره وذلك بضم الدولة المملوكية الى أملاكه.
وألتقى الجمعان على مشارق حلب في مرج دابق عام ١٥١٧م وانتصر العثمانيون وقُتِلَ الغوري سلطان المماليك وأكرم العثمانيون الغوري بعد مماته وأقاموا عليه صلاة الجنازة ودفنوه في مشارف حلب ودخل سليم حلب ثم دمشق ودُعي له في الجوامع وسُكَتْ النقود باسمه سلطان وخليفة (٢) ومن الشام أرسل السلطان سليم الى زعيم المماليك في مصر طومان باي على أن يلتزم بالطاعة للدولة العثمانية وكان رد المماليك السخرية برسول السلطان ثم قتله.
وقرر السلطان سليم الحرب وتحرك نحو مصر وقطع صحراء فلسطين قاصداً مصر ونزلت الأمطار على أماكن سير الحملة مما يسرت على الجيش العثماني قطع الصحراء الناعمة الرمال بعد أن جعلتها الأمطار الغزيرة متماسكة يَسهل اجتيازها.
.يروي المؤرخ سلاحثور صاحب مخطوطة فتح نامه ديار العرب -وكان مصاحباً لسليم- أن سليم الأول كان يبكي في مسجد الصخرة بالقدس بكاءً حاراً وصلى صلاة الحاجة داعياً الله أن يفتح عليه مصر (١).
وحقق العثمانيون انتصاراً ساحقاً على المماليك في معركة غزة ثم معركة الريدانية.
وتعود الأسباب التي أدت الى هزيمة المماليك وانتهاء دولتهم وانتصار العثمانيين وعلو نجمهم الى:
١ - التفوق العسكري لدى العثمانيين: فسلاح المدفعية المملوكي كان يعتمد على مدافع ضخمة ثابتة لاتتحرك، في حين كان سلاح المدفعية العثماني يعتمد على مدافع خفيفة يمكن تحركيها في كل الاتجاهات.
٢ - سلامة الخطط العسكرية العثمانية: فرغم قطع العثمانيين لمسافات طويلة في سرعة اضطروا إليها ومحاربتهم في ارض يسيطر عليها عدوهم ومباغتتهم للمماليك كل ذلك كان مما يدخل في عوامل النصر، ومن سلامة التخطيط أيضاً استدارة القوات العثمانية من خلف مدافع المماليك الثقيلة الحركة -إذا أريد تحريكها- ودخول هذه القوات العثمانية القاهرة عن طريق المقطم مما شل دور المدفعية المملوكية وأحدث بالتالي الاضطراب في صفوف الجيش المملوكي لتدافعهم بلا انتظام خلف العثمانيين.
٣ - معنويات الجيش العثماني العالية وتربيته الجهادية الرفيعة واقتناعه بأن حربه عادلة بعكس القوات المملوكية التي فقدت تلك الصفات.
٤ - حرص الدولة العثمانية على الالتزام بالشرع في جميع نواحي حياتها واهتمامها البالغ بالعدل بين رعايا الدولة، بعكس الدولة المملوكية التي انحرفت عن الشريعة الغراء ومارست الظلم على رعاياها (٢).
٥ - قناعة مجموعة قيادية من أمراء المماليك بالإنضمام لجيش السلطان سليم وكانوا مستعدين للتعاون مع الدولة العثمانية وتحمل مسؤولية الحكم تحت إطار الحكم العثماني ومن أمثال هؤلاء: فاير بك الذي اسند إليه سليم الأول حكم مصر، وجان بردي الغزالي الذي تولى حكم دمشق (٣).
لقد تلقى المماليك الهزيمة في سنة ١٥١٦/ ١٥١٧م وهم في شيخوخة دولتهم ومن آخر صفحة من صفحات تاريخهم كقوة اسلامية كبرى سواء في الشرق الأوسط أو في العالم، فقد كانوا فقدوا حيويتهم وقدرتهم على تجديد شبابهم، فكان أن زالت دولتهم، وذهبت البلاد التي كانت حكمهم للنفوذ العثماني (١).
وقد نقل الدكتور علي حسون عن الجبرتي من كتابة تاريخ عجائب الآثار في التراجم والآخبار في المجلد الأول وصفاً لفترة حكم العثمانيين في مصر إبان عهد سلاطينهم العظماء أقتطف بعضاً منها:
... وعادت مصر الى النيابة كما كانت في صدر الاسلام ولما خلص له (أي السلطان سليم) أمر مصر، عفا عمن بقي من الجراكسة وأبنائهم ولم يتعرض لأوقاف السلاطين المصرية بل قرر مرتبات الأوقاف والخيرات والعلوفات وغلال الحرمين والأنبار ورتب للأيتام والمشايخ والمتقاعدين ومصارف القلاع والمرابطين وأبطل المظالم والمكوث والمغارم ولما توفي تولى ابنه الغازي السلطان سليمان عليه الرحمة والرضوان فأسس القواعد وأتم المقاصد ونظم المماليك وانار الحوالك ورفع منار الدين وأخمد نيران الكافرين .. لم تزل البلاد منتظمة في سلكهم ومنقادة تحت حكمهم .. وكانوا في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة بعد الخلفاء المهديين وأشد من ذبَّ عن الدين وأعظم من جاهد في المشركين فلذلك أتسعت ممالكه بما فتحه الله على أيديهم وأيدي نوابهم .. هذا مع عدم إغفالهم الأمر وحفظ النواحي والثغور وإقامة الشعائر الاسلامية والسنن المحمدية وتعظيم العلماء وأهل الدين وخدمة الحرمين الشريفين) (٢).
ب- مسألة انتقال الخلافة:
إن مسألة انتقال الخلافة الى آل عثمان ترتبط بالفتح العثماني لمصر وقد قيل أن آخر الخلفاء العباسيين في القاهرة قد تنازل لسليم عن الخلافة، فالمؤرخ ابن إياس المعاصر لضم العثمانيين لمصر لم يتطرق إليها، كما أن الرسائل التي أرسلها السلطان سليم الى أبنه سليمان لم ترد فيها أية إشارة لتنازل الخليفة عن لقبه للسلطان، كما أن المصادر المعاصرة لاتشير الى مسألة نقل الخلافة الى آل عثمان الذين لاينتسبون الى الرسول. إن الواقع التاريخي يقول بأن السلطان سليم الأول أطلق على نفسه لقب "خليفة الله في طول الأرض وعرضها"منذ عام ١٥١٤م (٩٢٠هـ) أي قبل فتحه للشام ومصر وإعلان الحجاز خضوعه لآل عثمان.
فالسلطان سليم وأجداده كانوا قد كسبوا مكانة عظيمة تلائم استعمال لقب الخلافة في الوقت الذي كان فيه مركز الخليفة في القاهرة لايعتد به. كما أن فتوح سليم اكسبته قوة ونفوذاً معنوياً ومادياً وخصوصاً بعد دخول الحرمين الشريفين تحت سلطانه وأصبح السلطان العثماني مقصداً للمستضعفين المسلمين الذين يتطلعون الى مساعدته بعد أن هاجم البرتغاليين المواني الاسلامية في آسيا وإفريقيا. ملخص المبحث أن السلطان سليم لم يكن مهتماً بلقب الخلافة، وكذلك سلاطين آل عثمان من بعده وأن الاهتمام بهذا اللقب قد عاد بعد ضعف الدولة العثمانية (١).
ج- اسباب انهيار الدولة المملوكية:
هناك مجموعة من العوامل تجمعت وساعدت في وضع نهاية لدولة المماليك أهمها:
١ - عدم تطوير المماليك، اسلحتهم وفنونهم القتالية، فبينما كان المماليك يعتمدون على نظام الفروسية الذي كان سائداً في العصور الوسطى كان العثمانيون يعتمدون على استخدام الاسلحة النارية وبخاصة المدفعية.
٢ - كثرة الفتن والقلاقل والاضطرابات بين المماليك حول ولاية الحكم مما أدى الى عدم استقرار الحكم في أحرج الأوقات.
٣ - كره الرعايا للسلاطين المماليك الذين كانوا يشكلون طبقة استقراطية مترفعة منعزلة عن الشعوب.
٤ - وقوع بعض الانشقاقات بين صفوف المماليك، كما فعل والي حلب "خاير بك وجانبرد الغزالي"مما أدى الى سرعة انهيار الدولة المملوكية.
٥ - سوء الأحوال الاقتصادية، وبخاصة عندما تغيرت طرق التجارة المارة بمصر واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح.
٦ - العامل الجامع للأسباب السابقة ضعف التزام المماليك بمنهج الله ويقابله قوة تمسك العثمانيين بشرع الله (١).
د- خضوع الحجاز للعثمانيين:
كانت الحجاز تابعة للمماليك وعندما علم شريف مكة بمقتل السلطان الغوري ونائبه طومان باي بادر شريف مكة "بركات بن محمد "الى تقديم السمع والطاعة الى السلطان سليم الأول وسلمه مفاتيح الكعبة وبعض الآثار فأقر السلطان سليم شريف الحجاز بركات باعتباره أميراً على مكة والحجاز، ومنحه صلاحيات واسعة (٢).
وبذلك أصبح السلطان سليم خادماً للحرمين الشريفين وأصبحت مكانته أقوى أمام الشعوب الاسلامية وبخاصة أن الدولة أوقفت أوقافاً كثيرة على الاماكن المقدسة، وكانت ايراداتها تصب في خزانة مستقلة بالقصر السلطاني وقد أدى ضم الحجاز الى العثمانيين الى بسط السيادة العثمانية في البحر الأحمر مما أدى الى دفع الخطر البرتغالي عن الحجاز والبحر الأحمر واستمر هذا حتى نهاية القرن الثامن عشر (٣).
س- اليمن:
بعد انهزام المماليك قدّم حاكم اليمن المملوكي الجركسي (اسكندر) وفداً الى السلطان سليم ليقدم فروض الولاء والطاعة له فوافق السلطان العثماني على إبقائه في منصبه وكانت اليمن تشكل بعداً استراتيجياً وتعتبر مفتاح البحر الأحمر وفي سلامتها سلامة للأماكن المقدسة في الحجاز وكانت السيطرة العثمانية في بداية الأمر ضعيفة، بسبب الصراعات الداخلية بين القادة والمماليك الى جانب نفوذ الأمامة الزيدية بين قبائل الجبال، هذا فضلاً عن الخطر البرتغالي الذي كان يهدد السواحل اليمنية وهذا دفع السلطان الى ارسال قوة بحرية إلا أنها فشلت بسبب النزاع الذي دب بين قائدها "حسين الرومي"متصرف جدة و"الريس سلمان"احد قادة البحر العثمانيين (٤).
ثم ارسل السلطان سليمان حملة "سليمان باشا ارناؤطي"سنة ٩٤٥هـ/١٥٣٨م وقد ضمت الحملة ٧٤ سفينة و ٢٠.٠٠٠ شخص وكان هدف الحملة احتلال اليمن وبخاصة. عدن ثم اغلاق مضيق باب المندب أمام السفن البرتغالية ودخل العثمانيون عدن عام ٩٤٦هـ/١٥٣٩م، وتعز عام ٩٥٢هـ/١٥٤٥م وسقطت صنعاء في قبضتهم عام ٩٥٤هـ/١٥٤٧م وتحرك "سلمان باشا"باسطوله ليستولي على بعض الموانئ العربية في حضرموت ومنها "الشحر، والمكلا"واجتاح ساحل الحبشة، وسواكن ومصوع على الجانب الغربي من البحر الأحمر ٩٦٤هـ/١٥٥٧م.
وقد ظلت اليمن في فترة خضوعها للحكم العثماني (١٥٣٨ - ١٦٣٥م) تنازعها قوى العثمانيين والأئمة الزيدية، فالعثمانيون لم يستطيعوا أن يضمنوا سيطرة حقيقية على البلاد نتيجة لحركة المقاومة التي تواجههم (١).
وقد ظلت اليمن في فترة هيمنة الدولة العثمانية عليها (١٥٣٨ - ١٦٣٥م) تتنازعها قوى العثمانيين والأئمة الزيدية، فالعثمانيون لم يستطعوا أن يسيطروا كلياً على البلاد بسبب تمرد بعض القبائل (٢).
واستفاد العثمانيون من وجدوهم في اليمن فقاموا بحملات بحرية الى الخليج بقصد تخليصه من الضغط البرتغالي (٣).
ثالثاً: الصراع العثماني البرتغالي:
قامت دولة البرتغال في عام ١٥١٤م بتحريك حملة على المغرب الأقصى يتزعمها الامير هنري الملاح واستطاعت تلك الحملة أن تحتل ميناء سبتة المغربي، وكان ذلك بداية لسلسلة من الاعمال العدوانية المتتالية (٤) ثم واصلت البرتغال حملاتها على الشمال الأفريقي حتى تمكنت من الاستيلاء على اصيل، والعرائش ثم طنجة في عام ١٤٧١ للميلاد (٥). وواصلت بعد ذلك أطماعها في مراكز هامة جداً مثل ميناء "أسفى وأغادير، وأزمورة، وماسة" (٦).
وأما عن توجه البرتغال الى المحيط الأطلسي ومحاولتهم الإلتفاف حول العالم الاسلامي فقد كان العمل مدفوعاً بالدرجة الاولى بدوافع صليبية شرسة ضد المسلمين، حيث اعتبرت البرتغال انها نصيرة المسيحية وراعيتها ضد المسلمين، حيث اعتبرت.  
قتال المسلمين ضرورة ماسة وصارمة ورأت الاسلام هو العدو اللدود الذي لابد من قتاله في كل مكان (١).
وكان الأمير هنري الملاح شديد التعصب للنصرانية عظيم الحقد على المسلمين وقد تحصل هذا الأمير من البابا نيقولا الخامس حقاً في جميع كشوفه حتى بلاد الهند، حيث قال: (إن سرورنا العظيم إذ نعلم أن ولدنا هنري أمير البرتغال، إذ يترسم خُطى والده العظيم الملك يوحنا، وإذ تلهمه الغيرة التي تملك الأنفس كجندي باسل من جنود المسيح، قد دفع باسم الله الى آقاصي البلاد وأبعادها عن مجال علمنا كما أدخل بين أحضان الكاثوليكية الغادرين من أعداء الله وأعداء المسيح مثل العرب والكفرة ... ) (٢).
وقال البوكيرك في خطابه الذي ألقاه على جنده بعد وصوله الى "ملقا"مانصه: (إن ابعاد العرب عن تجارة الأفاوية هي الوسيلة التي يرجو بها البرتغاليون إضعاف قوة الاسلام).
وفي نفس الخطبة قال: (الخدمة الجليلة التي سنقدمها لله بطردنا العرب من هذه البلاد وبإطفاءنا شعلة شيعة محمد بحيث لا يندفع لها هنا بعد ذلك لهيب وذلك لأني على يقين أننا لو انتزعنا تجارة "ملقا"هذه من أيديهم (يقصد المسلمين) لاصبحت كل من القاهرة ومكة أثراً بعد عين ولامتنعت عن البندقية كل تجارة التوابل مالم يذهب تجارها الى البرتغال لشرائها من هناك) (٣).
وقال في يومياته: (كان هدفنا الوصول الى الأماكن المقدسة للمسلمين واقتحام المسجد النبوي وأخذ رفاة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - رهينة لنساوم عليها العرب من اجل استرداد القدس (٤).
وقال ملك البرتغال عمانويل الأول معلناً أهداف الحملات البرتغالية: إن الغرض من اكتشاف الطريق البحري الى الهند هو نشر النصرانية والحصول على ثروات الشرق (٥).
وهكذا يظهر للباحث المنصف أن الدافع الديني للكشوف البرتغالية كان من أهم العوامل التي دفعت البرتغال لارتياد البحار والإلتفاف حول العالم الاسلامي، فصدرت المراسيم والأوامر، ورسم الصليب والمدفع كشعار للحملات، وكان القصد من ذلك أن على المسلمين. اعتناق المسيحية وإلا عليهم مواجهة المدفع.
وكان الدافع الاقتصادي في الدرجة الثانية كعامل مؤثر في سير الكشوف الجغرافية البرتغالية، فقد سهل اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح في عام ٩٠٤هـ/١٤٩٧م بواسطة فاسكو دي جاما مهمة وصول منتجات الشرق الاقصى للأسواق الأوروبية دون الحاجة الى مرورها عن طريق مصر، ولهذا ساعد تحويل الخط التجاري عن مناطق العبور العربية والاسلامية -ساعد- على تحقيق الهدف الديني وذلك لما للمجال الاقتصادي من اثر فعال في إضعاف القوة الاسلامية التي كان لها ابلغ الأثر في زعزعة أوروبا خلال عدة قرون، فضلاً عن الركود الاقتصادي الذي مُنيت به الدولة المملوكية بسبب هذا التحول المفاجئ (١).
ومما يجدر ذكره أن البرتغاليين استعانوا في حملاتهم باليهود الذين استخدموا كجواسيس، وقد ساعدهم في ذلك معرفتهم باللغة العربية، وعلى سبيل المثال فقد ارسل ملك البرتغال يوحنا الثاني خادمه الخاص ومعه رفيق آخر يهودي الى مصر والهند والحبشة وكان من نتائج رحلتها تقديمها تقرير يتضمن بعض الخرائط العربية عن المحيط الهندي (٢).
وذكر ابن اياس إنه في زمن الشريف بركات أمير مكة تسلل ثلاثة أشخاص الى مكة وكانوا يحومون حول المسجد الحرام وعليهم لباس عثماني ويتحدثون العربية والتركية، فأمر بالقبض عليهم وبالكشف على اجسامهم اتضح أنهم مسيحيون لأنهم كانوا بغير ختان، وبعد التحقيق معهم ظهر أنهم جواسيس، ارسلوا للعمل كأدلاء للجيش البرتغالي الصليبي عند دخوله لمكة، وتم بعد ذلك إرسالهم الى السلطان قانصوه الغوري (٣).
ولتحقيق الأهداف البرتغالية رأى رواد الكشوف وساستهم ضرورة التحكم في مضيقي "هرمز"و "باب المندب"لكي يحكم أعداء الاسلام غزوهم للعالم الاسلامي من الخلف ودق عصب الإقتصاد في المناطق العربية والاسلامية ثم بالتالي نشر المسيحية في كل موقع يصلون إليه (٤).
ونجح البرتغاليون في خططهم وتمكنوا من السيطرة على معابر التجارة في الساحل الأفريقي والخليج العربي وبحر العرب، وقاموا بمنع وصول المنتجات الشرقية الى أوروبا عن. طريقها، وقد ساعدهم في تحقيق ذلك عدم وجود منافس بحري لهم، مما سهل لهم السيطرة على المراكز الهامة بيسر وسهولة، ثم لم يتورع البرتغاليون بعد ذلك عن استخدام العنف فشهدت المناطق التي وصلوا إليها واحتلوها الكثير من المجازر وإشعال النيران والتدمير، والاعتداء على حرمات الناس ومنع المسلمين من الذهاب الى الحج وهدم المساجد عليهم (١).
إما عن موقف المسلمين من هذا الغزو الغاشم فقد كان المماليك آنذاك في موقف لايحسدون عليه حيث اصابهم الوهن الاقتصادي والسياسي وانشغل السلاطين بمشاكلهم الداخلية ومجابهة الدولة العثمانية وقمع نشاط الفرسان الإسبارتية في شرق البحر الأبيض المتوسط (٢) ولهذا واجه السكان في الساحل الأفريقي والخليج واليمن مصيرهم بأنفسهم، فهاجموا الحاميات البرتغالية في كل مكان، في شرق أفريقيا وفي مسقط والبحرين وقريات وعدن، ولكن دون جدوى لاختلاف ميزان القوى (٣).
ثم ان المماليك شعروا بالمسؤولية على الرغم من المشاكل التي كانت تعيشها دولتهم، وبذلوا مافي استطاعتهم للحد من وصول البرتغاليين الى الأماكن المقدسة، فقام السلطان قانصوه الغوري بإرسال حملة بحرية مكونة من ثلاثة عشرة سفينة عليه ألف وخمسائة رجل بقيادة حسين الكردي الذي وصل الى جزيرة "ديو"ثم "شول"وألتقى مع الأسطول البرتغالي بقيادة "الونز دي الميدا"وذلك في عام ٩١٤هـ/١٥٠٨م فكان النصر حليفه (٤)، ثم ان البرتغال عززوا قواتهم وأعادوا الكرة مرة أخرى مما أدى الى هزيمة الاسطول الاسلامي سنة ٩١٥هـ/١٥٠٩م في معركة "ديو"المشهورة في التاريخ (٥).
أما عن الدولة العثمانية فكانت في البداية بعيدة عن ساحة المعركة ويفصل بينها وبين البرتغال دولة المماليك والدولة الصفوية ومع ذلك لبى السلطان بايزيد الثاني طلب السلطان الغوري مساعدته ضد البرتغال، فأرسل في شهر شوال سنة ٩١٦هـ/ ١٥١١م عدة سفن محملة بالمكاحل والأسهم وأربعين قنطاراً من البارود وغير ذلك من المستلزمات العسكرية والأموال اللازمة (٦). ولكن هذه المساعدة لم يكتب لها الوصول سالمة بسبب تعرضها.لقرصنة فرسان القديس يوحنا (١).
وبعد أن ضم العثمانيون بلاد مصر والشام ودخلت البلاد العربية تحت نطاق الحكم العثماني، واجهت الدولة العثمانية البرتغاليين بشجاعة نادرة، فتمكنت من استرداد بعض الموانئ الاسلامية في البحر الأحمر مثل: مصوع وزيلع، كما تمكنت من إرسال قوة بحرية بقيادة مير علي بك الى الساحل الأفريقي فتم تحرير مقديشو وممبسة ومُنيت الجيوش البرتغالية بخسائر عظيمة (٢).
وفي عهد السلطان سليمان القانوني ٩٢٧ - ٩٧٤هـ/١٥٢٠ - ١٥٦٦م تمكنت الدولة العثمانية من إبعاد البرتغاليين عن البحر الأحمر ومهاجمتهم في المراكز التي استقروا بها في الخليج العربي.
لقد ادرك السلطان سليمان أن مسؤولية الدفاع عن الأماكن المقدسة هي مسؤولية الدولة العثمانية، فبادر بعقد اتفاق مع حاكمي "قاليقوط"و"كامباي"وهما الحاكمان الهنديان اللذان تأثرا من الغزو البرتغالي وكان ذلك الاتفاق ينص على العمل المشترك ضد البرتغال، ثم أعقب ذلك الإتفاق إصداره مرسوماً الى سليمان باشا الخادم والي مصر هذا نصه: (عليك يابيك البكوات بمصر سليمان باشا، أن تقوم فور تسلمك أوامرنا هذه، بتجهيز حقيبتك وحاجتك، وإعداد العدة بالسويس للجهاد في سبيل الله، حتى إذا تهيأ لك إعداد أسطول وتزويده بالعتاد والميرة والذخيرة وجمع جيش كافٍ، فعليك أن تخرج الى الهند وتستولي وتحافظ على تلك الأجزاء، فإنك اذا قطعت الطريق وحاصرت السبل المؤدية الى مكة المكرمة تجنبت سوء ما فعل البرتغاليون وأزلت رايتهم من البحر) (٣).
وقام سليمان الخادم بتنفيذ أوامر السلطان العثماني، ووصل بعد سبعة أيام الى جدة ثم اتجه الى كمران وبعد ذلك سيطر على عدن وعيّن عليها أحد ضباطه وزودها بحامية بلغ عدد جنودها ستمائة جندي، ثم واصل سيره الى الهند، وعند وصوله الى ديو لم يتمكن من الإستيلاء عليها وانسحب عائداً بعد ان فقد حوالي اربعمائة من رجاله، وحاول مرة اخرى الاستيلاء على الأمامية حتى استسلمت إحداها وتم أسر ثمانيين برتغالياً، ولولا الإمدادات الجديدة للجيش البرتغالي لاستسلمت جميع القلاع، وتمّ طرد البرتغاليين من.الهند ولخضعت قلعة ديو للعثمانيين خضوعاً تاماً (١).
وهكذا تمكن العثمانيون من صد البرتغال وإيقافهم بعيداً عن المماليك الاسلامية والحد من نشاطهم، وهكذا نجحت الدولة العثمانية في تأمين البحر الأحمر وحماية الأماكن المقدسة من التوسع البرتغالي المبني على أهداف استعمارية وغايات دنيئة ومحاولات للتأثير على الاسلام والمسلمين بطرق مختلفة.
إن النجاح الذي حققته الدولة العثمانية في درء الخطر البرتغالي على العالم الاسلامي يستحق كل تقدير وثناء، فدولة المماليك المتهالكة كانت على وشك الانهيار، ولم تكن على مستوى من القوة يكفل لها الوقوف أمام الغزو البرتغالي فتحملت الدولة العثمانية أعباء الدفاع عن حقوق المسلمين وممتلكاتهم، ونجحت أيما نجاح في الحد من مطامع الغزاة ووصولهم الى الأماكن المقدسة كما كانوا يرغبون (٢).
أما عن الدولة الصفوية فقد تخلت عن مساعدة سكان المناطق التي وصل إليها الغزو البرتغالي، فتركت مدن الخليج العربي تواجه مصيرها بنفسها، وزادت على ذلك أن سارت الدولة الصفوية في فلك الأعداء ولبت رغباتهم خاصة وأنها على عداء وخلاف مذهبي مع المماليك والدولة العثمانية ولذلك نجد البوكيرك القائد البرتغالي يستغل هذا الموقف ويرسل في عام ٩١٥هـ/١٥٠٩م مبعوثه "روى جومير"ومعه رسالة ذكر فيها: (اني أقدّر لك احترامك للمسيحيين في بلادك، واعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة لاستخدامها ضد قلاع الترك في الهند، وإذا أردت أن تنقض على بلاد العرب أو أن تهاجم مكة فستجدني بجانبك في البحر الأحمر أمام جدة أو في عدن أو في البحرين أو في القطيف أو في البصرة، وسيجدني الشاة بجانبه على امتداد الساحل الفارسي، وسأنفذ له كل مايريد" (٣).
وقد صادف هذا العرض أو هذا الموقف الفترة التي كانت القوات العثمانية تتوجه فيها لمجابهة الصفويين على الحدود، حيث كانت بعد ذلك معركة جالديران سنة ٩٢٠هـ/١٥١٤م التي انهزم فيها الفرس هزيمة ساحقة أمام الجيش العثماني، مما جعلهم - أي الفرس- أكثر استعداداً للتحالف مع البرتغاليين ضد العثمانيين، فكانت فرصة البرتغال التي لا تعوض لا سيما.  وأنهم يدركون مدى الخطر الذي يُهددهم ويقلق أمنهم من قبل الدولة العثمانية، فاستغلوا احتلالهم لهرمز عام ٩٢١هـ/١٥١٥م وارتبطوا بعد ذلك مباشرة مع الصفويين بمعاهدة كان من أهم بنودها؛ تقديم البرتغال أسطولها لمساعدة الشاة في حملته على البحرين والقطيف مقابل اعتراف الشاة بالحماية البرتغالية على هرمز، وتوحيد القوتين وفي حالة المواجهة مع الدولة العثمانية عدوهما المشترك (١).
ويظهر أن البرتغال رأوا في تحالفهم مع الصفويين وسيلة تحقق عدم الوفاق بين الدول الاسلامية التي فيما لو اتحدت ضدها لما تمكنت من السيطرة على مقدرات الشعوب في مناطق الخليج والبحر الأحمر وعدن وغير ذلك من الاماكن التي خضعت للسيطرة البرتغالية؛ ومن جهة اخرى فإن التحالف الصفوي البرتغالي والوضع السياسي والاقتصادي المتدهور لدى دولة المماليك، كل ذلك جعل الدولة العثمانية تتحمل المسؤولية كاملة في الدفاع عن الأماكن الاسلامية في كل موقع حاول البرتغاليون الوصول إليه والسيطرة عليه (٢).
لقد كان من نتائج الصراع العثماني البرتغالي:
١ - احتفظ العثمانيون بالاماكن المقدسة وطريق الحج.
٢ - حماية الحدود البرية من هجمات البرتغاليين طيلة القرن السادس عشر.
٣ - استمرار الطرق التجارية التي تربط الهند واندونيسيا بالشرق الادنى عبر الخليج العربي والبحر الأحمر.
٤ - استمرار عمليات تبادل البضائع الهندية مع تجار أوروبا في أسواق حلب، والقاهرة واسطنبول ففي سنة ١٥٥٤م اشترى البندقيون وحدهم ستة آلاف قنطار من التوابل وفي الوقت نفسه كانت تصل الى ميناء جدة عشرين سفينة محملة بالبضائع الهندية (توابل، أصباغ، أنسجة) (٣).
وفاة السلطان سليم:
في التاسع من شوال سنة ست وعشرين وتسعمائة، ليلة السبت توفي السلطان سليم -رحمه الله-، فأخفى موته الوزراء، وأرسلوا يعلمون ولده السلطان سليمان، فلما وصل الى.    القسطنطينية أعلنوا موت السلطان سليم، وصلوا عليه في جامع السلطان محمد، ثم حملوه ودفنوه في محل قبره، وأمر السلطان سليمان خان ببناء جامع عظيم، وعمارة لطعام الفقراء صدقة على والده.
وكان رحمه الله عالماً فاضلاً ذكياً، حسن الطبع، بعيد الغور، صاحب رأي وتدبير وحزم، وكان يعرف الألسنة الثلاثة: العربية والتركية والفارسية، ونظم نظاماً بارعاً حسناً، وكان دائم الفكر في أحوال الرعية والمملكة، وقَهَر الملوك وأبادهم، ولما كان بمصر كتب على رخام في حائط القصر الذي سكن فيه بخطه، فقال:
الملك لله من يظفر بنيل مني
يردده قهراً ويضمن بعده الدركا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة
فوق التراب لكان الأمر مشتركاً
توفي رحمه الله تعالى وله من العمر أربع وخمسون سنة، وكانت مدة ملكه تسعة أعوام وثمانية أشهر (١).
 
المبحث الثالث
السلطان سليمان القانوني
ولد سليمان القانوني في مدينة (طرابزون) كان والده آنذاك والياً عليها اهتم به والده اهتماماً عظيماً، فنشأ محباً للعلم والأدب والعلماء والادباء والفقهاء، واشتهر منذ شبابه بالجدية والوقار، أرتقى عرش السلطنة في السادسة والعشرين من عمره وكان متأنياً في جميع شؤونه ولا يتعجل في الأعمال التي يريد تنفيذها بل كان يفكر بعمق ثم يقرر واذا اتخذ قراراً لايرجع عنه (١).
أولاً: الفتن التي واجهته في بداية حكمه:
ابتلى سليمان في السنوات الأولى في عهده بأربع تمردات شغلته عن حركة الجهاد، حيث ظن الولاة الطموحون أن فرصة الاستقلال بأقاليمهم حان وقتها، فقام جان بردى الغزالي والى الشام بتمرد على الدولة وأعلن العصيان عليها وحاول أن يستولي على حلب إلا أنه فشل في ذلك وأمر السلطان سليمان بقمع الفتنة فقمعت وقطع رأس المتمرد جان بردى وأرسل الى استنبول دلالة على انتهاء التمرد.
وأما التمرد الثاني فقد قام به أحمد شاه الخائن في مصر وكان هذا عام ٩٣٠هـ/١٥٢٤م وكان هذا الباشا طامعاً في منصب الصدر الأعظم ولم يفلح في تحقيق هدفه، وطلب من السلطان أن يعينه والياً على مصر فعينه. وما أن وصل الى مصر حتى حاول استمالة الناس وأعلن نفسه سلطاناً مستقلاً إلا أن أهل الشرع وجنود الدولة العثمانية من الإنكشارية قاموا ضد الوالي المتمرد وقتلوه وظل اسمه في كتب التاريخ مقروناً باسم الخائن.
والتمرد الثالث ضد خليفة المسلمين هو تمرد شيعي رافضي قام به بابا ذو النون عام ١٥٢٦م في منطقة يوزغاد حيث جمع هذا البابا مابين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف ثائر وفرض الخراج على المنطقة، وقويت حركته حتى أنه استطاع هزيمة بعض القواد العثمانيين الذين توجهوا لقمع حركته، وانتهت فتنة الشيعة هذه بهزيمة بابا ذو النون وأرسل رأسه الى استانبول.
والتمرد الرابع ضد الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني كان تمرداً شيعياً رافضياً أيضاً وكان على رأسه قلندر جلبي في منطقتي قونية ومرعش وكان عدد أتباعه ٣٠.٠٠٠ شعياً قاموا بقتل المسلمين السنيين في هاتين المنطقتين. ويقول بعض المؤرخين أن قلندر جلبي جعل شعاره أن من قتل مسلماً سنياً ويعتدي على امرأة سنية يكون بهذا قد حاز أكبر الثواب.
توجه بهرام باشا لقمع هذا العصيان فقتله العصاة، ثم نجحت الحيلة معهم إذ أن الصدر الأعظم إبراهيم باشا قد استمال بعض رجال قلندر جلبي، فقلت قواته وهزم وقتل.
بعد هذا هدأت الأمور في الدولة العثمانية وبدأ السلطان في التخطيط لسياسة الجهاد في أوروبا (١).
ثانياً: فتح رودس:
كانت رودس جزيرة مشاكسة إذ كانت حصن حصين لفرسان القديس يوحنا الذين كانوا يقطعون طريق الحجاج المسلمين الأتراك الى الحجاز، فضلاً عن اعمالهم العدوانية الموجهة لخطوط المواصلات البحرية العثمانية، فأهتم السلطان سليمان بفتحها وأعد حملة عظيمة ساعده على تحقيقها عدة أمور:
١ - انشغال اوروبا بالحرب الكبرى بين شارل الخامس (كنت) -امبراطور ... الدولة الرومانية المقدسة وفرانسوا ملك فرنسا.
٢ - عقد الصلح بين الدولة العثمانية والبندقية.
٣ - نمو البحرية العثمانية على عهد سليم الأول.

وشن سليمان القانوني حرباً كبيرة ضد رودس ابتداء من منتصف عام ١٥٢٢م، وفتحها وأعطى للفرسان حق الانتقال منها، فذهبوا الى (مالطة) وهناك أعطاهم (شارك كنت) حق حكم هذه الجزيرة (٢).

ثالثاً: قتال المجر وحصار فينا:
كان ملك المجر (فيلاد يسلاف الثاني جاجليو) قد عزم على فك أي تعهدات كانت قد اعطيت من قبل اسلافه لسلاطين الدولة العثمانية، وذهب الى حد قتل مبعوث السلطان سليمان إليه.
وكان المبعوث يطالب بالجزية السنوية المفروضة على المجر. ولهذا رد سليمان في عام ١٥٢١م بغزوة كبيرة ضد المجر، ولكن استمرت المعارك حتى أحرز الاتراك انتصارهم الكبير، في موقعة موهاكس عام ١٥٢٦م، ودخل سليمان القانوني (بودا) في ١١ سبتمبر (أيلول) عام ١٥٢٦م واستمرت المقاومة الهنغارية رغم هذا، وتابع السلطان ضغطه حتى بلغت جيوشه أسوار فينا عاصمة الامبراطورية الرومانية المقدسة عام ١٥٢٩م، إلا أن طول خطوط المواصلات وتحول (شارل كنت) من قتال فرانسوا الى التصالح معه للتفرغ لحرب العثمانيين ولانقاذ عاصمة الهايسبورج جعل من المستحيل على سليمان القانوني فتح هذه العاصمة، وتراجع عنها بينما استمر الصراع بين سليمان والقوى الأوروبية المؤيدة لملك المجر من أجل السيطرة على هذه المملكة حتى وفاة سليمان.
على أن أبرز حدث تاريخي في السياسة الخارجية العثمانية على عهد سليمان القانوني هو علاقته مع فرانسوا، تلك العلاقة التي تحولت الى محالفة (١).
رابعاً: سياسة التقارب العثماني الفرنسي:
كان عهد السطان سليمان القانوني بمثل رأس الهرم بالنسبة لقوة الدولة العثمانية ومكانتها بين دول العالم آنذاك. ويعتبر عصر السلطان سليمان هو العصر الذهبي للدولة العثمانية، حيث شهدت سنوات حكمه من
٩٢٦ - ٩٧٢هـ، الموافق ١٥٢٠ - ١٥٦٦م توسعاً عظيماً لم يسبق له مثيل، وأصبحت أقاليم الدولة العثمانية منتشرة في ثلاث قارات عالمية.
وكان لهذا البروز أثره على دول العالم المعاصرة وبالأخص على دول أوروبا التي كانت تعيش انقسامات سياسية ودينية خطيرة، ولهذا تنوعت مواقف الدول الأوروبية من الدولة العثمانية حسب ظروف كل دولة. وكان تشارلز الخامس ملك الامبراطورية الرومانية المقدسة ينافس فرانسوا الأول ملك فرنسا على كرسي الحكم للامبراطورية الرومانية، وكان البابا ليو العاشر منافساً للراهب الألماني مارتن لوثر زعيم المقاومة البروتستانتية (٢).
وكانت بلغراد تعاني من اضطرابات داخلية بسبب صغر سن ملكها لويس الثاني مما أدى الى نشوب النزاع بين الأمراء (١).
ولهذا رأى فرانسوا الأول أن يستغل مكانه وقوة الدولة العثمانية ويكسبها صديقاً له، فوقف منه موقف التودد والرغبة في الوفاق معتقداً أن الدولة العثمانية هي التي ستحد من طموحات تشارلز الخامس وتوقفه عند حده، ومما يثبت هذا التوجه الفرنسي ماذكره للسفير الفينسي عندما قال: (سعادة السفير لايمكنني أن أنكر أنني أرغب بشدة في أن أرى الأتراك أقوياء جداً ومستعدون للحرب، ليس فقط لمصلحة السلطان العثماني الذاتية بل لإضعاف قوة الامبراطور تشارلز الخامس وتكليفه غالياً، وإعطاء جميع الحكومات الأمن والأمان ضد عدو عظيم كهذا "الامبراطور تشارلز" (٢).
بدأت مفاوضات فرنسا مع الدولة العثمانية بعد معركة "بافيا"التي أسر فيها ملك فرنسا "فرانسوا الأول"عام ١٥٢٥م، فأرسلت والدته والوصية على العرش مبعوثها "جون فرانجيباني"ومعه خطاب منها وخطاب من الملك الأسير يطلبان فيهما مهاجمة قوات عائلة الهابسبرج وإطلاق سراح الأسير (٣).
وعلى الرغم من أن الأسير أطلق بموجب معاهدة تم عقدها في مدريد بين فرنسا وأسرة الهابسبرج سنة ١٥٢٦م، إلا أن فرنسوا، بعد إطلاق سراحه أرسل في عام ٩٤١هـ/١٥٣٥م سكرتيره "جان دي لافوريه"الى السلطان سليمان بهدف عقد تحالف في شكل معاهدة (٤)، سُميت فيما بعد بـ "معاهدة الامتيازات العثمانية الفرنسية"، ونظراً لما ستكون عليه هذه المعاهدة من أهمية كبرى بعد ذلك نورد هنا أهم نصوصها:
١. حرية التنقل والملاحة في سفن مسلحة وغير مسلحة بحرية تامة.
٢. حق التجارة والمتاجرة في كل أجزاء الدولة العثمانية بالنسبة لرعايا ملك فرنسا.

٣. تدفع الرسوم الجمركية وغيرها من الضرائب مرة واحدة في الدولة العثمانية...٤. الضرائب التي يدفعها الفرنسيون في الدولة العثمانية هي نفسها التي يدفها الرعايا الأتراك.

٥. حق التمثيل القنصلي، مع حصانة قنصلية ولأقاربه وللعاملين معه.
٦. من حق القنصل الفرنسي النظر في القضايا المدنية والجنائية التي يكون أطرافها من رعايا ملك فرنسا، وان يحكم في هذه القضايا وإنما للقنصل الحق في الاستعانة بالسلطات المحلية لتنفيذ أحكامه.
٧. في القضايا المختلفة التي يكون أحد أطرافها رعية من رعايا السلطان العثماني، لا يستدعي ولا يستجوب رعية الملك الفرنسي ولا يحاكم إلا بحضور ترجمان القنصلية الفرنسية.
٨. افادات رعية الملك في القضايا مقبولة ويؤخذ بها عند اصدار الحكم.
٩. حرية العبادة لرعايا الملك.
١٠. منع استعباد رعية الملك.
وكان من نتائج هذه المعاهدة زيادة التعاون بين الأسطولين الفرنسي والعثماني وشن الاسطول العثماني هجمات قوية على شواطئ مملكة نابولي التي كانت تابعة لـ"شارل كنت"وفي عام ١٥٤٣م تجمعت وحدات الاسطولين العثماني والفرنسي وهاجمت نسير التابعة لدوق سافوي حليف شارل كنت (١).
واستفادت فرنسا من تقاربها مع الدولة العثمانية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً واتخذت من المعاهدة السابقة وسيلة لفتح أبواب التجارة مع المشرق دون الخضوع للاحتكار التجاري الذي فرضته البرتغال بعد اكتشافها طريق رأس الرجاء الصالح، كما حصلت بموجبها على الحق الكامل في الحماية تحت علمها رعيا الدول الغربية الاخرى، مما جعل لها مكانة مرموقة بين دول الغرب الأوروبي.
هذه المعاهدة بكل أسف لم يستفد منها رعايا الدولة العثمانية وكأنها عقدت فقط لتلبية المطالب الغربية، وتحقيق مصالح الأعداء دون مقابل يذكر وقد كانت هذه المعاهدة الأساس الذي بني عليه وسار على نهجه الكثير من المعاهدات التي عقدت فيما بعد بين
الدولة العثمانية والدول الأوروبية بصفة عامة (١).
لم يستطع ملك فرنسا ان يلتزم بالعهود مع الدولة العثمانية بسبب الرأي العام النصراني، فيضطر الى التراجع ونقض العهود ثم يعود من جديد فيستجدي عطف وتأييد العثمانيين من جديد فيثور عليه الرأي العام والحقيقة التاريخية تقول أنه لا يمكن للصليبيين أعداء الاسلام أن يتخلى بعضهم عن بعض أمام تحدِّيه القوى لهم وإن كانوا مختلفين ظاهرياً تبعاً للمصالح والأهواء.
وإن أعداء الاسلام من الصليبيين الحقادين لا أحلاف ولا مواثيق لهم في تعاملهم مع المسلمين كما يبين لنا الله عز وجل في كتابه الكريم. وحينما تتبين لهم بادرة ضعف عند المسلمين فإنهم سرعان مايقوى ساعدهم كي يجهزوا عليهم وهم في الوقت نفسه لايسمحون لحاكم منهم مهما كان اتجاهه او وضعه أن يتعاون مع المسلمين وأنه مهما اختلفت المصالح فهم جميعاً يتفقون في محاربة هذا الدين وتقتيل أهله في كل زمان ومكان (٢).
لقد كانت تلك الامتيازات التي أعطيت للدولة الفرنسية أول إسفين يدق في نعش الدولة العثمانية ظهرت آثاره البعيدة فيما بعد.
وفي أواخر أيام الدولة العثمانية صارت دول أوروبا النصرانية تتدخل في شؤونها تحت حماية الامتيازات وللدفاع عن نصارى الدولة الذين كانوا يعدون رعايا للدول الأجنبية وخاصة في بلاد الشام (٣).
 
المبحث الرابع
الدولة العثمانية وشمال أفريقيا
 
كان من آثار التهجير الجماعي للمسلمين من الأندلس ونزوح أعداداً كبيرة منهم الى الشمال الأفريقي حدوث العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في ولايات الشمال الأفريقي ولما كان من بين المسلمين النازحين الى هذه المناطق أعداداً وفيرة من البحارة، فكان من الضروري أن تبحث عن الوسائل الملائمة لاستقرارها، إلا أن بعض العوامل قد توافرت لتدفع بأعداد من هؤلاء البحارة الى طريق الجهاد ضد القوى المسيحية في البحر المتوسط. ويأتي في مقدمة هذه الأسباب الدافع الديني بسبب الصراع بين الاسلام والنصرانية وإخراج المسلمين من الأندلس ومتابعة الاسبان والبرتغال للمسلمين في الشمال الأفريقي.
وقد ظلت حركات الجهاد الاسلامي ضد الاسبان والبرتغاليين غير منظمة حتى ظهور الأخَوان خير الدين وعروج بربروسا واستطاعا تجميع القوات الاسلامية في الجزائر وتوجيها نحو الهدف المشترك لصد اعداء الاسلام عن التوسع في موانئ ومدن الشمال الافريقي.
وقد اعتمدت هذه القوة الاسلامية الجديدة في جهادها أسلوب الكر والفر في البحر بسبب عدم قدرتها في الدخول في حرب نظامية ضد القوى المسيحية من الأسبان والبرتغاليين وفرسان القديس يوحنا، وقد حقق هؤلاء المجاهدين نجاحاً أثار قلق القوى المعادية، ثم رآو بنظرهم الثاقب أن يدخلوا تحت سيادة الدولة العثمانية لتوحيد جهود المسلمين ضد النصارى الحاقدين.
وقد حاول المؤرخون الأوروبيون التشكيك في طبيعة الحركة الجهادية في البحر المتوسط ووصفوا دورها بالقرصنة وكذلك شككوا في أصل أهم قادتها وهما خيرالدين وأخوه عروج الأمر الذي يفرض ضرورة إلقاء الضوء على دور الأخوين وأصلهما، وأثر هذه الحركة على الدور الصليبي في البحر المتوسط في زمن السلطان سليم والسلطان سليمان القانوني.
أولاً: أصل الأخوين عروج وخير الدين:
يرجع أصل الأخوين المجاهدين الى الأتراك المسلمين وكان والدهما يعقوب بن يوسف من.بقايا الفاتحين المسلمين الأتراك الذين استقروا في جزيرة مدللي إحدى جزر الأرخبيل (١). وأمهم سيدة مسلمة أندلسية كان لها الأثر على أولادها في تحويل نشاطهم شطر بلاد الأندلس التي كانت تئن في ذلك الوقت من بطش الأسبان والبرتغاليين (٢). وكان لعروج وخير الدين أخوان مجاهدان هما إسحاق ومحمد إلياس ولقد استند المؤرخون المسلمون الى أصلهم الأسلامي الى الحجج التالية:
١ - ماذكره المؤرخ الجزائري "أحمد توفيق مدني"مستنداً على أثرين مازالا موجودين في الجزائر أولهما رخامة منقوشة كانت موضوعة على باب حصن شرشال، وثانيهما رخامة كانت على باب مسجد الشواس بالعاصمة الجزائرية، وقد نقش على الرخامة الأولى: (بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله، هذا برج شرشال أنشأه القائد محمود بن فارس التركي في خلافة الأمير الحاكم بأمر الله المجاهد في سبيل الله "أورج بن يعقوب"بإذنه بتاريخ أربعة وعشرين بعد تسعمائة (١٥١٨م) ونقش على الرخامة الثانية: (إسم "أوروج"بن أبي يوسف يعقوب التركي"). وهناك ثالثة مسجل عليها بعض ماشيده خير الدين في الجزائر سنة ١٥٢٠م (٣).
٢ - إن اسم "عروج" - "أوروج"مأخوذ من حادثة الاسراء والمعراج التي يرجح أنه ولد ليلتها، وأن الترك ينطقونه "أوروج"ثم عرب الى "عروج" (٤).
٣ - إن ماذكر عن الدور الذي لعبه الأخوان يؤكد حرصهما على الجهاد في سبيل الله ومقاومة أطماع أسبانيا والبرتغال في الممالك الأسلامية في شمالي أفريقيا ولقد أبدع الأخوان في الجهاد البحري ضد النصارى وأصبحت لحركة الجهاد البحري في القرن السادس عشر مراكز مهمة في شرشال ووهران والجزائر ودلي وبجاية وغيرها في أعقاب طرد المسلمين من الأندلس، وقد قويت بفعل انضمام المسلمين الفارين من الأندلس والعارفين بالملاحة وفنونها والمدربين على صناعة السفن (٥).
 
ثانياً: دور الأخوين في الجهاد ضد الغزو النصراني:
اتجه الأخوان عروج وخير الدين الى الجهاد البحري منذ الصغر، ووجها نشاطهما في البداية الى بحر الأرخبيل المحيط بمسقط رأسهما حوالي سنة ١٥١٠م، لكن ضراوة الصراع بين القوى المسيحية في بلاد الأندلس وفي شمالي افريقيا بين المسلمين هناك، والذي اشتد ضراوة في مطلع القرن السادس عشر، قد استقطب الأخوين لينقلا نشاطهما الى هذه المناطق وبخاصة بعد أن تمكن الاسبان والبرتغاليون من الاستيلاء على العديد من المراكز والموانئ البحرية في شمالي افريقيا (١).
وقد حقق الأخوان العديد من الانتصارات على القراصنة المسيحين الأمر الذي أثار أعجاب القوى الاسلامية الضعيفة في هذه المناطق، ويبدو ذلك من خلال منح السلطان "الحفصي"لهم حق الاستقرار في جزيرة جربة التونسية وهو أمر عرضه لهجوم أسباني متواصل اضطره لقبول الحماية الاسبانية بالضغط والقوة، كما يبدو من خلال استنجاد أهالي هذه البلاد بهما، وتأثيرهم داخل بلادهم مما أسهم في وجود قاعدة شعبية لهما تمكنهما من حكم الجزائر وبعض المناطق المجاورة ويرى بعض المؤرخين أن دخول "عروج"وأخيه الجزائر وحكمهما لها لم يكن بناءً على رغبة السكان، ويستند هؤلاء الى وجود بعض القوى التي ظلت تترقب الفرص لطرد الأخوين والأتراك المؤيدين لهما، لكن البعض الآخر يرون أن وصول "عروج"وأخيه كان بناءً على استدعاء من سكانها لنجدتهم من الهجوم الأسباني الشرس، وأن القوى البسيطة التي قاومت وجودهما كانت تتمثل في بعض الحكام الذين أبعدوا عن الحكم أمام محاولات الأخوين الجادة في توحيد البلاد حيث كانت قبل وصولهما أشبه بدولة ملوك الطوائف في الأندلس، وقد ساند أغلب أهل البلاد محاولات الأخوين واشتركت أعداداً كبيرة منهم في هذه الحملات، كما ساندهما العديد من الحكام المحليين الذين شعروا بخطورة الغزو الصليبي الأسباني (٢).
ويظهر دور الأخوين المجاهدين بمحاولة تحرير بجاية من الحكم الاسباني سنة ١٥١٢م، وقد نقلا -لهذا الغرض- قاعدة عملياتها ضد القوات الأسبانية في ميناء جيجل شرقي الجزائر بعد أن تمكنا من دخولها وقتل حماتها الجنوبيين سنة ١٥١٤م لكي تكون محطة تقوية لتحرير بجاية من جهة ولمحاولة مساعدة مسلمي الأندلس من جهة أخرى ويبدو أن الأخوين.   .قد واجها تحالفاً قوياً نتج عنه العديد من المعارك النظامية وهو أمر لم يتعودوه لكن أجبروا عليه بفعل الاستقرار في حكم الجزائر، وزاد من حرج الموقف قتل "عروج"في إحدى المعارك سنة ١٥١٨م مما اضطر خير الدين للبحث عن تحالف يعينه على الاستقرار والمقامة ومواصلة الجهاد وكانت الدولة العثمانية هي أقوى القوى المرشحة لهذا التحالف سواء لدورها البارز في ساحة البحر المتوسط أم لأن القوى المحلية في الشمال الأفريقي كانت متعاطفة معها (١).
وتتابع انتصاراتها على الساحة الأوروبية منذ فتح القسطنطينية وأن الاتجاه لمحالفتها سيكسب دور خير الدين مزيداً من التأييد من قبل هذه القوى، والى جانب ذلك فإن الدولة العثمانية قد أبدت استجابة للمساعدة حين طلب منها الأخوان ذلك، كما أبدت رغبتها في مزيد من المساعدة لدوره وكذلك لبقايا المسلمين في الأندلس، ومن منظور ديني أسهم في إكساب دورها تأييداً جماهيرياً وجعل محاولة التقرب منهما أو التحالف معهما عملاً مرغوباً (٢).
ومن جهة أخرى كانت الظروف في الدولة العثمانية على عهد السلطان سليم الأول مهيأة لقبول هذا التحالف وبخاصة بعد أن اتجهت القوات العثمانية الى الشرق العربي، وكان من أبرز أهدافها في هذا الاتجاه -كما سبق التوضيح- هو التصدى لدور البرتغاليين والأسبان وفرسان القديس يوحنا في المنطقة، وكان من المنطقي التحالف مع أي من القوى المحلية التي تعينها على تحقيق هذه الأهداف (٣).
ثالثاً: التحالف مع العثمانيين:
اختلف علماء التاريخ حول بداية التحالف بين العثمانيين والأخوين عروج خيرالدين، فتذكر بعض المراجع أن السلطان سليم الأول كان وراء إرسالهم الى الساحل الأفريقي تلبية لطلب المساعدة من سكان الشمال الأفريقي وعملاً على تعطيل أهداف البرتغاليين والأسبان في منطقة البحر المتوسط. وعلى الرغم من عدم تداول هذه الرواية بين المؤرخين إلا أنها توضح أن العثمانيين لم يكونوا بمعزل عن الأحداث التي تدور على ساحة البحر المتوسط (٤).
ويرجع بعض المؤرخين التحالف بين الجانبين الى سنة ١٥١٤م في أعقاب فتح عروج وخير لميناء "جيجل"حيث ارسل الأخوان الى السلطان سليم الأول مجموعة من النفائس التي استوليا عليها بعد فتح المدينة، فقبلها السلطان ورد لهما الهدية بإرسال أربع عشر سفينة حربية مجهزة بالعتاد والجنود (١) وكان هذا الرد من السلطان العثماني يعكس رغبته في استمرار نشاط دور الأخوين ودعمه. على أن بعض المؤرخين يذكرون أن الدعم العثماني لهذه الحركة كان في أعقاب وفاة "عروج"سنة ١٥١٨م وبعد عودة السلطان العثماني من مصر الى استانبول سنة ١٥١٩م (٢).
على أن الرأي الأكثر ترجيحاً أن الاتصالات بين العثمانيين وهذه الحركة كان سابقاً لوفاة عروج وقبل فتح العثمانيين للشام ومصر، وذلك يرجع الىأن الأخوين كانا في أمس الحاجة لدعم أو تحالف مع العثمانيين بعد فشلهما في فتح "بجاية"، كما أنهما حوصروا في "جيجيل"بين الحفصيين الذين أصبحوا من أتباع الاسبان وبين "سالم التومي"حاكم الجزائر الذي ارتكز حكمه على دعم الأسبان له هو الآخر، فضلاً عن قوة الاسبان وفرسان القديس يوحنا التي تحاصرهم في البحر؛ فكان لوصول الدعم العثماني أثره على دعم دورهما وشروعهما في دخول الجزائر برغم هذه العوامل حيث اتفق العثمانيون مع الأخوين على ضرورة الإسراع بدخولهما قبل القوات الاسبانية لموقعها الممتاز من ناحية ولكي يسبقوا الاسبان إليها، لاتخاذها قاعدة لتخريب الموانئ الاسلامية الواقعة تحت الاحتلال الاسباني كبجابة وغيرها من ناحية اخرى.
وقد تمكن عروج من دخول الجزائر بفضل هذا الدعم وقتل حاكمها بعد أن تأكد من مساعيه للاستعانة بالقوات الاسبانية، كما تمكن من دخول ميناء شرشال، واجتمع له الأمر في الجزائر وبويع في نفس السنة التي هزمت فيها القوات المملوكية أمام القوات العثمانية في الشام سنة ١٥١٦م في موقعة مرج دابق (٣).
ولم يكن من الممكن للأخوين أن يقوما بهذه الفتوحات لولا تشجيع السلطان العثماني ودعمه الى جانب دعم شعوب المنطقة وقد سبق أن فشلا من دخول بجاية أمام نفس القوات
. ..
لقد كان علماء مصر يراسلون السلطان سليم الأول لكي يقدم الى مصر على رأس جيشه، ليستولي عليها، ويطرد منها الجراكسة (المماليك) (٢).
٤ - رأى علماء الدولة العثمانية بأن ضم مصر والشام يفيد الأمة في تحقيق أهدافها الاستراتيجية، فإن الخطر البرتغالي على البحر الأحمر والمناطق المقدسة الاسلامية وكذلك خطر فرسان القديس يوحنا في البحر المتوسط كان على رأس الأسباب التي دعت السلطان العثماني لأن يتوجه نحو الشرق، فتحالف مع القوات المملوكية لهذا الغرض في البداية، ثم تحمل العبء الكامل في مقاومة هذه الأخطار بعد سقوط الحكم المملوكي (٣).
ونستدل على ذلك بما قاله السلطان سليم الأول العثماني لطومان باي آخر سلاطين المماليك بعد أن هزمه في معركة الريدانية (أنا ما جئت عليكم إلا بفتوى علماء الأعصار
-البعيدة عن حلب- ولن يكتفوا بالترحيب به في بلادهم فقط، ويطلبون من سليم الأول أن يرسل لهم رسولاً من عنده، وزيراً ثقة، يقابلهم سراً ويعطيهم عهد الأمان، حتى تطمئن قلوب الناس (١).
ولقد ذكر الدكتور محمد حرب أن هذه الوثيقة موجودة في الأرشيف العثماني في متحف طوب كابي في استانبول، رقم ١١٦٣٤ (٢٦) وبين أن ترجمة الوثيقة من العثمانية الى العربية كما يلي: (يقدم جميع أهل حلب: علماء ووجهاء وأعيان وأشراف وأهالي، بدون استثناء طاعتهم وولاءهم -طواعية- لمولانا السلطان عزنصره -وبإذنهم جميعاً، كتبنا هذه الورقة لترسل الى الحضرة السلطانية العالية. إن جميع أهل حلب، وهم الموالون لكم، يطلبون من حضرة السلطان، عهد الأمان، وإذا تفضلتم بالتصريح فإننا نقبض على الشراكسة، ونسلمهم لكم..

أزمة الطاقة فى مصر (٢)

$
0
0

هناك حالة تكتيم و تعتيم فُرضت علينا من أعضاء شبكة الفساد التى تدير قطاع النفط المصرى جعلتنا فى  عُزلة تامة، لا ندرى الحجم الحقيقى لعمليات النهب المستمرة لمواردنا الطبيعية  من قبل ثورة يناير بسنوات عديدة و حتى كتابة هذا التقرير. علينا الآن إقتحام هذه العُزلة و الإلمام بمعلومات كافية عن ما لدينا من ثروات وموارد طبيعية و الدراية بحجم بالفساد الذى يلتهمها كى نتمكن  من إجبار الرئيس القادم -أىً كان- على إتخاذ قرارات صارمة لوأد الفساد. 

الفساد أيضاً يشوب العقود الخاصة بإستخراج الغاز الطبيعى  و هو عامل   أساسى فى خفض معدلات إنتاج الغاز.  مثال على ذلك، فى مارس الماضى-٢٠١٤- حينما طالبت  شركة  آباتشى لإستخراج الغاز  مصر برفع سعر شرائها للغاز الطبيعى منها - أى آباتشى- و إلا فمعدلات  إنتاج الغاز -المُنخفضة أصلاً- ستواصل الإنخفاض، لقد حدث ذلك و أنخفض حجم إستخراج الغاز بنسبة ٤,٨ مليون م٣ يوميا.ً

هل العقود المبرمة بين آباتشى و مصر تسمح برفع سعر شراء الغاز؟

إن لم تكن العقود تسمح بذلك، فلماذا إذاً الإستسلام من جانب مصر؟

 

بعد أن كان قطاع النفط يساهم فى دخل الخزانة العامة بمبلغ ٦,٥ مليار دولار سنوياً حتى عام ٢٠٠٦، أصبح الآن غارقاً فى ديون تتعدى ٦ مليار دولار. الديون هى مستحقات شركات الإستخراج الأجنبية طبقاً لما ورد فى تصريحات رئيس مجلس الوزراء السابق د/ حازم الببلاوى فى ٢٠١٣ حينما أعلن أن لدى مصر رغبة فى جدولة  تلك الديون (التى يشوبها أيضاً حالة من الفساد). مستحقات الشركات التى تراكمت لدى مصر أدت إلى حالة ركود إستثمارى نتج عنه توقف عمليات التنقيب و تراجع معدلات الإنتاج.

 أولاً بالنسبة لمدى تأثير توقف عمليات التنقيب، فهى  أدت إلى عدم التطور الكمى فى إحتياطيات الغاز الطبيعى و البترول التى تُعتبر ضئيلة جداً حيث أنها ستكون غير متناسبة مستقبلاً مع الزيادة المستمرة فى معدل النمو السكانى و الإستهلاكى. إحتياطياتنا المُثبتة من الغاز الطبيعى  تقدر بحوالى٢,١٩ تريلون متر مكعب فقط أى ما يعادل ٣٥,٧ عاماً مما إنتاجناه فى ٢٠١١ وهو ٦١,٢٦ مليار متر مكعب تقريباً، كذلك إحتياطياتنا من النفط  تقدر بحوالى ٤,٣ مليار برميل فقط أى ما يعادل ١٦ عام من الإنتاج اليومى الحالى و هو ٧٣٠٠٠٠ برميل زيت خام. فى هذه العملية الحسابية تم تحويل نسبتى إحتياطى الغاز و البترول إلى مدة زمنية دون إضافة نسبة النمو الإستهلاكى المتزايدة سنوياَ و التى ستكون تراكمية تزايدية مع مرور السنوات، لذلك فإن تلك المدة الزمنية تُعتبر إفتراضية و المدة الزمنية الفعلية ستصبح أقل بكثير.

 

ثانيا بالنسبة لتراجع معدلات الإنتاج الحالية التى أصبحت تغطى أقل من ٨٠ فى المائة  من إحتياجات الاستهلاك المحلى والتصدير. نسبة التراجع تعتبر نقطة أساسية فى أزمة الطاقة بشكل عام أدت إلى إنخفاض الصادرات و إرتفاع الواردات (كمحاولة لتغطية نسبة العجز فى الإستهلاك المحلى) و بالتالى توتر الميزان التجارى وعجز الميزانية حيث أن  هذه العوامل أدت أيضاً إلى زيادة متواصلة فى واردات النفط تقدر بأكثر من ٢ مليار دولار سنويا. عوامل إنخفاض معدلات إنتاج الغاز الطبيعى أثرت أيضاً سلبياً على إنتاج محطات التسييل بل و أدت إلى إيقاف  البعضٍ منها.

 

 

أزمة الطاقة فى مصر لم تكن تقتصر فقط على العجز فى إنتاج الكهرباء وهى تُعتبر إحدى أنواع الطاقة التى تواجه جزء من الأزمة المجحفة التى يواجهها قطاع الطاقة بشتى ألوانه.


قانون الديك العثماني

$
0
0

 

كيفما أدرت ناظريك في قرية عزموط شرق نابلس، تطالعك مستوطنة إلون موريه الإسرائيلية التي تتربع فوق جبل ،حيث أقيمت عام ١٩٧٨، على أراض تتبعُ قرى عدة، من بينها عزموط وبيت دجن ودير الحطب. لكن قصة إقامة هذه المستوطنة تحديداً، لا تخلو من الغرابة.

 فقد اتضح من تحقيق أجرته "العربية نت"، بأن "إلون موريه"، إحدى أولى المستوطنات الإسرائيلية أنشئت بسبب "صياح ديك"، أو بالأحرى بفعل عدم سماع صياح الديك، فقد وجد أحد المحامين الإسرائيليين الذي عمل مستشاراً قانونياً لشؤون الضفة الغربية، ثغرة قانونية وصيداً ثميناً، وأبلغ أرييل شارون بأن القانون العثماني من عام ١٨٦٠م، ينصُّ على أن أي قطعة أرض في محيط قرية لا يسمع منها صيّاح الديك، تصادر وتصبحُ أرض دولة".

الاكتشاف كان أكثر من كاف لشارون ليأمر بمصادرة آلاف الدونمات من قرى شرق نابلس وهكذا قامت "إلون موريه"، وشكل قانون "الديك"أحد الأدوات التي أطلقت مشروع الاستيطان، وأدخلت نصف مليون مستوطن إلى الأراضي الفلسطينية.

مستوطنة "إلون موريه"الإسرائيلية

ولم يكن مفاجئا أن أحداً من أهالي قرية عزموط البالغ عددهم ٤٠٠٠ نسمة تقريبا لم يسمع عن قصة الديك، الكلُّ هنا يعتقد بأن مصادرة ألف دونم، وهو نصيب القرية من المصادرة، جاء بأمر عسكري لأغراض أمنية، وهو صحيح أيضاً، لكن مصادرة الأراضي عام ٧٤ تمت على أساس القانون العثماني، لكن الحاكم العسكري آنذاك بنيامين بن أليعازر، وزير الدفاع الإسرائيلي السابق من قادة حزب العمل، كان وقع أمر المصادرة وأوعز بعدم عرضه على "المحليين"، كما جاء في نصّه الذي اطلعت عليه "العربية نت".

على سطح بناية المجلس القروي في عزموط المواجه لإلون موريه سألنا "أبو حسني"رئيس المجلس عن حكاية الديك فانفجر ضاحكاً وقال:

"ما يلزمنا هو معاهدة جنيف والأعراف الدولية التي تكفل حق الأفراد تحت الاحتلال، يعني العرف الدولي مش عرف الديك هاي سرقة".

 

مستوطنة "إلون موريه"الإسرائيلية

من العثمانيين إلى الانتداب

ليس سراً بأن إسرائيل استخدمت قوانين عثمانية وبريطانية كثيرة لوضع يدها على الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات، ورأى د. حنا عيسى أستاذ القانون الدولي في حديث للعربية نت أن إسرائيل سخّرت ما يناسبها من القوانين العثمانية كقانون "الموات"من القرن التاسع عشر والذي يرد فيه أن عدم سماع صوت الديك أو صوت رجل جهير من أي أرض في محيط قرية تصبح ملكاً للسلطان العثماني إلى جانب قانون الأراضي "البور"، والذي ينص على أن أي أرض لا تفلح ولا تزرع لثلاث سنوات متتالية تصادر، وهو ما استخدمته اسرائيل أيضاً. بالإضافة إلى أنظمة الطوارئ البريطانية التي تخوّل الحاكم العسكري مصادرة أي قطعة أرض لأغراض أو أسباب أمنية وهو أكثر ما تستخدمه إسرائيل منذ عام ٦٧.

أما حاجيت عفران مسؤولة متابعة المستوطنات في حركة السلام الآن الإسرائيلية فقالت للعربية نت:

"هذا قانون احتلال غير أخلاقي يجيّر القوانين العثمانية والانتدابية لغرض واحد هو الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، ولهذا يمكن لصياح ديك أن يزرع مئات آلاف المستوطنين وبسبب "تألق"قضائي لأحد المحامين ولدت كارثة صار عمرها أكثر من أربعة عقود".

يشار إلى أن حجم المصادرات الإسرائيلية للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وفي المناطق المصنفة بـ"ج"، أي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، تجاوز حتى اليوم مليونا وثلاثمائة الف دونم، أعلنت أراضي دولة.

 

الموقف الاميركي المعلن والمستتر بخصوص سوريا

$
0
0

يبدوا أن واشنطن مرتاحة لسياستها بخصوص سوريا، طالما أن غيرها هو من يدفع التكاليف.

لكن الوضع غير مضمون بأن يستمر طويلا, فحلفائها سأموا من هذه السياسة, لأنهم غير مستعدين إلى ما لانهاية لدفع تكاليف سياسة أميركية لا طائل منها, ولا نتيجة لها. فقد كان ظنهم عندما بدأت الأحداث السورية أنها لن تطول لأكثر من عدة شهور. ولكنهم صدموا بشهادات بمسؤولي المخابرات الاميركية أمام الكونغرس, بأن هذه الحرب ستستمر لعقد من الزمن. وشهادة مساعد وزير الخارجية الأميركي السيدة آن باترسون أمام أعضاء لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ, والتي شهدت سجالاً حاداً مع السناتور الجمهوري بوب كروكر, والذي قال لها ساخراً : لا خيارات مطروحة لإدارتك على الطاولة. دفعها للرد عليه بالقول: إنها لا تريد مناقشة الأمر في جلسة علنية. ولكن استفزازه دفعها للكشف عن بعض جوانب السياسة الأميركية تجاه سوريا, حين قالت بصريح العبارة:

1. لدى واشنطن سياسة مبنيّة على دعم الدول المجاورة لسورية، مثل لبنان والأردن، وتوفير الإمدادات الإنسانية للمعارضة السورية.
2. وإن حكومتنا تواصل دعم المعارضة المعتدلة. ولن نسمح للتنظيمات الإرهابية بإقامة مناطق آمنة لها داخل سورية، كما فعلت تنظيمات مشابهة في باكستان.
3. وإن أبرز أولويتنا في الشأن السوري, هي منع إقامة ملاذات آمنة ودائمة للإرهابيين.
4. وإننا نتعاون مع شركائنا وأصدقائنا الآن لمواجهة التحديات المتزايدة التي يمثلها المقاتلون المتشددون والعنيفون في سورية واستمرار تدفقهم عليها من الخارج, والذي عددهم 32 ألف مقاتــل، بينهم سبعة آلاف من المقاتلين الأجانب من مجموع عديد المعارضة المسلحة, الذي يراوح تعدادها بين 75 ألفاً و110 آلاف مقاتل.
5. وإنه لا يمكن إجراء انتخابات في سورية بينما هناك ما بين تسعة وعشرة ملايين سوري خارج البلاد. والانتخابات الرئاسية في سورية لن تكون شرعية على الإطلاق.
وهذه الشهادة من مساعد وزير الخارجية الأميركية السيدة آن باترسون أمام أعضاء لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ, تكشف بوضوح أن سياسة الادارة الأميركية بشأن الوضع في سوريا بوجهين وجه مخفي لا يمكن الكشف عنه إلا في جلسة سرية, ووجه معلن. والموقف المستتر والغير معلن بنظر بعض المحللين, يهدف لتحقيق الأمور التالية:
• ضمان تحقيق مصالح أميركية وإسرائيلية كشرط مسبق لتمرير حل الأزمة السورية. أو تعقيدها وإطالة أمدها, ريثما تتوفر الشروط المناسبة لضمان تحقيق هذه المصالح.
• تشويه موقف وصورة كل من روسيا والصين من الاحداث في سوريا بعيون العرب و المسلمين. وتوظيفه لتحسين صورة وسمعة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
• إطالة أمد الأزمة السورية يبرر تهربها من إيجاد حل للصراع العربي الاسرائيلي. ويوفر لها الوقت لتكيل التهم للنظام والموالاة, وتشويه سمعة كل من النظام وفصائل المعارضة.
• محاولتها ربط صراعات منطقة الشرق الأوسط مع بعضها ليكون لواشنطن اليد الطولى في أي حل محتمل لها. وربطها بنزاعات دولية أخرى لتكون سلة متكاملة, حلها مرهون بتوافق دولي بين واشنطن من جهة وموسكو وبكين من جهة ثانية.
• تهزيل المنظمات الدولية والاقليمية. وذلك يوفر لها حرية الحركة بتجاوز هذه المنظمات حين تقرر التدخل عسكريا بدون قرار منها, أو تبرير عدم رغبتها بالتدخل بعدم وجود قرار من هذه المنظمات الدولية والاقليمية. ففي العراق تدخلت بدون قرار من مجلس الأمن, وفي سوريا تصر على قرار من مجلس الأمن.
• توظيف تفاقم الخلافات والصراعات, و عدم الاستقرار ,وحجم الدمار والخراب والخسائر بالأرواح والممتلكات في الدول التي عصفت بها ريح الربيع العربي. لتوظيفها لخدمة تنفيذ المشروع الشرق أوسطي الجديد. وذلك من خلال:
1. تبرير طرح فكرة إعادة فرض نظم الوصاية والانتداب من جديد بذريعة تأهيل الدول القائمة حالياً من جديد بعد أن ثبت بأنها دول فاشلة.
2. ترسيخ القناعة لدى شعوب هذه الدول بأنها شعوب عاجزة عن حكم نفسها بنفسها بأسلوب ديمقراطي. وأنه لا مفر أمامها سوى إعادة تأهيلها من جديد. وذلك من خلال نظم وصاية وانتداب جديدة, أو إعادة تكرار حكمها من قبل أنظمة شمولية لا تتقيد بكافة قواعد العملية الديمقراطية.
3. تغذية الصراعات الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية للوصول بها إلى حدود يستحيل معها تعايش مكونات هذه المجتمعات. لتبرير تفتيت وتقسيم هذه الدول من جديد على أسس طائفية ومذهبية وقبلية وقومية.
4. الدفع ببعض مكونات هذه المجتمعات للخيار بين الانضمام للدول المجاورة, أو الاستقلال لتشكيل امارات ودول تنعم بحماية الدول الأجنبية.
5. فرملة مجلس التعاون الخليجي كي لا يعارض تقارب أمريكي مع إيران.
6. الضغط على دول مجلس التعاون الخليجي لقبول دول فاعلة و ذات وزن مؤثر في عضويته, كمصر والعراق بحيث يكون قادراً على حماية أمن هذه الدول. والضغط على دوله لتعزيز تحالفها مع الولايات المتحدة الامريكية.
7. تحميل الاسلام المسؤولية عما لحق بهذه الدول, لتبرير اتهام الاسلام على أنه الدين الذي يستولد التطرف والارهاب ويرفض قيم الحرية والديمقراطية.
8. تخويف كل من تركيا وإيران من خطر إطالة النزاع والذي قد ينقل شرر صراع طائفي ومذهبي وقومي إليهما. لضمان عدم تصديهما لمخططاتها.
9. جعل الهدف الرئيسي لأي مؤتمر قادم يعقد تحت مسمى إيجاد حل للأزمة السورية هو محاربة الإرهاب والتطرف, وحظر الحركات والأحزاب الاسلامية.
أما الموقف المعلن للسياسة الأميركية بشأن سوريا والذي أوضحته السيدة باترسون أمام أعضاء لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. والذي أنه يخدم الموقف الاميركي غير المعلن. و بنظر الكثير من المحللين السياسيين والعسكريين هدفه تحقيق الأمور التالية:
• تأييد الادارة الاميركية لمبدأ وحيد بأن الحل في سوريا هو حل سياسي فقط.
• دعم بعض أطراف المعارضة عسكرياً. بهدف تحقيق المصالح والاهداف التالية:
1. ضمان تحقيق بعض المكاسب للمعارضة لتحسين موقفها التفاوضي.
2. تصعيد الاعمال العسكرية لمنع أو عرقلة إجراء انتخابات رئاسية ونيابية.
3. منع إجراء الانتخابات ربما لهدف الصوملة, أو التمديد للرئيس ومجلس الشعب, ريثما يتم الاتفاق على حكومة انتقالية تتفق على دستور جديد, يتم بموجبه إجراء الانتخابات المقررة للرئاسة ومجلس الشعب.
4. إنهاك الاطراف المتصارعة لفترة طويلة, بحيث تجد نفسها بأشد الحاجة لأي حل يعرض عليها, وهذا يؤهلها لقبول أي حل مهما كان مجحفاً.
5. منع تحقيق أي حسم عسكري من قبل أي طرف من الأطراف, لأنه الحسم العسكري يتعارض وأهدافها, و لا يخدم مصالحها.
• توسيع شقة الخلاف بين فصائل المعارضة بذريعة أن هناك معارضة معتدلة ومعارضة متطرفة وغير معتدلة, ومنظمات إرهابية ومقاتلون أجانب.
• عدم السماح للمعارضة الغير معتدلة والمنظمات الارهابية بالسيطرة وإقامة مناطق و ملاذات آمنة في سوريا كما حدث في دول أخرى كاليمن وباكستان.
• تعاون الولايات المتحدة الأميركية مع حلفائها وقوى أخرى, للقضاء على هذه المنظمات الارهابية في سوريا, كي لا يتمكن عناصرها من العودة إلى بلدانهم أو بلدان اخرى سوى في حالتين اثنتين فقط: جثث قتلى للدفن أو معتقلين.
• عدم تقديم المساعدات الانسانية للمواطنين السوريين إلا في حدودها الدنيا. وذلك بهدف أن يحيا المواطن السوري ا في أصعب وأعقدها, حتى لا يعارض أي حل قد يفرض لاحقاً, حتى وإن كان يتعارض ومصلحته ومصالح بلاده العليا. وربما هذا ما يفسر الصعوبات التي تجابه السوريين من مقيمين ومهجرين في دول الجوار ودول العالم, من حيث عدم تقديم أية مساعدة تضمن لهم العيش الكريم.
• مغازلة الإدارة الاميركية لشريحة من السوريين تقف موقف وسطي من النظام والمعارضة. بهدف الضغط على النظام والمعارضة. وهذه الشريحة لا تريد لبلدها التقسيم والدمار والخراب, وإنما تريدها دولة قوية وواحة للأمن والعيش المشترك.
الموقف الأميركي المعلن والمستتر للإدارة الاميركية بخصوص سوريا, يوفر لها هامش واسع من حرية الحركة بما يخدم مصالحها, دون أن يورطها بعمل عسكري. ويحررها من كل التزام قانوني وأخلاقي, فأرواح البشر ومعاناتهم وأمنهم بنظر الادارات الأميركية لا قيمة ولا معنى لهم بتاتاً.

محل التركي

$
0
0

عندما يزور المسلم أوروبا فأنه بحاجة لمن يرشده لاتجاه القبلة، ومواعيد الصلاة، ومحل التركي.

وإن كان من غير المصلين فأنه بحاجة شبه يومية إلى بقالية ومتجر التركي, لتأمين ما يحتاجه من اللحوم المذبوحة على الطريقة الاسلامية, والتي يطلق عليها تسمية اللحم الحلال.  كما  أن بعض  المواد المعتاد عليها كالزيتون والمكدوس والفول والقهوة والطحينة ودبس الرمان والفجل والبقدونس والنعنع والمخللات لن يجدها سوى عند ما يطلق عليه تسمية التركي. وكم سيعاني من جوره ومن مستوى انخفاض جودة بضائعه وأسعارها الباهظة, وضآلة الكميات من التوابل وغيرها المعبئة والمغلفة, والتي لن  يجدها سوى في بقالية التركي!!!

وهذه البضائع لن يجدها العربي والمسلم سوى في بقالية ومتجر ما يطلق عليه  التركي. فالتركي وفي فرنسا المغربي والجزائري هم من يبيعونك لحوم الضأن والبقر والدواجن  وغيرها على أنها مذبوحة على الطريقة الاسلامية.  وقد تشعر بالحزن والألم يعتصران قلبك حين تجد منهم من يجهل سماحة الإسلام وقيمه ومكارم أخلاقه. وأن همه هو المتاجرة بالدين الاسلامي فقط.  وسترى  العجب العجاب  حين تتعامل مع البعض منهم. ومنها على سبيل المثال:

  • أن ما يبيعه التركي  من لحوم على الطريقة الاسلامية كما يدعي هي ليست بجودة اللحوم التي تباع في البقاليات والمجمعات الأوروبية. وأن أسعار اللحوم عند التركي تفوق كل مثيلاتها من أسعار اللحوم  في المجمعات و البقاليات والمتاجر  الأوروبية.

  • وأسعار القهوة  والبهارات والمقبلات والزهورات والزيتون والزيت والفول والفاصولياء والعدس والحمص والمخللات وغيرها خيالية. ويبيعها لك على أنها عربية أو تركية.

  • وستجد أن سعر  ثلث باقة من البقدونس أو الكزبرة  أو النعناع  التي تباع في وطنك  قد حدد لها  التركي سعر خيالي بما يعادل 2 يوروا أو 2فرنك سويسري.

  • وأن تسعيرة بضائع التركي للفواكه والخضار تفوق عدة مرات أسعار باقي المحلات.

  • وأن سعر كيلو الفجل من النوع الكبير ما بين 3-4 فرنك سويسري أو يورو.

  • وأسعار الزيتون والأجبان والمكسرات والمربيات والمعلبات ودبس الرمان والزيوت والأواني الزجاجية والمعدنية تزيد عن أسعارها في تركيا وفي مجمعات البلاد الأوروبية.

  • وإن كنت ممن يقتات بأرغفة الخبز المشروح أو المرقد, فعليك أن تدفع ثمن الربطة بحدود 2فرنك سويسري أو يوروا. والربطة التي تبتاعها من محل التركي أرغفتها صغيرة, و وزنها أقل من  نصف الربطة المعتاد عليها في بلادك.

  • وحتى الخضار والفواكه التالفة ستجدها  على شكل رزم من أكياس ومعروضة امام  محل التركي,  بعد أن أعاد تسعيرة الكيس من جديد. وإذا غامرت واشتريت هذا الكيس, ستجد أن محتوياته تالفة. لا كما هو متبع في البقاليات والمجمعات الأوروبية, التي  تعبئها بأكياس بعد أن تخفض أسعارها وتبيعها لمن يرغب بثمن زهيد.

  • والاتراك الذين يعملون في بقالية التركي  لن يتحدثوا معك باللغة العربية حتى ولو كنت لا تتقن لغة البلد الأوروبي أو اللغة التركية, رغم أنها لغة القرآن الذي يؤمنون به. ولن تجد منهم أية مساعدة إن كنت تجهل لغة البلاد الأوروبية أو اللغة التركية.

  • وفي فرنسا وفي بعض الدول الأوربية ستجد  بقاليات وملاحم ( محلات بيع اللحوم) يملكها الجزائريين والمغاربة. وستجد أن  اللحوم التي تشتريها من محلات هؤلاء هي أفضل وأكثر جودة من بقالية التركي. وستجد في فرنسا بقالية ومتجر اللبناني والذي  يبيعك سعر قطعة صغيرة من الحلويات الدمشقية والحلبية بحدود 2يوروا.

  • ورغم وجود بقالية التركي, إلا أن المسلم سيجد صعوبة أو ربما يتعذر عليه الحصول على  نسخة من كتاب الله, أو على سجادة صلاة ترشده لاتجاه بيت الله الحرام.

    كم هم  محزن عدم اهتمام من يدعون حرصهم على المسلمون والاسلام بتوفير اللحوم الحلال للمسلم في دول الغرب!! رغم أنها ضرورية وليست من أنواع الرفاهية والكماليات!! وكم يدمي القلب وجود من يستغلون حاجة  المسلم لتحقيق الربح الحرام !!! وكم هذه الأصناف تسيء للإسلام  ولأنفسهم كمسلمين!!! ولا يسعنا إلا أن نتوجه لرجال الدين الكرام و بعض المرجعيات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية الذين نكن لهم كل محبة وتقدير واحترام كي يتكرموا  مشكورين وغير مأمورين بإجابتنا على هذه الأسئلة والتساؤلات:

  1. ما هو رأي  رجال الدين الكرام  بأفعال وسلوك وأخلاق هذا الصنف من التجار الذين يسيئون للمسلمين والاسلام ويتاجرون بالإسلام لحصد الأرباح باستغلالهم لكل مسلم يسعى جاهداً للحفاظ على إسلامه وتقيده بكل ما حرمه وحلله الله ربه؟

  2.  وهل  تصرف مثل هؤلاء يرخص للمسلم  تناول لحوم لم يذكر على ذبحها أسم الله  لأنها أرخص وأفضل من تلك التي يبيعها مثل هذا الصنف من المستغلين للإسلام؟

  3. ثم ما هو  رأي السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية لبلاد هذا الصنف من التجار الذين  يسيئون للإسلام والمسلمين ولبلادهم بمثل هذه التصرفات؟

  4. ولماذا تغيب بعض الدول العربية والاسلامية التي تنصب من نفسها حامية للإسلام عن هذا الميدان, وهي تشتري الفنادق والموانئ والشركات الكبرى, ولا تتكرم ببناء مجمعات في البلاد الأجنبية لتأمين اللحم الحلال للمسلمين في هذه البلاد الأجنبية؟

  5. ولماذا لا نجد من دور لسفراء وقناصل الدول العربية والاسلامية في هذا المجال, مع ان في كل سفارة ممثل تجاري بإمكانه ان ينشأ قسم خاص لتأمين اللحوم الحلال لمواطني بلاده في الدول الأجنبية بدل ان يتركهم فريسة لمثل هذا الصنف من التجار؟

  6. ولماذا لا تقلد البعثات الدبلوماسية والسفارات والقنصليات العربية والاسلامية في البلاد الأجنبية البعثات الدبلوماسية وسفارات الدول الأجنبية المعتمدون في بلادهم. والذين يوفرون لمواطني بلادهم كل متطلباتهم الضرورية المعاشية والصحية والتعليمية؟

  7. وما هو سر غياب التجار العرب والمسلمون عن هذا المجال, رغم أن وجودهم يخدم الروح العربية والاسلامية ومتطلبات الدين الاسلامي الحنيف, ويوفر لإخوانهم من المسلمون والعرب حاجاتهم الضرورية, ويخفف عن كواهلهم الكثير من المتاعب والمشقات والمصروفات الباهظة. ويساهم في تطوير التجارتين العربية والاسلامية وتوسيعها في البلاد الأجنبية, وتصدير الكثير من البضائع والمنتوجات والمحاصيل العربية والاسلامية للدول الأجنبية, ويحقق لهم ولبلادهم الكثير من الفوائد والأرباح؟

  8. ولماذا تغيب الدول الاسلامية  عن تذليل بعض ما يعترض المسلمين في دول الغرب؟

    أسئلة نتمنى أن يتكرم علينا بالإجابة عليها كل من رجال الدين الكرام و المرجعيات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية الذين نكن لهم كل  حب ومحبة وتقدير واحترام.

لماذا انقلب جون كندي على مصر

$
0
0

كان عام 1962أوج حراك العالم العربي: ثورة اليمن، ثورة ظفار، عودة فيصل لتولي رئاسة وزراء السعودية وسفر الملك سعود لعلاج طويل، تهديد قاسم بضم الكويت، جلاء أمريكا عن قاعدة الظهران، استقلال الجزائر.

برقيات وزارة الخارجية الأمريكيةتؤرخ بتفصيل كبير لكل كبيرة وصغيرة في دول الشرق الأوسط، وبوتيرة عالية،في الفترة 1961-63. إلا أننا نلاحظاختفاء البرقيات حول مصر بعد يونيو 62 بعد ثلاث برقيات حول اعادة تقييم أمريكا لموقفها تجاه القومية العربية وناصر ومصر. وتلى ذلك تقييم لرسالة من عبد الناصر لكندي في 25 يونيو.

فماذا الذي فعلته مصر في مايو 1962 بالتحديد، الذي استدعى اعادة تقييم أمريكا لموقفها تجاه القومية العربية وناصر ومصر، كما تذكر البرقيات؟

البعض يعزو القطيعة المصرية الأمريكية في مايو 1962 إلى رحيل دوايت أيزنهاور، الجمهوري، المناوئ للمؤسسة العسكرية-الصناعية والودود تجاه مصر، في يناير61. والرد على ذلك هو أنه لو كانت القطيعة الأمريكية مع مصر في مايو 62 بسبب أيديولوجي/حزبي، لما انتظرت 17 شهر بعد وصول جون كندي، الديمقراطي، للحكم.

صاروخ الظافرثمة سبب محتمل في مايو 1962، قد يكون القشة التي قصمت ظهر البعير: تجربة مصر للصاروخ الظافرفي مايو 62، ضد رغبة كل من أمريكا وروسيا.

انظر: برنامج الصواريخ المصري

السبب الآخر المحتمل هو رسالة عبد الناصر لكندي في 25 يونيو.

لم يتعرض محمد حسنين هيكل، ولا غيره من مؤرخي الفترة، لسبب انقلاب كندي. لذا يبقى السؤال مطروحاً. ما رأيكم؟

إسرائيل وعقيدة الأرض المستردة

$
0
0

 

بقلم : محمد السويسي

تقوم الثقافة التعليمية في المدارس الإسرائيلية على تلقين تلامذة المدارس منذ الصغر عقيدة الأرض المستردة التي تعني الإستيلاء على أراضي الفلسطينيين لتقليص أعدادهم وتهجيرهم من وطنهم مع تضييق لقمة عيشهم ، وهم يلقنون تلامذتهم هذه الفلسفة على أساس أنها عقيدة قابلة وملزمة في التطبيق وفقاً للتوراة ، ليس في أراضي إسرائيل فحسب بل وفي الأراضي العربية المحتلة أي على كامل أرض فلسطين في الضفة القطاع وحتى الجولان ، أي الأراضي التي احتلت عام 67 ولاتزال ، فيما يشار إليها رسمياً كجزء من أرض إسرائيل الكبرى .

ووفق هذه الإيدولوجية فإن الأرض المحتلة هي الأرض المستردة من غير اليهود إلى أصحابها الأصليين من اليهود ! وبالتالي فهي أرض "مستردة "، مع إنتقال ملكيتها من غير اليهود إلى اليهود ولو غصباً .

وهذه الملكية يمكنها أن تكون أما ملكية خاصة أو ملكاً للصندوق القومي اليهودي أو للدولة اليهودية . أما الأرض التي لازالت بحوزة الفلسطينين أو العرب فإنها تعتبر أرضاً "غير مستردة " . وهكذا عندما يقدم يهودي على شراء أرض من غير اليهود فإنها تعتبر أرضاً "مستردة " .

ولكن إذا أقدم شخص عربي أو غير يهودي على شراء أرض من يهودي فإنها تعود أرضاً غير مستردة مرة أخرى ، وبالتالي فإن النتيجة الحتمية لهذا التدبير هو الطرد أو مايسمى "الترحيل "أو "الترانسفير"الذي يطال المواطنين "الأغيار "كافة من مساحة "الأرض التي "أستردت " . وبالتالي فإن يوتوبيا "الإيديولوجية اليهودية "التي تبنتها إسرائيل هي عقيدة الأرض المستردة لفلسطين بأكملها .

وعلى نحو مماثل فإن الكيبوتز الذي كان اللبنة التي أُنشأت عليها إسرائيل وفقاً لدعايتها في خلق مجتمع مثالي إقتصادي فإنه لايقبل في وسطه أي عضو من العرب أو من غيرهم إذ يطلب الأعضاء المحتملين من المهاجرين الجدد من قوميات أخرى أن يتحولوا عن ديانتهم واعتناق الديانة اليهودية للسماح بضمهم إلى الكيبوتز والإستفادة من خيراته . لذا فلا عجب من تعصب شبيبة الكيبوتزات وعنصريتهم وعدوانيتهم الدائمة ضد الفلسطينيين وفق العقيدة التي يلقونها ضمن الكيبوتز .

إن هذه الإيدلوجية الحصرية العدوانية هي التي حددت عمليات الإستيلاء على أراضي فلسطين في الخمسينات ثم في أواسط الستينات ، وفي المناطق المحتلة بعد العام 1967 ، وليس "الحاجات الأمنية "كما تدعي إسرائيل . وهذه الإيديولوجية هي التي أملت أيضاً الخطط الإسرائيلية الرسمية من أجل "تهويد الجليل "والإستيلاء على القدس وتهويدها والسعي لتهويدها . وهذا المصطلح الغريب يعني تشجيع وحث اليهود على الإستيطان في الجليل بمنحهم تقديمات مالية سخية .

ولكن الإستيلاء على الأرض العربية وفق عقيدة الإسترداد يعني ضمناً أكثر من "التهويد "الأقليمي . فالصندوق القومي اليهودي المدعوم بقوة من كافة الوكالات الرسمية الإسرائيلية ، خاصة من الشرطة السرية ، ينفق مبالغ ضخمة من الأموال العامة من أجل "استرداد "أي أرض يرغب "الأغيار "في بيعها ، خاصة في القدس وكامل أرض فلسطين ، وبالتالي منع أي محاولة يقوم بها يهودي لبيع أرضه لغير اليهود وذلك بدفع سعر أعلى مغر له .

Viewing all 560 articles
Browse latest View live