الراغب الأصفهاني
الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصفهاني (أو الأصبهاني) المعروف بالراغب والمتوفي سنة 502هـ-1108م
الحد الحادي والعشرون
في الموت وأحواله
الفرع الأول
أسماء الموت ووصفه:
يقال له: النبط والهمع والرمد وأم قشعم وشعوب، والموتان والموت والحمام والفود ومرت زؤام وذعاف وجحاف. ويقال: فقس وفطس ويتبل وعضد وطن، ولعق اصبعه ورق بنفسه وجرض بريقه وآثر الله به، وانخل تركيبه ومضى لما خلق له وأتاه ما كان يحذر، ودعاه ما كان يخبر، شرب الدهر عليهم وأكل وأفلت حريضاً وأفضه شعوب، ووجبت نفسه ونضب ظله وقرض رباطه وصل به إلى أبي يحيى وسلم لمائه. وقيل لحكيم: ما الحياة وما الموت؟قال: الحياة ميتة أدت إلى سعادة، والموت حياة أوجبت على أهلها الحجة. وأجود اسم له ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أكثروا من ذكر هادم اللذات. وقيل: الحتوف أربعة: سخطي بعقوبة الله وذلك ما ذكر الله "حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً "، وطبيعي وذلك بالهرم وانقطاع الأمل، وعرضي ما هو يسمى الموت الفجأة، واكتسابي وهو ما يكون بالتعرض لحرب أو سباع ونحو ذلك.
تعظيم أمر الموت:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظراً فظيعاً إلا والموت أفظع منه.
عبد الله بن معاوية:
والموت أعظم حالةٍ ... مما يمر على الجبله
وقال رجل للحسن: إن عشت تر ما لم تره. فقال الحسن: إن مت تر ما لم تر. وكان كثيراً ما يقول الحسن: عند الموت يأتيك الخبر. وقال: إن الموت فضح الدنيا.
الحث على تصور الموت:
قال بعض الخلفاء لابن السماك: عظني وأوجز. فقال: اعلم أنك أول خليفة تموت، وهذا كما سأل ازدشير بعض الحكماء عن دار بناها وقال: هل ترى فيها عيباً؟فقال: نعم عيباً لا يمكنك اصلاحه. فقال: وما هو؟قال: لك منها مخرجة لا عود بعدها أو دخلة لا خروج بعدها. وقال روح بن عبادة: رأيت في منامي كأن قائلاً يقول:
لا تكونوا كالأولى من قبلكم ... لم يخافوا بأسنا حتى نزل
وكتب أبو العتاهية على سقف بيته بتزويق:
أتطمع أن تخلد لا أبالك ... أمنت قوى المنية أن تنالك؟
أما والله إن لها رسولاً ... بها لو قد أتاك لما أقالك
كأني بالتراب عليك يحثى ... وبالباكين يقتسمون مالك
ولست مخلفاً في الناس شيئاً ... ولا متزوداً إلا فعالك
وكان الحسن إذا خوف من الموت يقول للشيوخ: الزرع إذا بلغ لا بد أن يحصد. ويقول للشبان: هل رايتم زرعاً لم يبلغ أدركته الآفة. وقيل: اذكر حفرة سمكها قصير وساكنها أسير. وقيل: من ضاق به أمر فليتذكر الموت فإنه يتسع عليه. ونحوه: من أحس بأنه يموت فليس ينبغي أن يغتم لأمر صعب ينزل به. وقيل لجعفر بن محمد عليهما السلام: كيف صار الموت يأخذ على فنون شتى؟قال: أحب الله أن لا يؤمن على حال. شكا رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قساوة قلبه فقال: اكثر من ذكر هادم اللذات فإنه ما ذكره أحد في ضيق إلا وسعه عليه، ولا في سعة إلا ضيقها عليه. وقال معبد الجهني: نعم نصيحة القلب ذكر الموت، يطرد فضول الأمل ويكف غرب المنى، ويهون المصائب ويحول بين القلب وبين الطغيان. وقيل: وما دخل ذكر الموت بيتاً إلا رضي أهله بما قسم الله لهم وجدوا في أمر آخرتهم. وقيل: أبلغ العظات النظر إلى محل الأموات ومصارع البنين والبنات.
التخويف من الموت بما يشاهد:
قال الحسن وقد قعد عند راس ميت: إن امرأ هذا آخره لأهل أن يزهد فيما قبله، وإن امرأ هذا أوله لأهل أن يحذر ما بعده. وقف أعرابي على قبر هشام وخادم له يقول: ما لقينا بعدك صنع بنا فقال الأعرابي: إيهاً عليك أما أنه لو نشر لأخبر أنه لقي أشد مما لقيتم. ومر أمير المؤمنين بمقابر الكوفة فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع، أما الأزواج فقد نكحت وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خير ما عندنا فما خبر ما عندكم، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما أنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى. ونظر الحسن إلى صبية بين جنازة أبيها تقول: يا أبت مثل يومك لم أره!فضمها الحسن وقال: أي بنية وأبوك مثل هذا اليوم لم يره!فبكى الخلق.
حث الإنسان على الاستدلال على موته بمن مات من أقاربه:
قال بعض الحكماء: ذهب أبوك وهو أصلك وابنك وهو فرعك، فما حال الباقي بعد ذهاب اصله وفرعه؟وقال محمود في معناه:
وغادروك بلا أصلٍ ولا طرفٍ ... فما بقاؤك بعد الأصل والطرف؟
أبو نواس:
ألا با ابن الذين فنوا وماتوا ... أما والله ما ماتوا لتبقى
قال أبو حازم إن امرأ ما بينه وبين آدم أب إلا ميت لمعرق في الموت. قال لبيد:
فإن أنت لم ينفعك علمك فانتبه ... لعلك تهديك القرون الأوائل
فإن لم تجد من دون عدنان باقياً ... ودون معدٍ فلترعك العواذل
امرؤ القيس:
فبعض اللوم عاذلتي فإني ... سيكفيني التجارب وانتسابي
إلى عرق الثرى وشجت عروقي ... وهذا الموت يسلبني شبابي
أبو تمام:
تأمل رويداً هل تعدن سالماً ... إلى آدم أو هل تعد ابن سالم
متى يرع هذا الموت عيناً بصيرةً ... تجد عادلاً منه شبيهاً بظالم
عمارة:
وما نحن إلا رفقةٌ قد ترحلت ... لقصدٍ وأخرى قد أنيخت ركابها
البحتري:
وما أهل المنازل غير ركبٍ ... مناياهم رواحٌ وابتكار
لما أتى معاوية موت زياد توجع وقال:
وأفردت سهماً في الكنانة واحداً ... سيرمى به أو يكسر كاسره
الاعتبار بمن مات من الكبار والسلاطين:
قيل: لما مات الإسكندر وقف عليه أرسطاطاليس فقال: طالما كان هذا الشخص واعظاً بليغاً، وما وعظ بموعظة في حياته من عظته في مماته؛أخذ هذا المعنى أبو العتاهية فقال:
وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... فأنت اليوم أوعظ منك حيا
وحمل إلى أمه في تابوت من ذهب فقالت: جمعت الذهب حياً وجمعك ميتاً.
الأسود بن يعفر:
ماذا أؤمل بعد ىل محرقٍ ... تركوا منازلهم بغير أياد
أهل الخورنق والسدير وبارقٍ ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
المتنبي:
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى ... كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه ... وحواه عند الموت لحدٌ ضيق
آخر:
ألم تر صول الدهر في آل برمكٍ ... وآل نهيكٍ والأولى سلفوا قبل
لقد غرسوا غرس النخيل تمكناً ... فما حصدوا إلا كما يحصد البقل
ونظرت امرأة إلى جعفر بن يحيى مصلوباً فقالت: لئن كنت في الحياة غاية فلقد صرت في الممات آية! شاعر:
ومن كان ذا بابٍ شديدٍ وحاجبٍ ... فعما قليلٍ يهجر الباب حاجبه
آخر:
الموت يأتي كل محتجبٍ ولا يستأذن
تناهى بعد من مات:
أبو حية النمري:
فلا غائبٌ من كان يرجى إيابه ... ولكنه من ضمن اللحد غائب
آخر:
بلى كل من تحت التراب بعيد
آخر:
ومن نصب المنون بعيد
النابغة:
حسب الخليلين نأي الأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها بالي
الغفلة عن الموت:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: كان الحق على غيرنا وجب، وكان الموت على غيرنا كتب، وكان من نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون، نبوءهم أجداثهم ونأكل تراثهم كأنا مخلدون بعدهم. وقال الحسن: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت؛أخذه محمد بن وهب فقال:
تراع لذكر الموت ساعة ذكره ... وتعترض الدنيا فتلهو وتلعب
يقينٌ كأن الشك غالب أمره ... عليه وعرفانٌ من الجهل ينسب
وقال الحسن وهو في جنازة: يا قوم لو أن هذا الرجل أخذه سلطانكم لفزعتم؟قالوا: بلى. قال: قد أخذه ربكم فلم لا تفزعون؟وقيل: من لم يرتدع بالموت وبالقرآن ثم تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع. وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: ما هذا التغافل عما أمرتم به والتسرع إلى ما نهيتم عنه؟إن كنتم على يقين فأنتم حمقى، وإن كنتم على شك فأنتم هلكى! أبو العتاهية:
الموت لو صح اليقين به ... لم ينتفع بالموت ذاكره
محمد بن بشير:
يا حسرتي في كل يوم مضى ... يذكرني الموت وأنساه
الموسوي:
ونأمل في وعد المنى غير صادقٍ ... ونأمن من وعد المنى غير كاذب
نراع إذا ماشيك أخمص بعضنا ... وأقدامنا ما بين شوك العقارب
الأجل حائل بين الإنسان والأمل:
قيل: لو ظهرت الآجال لافتضحت الآمال. ووجد حجر بدمشق مكتوب عليه: يا ابن آدم لو رأيت ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك. وقال أمير المؤمنين: إنكم في أجل محدود وأمل ممدود ونفس معدود، ولا بد للأجل أن يتناهى وللأمل أن يطوى وللنفس أن يحصى. وقيل لحكيم: ما ابعد الأشياء عن الناس؟قال: الأمل؛فقيل: وما أقرب الأشياء منهم؟قال: الأجل.
من مات بعد الكبر:
عاش نوح عليه السلام ما عاش وقيل له لما أشرف على الموت: كيف وجدت الدنيا؟قال: وجدتها داراً دخلتها من باب وخرجت من آخر. وقال بعضهم:
وكل امرئٍ يوماً وإن عاش حقبةً ... له غايةٌ تجري إليه ومنتهى
محمود الوراق:
وما صاحب السبعين والعشر بعدها ... بأقرب ممن حنكته القوابل
ولكن آمالاً يؤملها الفتى ... وفيهن للراجين حقٌ وباطل
المتنبي:
وأوفى حياة الغادرين لصاحبٍ ... حياة امرئٍ خانته بعد مشيب
الموت لا يفوته أحد:
قيل: من لم يمت عاجلاً مات آجلاً.
شاعر:
فمن لم يلاق الموت كأس منيةٍ ... فلا بد منه أن تصادفه غدا
آخر:
كل حيٍ مملكٍ ... سوف يفنى وما ملك
آخر:
وكل جمع في الورى تفرق
آخر:
من لم يمت غبطةً يمت هرماً
وقيل لابن المقفع: قد كنت نعيت إلينا فقال: ما بعد كائن ولا قرب بائن.
ابن المعتز:
ألا إنما جسمي لروحي مطيةٌ ... ولا بد يوماً أن يعرى من الرحل
الموت لا يتخلص منه بالطب:
قيل للربيع بن خيثم في مرضه: ألا نعدو لك طبيباً؟قال: وعاداً وثموداً وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيرا، لقد كان فيهم أطباء فما أرى المداوي بقي ولا المداوى صلح.
ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرئ مثله فيما مضى
هلك المداوي والمداوى الذي ... جلب الدواء وباعه ومن اشترى
المتنبي:
يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه
ودخل الفرزدق على مريض يعوده فسمعه يطلب طبيباً فقال:
يا طالب الطب من داءٍ تخوفه ... إن الطبيب الذي أبلاك بالداء
هو الطبيب الذي يرجى لعافيةٍ ... لا من يدوف لك الترياق بالماء
آخر:
واعياً دواء الموت كل طبيب
وفي باب الطب بعض ذلك وأشباهه.
التحرز لا يخلص من الموت:
قيل: إذا انقضت المدة فالحتف في العدة.
شاعر:
كل شيءٍ قاتلٌ ... حين تلقى أجلك
أبو ذؤيب:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع
المخبل:
ولئن بنيت لي المشقر في ... هضبٍ يقصر دونه العصم
وقيل: إن عبد الملك هرب من الطاعون فركب ليلاً وأخرج غلاماً له، وكان ينام على دابته فقال للغلام: حدثني. فقال: وما أنا حتى أحدثك؟قال: على كل حال حدث حديثاً سمعته. فقال: بلغني أن ثعلباً يخدم أسداً ليحميه ويمنعه ممن يريده، فكان يحميه فرأى الثعلب عقاباً فلجأ إلى الأسد فأقعده على ظهره، فانقض العقاب واختلسه، فصاح الثعلب: يا أبا الحارث أغثني واذكر عهدك لي!فقال: إنما أقدر على منعك من أهل الأرض وأما أهل السماء فلا سبيل لي إليهم. فقال عبد الملك: وعظتني وأحسنت انصرف، فانصرف ورضي بالقضاء. ويروى لبعض الجن:
رأى الحصن منجاةً من الموت فارتقى ... إليه فزارته المنية في الحصن
آخر:
يوشك من فر من منيته ... في بعض غراته يصادفها
آخر:
وإذا خشيت من الأمور مقدراً ... وفررت منه فنحوه تتوجه
جحر العبسي:
فقل للمتقي عرض المنايا: ... توق فليس ينفعك اتقاء
ثعلبة العبدي:
أمن حذرٍ آتي المتالف سادراً ... وأية أرضٍ ليس فيها متالف
آخر:
لا تأمنن وإن أصبحت في حرمٍ ... إن المنايا بجنبي كل إنسان
أبو ذؤيب:
يقولون لي: لو كان بالرمل لم يمت ... نشيبة والطراق يكذب قيلها
ول أنني استودعته الشمس لارتقت ... إليه المنايا عينها ورسولها
آخر:
كل يدور على البقاء مجاهداً ... وعلى العناء تديره الأيام
كل إنسان يفقد أو يفقد أقاربه:
قال بعض الحكماء: ما طال عمره رأى المصائب في إخوانه وجيرانه، ومن قصر عمره كانت مصيبته في نفسه.
شاعر:
كل امرئٍ ستئيم منه العرس أو منها يئيم
الموسوي:
فمؤجلً يلقى الردى في أهله ... ومعجل يلقى الردى في نفسه
المتنبي:
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئةٍ وذهوب
تملكها الآتي تملك سالبٍ ... وفارقها الماضي فراق سليب
الموت لا يدفع بالأسلحة:
علقمة:
بل كل قومٍ وإن عزوا وإن كثروا ... عريقهم بأثافي الشر مرحوم
المتنبي:
نعد المشرفية والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال
ونرتبط السوابق مقرباتٍ ... وما ينجين من خبب الليالي
ومن لم يعشق الدنيا قديماً ... ولكن لا سبيل إلى الوصال
الموسوي:
تفوز بنا المنون وتستبد ... ويأخذنا الزمان فلا يرد
رويدك بالفرار من المنايا ... فليس يفوتها الساري المجد
وكل فتى يحف بجانبيه ... خواطر بالقنا قنبٌ وجرد
فما دفع المنايا عنه وفرٌ ... ولا هزم النوائب عنه جند
الحياة معرضة لسهام المنايا:
أبو العتاهية:
إن للموت لهماً قاصداً ... ليس يفدي أحداً منه أحد
الرفاء:
نحن أغراض خطوبٍ إن رمت ... حيرت في دقة الرمي ثعل
وإذا ما اختلفت أسهمها ... فأصابت بطل القرم بطل
صحيح مات:
قيل لحكيم: مات فلان أصح ما كان!فقال: أو صحيح من الموت في عنقه. وقيل للحسن: مات فلان فجأة، المرض فجأه، ثم قال: اللهم أجرني من أكون مختلساً، وقيل لأعرابي: كيف مات أبوك؟قال: مات سراً؛يعني فجأة.
شاعر:
وربما غوفص ذو غرةٍ ... أصح ما كان وما يسلم
وقيل لرجل: ما كان سبب موت فلان؟فقال: كونه. وقال سفيان: يا ابن آدم إن جوارحك سلاح الله عليك بأيها شاء قتلك.
ضعف بنية الإنسان وتركيبه:
سئل جالينوس عن الإنسان فقال: سراج ضعيف وكيف يدوم ضوؤه بين أربع رياح، يعني بالسراج روحه وبالرياح الأربع طبائعه.
شاعر:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يصير رماداً بعد إذ هو ساطع
وقال أفلاطون: إذا كانت الطينة فاسدة والبنية ضعيفة والطبائع متنافية، والعمر يسيراً والمنية راصدة فالثقة باطلة.
شاعر:
انظر إلى هذه الأنام بعبرةٍ ... لا يعجبنك خلقه ورواؤه
ببناه كالورق النضير تقبضت ... أغصانه وتسلبت شجراؤه
وقال الحسن: مسكين ابن آدم مكتوب الأجل والعلل، أسير الجوع والشبع.
إتيان المرء حتفه حيثما قدر له:
قيل لفيلسوف: مات فلان في الغربة، فقال: ليس بين الموت في الوطن والغربة فضل، لأن الموت في جميع المواضع واحد، والطريق إلى الآخرة من كل مكان سواء.
شاعر:
إذا ما امرؤٌ حانت عليه منيةٌ ... بأرضٍ أتاها مكرهاً لا تطوعا
آخر:
إذا ما حمام المرء كان ببلدةٍ ... دعته إليها حاجةٌ أو تطرب
جهل الإنسان بوقت موته وموضع مضجعه:
قال الله تعالى "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت " . وقيل لجعفر بن محمد عليهما رضوان الله: كيف يأتي الموت من وجوه شتى على أحوال شتى؟فقال: إن الله أراد أن لا يؤمن في حال. وقيل: أمر لا تدري متى يغشاك، ألا تستعد له قبل أن يفجأك؟ ديك الجن:
الناس قد علموا أن لا بقاء لهم ... لو أنهم عملوا مقدار ما علموا
آخر:
وإنك لا تدري بأية بلدةٍ ... تموت ولا عن أي شقيك تصرع
تسوية الموت بين الأفاضل والأراذل:
قال مالك بن دينار: قدم علينا بشر بن مروان أخو الخليفة، فطعن في قدمه فمات فأخرجناه إلى القبر، فلما صرنا إلى الجبان إذا نحن بسودان يحملون صاحب لهم إلى القبر، فدفناه ودفنوا صاحبهم، فعدت قبل السبوع فلم أعرف قبر الأسود من قبره. وعلى هذا قول الشاعر:
ولقد مررت على القبور فما ... ميزت بين العبد والمولى
المتنبي:
وصلت إليك يدٌ سواءٌ عندها الباز الاشيهب والغراب الأبقع
ويروى أن الإسكندر مر بمدينة قد ملكها غيره من الملوك فقال " : انظروا هل بقي بها أحد من نسل الملوك؟فقالوا: رجل يسكن المقابر. فأحضره وساله عن إقامته فقال: أردت أن أميز عظام الملوك عن عظام عبيدهم، فوجدتها سواء!فقال: هل تتبعني فأحيي شرفك إن كان لك همة؟فقال: همتي عظيمة أن أنلتنيها. فقال: وما هي؟فقال: حياة لا موت معها وشباب لا هرم معه، وغنى لا فقر معه وسرور لا مكروه فيه!فقال: ليس عندي هذا. فقال: دعني ألتمسه ممن هو عنده. فقال: ما رأيت مثله حكيماً. وأمر بشر بن الوليد أن يكتب على قبره:
من مات فات وفي المقابر يستوي ... تحت التراب شريفه ووضيعه
وقال صالح بن عبد القدوس:
فيا منزلاً سوى البلى بين أهله ... فلم يستبن فيه الملوك من السوقى
انقضاء ناس بعد ناس ورجوعهم إلى الموت: قال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: إن لله في كل يوم ثلاث عساكر: عسكر ينزل من الأصلاب إلى الأرحام، وعسكر ينزل من الأرحام إلى الأرض، وعسكر ينزل من الدنيا إلى الآخرة.
شاعر:
وما نحن إلا رفقةٌ غير أننا ... أقمنا قليلاً بعدهم ونروح
ودخل العتبي المقابر فأنشد:
سقياً ورعياً لإخوانٍ لنا سلفوا ... أفناهم حدثان الدهر والأبد
نمدهم كل يومٍ من بقيتنا ... ولا يؤب إلينا منهم احد
الغطمش:
أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب
ونحوه:
إذا زرت أرضاً بعد طول اجتنابها ... فقدت صديقاً والبلاد كماهيا
وقيل لبهلول وقد أقبل من مقبرة: من أين؟قال: من عسكر الموتى!فقيل: وما قلت وما قالوا؟قال: سألتهم متى يرحلون؟فقالوا: ننتظر قدومكم ثم نرتحل. ونحو هذا قول الحسن: يا عجباً لقومٍ أمروا بالزاد وأذنوا بالارتحال، وأقام أولهم على آخرهم وآخرهم قعود يلعبون، فليت شعري ما الذي ينتظرون؟ الموسوي:
تملي المقادير أعماراً وتنسخها ... ويضرب الدهر أياماً بايام
مرجع الإنسان إلى ما خلق منه:
قال الله تعالى "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " .
المتنبي:
إلى مثل ما كان الفتى يرجع الفتى ... يعود كما أبدى ويكري كما أرمى
الخبزارزي:
هو الموت مخلوقٌ له الخلق أجمع ... فليس له عن أنفس الناس مقلع
المتنبي:
نحن بنو الدنيا فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمانٍ هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجساد من تربه
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
ومنها:
يموت راعي الضأن في جهله ... ميتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه
فهذا الكلام هو الجوهر الذي لا قيمة له.
ذم من يخاف الموت ولا يستعد له:
قال أمير المؤمنين عليه السلام لرجل: كيف انتم؟قال: نرجو ونخاف. قال: من رجا شيئاً طلبه ومن خاف شيئاً هرب منه. وقال أبو الدرداء: العجب لمن يكره الموت لإساءته ولا يكره الإساءة في حياته. ونظر الحسن إلى جنازة يزدحم الناس عليها فقال: ما لكم تزدحمون؟ها هي سارية في المسجد اقعدوا تحتها واصنعوا ما كان يصنع حتى تكونوا مثله. وقال الحسن لشيخ في جنازة: أترى هذا الميت لو رجع إلى الدنيا كان يعمل صالحاً؟قال: نعم قال: إن لم يكن ذاك فكن أنت ذاك.
علي بن عبد العزيز:
إذا قلت لم يبلغ بي السن مبلغاً ... وعظت بطفلٍ صار قبلي إلى الترب
الحث على تعاطي ما يسهل الموت:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أكره الموت. فقال: ألك مال؟قال: نعم قال: قدمه فإن قلب كل امرئ عند ماله. وقال رجل لأبي الدرداء: ما بالنا نكره الموت؟قال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنقلوا من العمران إلى الخراب. وقال أبو حازم: كل عمل تكره الموت لأجله فدعه كي لا تخاف منه متى أتاك.
من أمر ذويه بالبكاء عليه:
قيل فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه أنه إنما عنى إذا هو أمر به نحو قول طرفة بن العبد:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا أم معبد
وقول الفرزدق:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... فكل جميلٍ قلت فيّ مصدق
ابن المعتز:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... ولا تذخري دمعاً إذا قام نائح
وقولي: ثوى طود المكارم والعلى ... وعطل ميزانٌ من الحلم راجح
من أظهر جزعاً عند موته:
لما أحضر حجر بن عدي ليقتل سأل أن يمهل حتى يصلي ركعتين، وأظهر جزعاً فقيل له: أتجزع؟قال: كيف لا وإني لأرى سيفاً مشهوراً وقبراً محفوراً، ولست أدري إلى جنة يمضي بي أم إلى نار؟وبكى الحسن بن علي رضوان الله عليهما فقيل له: ما يبكيك وقد ضمن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة؟فقال: إني أسلك طريقاً لم أسلكها وأقدم على سيد لم أره. وقيل لبشر بن الحارث: كرهت الموت؟قال: القدوم على الله شديد!
من أظهر الندم عمد موته على ما فرط منه:
قال عبد الملك عند موته: وددت أني كنت غسالاً آكل كل يوم كسب يومي لا يفضل عني. فقيل ذلك لأبي حازم فقال: الحمد لله الذي جعلنا بحيث يتمنى الملوك حالنا عند الموت، ولا نتمنى حالهم. ولما نزل الموت بهشام جعل ولده يبكون عليه فقال: جاد هشام عليكم بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما اكتسب، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له!ولما أدنف المأمون أمر أن يفرش له جل فجعل يتمرغ فيه ويقول:
كل عيشٍ وإن تطاول يوماً ... صائرٌ مرةً إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل يومي هذا ... في قلال الجبال أرعى الوعولا
وأغمي عليه ثم أفاق وهو يقول:
لبيكما لبيكما ... ها أنا ذا لديكما
اللهم لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر، ثم أغمي عليه فلما أفاق قال:
إن تغفر اللهم تغفر جماً ... وأي عبد لك ما ألما
وتمثل عضد الدولة عند موته بقول القاسم بن عبيد الله:
قتلت صناديد الرجال ولم أدع ... عدواً ولم أمهل على ظنةٍ خلقا
وأخليت دور الملك من كل نازلٍ ... فشردتهم غرباً وبددتهم شرقا
فلما بلغت النجم عزاً ورفعةً ... وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا
رمى لي الردى سهماً فأخمد جمرتي ... فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى؟
وأوصى الشبلي رحمه الله أن يكتب على قبره: تركت الجنة وليس لها قيمة وتعلقت بالدنيا وليس لها بقاء، وضيعت العمر وليس له بدل واتبعت النساء وليس لهن وفاء، وجفوت الرب وليس منه عوض.
ذم من امتنع من التوبة عند موته:
اعتل أعرابي فقيل له: لو تبت؟فقال: لست ممن يعطي على الذل، إن عافاني الله تبت وإلا مت هكذا. وقيل للحجاج: ألا تتوب؟قال: إن كنت مسيئاً فليست هذه ساعة التوبة، وإن كنت محسناً فليست ساعة الفزع.
ذم من أوصى بما ليس له من ماله:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لك من مالك الثلث والثلث كثير. وقال: لا نذر في معصية الله ولا وصية في مال الغير. وقيل لميمون بن مهران: رقية أعتقت كل مولاة لها عند موتها. فقال: إنهم يعصون في أموالهم مرتين، يبخلون بها وهي في أيديهم حتى إذا صارت لغيرهم أسرفوا فيها.
الحث على أن يكون الإنسان وصي نفسه:
قيل: كن وصي نفسك ولا تجعل الرجال أوصياءك، واعلم صدق الذي يقول:
ولا يغررك من توصى إليه ... فقصر وصية المرء الضياع
وفي الزهديات بعض ما أوصى به الصالحون:
ذكر الحسن عن بعضهم لما حضرتاه المنية قيل له: أوص؛فقال: أوصيكم على المحافظة بآخر سورة النحل "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " . وقيل لهرم بن حيان: أوص؛فقال: ما لي من مال فقد صدقتني في الحياة نفسي، ولكني أوصي بخواتيم سورة البقرة. وقيل لعمر بن عبد العزيز: أوص لبنيك، فقال: أوصي بهم الذي أنزل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
من أوصى بشر عند موته وذكر قساوة قلبه:
لما حضرت ركيعاً الوفاة دعا بنيه فقال: ين بني إن قوماً سيأتونكم قد قرحوا جباههم وعرضوا لحاهم، يدعون أن لهم عند أبيكم ديناً فلا تقضوهم، فإن أباكم قد حمل من الذنوب ما أن غفرها الله لم تضره هذه، وإلا فهي معها. ولما حضرت سعد بن زياد الوفاة جمع ولده وقال: يا بني أوصيكم بالناس شراً، كلموهم نزراً وأطعنوهم شزراً، ولا تقبلوا لهم عذراً، اقصروا الأعنة واشحذوا الأسنة، وكلوا القريب يرهبكم البعيد. ولما حضرت الفرزدق الوفاة قال لقومه:
أروني من يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمر جل عن الخطاب؟
إلى من تفزعون إذا حثيتم ... بأيديكم علي من التراب؟
فقالت مولاة له: إلى الله تعالى. فقال: أتتكلين على غيري وأنت تعيشين في مالي؟امحوا اسمها وكتبها من الوصية. وقيل للحطيئة: أوص يا أبا مليكة. قال: نعم أخبروا الشماخ أنه أشعر العرب!فقيل: أوص للمساكين!فقال: أوصيهم بالإلحاف في المسألة!قيل: أعتق عبدك فلاناً. قال: هو عبد ما بقي على ظهر الأرض، وعتيق إذا صار في بطنها!فقيل: أوص فإن لك بنات قال: مالي للذكور دون الإناث. فقالوا له: إن الله لم يقل كذا. قال: أنا أقوله. قيل: فأوص للأيتام بشيء. قال: كلوا أموالهم وانكحوا أمهاتهم. ثم قال: احملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم قط، وويل للشعر من رواة السوء!وكان دريد بن الصمة قد عاش أربعمائة عام، فلما نزل به الموت قال لولده: أوصيكم بالناس شراً طعناً لزاً وضرباً أزاً، وإن أردتم المحاجزة فقبل المناجزة، اقصروا الأعنة وأطيلوا الأسنة وارعوا الكلأ. ثم قال:
اليوم هيي لدريدٌ بيته ... يا رب بهت حسن حويته
ومعصمٍ ذي مرةٍ لويته ... لو كان للدهر بلى أبليته
- أو كان قرني واحداً كفيته قال إسماعيل بن قيس: دخلنا على معاوية في مرضه الذي مات فيه فقال: هل الدنيا إلا ما جربنا؟لوددت أني لا أقيم فيكم ثلاثاً حتى ألقى الله. فقلنا : إلى رحمة الله. فقال: إلى ما شاء الله إني لم آل فيكم إذ وليتكم، فإن الله لو كره أمراً غيره. قال ابن عتيبة: هذا والله الاغترار ألم تكن مقاتلته علياً وقتله حجراً وبيعته ليزيد مما يكره الله تعالى؟
من أحب الموت وذكر نفعه ومضرته:
قال عبد الله بن مسعود: ما من نفس حية إلا والموت خير لها، إن كان براً فإن الله تعالى يقول "وما عند الله خير للأبرار "وإن كان فاجراً فإن الله تعالى يقول "ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً " . ولما حضر بشر الموت فرح، فقيل له: تستبشر بالموت؟قال: أتجعلون قدومي على خالق أرجوه كمقامي على مخلوق أخافه؟وقال بعضهم: لا يكره الموت إلا مريب. وسئل فيبلسوف عن الموت فقال: هو فزع الأغنياء وشهوة الفقراء. وقال المتنبي:
نعير حلاوات النفوس قلوبنا ... فنختار بعض العيش وهو حمام
وله:
وما الدهر أهلٌ أن تؤمل عنده ... حياةً وأن تشتاق فيه إلى النسل
آخر:
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا: ... في الموت ألف فضيلةٍ لا تعرف
وقال بعضهم: لا يكون الحكيم حكيماً حتى يعلم أن الحياة تسترقه والموت يعتقه. وقال الأخطل:
والناس همهم الحياة ولا أرى ... طول الحياة يزيد غير خبال
وقال الجنيد: من كان حياته بنفسه يكون مماته بذهاب روحه، فتصعب عليه ومن كان حياته بربه فإنه ينتقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل، وهي الحياة على الحقيقة.
من تمنى الموت:
قيل: شر من الموت ما إذا نزل تمنيت الموت لنزوله. وقيل: خير من الحياة ما إذا فقدته أبغضت لفقده الحياة.
المهلبي:
ألا موتٌ يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
إلا رحم المهيمن روح حرٍ ... تصدق بالوفاة على أخيه
المتنبي:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
الموسوي:
آهاً لنفسٍ حبست في جلدي ... إن الأسير غرضٌ بالقد
واعتل الشبلي ثم برأ فقال له بعض أصحابه: كيف أنت؟قال:
كلما قلت قد دنا حل قيدي ... قدموني وأوثقوا المسمارا
الحياة لا تمل:
قال بعض الحكماء: الحياة وإن طالت لا تمل، وإنما يمل المرء تكاليف الحياة؛ولهذا فضل قول زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم!
على قول لبيد:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس: كيف لبيد؟
وقيل: إن الحياة لا تسأم، وإنما تسأم تكاليفها.
المتنبي:
ولذيذ الحياة أنفس في النفس ... وأشهى من أن يمل وأحلى
وإذا الشيخ قال أفٍ فما م ... ل حياةً وإنما الضعف ملا
آلة العيش صحةٌ وشبابٌ ... فإذا وليا عن المرء ولى
ودخل سليمان بن عبد الملك مسجد دمشق فرأى شيخاً فقال: يا شيخ أيسرك أن تموت؟قال: لا والله. قال: لم وقد بلغت من السن ما أرى؟قال: نفي الشباب وشره وبقي الشيب وخيره، فأنا إذا قعدت ذكرت الله، وإذا قمت حمدت الله، فأحب أن تدوم لي هاتان الحالتنان.
المستنكف أن يموت حتف أنفه:
الشنفري:
فلا تقبروني إن قبري محرمٌ ... عليكم ولكن أبشري أم عامر
بكر بن عبد العزيز:
إن موت الفراش ذلٌ وعارٌ ... وهو تحت السيوف فضلٌ شريف
وإني لأستحسن قول أبي فراس بن حمدان:
متى ما يدن من أجلي كتابي ... أمت بين الأسنة والأعنة
آخر:
فيا رب لا تجعل حياتي دنيئةً ... ولا ميتتي يا رب بين النوائح
ولكن صريعاً بين أرماح فتيةٍ ... طوال القنا من فوق أدهم قادح
وقال أبو عمرو الشيباني: رأيت بالبصرة جنازة عليها مطرف خز أخضر، فسألت عنها فقيل: جنازة الطرماح، فذكرت قوله:
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن ... على شرجع يعلى بخضر المطارف
فعلمت أن الله لم يستجب دعاءه؛وهذا من باب الشجاعة وقد مر مثله.
العذر لعصابة تسرع إليهم المنية:
أبو تمام:
عليك سلام الله وقفاً فإنني ... رأيت الكريم الحر ليس له عمر
السامي:
فلا تجزعن من موته وهو ناشئٌ ... ولا ينكرن هذاك من جرب الدهرا
فكل طويل المجد يقصر عمره ... كذاك سباع الطير أقصرها عمرا
تسلي الناس عمن مات:
قيل: إذا أردت أن تنظر الناس من بعدك فانظر إليهم بعد من مات قبلك.
أبو العتاهية:
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل
منصور الفقيه:
كل مذكورٍ من الناس إذا ما فقدوه
فهو في حكم حديثٍ ... حفظوه فنسوه
آخر:
هالوا عليه الترب ثم انثنوا ... عنه وخلوه وأعماله
لم ينقض النواح من داره ... عليه حتى اقتسموا ماله
كلمات وجدت على قبور:
قرئ على قبر: نقلنا من دار خبرة إلى دار عبرة، أليس فينا عبرة؟حكى أبو الفرج الكوفي قال: حضرت مجلس الصاحب وعنده علوي شامي يحدثه بما شاهد من الأعاجيب. قال: رأيت قبراً بفلسطين مكتوباً عليه: قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون. وقرئ على قبر:
أنا في القبر وحيدٌ ... قد تبرا الأهل مني
أسلموني بذنوبي ... خبت إن لم تعف عني
وقرئ على آخر:
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي ... ويحدث بعد للخليل خليل
إذا انقطعت عني من العيش مدتي ... فإن غناء الباكيات قليل
وعلى آخر:
أيها الأخ الذي قد ... غاب عني وجفاني
سوف يأتيك من الله رسولٌ قد أتاني
فيبوئك من الأر ... ض مكاناً كمكاني
وعلى آخر:
عشت دهراً في نعيمٍ ... وسرورٍ واغتباط
ثم صار القبر بيتي ... وثرى الأرض بساطي
وعلى باب مدينة جبلة بالشام:
إلى أي المدائن صرت يوماً ... رأيت قبورها قبل القصور
أتاك الوعظ قبل الحظ منها ... نعم ونذيرها قبل البشير
نفي الشماتة عن الموت والنهي عنها:
لما مات الحسن بن علي عليهما السلام دخل عبد الله بن عباس على معاوية فقال له معاوية: يا ابن عباس مات الحسن بن علي!قال: نعم وقد بلغني سجودك، أما والله وما سد جثمانه حفرتك ولا زاد انقضاء أجله في عمرك!قال: أحسبه ترك صبية صغاراً ولم يترك عليهم كثير معاش. فقال: إن الذي وكلهم إليه غيرك.
الفرزدق:
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
عدي بن زيد:
أيها الشامت المعير بالدهر أأنت المبرأ الموفور؟
أم لديك العهد الوثيق من الأيام بل أنت جاهلٌ مغرور
آخر:
تمنى رجالٌ أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيلٌ لست فيها بأوحد
وحكى المبرد عن بعضهم أنه شاهد رجلاً على قبر وهو يكثر البكاء فقلت: أعلى قريب أو على صديق؟قال: أخص منهما قد كان لي عدو فخرج إلى الصيد، فرأى ظبياً فتبعه فعثر بالسهم فخر هو والظبي ميتين، فدفن فانتهيت إلى قبره شامتاً به فإذا عليه مكتوب:
وما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلاً بعدهم وترحلوا
فها أنا واقف أبكي على نفسي. ولما مات الفرزدق بكى عليه جرير ورثاه فقيل له: أبعد تلك المعاداة؟فقال: لم أر اثنين بلغا الغاية ومات أحدهما إلا ولحقه الآخر عن كثب؟فكان كذلك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك. ومما يتصل بذلك لما أتى عيبد الله بن الزبير خبر قتل مصعب أخيه احتجب أياماً. فخبر بمجيء قوم للتعزية فقال: أكره وجوهاً تعزي ألسنتها وتشمت قلوبها!
نفي العار عن الموت:
ليلى الأخيلية:
لعمرك ما بالموت عارٌ على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المعاير
محاضرات الأدباء
الراغب الأصفهاني
الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصفهاني (أو الأصبهاني) المعروف بالراغب والمتوفي سنة 502هـ-1108م
الحد الحادي والعشرون
في الموت وأحواله
الفرع الأول
أسماء الموت ووصفه:
يقال له: النبط والهمع والرمد وأم قشعم وشعوب، والموتان والموت والحمام والفود ومرت زؤام وذعاف وجحاف. ويقال: فقس وفطس ويتبل وعضد وطن، ولعق اصبعه ورق بنفسه وجرض بريقه وآثر الله به، وانخل تركيبه ومضى لما خلق له وأتاه ما كان يحذر، ودعاه ما كان يخبر، شرب الدهر عليهم وأكل وأفلت حريضاً وأفضه شعوب، ووجبت نفسه ونضب ظله وقرض رباطه وصل به إلى أبي يحيى وسلم لمائه. وقيل لحكيم: ما الحياة وما الموت؟قال: الحياة ميتة أدت إلى سعادة، والموت حياة أوجبت على أهلها الحجة. وأجود اسم له ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أكثروا من ذكر هادم اللذات. وقيل: الحتوف أربعة: سخطي بعقوبة الله وذلك ما ذكر الله "حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً "، وطبيعي وذلك بالهرم وانقطاع الأمل، وعرضي ما هو يسمى الموت الفجأة، واكتسابي وهو ما يكون بالتعرض لحرب أو سباع ونحو ذلك.
تعظيم أمر الموت:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظراً فظيعاً إلا والموت أفظع منه.
عبد الله بن معاوية:
والموت أعظم حالةٍ ... مما يمر على الجبله
وقال رجل للحسن: إن عشت تر ما لم تره. فقال الحسن: إن مت تر ما لم تر. وكان كثيراً ما يقول الحسن: عند الموت يأتيك الخبر. وقال: إن الموت فضح الدنيا.
الحث على تصور الموت:
قال بعض الخلفاء لابن السماك: عظني وأوجز. فقال: اعلم أنك أول خليفة تموت، وهذا كما سأل ازدشير بعض الحكماء عن دار بناها وقال: هل ترى فيها عيباً؟فقال: نعم عيباً لا يمكنك اصلاحه. فقال: وما هو؟قال: لك منها مخرجة لا عود بعدها أو دخلة لا خروج بعدها. وقال روح بن عبادة: رأيت في منامي كأن قائلاً يقول:
لا تكونوا كالأولى من قبلكم ... لم يخافوا بأسنا حتى نزل
وكتب أبو العتاهية على سقف بيته بتزويق:
أتطمع أن تخلد لا أبالك ... أمنت قوى المنية أن تنالك؟
أما والله إن لها رسولاً ... بها لو قد أتاك لما أقالك
كأني بالتراب عليك يحثى ... وبالباكين يقتسمون مالك
ولست مخلفاً في الناس شيئاً ... ولا متزوداً إلا فعالك
وكان الحسن إذا خوف من الموت يقول للشيوخ: الزرع إذا بلغ لا بد أن يحصد. ويقول للشبان: هل رايتم زرعاً لم يبلغ أدركته الآفة. وقيل: اذكر حفرة سمكها قصير وساكنها أسير. وقيل: من ضاق به أمر فليتذكر الموت فإنه يتسع عليه. ونحوه: من أحس بأنه يموت فليس ينبغي أن يغتم لأمر صعب ينزل به. وقيل لجعفر بن محمد عليهما السلام: كيف صار الموت يأخذ على فنون شتى؟قال: أحب الله أن لا يؤمن على حال. شكا رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قساوة قلبه فقال: اكثر من ذكر هادم اللذات فإنه ما ذكره أحد في ضيق إلا وسعه عليه، ولا في سعة إلا ضيقها عليه. وقال معبد الجهني: نعم نصيحة القلب ذكر الموت، يطرد فضول الأمل ويكف غرب المنى، ويهون المصائب ويحول بين القلب وبين الطغيان. وقيل: وما دخل ذكر الموت بيتاً إلا رضي أهله بما قسم الله لهم وجدوا في أمر آخرتهم. وقيل: أبلغ العظات النظر إلى محل الأموات ومصارع البنين والبنات.
التخويف من الموت بما يشاهد:
قال الحسن وقد قعد عند راس ميت: إن امرأ هذا آخره لأهل أن يزهد فيما قبله، وإن امرأ هذا أوله لأهل أن يحذر ما بعده. وقف أعرابي على قبر هشام وخادم له يقول: ما لقينا بعدك صنع بنا فقال الأعرابي: إيهاً عليك أما أنه لو نشر لأخبر أنه لقي أشد مما لقيتم. ومر أمير المؤمنين بمقابر الكوفة فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع، أما الأزواج فقد نكحت وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خير ما عندنا فما خبر ما عندكم، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما أنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى. ونظر الحسن إلى صبية بين جنازة أبيها تقول: يا أبت مثل يومك لم أره!فضمها الحسن وقال: أي بنية وأبوك مثل هذا اليوم لم يره!فبكى الخلق.
حث الإنسان على الاستدلال على موته بمن مات من أقاربه:
قال بعض الحكماء: ذهب أبوك وهو أصلك وابنك وهو فرعك، فما حال الباقي بعد ذهاب اصله وفرعه؟وقال محمود في معناه:
وغادروك بلا أصلٍ ولا طرفٍ ... فما بقاؤك بعد الأصل والطرف؟
أبو نواس:
ألا با ابن الذين فنوا وماتوا ... أما والله ما ماتوا لتبقى
قال أبو حازم إن امرأ ما بينه وبين آدم أب إلا ميت لمعرق في الموت. قال لبيد:
فإن أنت لم ينفعك علمك فانتبه ... لعلك تهديك القرون الأوائل
فإن لم تجد من دون عدنان باقياً ... ودون معدٍ فلترعك العواذل
امرؤ القيس:
فبعض اللوم عاذلتي فإني ... سيكفيني التجارب وانتسابي
إلى عرق الثرى وشجت عروقي ... وهذا الموت يسلبني شبابي
أبو تمام:
تأمل رويداً هل تعدن سالماً ... إلى آدم أو هل تعد ابن سالم
متى يرع هذا الموت عيناً بصيرةً ... تجد عادلاً منه شبيهاً بظالم
عمارة:
وما نحن إلا رفقةٌ قد ترحلت ... لقصدٍ وأخرى قد أنيخت ركابها
البحتري:
وما أهل المنازل غير ركبٍ ... مناياهم رواحٌ وابتكار
لما أتى معاوية موت زياد توجع وقال:
وأفردت سهماً في الكنانة واحداً ... سيرمى به أو يكسر كاسره
الاعتبار بمن مات من الكبار والسلاطين:
قيل: لما مات الإسكندر وقف عليه أرسطاطاليس فقال: طالما كان هذا الشخص واعظاً بليغاً، وما وعظ بموعظة في حياته من عظته في مماته؛أخذ هذا المعنى أبو العتاهية فقال:
وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... فأنت اليوم أوعظ منك حيا
وحمل إلى أمه في تابوت من ذهب فقالت: جمعت الذهب حياً وجمعك ميتاً.
الأسود بن يعفر:
ماذا أؤمل بعد ىل محرقٍ ... تركوا منازلهم بغير أياد
أهل الخورنق والسدير وبارقٍ ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
المتنبي:
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى ... كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه ... وحواه عند الموت لحدٌ ضيق
آخر:
ألم تر صول الدهر في آل برمكٍ ... وآل نهيكٍ والأولى سلفوا قبل
لقد غرسوا غرس النخيل تمكناً ... فما حصدوا إلا كما يحصد البقل
ونظرت امرأة إلى جعفر بن يحيى مصلوباً فقالت: لئن كنت في الحياة غاية فلقد صرت في الممات آية! شاعر:
ومن كان ذا بابٍ شديدٍ وحاجبٍ ... فعما قليلٍ يهجر الباب حاجبه
آخر:
الموت يأتي كل محتجبٍ ولا يستأذن
تناهى بعد من مات:
أبو حية النمري:
فلا غائبٌ من كان يرجى إيابه ... ولكنه من ضمن اللحد غائب
آخر:
بلى كل من تحت التراب بعيد
آخر:
ومن نصب المنون بعيد
النابغة:
حسب الخليلين نأي الأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها بالي
الغفلة عن الموت:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: كان الحق على غيرنا وجب، وكان الموت على غيرنا كتب، وكان من نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون، نبوءهم أجداثهم ونأكل تراثهم كأنا مخلدون بعدهم. وقال الحسن: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت؛أخذه محمد بن وهب فقال:
تراع لذكر الموت ساعة ذكره ... وتعترض الدنيا فتلهو وتلعب
يقينٌ كأن الشك غالب أمره ... عليه وعرفانٌ من الجهل ينسب
وقال الحسن وهو في جنازة: يا قوم لو أن هذا الرجل أخذه سلطانكم لفزعتم؟قالوا: بلى. قال: قد أخذه ربكم فلم لا تفزعون؟وقيل: من لم يرتدع بالموت وبالقرآن ثم تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع. وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: ما هذا التغافل عما أمرتم به والتسرع إلى ما نهيتم عنه؟إن كنتم على يقين فأنتم حمقى، وإن كنتم على شك فأنتم هلكى! أبو العتاهية:
الموت لو صح اليقين به ... لم ينتفع بالموت ذاكره
محمد بن بشير:
يا حسرتي في كل يوم مضى ... يذكرني الموت وأنساه
الموسوي:
ونأمل في وعد المنى غير صادقٍ ... ونأمن من وعد المنى غير كاذب
نراع إذا ماشيك أخمص بعضنا ... وأقدامنا ما بين شوك العقارب
الأجل حائل بين الإنسان والأمل:
قيل: لو ظهرت الآجال لافتضحت الآمال. ووجد حجر بدمشق مكتوب عليه: يا ابن آدم لو رأيت ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك. وقال أمير المؤمنين: إنكم في أجل محدود وأمل ممدود ونفس معدود، ولا بد للأجل أن يتناهى وللأمل أن يطوى وللنفس أن يحصى. وقيل لحكيم: ما ابعد الأشياء عن الناس؟قال: الأمل؛فقيل: وما أقرب الأشياء منهم؟قال: الأجل.
من مات بعد الكبر:
عاش نوح عليه السلام ما عاش وقيل له لما أشرف على الموت: كيف وجدت الدنيا؟قال: وجدتها داراً دخلتها من باب وخرجت من آخر. وقال بعضهم:
وكل امرئٍ يوماً وإن عاش حقبةً ... له غايةٌ تجري إليه ومنتهى
محمود الوراق:
وما صاحب السبعين والعشر بعدها ... بأقرب ممن حنكته القوابل
ولكن آمالاً يؤملها الفتى ... وفيهن للراجين حقٌ وباطل
المتنبي:
وأوفى حياة الغادرين لصاحبٍ ... حياة امرئٍ خانته بعد مشيب
الموت لا يفوته أحد:
قيل: من لم يمت عاجلاً مات آجلاً.
شاعر:
فمن لم يلاق الموت كأس منيةٍ ... فلا بد منه أن تصادفه غدا
آخر:
كل حيٍ مملكٍ ... سوف يفنى وما ملك
آخر:
وكل جمع في الورى تفرق
آخر:
من لم يمت غبطةً يمت هرماً
وقيل لابن المقفع: قد كنت نعيت إلينا فقال: ما بعد كائن ولا قرب بائن.
ابن المعتز:
ألا إنما جسمي لروحي مطيةٌ ... ولا بد يوماً أن يعرى من الرحل
الموت لا يتخلص منه بالطب:
قيل للربيع بن خيثم في مرضه: ألا نعدو لك طبيباً؟قال: وعاداً وثموداً وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيرا، لقد كان فيهم أطباء فما أرى المداوي بقي ولا المداوى صلح.
ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرئ مثله فيما مضى
هلك المداوي والمداوى الذي ... جلب الدواء وباعه ومن اشترى
المتنبي:
يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه
ودخل الفرزدق على مريض يعوده فسمعه يطلب طبيباً فقال:
يا طالب الطب من داءٍ تخوفه ... إن الطبيب الذي أبلاك بالداء
هو الطبيب الذي يرجى لعافيةٍ ... لا من يدوف لك الترياق بالماء
آخر:
واعياً دواء الموت كل طبيب
وفي باب الطب بعض ذلك وأشباهه.
التحرز لا يخلص من الموت:
قيل: إذا انقضت المدة فالحتف في العدة.
شاعر:
كل شيءٍ قاتلٌ ... حين تلقى أجلك
أبو ذؤيب:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع
المخبل:
ولئن بنيت لي المشقر في ... هضبٍ يقصر دونه العصم
وقيل: إن عبد الملك هرب من الطاعون فركب ليلاً وأخرج غلاماً له، وكان ينام على دابته فقال للغلام: حدثني. فقال: وما أنا حتى أحدثك؟قال: على كل حال حدث حديثاً سمعته. فقال: بلغني أن ثعلباً يخدم أسداً ليحميه ويمنعه ممن يريده، فكان يحميه فرأى الثعلب عقاباً فلجأ إلى الأسد فأقعده على ظهره، فانقض العقاب واختلسه، فصاح الثعلب: يا أبا الحارث أغثني واذكر عهدك لي!فقال: إنما أقدر على منعك من أهل الأرض وأما أهل السماء فلا سبيل لي إليهم. فقال عبد الملك: وعظتني وأحسنت انصرف، فانصرف ورضي بالقضاء. ويروى لبعض الجن:
رأى الحصن منجاةً من الموت فارتقى ... إليه فزارته المنية في الحصن
آخر:
يوشك من فر من منيته ... في بعض غراته يصادفها
آخر:
وإذا خشيت من الأمور مقدراً ... وفررت منه فنحوه تتوجه
جحر العبسي:
فقل للمتقي عرض المنايا: ... توق فليس ينفعك اتقاء
ثعلبة العبدي:
أمن حذرٍ آتي المتالف سادراً ... وأية أرضٍ ليس فيها متالف
آخر:
لا تأمنن وإن أصبحت في حرمٍ ... إن المنايا بجنبي كل إنسان
أبو ذؤيب:
يقولون لي: لو كان بالرمل لم يمت ... نشيبة والطراق يكذب قيلها
ول أنني استودعته الشمس لارتقت ... إليه المنايا عينها ورسولها
آخر:
كل يدور على البقاء مجاهداً ... وعلى العناء تديره الأيام
كل إنسان يفقد أو يفقد أقاربه:
قال بعض الحكماء: ما طال عمره رأى المصائب في إخوانه وجيرانه، ومن قصر عمره كانت مصيبته في نفسه.
شاعر:
كل امرئٍ ستئيم منه العرس أو منها يئيم
الموسوي:
فمؤجلً يلقى الردى في أهله ... ومعجل يلقى الردى في نفسه
المتنبي:
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئةٍ وذهوب
تملكها الآتي تملك سالبٍ ... وفارقها الماضي فراق سليب
الموت لا يدفع بالأسلحة:
علقمة:
بل كل قومٍ وإن عزوا وإن كثروا ... عريقهم بأثافي الشر مرحوم
المتنبي:
نعد المشرفية والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال
ونرتبط السوابق مقرباتٍ ... وما ينجين من خبب الليالي
ومن لم يعشق الدنيا قديماً ... ولكن لا سبيل إلى الوصال
الموسوي:
تفوز بنا المنون وتستبد ... ويأخذنا الزمان فلا يرد
رويدك بالفرار من المنايا ... فليس يفوتها الساري المجد
وكل فتى يحف بجانبيه ... خواطر بالقنا قنبٌ وجرد
فما دفع المنايا عنه وفرٌ ... ولا هزم النوائب عنه جند
الحياة معرضة لسهام المنايا:
أبو العتاهية:
إن للموت لهماً قاصداً ... ليس يفدي أحداً منه أحد
الرفاء:
نحن أغراض خطوبٍ إن رمت ... حيرت في دقة الرمي ثعل
وإذا ما اختلفت أسهمها ... فأصابت بطل القرم بطل
صحيح مات:
قيل لحكيم: مات فلان أصح ما كان!فقال: أو صحيح من الموت في عنقه. وقيل للحسن: مات فلان فجأة، المرض فجأه، ثم قال: اللهم أجرني من أكون مختلساً، وقيل لأعرابي: كيف مات أبوك؟قال: مات سراً؛يعني فجأة.
شاعر:
وربما غوفص ذو غرةٍ ... أصح ما كان وما يسلم
وقيل لرجل: ما كان سبب موت فلان؟فقال: كونه. وقال سفيان: يا ابن آدم إن جوارحك سلاح الله عليك بأيها شاء قتلك.
ضعف بنية الإنسان وتركيبه:
سئل جالينوس عن الإنسان فقال: سراج ضعيف وكيف يدوم ضوؤه بين أربع رياح، يعني بالسراج روحه وبالرياح الأربع طبائعه.
شاعر:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يصير رماداً بعد إذ هو ساطع
وقال أفلاطون: إذا كانت الطينة فاسدة والبنية ضعيفة والطبائع متنافية، والعمر يسيراً والمنية راصدة فالثقة باطلة.
شاعر:
انظر إلى هذه الأنام بعبرةٍ ... لا يعجبنك خلقه ورواؤه
ببناه كالورق النضير تقبضت ... أغصانه وتسلبت شجراؤه
وقال الحسن: مسكين ابن آدم مكتوب الأجل والعلل، أسير الجوع والشبع.
إتيان المرء حتفه حيثما قدر له:
قيل لفيلسوف: مات فلان في الغربة، فقال: ليس بين الموت في الوطن والغربة فضل، لأن الموت في جميع المواضع واحد، والطريق إلى الآخرة من كل مكان سواء.
شاعر:
إذا ما امرؤٌ حانت عليه منيةٌ ... بأرضٍ أتاها مكرهاً لا تطوعا
آخر:
إذا ما حمام المرء كان ببلدةٍ ... دعته إليها حاجةٌ أو تطرب
جهل الإنسان بوقت موته وموضع مضجعه:
قال الله تعالى "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت " . وقيل لجعفر بن محمد عليهما رضوان الله: كيف يأتي الموت من وجوه شتى على أحوال شتى؟فقال: إن الله أراد أن لا يؤمن في حال. وقيل: أمر لا تدري متى يغشاك، ألا تستعد له قبل أن يفجأك؟ ديك الجن:
الناس قد علموا أن لا بقاء لهم ... لو أنهم عملوا مقدار ما علموا
آخر:
وإنك لا تدري بأية بلدةٍ ... تموت ولا عن أي شقيك تصرع
تسوية الموت بين الأفاضل والأراذل:
قال مالك بن دينار: قدم علينا بشر بن مروان أخو الخليفة، فطعن في قدمه فمات فأخرجناه إلى القبر، فلما صرنا إلى الجبان إذا نحن بسودان يحملون صاحب لهم إلى القبر، فدفناه ودفنوا صاحبهم، فعدت قبل السبوع فلم أعرف قبر الأسود من قبره. وعلى هذا قول الشاعر:
ولقد مررت على القبور فما ... ميزت بين العبد والمولى
المتنبي:
وصلت إليك يدٌ سواءٌ عندها الباز الاشيهب والغراب الأبقع
ويروى أن الإسكندر مر بمدينة قد ملكها غيره من الملوك فقال " : انظروا هل بقي بها أحد من نسل الملوك؟فقالوا: رجل يسكن المقابر. فأحضره وساله عن إقامته فقال: أردت أن أميز عظام الملوك عن عظام عبيدهم، فوجدتها سواء!فقال: هل تتبعني فأحيي شرفك إن كان لك همة؟فقال: همتي عظيمة أن أنلتنيها. فقال: وما هي؟فقال: حياة لا موت معها وشباب لا هرم معه، وغنى لا فقر معه وسرور لا مكروه فيه!فقال: ليس عندي هذا. فقال: دعني ألتمسه ممن هو عنده. فقال: ما رأيت مثله حكيماً. وأمر بشر بن الوليد أن يكتب على قبره:
من مات فات وفي المقابر يستوي ... تحت التراب شريفه ووضيعه
وقال صالح بن عبد القدوس:
فيا منزلاً سوى البلى بين أهله ... فلم يستبن فيه الملوك من السوقى
انقضاء ناس بعد ناس ورجوعهم إلى الموت: قال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: إن لله في كل يوم ثلاث عساكر: عسكر ينزل من الأصلاب إلى الأرحام، وعسكر ينزل من الأرحام إلى الأرض، وعسكر ينزل من الدنيا إلى الآخرة.
شاعر:
وما نحن إلا رفقةٌ غير أننا ... أقمنا قليلاً بعدهم ونروح
ودخل العتبي المقابر فأنشد:
سقياً ورعياً لإخوانٍ لنا سلفوا ... أفناهم حدثان الدهر والأبد
نمدهم كل يومٍ من بقيتنا ... ولا يؤب إلينا منهم احد
الغطمش:
أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب
ونحوه:
إذا زرت أرضاً بعد طول اجتنابها ... فقدت صديقاً والبلاد كماهيا
وقيل لبهلول وقد أقبل من مقبرة: من أين؟قال: من عسكر الموتى!فقيل: وما قلت وما قالوا؟قال: سألتهم متى يرحلون؟فقالوا: ننتظر قدومكم ثم نرتحل. ونحو هذا قول الحسن: يا عجباً لقومٍ أمروا بالزاد وأذنوا بالارتحال، وأقام أولهم على آخرهم وآخرهم قعود يلعبون، فليت شعري ما الذي ينتظرون؟ الموسوي:
تملي المقادير أعماراً وتنسخها ... ويضرب الدهر أياماً بايام
مرجع الإنسان إلى ما خلق منه:
قال الله تعالى "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " .
المتنبي:
إلى مثل ما كان الفتى يرجع الفتى ... يعود كما أبدى ويكري كما أرمى
الخبزارزي:
هو الموت مخلوقٌ له الخلق أجمع ... فليس له عن أنفس الناس مقلع
المتنبي:
نحن بنو الدنيا فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمانٍ هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجساد من تربه
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
ومنها:
يموت راعي الضأن في جهله ... ميتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه
فهذا الكلام هو الجوهر الذي لا قيمة له.
ذم من يخاف الموت ولا يستعد له:
قال أمير المؤمنين عليه السلام لرجل: كيف انتم؟قال: نرجو ونخاف. قال: من رجا شيئاً طلبه ومن خاف شيئاً هرب منه. وقال أبو الدرداء: العجب لمن يكره الموت لإساءته ولا يكره الإساءة في حياته. ونظر الحسن إلى جنازة يزدحم الناس عليها فقال: ما لكم تزدحمون؟ها هي سارية في المسجد اقعدوا تحتها واصنعوا ما كان يصنع حتى تكونوا مثله. وقال الحسن لشيخ في جنازة: أترى هذا الميت لو رجع إلى الدنيا كان يعمل صالحاً؟قال: نعم قال: إن لم يكن ذاك فكن أنت ذاك.
علي بن عبد العزيز:
إذا قلت لم يبلغ بي السن مبلغاً ... وعظت بطفلٍ صار قبلي إلى الترب
الحث على تعاطي ما يسهل الموت:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أكره الموت. فقال: ألك مال؟قال: نعم قال: قدمه فإن قلب كل امرئ عند ماله. وقال رجل لأبي الدرداء: ما بالنا نكره الموت؟قال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنقلوا من العمران إلى الخراب. وقال أبو حازم: كل عمل تكره الموت لأجله فدعه كي لا تخاف منه متى أتاك.
من أمر ذويه بالبكاء عليه:
قيل فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه أنه إنما عنى إذا هو أمر به نحو قول طرفة بن العبد:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا أم معبد
وقول الفرزدق:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... فكل جميلٍ قلت فيّ مصدق
ابن المعتز:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... ولا تذخري دمعاً إذا قام نائح
وقولي: ثوى طود المكارم والعلى ... وعطل ميزانٌ من الحلم راجح
من أظهر جزعاً عند موته:
لما أحضر حجر بن عدي ليقتل سأل أن يمهل حتى يصلي ركعتين، وأظهر جزعاً فقيل له: أتجزع؟قال: كيف لا وإني لأرى سيفاً مشهوراً وقبراً محفوراً، ولست أدري إلى جنة يمضي بي أم إلى نار؟وبكى الحسن بن علي رضوان الله عليهما فقيل له: ما يبكيك وقد ضمن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة؟فقال: إني أسلك طريقاً لم أسلكها وأقدم على سيد لم أره. وقيل لبشر بن الحارث: كرهت الموت؟قال: القدوم على الله شديد!
من أظهر الندم عمد موته على ما فرط منه:
قال عبد الملك عند موته: وددت أني كنت غسالاً آكل كل يوم كسب يومي لا يفضل عني. فقيل ذلك لأبي حازم فقال: الحمد لله الذي جعلنا بحيث يتمنى الملوك حالنا عند الموت، ولا نتمنى حالهم. ولما نزل الموت بهشام جعل ولده يبكون عليه فقال: جاد هشام عليكم بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما اكتسب، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له!ولما أدنف المأمون أمر أن يفرش له جل فجعل يتمرغ فيه ويقول:
كل عيشٍ وإن تطاول يوماً ... صائرٌ مرةً إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل يومي هذا ... في قلال الجبال أرعى الوعولا
وأغمي عليه ثم أفاق وهو يقول:
لبيكما لبيكما ... ها أنا ذا لديكما
اللهم لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر، ثم أغمي عليه فلما أفاق قال:
إن تغفر اللهم تغفر جماً ... وأي عبد لك ما ألما
وتمثل عضد الدولة عند موته بقول القاسم بن عبيد الله:
قتلت صناديد الرجال ولم أدع ... عدواً ولم أمهل على ظنةٍ خلقا
وأخليت دور الملك من كل نازلٍ ... فشردتهم غرباً وبددتهم شرقا
فلما بلغت النجم عزاً ورفعةً ... وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا
رمى لي الردى سهماً فأخمد جمرتي ... فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى؟
وأوصى الشبلي رحمه الله أن يكتب على قبره: تركت الجنة وليس لها قيمة وتعلقت بالدنيا وليس لها بقاء، وضيعت العمر وليس له بدل واتبعت النساء وليس لهن وفاء، وجفوت الرب وليس منه عوض.
ذم من امتنع من التوبة عند موته:
اعتل أعرابي فقيل له: لو تبت؟فقال: لست ممن يعطي على الذل، إن عافاني الله تبت وإلا مت هكذا. وقيل للحجاج: ألا تتوب؟قال: إن كنت مسيئاً فليست هذه ساعة التوبة، وإن كنت محسناً فليست ساعة الفزع.
ذم من أوصى بما ليس له من ماله:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لك من مالك الثلث والثلث كثير. وقال: لا نذر في معصية الله ولا وصية في مال الغير. وقيل لميمون بن مهران: رقية أعتقت كل مولاة لها عند موتها. فقال: إنهم يعصون في أموالهم مرتين، يبخلون بها وهي في أيديهم حتى إذا صارت لغيرهم أسرفوا فيها.
الحث على أن يكون الإنسان وصي نفسه:
قيل: كن وصي نفسك ولا تجعل الرجال أوصياءك، واعلم صدق الذي يقول:
ولا يغررك من توصى إليه ... فقصر وصية المرء الضياع
وفي الزهديات بعض ما أوصى به الصالحون:
ذكر الحسن عن بعضهم لما حضرتاه المنية قيل له: أوص؛فقال: أوصيكم على المحافظة بآخر سورة النحل "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " . وقيل لهرم بن حيان: أوص؛فقال: ما لي من مال فقد صدقتني في الحياة نفسي، ولكني أوصي بخواتيم سورة البقرة. وقيل لعمر بن عبد العزيز: أوص لبنيك، فقال: أوصي بهم الذي أنزل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
من أوصى بشر عند موته وذكر قساوة قلبه:
لما حضرت ركيعاً الوفاة دعا بنيه فقال: ين بني إن قوماً سيأتونكم قد قرحوا جباههم وعرضوا لحاهم، يدعون أن لهم عند أبيكم ديناً فلا تقضوهم، فإن أباكم قد حمل من الذنوب ما أن غفرها الله لم تضره هذه، وإلا فهي معها. ولما حضرت سعد بن زياد الوفاة جمع ولده وقال: يا بني أوصيكم بالناس شراً، كلموهم نزراً وأطعنوهم شزراً، ولا تقبلوا لهم عذراً، اقصروا الأعنة واشحذوا الأسنة، وكلوا القريب يرهبكم البعيد. ولما حضرت الفرزدق الوفاة قال لقومه:
أروني من يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمر جل عن الخطاب؟
إلى من تفزعون إذا حثيتم ... بأيديكم علي من التراب؟
فقالت مولاة له: إلى الله تعالى. فقال: أتتكلين على غيري وأنت تعيشين في مالي؟امحوا اسمها وكتبها من الوصية. وقيل للحطيئة: أوص يا أبا مليكة. قال: نعم أخبروا الشماخ أنه أشعر العرب!فقيل: أوص للمساكين!فقال: أوصيهم بالإلحاف في المسألة!قيل: أعتق عبدك فلاناً. قال: هو عبد ما بقي على ظهر الأرض، وعتيق إذا صار في بطنها!فقيل: أوص فإن لك بنات قال: مالي للذكور دون الإناث. فقالوا له: إن الله لم يقل كذا. قال: أنا أقوله. قيل: فأوص للأيتام بشيء. قال: كلوا أموالهم وانكحوا أمهاتهم. ثم قال: احملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم قط، وويل للشعر من رواة السوء!وكان دريد بن الصمة قد عاش أربعمائة عام، فلما نزل به الموت قال لولده: أوصيكم بالناس شراً طعناً لزاً وضرباً أزاً، وإن أردتم المحاجزة فقبل المناجزة، اقصروا الأعنة وأطيلوا الأسنة وارعوا الكلأ. ثم قال:
اليوم هيي لدريدٌ بيته ... يا رب بهت حسن حويته
ومعصمٍ ذي مرةٍ لويته ... لو كان للدهر بلى أبليته
- أو كان قرني واحداً كفيته قال إسماعيل بن قيس: دخلنا على معاوية في مرضه الذي مات فيه فقال: هل الدنيا إلا ما جربنا؟لوددت أني لا أقيم فيكم ثلاثاً حتى ألقى الله. فقلنا : إلى رحمة الله. فقال: إلى ما شاء الله إني لم آل فيكم إذ وليتكم، فإن الله لو كره أمراً غيره. قال ابن عتيبة: هذا والله الاغترار ألم تكن مقاتلته علياً وقتله حجراً وبيعته ليزيد مما يكره الله تعالى؟
من أحب الموت وذكر نفعه ومضرته:
قال عبد الله بن مسعود: ما من نفس حية إلا والموت خير لها، إن كان براً فإن الله تعالى يقول "وما عند الله خير للأبرار "وإن كان فاجراً فإن الله تعالى يقول "ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً " . ولما حضر بشر الموت فرح، فقيل له: تستبشر بالموت؟قال: أتجعلون قدومي على خالق أرجوه كمقامي على مخلوق أخافه؟وقال بعضهم: لا يكره الموت إلا مريب. وسئل فيبلسوف عن الموت فقال: هو فزع الأغنياء وشهوة الفقراء. وقال المتنبي:
نعير حلاوات النفوس قلوبنا ... فنختار بعض العيش وهو حمام
وله:
وما الدهر أهلٌ أن تؤمل عنده ... حياةً وأن تشتاق فيه إلى النسل
آخر:
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا: ... في الموت ألف فضيلةٍ لا تعرف
وقال بعضهم: لا يكون الحكيم حكيماً حتى يعلم أن الحياة تسترقه والموت يعتقه. وقال الأخطل:
والناس همهم الحياة ولا أرى ... طول الحياة يزيد غير خبال
وقال الجنيد: من كان حياته بنفسه يكون مماته بذهاب روحه، فتصعب عليه ومن كان حياته بربه فإنه ينتقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل، وهي الحياة على الحقيقة.
من تمنى الموت:
قيل: شر من الموت ما إذا نزل تمنيت الموت لنزوله. وقيل: خير من الحياة ما إذا فقدته أبغضت لفقده الحياة.
المهلبي:
ألا موتٌ يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
إلا رحم المهيمن روح حرٍ ... تصدق بالوفاة على أخيه
المتنبي:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
الموسوي:
آهاً لنفسٍ حبست في جلدي ... إن الأسير غرضٌ بالقد
واعتل الشبلي ثم برأ فقال له بعض أصحابه: كيف أنت؟قال:
كلما قلت قد دنا حل قيدي ... قدموني وأوثقوا المسمارا
الحياة لا تمل:
قال بعض الحكماء: الحياة وإن طالت لا تمل، وإنما يمل المرء تكاليف الحياة؛ولهذا فضل قول زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم!
على قول لبيد:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس: كيف لبيد؟
وقيل: إن الحياة لا تسأم، وإنما تسأم تكاليفها.
المتنبي:
ولذيذ الحياة أنفس في النفس ... وأشهى من أن يمل وأحلى
وإذا الشيخ قال أفٍ فما م ... ل حياةً وإنما الضعف ملا
آلة العيش صحةٌ وشبابٌ ... فإذا وليا عن المرء ولى
ودخل سليمان بن عبد الملك مسجد دمشق فرأى شيخاً فقال: يا شيخ أيسرك أن تموت؟قال: لا والله. قال: لم وقد بلغت من السن ما أرى؟قال: نفي الشباب وشره وبقي الشيب وخيره، فأنا إذا قعدت ذكرت الله، وإذا قمت حمدت الله، فأحب أن تدوم لي هاتان الحالتنان.
المستنكف أن يموت حتف أنفه:
الشنفري:
فلا تقبروني إن قبري محرمٌ ... عليكم ولكن أبشري أم عامر
بكر بن عبد العزيز:
إن موت الفراش ذلٌ وعارٌ ... وهو تحت السيوف فضلٌ شريف
وإني لأستحسن قول أبي فراس بن حمدان:
متى ما يدن من أجلي كتابي ... أمت بين الأسنة والأعنة
آخر:
فيا رب لا تجعل حياتي دنيئةً ... ولا ميتتي يا رب بين النوائح
ولكن صريعاً بين أرماح فتيةٍ ... طوال القنا من فوق أدهم قادح
وقال أبو عمرو الشيباني: رأيت بالبصرة جنازة عليها مطرف خز أخضر، فسألت عنها فقيل: جنازة الطرماح، فذكرت قوله:
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن ... على شرجع يعلى بخضر المطارف
فعلمت أن الله لم يستجب دعاءه؛وهذا من باب الشجاعة وقد مر مثله.
العذر لعصابة تسرع إليهم المنية:
أبو تمام:
عليك سلام الله وقفاً فإنني ... رأيت الكريم الحر ليس له عمر
السامي:
فلا تجزعن من موته وهو ناشئٌ ... ولا ينكرن هذاك من جرب الدهرا
فكل طويل المجد يقصر عمره ... كذاك سباع الطير أقصرها عمرا
تسلي الناس عمن مات:
قيل: إذا أردت أن تنظر الناس من بعدك فانظر إليهم بعد من مات قبلك.
أبو العتاهية:
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل
منصور الفقيه:
كل مذكورٍ من الناس إذا ما فقدوه
فهو في حكم حديثٍ ... حفظوه فنسوه
آخر:
هالوا عليه الترب ثم انثنوا ... عنه وخلوه وأعماله
لم ينقض النواح من داره ... عليه حتى اقتسموا ماله
كلمات وجدت على قبور:
قرئ على قبر: نقلنا من دار خبرة إلى دار عبرة، أليس فينا عبرة؟حكى أبو الفرج الكوفي قال: حضرت مجلس الصاحب وعنده علوي شامي يحدثه بما شاهد من الأعاجيب. قال: رأيت قبراً بفلسطين مكتوباً عليه: قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون. وقرئ على قبر:
أنا في القبر وحيدٌ ... قد تبرا الأهل مني
أسلموني بذنوبي ... خبت إن لم تعف عني
وقرئ على آخر:
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي ... ويحدث بعد للخليل خليل
إذا انقطعت عني من العيش مدتي ... فإن غناء الباكيات قليل
وعلى آخر:
أيها الأخ الذي قد ... غاب عني وجفاني
سوف يأتيك من الله رسولٌ قد أتاني
فيبوئك من الأر ... ض مكاناً كمكاني
وعلى آخر:
عشت دهراً في نعيمٍ ... وسرورٍ واغتباط
ثم صار القبر بيتي ... وثرى الأرض بساطي
وعلى باب مدينة جبلة بالشام:
إلى أي المدائن صرت يوماً ... رأيت قبورها قبل القصور
أتاك الوعظ قبل الحظ منها ... نعم ونذيرها قبل البشير
نفي الشماتة عن الموت والنهي عنها:
لما مات الحسن بن علي عليهما السلام دخل عبد الله بن عباس على معاوية فقال له معاوية: يا ابن عباس مات الحسن بن علي!قال: نعم وقد بلغني سجودك، أما والله وما سد جثمانه حفرتك ولا زاد انقضاء أجله في عمرك!قال: أحسبه ترك صبية صغاراً ولم يترك عليهم كثير معاش. فقال: إن الذي وكلهم إليه غيرك.
الفرزدق:
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
عدي بن زيد:
أيها الشامت المعير بالدهر أأنت المبرأ الموفور؟
أم لديك العهد الوثيق من الأيام بل أنت جاهلٌ مغرور
آخر:
تمنى رجالٌ أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيلٌ لست فيها بأوحد
وحكى المبرد عن بعضهم أنه شاهد رجلاً على قبر وهو يكثر البكاء فقلت: أعلى قريب أو على صديق؟قال: أخص منهما قد كان لي عدو فخرج إلى الصيد، فرأى ظبياً فتبعه فعثر بالسهم فخر هو والظبي ميتين، فدفن فانتهيت إلى قبره شامتاً به فإذا عليه مكتوب:
وما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلاً بعدهم وترحلوا
فها أنا واقف أبكي على نفسي. ولما مات الفرزدق بكى عليه جرير ورثاه فقيل له: أبعد تلك المعاداة؟فقال: لم أر اثنين بلغا الغاية ومات أحدهما إلا ولحقه الآخر عن كثب؟فكان كذلك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك. ومما يتصل بذلك لما أتى عيبد الله بن الزبير خبر قتل مصعب أخيه احتجب أياماً. فخبر بمجيء قوم للتعزية فقال: أكره وجوهاً تعزي ألسنتها وتشمت قلوبها!
نفي العار عن الموت:
ليلى الأخيلية:
لعمرك ما بالموت عارٌ على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المعاير
ومثله:
وهل بالموت يا ... للناس عار؟
آخر آمر المرء بالموت:
شاعر:
نل كل ما شئت وعش ناعماً ... آخر هذا كله الموت
الموت منهاة الرجال:
قال ابو بكر العنبري: كنت قاعداً في الجامع فمر بي معتوه فأقبل علي وقال:
فهبك ملكت هذا الناس طراً ... ودان ذلك العباد فكان ماذا؟
ألست تصير في لحدٍ يحوي ... تراثك عنك هذا ثم هذا؟
آخر:
هبك قد نلت كلما تحمل الأر ... ض فهل بعد ذاك إلا المنية؟
آخر:
لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكم يصير إلى ذهاب
كلمات لهج بها من حضره الموت فذكر الشهادة:
لما حضرت ابن جلاء الوفاة قيل له: قل لا اله إلا االله. فقال: اليوم كذا سنة في أي شيء نحن؟وقال الكسائي: دخلت البادية فرأيت شاباً قد اشرف على الموت، وقد دنوت منه وقلت: قل لا اله إلا الله، فلم يجب فثنيت وثلثت فقال: كم تذكرني بالله وأنا محترق في الله؟وقيل لرجل كان مستهتراً بالنبيذ: قل لا اله إلا الله، فقال:
يا رب سائلةٍ تمشي وقد تعبت ... كيف الطريق إلى حمام منجاب؟
وقيل لبعض الشطرنجيين ذلك فقال: شاه مات.
الكفن:
لما حضرت زياد الوفاة قال له ابنه: يا أبت قد هيأت لك ثوبين لكفنك!فقال: يا بني قد دنا من أبيك لباس هو خير من هذا أو سلب هو شر منه. وأوصى عبد الوهاب الإفريقي أن يكفن في عباءته وقال: إني ختمت فيها ثلاثة آلاف ختمة.
الطواعين:
الطواعين المشهورة في الإسلام خمسة: منها طاعون شبرويه في المدائن سنة ست من الهجرة، وطاعون عمواس في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وطاعون الجارف سنة تسع وستين في شوال هلك في ثلاثة أيام كل يوم سبعون ألفاً، مات لأنس بن مالك في ثلاث وثلاثون ابناً، ولعبد الرحمن ابن أبي بكر أربعون ابناً، ومنها طاعون سنة إحدى وثلاثون ومائة كان يحصى في المربدة كل يوم عشرة آلاف جنازة، وقال بعضهم: رأيت في المنام في أيام الطاعون أنه أخرج من داري اثنا عشر جنازة، وكنا اثني عشر نفساً فمات منا أحد عشر، فما شككت أني تمام العدة، فخرجت يوماً وعدت إلى داري فإذا لص قد دخل الدار يسرق ما فيها، فطعن ومات من ساعته فأخرجنا جنازته، ومات أهل دار ولم يبق فيها أحد، فدخلوا الدار بعد أربعة أشهر فإذا صبي في الدار يحبو، فنظروا فإذا كلبة تأتيه وترضعه، وكانت الدار تصبح وفيها خمسون وتمسي وليس فيها أحد. وقال بعضهم: تزوجت بامرأة ودخلت بها في أهلها، فخرجت وهي في عشيرتنا، فعدت فوجدتهم قد ماتوا كلهم، وكان لا يجزع أحد على أحد لخوف كل أحد على نفسه، وأول ما أحدث كيف أصبحت وكيف أمسيت ايام الطاعون.
من استصوب الهرب من الطاعون:
تقدم خبر عمر مع المغيرة في أول الكتاب، وأراد هشام أن يهرب من الطاعون فقيل له: لا تخرج فالخلفاء لا يطعنون. ولم يسمع بخليفة مات مطعوناً قط. فقال لهم: أتريدون أن تجربوا ذلك فيّ؟
النهي عن ذلك:
كتب بعض عمال عمر إليه: إن الطاعون قد نزل بنا فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لنا في إتيان قرية خربة فوقع في كتابه: إذا أتيت القرية الخربة فسلها عن أهلها والسلام. وكتب شريح إلى صديق له هرب إلى النجف من الطاعون: إن المكان الذي أنت فيه بعين من لا يفوته طلب ولا يعجزه هرب، والمكان الذي خلفت لا يعجل إلى امرئ حمامه وأنت وهم على بساط واحد، وأن النجف من ذي قدرة لقريب.
من عزم على الهرب فعرض له ما صرفه:
قد تقدم خبر عبد الملك حين هرب من الطاعون في هذا الفصل. وأراد رجل من أهل البصرة أن يهرب من الطاعون فركب حماراً له ومعه غلام يتبعه، فسأله ان يرتجز. فقال:
لن يسبق الله على حمار ... ولا على ذي منعةٍ طيار
- قد يصبح الله أمام الساري فقال: صدقت وحط رحله ومات فيمن مات.
كثرة الوباء:
كثر الموت سنة بالبصرة فقيل للحسن: ألا ترى؟قال: ما أحسن ما صنع ربنا أقلع مذنب وأنفق ممسك ولم يغلط بأحد، وإذا قيل له قل الموت يقول ما يبقى أحد.
مما جاء في الغموم والصبر والتعازي والمراقي
الأسباب الموجبة للحزن:
قال يعقوب الكندي: اسباب الحزن فقد محبوب أو فوت مطلوب، ولا يسلم منهما إنسان لأن الثبات والدوام معدومان في عالم الكون والفساد. وقال الحسن: الدنيا دار غموم فمن عوجل فجع بنفسه، ومن أجل فجع بأحبابه. وقال بعض أصحاب المنطق: من أراد أن لا يصاب بمصيبة فقد أراد ما لا يكون لأن المصائب بالكون والفساد في الطبع، فينبغي أن يكون منا على بال أن جميع الأشياء التي تصل إلينا كانت قبلنا لغيرنا، فانتقلت إلينا بشريطة ما كان لمن قبلنا.
النهي عن اتخاذ ما يورث الجزع ومدح فاعل ذلك: ابن الرومي:
ومن سره أن لا يرى ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا
وقيل لسقراط: ما لك لا تجزع؟قال: لأني لا أقتني ما يحزنني فقده.
من نهى عن الجزع وبين قلة عنايته:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من انقطع رجاؤه مما فات استراح بدنه. وقيل لرجل اشتد جزعه: لو آمنت بالمرتجع لم تجزع، ولو اقتصدت بالتمتع لم تضرع، فالجزع لا يلم ما تشعث ولا يرم ما انتكث. الجزع منقصة الحياة ومن أعان على نقصان حياته فقد عظمت خطيئته. وقيل: التأسف على الفائت تضييع وقت ثان إن كنت جازعاً لما أفلت منك فاجزع على ما لم يصل إليك. الحزم التسلي عما لا يغني الغم فيه والاحتيال لدفع ما يندفع بالحيلة. وقيل لحكيم: الخوف أشد أم الحزن؟قال: الحزن لأن الخوف صار مكروهاً لما فيه من الحزن، فكما أن السرور غاية كل محبوب فالحزن غاية كل مكروه.
ذهاب الحزن بعد انقضاء المدة:
الحزن ينضو عن ابن آدم كما ينضو الصبغ عن الثوب ولو بقي لقتله.
المتنبي:
وللواجد المكروب من زفراته ... سكون عزاءٍ أو سكون لغوب
حقيقة الصبر:
قيل: الصبر حبس النفس على المكروه وعما تدعوك إليه. وقيل: الصبر صبران: صبر على المكروه فيما يلزمك فعله، وصبر عما يدعوك إليه الهوى. وسمع رجل آخر يقول: الهم ارزقني صبراً فقال له: ما أراك تسأل الله إلا الغم.
الحث على دفع الندب بالصبر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصبر ستر من الكروب وعون على الخطوب، أفضل العدة الصبر على الشدة. وقال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: الصبر مطية لا تكبو والقناعة سيف لا ينبو، إذا استهدف غرض الغم فارمه بنبال الصبر. وقيل: اجعل صبرك على النوائب كفاء شكرك على المواهب. الصبر عند النقم والشكر عند النعم. وقال عمر رضي الله عنه: لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت. الصبر يناضل الحدثان والجزع من أعوان الزمان. وما في الشكوى إلا أن تحزن صديقك وتشمت عدوك. وقال أنوشروان: جميع مكاره الدنيا تنقسم إلى قسمين: ضرب فيه حيلة فالاضطراب دواؤه، وضرب لا حيلة فيه فالاصطبار شفاؤه. وقالت الفرس: كلمتان يقولهما العاقل عند نائبته: إحداهما هذه الحال خير مما هو شر منها، والأخرى لعل الله أن يجعل في هذا المكروه خيراً، وكلمتان يقولهما الجاهل: لعل ما أصابني يدعو إلى شر منه، والأخرى لو كان بدل هذا كذا وكذا من المصيبة.
شاعر:
ولخير حظك في المصيبة أن ... يلقاك عند نزولها الصبر
الصبر يفضي إلى الفرح والظفر:
الصبر على مرارة العاجل يفضي إلى حلاوة الآجل. إنك لن تنال قليل ما تحب إلا بالصبر على كثير ما تكره، حيلة من لا حيلة له الصبر. قيل: لكل شيء ثمرة وثمرة الصبر الظفر. أنوشروان: الصبر كاسمه وعاقبته العسل. وقيل: الصبر على المصيبة مصيبة على الشامت. وقيل: مكتوب على باب الجنة: من صبر عبر.
حث الجزوع على الصبر وتحكيمه بين الجزع والصبر:
أمير المؤمنين كرم الله وجهه: إن صبرت فأنت مأجور وإن جزعت جرى عليك المقدور وأنت مأزور. قال بعضهم: رآني راكب وأنا مكب على قبر أبكي فقال: اصبر فالصبر خير معية، فلم أصغ فولى وهو يقول:
فإن تصبرا فالصبر خير معيةٍ ... وإن تجزعا فالأمر ما تريان
أبو راكد:
فإن صبرت فلم ألفظك من شبعٍ ... وإن جزعت فعلق منفس ذهبا
النابغة:
ألا أيها الباكي لأحداث دهره ... تحمل على ما يحدث الدهر فاصبر
فإن أنت لم تصبر لما كان جائياً ... وأبصرت تنكيراً لذاك فأنكر
الحث على تصور النوائب والاستعداد لها لتخف عند نزولها:
قيل: ما أمتع الدهر إلا ليمنع، ولولا اغترار الجاهل بفوائده لخلت النفوس من الحسرة على نوائبه. قيل: لا تخل قلبك من عوارض الفكر وخواطر الذكر فيما تعروك به الأيام من ارتجاع ودائعها وحلول وقائعها. وقيل: من كان متوقعاً لم يلف متوجعاً.
ابن الرومي:
ألم تر رزء الدهر من قبل كونه ... كفاحاً إذا فكرت في الخلوات
فما لك كالمرمي في مأمن له ... بنبلٍ أتته غير مرتقبات
فإن قلت مكروهٌ أتاني فجأةً ... فما فرحت نفسٌ مع الخطرات
ولا عوفصت نفسٌ لبلوى وقد رأت ... عظات من الأيام بعد عظات
إذا بغتت أشياء قد كان مثلها ... قديماً فلا تعتدها بغتات
الغم يمرض البدن:
سئل عبد الله بن عباس رضي اله تعالى عنه عن الحزن والغضب فقال: اصلاحهما واحد، وذلك وقوع الأمر على خلاف المحبة، فأما فرعاهما فمختلفان، فالمكروه ممن فوقك ينتج حزناً وممن دونك ينتج غضباً.
المتنبي: وحزن كل أخي حزنٍ أخو الغضب وقيل: الأحزان تسقم القلوب كما أن الأمراض تسقم البدان. وقيل: الغم يشيب القلب والهرم يشيب الرأس.
النهي عن الإفراط في البكاء وإظهار الجزع على الأموات:
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله. وأنكرت عائشة ذلك وقرأت "ألا تزر وازرة وزر أخرى " . وقيل: معناه يعذب بأفعاله التي يندب بها من غاراته وقتاله. ودخلت أعرابية الحضر فسمعت بكاء من دار فقالت: ما هذا؟أراهم من ربهم يستغيثون، ومن استرجاعه يتضجرون، ومن جزيل ثوابه يتبرمون!وقال أبو سعيد البلخي: من أصابته مصيبة فأكثر الغم جعل الله عقوبته غماً مثله. قال الله تعالى "فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا " . وقال عليه السلام: النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت أقيمت يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من كبريت.
الرخصة في البكاء وإظهار الجزع ما لم يكن إفراطاً:
دخل عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه على النبي صلى الله عليه وسلم يوم موت ابنه إبراهيم، فوجد عينيه تذرفان فقال: يا رسول الله ألست تنهانا عنه؟قال: أنا ذو رحمة ولا يرحم من لا يرحم، وإنما نهى عن النياحة وأن يندب المرء بما ليس فيه. وسمع عمر رضي الله عنه باكية في جنازة فزجرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعها فإن العهد قريب، والنفس مصابة!وقام الحسن البصري على قبر أخيه فبكى شديداً، فقيل له في ذلك فقال: ما رأيت الله عاتب يعقوب على طول بكائه على يوسف عليهما السلام بل قال: وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. وقيل لأعرابي: اصبر فالصبر أجر؛فقال: أعلى الله أتجلد؟والله لا الجزع أحب إلي لأن الجزع استكانة والصبر قساوة. وقيل لفيلسوف: أخرج الحزن من قلبك؛فقال: لم يدخله بإذني فأخرجه بإذني. وأفرطت امرأة في الجزع على ابنها، فعوتبت في ذلك فقالت: إذا وقع حكم الضروريات لم يقع عليها حكم المكتسبات، فأما جزعي فليس في الطاعة صرفه ولا في القدرة منعه، ولي عذر للضرورة فإن الله تعالى يقول "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه " . وقال خالد بن صفوان: صبرك في مصيبتك أحمد من جزعك، وجزعك في مصيبة أخيك أحمد من صبرك.
نفع البكاء في دفع الأحزان:
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه كنت إذا أصابتني مصيبة وأنا شاب لا أبكي وكان يؤذيني ذلك حتى سمعت أعرابياً ينشد:
لعل انحدار الدمع يعقب راحةً ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل
فسألته لمن الشعر؟فقال: لذي الرمة، فكنت إذا أصبت بكيت فاسترحت.
العبق: ويشفي مني الوجد ما أتواجع المتنبي:
وقلّ غناء عبرة تكسبانها ... على أنها تشفي الحرارة في الصدر
قلة نفع البكاء:
أبو تمام:
أجدر بجمرة لوعةٍ اطفاؤها ... بالدمع إن تزداد طول وقوع
وقال اراكة:
أعيني إن كان البكا رد هالكاً ... على أحدٍ قبلي فلا تتركا جهدا
الموسوي:
وإن غبين القوم من ظاعن الردى ... إذا جاء في جيش الرزايا بأدمع
آخر:
إن الدموع طليعة الأحزان
من سلا عن الولد أو سلي عنه بسلامته في نفسه:
قيل لعبد الله بن عبيد الله بن طاهر وقد مات له ولد، ثم أتاه الخبر قبل عوده من جنازته بأن مات له آخر، فانتظر حتى جهز فدفنه وانصرف مع أصحابه ودعا بالطعام، فقيل له في ذلك فقال: إذا سلمت الجلة فالسخل هدر!ودخل أبو العتاهية على الفضل بن الربيع يعزيه بابنه فقال: الحمد لله الذي جعلنا نعزيك به ولا نعزيه بك.
الموسوي:
فتسل عن سيفٍ طبعت غراره ... وأعرت صفحته سناً ومضاء
فالابن للأب إن تعرض حادثٌ ... أولى الأنام بأن يكون فداء
من تسلى عنه بما له من الثواب:
دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك، وكان قد أصابه الطاعون، فقال: دعني أمس قرحتك. وكان يقال إذا كان ليناً يرجى، وإذا كان خشناً لا يرجى، فامتنع عبد الملك من أن يمسها، فعلم عمر لم منعه فقال: دعني أمسها فوالله لأن أقدمك فتكون في ميزاني أحب إلي من أكون في ميزانك!فقال: والله لأن يكون ما تريد أحب إلي من أن يكون ما أريد، فلمسها فقال: يا عبد الملك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين!فقال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين. وقال عليه السلام: من مات له ولد فصبر أو لم يصبر، جزع أو لم يجزع، احتسب أو لم يحتسب، لم يكن له ثواب إلا الجنة. ولما مات ذر بن عمر بن ذر قام أبوه على قبره فقال: يا ذر شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، فليت شعري ما الذي قلت وما الذي قيل لك؟اللهم إنك قد ألزمته طاعتك وطاعتي لإغني قد وهبت له ما قصر فيه من حقي، فهب لي ما قصر فيه من طاعتك. اللهم ما وعدتني من الأجر على مصيبتي به فقد وهبته له فهب لي من فضلك؟ثم قال عند انصرافه: ما علينا بعدك من غضاضة وما بنا إلى إنسان مع الله حاجة، وقد مضينا وتركناك ولو أقمنا ما نفعناك.
من رأى المفقود من ولده له دون الباقي:
قال زياد لرجل: أين منزلك؟قال: وسط البلد. قال: كم لك من ولد؟قال: تسعة. فقال بعض من حضر: أيها الأمير إنه يسكن المقابر وله ابن واحد. فقال: أجل داري بين أهل الدنيا والآخرة. ومات لي تسعة فهم لي، وبقي واحد لا أدري أهو لي أو أنا له. وقيل لأعرابي: كم لك من الولد؟فقال: لي عند الله خمسة وعندي ثلاثة. وقال رجل للرشيد: بارك الله لك في الماضين وآجرك في الباقين. فقال له: اعكس تصب. قال: لا لأن الله تعالى يقول "ما عندكم ينفد وما عند الله باق " .
التسلية عن الأب ببقاء الابن:
عزى رجل آخر بموت أبيه فقال: من كنت من بقيته لموفور، ومن كنت خلفه لمجبور، ومن كنت وليه لمنصور! المتنبي: فإنك ماء الورد إن هذب الورد علي بن الجهم:
فما مات من كنت ابنه لا ولا الذي ... له مثل ما اسدى أبوك وما سعى
التعزية بالبنات:
نعي إلى ابن عباس رضي اللله عنهما بنت له وهو في سفر فقال: عورة سترها الله، ومؤونة كفاها الله، وأجر ساقه الله. وماتت لعمر بن عبد العزيز بنت، فأقبل الناس لتعزيته فأمر بحجبهم وقال: إنا لا نعزى في البنات ولا في الأخوات.
من فجع بمختص به فلم يحزن لتصوره قبل وقوعه:
دخل رجل على حكيم وهو يأكل فقيل له: قد مات ابنك!فقال: قد علمت ولم يقطع الأكل. فقيل له: ومن أين علمت ذلك؟قال: من قول الله تعالى "إنك ميت وإنهم ميتون " . وحضر الموبذ عند المأمون بمرو وهو يكالمه إذ وردت عليه خريطة من الحسن فيها أخبار العراق، وموت ابن الموبذ، فقال المأمون: أحسن لله لك العوض وعليه الخلف!فأجابه: بصالح الأدعية فعجب المأمون وقال: أتدري ما أردت؟قال: لا. قال: يقال أن ابنك مات. قال: قد علمت ذلك. قال: ومن أين علمت ذلك والخريطة الساعة وردت؟قال: قد علمت ذلك يوم ولد!وهذا كما سئل أفلاطون فقيل له: ما علة موت ابنك؟قال: وحوده!وقيل لعمر رضي الله عنه مثل ذلك فقال: هذا أمر كنا نتوقعه قبل كونه فلما ورد لم ننكره.
شهر: وهل جزع مجدٍ علي فأجزع وقال الطرماح:
ولما رأى أن الأسى غير دافع ... عن المرء مقدوراً من الأمر سلما
وقال:
هممت بأن لا أطعم الدهر بهدهم ... حياةً وكان الصبر أبقى وأكرما
المتنبي:
أردد ويلي لو قضى الويل حاجةً ... وأكثر لهفي لو شفى غلةً لهف
من مات له عدة بنين فصبر:
مات لأنس بن مالك رضي الله عنه في الطاعون ثلاثون ابناً، ولعبد الرحمن ابن أبي بكر رضي الله عنهما أربعون ابناً، ولعبيد الله بن عمر رضي الله عنهما ثلاثون ابناً سنة أربع وستين. ومات لأعرابية ابن وأخ وزوج دفعة فلم تبك وقالت:
أفردني ممن أحب الدهر ... ثلاثةٌ هم نجوم زهر
فإن جزعت إن ذا لعذر ... وإن صبرت لا يخيب الصبر
ونظر رجل بالبصرة إلى امرأة فقال: ما رأيت مثل هذه النضارة وما ذاك إلا من قلة الحزن!فقالت: ما حزن كحزني، ذبح زوجي شاة ولي صبيان يلعبان فقال أحدهما للآخر: تعال أريك كيف ذبح ابي الشاة فذبحه، ثم خاف فهرب إلى الجبل فرهقه ذئب فافترسه، وخرج زوجي في طلبه فاشتد عليه الحر فمات عطشاً، فقيل لها: كيف صبرت؟قالت: لو وجدت في الحزن دركاً ما اخترت غيره.
حث الإنسان أن يستعمل من التسلي عاجلاً ما يعود إليه آجلاً:
عزى رجل رجلاً فقال: إن رأيت أن تقدم ما أخرته الفجرة فتريح نفسك وترضي ربك. وأصيب ابن المبارك بابن رجل فدخل عليه مجوسي فقال: إن رأيت أن تفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام. فقال ابن المبارك: اكتبوا هذا. وعزى أمير المؤمنين رضي الله عنه أشعب فقال: إن صبرت جرى عليك المقدور وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك وأنت موزور.
طول العهد يقتضي التسلي:
اعتكفت فاطمة بنت الحسين على قبر زوجها سنة، فلما أرادت الانصراف سمعت قائلاً من جانب البقيع يقول: هل وجدوا ما سلبوا؟فأجابه من الجانب الآخر : بل يئسوا فانقلبوا. وقيل لأم الهيثم: ما أسرع ما سلوت؟فقالت: إني فقدت منه سيفاً في مضائه ورمحاً في استوائه، وبدراً في بهائه ولكن قلت:
قدم العهد وأسلاني الزمن ... إن في اللحد لمسلى والكفن
وكما تبلى وجوهٌ في الثرى ... فكذا يبلى عليهن الحزن
وقال عمر لمتمم بن نويرة: ما بلغ من حزنك على أخيك؟فقال: بكيت عليه حتى ساعدت عيني العوراء الصحيحة!قال: ثم مه؟قال: سلوت!وقيل: لم يخلق الله شيئاً إلا كان صغيراً فكبر إلا المصيبة فإنه خلقها كبيرة فصغرت.