Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all 560 articles
Browse latest View live

وأين سينتهي المطاف بالربيع العربي

$
0
0

يقولون: ثلاثُ سنوات عجاف على ثورات الربيع العربي، ولم تتضح بعد طبيعة هذه الثورات. وهناك من لخص دوافع هذه الثورات في ثلاث: مسألة الهوية, والصراع الاجتماعي, والعلاقة مع ظاهرة العولمة، بصفتها أحد المحدّدات الكبرى الجديدة، ليس فقط للاقتصاد والسياسة، بل أيضاً للثقافة والفِكر في كل دول العالم. وأرجع البعض تعثر الربيع العرب لهذه الأسباب:  

1.   اتهام الربيع العربي بأنه صناعة أميركية. وهذا الاتهام أستند لتصريح  هيلاري كلينتون  عام 2005م لموقع مصراوي الإلكتروني, حيث قالت:أي حزب يلتزم بنبذ العنف والديمقراطية وحقوق كل المصريين يجب أن تكون لديه الفرصة للمنافسة على أصوات المصريين.وفهم من كلامها تأييدها وصول حزب الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم. ولكن في ظل تطورات لم تكن لصالحها في المنطقة, يُطرح هذا السؤال: هل اميركا أرادت خنق الإخوان المسلمين وتحميلهم المسؤولية, وتوظيف الربيع العربي لصالحها؟  

2.   إضفاء الصبغة الإسلامية على الربيع العربي  لأن الجماهير ذات الصبغة الإسلامية هي الأكثر حضوراً وتأثيراً من باقي الجماهير الأخرى ذات الصبغات الأخرى. وهذا ما تروج له وتساهم فيه بنشاط معظم وسائط الاعلام العربية والاسلامية والدولية.

3.   اعتقاد قيادات الحركات الإسلامية بأن الجماهير يمكن أن تستجيب لطروحاتها.

4.   إهمال الحركات الاسلامية  لعملية تقويم التجارب الإسلامية المعاصرة خلال القرن الماضي, بدءاً من تجربة الأفغاني ومحمد عبده، ومروراً بتجربة حسن البنا، ثم بتجربة أبو الأعلى المودودي، ثم بتجربة الجهاد الأفغاني في أفغانستان عام 1980م.

5.   استياء الجماهير من عمليات القتل والدمار  والخراب والذبح, وعملية قتل القذافي التي تعرضها الفضائيات. فالجماهير تفضل احترام القانون, وتقديم الجناة والمسؤولين إلى محاكمات علنية, تتوافر لها كل ضمانات العدالة تكشف فيها الحقائق المبهمة.

6.   سعي أنظمة بعض الدول لحماية نفسها ومنع تفجر الثورات داخلها، وذلك بالعمل على إجهاض الثورات التي نجحت, ومنعها من تأسيس نظم ديمقراطية قوية وفاعلة.

7.   انسداد الأفق بوجه الربيع العربي,  بحيث بات المستقبل العربي مرشحاً للتطور وفق سيناريوهات ثلاثة، تتراوح بين الأفضل والأسوأ والأقل سوءاً، وذلك على النحو التالي:الأول:السيناريو الأفضل: هو السيناريو الديمقراطي، وفيه يواصل قطار الربيع العربي مسيرته إلى أن تتحقق الديمقراطية. والثاني: السيناريو الأسوأ: هو سيناريو التفتيت، حيث تصبح الثورات العربية، وفقاً لهذا السيناريو، مرشحة للدخول في فوضى شاملة يعلو فيها صوت المطالب الفئوية، وتغلب المصالح الطائفية والقبلية على المصالح الوطنية والقومية في غياب قوى قادرة على المحافظة على تماسك النسيج الاجتماعي، وهو ما قد يفتح الباب أمام تفتت عدد كبير من الدول العربية إلى دويلات صغيرة تقوم على أسس مذهبية وطائفية، وهذا هو السيناريو الذى تسعى إليه واشنطن و إسرائيل.والثالث: السيناريو الأقل سوءاً: هو سيناريو الديمقراطيات الناقصة أو غير المكتملة. وسوف يتحقق هذا السيناريو إذا نجحت القوى الكبرى المتحكمة في النظام الدولي، خاصة الولايات المتحدة  وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، في العثور على نظم بديلة للنظم المنهارة، تلتزم بالمحافظة على مصالحها الاستراتيجية في هذه المنطقة الحساسة من العالم,  وعدم المساس بأمن إسرائيل.

8.   وجود قناعة لدى بعض الجماهير العربية بأن التكيف مع الانظمة الدكتاتورية اسهل بكثير من التكيف مع الانظمة الديمقراطية, والتي لم تعتاد عليها أو تجربها.

9.   عملية التحول الديمقراطي في ثورات الربيع العربي  بدأت تتآكل وتُسرق يوماً بعد آخر, بسبب التدخلات الخارجية فيها. وازداد الامر سوء وتعقيداً مما قد يفقد ثورات الربيع العربي شعارها الديمقراطي. وقد تتجه نحو حروب اهلية بين بعضها البعض.

ما يسمى بالربيع العربي رغم برده القارس وطقسه العاصف والدموي والمدمر. وبعد أن ذابت ثلوجه ونبت المرج وأزهرت وأثمرت اشجاره, جاء محصوله مخيباً للآمال. وبدأ يتحدث عنها الكثير. وأنقل بعضاً مما  تحدث عن هذه الخيبة. وهذه الأقوال نشرتها وسائط الإعلام:

·       الرئيس التونسي المنصف المرزوقي في حوار مع فضائية الأناضول في قصر قرطاج, قال: عندي قناعة أن وراء الإرهاب ثمة ثورة مضادة، وهناك ثورة مضادة على صعيد الوطن العربي. وأضاف: نحن لسنا سذجاً، هناك قوة داخل الوطن العربي قررت إجهاض الربيع العربي وهي تحاول إجهاضه في كل مكان ومن جملتها  تونس.

·       والدكتور مصطفى يوسف اللداوي نشر مقال, جاء فيه: لقد فاجأتنا  الحكومة التونسية، باكورة ثورة العرب، و بوعزيزية الغضب، الثائرة على الظلم، والمنتفضة في وجه الجوع والقهر، أنها كانت هي القاهرة الظالمة، وهي المتسلطة المستبدة، القاسية التي لا ترحم، والجائرة التي لا تعرف القربى، والغريبة التي تنكر الأخوة والمودة، فلم تكتفِ بمنع فلسطينيين هاربين من الموت من الدخول إلى بلادهم، أو المرور منها إلى مكانٍ آخرٍ يأويهم ويقبل بهم، بل قامت بتسليم بعضهم إلى السجان يحبسهم، وإلى الجلاد يضربهم، وإلى المقصلة التي قد تقطع رقابهم، وهي العارفة بأحوالهم، والمدركة لمصائرهم، وما قد يحدث لهم إن هم أعيدوا قسراً من حيث أتوا.

·       والدكتور محمد أسعد بيوض التميمي نشر مقالاً, جاء فيه: سيناريو المؤامرة بدأ عندما أعلنت أوروبا وأمريكا وقوفها إلى جانب الثورة الليبية بنية اختطافها, ومن أجل ذلك:

1.   أوعز الغرب إلى كثير من رجال القذافي أن ينحازوا إلى الثورة ليكونوا بديلاً للقذافي, فيتم بواسطتهم إنتاج نظام القذافي ولكن بشكل أخر, وحتى لا يُسيطر على ليبيا الجماعات الإسلامية الجهادية, التي تريد تطبيق شرع الله, ومنع جعل ليبيا دولة اسلامية.وكان من ضمن هؤلاء اللواء عبد الفتاح يونس أحد أفراد عصابة القذافي ووزير داخليته,ولكن الثوار الليبيين اكتشفوا حقيقته وخيانته وخداعه ومسرحية انضمامه الى الثورة أثناء الثورة فقاموا بتصفيته, وما أن تمت تصفيته حتى بدأ الثوار يُحققون تقدماً واسعاً على الأرض بعد أن كانوا يُراوحون مكانهم وجميع هجماتهم تفشل, بل قام طيران الناتو بقصفهم في كثير من  المناطق خصوصاً في مناطق اجدابيا وراس لانوف والبريقة, بسبب إعطاء عبد الفتاح يونس إحداثيات تستهدف عن عمد ضرب مواقع الثوار المتقدمين على الأرض, مما ألحق بهم خسائر فادحة.

2.   وأيضاً من ضمن الذين تم دسهم على الثورة الليبية من أجل سرقتها وإجهاضها ضابط اسمه خليفة حفتر برتبة لواء, وهو الذي كلفه القذافي بالقضاء على الجيش الليبي في معركة مفتعلة مع تشاد في عقد الثمانينات ليس لها غاية أو هدف إلا القضاء على الجيش الليبي, حتى لا يبقى يُشكل خطراً على نظام القذافي, ولما نفذ هذا المجرم الخائن المهمة التي كلف بها, حيث قتل في هذه المعركة العبثية ألاف من الجيش الليبي, وتم أسر الألاف وهو  منهم, وقامت تشاد باحتلال إقليم أوزوا الليبي, شعر بأن القذافي سيتخلص منه لإخفاء سر المؤامرة, طلب اللجوء السياسي الى الولايات المتحدة الأمريكية, وبقي فيها إلا أن اندلعت الثورة فأرسلته أمريكا الى ليبيا لإجراء الاتصالات مع كتائب الثوار لتنضوي تحت قيادته, وليكون بديلاً للقذافي وليقوم بإجهاض الثورة وسرقتها. ولكنه فشل في ذلك فلم يستجيب له أحد لأنهم يعرفون تاريخه الأسود وعمالته للولايات المتحدة الأميركية.

3.   ومن الذين أيضا انضموا إلى الثورة أيضاً بنية سرقة الثورة أحد أزلام القذافي وأزلام ابنه سيف وهو محمود جبريل المتطرف بعلمانيته. وتم تزويده بالملايين من الدولارات من قبل الأمريكان والإمارات لشراء الذمم وتم تسويقه على أنه البديل الليبرالي للقذافي. ولكن سرعان ما أسقطه الشعب الليبي عندما فرض عليه حظر سياسي. والأن يقف مع اللواء خليفة حفتر ويعيش في الأمارات.

4.   ومن ضمن المؤامرة لسرقة الثورة كان قادة المجلس الانتقالي بالاتفاق مع الناتو.  الذين كانوا لا يُريدون أن يسمحوا للثوار بدخول طرابلس, والهجوم عليها من أجل تحريرها. وإنما يُريدون أن يقوموا هُم بدخول طرابلس بواسطة قوات منشقة عن الجيش الليبي, حتى لا تقع طرابلس في يد الثوار. لكن الثوار فاجأوا العالم بشن هجوم على طرابلس دون إعلام المجلس الانتقالي أو حلف الناتو, وكان هجوماً مباغتاً وناجحاً, مما جعل المجلس الانتقالي وحلف الناتو يحتجون على ذلك, ودفع بالقذافي للفرار إلى سرت.

5.   وكان من ضمن سيناريو المؤامرة الطلب من الثوار بعد سقوط القذافي إلقاء سلاحهم وأصدر بعض المشايخ والعلماء الليبيين وغير الليبيين فتاوي شرعية تحرم حمل السلاح بعد الثورة وتطلب تسليم السلاح للمجلس الانتقالي وكأن الثوار فقط مهمتهم التضحية وإسقاط القذافي وبعده يتم القضاء عليهم لمصلحة الانتهازيين والوصوليين والمندسين, لمنع تحويلها إلى دولة تحكم بشرع الله, فقامت بعض الكتائب الموالية للمجلس الانتقالي بتسليم أسلحتها بشكل مسرحي من أجل خداع الثوار الحقيقيين فيقوموا بالاقتداء بهم وتسليم أسلحتهم, ولكن الثوار الحقيقيون كانوا واعيين لهذه  المسرحية والخدعة , فلم يقبلوا تسليم أسلحتهم وأبقوا على تشكيلاتهم المسلحة.

6.   ونتيجة لفشل جميع المحاولات التي استهدفت سرقت الثورة وخداع الثوار فكان لابد من اللجوء الى أساليب أخرى. فذات يوم فوجئ الشعب الليبي والعالم باللواء خليفة حفتر يُطل من قناة العربية التي سُخرت له ليقرأ بياناً يُعلن فيه بأنه قد سيطر على السلطة ونصب نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة من أجل إنقاذها من المتطرفين والتكفيرين والإرهابيين والفوضى, ومُعلنا بأن القوات المسلحة الليبية وجميع القبائل قد أعلنت ولائها له وبأن على جميع الكتائب المسلحة تسليم سلاحها له, وكان يظن بأنه مجرد أن يعلن بيانه هذا ستنضم له كثير من كتائب الثوار, وبذلك يسيطر على الوضع.  ولكن كانت محاولته زوبعة في فنجان ومفضوحة. وما أن انتهى من إلقاء بيانه  ووجد أن أحداً لم يتجاوب معه, بل أعلن الثوار بأنه مطلوب لهم بتهمة الخيانة العظمى والتآمر على الثورة,  مما جعله يختفي عن الانظار.

7.   وبعد هذه المحاولة الفاشلة بعدة أشهر فإذاباللواء خليفة حفتر يُعيد الكرة بهجوم عسكري مُباغت بالمرتزقة الذين ينتمي إليهم على مدينة بنغازي ومدعوماً بالطيران المصري, وبمساندة ودعم علني من المجلس العسكري في مصر, وتم تسخير قناة العربية مرة أخرى لنقل أخبارها وإعلان نجاحها بمجرد بدئها, فقرأ بياناً من على شاشتها مُعلناً فيه بأنه سيُطهر ليبيا من التكفيريين والإرهابيين والمتطرفين, وإعادة الأمن والأمان والاستقرار إلى ليبيا. وهذا البيان نفس البيان الذي ألقاه السيسي عندما انقلب على مرسي بثورة مضادة. وأعلن بأنه قام بهذه المحاولة استجابة لأوامر الشعب الليبي, من أجل تخليصه من الإرهابيين والمتطرفين والتكفيرين الذين يُهددون الشعب الليبي. وإعادة الأمن والاستقرار له, وهذا ما يوضح أن الجهة التي تقف وراء الاثنين واحدة, ولكنها لا تعلم بأن المُعطيات في ليبيا غير المعطيات في مصر. ففي مصر لم تحدث ثورة حقيقية وإنما انتفاضة شعبية استطاعت أمريكا بواسطة الجيش أن تجهضها قبل أن تتطور الى ثورة حقيقية تطيح بالنظام.

8.   ومن ضمن سيناريو المؤامرة على الثورة الليبية وصول علي زيدان لرئاسة الوزراء. وعندما اكتشف أمره ولى هارباً, وهو الأن من الداعمين لحفتر.

·       والسيد معمر حبار, تساءل في مقال:لماذا  البعض يحاربون حركة الإخوان المسلمين بكل هذه الشدة والقسوة، رغم ما يقال عنها من المؤيدين والمعارضين؟ ثم يجيب على سؤاله بقوله:فريق يرفض الإخوان، لأنهم ينازعونه في الدين، فوجب توقيفهم ومحاربتهم. وفريق يرفضهم لأنهم ينافسونهم في الدين والدنيا. فوجب صدّهم وتشويه صورتهم. وفريق يرفضهم، لأنهم سيحجرون على حرياتهم. فاستلزم مهاجمتهم وتجريحهم. وفريق يرفضهم، لأنهم قدّموا البديل في التسيير، وهو لا يريد أن يكون غيره بديلاً. وفريق يرفض طريقة حكمهم، بغض النظر عن حسناتها ومساوئها، لأن الانتخابات في نظره، تجعل الناس يرفضون غيرها ، وهو يدعو إلى طاعة ولي الأمر.

·       والأمير الحسن بن طلال، رئيس منتدى الفكر العربي، في حوار مع زينة يازجي على فضائية سكاي نيوز عربية، قال:إن الربيع العربي الذي شهدته خمس دول عربية خلال السنوات الثلاثة الماضية هو انتفاضة من دون رأس، وأضاف:أنه موجه.

·       وعبد الوهاب الزغيلات رئيس اللجنة الدائمة للحريات باتحاد الصحفيين العرب، قال: إن ثورات الربيع العربي تحولت إلى رياح خمسينية، أطاحت بحرية الصحافة.

والسؤال: إلى أين ينتهي المطاف بما أطلق عليه تسمية الربيع العربي؟ وإلى أين سينقل  هذا الربيع العربي الجماهير ودولهم العربية والاسلامية ومنطقة الشرق الأوسط؟  ولماذا بدأت عمليات فضح المستور عن الأنظمة التي جاء بها الربيع العربي أو الشكوى منها؟ ولماذا بعض الفضائيات ومنها فضائية العربية تساند من يجهض ثوراته في مصر وليبيا واليمن وتونس ؟


عندما تتحدى أبل الجميع

$
0
0

بالأمس كان مؤتمر أبل للمطورين، وكما أشرنا في مقالنا التفصيلي الخاص بالمقال -هذا الرابط- أنه جاء للمطور تحديداً فلم تكشف أبل عن أي أجهزة لكن فقط أنظمة. المؤتمر أصبح حديث الوسط التقني وأيضاً الكثير من المستخدمين بالإضافة إلى الشركات. نعم فنظام أبل لم يستهدف فقط المستخدم والمطور بل أعلنت أبل فيه ضمنياً تحدي كبرى الشركات التقنية في العالم. فهل تستطيع أبل التحدي؟

سعت أبل إلى تقديم خدمات وتطبيقات وأدوات مختلفة، هذه المنتجات تأتي بقوة وجودة عالية تدفعها لتحدي كبرى الشركات التقنية، في الأسطر التالية سوف نستعرض المجالات الجديدة التي تدخلها أبل بخدماتها. وسنكتفي بذكر المزايا بشكل مختصر لكن في المقالات القادمة سوف نشرح كل ميزة بشكل أكثر تفصيلاً

أبل تتحدي دروب بوكس

منذ أن أطلقت أبل خدمات السحابة “آي كلاود” وهى تعرف بأنها ميزة سحابية مختلفة عن المنافسين، تستخدم لمزامنة الصور والأسماء والمواعيد والبريد وحفظ نسخ احتياطية وتوفير حزمة تطبيقات مكتبية iWorks. لكن لا تستطيع تخزين ملفاتك الشخصية بها كما تفعل خدمات شهيرة مثل DropBox. مع صدور النظام الجديد سيكون لديك مجلد في جهازك سواء ويندوز أو ماك وفيه تستطيع وضع أي ملف ليحفظ في السحابة، ويمكنك من جهازك الذكي تصفح هذه الملفات وفتحها على أي تطبيق. قوة خدمة أبل أنها تأتي مدمجة في نظام ماك، وأيضاً ذات أسعار منافسة جداً فمقابل 0.99$ شهر تستطيع الحصول على 20 جيجا، ومقابل 3.99$ تحصل على 200 جيجا في حين تكلفك دروب بوكس 9.99$ شهري لتحصل على 100 جيجا.

تستطيع إنشاء حساب دروب بوكس على حاسبك من هذا الرابطأو تحميله على هاتفك

أبل تتحدى إيفرنوت سكتش

أتى نظام 10.10 بميزة تدعى Markup وهى تمكنك التعديل السريع على أي صورة أم ملف PDF على جهازك فتضع عدسة مكبرة وأسهم وتعليق وغيرها من الأمور. هذه الميزة متوفرة بواسطة تطبيقات حالياً وأشهرهم تطبيق سكتش من شركة إيفرنوت العملاقة. أبل توفر الميزة بشكل أكثر جودة وأسرع وأفضل من سكتش ومعظم التطبيقات الشبيهة.

تستطيع تحميل سكتش على حاسبك من هذا الرابطأو تحميله على جهازك

آبل تتحدي واتس آب

واتس آب هو تطبيق المحادثة الأشهر عالمياً، بالأمس قامت أبل بتحديث تطبيق الرسائل بشكل جذري حيث أضافت إمكانية إنشاء المجموعات وإرسال الرسائل الصوتية بشكل سريع وكذلك التصوير والفيديو وإمكانية الرد عليهم بدون فتح التطبيق وعشرات المزايا الأخرى والتي تضيف إليها إمكانية الإرسال من الحاسب الشخصي ومشاركة الموقع لفترة زمنية وهى أمور غير متوفرة في المنافسين. تبقى فقط أن تطلق أبل تطبيق آي ماسج في الأندرويدوهنا يمكننا القول أنها ستهز عرض الواتس آب

أبل تتحدى خدمات البريد

تضع تطبيقات البريد الإلكتروني بمختلف أنواعها حجم أقصى للإيميل الذي ترسله، فماذا إن كنت تريد إرسال ملفات حجمها مثلاً 250 ميجا أو 1 جيجا بالبريد؟! هذا غير ممكن، لكن أبل قررت توفير بديل واستخدام طريقة موجودة في بعض الخدمات مثل “Hightail” وهى إرسال الرسالة كما هى في بريدك الحالي لكن استخدام السحابة لإرسال المرفقات كما يظهر في الصورة في أعلى، وهذا سيجعل الكثيرون يعتمدون عليها لأنها توفر خدمة مجانية حتى 5 جيجا

أبل تتحدي تطبيقات تعرف الموسيقى

نسعى دائماً لعدم ذكر الأخبار الموسيقية والأغاني لما لها من حرمة شرعية، لكن أبل سعت لتطوير خدماتها في هذا الاتجاه فأضافت دعم خدمة “Shazam” مع سيري لتستطيع التعرف على أي مقطع صوتي يعمل، بهذه الطريقة تدخل أبل منافسة شرسة في هذا المجال مع العديد من الخدمات والتي يحصل بعضها على دعم من منافستها جوجل ليتعرف صوتياً ويظهر نتائج البحث من اليوتيوب. ونضيف إلى هذا شراءها لشركة  Beats بالإضافة لقوة الآي تيونز، نتخيل الآن قوة أبل في هذا المجال.

أبل تتحدى طموحات جوجل المنزلية

عملاق الإنترنت جوجل يضع نصب عينيه منازل المستخدمين، استحوذ على Nest الشهيرة في التعرف على درجات الحرارة والتنباً بالحرائق وغيرها، وحالياً يتحدث الجميع أن جوجل قد اقتربت من الاستحواذ على Dropcam شركة الكاميرات التي يستخدمها الكثيرون لمتابعة منازلهم وأعمالهم، والكثير من الأخبار تأتي أن جوجل تريد إطلاق خدمات الأندرويد للمنازل. لكن أبل قررت أن تسبق وأطلقت حزمة المنزل وأعلنت التعاون مع كبرى الشركات التي تقدم أجهزة ذكية للمنازل ليدعموا نظام iOS وتستطيع التحكم في منزلك من الهاتف بواسطة سيري، تخيل أن تقول سيري أغلق باب المنزل وافتح النور وشغل التلفاز وكم تبلغ حرارة المنزل الآن وغيرها.

أبل تتحدى فيسبوك “Parse”

خدمة لن تهم المستخدم العادي لكنها للمطورين حيث وفرت أبل حزمة تطبيقات وخدمات سحابية للمطور تحتعنوان “CloudKit” وهى تعد منافس للموقع الشهير Parse والذي يعد أشهر خدمة يلجأ إليها المطور العادي والمحترف أيضاً وهى مملوكة لشركة فيسبوك. أبل تريد تحدي شركة أخرى للفيسبوك.

أبل تتحدى ياهوو

ياهوو يمكننا القول أنها صديقة أبل الصدوق، لسنوات اعتمدت أبل عليها في الكثير من الخدمات مثل الأسهم ودرجات الحرارة ومحرك بحث. كما تفخر أبل بوجود بعض تطبيقات ياهوو الحصرية في متجرها ومنحت تطبيق أخبار ياهوو جائزة التصميم في مؤتمرها أمس وأيضاً بالأمس عندما أرادت ضرب مثال على تطبيق بريد فتحت ياهوو، كما رأينا صوراً للقاءات جماعية بين جوني إيف نائب رئيس أبل مع رئيسة ياهوو والعديد من رجال الصناعة، وانتشرت الأخبار أن ياهوو ستضغط على أبل لتجعلها الخدمة الافتراضية في البحث بدلاً من جوجل. كل هذا وتصدر المفاجئة، تطبيق الطقس يأتي بدعم من خدمة “The Weather Channel” الشهيرة وليست ياهوو. أبل أطاحت بطقس ياهوو الذي تعتمد عليه منذ اليوم الأول.

أبل تتحدى أبل

لا يوجد خطأ في العنوان، أبل قررت تحدي تطبيقاتها وخدمات هى تقدمها منذ سنوات، حيث طورت بشكل كبير تطبيق الصور وأضافت إليه ميزة إصلاح الصور بشكل احترافي وهى بذلك تنافس iPhoto و Aperture الذين تقدمها أبل نفسها للتعديل على الصور في الحاسب ويوجد الآي فوتو في نظام iOS. من رقى إلى iOS 8 قال أن تطبيق iPhoto أصبح لا يعمل ويخبر المستخدم أنه نقل كل شيء إلى تطبيق الصور الرسمي.

الخلاصة:

هذه ليست كل الخدمات والصراعات الجديدة التي تدخلها أبل، بالطبع أبل لن تهزم الشركات السابقة بسهولة فهذه ليست بالشركات الهينة، لكن أبل هى الأخرى ليست بالشركة الصغيرة. واتس آب لن يهزم بسهولة، دروب بوكس كان وسيظل ربما لسنوات الخدمة السحابية الأولى، فيسبوك، إيفرنوت، ياهوو، جوجل وغيرهم شركات عملاق وستظل كذلك، لكنهم الآن وجدوا منافس قوي مثل أبل.

جر كرسى العرش إلى الساحة

$
0
0

مُصطلح التنصيب الذى يتشدق به الإعلام يتعلق فقط بالحكم الملكى أو الأمبراطورى و لا يمكن أن يتعلق بمرشح فائز فى إنتخابات الرئاسة أثناء دخوله ساحة الحكم. الرئيس فى أى نظام ديمقراطى هو مُجرد موظف عام و له حدود لا يمكن أن يتعداها بمُقتضى الدستور و القانون معاً.

الإعلام المصرى المُتدنى مهنياً -برموزه من قادة حملة التضليل- يهوى أن يذهب بمصر نحو الإستبداد. هذه هى الحقيقة سواء إذا كانت المنظومة الإعلامية تعمل من تلقاء نفسها أو أن هناك من يأمرها بذلك. لكن الشعب المصرى الكادِح يجلس و يترقب المشهد كاملاً و لا يمكن لحملة التضليل الإعلامى أن تحجب عنه رؤية الحقيقة أو رؤية الإتجاه الذى سيتم إقتياد مصر نحوه لاحقاً. الشعب يعلم جيداً أن الحالة الإقتصادية للبلاد قد وصلت إلى الحضيض و يعلم أيضاً أن حفل التنصيب الرئاسى سيتكلف عشرات إن لم يكن مئات الملايين و تكاليف هذا الحفل تُعتبر حالة من البذخ الغير مُحتمل فى ظل سوء الأحوال المعيشية و الأعباء التى تتحملها الطبقة الكادحة. الشعب لا يرى الواقع من خلال حملة التضليل التى يتبناها إعلام المصاطب - التوك شو-، بل يرى الواقع من خلال الآلاف و الآلاف من المرضى الذين يتسولون مصاريف العلاج و مئات الآلاف الذين يعملون فى وظيفتين دون راحة و لا يتقاضون ما يفى بإحتياجتهم و يدرى أن هناك ظلم كبير قد وقع عليه من قِبل الفاسدين و لا يزال هذا الظلم مستمراً.

 

الكل يرى أن نفس الأشكال المُستفزة من أفراد عصابة اللص جمال مبارك عادت لتطفو فوق السطح الآن كى تحظى بالتقرُب من صانع القرار أملاً  فى حماية ثرواتهم المُكدسة التى تم نهبها من خيرات مصر. هؤلاء اللصوص هم الذين حولوا مصر من دولة ذات نظام إدارى فاسد إلى دولة تدير الفساد بشتى أنواعه و لا يمكن أن ينسى الناس عصر حكومة عصابة رجال الأعمال و الحقبة التى شهدت فيها مصر زيادة مُرتفعة فى عدد المليارديرات بالتوازى مع إزدياد معدلات الفقر و بلوغه إلى أسوأ الحدود. هؤلاء اللصوص هم الذين قَولبوا الإقتصاد المصرى و جعلوه يسبح فى فلكهم و فسادهم بزعامة اللص جمال مبارك و أُستاذه اللص الهارب بطرس غالى. النظام الإقتصادى لايزال قائماً على حرمان الطبقة الكادحة من الخيرات و الموارد و إمتصاص دمائهم و تسخيرهم. الأمل الآن ينحصر فى تعديل النظام الإقتصادى كى يكون قائم على العدالة و إخراج الإقتصاد من حالة القولبة التى حتماً ستخدم اللصوص إذا لم يتم تعديله. إذا ظلت دائرة صُنع القرار ترى أن الحل دائماً يكمُن فى ترك النظام الإقتصادى كما هو -دون تعديله- مع إعطائه بعض المُسكنات الخليجية و إقامة بعض المشروعات لإظهار نسبة إيجابية فى النمو إقتصادى، فإن ذلك سيتسبب فى إزدهار وضع اللصوص و إرهاق الكادحين. النمو الإقتصادى فى هذه الحالة لن يستفيد منه المواطن الكادح بل سيزداد حلقه جفافاً لأن الإقتصاد لايزال فى قالب بطرس غالى. النمو الإقتصادى يُعبر فقط عن مدى دوران عجلة رؤوس الأموال داخل الساحة الإقتصادية و لا علاقة له بعدالة  التوزيع، الدليل على ذلك أنه عندما بلغ معدل النمو الإقتصادى ٧ فى المائة فى العقد الماضى كانت الطبقة الكادحة تئن من الغوص فى أعماق الفقر. إن عودة اللصوص بأموالهم الفاسدة إلى الساحة الإقتصادية لغسلها لن يكون  فى ى مصلحة مصر، لإن اللص أتى بأمواله كى يضعها فى مغسلة الساحة الإقتصادية من أجل مزيد من التلاعب و السرقة و لم يأتى ليعمل أو يُفيد المجتمع. إحتواء هؤلاء اللصوص لن يُفيد مصر و يعنى إضفاء شرعية على الأموال التى نهبوها من المال العام و خيرات الدولة. مصر بحاجة لتعديل النظام الإقتصادى بقواعد تصب فى مصلحة الأغلبية العظمى. نظام إقتصادى يراعى العدالة الإجتماعية، يفيد المجتمع و يصنع كرامة للفرد و يضعه فوق الربح و يضع العمل قبل الثروة.

 

الشعب الآن ينظر جيداً إلى الساحة و يدرى بنوعية المتواجدين عليها سواءً كانوا من الشرفاء أو اللصوص أو الإرهابيين أو الذين يروجون لجَر كرسى العرش إلى ساحة الحكم كى يجلس عليه الرئيس الفائز بعد تنصيبه.

يهود وكاثوليك (4)

$
0
0

وهكذا إنتقل الذنب الذى إكتسبه اليهود  فى ذلك العام عبر الأجيال المتعاقبة وأصبحت النظرة إليهم فى العالم المسيحي بعد دخول الإمبراطورالروماني إلى المسيحية هي نظرة المتآمر على إبن الرب.

 

وظل اليهود فى أوروبا من الجماعات التى لا ينظر إليها بعين الإرتياح وكانوا يعتبرون دائما من مسببات غضب الرب على الشعوب كلما حلت بهذه الشعوب نائبة من نوائب الزمان.

فعندما إنتشر الطاعون فى أوروبا فى منتصف القرن الرابع عشر وحصد أرواح مئات الألوف وربما الملايين كان الإعتقاد السائد هو أن اليهود هم سبب غضب الرب وقامت حركات شعبية تهاجمهم وتقتلهم.
مع أن سبب إنتشار الطاعون كان هو إنتقاله من المسافرين من شرق أوروبا إلى غربها حيث أنه بدأ فى شرق أوروبا فى مدينة كافا على البحر الأسود (إسمها أصبح اليوم فيودوسيا فى القرم) والتى كان يحاصرها جانى بيك حفيد جنكيز خان عام 1347 وأثناء الحصار أخذ يقذف بجثث موتاه من الجنود بالمنجنيق داخل المدينة ذات الأسوار لكى تتعفن مما أدى إلى إنتشار الطاعون فيها ومن ثم إنتقاله إلى سائر القارة.
(جانى بيك لم يكن يهوديا بل كان مسلما).

ولكن فى ذلك الزمن المبكر لم يكن الأوروبيون قد تعرفوا بعد على الإمبراطورية العثمانية حيث أنها كانت فى بداياتها الأولى وكان ما يعرفونه عن الإسلام هو ذكريات الهجمات الصليبية التى إنتهى زمنها قبل ذلك بحوالى 50 عاما إلى جانب حضارة مزدهرة علميا وثقافيا فى الأندلس، وإن كانت ضعيفة سياسيا وضعفها السياسي يزداد من عام لعام.. وبذلك إكتملت عناصر ذنب اليهود، فهم تاريخيا مسئولون عن صلب المسيح، وفى الحاضر يعملون فى النشاط المالى والربا، وكذلك هم سبب بلاء القارة الأوروبية بالطاعون.

واليهود لم يكنوا أبدا من العاملين فى الزراعة التى كانت هي النشاط الإقتصادي الأعم فى أوروبا الكاثوليكية. وكذلك لم يكنوا من العاملين فى الحرف اليدوية لأنها كانت محظورة عليهم. ولم يكن إمتلاك الأرض سهلا لا على المسيحيين العاديين بسبب الإقطاع ووجود الأمراء، ومن باب أولي كان ذلك مستحيلا على اليهود الذين حظر عليهم ذلك.

وبالتالي تركز وجودهم فى المدن فقط حيث لا يحتاج إليهم أحد فى الريف، وتركز عملهم فى التجارة والخدمات المالية وتقديم القروض مع وجود حظر على الإقراض بالفوائد للمسيحيين.

وكانت الجماعات اليهودية تتعرض للعقاب كل فترة من الوقت لأي مناسبة إجتماعية أو سياسية تصاحبها قلاقل من أي نوع. وكانت الحروب الصليبية مناسبة من ضمن تلك المناسبات التي علت فيها النعرة المعادية لليهود باعتبارهم خانوا المسيح وأسلموه للرومان، (مع عدم الذهاب إلى أبعد من ذلك بإلقاء اللوم على الرومان مثلا) !!!

 

وفى عام 1517 قام القس مارتن لوثر بطرح أسئلة عديدة على كل من أسقف ماينز وأسقف ماجدبورج تتعلق بالعقيدة التى تتبعها الكنيسة الكاثوليكية وبالذات فى شأن صكوك الغفران التى ذاعت تجارتها عقب نهاية الحروب الصليبية ونضوب معين الثروة المرتبطة بهذه الحروب وبتنظيم فرسان المعبد الذى لم يكن فى حقيقته سوى مؤسسة إقتصادية تتخذ من الدفاع عن العقيدة ستارا للإثراء الهائل. فلما شتت الملك فيليب ملك فرنسا شملهم فى أوائل القرن الرابع عشر أصبحت الكنائس تقريبا بلا مورد مالى فنشأ نظام صكوك الغفران.

وهذه الاسئلة التى طرحها مارتن لوثر بلغ عددها 95 سؤالا كان من بينها مناقشة سلطة البابا فى عقاب من إنتهت حياته بالفعل بالموت. فقد كتب فى الموضوعات من 10 إلى 13 أن العقاب لا ينبغى أن يمتد إلى ما بعد الموت أو أن يحكم به عقب موت الإنسان.

وقد كانت وثيقة هذه الأسئلة، التى علقها مارتن لوثر على باب الكنيسة ودقها بمسامير فى خشب الباب حتى يراها الناس جميعا، تمثل بداية نشأة المذهب البروتستانتى الذى لا يأخذ كل كلمة من الكنيسة مأخذ القدسية وإنما يناقش ويتساءل ويحاول أن يصل بعقله إلى تفسير. وهو بالطبع ما لم تكن الكنيسة لتقبله بأى حال دون مقاومة.

وبالطبع فإن نهجا كهذا فى التفكير لابد له أن يفضى إلى إعادة التفكير فى وضع اليهود الذين كانوا لايزالون محل شك وعدم إرتياح المسيحيين بسبب الذنب التاريخى.

وكان الأندلس قد سقط نهائيا وخرج منه كل من المسلمين واليهود أو أجبر من بقى منهم على أن يعمّد مسيحيا من جديد وبالتالى زاد عدد اليهود الهاربين من الأندلس إلى أراضى الإمبراطورية الرومانية المقدسة    sacrum imperium romanumفى مناطق وسط وغرب أوروبا.

وهذه الإمبراطورية الرومانية المقدسة هى خليفة الإمبراطورية الرومانية القديمة بعد أن وقع حدثان مهمان. أولهما دخول الإمبراطور كونستانتين إلى المسيحية وبالتالى كل رعاياه معه وثانيا القسمة إلى كنيستين شرقية فى كونستانتينوبل وغربية فى روما. وبالتالى كانت الديانة المسيحية الكاثوليكية التى تقوم على شأنها كنيسة القديس بطرس فى روما جزءا لا يتجزأ من المكونات الاساسية للإمبراطورية الرومانية المقدسة.

 

 

فكيف كان رد الكنيسة الكاثوليكية؟

جولة سياسية بأفق بعض الحوادث والأحداث

$
0
0

فهم مغزى السياسة ومواقف الدول, يتطلب منا التنقيب عن ترابط الحوادث والأحداث. فالسياسة علم وليست تكهنات أو تخرصات, أو شعوذة وسحر, أو قراءة بالفنجان. فمواقف الدول تحكمها المصالح لا العواطف أو الشفقة على متسول يقرع  عليهم الأبواب.

لا أريد رسم صورة جاهزة للقراء الكرام. ولكنني سأشاركهم جولة أفق بعض الأحداث. فربما نخرج بتصور واضح عن حقيقة بعض المواقف المعلنة أو تلك التي تحاك بعيداً عن أعين الناس.

1.   اجتاح ما يطلق عليه الربيع العربي تونس. فسارعت واشنطن وإعلامها ودول أوروبية وعربية بتأييد ودعم نظام زين العابدين بن علي. وعلا ضجيج مسؤوليهم بإشادتهم  بزين العابدين وبنظامه.رغم تصنيف جماعات حقوق الإنسان الدولية وصحيفة الإيكو نومست نظامه بالاستبدادي وغير الديمقراطي, وانتقاد منظمة العفو الدولية وبيت الحرية والحماية الدولية المسؤولين التونسيين بعدم مراعاة المعايير الدولية للحقوق السياسية, وتدخلهم السافر في عمل المنظمات المحلية لحقوق الإنسان. والإيكو نومست صنفت تونس لسنة 2010م في الترتيب 144 من بين 167 بلدا شملتها الدراسة. ومن حيث حرية الصحافة فإنها صنفت تونس في المرتبة 143 من أصل 173 سنة 2008م.وكل ما فعله زين العابدين بن علي طيلة حكمه يتلخص: بالحفاظ على علمانية الدولة. وحظر حركة النهضة وحزب العمال الشيوعي التونسي نظراً لشعبيتهما العالية لدى الأوساط الدينية وخاصة العمالية. ومنعه صحيفة الموقع التي يديرها الحزب التقدمي والمعارض أحمد نجيب الشابي من الصدور مرات عدة. وطمسه قضية اغتيال شاب تونسي اخترق الشبكة المعلوماتية لقصر قرطاج واكتشف أسماء عملاء للموساد يعملون للتجسس على قادة منظمة التحرير الفلسطينية بتونس في الثمانينات, وادعت السلطات التونسية أنه قتل في حادث سيارة. وزين العابدين كان اكثر الرؤساء انفتاحاً على الغرب، وجعل تونس من أكثر الدول العربية المنفتحة على أوروبا.ومنع الحجاب الذي وصفه بالزي الطائفي. وأعاد الصوفية إلى البلاد، وسمح للكنائس بممارسة طقوسها. وفتح الباب للفساد ليستشري بكل شيء. حيث تحكم في الاقتصاد 3 عائلات "الطرابلسي"وبن عياد"وبشكل ضئيل "بن يدر"وجميعها متصاهرة, ولديها ميليشيات خاصة تتجسس من خلالها على المواطنين من المقاهي ومكتبات الجامعات إلى الاحياء ومؤسسات الدولة. وأصهار زين العابدين وأقارب زوجته يملكون شركات الاتصالات والإنترنت والسياحة ومساحات زراعية شاسعة وذلك لحكم البلاد اقتصادياً بقبضة من حديد. واغلق مكتب قناة الجزيرة, وحجب موقعي YouTubeوdaily motion.وبدا تردد زين العابدين بن علي  في بداية الربيع العربي واضحاً للعيان, ولكنه بعد ان حسم أمره أقال عدد من الوزراء بينهم وزير الداخلية. وزار البوعزيزي في المستشفى, ووعد بمعالجة المشاكل التي خرجت لأجلها المظاهرات. وأعلن عدم ترشحه لانتخابات الرئاسة عام 2014م. فتحول تأييد الدول والانظمة له بلمح البصر إلى تأييد مطالب المتظاهرين بإزاحته وتحميله المسؤولية. وفجأة نقلت وسائط الاعلام  خبر هروبه وهبوط طائرته في جدة.

2.   وحال مصر كحال تونس. فحينما أجتاح الربيع العربي  مصر, صلب مبارك موقفه  في البداية. ودعم محور قطر تركيا الربيع العربي في مصر كما دعمه في تونس من قبل. وسارعت واشنطن والدول الغربية ودول مجلس التعاون الخليج عدا قطر لدعم وتأييد نظام الرئيس مبارك رغم الانتقادات  الموجهة إليه: بإصراره على التمسك بالحكم, وتوريثه الحكم لنجله من بعده. وكذلك عدم تحقيق ما وعد به من تحقيق الاستقرار الاقتصادي, وحماية محدودي الدخل. ومعاناة الاقتصاد من مشاكل كبيرة  رغم تبنيه عمليات الخصخصة التي ثبت عدم جدوها وإهدارها للمال العام. وفشله بكبح نسبة البطالة والتي ارتفعت معدلاتها بنسبة كبيرة. إضافة إلى تغاضيه عن تحكم عدد قليل من أصحاب رؤوس الأموال في مقدورات مصر. مما أدى إلى استشراء الفساد. كما أن عصره شهد تزايد الإضرابات العمالية, وانتشار ظاهرة التعذيب في مراكز الشرطة. واستفحال ظاهرة العنف ضد المرأة. وازدياد عدد المعتقلين في السجون، إذ وصل عدد المعتقلين السياسيين إلى ما يقرب من ثمانية عشر ألف معتقل إداري. وتحكم المخابرات بالحكم  حيث وصل عدد العاملين في أجهزة الأمن المصرية 1.7 مليون ضابط وجندي ومخبر. وهو ما يعني أن هناك عسكريا لكل 47 مواطناً مصرياً. وفي عصره تزايد عدد الفقراء. حيث أشار تقرير نشر في شباط 2008م أن 11 مليون مواطن يعيشون في 961 منطقة عشوائية. وتفاقمت الأزمة الاقتصادية على إثر بعض السياسات الاقتصادية  بسبب تحكم 2% من المصريين في 40% من جملة الدخل القومي. وارتفعت معدلات التضخم بصورة ضخمة, وتضاعفت الأسعار بسبب تحرير سعر الدولار. وجعل قوانين الطوارئ سارية طيلة فترة حكمه. وعارض مشروع بناء جسر بري يربط مصر والسعودية عبر جزيرة تيران في خليج العقبة بين رأس حميد في تبوك شمال السعودية، ومنتجع شرم الشيخ المصري لتسيير حركة تنقل الحجاج ونقل البضائع بين البلدين حتي لا يؤثر علي المنتجعات السياحية في مدينة شرم الشيخ.وصنفته مجلة باردي الأمريكية بالديكتاتور رقم 20 الأسوأ على مستوى العالم لعام 2009م, وصنفته بالديكتاتور رقم 17لعام 2008معلى مستوى العالم. وصنفته مجلة فورين بوليسي الأمريكية في المركز الخامس عشر في قائمة أسوء السيئين لعام 2010م, حيث تعتبره فورين بوليسي حاكم مطلق مستبد يعاني داء العظمة وشغله الشاغل الوحيد أن يستمر في منصبه.  وحين فشلت اجهزة الأمن بقمع المتظاهرين, ورفض الجيش أوامره بقمع المتظاهرين, عين نائباً له هو اللواء عمر سليمان. وأصدر مجموعة قرارات وصفها بإصلاحات. وأعلن عن عدم ترشحه لفترة رئاسية جديدة. وبعد مماطلة لثمانية عشر يوماً تنحى وسلم الحكم للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية. حينها وعلى حين غرة تحول الدعم والتأييد من واشنطن وحلفائها لمبارك ونظامه, إلى دعم وتأييد للمتظاهرين, ومطالبتهم برحيل مبارك.

والأسئلة التي ستبقى بلا جواب لعقود, لعلاقتها بالأمن القومي الاميركي, تتلخص بما يلي:

·       هل زين العابدين هرب كما جاء في الأخبار, أو رُحل رغماً عنه بأمر من واشنطن وباريس, أو أن بعض المسؤولين في نظامه هم من انقلبوا عليه وأخرجوه عنوة؟

·       ولماذا سحبت واشنطن ودول غربية وعربية تأييدهم لكل من زين العابدين ومبارك فور اعلان كل منهما عدم ترشيح نفسه لولاية جديدة, وقطعه وعود بالإصلاح؟

·       وهل ركوب واشنطن موجة الثورة  إنما كان هدفه التفتيش عن حاكم جديد يتابع مسيرة تأمين اهدافهم ومصالحهم السرية والمعلنة, ومتابعة محاربة التيارات الاسلامية؟

·       وهل حجم أعداد المتظاهرين في المدن والقرى هو من أقنعهم بأن تعويم كل من زين العابدين  ومحمد حسني مبارك بات مستحيل, فقرروا التضحية بهما لكسب ود المتظاهرين. وترك زمام قيادة الوضع التونسي لمحور تركيا وقطر الداعم للربيع العربي, وتوجيه هذا المحور من بعيد, فتركيا عضو في حلف الناتو وقطر قاعدة عسكرية امريكية في الخليج. وترك زمام القضاء على جماعة الإخوان المسلمين لمحور الرياض؟

·       وما هو سر ازدواجية  كل من محور الرياض ومحور قطر وتركيا. حيث يتصارعان في مصر وليبيا, ويحتدم الخلاف بينهما في أكثر من مكان. ومختلفان حول الوضع الفلسطيني حيث تدعم قطر حركة حماس بينما تدعم الرياض الرئيس الفلسطيني محمود عباس. ومتفقان في البحرين وسوريا ولبنان,  ومتفقان في التصدي لأهداف إيران الصفوية, وفي نفس الوقت يتسابق زعماء المحورين لزيارة إيران والتودد إليها؟

·       وهل أرادت صحيفة الحياة اللندنية تشويه صورة الربيع العربي وتجريم جماعة الإخوان المسلمين و قطر وأروغان واتهامها بالعمالة لواشنطن من خلال نشرها حواراً أجرته مع رجل مبارك والمرشح الخاسر في الانتخابات المصرية أحمد شفيق, ونشرته بوابة الشروق؟.  وأهم ما جاء في هذا الحوار, قول احمد شفيق: الرئيس السابق  محمد حسني مبارك، كان يعتقد أنه يستطيع الاقامة في شرم الشيخ، ومن دون التخلي تماماً عن الحكم.  إلا أنه عندما قالت أميركا، أن عليه التخلي عن الحكم الآن ، فإن موقفها أدى إلى الإسراع في تنفيذ رغبات المصريين برحيله. وأن الربيع العربي خطة إخوانية مغذاة من الخارج. وقطر كانت اليد الرئيسية، وليس مؤكداً أن تكون تركيا، وقد نجح الإخوان في أن يخدعوا بعض الدول وبينها واشنطن. وقطر دعمت الإخوان وليس الثورة، ومازالت تدعمهم لتتحكم  في مصر، والتي هي عقدة قطر. وقد يكون رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي، ممن ساهموا في التخطيط للربيع العربي؛ لأنه صاحب مصلحة فيما حدث. وجماعة الإخوان المسلمين، تلقت فيضان أموال من الخارج، خصوصًا من قطر، وهي العمود الفقري للإخوان ماليًا. وحصلوا أيضاً على أموال من غيرها, لكنها تنفق عليهم منذ أعلنوا خوض الانتخابات في مصر. وهناك مبلغ نريد أن نعرف قصته، وهو 50 مليوناً من الحكومة الأمريكية.

·       ولماذا تدعم  واشنطن كل من محور الرياض ومحور تركيا وقطر, رغم أن محور قطر تركيا يدعم جماعة الإخوان المسلمين بينما يحاربهم ويتهمهم محور الرياض بالإرهاب؟

·       ولماذا هذه الحرب الاعلامية المستعرة  والضروس بين وسائط إعلام كل من المحورين وخاصة بين فضائية العربية بوق محور الرياض وفضائية الجزيرة بوق محور تركيا قطر؟

·       وهل سيتكرر سيناريوا  ما حصل في مصر على يد الفريق السيسي في ليبيا وتونس؟

·       ولماذا  لا تجرأ قطر  وتركيا على انتقاد دعم الرياض وواشنطن للنظام الجديد في مصر وللأعمال العسكرية التي يقودها اللواء حفتر لإجهاض ثورة الربيع العربي في ليبيا, بينما يكتفيان بالتهجم على النظام الجديد في مصر ومناصبة الفريق السيسي العداء؟

·       ولماذا تكافئ قطر واشنطن على موقفها المنحاز لمحور الرياض بجهودها الحثيثة لمفاوضة وإقناع حركة طالبان على إطلاق سراح  المعتقلين لديهاالجنود الأميركيين والأوروبيين؟

·       وهل الهدف من تمزيق كل معارضة من المعارضات العربية والاسلامية إلى معتدلة و متشددة وأصولية وأجانب تسهيل مهمة القضاء على التنظيمات الاسلامية؟

·       ولماذا لم يتفاقم الصراع الدموي في اليمن بعد انتصار الربيع العربي في اليمن  بعد موافقة الرئيس علي صالح بالمبادرة الخليجية وتنازله عن الحكم لنائبه؟

 

من يدقق المعطيات السابقة  أعلاه يستنتج: بأن حرية وحقوق الانسان,  وترسيخ قيم الحرية والديمقراطية  في المجتمعات والدول العربية والاسلامية ليست هدف واشنطن وحلفائها وعشاقها ومحبيها على الاطلاق. فالصراعات تزداد حدة في كل من مصر والسودان وليبيا وتونس واليمن وسوريا والعراق ولبنان والصومال. وكل ما يهمهم: ضمان بقاء وأمن ومصالح إسرائيل في الدرجة الأولى. وحماية مصالح واشنطن وحلفائها وحلف الناتو ثانياً. ومحاربة العروبة والاسلام بذريعة محاربة الإرهاب بأنظمة وقوى وإمكانيات عربية وإسلامية ثالثاً.وضمان المحافظة على أنظمة وحكومات وحكام وعروش رابعاً. ومن بعدهم  فليكن الطوفان. والمحزن تهافت البعض لكسب ود حكام واشنطن وحلفائها والذين هم سبب ما نشكو منه.

الشعر والخيال مفتاحان أساسيّان لتقدّم العلوم

$
0
0

ربما يبدو غرائبيّاً القول بوجود دور بارز للشعر والخيال في تقدّم العلوم، بل صنع ثقافة العلوم فعليّاً. وفي التفكير التقليدي المنمّط يظهر الشعر والخيال وكأنهما ضدّ للعلوم، خصوصاً صلابة التفكير العلمي وصرامته المفترضين. هل الأمر كذلك؟ إن كان الشعر مهمازاً يحفز حصان العلم، فلم لا يحصل ذلك في دنيا العرب، وهم غارقون في الشعر قديماً وحديثاً؟

 

من المستطاع البدء من غاستون بشلار (1884- 1964). المفكر الفرنسي اشتغل على طريقة التفكير العلمي والمفاهيم المرتبطة بالعلوم. ولاحظ بشلار أن الشعر يعمل على تثبيت خيال علمي عن العالم والانسان، وهو أمر يمثل شرطاً ضرورياً للتقدّم العلمي. وفي المقابل، يرى بشلار أن تقدّم العلوم يرتبط أيضاً بأن يلتقط المجتمع ذلك الخيال العلمي ويتشربه، عبر التعليم والتربية والفنون والسياسة (بما في ذلك علاقتها مع الدساتير والقانون) والفلسفة وغيرها من أعمال الفكر، كي يتهيأ المناخ الاجتماعي والثقافي اللازم لتقدّم العلم.

 

نقد فكرة «النموذج»

 

اشتغل باشلار على علم يعرف باسم الابستيمولوجيا Epistemology، وهو بالتعريف، تفكير نقدي في العلم. لم يولِ العرب المعاصرون اهتماماً كبيراً بالابستمولوجيا التي تتضمّن دراسة تاريخ العلوم وكيفية تطور وسائلها في البحث ومناهجها في دراسة الظواهر التي تعرض لها.

وتركز المدارس الفلسفية المُعاصرة، خصوصاً في فرنسا، على تعريف الابستمولوجيا باعتبارها دراسة نقدية لما تحمله العلوم من أفكار وقيم وصور وخيالات عن الانسان والعالم والكون، اضافة إلى مناهج البحث التي تضمن الوصول إلى المعلومات والتثبت منها. مثلاً، ثمة فارق كبير بين القول إن المادة تتألف من ذرات لها تركيب متشابه، وتتفاعل فيها قوى معينة، كما يقول العلم الحديث، وبين الفكرة الأرسطية عن المادة ذات المواصفات الأصيلة وميول فطرية. تعطي الذرات، المتشابهة والقابلة للتأثر بعوامل يمكن دراستها والتدخل فيها، صورة عن عالم يرتكز إلى المُساواة ويقبل تدخل العقل الانساني والجهد المُستند إلى العلم. وتُفيد فيزياء أرسطو في تثبيت فكرة عن مجتمع أرستقراطي، تعلو فيه نخب محددة على كل ما عداها، بفضل صفات موجودة في أصلها.

 

تاريخيّاً، عزّزت فيزياء أرسطو سطوة النبلاء في أثينا، وبرّرت سيطرة السلالات الملكية والأكليروس الكنسي. وفي سياق التجربة التاريخية نفسها، ساهم تحدي الفيزياء الأرسطية، وما استند اليها من علوم مثل تصوّر بطليموس عن نظام شمسي مركزه الأرض، إلى انهيار هيمنة السلطات التي كانت تجد في فيزياء أرسطو وفلك بطليموس دعماً لها.

 

وساهم تحدي أرسطو في نقل المجتمعات الغربية إلى وضع تتعزز فيه سلطة العقل وقوة الأنسان الفرد، مع اعلاء قيم المساواة والحرية. وشرح غاستون باشلار ذلك المسار في مؤلّفات منها «جدلية الزمن» و «فرضيات عن النظرية الذريّة» و «الأكثرية المتجانسة والكيمياء المعاصرة» وغيرها.

 

ولم يتردد بعض العلماء في محاولة تنظير المفاهيم الاساسية التي تحملها العلوم التي اشتغلوا فيها، مثل الكتب العديدة لبرتراند راسل عن المنطق الرياضي، و «المسائل الفلسفية في العلم النووي» لورنر هاينزبرغ، و «ما هي الحياة» لايرفينغ شرودنغر و «تطور الفيزياء» لألبرت أينشتاين وغيرها.

 

وكخلاصة، من المستطاع القول إن العلم يقدّم خيالاً أساسياً عن الكون، يتضمن المُكوّنات الأساسية وتفاعلها والمسائل الرئيسية التي تواجه العلم. ويثبت النظام التعليمي والتربوي تلك الرؤية، في سياق من تداخله مع المؤسسات القانونية والتشريعية.

هناك مسألة أخرى. يُقدم النموذج الأوروبي، والغربي عموماً، في التقدّم العلمي نفياً قوياً، بل وحاسماً، لفكرة «النموذج».

 

فمن الواضح أن الغرب لم يتّبع نموذجاً مسبقاً في الوصول إلى التقدّم العلمي، ولا يعني ذلك أنها لم تأخذ علوماً من شعوب وحضارات متنوّعة، منها العرب.

 

واستطراداً، يمكن القول إن الصين راهناً، والهند إلى حد كبير، لم تتبع نماذج مُسبقة قررتها كمدخل وكطريقة للوصول إلى ما تريده في أحوال العلم.

 

وبالمقارنة، هناك مآسٍ مديدة في تجربة العرب في العصر الحديث مع «النماذج» المُختلفة التي حاولوا، بطرق مختلفة، السير عليها، لكنها لم توصلهم إلى التقاط خيط التطوّر المنشود.

يهود وكاثوليك (5)

$
0
0

كانت الأرض تزلزل تحت أقدام الكنيسة حيث أن صدي تلك الدعوة الإصلاحية التحديثية التي أطلقها مارتن لوثر إجتذبت كثيرا جدا من المواطنين بحيث أن وضع الكنيسة قد أصبح حرجا ويلزم لها الدفاع عن بقائها. والبابا الذى كان موجودا وقتها هو البابا ليو العاشر وهو لم يكن من البابوات الأقوياء بل ظل نهج الكنيسة منذ بدأت الدعوة إلى هذه الإصلاحات وحتي مجىء البابا بولس الرابع، بعد عدة رؤساء للكنيسة كانوا جميعا حيارى فيما يفعلوه، ظل فى حالة حيرة وعدم قدرة على إبداء أى رد فعل حاسم.

والبابا بولس الرابع كان رجلا إيطاليا يرى أن البابا الإسباني ألكساندر قد تجاوز الحدود وخلط الديني بالدنيوي وكانت له عشيقات وأسرة وأولاد وهو بذلك قد تعدي الحدود وعليه هو إذن أن يوسد الأمر إلى أهله فأعاد التوكيد على عزوبية البابا وأراد العودة بالعقيدة المسيحية إلى أصولها فأصدر بيانا أو نشرة بابوية فى هذا الشأن.. وكما هو الحال مع معظم هذه النشرات فهي تسمي بعبارة هى نفسها العبارة الأولي التى يحويها نص النشرة. وصدرت بذلك تلك النشرة عام 1555 أى بعد أكثر من 35 عاما من بدء الحركة الإصلاحية على يد مارتن لوثر.

وسميت هذه النشرة البابوية Cum nimis absurdumوهي عبارة لاتينية معناها أنه أيضا من شديد السخف .... والمقصود من نص هذه النشرة أنه من السخف أن اليهود الذين جلبوا على أنفسهم بفعلهم إثم العبودية الأبدية جزاءا نكالا لما إقترفوه فى حق المسيح،  من السخف أن يجاوروا اليوم المسيحيين ويشاركونهم حياتهم....إلخ...

وهكذا أسست هذه النشرة البابوية لإنشاء ما أطلق عليه فيما بعد الجيتو فى روما (وقد أعقبه جيتو فى كل مدينة أوروبية بل وفى كل مدينة من مدن العالم القديم (حارة اليهود)..

وفرض هذا المنشور البابوي على اليهود ذكورا وإناث أن يظهروا يهوديتهم عن طريق إرتداء علامات معينة وشارات لا تخطئها العين (تكرر ذلك فيما بعد فى عهد هتلر فى ألمانيا)..

الثورة المصرية: الرواية الأخرى

$
0
0

أسدل في السابع من حزيران 2014 الستار على ختام فصل هام من فصول الثورة المصرية، بعد تنصيب الرئيس الجديد عبد الفتاح السيسي أمام المحكمة الدستورية. ثلاث سنوات ونصف السنة تقريباً فصلت هذا المشهد عن تظاهرات 25 كانون الثاني 2011 في ميدان التحرير بوسط القاهرة، تلك التي ألهمت الملايين داخل مصر وخارجها بشعارات «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية». تقلبت الأمور خلال هذه الفترة في بر مصر، فأطيح رؤساء وجاء آخرون على هدير ملايين المتظاهرين في الميادين في مشاهد أقرب إلى الدراما الإغريقية. وللمرة الأولى في تاريخ مصر يتجاور أربعة رؤساء في وقت واحد: رئيس مخلوع (حسني مبارك) ورئيس معزول (محمد مرسي) ورئيس سابق (عدلي منصور) ورئيس حالي (عبد الفتاح السيسي)، في مفارقة تصرخ بالدلالات والمعاني. ربما يكون تحليل الماضي ملهماً لا لاستخلاص الدروس فقط، بل لاستلهام المستقبل في ما هو قادم من الأيام، لذلك تغامر هذه السطور باجتراح رواية مغايرة للرائج الأيديولوجي عما دار في بر مصر خلال فترة السنوات الثلاث ونصف الماضية.

«25 يناير» 2011

شكل حسني مبارك - ابن المؤسسة العسكرية - صمام الأمان لدور المؤسسة طيلة الفترة الممتدة منذ توليه الحكم العام 1981 وحتى العام 2005، إذ أفسح أدواراً متعاظمة للمؤسسة العسكرية في الحياة الاقتصادية تعويضاً عن حصتها المباشرة في النظام السياسي التي كانت لها في العقود الماضية. ولكن الأمر تحول جذرياً ليشكل خطراً محدقاً على المؤسسة ذاتها في نهايات حكمه، مع محاولات توريث السلطة لابنه جمال. وجاءت انتخابات برلمان العام 2010 لتدق المسمار الأخير في النعش السياسي لمبارك، فالانتخابات زورت مثل سابقاتها، ولكنها أتت بموالين ليس للحزب الكرتوني الحاكم فقط، بل ولمشروع توريث السلطة لجمال مبارك أيضاً. وكانت تلك الانتخابات «البروفة» النهائية قبل التوريث الرسمي للسلطة، الذي لم يكن متصوراً أن يتم إلا بوجود مبارك على رأس السلطة. وزادت مؤشرات توريث السلطة وضوحاً مع إعادة ترتيب النخبة الاقتصادية المتحلقة من حول جمال مبارك، للمشهد الاقتصادي بما يتوافق ومصالحها ويضرب مصالح المؤسسة العسكرية. لم يكن ممكناً للأخيرة التصدي لـ«سيناريو» كهذا من دون ظهير شعبي، وإلا لكان الأمر انقلاباً عسكرياً فجاً. كانت نقطة الضعف الأساسية متمثلة في الحراك الخامد في مصر، بسبب غياب توازن القوى بين المجتمع والدولة، بالرغم من كل مظاهر الترهل لدى الأخيرة. حققت «دولة يوليو الناصرية» إنجازات لا يمكن انكارها على صعيد العدالة الاجتماعية، ولكن خطيئتها الكبرى تمثلت في إعطاب الحيوية السياسية المجتمعية، فحلت الدولة من يومها لاعباً فاعلاً أوحد في الحياة السياسية. وفي عهد مبارك تم التضييق على التيارات الليبرالية واليسارية واستتباع الأحزاب المدنية العلنية للسلطة، في حين ظل تنظيم «الإخوان المسلمين» القابع تحت الأرض بكامل جاهزيته التنظيمية. كانت القيادة السياسية لجماعة «الإخوان المسلمين» قابلة بالفتات في عصر مبارك، وبحصة تناهز خمس مقاعد البرلمان من دون أي قدرة على رسم الخطوط العريضة للدولة. مع اندلاع تظاهرات «25 يناير» 2011 كان الوجه القبيح لنظام مبارك يتعرى، ثم مع تحول التظاهرات إلى مليونية يوم «28 يناير» 2011 انضمت جماعة «الإخوان المسلمين» إليها على استحياء. وانعقد المجلس العسكري الأعلى الممثل للقوات المسلحة، وأعلن نفسه في حالة انعقاد دائم في خطوة لها دلالاتها. ساعتها استنفر مبارك وحاشيته وسائل لتطويق التظاهرات، من إجراء حوار مع عمر سليمان الذي عينه مبارك نائباً له، فانخرطت في الحوار جماعة «الإخوان المسلمين» ورموز وشخصيات لا تمثل حالة تنظيمية حقيقية، ولكنها أعطت النظام بعض المصداقية. وبعد إلقاء مبارك كلمة مؤثرة للمصريين عن رغبته في أن يُدفن في مصر وأنه غير راغب في البقاء بالسلطة بعد انتهاء ولايته، فقد بدا أن قطاعات من المصريين تأثرت بهذا الخطاب. في اليوم التالي دخل البلطجية بالجمال والخيول لفض اعتصام ميدان التحرير (كانت وحدة من القوات المسلحة تطوق الميدان ساعتها)، فاشتعلت التظاهرات أكثر، لتطيح التأثير الإعلامي لخطاب مبارك ورغبته في التقاعد. ثم وصلت الأمور إلى ظهور عمر سليمان نائب مبارك ممتقع الوجه أمام الكاميرات في كلمات متلعثمة، ليعلن تنحي مبارك عن السلطة وتسليمها للقوات المسلحة، تلك التي أدت التحية للشهداء وتلاحمت مع المتظاهرين تحت شعار «الجيش والشعب يد واحدة». ساعتها احتفل المصريون بسقوط مبارك وذهبوا إلى بيوتهم، تاركين السلطة في عهدة الجيش ليبدأ فصل آخر من فصول الرواية.

«الإخوان المسلمون» يبرمون الصفقات

كان المجلس العسكري الأعلى في موقف صعب يوم 11 شباط 2011، فالمماطلة في تسليم السلطة كانت ستعني عودة التظاهرات والتعرض لضغوط دولية تحت شعار «حماية الديموقراطية» في مصر، والتهديد بفقدان الوضع الخاص في الدولة والمجتمع. وبرز على الساحة وقتها قوتان رئيستان: المؤسسة العسكرية وجماعة «الإخوان المسلمين»، أما القوى الثورية فكانت تعبيراً عن حالة شبابية وثورية من دون تنظيم وأسس شعبية واضحة، فأبرمت ساعتها الصفقات بين الطرفين الأقوى. حينذاك أعد المجلس العسكري قانوناً للانتخابات البرلمانية يوسع الدوائر الانتخابية بشكل جعلها تشمل ملايين الأصوات في إفساح للمجال أمام الجماعة لتحصد مقاعد أكبر من حجمها الحقيقي بكثير. ومع انتخابات رئاسة الجمهورية فقد بدا للبعض أن انحيازاً خفياً، وربما غير مفهوم، لمرشح «الجماعة» محمد مرسي قد شاب العملية الانتخابية، في مقابل مرشح فلول النظام أحمد شفيق أو القيادي المنشق عن «الجماعة» عبد المنعم أبو الفتوح. كان فوز شفيق سيعني عودة التظاهرات لإسقاط النظام بكامله هذه المرة، أما أبو الفتوح فقد كان ميالاً لفكرة التحالف مع تيارات مدنية أخرى، بما يهدد السيناريو المعد سلفاً. وعند أعلان فوز محمد مرسي بالانتخابات الرئاسية، انتهى فصل جديد من فصول الثورة المصرية.

«الإخوان» يستأثرون ويخسرون

اعتقدت «الجماعة» بسذاجة، أنها أحكمت قبضتها على السلطة، على الرغم من أن الدكتور محمد مرسي لم يكن متحكماً في أعمدة السلطة: الجيش والشرطة وأجهزة الأمن والإعلام، تلك التي تشكل أركان السلطة في بلدان العالم الثالث. ومع تنكر الجماعة للقوى الثورية صاحبة المشروعية في الثورة، والحديث عن «غزوة الصناديق» و«الحكم الإسلامي» و«التمكين للجماعة» كانت الهوة تتسع كثيراً مع ملايين المصريين. وساهم سعي «الجماعة» نحو احتكار السلطة في ظهور تحالف موضوعي مؤقت بين الناقمين يضم القوى الثورية ومؤسسات الدولة وأجهزتها، وهو التحالف الذي لم يكن متصوراً من دون وجود «الإخوان المسلمين» إسمياً في السلطة. وشكل «حزب النور السلفي» ـ وبعضه يشتبه بالارتباط بأجهزة الأمن - كحليف للجماعة، ضامناً لعدم التفاف القوى السياسية حولها في حكومة وحدة وطنية. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية وعدم الرغبة في تغيير آليات السيطرة الاقتصادية والاجتماعية القائمة والتوجه نحو إقصاء التيارات السياسية الأخرى، كانت النتيجة محتومة، بالرغم من ضعف وتشرذم «جبهة الإنقاذ» المعارضة. اندلعت الموجة الثانية من الثورة في 30 حزيران 2013 بعشرات الملايين في الشوارع للإطاحة بمحمد مرسي وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، من دون قدرة فعلية على فرضها. وبعد ثلاثة أيام عصيبة لاح خلالها شبح الحرب الأهلية، أعلن وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي الإطاحة بمرسي في مشهد جمع ممثلي الأحزاب الليبرالية واليسارية وحركات الشباب وشيخ الأزهر وبابا الكنيسة الأرثوذكسية، وبالطبع ممثل «حزب النور السلفي». مرت سنوات ثلاث مثل كابوس على المصريين المعتقدين بعمق في محورية دور الدولة والمشتاقين إلى الأمن والاستقرار، والخائفين على بلدهم من مصائر دول عربية مجاورة. ساعتها تبلورت الحالة الشعبية الراهنة التي باركت تسليم السلطة للجيش وممثله عبد الفتاح السيسي، ورجته واستعطفته أن يقبلها كملاذ أخير لإنقاذ الوطن من «الضياع».

الفصول المقبلة من الرواية

اكتسح «مرشح الدولة» الانتخابات الرئاسية في مواجهة «مرشح الثورة» لأسباب متنوعة، فعادت الأمور بعد فصلين دراميين إلى مربعها الأول: نظام مبارك من دون مبارك ومن دون توريث وبمباركة شعبية عارمة، ولكن وهو الأهم بذات آليات السيطرة الاقتصادية والاجتماعية حتى الآن. وبالرغم من المهارة والذكاء الواضح للمؤسسة العسكرية المصرية في توجيه الحراك السياسي نحو سيناريو محدد سلفاً؛ وصولاً إلى الإطاحة بمبارك و«الإخوان المسلمين» معاً على وقع التظاهرات الشعبية، فإن مسببات الثورة ما زالت قائمة بالرغم من كل ذلك. سيرفع الستار ابتداءً من اليوم عن سياسات الحكم الجديد، ليختبر المصريون استجابته لمطالبهم المؤسسة: العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ليقرروا ـ هم وليس غيرهم هذه المرة - في الفصول المقبلة نهاية الرواية!


محاضرتي في صالون شبانة الثقافي 6-7-2014

$
0
0

كانت حفلة تكريمية ناجحة جداً، يوم السبت 6-7-2014 بمنهاتن، أشكر منظميها ولاسيما: الاخ الأستاذ عبد الفتاح شبانة صاخب الفكرة والصالون والأخ الاستاذ علاء المهداوي صاحب المحل المتميز وسط منهاتن والأخ الأستاذ عصام البدري، وبحضور نخبة متميزة منهم: السفير د.محمد الحاج حمود، ممثل العراق لدى الأمم المتحدة سابقا، ود. شاكر الجنابي ود.نبيل عبد العال، د. حافظ الميرازي، والشاعرة أفين ديركي والاستاذ صلاح سالم، والأستاذ محمد السطوحي، ود. عاطف البيلي ود. محمد سعيد الوافي،وعدد من السيدات وغيرهم .

الإنسان العربيّ سجينُ سلطات متعددة ، سواء رسميّة أو مجتمعيّة، ثقافيّة ودينيّة، خارجيّة و ذاتيّة، وكلها تتعاونُ وتتفاعلُ للتأثير المركالأعرجي في صالون شبانة 7 يونيو 2014بِ على طريقة تفكيره ثم على سلوكه الاجتماعي والسياسي وتصرفه ونظرته إلى الأمور، مما يضعه في حلقة مفرغة، تعيد إنتاج فشله في اللحاق بركب الحضارة العالمية الحديثة المتفجرة.

العقلُ العربيّ سجينُ قَهره الاجتماعيّ الذي يفرضُ عليه أن يُفكِّرَ ويتصرَّفَ ويسلكَ تبعًا لِمُستلزماتٍ ومُحدَّدات ومسلمات العقل المجتمعيِّ السائد. والمفارقة الكبرى أن الإنسان العربي يخضع لهذه المسلّمات القاهرة دون وعي، بل تصبح جزءاً من عقله الواعي، يدافع عنها ويتزايد عليها باعتبارها تمثلُ قيـَّمه الخاصة

ولئن نتحدث عن احتمالات انقراض العرب كأمة، أرجو أن لا يفسره البعض بأننا نريد للعرب هذا المصير، لاسمح الله، بل أننا على العكس من ذلك نحاول دق ناقوس الخطر وتنبيه العرب إلى هذا الاحتمال الممكن ولو على المدى البعيد، إذا واصلوا مسيرتهم التخلفية الحالية بكل ما تتضمنه من خيبات وصراعات دموية داخلية وبينية مستمرة منذ سنوات طويلة

وأرجو أن لا يُفهم من ذلك أن العرب يمكن أن ينقرضوا كمجموعة بشرية، بل قد ينحدرون تدريجيا نحو الاندثار، كـ"وحدة مجتمعية متجانسة "تتحدث لغة عربية واحدة وتتميز بثقافة مشتركة وتاريخ أو تراث مشترك، فضلاً عن مشاعر وطموحات وتطلعات مشتركة؛ هذه الخصائص التي ظلت تنعكس في مشاعر وضمائر العرب في كل مكان تقريبا، من الوطن العربي الكبير، منذ ظهور الفكرة القومية العربية، التي تعني أن عناصر الدولة/الأمة كامنة في العقل المجتمعي العربي، لاسيما منذ مطلع القرن العشرين؛ أقول هذه العناصر ستتآكل تدريجياً، إذا استمر الحال على هذا المنوال. مع أننا في المؤتمر القومي العربي نكافح بضراوة لإنقاذ هذه الأمة من هذا المصير، ولاسيما من خلال الدعوة لتفعيل "المشروع النهضوي الحضاري العربي"، الذي وضعه المؤتمر هدفاً أساسياً لتحقيقه.

ومن جهة أخرى قد يتحقق الانقراض عن طريق تسرب عناصر غير عربية في جسد الأمة، بالاستيلاء على الأرض العربية تدريجياً كما يحدث اليوم في فلسطين. ويمكن أن يحدث في العراق حيث يوجد لليهود تاريخ طويل ومعقد. ولاننسى أن الحق لا يثبت إلا بالقوة عادة. ففي وقت تزداد إسرائيل قوة مادية ومعنوية: علمية وتكنولوجية وبالتالي عسكرية واقتصادية، بمساندة الولايات المتحدة الأمريكية، يزداد العرب ضعفاً وتخلفاً وانبطاحاً، مما سيؤدي إلى سيطرة إسرائيل التدريجية على مختلف مفاصل المال والاقتصاد العربي الذي سيغدو تابعاً للحليف الجديد. (من كتابي الجديد : العرب بين الثورة والانقراض).

من كتابي:

أهمَّ ما يُواجهُنا في فلسفة ابن خلدون التاريخيَّة أنَّه أوَّلُ مَن نظرَ إلى المجتمع باعتباره يُمثِّلُ كيانًا ديناميكيًّا مُتطوِّرًا، وذلك خلافًا لِما تصوَّره الفلاسفةُ الأقدمون، مثل أفلاطون وإخوان الصَّفا والفارابي، الذين كانوا يعتقدون أنَّ المجتمعَ يُمثِّل بناءً هندسيًّا إذا استقام تصميمُه، حافظَ على كيانه وروعته على اختلاف المَواطن وتقلُّب الأزمنة. لذلك وضع أفلاطون “جمهوريَّته” والفارابي “مدينته الفاضلة”، كما وضع ابنُ باجة كتابه في “تدبير المتوحِّد”. إلاَّ أنَّ ابنَ خلدون يعتقد أنَّ المجتمع، شأنه شأن الكائن الحَيّ، يُمثِّل كيانًا متطوِّرًا ينشأ صغيرًا، ثمَّ ينمو ويزدهر، ثمَّ يأخذ في الذواء والانحلال. وفي غضون ذلك يتعرَّض إلى عواملَ ومُؤثِّرات متعارضة ومتفاعلة ومتداخلة، تعمل على توجيه مسيرته، فلا يصحُّ التفكير في مجتمعٍ فاضل تختفي فيه جميعُ المشاكل، ويعيشُ فيه جميع الناس في سعادة دائمة.

حاول الإسلامُ أن يقضيَ على مُعظم القِيَم والأعراف المُتخلِّفة التي كانت معروفة عند البَدو في الجاهليَّة، ومنها الثأر، فقال: "ولا تِزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى" (فاطر:18)، وعلى العصبيَّة القَبَليَّة، فقال: "إنَّما المؤمنونَ إخوة " (الحجرات: 10)، و"لا فَضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ إلاَّ بالتَقوى" (حديث)، وعلى وأدِ الأبناء، فقال "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " (الإسراء: 31). بيدَ أنَّ العرب لم يتخلَّوا عن كثيرٍ من قِيَمِهم البَدويَّة حتَّى ما بعدَ الفَتح الإسلاميّ، ومنها العَصبيَّة القَبَليَّة التي ظلَّت سائدةً بشكلٍ واضح، وتَجلَّت في النزاع الدَّمَويِّ على الخلافة، فضلاً عن السلوك العامّ. يقول أحمد أمين: “...وصرنا نسمع العربيّ يفتخرُ بقَبَليَّته في الإسلام، كما كان في الجاهليَّة (من كتابي الأخير).

تتمة لمحاضرتي الأخيرة في الصالون الثقافي للأستاذ شبانة:(في7/6/ 2014):

روى لنا أستاذنا السابق، في علم الاجتماع، الدكتور"علي الوردي"، حادثـاً طريفاً يعبـِّر عن مدى احتقار العرب للعمل المنتج للمنفعة، مما يدل على تجذّر قيم البداوة في العقل المجتمعي العربي . فـقد شتمَ الملك عبد العزيز بن سعود أحدهم بقوله: "يا ابن الصانع". وسمعتْ زوجتـُه بذلك، فعادت إلى أهلها قائلة: إنني لا أستطيع أن أعاشرَ أحداً من أبناءِ الصنـّاعِ، وأنا من أبناء العشائر. ونـُلاحِظـُ أنَّ اليدَ العاملة الأجنبية أصبحتْ تشكل نسبة كبيرة جدا من السكان في الخليج، تفوق عدد السكان الأصليين أحيانا. وإلى وقت قريب، كانت لا تزالُ أَصنافٌ من المِهن مُحتَقَرة لدى بعض المجتمعات في العالم العربيّ، مثل مِهَن الحائك والحلاَّق والمُعلِّم. وكلمة "المِهْـنـَةِ"نفسها مُشتـقـَّة من فِعل مَهُنَ، أي حَــقـُرَ وضعُفَ. ويُحلِـلُ الهادي شقرون، في كتابه"نقد العقليـَّة العربية"، آثارَ ومضارَ هذه الظاهرة ويستذكِرُ شواهدَها الكثيرة التي ما بـَرِحَتْ ماثلة ً وعاملة ً حتى يومنا هذا. وهكذا نظل نتمرغ في مستنقع التخلف الحضاري.

أغاني المونديال: الديني مقلوباً باستباحة النشوة

$
0
0

نحن واحد: كلوديا ليييت وبيتبول وجينفر لوبيزنحن واحد: كلوديا ليييت وبيتبول وجينفر لوبيز

ليس صخب الملاعب، بصرخاته الفردية والجماعية، هو ما يصنع الانقلاب (بمعنى المعاكسة)، في موسيقى كرة القدم، على الإنشاد الديني بجلاله ورصانة وامتدادته المهيبة. ليس صخب الجمهور المستغرق في الإنشاده (إلى حدّ الغياب والاستلاب)، خلف أداء أيقوناته الكروية، هو ما يجعل "أصوات"كرة القدم تضجّ بتشابهها مع رقص القبائل البدائية أمام أوثانها الأرضية المعبودة. ليس ذلك، بل الأرجح إنها الموسيقى، التي صارت جزءاً من طقوس كرة القدم (المونديال هو تعبير مكثف عنها)، ورافقت تحوّلاتها من وريث حديث لمصارعي روما إلى ديانة أرضية مكتظة بالشهوات. 


بعد سطور، نعود إلى أداء ريكي مارتن، حين كان رمزاً لصعود ثقافة الجسد الذكوري المثلي، في أغنية المونديال "كأس الحياة" (1998). لكن يمكن القول بأنه الأكثف تعبيراً عن موسيقى الكرة الحديثة. ليس غريباً أن موقع "بيلبورد" billboard الشهير في تصنيف الموسيقى، يضع أغنية مارتن ضمن الأغاني العشر الأبرز في تاريخ المونديال. بل إن موقعين مشابهين، هما "لاتينوبوست" latinopost و"باز فيد" buzzfeed، جعلاها ضمن الأغاني الخمس المخصّصة للمونديال. تصلح موسيقى المونديال وأناشيده مؤشّراً على تحوّل الكرة القدم، من الترفيه المبذول للجماهير في الملعب، على غرار مُسايفي روما التي تروي شهوة الدم عبر الأجساد المتقاتلة- المقتولة، إلى ديانة معاصرة تسترد من الديانات الوثنية القديمة طقوس الشهوات الجماعية المتكثفة في موسيقى استيلاء الوثن على الجسد المتعبّد.


سيطرت روح الاحتفاء بالعالم الناجي من حربين متواليتين والمنغمس في حرب باردة، على الأغنية التي رافقت المونديال في العام 1962. كان الغناء يختمر بالتمرد على الحرب الباردة وقواها، عبر أغاني البيتلز للشباب في العالم المنقسم. حملت الكلمات احتفاءً بما يجمع: الروك أند رول في انطلاقته الأولى. بمعانٍ كثيرة، كانت كرة القدم لا تزال متواضعة، وفي يد الجمهور الحاضر في الملعب، حتى عندما تجتمع الفرق في مونديال التشيلي، كي تحاول رمزياً التغلّب على انقسام الحرب الباردة. غنّت فرقة الرامبلز "لنهزّ العالم"، مع ملاحظة أن كلمة "روك"تعني هز أيضاً. "في العام 1962/ إنه احتفال عالمي/ برياضة الكرة... واحتفاء برقصنا للروك أند رول". كذلك لم يغب عن الكلمات معنى اقتحام المتعة وتعميمها عبر الرياضة، مع امتزاجها بفكرة الحرب الرمزية بين الدول: "من كل قلوبنا/ نغزو المتعة/ نشكر من أوصلنا إلى هنا/ كي نضع القتال/ في الميدان". حينها، كان جمهور تلفزة للمونديال قليلاً، ومضبوطاً بأقنية الدول بدرجات متفاوتة، لكنه كان جمهوراً متلقيّاً كليّاً. وفي هذا المعنى، اقتصرت رمزية صراع الأمم على الملعب. 


حاضراً، صارت اللعبة معكوسة تماماً. صار مَن في الملعب يؤدي كي يُشاهد عبر التلفزة لجمهور عالمي. بمعنى أن علم الدولة لم يعد متطابقاً مع "فانلة"الرياضة. هناك جمهور عالمي للمنتخب متداخل مع الجمهور العالمي للأندية (برشلونة، ريال مدريد، تشيلسي، مانشستر يونايتد)، لكنه دوماً على الشاشات الرقمية والمتلفزة والخليوية وغيرها. في المعنى رمزية الجنس، حدث تحوّل ضخم. انتقل الجنس من حميمية ستينات القرن العشرين، إلى انتشاره عبر الوسائل المتلفزة، وعبر تسليع جسد المرأة. حدثت نقلة ضخمة في المتعة الجنسية المشاعة عبر المتلقي- الناظر عند ختام القرن العشرين، وعبّر عنه صعود جسد السوبر موديل محمولاً في حضور سيندي كروفورد وكلوديا شيفر وناعومي كامبل. مع انكشاف الحميم عبر جسد معولم تلفزيونيّاً، تمركزت الشهوة في النظر إلى الإثارة بوصفها أعضاء وأجزاء، تتفاعل مع الرداء. دخل الجسد إلى الغناء أيضاً. صارت المتعة الجنسية مشاعاً غير مكبوت ومحطّم للكبت، لكنها أيضاً فقدت اتصالها بالمعنى الانساني للجنس الحميم. ثمة ابتذال للشهوة التي تتغذى في كرة القدم من الأجساد الذكورية في الملاعب. 


 




حدث ذلك تدريجياً. تجدر العودة إلى ريكي مارتن. بجسده الرشيق، أعلن أيضاً تفوق النموذج الجسدي للاعب الكرة الحديث، على الموروث الهرقلي للجسد الرجولي. ومع رقصه، كانت المتعة تتنتشر بين جمهور بصري واسع. في مونديال 1998، تكرّس التلفزيون أداة لجنس بصري (لنقل نظّاري) ويختزل الجنس في الأعضاء وبصرياتها. هناك تحطيم بصري معولم للتابو الاخلاقي، لكنه لا يقدم بديلاً سوى ابتذال الجنس واخراجه من الإنساني. في الأغنية، هناك شيء ممشابه لهذا التحطّم: لا ذكر للرياضة ولا الكرة، بل إنها تُختزل في الكأس، تُختزل في السلعة، في الإعلان عن التفوق والإشباع عبر هزيمة الآخر أيضاً، بالتناقض مع نبرة الشمول. 


"إنها كأس الحياة/ إما أن تفعل (النصر) أو أن تموت/ إنها الآن وهنا/ أضئ الأنوار" (نلاحظ "أضئ الأنوار"، فلا رياضة إلا بالتفزة، والملاعب استديو). وتكمل الأغنية: "هل حقاً ترغب في ذلك"، تتكرر هذه اللازمة التي تحمل إيحاءً جنسيّاً مكشوفاً. تكمل عبر كلمات متلاعبة على الجنس: "عندما تحس بالحرارة/ يكون العالم تحت قدمك/ لن يمنعك أحد إذا رغبت في ذلك حقاً/ إسرق مصيرك من يد القدر... سنحتفل الليلة/ بكأس الحياة".   
في مونديال 2002، حدث الانتقال إلى القارة الأقدم في زمن الحضارة، وهي أيضاً الأكثر احتواءً للبشر عددياً، ما أعطى صورة رمزيّة عن توسّع أسطوري للكرة. ربما لا مبالغة في القول بأن المونديال الأول للقرن 21، كان بداية انتقاله من ترفيه معولم إلى ديانة أرضية واسعة.


رافق النشيد أغنيتين: "بوم...بوم"لأناستازيا، و"أهلاً بك في كوريا واليابان"للثلاثي آليسون ولابسن وكابماير. تعني كلمة "بوم"بالانكليزية الازدهار، لكن لها ظلالاً جنسية أيضاً. وسارت أغنية أناستازيا بكلمات معجونة بإيحاء الجنس: "إذا غادرتك/ ستلحق بي/ إلى مكان خاص بالهدوء/ هناك يتدفق نهر/ تكون الحقول ذهبيّة/ تعال/ تعال". وتكمل: "بوم، بوم/ لنهزّك/بوم، بوم/ لا تتوقف/ بوم، بوم/ ارتفع عالياً... أنا هنا لأهزّك".


 ومع تحوّل المونديال طقساً عالميّاً لديانة شهوانية أرضية، قدّمت صحيفة "غارديان"البريطانية تحليلاً واسعاً لأغنية مونديال البرازيل، انطلاقاً من تفكير نقدي يستند إلى "مدرسة فرانكفورت"الفلسفية المعروفة. 


وتسير كلمات الأغنية في منحى لتكريس تلك الهوية لكرة القدم. تحمل عنواناً جامعاً "نحن واحد"، وتؤديها جينفر لوبيز وكلوديا لييت مع المغني بيتبول. تروّج الأغنية للتوحّد، محاولة لإخفاء التناقضات بين الهويات التي تتبنى وجودها أيضاً: "إرفع أعلامك في السماء/ لوّح بها جنباً إلى جنب/ أظهر للعالم من أين أنت/ أظهر للعالم أننا واحد". يجدر الاستدراك بأن عالم ما بعد الحداثة حاضر، لا يعتبر التفرّد في الهوية متناقضاً مع وجود هوية لها طابع جامع، سواء الدين أو الرياضة، بمعنى قبول التعدد في الهوية، وتخطي التصنيف الصارم بأصوله الحداثية الديكارتية. 


ويظهر المعنى نفسه في كلمات: "الليلة نراقب العالم يتوحد/ من أجل القتال... جانبان ومعركة وملايين العيون". ومن وجهة تحليل نفسي، يتوازى القتال، خصوصاً بين الذكور، مع معنى التنافس الجنسي، وتكون النشوة هي المعادل الرمزي للانتصار. ويتشارك الجمهور في النشوة المنتشرة، عبر "جنس"ينصبّ على العيون المراقبة، إلى مجتمعات ربما تتكرّس فيها هوية الفرد- المُشاهِد.

الاسلام بين جهل ابناؤه وعجز علماؤه-1

$
0
0

الاسلام بين جهل ابناؤه وعجز علماؤه

بقلم عبدالقادر عودة  رحمه الله

 

مقدمة:
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي الذي اختاره الله لهداية خلقه فأرسله للناس كافة وداعيًا ومعلمًا، يدعوهم إلى الله، ويعلمهم كتابه ويردد عليهم قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (١).

 

وبعد، فإنه مما يحزن المسلم أنْ يرى المسلمين يسيرون من ضعف إلى ضعف، ويخرجون من جهل إلى جهل، وهم لا يدرون أنَّ العلة الحقيقية لما هُمْ فيه إنما هي الجهل بالشريعة الإسلامية، وإهمال تطبيقها على كمالها وسموها، ولا يعلمون أنَّ تشبُّثهم بالقوانين الوضعية الفاسدة هو الذي أفسدهم، وأورثهم الضعف والذلة.
 
وإني لأعتقد أننا لن نترك أحكام الشريعة الإسلامية إلاَّ لجهلنا.  .بها، وقعود علمائنا أو عجزهم عن تعريفنا بها، ولو أنَّ كل مسلم عرف واجبه نحو الشريعة لما تأخر عن القيام به، ولتسابقنا في العمل لخدمة الشريعة، وتطبيق أحكامها.

 

ولقد رأيت أن خير ما يخدم به المسلم أخاه أن يبصره بأحكام الشريعة الإسلامية، وأن يبين له ما خفي عليه منها.

 

وتلكم رسالة صغيرة جمعت فيها من أحكام الشريعة ما لا غنى عنه لمسلم مثقف، وبينت وجه الحق فيما يدعيه بعض الجهال على الشريعة من دعاوى غريبة، لا منطق لها ولا سند يسندها، وإني لأرجو أن تصحح هذه الرسالة بعض أوضاع الإسلام المقلوبة في أذهان إخواننا المتعلمين تعليما مدنيا، كما أرجو أن يكون فيها ما يحفز علماء الإسلام على أن يغيروا طريقهم، وأن ينهجوا نهجا جديدا في خدمة الإسلام، وهم ورثة الأنبياء، والمبلغون عن الرسل.

 

والله أسأل أن يهدينا جميعا سواء السبيل.

 

المؤلف
 
الفَصْلُ الأَوَّلُ: مَا يَجِبُ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَهُ:
نحن معشر المسلمين يسرنا أن ننتسب للإسلام ونفخر به، ولكنا للأسف نجهل أهم أحكام الإسلام، ونهمل أعظم مقوماته.


أَحْكَامُ الإِسْلاَمِ وَمُقَوِّمَاتُهُ:
وأحكام الإسلام هي المبادئ والنظريات التي نزل بها القرآن، وأتانا بها الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومجموع هذه المبادئ والنظريات هو ما نسميه الشريعة الإسلامية، فالشريعة إذن هي مجموعة المبادئ والنظريات التي شرعها الإسلام، في التوحيد، والإيمان، والعبادات، والأحوال الشخصية، والجرائم، والمعاملات، والإدارة، والسياسة، وفي غير ذلك من الأغراض، والاتجاهات.


وأعظم مقومات الإسلام هو العمل بأحكامه، إذ الإسلام لم يوجد إلا لتعرف أحكامه، وتقام شرائعه وشعائره، وعلى هذا فمن أهمل العمل بالشريعة الإسلامية أو عطلها فقد أهمل الإسلام وعطله.
 
أَحْكَامُ الإِسْلاَمِ شُرِّعَتْ لِلْدِّينِ وَالدُّنْيَا:
والأحكام التي جاء بها الإسلام على نوعين: أحكام يراد بها إقامة الدين، وهذه تشمل أحكام العقائد والعبادات، وأحكام يراد بها تنظيم الدولة والجماعة، وتنظيم علاقات الأفراد والجماعات بعضهم ببعض، وهذه تشمل أحكام المعاملات، والعقوبات، والأحوال الشخصية، والدستورية، والدولية، ... إلخ، فالإسلام يمزج بين الدين والدنيا، وبين المسجد والدولة، فهو دين ودولة وعبادة وقيادة، وكما أن الدين جزء من الإسلام فالحكومة جزؤه الثاني، بل هي الجزء الأهم، وصدق عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - حيث قال: «إِنَّ اللهَ لَيَزَعُ بِالسُلْطَانِ مَا لاَ يَزَعُ بِالقُرْآنِ».


وأحكام الإسلام على تنوعها وتعددها أنزلت بقصد إسعاد الناس في الدنيا والآخرة، ومن ثم كان لكل عمل دنيوي وجه أخروي، فالفعل التعبدي، أو المدني، أو الجنائي أو الدستوري، أو الدولي له أثره المترتب عليه في الدنيا من أداء الواجب، أو إفادة الحل والملك، أو إنشاء الحق أو زواله، أو توقيع العقوبة، أو ترتيب المسؤولية، ولكن هذا الفعل الذي يترتب عليه أثره في الدنيا له أثر آخر مترتب عليه في الآخرة، هو المثوبة أو العقوبة الأخروية.


ويبنى على كون الشريعة مقصودا بها إسعاد الناس في الدنيا والآخرة أن تعتبر وحدة لا تقبل التجزئة، أو جملة لا تقبل
الانفصام لأن أخذ بعضها دون بعض، لا يؤدي إلى تحقيق الغرض منها.


ومن تتبع آيات الأحكام في القرآن يجد كل حكم منها يترتب على مخالفته جزاءان: جزاء دنيوي، وجزاء أخروي. فقطع الطريق جزاؤه القتل، والصلب، والنفي، عقوبة دنيوية، والعذاب العظيم عقوبة أخروية، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (١) وإشاعة الفاحشة، ورمي المحصنات له عقوبة في الدنيا، وعقوبة الآخرة حيث يقول - جَلَّ شَأْنُهُ -: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (٢) وحيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (٣).
والقتل العمد له عقوبتان: القصاص في الدنيا والعذاب في الآخرة. وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (١)، وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (٢).


وهكذا لا نكاد نجد حكمًا لم ترتب عليه الشريعة الإسلامية عقوبة أخروية والجزاء الدنيوي، وإن وجدنا شيئًا من ذلك فإنه يدخل تحت عموم قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ، أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (٣)، وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (٤).


ولم تشرع أحكام الشريعة الإسلامية للدنيا والآخرة عبثًا،
وإنما اقتضى ذلك منطق الشريعة، فهي أصلها تعتبر أن الدنيا دار ابتلاء وفناء، وأن الآخرة دار بقاء وجزاء، وأن الإنسان مسؤول عن أعماله في الدنيا، مَجْزِيٌّ عنها في الآخرة. فإن فعل خيرًا فلنفسه، وإن أساء فعليها، والجزاء الدنيوي لا يمنع من الجزاء الأخروي، ولا يسقطه إلا إذا تاب الإنسان وأناب.


وتمتاز الشريعة الإسلامية عن القانون الوضعي، بأنها مزجب بين الدين والدنيا، وشرعت للدنيا والآخرة وهذا هو السبب الوحيد الذي يحمل المسلمين على طاعتها في السر والعلن، والسراء والضراء لأنهم لا يؤمنون - طبقًا لأحكام الشريعة - بأن الطاعة نوع من العبادة يقربهم إلى الله، وأنهم يثابون على هذه الطاعة، ومن استطاع منهم أن يرتكب جريمة، ويتفادى العقاب فإنه لا يرتكبها مخافة العقاب الأخروي، وغضب الله عليه، وكل ذلك مما يدعو إلى قلة الجرائم وحفظ الأمن، وصيانة نظام الجماعة بعكس الحال في القوانين الوضعية فإنها ليس لها في نفوس من تطبق عليهم ما يحملهم على طاعتها، وهم لا يطيعونها إلا بقدر ما يخشون من الوقوع تحت طائلتها، ومن استطاع أن يرتكب جريمة ما - وهو آمن من سطوة القانون - فليس ثمة ما يمنعه من ارتكابها من خُلُقٍ أودين ولذلك تزداد الجرائم زيادة مطردة في البلاد التي تطبق القوانين، وتضعف الأخلاق، ويكثر المجرمون في الطبقات المستنيزة تبعًا لزيادة الفساد الخُلُقِي في هذه الطبقات، ولمقدرة أفرادها على التهرب من سلطان القانون.  ..أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ لاَ تَتَجَزَّأُ:
وأحكام الشريعة لا تتجزأ ولا تقبل الانفصال، وليس ذلك فقط لما ذكرناه من أن التجزئة تخالف الغرض من الشريعة، وإنما لأن نصوص الشريعة نفسها تمنع من العمل ببعضها، وإهمال البعض الآخر كما تمنع من الإيمان ببعضها والكفر ببعض، وتوجب العمل بكل أحكامها والإيمان إيمانًا تامًا بكل ما جاءت به، فمن لم يؤمن بهذا ويعمل به دخل تحت قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} (١).


والنصوص الواردة بتحريم العمل ببعض الشريعة دون بعضها كثيرة منها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (٢).
.والكتمان معناه العمل ببعض الأحكام دون بعضها الآخر والاعتراف ببعضها وإنكار البعض الآخر. ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} (١).


ومنها قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (٢)، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} (٣).
ومنها قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} إلى قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (١).


الشَّرِيعَةُ الإِسْلاَمِيَّةُ شَرِيعَةٌ عَالَمِيَّةٌ:
وتمتاز الشريعة الإسلامية بأنها شريعة عالمية، أنزلها الله - جَلَّ شَأْنُهُ - على رسوله محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِيُبَلِّغَهَا إلى الناس كافة من عرب وعجم، شرقيين وغربيين على اختلاف مشاربهم، وتباين عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم. فهي شريعة كل أسرة، وشريعة كل قبيلة، وشريعة كل جماعة، وشريعة كل دولة بل هي الشريعة العالمية التي استطاع علماء القانون أن يَتَخَيَّلُوهَا.
.ولكنهم لم يستطيعوا أن يوجدوها، واقرأ قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (١) وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (٢).


الشَّرِيعَةُ الإِسْلاَمِيَّةُ شَرِيعَةٌ كَامِلَةٌ دَائِمَةٌ:
وقد أنزلت الشريعة من عند الله شريعة كاملة شاملة، وتم نزولها في فترة قصيرة، بدأت ببعثة الرسول، وانتهت بوفاته، أو انتهت يوم نزل قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (٣). وهذا النص قاطع في كمال الشريعة ودوامها، بعد أن قطعت نصوص الشريعة بأن محمدًا - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتم الأنبياء: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (٤).


ومن يراجع أحكام الشريعة يجد أنها جاءت كاملة لا نقص فيها شاملة لأمور الأفراد والجماعات والدول، فهي تنظم الأحوال
الشخصية، والمعاملات، وكل ما يتعلق بالأفراد، وتنظيم شؤون الحكم والإدارة والسياسة، وغير ذلك مما يتعلق بالجماعة كما تنظم علاقة الدول بعضها ببعض في الحرب والسلم.


ولم تأت الشريعة الإسلامية لوقت دون وقت، أو لعصر دون عصر، أو لزمن دون زمن، وإنما هي شريعة كل وقت، وشريعة كل عصر، وشريعة الزمن كله، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد صيغت نصوص الشريعة بحيث لا يؤثر على نصوصها مرور الزمن، ولا يبلى جدتها، ولا يقتضي تغيير قواعدها العامة، ونظرياتها الأساسية، فجاءت نصوصها من العموم والمرونة بحيث تحكم كل حالة جديدة، ولو لم يكن في الإمكان توقعها، ومن ثم كانت نصوص الشريعة غير قابلة للتغيير والتبديل، كما تتغير نصوص القوانين وتتبدل.


مُقَارَنَةٌ بَيْنَ نَشْأَةِ الشَّرِيعَةِ وَنَشْأَةِ القَانُونِ:
عرفنا فيما سبق كيف نشأت الشريعة الإسلامية، أما القانون الوضعي فينشأ في الجماعة التي ينظمها ويحكمها ضئيلاً محدود القواعد ثم يتطور بتطور الجماعة، فتزداد قواعده، وتتسامى نظرياته كلما ازدادت حاجات الجماعة وتنوعت، وكلما تقدمت الجماعة في تفكيرها وعلومها، ويضع قواعد القانون الأشخاص المسيطرون على الجماعة وهم الذين يقومون بتهذيب هذه القواعد وتغييرها،
.فالجماعة إذن هي التي تخلق القانون، وتصنعه على الوجه الذي يسد حاجتها، وهو تابع لها، وتقدمه مرتبط بتقدمها.


وقد بدأ القانون يتكون كما يقول علماء القانون مع تَكَوُّنِ الأسرة في العصور الأولى، ثم تطور بِتَكَوُّنِ القبيلة، ثم تطور بِتَكَوُّنِ الدولة، ثم بدأ المرحلة الأخيرة من التطور في أعقاب القرن الثامن عشر، على هدى النظريات الفلسفية والاجتماعية، فتطور القانون الوضعي من ذلك الوقت حتى الآن تطورًا عظيمًا، وأصبح قائمًا على نظريات ومبادئ، لم يكن لها وجود في العصور السابقة.


طَبِيعَةُ الشَّرِيعَةِ تَخْتَلِفُ عَنْ طَبِيعَةِ القَانُونِ:
ونستطيع بعد أن استعرضنا نشأة الشريعة، ونشأة القانون أن نقول بحق: إن الشريعة لا تماثل القانون، وإن طبيعة الشريعة تختلف تمام الاختلاف عن طبيعة القانون لما جاءت على الشكل الذي جاءت به، وعلى الوصف الذي أسلفنا، ولوجب أن تأتي شريعة أولية، تأخذ طريق القانون في التطور مع الجماعة، وما كان يمكن أن تأتي بالنظريات الحديثة التي لم تعرفها القوانين إلا أخيرًا بل ما كان يمكن أن تصل إلى مثل هذه إلا بعد أن تعرفها القوانين وبعد مرور آلاف السنين.  
الاخْتِلاَفَاتِ الأَسَاسِيَّةِ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالقَانُونِ:
تختلف الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية اختلافًا أساسيًا من ثلاثة وجوه:


الوَجْهُ الأَوَّلُ:
أن الشريعة من عند الله، أما القانون فمن صنع البشر، وكلا الشريعة والقانون يتمثل فيه بجلاء صفات صانعه، فالقانون من صنع البشر، ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم، فالقانون من صنع البشر، ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم ومن ثم كان القانون عرضة للتغيير، أو ما نسميه التطور كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة، أوجدت حالات لم تكن منتظرة، فالقانون ناقص دائمًا، ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال، ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون، وإن استطاع الإلمام بما كان.


أما الشريعة، فصانعها هو الله، وتتمثل فيها قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان، وبما هو كائن، ومن ثم صاغها العليم الخبير بحيث تحيط بكل شيء في الحال والاستقبال.


الوَجْهُ الثَّانِي:
أن القانون عبارة عن قواعد مؤقتة، تضعها الجماعة، لتنظيم شؤونها وسد حاجتها، فهي قواعد متأخرة عن الجماعة، أو هي في مستوى الجماعة اليوم، ومتخلفة عنه غدًا، لأن القوانين لا تتغير. 
بسرعة تطور الجماعة، وهي قواعد مؤقتة تتفق مع الجماعة المؤقتة، وتستوجب التغيير كلما تغيرت حال الجماعة.


أما الشريعة فقواعدها وضعها الله على سبيل الدوام، لتنظيم شؤون الجماعة، فالشريعة تتفق مع القانون في أن كليهما وضع لتنظيم الجماعة، ولكن الشريعة تختلف عن القانون في أن قواعدها دائمة لا تقبل التعبير والتبديل، وهذه الميزة التي تمتازها الشريعة تقتضي منطقيًا:
أولاً: أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من المرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طالت في الأزمان، وتطورت الجماعة، وتعددت الحاجات وتنوعت.


ثانيًا: أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث لا يمكن أن تتأخر في وقت عصر ما عن مستوى الجماعة.


والواقع أن ما يقتضيه المنطق متوفر بوجهيه في الشريعة، بل هو أهم ما يميز الشريعة، فقد جاءت نصوص الشريعة عامة ومرنة إلى آخر حدود العموم والمرونة، كما أنها وصلت من السمو درجة لا يتصور بعدها سمو.


ولقد مر على الشريعة أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، تغيرت في خلالها الأوضاع أكثر من مرة، وتطورت الآراء والعلوم
تطورًا كبيرًا، واستحدث من الصناعات والمخترعات ما لم يكن يخطر على خيال إنسان، وتغيرت قواعد القانون الوضعي ونصوصه أكثر من مرة، لتتلاءم مع الحالات الجديدة والظروف الجديدة بحيث انقطعت العلاقة بين قواعد القانون الوضعي التي تطبق اليوم، وبين قواعده التي كانت تطبق يوم نزلت الشريعة، وبالرغم من هذا كله، ومن أن الشريعة الإسلامية، لا تقبل التغيير والتبديل، ظلت مبادؤها ونصوصها أسمى من مستوى الجماعات، وأكفل بتنظيم وسد حاجاتهم، وأقرب إلى طبائعهم وأحفظ لأمتهم وطمأنينتهم.


هذه هي شهادة التاريخ الرائعة، يقف بها في جانب الشريعة الإسلامية، وليس ثمة ما هو أروع منها إلا شهادة النصوص ومنطقها وخذ مثلاً قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (١). وقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (٢). وقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (٣). وقول الرَّسُولِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ ضَرَر وَلاَ ضِرَارَ فِي الإِسْلاَمِ» فهذه نصوص من القرآن وَالسُنَّةِ، بلغت من العموم والمرونة الحد الأقصى. وهي تقرر «الشُّورَى» قاعدة للحكم على الوجه. الذي ينتفي معه الضرر والإثم، ويحقق التعاون على البر التقوى، وبهذا بلغت الشريعة من السمو ما يعجز البشر عن الوصول لمستواه.


الوَجْهُ الثَّالِثُ:
إن الغرض من الشريعة هو تنظيم الجماعة وتوجيهها، وخلق الأفراد الصالحين، وإيجاد الدولة المثالية، والعالم المثالي، ومن أجل هذا جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها، ولا تزال كذلك حتى اليوم، وجاء فيها من المبادئ والنظريات ما لم يتهيأ العالم غير الإسلامي لمعرفته، والوصول إليه، إلا بعد قرون طويلة، وما لم يتهيأ هذا للعالم لمعرفته، أو يصل إليه حتى الآن ومن أجل هذا تولى الله - جَلَّ شَأْنُهُ - وضع الشريعة، وأنزلها نموذجًا من الكمال، ليوجه الناس إلى الطاعات والفضائل ويحملهم على التسامي والتكامل، حتى يصلوا أو يقتربوا من مستوى الشريعة الكامل.


أما القانون، فالأصل فيه أنه يوضع لتنظيم الجماعة، ولا يوضع لتوجيهها، ومن ثم كان القانون متأخرًا عن الجماعة، وتابعًا لتطورها، ولكن القانون قد تحول في القرن الحالي عن أصله فصار يوضع لتوجيه الجماعة وتنظيمها، حيث بدأت الدول التي تدعو لدعوات جديدة تستخدم القانون لتوجيه الشعوب وجهات معينة، كما تستخدمه لتنفيذ أغراض معينة، كما فعلت روسيا وتركيا
وألمانيا وإيطاليا وغيرها. وهكذا انتهى القانون الوضعي إلى ما بدأت به الشريعة، وأخذ بما سبقته إليه من ثلاثة عشر قرنًا.


المُمَيِّزَاتُ الجَوْهَرِيَّةُ التِي تُمَيِّزُ الشَّرِيعَةَ عَنْ القَانُونِ:
ونستطيع أن نستخلص مما سبق أن الشريعة الإسلامية تمتاز على القوانين الوضعية بثلاث ميزات جوهرية هي:
١ - الكمال: تمتاز الشريعة على القوانين الوضعية بالكمال أي بأنها استكملت كل ما تحتاجه الشريعة الكاملة من مبادئ ونظريات، وأنها غنية بالمبادئ والنظريات التي تكفل سد حاجات الجماعة في الحاضر القريب، والمستقبل البعيد.
٢ - السمو: تمتاز الشريعة بأن قواعدها ومبادئها أسمى دائمًا من مستوى الجماعات. وأن فيها من المبادئ والنظريات ما يحفظ لها هذا المستوى السامي. مهما ارتفع مستوى الناس.
٣ - الدوام: تمتاز الشريعة عن القوانين الوضعية بالدوام فنصوصها لا تقبل التعديل أو التبديل مهما مرت الأعوام وطالت الأزمان وهي مع ذلك تظل حافظة لصلاحياتها في كل زمان ومكان.


طَرِيقَةُ الشَّرِيعَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ فِي التَّشْرِيعِ:
الأصل في الشريعة أنها جاءت للناس لتحكمهم في كل حالاتهم وليحكموها في شؤون دنياهم وآخرتهم. ولكن الشريعة مع هذا
لم تأت بنصوص تفصيلية تبين حكم كل الحالات الجزئية والفرعية كما تفعل القوانين الوضعية اليوم. وإنما اكتفت الشريعية في أغلب الأحوال بإيراد الأحكام الكلية في نصوص عامة مرنة فإذا تعرضت لحكم فرعي. فنصت عليه فإنما تنص عليه. لأنه يعتبر حكمًا كليًا بالنسبة لما يدخل تحته من فروع.


والأحكام الكلية التي نصت عليها الشريعة تعتبر بحق القواعد العامة للتشريع الإسلامي، والهيكل الذي يمثل معالم التشريع الإسلامي، والضوابط التي تحكم التشريع الإسلامي، وقد تركت الشريعة لأولي الأمر أن يتموا بناء التشريع على أساس هذه القواعد. وأن يستكملوا هذا الهيكل. فيبينوا دقائقه وتفاصيله في حقوق المبادئ والضوابط التي جاءت بها الشريعة.


والطريقة التي التزمتها الشريعة في التشريع هي الطريقة الوحيدة التي تتلاءم مع مميزات الشريعة. وما تتصف به من السمو والكمال والدوام، فالسمو والكمال يقتضيان النص على كل المبادئ والنظريات الإنسانية والاجتماعية التي تكفل حياة سعيدة للجماعة. وتحقق العدل والمساواة والتراحم بين أفرادها وتوجههم إلى الخير، وتدعوهم إلى التفوق، وصفة الدوام تقتضي أن لا ينص على حالات مؤقتة تتغير أحكامها بتغيير الظروف وتوالي الأيام.


حَقُّ أُولِي الأَمْرِ فِي التَّشْرِيعِ:
وإذا كانت الشريعة قد أعطت أولي الأمر حق التشريع. فإنها لم تعطهم هذا الحق مطلقًا من كل قيد. فحق أولى الأمر في التشريع مقيد بأن يكون ما يضعونه من التشريعات متفقًا مع نصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية وتقييد حقهم في التشريع على هذا الوجه يجعل حقهم مقصورًا على نوعين من التشريع.
[أ] تشريعات تنفيذية: يقصد منها ضمان تنفيذ نصوص الشريعة الإسلامية، والتشريع على هذا الوجه يعتبر بمثابة اللوائح والقرارات التي يصدرها الوزراء اليوم كل في حدود اختصاصه لضمان تنفيذ القوانين.
[ب] تشريعات تنظيمية: يقصد بها تنظيم الجماعة وحمايتها وسد حاجتها على أساس مبادئ الشريعة فلم تأت فيه بنصوص خاصة ويشترط في هذا النوع من التشريعات أن يكون قبل كل شيء متفقًا مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية.


حُكْمُ خُرُوجِ أُولِي الأَمْرِ عَنْ حُدُودِ حَقِّهِمْ:
من المتفق عليه أن عمل أولي الأمر صحيح طالما كان في حدود حقه. باطل فيما خرج على هذه الحدود. فإذا أتى أولو الأمر بما يتفق مع نصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية فعملهم صحيح تجب له الطاعة، وإذا أتوا بما يخالف
الشريعة فعملهم باطل وكل ما كان باطلاً لا يصح العمل به ولا يجب له الطاعة.


والأصل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (١) وقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (٢)، فالله جل شأنه يوجب علينا طاعة أوامره كما يوجب علينا طاعة الرسول، وأولي الأمر والطاعة لله تجب بأمر الله، والطاعة للرسول وأولي الأمر تجب بأمر الله لا بأمر الرسول: ولا بأمر أولي الأمر. فإذا خرج ولي الأمر على ما أنزل الله فأمره باطل ولا تجب طاعته.


ولقد أكد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه المعاني في قوله: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ». وفي قوله: «إِنَّمَا الطَّاعَة فِي المَعْرُوف». وفيما قاله في أولي الأمر: «مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ».


هَلْ اِسْتَعْمَلَ أُولُو الأَمْرِ حَقَّهُمْ فِي حُدُودِهِ؟:
أخذ ولاة الأمور في أكثر البلدان الإسلامية يضعون من القرن.  .الماضي لبلادهم مجموعات قانونية في مختلف التشريعات على غرار ما فعلت البلاد الأوروبية، ولكنهم عمدوا إلى القوانين الأوروبية فنقلوا عنها نقلاً مجموعات دستورية وجنائية ومدنية وتجارية وغير ذلك، ولم يرجعوا إلى الشريعة الإسلامية إلا في بعض المسائل القليلة، كالوقف والشفعة.


ومن الحق أن نقرر أن معظم نصوص هذه المجموعات يتفق مع نصوص الشريعة، ولا يخرج على مبادئها العامة. ولكن من الحق أن نقرر أيضًا أن بعض نصوص هذه المجموعات جاء على خلاف أحكام الشريعة، وقام على مبادئ تخالف مبادئها، ومن الأمثلة على ذلك بعض نصوص قوانين العقوبات، فإنها تبيح الزنا في بعض الأحوال، كما تبيح شرب الخمر، بينما الشريعة تحرم الزنا وشرب الخمر تحريمًا مطلقًا، بينما تبيحه القوانين الأوروبية، ولو أن الإباحة ليست مطلقة، ومقيدة بحد معين.


عِلَّةُ نَقْلِ القَوَانِينِ الأُورُوبِيَّةِ لِلْبِلاَدِ الإِسْلاَمِيَّةِ:
قد يظن البعض أن ولاة الأمور في البلاد الإسلامية نقلوا لها القوانين الأوروبية لأنهم لم يجدوا في الشريعة غناء، وهذا ظن خاطئ أساسه الجهل الفاضح بالشريعة، فإن في الشريعة الإسلامية، وفي الفقه الإسلامي من المبادئ والنظريات والأحكام ما لو جمع في مجموعات لكان مثلاً أعلى في المجموعات التشريعية وأعتقد أنه لو وضعت هذه المجموعات الإسلامية لنقلت البلاد
غير الإسلامية أحكامها قبل جيل واحد، وأهملت ما لديها من مجموعات تعتز بها ز


والعلة الحقيقية في نقل القوانين الأوروبية للبلاد الإسلامية هي الاستعمار، والنفوذ الأوروبي، وقعود علماء المسلمين، فبعض البلاد الإسلامية أدخلت لها القوانين الأوروبية بقوة المستعمر وسلطانه، كالهند، وشمال أفريقيا، وبعض البلاد الإسلامية دخلتها القوانين الأوروبية لضعها، وقوة النفوذ الأجنبي فيها من ناحية ومحاولة حكامها تقليد البلاد الأوروبية من ناحية أخرى، ومن هذا القس مصر وتركيا.


ومن الثابت تاريخيًا أن القوانين الأوروبية نقلت إلى مصر في عهد الخديوي إسماعيل. وأنه كان يود أن يضع لمصر مجموعات تشريعية مأخوذة من الشريعة ومذاهب الفقه الإسلامي المختلفة وقد طلب من علماء الأزهر أن يضعوا هذه المجاميع، ولكنهم رفضوا إجابة طلبه، لأن التعصب المذهبي منعهم من أن يتعاونوا على إظهار الشريعة في أجمل صورها، فضحوا بالشريعة جميعها، واحتفظ كل بمذهبه والتعصب له وأضاعوا على العالم الإسلامي فرصة طالما بكوا على ضياعها، وحق لهم أن يبكوا عليها حتى تعود.


وأحب أن أنبه إلى أن بعض البلاد الإسلامية التي أخذت مختارة إلى حد ما بالقوانين الأوروبية لم تكن تقصد إطلاقًا مخالفة الشريعة الإسلامية، وليس أدل على ذلك من أن قانون العقوبات.  المصري الصادر في سَنَةِ ١٨٨٣ نص في المادة الأولى منه على أن «من خصائص الحكومة أن تعاقب على الجرائم التي تقع على أفراد الناس بسبب ما يترتب عليهامن تكدير الراحة العمومية وكذل الجرائم التي تحصل ضد الحكومة مباشرة. وبناء على ذلك فقد تعينت في هذا القانون درجات العقوبة التي لأولياء الأمر شرعًا تقريرها. وهذا بدون إخلال في أي حال من الأحوال بالحقوق المقررة لكل شخص بمقتضى الشريعة الغراء». وهذا النص مأخوذ من القانون التركي الصادر في: ٥/ ٦ / ١٨٥٣.


وكذلك أستطيع أن أقول بحسب اعتقادي: إن أولى الأمر في معظم البلاد الإسلامية لم يخطر على بالهم أن يخالفوا الشريعة لا قديمًا ولا حديثًا، ولكن القوانين جاءت مخالفة للشريعة بالرغم من ذلك، وبالرغم من حرص بعضهم على منع التخالف ولعل السر في ذلك هو أن واضعي القوانين إما أوروبيون ليس لهم صلة بالشريعة أو مسلمون درسوا القوانين ولم يدرسوا الشريعة.


أَثَرُ القَوَانِينِ عَلَى الشَّرِيعَةِ مِنَ الوِجْهَةِ العِلْمِيَّةِ:
ترتب على إدخال القوانين الأوروبية في البلاد الإسلامية أن أنشأت في تلك البلاد محاكم خاصة لتطبيق هذه القوانين. وعين لهذه الحاكم أوروبيون، أو قضاة وطنيون درسوا هذه القوانين، ولم يدرسوا الشريعة، وقد اعتبرت المحاكم.  الجديدة نفسها مختصة بكل شيء تقريبًا، فترتب على ذلك تعطيل الشريعة تعطيلاً عمليًا لأن المحاكم الجديدة لا تطبق إلا قوانينها.


كذلك أنشأت السلطة القائمة على التعليم مدارس خاصة لتدريس القوانين، وقد جرت هذه المدارس على الاهتمام بدراسة القوانين، وإهمال الشريعة إلا في مسائل قليلة كالوقف، فأدى ذلك إلى نتيجة مخزية. إذ أصبح رجال القانون تقريبًا - وهم من صفوةالمثقفين - يجهلون كل الجهل أحكام الشريعة الإسلامية واتجاهاتها العامة، أي أنهم يجهلون بكل أسف أحكام الإسلام وهو الدين الذي تتدين به الدول الإسلامية.


ولقد أدى الجهل بالشريعة إلى تفسير النصوص القليلة المأخوذة عن الشريعة تفسيرًا يتفق مع القوانين الوضعية ويختلف عن الشريعة في بعض الأحوال، من ذلك أن قانون العقوبات المصري ينص على أن أحكام قانون العقوبات لا تخل في أي حال من الأحوال بالحقوق المقررة لكل شخص في الشريعة الإسلامية، وبالرغم من قيام هذا النص الصريح فإن الشراح المصريين لم يدرسوا هذه الحقوق كما هي موجودة في الشريعة، واكتفوا بأن يدرسوا من الحقوق ما يقره القانون الفرنسي، وأن يدرسوه على طريقة الشراح الفرنسيين، وأن يعللوه بقواعد القانون، كلما علله الفرنسيون، ولقد اندفع الشراح المصريون في هذا الطريق تحت تأثير عاملين:  أولهما: أنهم لا يدرسون الشريعة ولا يعرفون شيئًا من أحكامها واتجاهاتها.
وثانيهما: أنهم يقيدون أنفسهم بآراء واتجاهات الشراح الأوروبيين عامة والفرنسيين خاصة، فلا يبيحون إلا ما أباحوا ولا يحرمون إلا ما حَرَّمُوا، والشراح الأوروبيون لا يعرفون بطبيعة الحال شيئًا عن الشريعية الإسلامية.


أَثَرُ القَوَانِينِ عَلَى الشَّرِيعَةِ مِنَ الوِجْهَةِ النَّظَرِيَّةِ:
إذا كانت القوانين الوضعية قد أدت عمليًا إلى تعطيل معظم أحكام الشريعة الإسلامية، فإن هذه القوانين لا أثر لها على الشريعة م الوجهة النظرية، فنصوص الشريعة لا تزال قائمة، وأحكامها واجبة التطبيق في كل الأحوال، وهذا هو حكم الشريعة وحكم القانون مجتمعين، لأن القاعدة الأساسية في الشريعة والقانون أن النصوص لا ينسخها إلا نصوص في مثل قوتها أو أقوى منها، أي نصوص صادرة عن نفس الشارع، أو من هيئة لها من سلطان التشريع ما للهيئة التي أصدرت النصوص المراد نسخها أو من هيئة يزيد سلطانها التشريعي على سلطان من أصدر النصوص المطلوب نسخها.


فالنصوص التي يمكن أن تنسخ الشريعة يجب أن تكون قرآنًا أو سُنَّةً، حتى يمكن أن تنسخ ما لدينا من قرآن وَسُنَّةٍ، وليس بعد
الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرآن حيث انقطع الوحي، ولا سنة حيث توفي الرسول، ولا يمكن أن يقال ما يصدر من هيئاتنا التشريعية البشرية في درجة القرآن والسنة، أو أن لها من سلطان التشريع ما لله والرسول، ولكن الذي يمكن أن يقال - وهو الواقع - أن أولي الأمر منا لا يملكون حق التشريع وإنما لهم حق التنفيذ والتنظيم على الوجه الذي بيناه فيما سبق، أما التشريع فمن حق الله والرسول، وقد انتهى عهده بوفاة الرسول، واستقر أمره بانقطاع الوحي.


حُكْمُ تَعَارُضِ القَوَانِينِ مَعَ الشَّرِيعَةِ:
إذا تعارضت أحكام القوانين الوضعية مع الشريعة كان من الواجب تطبيق حكم الشريعة دون حكم القانون وذلك لثلاثة أسباب.
أولها: أن نصوص الشريعة الإسلامية لا تزال قائمة ولا يمكن إلغاؤها بحال كما بينا، أما نصوص القوانين فقابلة للالغاء، ومعنى هذا أن نصوص الشريعة أقوى من نصوص القوانين.
وثانيها: أن الشريعة تقضي ببطلان كل ما يخالفها، وتمنع من طاعته، وقد شرحنا ذلك فيما سبق، فالقوانين المخالفة للشريعة تعتبر باطلة بطلانًا مطلقًا فيما جاء مخالفًا للشريعة.
وثالثهما: أن القوانين المخالفة للشريعة تخرج عن وطيفتها
بمخالفتها للشريعة، وإذا خرج القانون عن وظيفته لم يكن لوجوده محل، وكان باطلاً بطلانًا مطلقًا، وهذا هو ما تقضي به قواعد القانون الوضعي نفسه.


كَيْفَ خَرَجَتْ القَوَانِينُ المُخَالِفَةُ لِلْشَّرِيعَةِ عَنْ وَظِيفَتِهَا؟:
الأصل في القوانين الوضعية أنها توضع لسد حاجة الجماعة ولتنظيمها وحماية نظامها ونشر الطمأنينة والسلام بين أفرادها، ومن أهم حاجات الجماعة حماية عقائدها ومشاعرها ونظامها، وفي البلاد الإسلامية يقوم نظام الجماعة على الإسلام، وتقوم عقائد الكثرة على الإسلام، فكان من الطبيعي أن تجيء القوانين مطابقة للشريعة الإسلامية تمام المطابقة، ولكن القوانين لم تجيء كذلك وإنما جاءت كما رأينا مخالفة للشريعة، فخرجت القوانين بهذا لا على الشريعة فقط وإنما على الأصول التي يجب أن تقوم عليها القوانين والأغراض التي توضع من أجلها القوانين فهي قوانين لا تقوم على أصل معروف ولا تستهدف غرضًا مشروعًا.


إذا استطعنا أن نعرف شيئًا من حقائق الإسلام وأحكامه سهل علينا أن نعرف كيف أن القوانين التي توضع في أوروبا لإسعاد الجماعة ونشر الطمأنينة والسلام بين أفرادها، إنما هي في البلاد الإسلامية العامل الأول في إيلام الجماعة والإساءة إلى مشاعرهم وإيغار صدورهم، وهي العامل الأول في عدم رضاء الأكثرية
عن هذه القوانين، بل هي العامل الأول الذي يدعو للفتنة ويهيئ للفوضى:
[١] فالإسلام لا يسمح لمسلم أن يتخذ من غير شريعة الله قانونًا وكل ما يخرج على نصوص الشريعة أو مبادئها العامة أو روحها التشريعية محرم تحريمًا قاطعًا على المسلم بنص القرآن الصريح، حيث قسم الله الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما إما الاستجابة لله والرسول، واتباع ما جاء به الرسول، وإما اتباع الهوى فكل ما لم يأت به الرسول فهو الهوى، وذلك قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (١) وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (٢) وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (٣).


[٢] إن الله لم يجعل لمؤمن أن يرضى بغير حكم الله،
.أو يتحاكم إلى غير ما أنزل الله، بل لقد أمر الله أن يكفر بكل حكم غير حكمه واعتبر الرضى بغير حكمه ضلالاً بعيدًا واتباعًا للشيطان، وذلك قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (١).
 
فمن يتحاكم إلى غير ما أنزل الله، وما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قومن من يتحاكمون إليه - غير الله ورسوله - أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فمن آمن بالله ليس له أن يؤمن بغيره، ولا أن يقبل حكمًا غير حكمه.
 
[٣] إن الله لم يجعل لمؤمن ولا مؤمنة أن يختار لنفسه أو يرضى لها غير ما اختاره الله ورسوله، وذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (٢).
 
[٤] إن الله أمر بأن يكون الحكم طبقًا لما أنزل الله، وجعل
.من لم يحكم بما أنزل الله كافرًا وظالمًا وفاسقًا. فقال - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (١)، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (٢)، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (٣).
 
ومن المتفق عليه بين المفسرين والفقهاء أن من يستحدث من المسلمين أحكامًا غير ما أنزل الله، ويترك بالحكم بها كل ما أنزل الله أو بعضه من غير تأويل يعتقد صحته فإنه يصدق عليهم ما قاله الله تعالى كل بحسب حاله. فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا مثلاً. لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر فهو كافر قطعًا، ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم، إن كان في حكمه مضيعًا لحق، أو تاركًا لعدل أو مساواة، وإلا فهو فاسق.
 
[٥] إن الله نفى الإيمان عن العباد حتى يحكموا الرسول فيما شجر بينهم مع انتفاء الحرج والضيق عن صدورهم والتسليم والانقياد التام وذلك قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (٤).
[٦] إن كل ما يخالف الشريعة محرم على المسلمين، ولو أمرت به أو أباحته السلطة الحاكمة أَيًّا كانت، لأن حق الهيئة الحاكمة في التشريع مقيد بأن يكون التشريع موافقًا لنصوص الشريعة، متفقًا مع مبادئها العامة، وروحها التشريعية، فإن استباحت الهيئة الحاكمة لنفسها أن تخرج على هذه الحدود فإن عملها لا يحل القوانين المحرمة، ولا يبيح لمسلم أن يتبعها أو ينفذها بل من واجب كل مسلم أن يعصي القوانين ويمتنع عن تطبيقها وتنفيذها، لأن طاعة أولي الأمر لا تجب لهم مطلقة، وإنما تجب في حدودها ما أمر به الله والرسول وذلك قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (١) وقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (٢).


وقد بينت السنة حدود الطاعة، فقال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ». وقال: «إِنَّمَا الطَّاعَة فِي المَعْرُوف». وقال في ولاة الأمور: «مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ».
.وقد أجمع أصحاب الرسول وفقهاء الأمة ومجتهدوها على أن طاعة أولي الأمر لا تجب إلا في طاعة الله، ولا خلاف بينهم في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن إباحة المجمع على تحريمه، كالزنا والسكر واستباحة إبطال الحدود، وتعطيل أحكام الشريعة وشرع ما لم يأذن به الله، إنما هو كفر وردة، وأن الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد واجب على المسلمين، وأقل درجات الخروج على أولي الأمر هو عصيان أوامرهم ونواهيهم المخالفة للشريعة.


[٧] إن أحكام الشريعة لا تتجزأ، ولا تقبل الانفعال فلا يجوز لمسلم أن يرضى بتطبيق بعض أحكام الشريعة وإهمال البعض الآخر، وقد تكلمنا عن هذه المسألة وأدلتها فيما سبق.


هذه هي بعض حقائق الإسلام، وتلكم هي نصوص القرآن والسنة، وهذا هو واقع المسلم الذي يفهم الإسلام أو يؤمن به، وهو ما يجب أن يكون عليه كل مسلم ويعمل له، والقوانين التي وضعت أصلاً لحماية المشاعر والعقائد إنما تحاربها وتعتدي عليها اعتداء منكرًا حين تأتي بما تخالف الشريعة الإسلامية، كما أنها ترهق الناس بما تفرضه عليهم من أوضاع تخالف الشريعة ويأباها الإسلام أشد الإباء.


وهكذا نستطيع أن نتبين مما سبق أن نقل «القوانين الوضعية» إلى البلاد الإسلامية يخرج بها عن وظيفتها، ويؤدي. إلى إثارة النفوس والإساءة إلى الشعور العام، ويجعل من هذه القوانين أداة صالحة لبعث الفتن ووسيلة ناجحة لنشر الفوضى والاضطراب.


الفَصْلُ الثَّانِي: مَدَى عِلْمُ المُسْلِمِينَ بِشَرِيعَتِهِمْ:
يختلف علم المسلمين بالشريعة الإسلامية باختلاف ظروف حياة كل منهم وثقافته، وهم ينقسمون إلى ثلاث طوائف بحسب علمهم بالشريعة: الأولى، طائفة غير المثقفين، والثانية، طائفة المثقفين ثقافة أوروبية، والثالثة، طائفة المثقفين ثقافة إسلامية:
وسنتكلم عن هذه الطوائف فيم يلي:


١ - طَائِفَةُ غَيْرِ المُثَقَّفِينَ:
وهي تشمل الأميين والمثقفين ثقافة بسيطة لا تؤهلهم لأن يستقلوا بفهم ما يعرض عليهم والحكم عليه حكمًا صحيحًا، وهؤلاء يجهلون الشريعة الإسلامية جهلاً تَامًّا إلا معلومات سطحية عن العبادات، وأكثرهم يؤدون العبادات تأدية آلية، مقلدين في ذلك آباءهم وإخوانهم ومشايخهم، ويندر أن تجد فيهم من يعتمد في تأدية عباداته على دراسته ومعلوماته الشخصية.


ويدخل في هذه الطائفة أغلب المسلمين ولا يقل عدد أفرادها.  عن ثمانين في المائة من مجموع المسلمين في العالم الإسلامي وتتأثر هذه الطائفة تأثرًا كبيرًا بتوجيهات المثقفين، سواء كانت ثقافتهم أوروبية أو إسلامية، ولكنها تنقاد فيما تدرك أنه يتصل بالإسلام إلى توجيهات المثقفين ثقافة إسلامية، لأنهم أقدر من غيرهم على فهم هذه المسائل، أما ما نعجز عن إدراك صلته بالإسلام فهي تخضع فيه لتوجيهات المثقفين ثقافة أوروبية.


ومن السهل أن يسيطر علماء الإسلام على هذه الطائفة سيطرة تامة، يوجهونها توجيهًا صحيحًا، إذا فهموا أفرادها أن كل شيء من أمور الحياة الدنيا يتصل بالإسلام. وأن إيمانهم لن يتم إلا إذا عولجت الأمور الدنيوية جميعًا على أساس من الشرع الحنيف.
ولكن علماء الإسلام في أكثر بلاد الإسلام يهملون هذه الطريقة ذات العدد الضخم، ويتركونها تعم في جهالتها، فتنحرف عن الإسلام، وهي تعتقد أنها على المحجة البيضاء وتعيش في الضلالة. وما أضلها إلا سكوت القائمين على أمر الإسلام. وقعودهم عن الدعوة إليه على أكمل وجه.


٢ - طَائِفَةُ المُثَقَّفَةِ ثَقَافَةً أُورُوبِيَّةً:
تضم هذه الطائفة معظم المثقفين في البلاد الإسلامية وأكثرهم متوسطو الثقافة. ولكن الكثيرين منهم مثقفون ثقافة عالية. ومن هذه الطائفة: القضاة والمحامون، والأطباء، والمهندسون، والأدباء ورجال التعليم، والإدارة، والسياسة.
وقد تثقفت هذه الطائفة عل الطريقة الأوروبية، ولهذا فهم لا يعرفون عن الشريعة الإسلامية إلا ما يعرفه المسلم العادي بحكم البيئة والوسط، وأغلبهم يعرف عن عبادات اليونان والرومان، وعن القوانين والأنظمة الأوروبية، أكثر مما يعرف عن الإسلام والشريعة الإسلامية.


ومن هذه الطائفة أشخاص يعدون على الأصابع في كل بلد لهم دراسات خاصة في فرع من فروع الشريعة، أو في مسألة من مسائلها، ولكنها دراسة محدودة. ويغلب أن تكون دراسات سطحية، وقل أن تجد في هؤلاء من يفهم روح الشريعة الإسلامية على حقيقتها أو يلم إلمامًا صحيحًا باتجاهات الشريعة والأسس التي تقوم عليها.


وهؤلاء المثقفون ثقافة أوروبية، والذين يجهلون الإسلام والشريعة الإسلامية إلى هذا الحد، هم الذين يسيطرون على الأمة الإسلامية، ويوجهونها في مشارق الأرض ومغاربها، وهم الذين يمثلون الإسلام والأمم الإسلامية في المجامع الدولية.


ومن الإنصاف لهؤلاء أن نقول إن أغلبهم على جهلهم بالشريعة الإسلامية متدينون، يؤمنون إيمانًا عميقًا ويؤدون عبادتهم بقدر ما يعلمون وهم على استعداد طيب لتعلم ما لا يعلمون ولكنهم لا يطيقون أن يرجعوا بأنفسهم إلى كتب الشريعة للإلمام بما يجهلون، لأنهم لم يتعودوا قراءتها. ولأن البحث في كتب الشريعة
 
عبد القادر عودة في سطور
  • ولد القاضي عبد القادر عودة سنة 1321هـ/1903مبقرية كفر الحاج شربيني من أعمال مركز شربين بمحافظة الدقهليةبمصرلأسرة عريقة تعود أصولها إلى الجزيرة العربية
  • التحق بكلية الحقوق بالقاهرة، وتخرج فيها عام 1930م، وكان من أول الناجحين.
  • التحق بوظائف النيابة، ثم القضاء، وكانت له مواقف غايةً في المثالية.
  • في عهد "عبد الهادي"قدمت إليه وهو قاضٍ أكثر من قضية من القضايا المترتبة على الأمر العسكري بحل (جماعة الإخوان المسلمين)، فكان يقضي فيها بالبراءة؛ استنادًا إلى أن أمر الحل غير شرعي.
  • وفي عام 1951مأصر عليه (الإخوان المسلمون)بضرورة التفرغ لمشاطرة المرشد أعباء الدعوة، فاستقال من منصبه الكبير في القضاء، وانقطع للعمل في الدعوة، مستعيضًا عن راتبه الحكومي بفتح مكتب للمحاماة، لم يلبث أن بلغ أرفع مكانة بين أقرانه المحامين.
  • وفي عهد اللواء "محمد نجيب"عُين عضوًا في لجنة وضع الدستورالمصري، وكان له فيها مواقف لامعة في الدفاع عن الحريات، ومحاولة إقامة الدستورعلى أسس واضحة من أصول الإسلام، وتعاليم القرآن...
  • وفي عام 1953مانتدبته الحكومة الليبية لوضع الدستورالليبي؛ ثقةً منها بما له من واسع المعرفة، وصدق الفهم لرسالة الإسلام.
  • في عهد عبد الهادي الإرهابي قدمت إليه وهو قاضي اكثر من قضية من القضايا المترتبة على الأمر العسكري بحلّ جماعة الإخوان المسلمينفكان يقضي فيها بالبراءة استنادا إلى أن أمر الحلّ غير شرعي. وفي عام 1951أصر عليه الإخوانبضرورة التفرغ لمشاطرة المرشد العامأعباء الدعوةفاستقال من منصبه الكبير في القضاء وانقطع للعمل في الدعوةمستعيضا عن راتبه الحكومي بفتح مكتب للمحاماة لم يلبث أن بلغ ارفع مكانة بين أقرانه المحامين.
  • وفي عهد اللواء محمد نجيبعيّن عضوا في لجنة وضع الدستور المصري وكان له فيها مواقف لامعة في الدفاع عن الحريات ومحاولة إقامة الدستور على أسس واضحة من أصول الإسلاموتعاليم القرآن. وفي عام 1953انتدبته الحكومة الليبية لوضع الدستورالليبي ثقة منها بما له من واسع المعرفة وصدق الفهم لرسالة الإسلام.
  • استشهد عبد القادر عودة عام 1954م.

النشأة والتكوين

ولد القاضي الشهيد عبد القادر عودة سنة 1321هـ/1903مبقرية كفر الحاج شربيني من أعمال مركز شربين بمحافظة الدقهليةبمصرلأسرة عريقة تعود أصولها إلى الجزيرة العربية، وقد هاجرت إلى الشام وتفرقت في عدة دول مثل فلسطينوشرق الأردنوسيناء، بينما استقر الفرع الذي انحدر منه عبد القادر في محافظة الدقهلية.

وقدمت عائلة عودة العديد من الأسماء اللامعة في سماء الفكر والحضارة، مثل الدكتور عبد الملك عودةأستاذ العلوم السياسية وعبد الغفار عودةنقيب الممثلين الأسبق، وهما أخوان غير شقيقين للشهيد، والدكتور خالد عبد القادر عودةأستاذ الجيولوجيا بجامعة أسيوط.

أكمل عبد القادر عودة دراسته الابتدائية بمدرسة المنصورةسنة 1330هـ 1911م، ثم اشتغل بالزراعة زمنا ثم عاد فواصل الدراسة وحصل على البكالوريا سنة 1348هـ 1929موعلى إجازة الحقوق من جامعة القاهرةبدرجة الشرف سنة 1352هـ 1933موكان من أوائل الناجحين، وعمل بالمحاماة فترة من الزمن، ثم انتظم في سلك النيابة العمومية، ثم عُين قاضيا وتدرج في سلك القضاء حتى صار رئيسا لمحكمة جنايات المنصورة.

تعرف على الأستاذ حسن البناالمرشد الأول لجماعة "الإخوان المسلمين"وكان عبد القادر من أحب الإخوانإلى البنا، وكثيرا ما كان يذكره بالفخر والاعتزاز.

وظل عودة يشغل منصبه في القضاء، فلما تولى الأستاذ "حسن الهضيبي"منصب المرشد العامللإخوان المسلمين، كان عبد القادر أقرب الإخوانإلى قلبه، وفي عام 1370هـ 1951مأصبح وكيلا عاما للجماعة؛

وتبنى قيادة الإخوان المسلمينللعمل الجهادي ضد الإنجليزفي قناة السويس، ثم ألح عليه الإخوانبضرورة التفرغ لمشاطرة المرشد أعباء الدعوة، فاستقال من منصبه الكبير في القضاء، وانقطع للعمل في الدعوة، مستعيضا عن راتبه الحكومي بفتح مكتب للمحاماة، لم يلبث أن بلغ أرفع مكانة

 
 
 
 

ديانة شهوانية بجسد معاصر ومتعدد

$
0
0

شاكيرا البرازيل 2014لنرصد لعبة كرة القدم عند نقطة متألّقة تعبّر عنها بامتياز: مسابقة أبطال الدوري في أوروبا "شامبيونز ليغ". أوروبا هي البؤرة الحقيقية لكرة القدم، وتفتن دورياتها الأعين المنجذبة إلى كرة القدم على امتداد العالم، كما تستقطب أنديتها لاعبين من القارات كلها، عابرة الحدود الوطنية والقومية والجغرافيا السياسية، بخفة وفرح وتوثب ورشاقة. ويزيد أهمية المباراة أنها جاءت قبل أيام قليلة من "مونديال البرازيل 2014"، وفيه تمارس كرة القدم طقوساً مكرّسة لعالميتها.

ما ان أطلقت صافرة الختام لتلك المباراة التي جمعت الناديين الإسبانيين (كلاهما من مدريد "ريال مدريد"و"أتليتيكو مدريد"، حتى ضجّت عشرات ملايين المنازل بالصراخ، ونزلت إلى الشوارع على امتداد مدن العالم وبلداته، شتى أنواع الاحتفالات الفرحة بوصول الطقس الكروي إلى ختامه. ترصد شاشات التلفزة مشهدية تفجّر العواطف والخيالات على الشاشة، كذلك ترن في آذان مشاهدي الشاشات المتلفزة أصوات تأتي من عالمهم الفعلي، وعلى امتداد الكرة الأرضية.
ما تكون تلك التي تؤدّى مساراتها في ملعب في لشبونة بالبرتغال، فتعبر عواطفها وخيالاتها وتماهياتها وانتماءاتها وصبوات البشر حولها، كل الحدود الحقيقية والمتوهمة للجغرافيا والكيانات السياسية والهويات الثقافية والخطابات الفكرية والطبقات الاجتماعية والتوّزعات الجنسية وغيرها؟

عند ختام بطولة الدوري الإسباني بفوز نادر لنادي "أتليتيكو مدريد"على برشلونة، ملأت الأعلام التركية الملعب مرفوعة على أيدي لاعبي "أتليتيكو"، وملتفّة أيضاً على جذوع أجسادهم. السبب؟ ساهم اللاعب التركي آردا توران بقسط وافر في وصول الفريق الى بطولة الدوري، لكن الإصابة لم تمكّنه من المشاركة في مباراة نيل البطولة. بصورة هينة، تصالحت أعلام الدول التي جاء منها لاعبو الـ"آتليتي" (كولومبيا، الأرجنتين، البرازيل، كرواتيا...)، فبدت متناغمة مع العلم التركي بالهلال والنجمة، بعيداً من توترات السياسة في أنحاء الأرض. في أنحاء أوروبا، تضمّ الأندية الكبرى هويّات يصعب جمعها حتى راية الأمم المتحدة! وفي مباراتي ختام الدوري الإسباني والأوروبي، رعت شركة الغاز الروسيّة "غازبروم"المتبارين، على رغم الأزمة الهائلة مع أوروبا في أوكرانيا.
ما الذي لا تخترقه كرة القدم المعاصرة؟ هل تكون مجرد كرة ولعبة، إذا كانت قادرة على ذلك الاختراق الهائل في حياة البشر على امتداد الكرة الأرضيّة؟ ربما تبدأ الإجابة عن هذا السؤال، بتقصّد، من الأديان. ينقل عن الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو، وهو مولع أيضاً بالكتابة عن الأديان السموية، قوله إن كرة القدم في البرازيل هي ديانة وليست رياضة ولا مهنة ولا صناعة. كرة القدم ديانة، وفق كويلو. إذا صدق حدسه، يكون ذهاب العالم إلى المونديال في البرازيل، أقرب إلى موسم حجّ إلى مركز تلك الديانة.


مشهدية متلفزة لما يشبه طقوساً

استهلت مباراة لقب "شامبيونز ليغ"بباليه كلاسيكي انتقل إلى رقص ما بعد حداثي معاصر. ظهرت في دائرة نصف الملعب فتيات بملابس الباليه الموحّدة التقليدية، يطوّقن رقابهن بمثلّثات لعبت دوراً أساسيّاً في مشهدية الأداء. كُنّ في تجمعات للمثلثات جعلتها شبيهة بالنجوم التي ملأت الدائرة، فأعطتها شكل الشمس مع اقتباس لونَي الأصفر والأرجواني، ثم حلّ الأزرق لوناً للسماء.
سريعاً، جاءت مشهدية الاستيلاء الذكوري- الأوروبي على الرقص، بدخول رجال بملابس بحّارة. البحّار رمز ذكوري مفرط، بل فحل، فيه شيء من الوقاحة الخشنة. دخل البحّارة بخطوط مستقيمة اقتحمت تجمعات الإناث الراقصات، وولجوا إلى تجمّعات النجوم، التي انفرطت الى الأطراف. ومدّوا أثواب قماش مستطيلة ومستقيمة، كي تكتمل مشهدية الشمس. وبذا، اكتمل صنع اللوغو المميّز لمسابقة "دوري أبطال أوروبا"، وهي نجوم المدمجة بقرص مشعّ. وظهر مستطيل أزرق كتب عليه "لشبونة 2014".
بالتزامن، دخل كورال بملابس قوطية هي مسوح سود طويلة، وأعطوا مشهدية ذات خيال ديني، إذ بدوا كفرق الترتيل في الكنائس. ومع صدح الأصوات بنشيد الـ"شامبيونز ليغ"، استمر البحّارة في حركة جذب الحبال، كمن يدخل سفينة إلى مرفأ أو يجهزها للاقلاع. تلتها أعلام المسابقة وعلما الناديين الإسبانيين المتباريين.

تستدعي مشهدية الافتتاح في ملعب في البرتغال، وصف ريجيس دوبريه لثلاثية الكاهن- الجندي - التاجر التي اجتاحت بها أوروبا وجيوشها البحرية، أميركا الجنوبية. شهد ذلك العصر من الاستعمار المنفلت، إبادات لحضارات في ظلال تلك الثلاثية، شاركت فيها جيوش البرتغال البحرية.

إذاً، جمعت رقصة الافتتاح ذكورية فائضة في البحار، لا يخفى تمازجها مع بحّارة يُستحضَر فيهم عصر الاكتشافات والاستعمار والثروات المجلوبة من الخارج.

ذلك إرث أوروبي يجد في أرض البرتغال كثافة عالية، مع تاريخ الاستعمار القاسي لأميركا الجنوبية، بثلاثية البحّار- التاجر - الكاهن المبشر والجندي حامل القوة القاسية للأمبراطورية. المفارقة أن أميركا الجنوبية صارت مصدراً للاعبين والمدرّبين الأهم عالميّاً، بل أن المباراة كانت مبارزة مضمرة بين العالمثالثي الأميركي- الجنوبي دييغو سميوني، والإيطالي بلقب دون الملكي من عصر أمبراطوريات روما، بكثافة دلالتها أيضاً. استطراداً في كثافة الاستعارات غير المقصودة، وهي مهمة لأنها غير مقصودة، انسحب لقب "دون"على اللاعب كريستيانو رونالدو، وهو برتغالي.

لا بد من استدراك، كي لا تقع الأفكار في فخاخ الكلمات والصور والتشابيه. تقتحم أوروبا والغرب العالم المعاصر باكتساح هائل، لكنه يعتمد أساساً على القوة الناعمة للقوى الكبرى ودولها. أكثر من ذلك، من المستطاع ملاحظة أن غياب القوة الناعمة، بمعنى الاقناع بالنموذج والثقافة والفنون والرياضة والأفلام والأديان والألعاب الإلكترونيّة، يهدد القوة نفسها. ربما لا تفتقر روسيا المعاصرة إلى شيء أكثر من قوة الاقناع، تفتقر إلى القوة الناعمة أساساً. لم يقتحم الغرب أوكرانيا بجيوش ولا حتى بالاقتصاد، بل بالقوة الناعمة، بنموذج حضاري له جاذبية لا تنكر، ليست الديموقراطية في السياسة سوى جزء منها.

رونالدو داود معاصر لتفلّت الشهوة

الأرجح أن مقولة كويلو تحض على التفكير. عن أي ديانة تَحَدّث، وأي دين قَصَد؟ لا يبدو الأمر متعلّقاً بديانة سموية، بل بدين أرضي، يصنعه البشر صنعاً متقصّداً. استطراداً، هناك في كرة القدم قدرة على اقتحام دواخل البشر (خيالهم وعقلهم ونظرتهم إلى أنفسهم وإحساسهم بالانتماء وبالسعادة أيضاً، وهي التي استعصت على العقائد الفلسفية والإيديولوجية)، بطرق تثير التفكير بوجود بعد ميتافيزيقي لكرة القدم. إنها ديانة دنيوية معاصرة، تملك الكثير من ثقافة ما بعد الحداثة، وهي أيضاً مكتظّة بالشهوات، بل لا تكاد توارب في علاقاتها مع شهوانية الجسد.

من المستطاع العودة إلى مباراة "ريال مدريد"و"أتليتيكو". لماذا أصرّ اللاعب كريستيانو رونالدو على خلع قميصه مرتين، والظهور بالجسد العاري في الملعب؟ تعرّى مرّة بعد إحرازه هدفاً من ركلة جزاء في مختتم اللقاء. أصرّ اللاعب المعروف بشدّة ميله للمشهدية التلفزيونية على إظهار الصورة المثالية (يحمل لقب أفضل لاعب في العالم) لجسد الكرة المعاصر. بدا جسده بعضلات حادة القسمات، بل بدا منحوتاً وأقرب إلى تمثال داود الشهير لمايكل أنجلو. لا يتمتع جسد لاعب الكرة المثالي بعضلات ضخمة هرقلية الطابع، بل يبدو أقرب إلى ما تخيّله مايكل أنجلو عن داود، المصارع التوراتي للعملاق غوليات، والمحارب المنتصر. صنع مايكل انجلو التمثال الذي رسخ في أذهان كثيرة صورة عن البطل الأسطوري، في مستهل القرن السادس عشر، في مفتتح النهضة الأوروبية ومشروع العقل الذي كرّس الفرد وصعد بالإنسان في وجه الكنيسة المتسلطة حينها. في تأمل ما، يحمل تمثال داود بعداً إنسانيّاً دافئاً ومغايراً لما تكونه جلالة الأديان وتحريماتها. ولعل إظهاره لعضو الذكورة عند داود، هو التباس ممكن الاستمرار في شأن النقاش به طويلاً وطويلاً.
بدا كريستيانو رونالدو في شبه عري فعلي في الملعب الذي يحمل إسم "النور"، وهي مصادفة لا تخلو من رمزية مذهلة، لأن النور يرد إلى نصوص الأديان بوضوح. ربما لم يتقصد أحد الجمع بين العري المقصود والمنفلت، بالضد من لوائح اللعبة وقوانين سدنتها، في ملعب يحمل إسم النور المتصل بالآلهة منذ رع واخناتون في حضارة الفراعنة، ووصولاً إلى صراع الليل والنهار في الرمايانا الهندية. وتستولي كرة القدم على أجساد ملايين الناس، كما لا تفعل سوى الديانات، بمعنى أنها تفرض رمزياتها عليهم. على رغم الحديث العالي الطنين عن الفردية المعاصرة، تستولي الكرة على أجساد فائقة التعدد في كل شيء، وتعطيهم هويّتها (بمعنى جمعهم فيها، وليس بالضرورة صهرهم وتصييرهم واحداً على طريقة الايديولوجيات الكليانية كالنازية والفاشية). تفرض كرة القدم هويّتها الجامعة العابرة للهويات والحدود، عبر ألوان أعلام النوادي المنثورة على الوجوه، وقمصان النوادي وألوانها وأعلامها. قبل تسييد الديانات التوحيدية، كان الكرنفال القديم يرتكز على انفلات الجسد بصورة بدائية، عبر رسم الألوان والصور على الوجوه لتغطية هويتها رمزيّاً، وكذلك عبر الملابس والتنكّر المخصص للكرنفال. لا يزال كرنفال الريو معاصراً ويعطي نموذجاً عن الكرنفال الشهواني للديانات الأرضية القديمة. لا شيء يضارعه سوى الكرنفال الكروي واستيلاء الأجساد المتنكرة كي تنفلت بشهواتها، على الخيوط التي تربط الجموع الكرويّة بعضها بالبعض. جاء جمهور الـ"روخو بلانكوس"، لقب "أتليتيكو مدريد"، وعلت رؤوس كثيرة زينة من رئيس ملوّن يذكّر بقبائل الهنود الحمر. تلاحظ سهولة إظهار هويات جنسية كانت مستعصية حتى زمن قريب، خصوصاً المثلية الجنسية عند الذكور والإناث.

ربما في هذا السياق، من المستطاع القول بأن "التمثال"البصري المتلفز لكريستيانو رونالدو عارياً، يصلح أن يكون "داود"ديانة فوّارة بشهوات الجسد وتفلّتاته. يزيد في كثافة انفلات الشهوة أن كريستيانو رونالدو ظهر عارياً، وفي أوضاع جنسية صريحة، على غلاف مجلة "فوغ"وصفحاتها المعروفة بميولها الإيروتيكية، بمعنى الخفّة في إظهار الشهوات الجسدية والتخلي عن التابوات المتصادمة مع تظاهرات المكبوت الجنسي المنفلت.

... وميسي أوديباً يصارع آلهة الـ"فيفا"

عندما استلهم الكاتب المصري فوزي فهمي أسطورة أوديب في مسرحية "عودة الغائب" (أدّاها محمود ياسين وعايدة عبد العزيز، في سبعينات القرن الماضي)، عمد إلى تحوير بسيط، لكن عميق. لم يكن القدر ولا إرادة السماء هما اللذان رسما مأساة أوديب، بل إرادة الأموال وأصحاب المصالح الذين صنعوا أوديب ثم استهلكوه ثم انقضّوا عليه بعدما لمحوا أنه يسعى لأن يكون زعيماً خارجاً عن إرادتهم. هل حدث شيء مماثل في ملاعب إسبانيا 2014؟ هل ليونيل ميسي هو أوديب معاصر؟ أين خرج عن نص المصالح الممسكة بكرة القدم الحديثة، وما هو الهامش الذي سعى إلى صنعه، فعوقب عليه؟

لنبدأ من طيبا الأسطورة، المدينة التي صنع منها سوفوكليس مساحة لصراع الإنسان مع القدر (بمعنى القوة العاتية التي لا يملك الإنسان ردّها)، فيدخل في تراجيديا وجودية لا مخرج منها إلا موتاً أو انتحاراً أو سدىً. ينتشر الموت في طيبا، فيضحّي القدر ببطل تراجيدي. يصرح العرّاف تريزياس، وهو الوسيط مع إرادة القدر، "في المدينة رجل قتل أباه، وتزوّج أمه، وكان أباً لأولاده". يحكم تريزياس العرّاف الأعمى بأن تمرد البطل- المأساة على قيم الآلهة الممسكة بالقدر، هو سبب سقوط طيبا. تنفذ إرادة القدر. يسقط أوديب عن العرش، ويبعد عن طيبا. في مسرحية "عودة الغائب"، يحاول أوديب ثني تريزياس عن مزاعمه التي لا تخدم سوى أصحاب المصالح، ويذكّره أوديب تريزياس بأنه يستطيع أن يعيد صنع أسطورته ملكاً محبوباً، شرط موافقة تريزياس. يرفض تريزياس، ويحطّم أوديب لأن القوة التي يملكها العرّاف العارف بما يقرّره القدر والآلهة، تفوق قوّة أوديب.

في كرة القدم المعاصرة، من المستطاع نسج توازيات مع "مأساة أوديب"سوفوكليس، بإدخال تعديلات بسيطة على طريقة الكاتب المصري فوزي فهمي.

في الملعب الأخضر، يبدو الحكم فائق الشبه بتريزياس. يفترض أنه أعمى، بمعنى العمى في المساواة والحق، كما يصوّر في تمثال العدالة الشهير. ليس أعمى تماماً، لكنه منحاز كليّاً. يتصل الحكم- العرّاف بالقدر الذي تصنعه المصالح والأموال الضخمة المهيمنة على الكرة. يسدّد ميسي الكرة في مرمى فريق "أتليتيكو مدريد"في نهائي الدوري الإسباني، وهو نهائي بذلت جهود كبيرة في صنع مسرحياته المثيرة. تبدو تسديدته خارجة عن نص القدر. لو اعترف تريزياس بالهدف لتغيّرت أقدار ومصالح وأموال. يلغى الهدف. هل حلم ميسي للحظة بأنه تفوّق على إرادات شتى، وبأنه عاد إلى صنع أسطورته بنفسه، لاعباً معولماً محبوباً؟ ربما. لكن الهدف ألغي. سارت المأساة الى نهايتها المرسومة قدرياً. سقط فريق برشلونة من شاهق الفريق الحلم، إلى حضيض الفريق الذي لا يحصد أي بطولة. ربما عبّر عن قسوة سقوط برشلونة- طيبا أن البطل التراجيدي لم يتمالك نفسه، فركل تريزياس- الحكم بالكرة، كمن يضربه بحجر أو سيف. لكن ما يملكه البطل- المأساة من قوة، أقل بما لا يقاس مما يملكه العرّاف المتّصل بأقدار الكرة الحديثة. هوت الأسطورة. تحطّم البطل. هل يبتعد ميسي عن نادي برشلونة على غرار ابتعاد أوديب عن طيبا، أم يكون لـ"القدر"المعاصر استثمار آخر في تلك المأساة؟

لنتمهل قليلاً. هناك رؤى النوم التي تصنعها شاشات الإعلانات التلفزيونية. يركّز إعلان تلفزيوني جديد على رؤى تراود ميسي في مناماته. ألا ترد الرؤى إلى نصوص الميتافيزيقيا والأديان، على غرار رؤى الأنبياء أو القديسين أو أصحاب الكرامات؟ يحمل الإعلان إسماً لافتاً وميتافيزيقيّاً هو all in or nothing، ترجمته "الجميع مشارك أو لا شيء". يبدأ الإعلان بحلم في غابة مملوءة بالجليد والوحوش. يعيد الحلم- الإعلان إلى أجواء الترفيه البصري المعاصر، خصوصاً سلسلة أفلام مصّاصي الدماء الحديثة Twilight Saga. مصّاص الدماء هو من تعبيرات الشيطان، وهو رمز ميتافيزيقي أيضاً. في السينما، استخدم مصّاص الدماء للإشارة الى انفلات شهوات البشر، من الجنس إلى الأموال والنخبة ذات القوى القادرة على التحكّم بالناس. يستحضر الإعلان- الحلم أجواء "توي لايت ساغا". لا يتردّد النص البصري لحلم البطل ميسي في نسج توازيات بين شخوص "توي لايت ساغا"وصراعات أبطال كرة القدم والنخب المسيطرة عليها.

في "توي لايت ساغا"تنتفي القيم المتراتبة كأنها عمود من السماء إلى الأرض، التي تحكم بما يكون خيراً وشراً. بمعنى ما، تحمل تلك الأفلام ثقافة ما بعد الحداثة، حيث المساحة رمادية غالباً بين الشر والخير، مع تبادل مستمر للأدوار بينهما. استطراداً، لا تكون القيم عمودية "من فوق إلى تحت"كي ترسم الحدود الصارمة بين الخير والشر، بل تكون القيم يومية ومتغيّرة وعادية، بل تتغيّر دلالاتها باستمرار. هل يمهد الحلم لمصالحة بين البطل- المأسوي والوحوش الضارية الممتصة للدماء (اللاعبون والجمهور على حدّ سواء)، بمعنى القبول بتبدّل الأدوار ومعانيها؟ لننتظر. ولنر.

المحاكم القنصلية الاجنبية فى مصر

$
0
0

 

 
 
 
 
 
عندما بدأ النظام الإقطاعى فى أوروبا يتهاوى ، ونشطت حركة الإنتقال والإبحار والتجارة ، وجد التجار من مدينة إلى مدينة ، إختلافا فى العادات بين الناس ، وتباينا فى الأعراف المحلية ، وتغايرا فى طرائق الحماية ؛ كما شقّ عليهم عُسف السلطة التى لم تكن تتقيد بنظم محددة مضمونة ، واضطراب القوانين التى لم  تكن واضحة منظمة ، ومظالم القضاة الذين لم يكونوا مستقلين ولا متخصصين ولا محايدين . وإذ شرع ذلك فى التأثير على حركة التجارة وتداول البضائع وتنامى الثروة ، فقد بدأت بيزنطة – عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية – فى عقد إتفاقيات مع بعض المدن الإيطالية والفرنسية ، بقصد تحرير التجارة ، أدت إلى منح بعض الإمتيازات إلى التجار ، بما يكفل لهم الأمن والعدل والسلام 

 

ويلوح أن ما فعلته بيزنطة (القسطنطينية ، والأستانة الآن) شاع فى العلاقات التجارية والسياسية . ففى القرن التاسع الميلادى حصل التجار العرب من السلطات الصينية فى كانتون على بعض الإمتيازات (Capitulations) .وخلال الإتصالات التى حدثت بين هارون الرشيد (786 – 808م) وشارلمان (742 – 814م) امبراطور الغرب وملك الفرنجة ؛ تمت اتفاقيات بينهما للتسهيل التجارى وتنظيم حقوق المرور فى المناطق الخاضعة لنفوذهما ، وتحديد مزايا قانونية للقناصل .وفى 1251 حصل سانت لويس ملك فرنسا من الخلفاء المسلمين على حقوق خاصة للقناصل الفرنسيين فى طرابلس (لبنان) وفى الأسكندرية ، أكدها من بعده ابنه فيليب لى هاردى .
 
وفى 1290 منح الملك المنصور (فى مصر ، وهو من المماليك) عهدا يتضمن إمتيازات إلى قنصل جنوا فى الأسكندرية . وفى القرن التالى مُنحت هذه الإمتيازات لفرسان رودس وللفرنسيين . وقد أكد هذه الإمتيازات سليم الأول (1512 – 1519م) وابنه سليمان الثانى (1519 – 1566م) .
سليم الأول سلطان العثمانيين غزا مصر ، مقر الخلافة العباسية آنذاك (1517) ، وأكره الخليفة (المتوكل على الله محمد بن المستمسك) على التنازل له عن الخلافة الإسلامية ، ثم نقل سليم الأول مقر الخلافة من القاهرة إلى الأستانة ، بيزنطة والفسطنطينية من قبل ، صاحبة التقاليد التجارية العريقة التى منحت للتجار الأجانب عنها إمتيازات تسهّل لهم التجارة وتنعش فيها الإقتصاد وتجعل منها مركزا مهما فى المنطقة كلها .
 
ووافق سليم ثم ابنه سليمان من بعده على الإمتيازات التى كانت قد مُنحت قبل ولايتهما . غير أن إنتقال الخلافة الإسلامية إلى الأستانة ، وصيرورة السلاطين العثمانيين فى مسند الخلافة ، دعا إلى محاولات فقهية لإضفاء المِسْحة الإسلامية على الإمتيازات الأجنبية فى بلاد السلطنة العثمانية ، ومنها مصر .
كان الفقه الإسلامى بعدما اتسع نفوذ الخلافتين الأموية والعباسية وامتد إلى مناطق كثيرة ، قد ابتدع تخريجا مؤداه قسمة العالم إلى قسمين : دار السلام (أو دار الإسلام) وهى البلاد التى تخضع لحكم مسلم وتطبق فيها أحكام الشريعة الإسلامية (مع أنهم خلطوا بين الشريعة والفقه) ، ودار الحرب وهى أى بلد أو مكان آخر سوى دار السلام . ومن مقتضى هذا التقسيم ، بمسمياته ، أن البلاد أو الأماكن أو الأمم التى لا تندرج فى دار السلام وتدخل فيها تُعدّ بلادا وأماكن وأمما محاربة ، لا يجوز عقد أى معاهدة معها تفرض السلم وتضع الحرب ، إلا أن تكون هدنة مدتها على الأكثر عشر سنوات ، قياسا فى ذلك على صلح الحديبية ، الذى عقده النبى(صلعم) مع الأعداء من أهل مكة (سنة 6هـ) . وإعمالا لهذا الفقه الذى اختلط بالشرع ، فامتزج ما هو بشرى بما هو مقدس ، قوى الاتجاه بعدم عقد أى اتفاقيات تجارية مع بلاد أوروبا ، التى تقع فى نطاق دار الحرب ، والإستعاضة عنها بإجراء آخر ، يوافق ظاهر الفكر الإسلامى ويتحايل على المبدأ الفقهى (المظنون خطأ بأنه شرعى) والذى يمنع التعاهد والتعاقد مع البلاد والأماكن والأمم الكائنة فى دار الحرب ، بمعاهدة تزيد مدتها على عشر سنوات ، ولا تكون هدنة فى حرب ، يسبقها قتال ويلحقها قتال ، كما كان الوضع الذى عُقد فيه صلح الحديبية . إذ ذاك تفتّق التحايل الفقهى عن فكرة أن يُصدر السلطان براءة سلطانية (أو دكريتو أو فرمانا) يتضمن وعودا مؤكدة بمنح من يصدر له الأمر امتيازات معينة (Imperial diplomas containing sworn promises) وبهذه البراءات (أو الديكريتو أو الفرامانات) تجنب السلاطين معاملة غير المسلمين من أهل دار الحرب معاملة تقوم على قدم المساواة بين الطرفين ، أو تُفرغ فى هيئة معاهدات محظورة فقهيا (يُظَن أنها ممنوعة شرعياً) .
 
نتيجة لهذا الوضع ، صار من اليسير غير العسير ، أن يُصدر السلطان براءة (أو دكريتو أو فرمانا) بمنح امتيازات خاصة لمن يريد من الأجانب ، أهل أوروبا ، ومن ثم توالت الإمتيازات ، والتى كان التقدير وقت إصدارها أنها ليست حقوقاً لمن مُنحت له ترتب التزامات على السلطنة ، وإنما هى إمتيازات ممنوحة يمكن الرجوع فيها أو العدول عنها ، إذا ما عَنّ ذلك للسلطنة أو حَِزب أمر إلى إلغائها ؛ وهو تقدير أتت الأيام بعكسه ، بعد أن قويت شوكة الدول الأوروبية ، فصارت الإمتيازات حقوقاً لأصحابها لا يمكن الرجوع فيها أو العدول عنها ، وكان أسوأ حال لذلك ما حدث فى مصر ، على نحو ما سوف يلى .
 
حصلت انجلترا من السلطان العثمانى على إمتيازات تجارية خاصة بالتجار وبمواطنيها وممثلها القناصل سنة 1579 ، وتبعتها فى ذلك هولندا سنة 1598 ، ثم هنجاريا (المجر) سنة 1615 ، والروسيا سنة 1700 ، والسويد سنة 1737 ، ونابولى سنة 1740 ، والدنمارك سنة 1756 ، وبروسيا سنة 1781 ، واسبانيا سنة 1782 ، والولايات المتحدة الأمريكية سنة 1761 ، وبلجيكا سنة 1838 ، والاتحاد الألمانى (بروسيا وباقى البلاد الألمانية) سنة 1840 ، والبرتغال سنة 1843 ، واليونان سنة 1854 .

(المرجع الرئيسى : E.SAMAD, La Question D' Egypt, 1841 – 1939 , Paris , 1938) .

 
بطبيعة الحال ، كان الأمر (الدكريتو أو الفرمان) الذى يصدر عن السلطان العثمانى يسرى على كل البلاد الخاضعة له ، وأولها مصر ؛ مما استتبع باللزوم والضرورة أن تسرى كل الإمتيازات الأجنبية السالف بيانها فى مصر ، ويتمتع بها أبناء البلاد صاحبة الإمتيازات فى التجارة وفى الإقامة وفى التملك . وساعد على ذلك موقع مصر الجغرافى الفريد ، ومكانتها فى التجارة العالمية ، والتنافس بين الدول الأوروبية – وخاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا والروسيا – للحصول فيها على وضع متميز ، وهجرة كثير من الأوروبين إليها ، وكان أغلبهم يبحث عن عمل أو ينشد صيداً .وبينما كانت الإمتيازات أصلا تهدف إلى أن تكون عونا للبلاد مانحة الإمتياز صارت عبئا ثقيلا عليها ، واستُغلت أسوأ استغلال من الشذّاب (عديمو النفع ممن لا موطن لهم) والأفاقين بل ومن المجرمين . وعُنى كثير ممن ليسوا من أهل البلاد صاحبة الإمتياز أساسا بأن يحصلوا على حماية بلد منها ، حتى يجدوا أنفسهم فى منعة من تطبيق القوانين أو النظم المحلية عليهم ، وعدم الخضوع لأحكام الإدارة ورقابتها أو المعاناة من انحراف السلطة وسوء استخدامها .
 
ساعد على ذلك حال النظام القانونى والقضائى فى السلطنة العثمانية ، وفى مصر . فالقانون بصفة عامة كان يعد فى هذه السلطنة تعبيرا عن إرادة الحاكم (السلطان) ، لصيقا به هو ، ينتهى العمل به بعد وفاته إلا إذا صدر تجديد من السلطان التالى لإستمرار العمل بأحكام قانون معين أو قوانين بذاتها . ومعنى ذلك أنه لم يكن ثمة ضمان بوجود نظام قانونى عام ثابت ، ما دام القانون مشخصناً فى السلطان ، متعلقا بإرادته إن شاء أبقاه وإن شاء ألغاه ، وهو – فى كل الحالات – ساقط بوفاة السلطان زائل بإنتهاء ولايته . يضاف إلى ذلك أن السلطنة نفسها لم تكن مستقرة وطيدة ، فالحكم – طوال السلطنة العثمانية – لم يكن للشعب ولا لأشخاص مختارين منه ، بل كان فى الغالب فى يد ما يُعرف بنظام البادْشاه (أى ملك الملوك أو الأمبراطور) وهو نظام قوامه أفراد يؤخذون من مناطق مختلفة ، كثيراً ما تكون بلاد شرق أوروبا التى كانت ضمن بلاد السلطنة ، ثم يُدربون على الحرب ، ويختار منهم الوزراء وكبار رجال السلطنة ، فيكون ولاؤهم المطلق للسلطان نفسه ، لأنهم بغير روابط مع الشعب ودون علاقات عائلية . ومع الأيام قويت شوكة هؤلاء ، وصارت السلطة الفعلية فى أيديهم ، بل واستطاعوا تغيير السلاطين واغتيال من أرادوا .
 
لم تكن أحكام الشريعة ومبادىء الفقه مقننة فى مواد ، مرتبة فى موضوعات ؛ وإنما كانت فى بطون الكتب وعلى حواشى المتون ، غير معروفة للكثيرين ، وغير محددة سلفا للمسلمين أو لغير المسلمين . وكانت أحكام الشريعة تطبق فى مسائل الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث ووصية فقط . وكان يوجد فى مصر قاض لكل مذهب من المذاهب الأربعة : الحنفى والمالكى والحنبلى والشافعى . وفى سنة 928 هـ رسم السلطان سليمان ابن سليم الأول بإبطال نظام قضاة المذاهب الأربعة ، ومنعهم من التصرف فى القضاء بالديار المصرية وسلّم جميع الأحكام لقاض واحد من قضاة الروم هو قاض العسكر (قاض عسكر ، أى قاضى عسكرى) بحيث لا تصح عقود أو أوقاف أو وصايا أو عتق أو حُجة حتى تعرض على قاض العسكر الرومى . وكان القضاة – شأن قاضى العسكر – يُعينون من الأستانة ولا يقتضون مرتبات ، بل كانوا يفرضون رسوما على القضايا التى تُرفع إليهم فيحصلون منها على رواتب لهم ويدفعون لدولة الإحتلال العثمانية ما بقى ، وما يلزم من رشوة لتجديد ولايتهم .
 
وكان القضاة يفصلون فى المواد المدنية فقط ، بالإضافة إلى مسائل الأحوال الشخصية . وفى المسائل الجنائية كان يُعهد لقاض بالتحقيق إن كانت الواقعة قد حدثت بين طرفين (مثل واقعة قتل شخص لآخر ، أو ضرب فرد لغيره ، وهكذا) ثم يُترك أمر الحكم وتنفيذه للوالى أو للشرطة . أما إذا كانت الواقعة الجنائية تتصل بأمن الدولة أو أمن الحكام فإن الحاكم أو نوابه كانوا هم - دون القضاة – ولاة الأمر فى التحقيق وتقدير العقوبة وتنفيذها .
 
مقتضى ذلك أن النظام السياسى فى السلطنة العثمانية وفى مصر – خاصة قبل محمد على – لم يكن مستقرا ، والنظام القانونى لم يكن محددا واضحا ، والنظام القضائى لم يكن كفؤا مستقلا ؛ وهى أمور دعت الأجانب إلى طلب المزيد من الإمتيازات لحماية أنفسهم وأموالهم من اضطراب السلطة وغيوم القانون وغياب القضاء ، ثم صارت الإمتيازات – التى كانت تُمنح ثم تُطلب – حقوقا للأجانب تُرتب التزامات على السلطات المحلية .
 
عندما احتلت بريطانيا مصر سنة 1882 وتوسّدت السلطة فيها تبينت أن الإمتيازات الأجنبية تحد من سلطتها وتضع عراقيل أمامها . وإذ كانت تريد سلطانا مطلقا فقد عُنيت بدراسة هذه الإمتيازات ومحاولة إلغائها أو الحدّ منها . وفى كتابه "مصر الحديثة Modern Egypt"أفرد كرومر (افلن بيرنج 5 ابريل 1841 – 1917) الوكيل العام والقنصل العام لبريطانيا فى مصر من سنة 1883 حتى 1917 الفصل الثانى عشر عن الإمتيازات الأوروبية (European Privilege) . وفى هذا الفصل ذكر أن الأجانب غير البريطانيين كانوا يحاجّونه عندما يحاول إلغاء الإمتيازات بأن البريطانيين أنفسهم طالبوا بهذه الإمتيازات وحصلوا عليها . وعلل دواعى الأجانب فى الإحتفاظ بالإمتيازات بأسباب ثلاثة سلف الإلماع إليها ، وهى :
 
أ.. الخوف من تغوّل السلطة وتعسف الإدارة وقلة إنضباط النظام الحكومى .
ب.. عدم وجود نظام قانونى عصرى ، واضح ومحدد ، يمكن على أساسه قيام جهاز حكومى حديث ، يعرف به الناس حقوقهم والتزاماتهم فى كل تصرف .
ج.. عدم وجود نظام قضائى كفء ومستقل .

 

 

 
وفى هذه الأسباب بعض الحقائق – فمما يتكرر دائما فى كتب المؤرخين المسلمين عن فترة حكم المماليك – قبل محمد على – عبارة بأن خاطر السلطان تغيّر على فلان (شخص ما) فأرسل العساكر إلى حيث قتلوه هو وجميع أفراد أسرته ، ونهبوا بيته ، ثم أحرقوه حتى صار رمادا . وفى عهد محمد على ، وإلى أن صدر دستور 1923 ، كان الحكم أوتوقراطيا ينفرد فيه الأمير أو الباشا أو الخديوى أو السلطان بالرأى ، ولا يشاركه أحد فى إتخاذ القرار . وكان يقال عنه إنه ولىّ النعم ، وهى عبارة تدل على أنه المعز المذل ، المُنِعْم المُحْرمْ . وقد أنف بيان الأمر بالنسبة للنظام القانونى ، وبالنسبة للنظام القضائى . ذلك بأنه لم يكن هناك قانون بالمفهوم العلمى ، وكان القضاة يحكمون بالفقه الذى يقولون إنه شريعة (فيما عدا قواعد الزواج والطلاق والمواريث والوصية التى وردت فى القرآن) .
 
ولم تكن هناك إجراءات لرفع الدعاوى ، ولا أسباب (حيثيات) تُكتب للأحكام ، ولا طعن بالإستئناف أو النقض على الأحكام .. وهكذا . وكان الإختصاص بالفصل فى مسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين معهودا به إلى مجالسهم الملّية ، التى تتعدد بتعدد الطوائف من أقباط أرثوذكس وكاثوليك وروم وأرمن ويهود وغيرهم . وفى هذا قال أحد رؤساء الوزارة فى مصر (نوبار باشا) إن هناك بلبلة قضائية ، إذ كان يوجد 17 (سبعة عشر) جهة اختصاص قضائى فى مصر .
 

كان من اللازم ، والحال كذلك ، أن تعمد الحكومة المصرية إلى إجراء إصلاحات يمكن معها إتخاذ خطوات لإلغاء الإمتيازات وتأكيد السيادة المصرية . بدأ ذلك بإنشاء المحاكم المختلطة سنة 1875 التى انتزعت إختصاصات المحاكم القنصلية فى المسائل المدنية والتجارية فيما يقع بين الأجانب مختلفى الجنسيات ، وبين هؤلاء الأجانب والمصريين .

فى سنة 1883 أجرت الحكومة تحديثا شاملا للقضاء المصرى (المحاكم الأهلية) يجعله قضاء عصريا وكفؤا ومستقلا . وحاولت الحكومة آنذاك تقنين أحكام الفقة الإسلامى (المسمى خطأ شريعة إسلامية) فيما يتعلق بالمعاملات المدنية والتجارية ، غير أن علماء الأزهر رفضوا هذا التقنين ، مما دعا الحكومة إلى ترجمة المجموعة المدنية المعروفة باسم (Code Napoleon) والتى كانت تطبق أمام المحاكم المختلطة لتطبق بالتالى فى القضاء الأهلى ، خاصة وأن هذه المجموعة لم تكن تختلف عن أحكام الفقة الإسلامى إلا فى القليل ، وهو أمر ثبت على مدى الأيام . ولأن الحدود (العقوبات الأربع الواردة فى القرآن الكريم عن السرقة وقذف المحصنات والزنا والحِرابة) لم تكن تطبق فى مصر طوال الإحتلال العثمانى ، بل وقبل ذلك بكثير ، فقد كان قانون العقوبات بمثابة عقوبات تعزيرية فيما تضمنه .
 
وحتى يدفع الإحتلال البريطانى الأجانب المقيمين فى مصر ، من أصحاب الإمتيازات ، إلى أداء بعض الضرائب فقد أصدرت الحكومة البريطانية قرارا فى 17 مارس 1885 يلزم رعاياها دفع الضرائب ، مثلهم فى ذلك مثل المصريين ؛ وهو ما أرادت هذه الحكومة أن تجعله أساسا ومثلا لإلزام باقى الأجانب أداء ضرائب . وبالفعل ساعد ذلك على موافقة الأجانب على دفع بعض الضرائب ، وفى 18 مارس 1891 صدر دكريتو باخضاع الأجانب فى مصر لبعض الضرائب .
 
فى 31 يناير 1889 صدر دكريتو ينظم التشريع فى المسائل الجنائية (العقوبات) بحيث لا يجوز أن تُوقع على أى شخص عقوبة الغرامة التى تزيد عن جنية مصرى أو الحبس الذى يزيد عن سبعة أيام بغير قانون يصدر بذلك سلفاً . هذا إلى أن تعرض الحكومة المصرية على الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة اقتراحاتها بسن تشريعات جنائية .

قامت ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول لتحقيق استقلال مصر من خلال محورين :-أولهما : إخراج المستعمر البريطانى فيها ، وثانيها : إصدار دستور ينظم الحكم ويرتب حقوق المواطنين . وفى 1923 صدر دستور ينظم لأول مرة فى العالم العربى أسلوب الحكم وحقوق وواجبات المواطنين ، فى صورة عصرية محددة . وكان مما شمله الدستور مبدأ أن الملك يملك ولا يحكم إلا من خلال وزارة تشكلها الأغلبية السياسية وتكون مسئولة مسئولية تضامنية أمام نواب ينتخبهم الشعب ، ومبدأ الفصل بين السلطات الثلاث : التنفيذية والتشريعية والقضائية ، واستقلال القضاء ، والمساواة بين جميع المواطنين فى الحقوق والواجبات .. إلى آخر ذلك .

 

اتجهت الحكومات المصرية المتعاقبة إلى التفاوض مع الحكومات البريطانية المتتالية للحصول على الإستقلال ، وفى 1936 توصل عدد من كبار الساسة المصريين بزعامة مصطفى النحاس إلى توقيع معاهدة ، كان المفهوم وفقا للظروف الدولية آنذاك أنها خطوة مهمة على طريق الإستقلال التام . وأهم ثمار هذه المعاهدة إلغاء الإمتيازات الأجنبية فى مصر . ففى المادتين 12 ، 13 من المعاهدة أقرت بريطانيا بسيادة مصر على جميع الأجانب المقيمين فيها وتعهدت بالعمل على مساعدة مصر فى إلغاء الإمتيازات الأجنبية التى كانت تشكل حائلا وعقبة أمام هذه السيادة . وفى 8 مايو 1937 عُقدت معاهدة مونتريه (بسويسرا) بين مصر والدول صاحبة الإمتيازات ، حيث تم الإتفاق على إلغاء الإمتيازات التشريعية والمالية والقضائية . واستردت مصر على الفور سيادتها فى القضاء الجنائى على جميع المقيمين فيها من مصريين وأجانب ، بعد أن كان الفصل فى المسائل الجنائية التى يكون أحد أطرافها أجنبى من اختصاص قنصل بلده وحده . وصدر قانون العقوبات سنة 1937 ليُنفذ على الجميع ؛ واتُّفق على إلغاء المحاكم المختلطة بعد اثنى عشر سنة ، وبالفعل ألغيت فى 14 أكتوبر 1949 ، ونفذت المجموعة المدنية الجديدة إعتبارا من اليوم التالى مباشرة . وتلى هذا إصدار قوانين للضرائب التى تسرى على الجميع دون أى استثناء .

مفاد ذلك أن الإمتيازات الأجنبية بدأت أصلا فى الأستانة – وهى فى المنشأ مدينة بيزنطة والقسطنطينية – ذات التاريخ البعيد فى منح الإمتيازات . وقد كانت الإمتيازات تُمنح بمقتضى براءة (أو فرمان أودكريتو) تصدر عن السلطان العثمانى من جانب واحد ولا تُفرغ فى صورة معاهدات أو إتفاقيات تنظم حقوق والتزامات الطرفين ، وطريقة ومدة استعمال الإمتياز ، على تقدير فقهى (غير شرعى) بعدم جواز التعاقد مع حاكم أو أمة تقع فى دار الحرب ولا توجد فى دار السلام (أو الإسلام) . غير أن هذا التقدير كان نظرا قاصرا مؤقتا ، ذلك بأن الإمتيازات التى كانت منحة صارت مع الوقت حقوقا لأصحابها ترتب التزامات على السلطنة العثمانية ، ولا تضع أى إلتزامات على المستفيدين منها ، وهو ما لم يكن ليحدث لو كانت الإمتيازات قد تحددت نتيجة معاهدات أو إتفاقيات مشتركة . ورثت مصر الإمتيازات الأجنبية من السلطة العثمانية ، بإعتبارها إيالة لها (أى آلت إليها بالغزو فصارت من أملاكها) . وتفشت الإمتيازات فى مصر نتيجة لعوامل كثيرة فصارت انتقاصاً كبيرا من سيادتها وعدوانا بالغاً على أبنائها . وحتى تستطيع مصر التوصل إلى إلغاء الإمتيازات كان عليها أن تُنجز اصلاحات مهمة لتحديث النظام الحكومى وضمان استقراره وعدم تغوّل الإدارة أو سوء استعمال السلطة (وهو ما حققه إلى حد كبير دستور 1923 ، دون النظر إلى التطبيق السىء أو التأويل الفاسد) .
 
كذلك أن تعمل مصر على وضع قوانين بالأسلوب العصرى الذى يتضمن تقنين الحقوق والإلتزامات والجرائم والعقوبات فى نصوص واضحة محددة ، تضمها مجاميع مُيسّرة مثل القانون المدنى وقانون العقوبات والقوانين الإجرائية .. إلى آخر ذلك . وقد أنجزت مصر هذا كله ، بل وقننت أحكام الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والنفقة والحضانة ..) والمواريث والوصية اعتبارا من عشرينيات القرن الماضى .
 
يضاف إلى ذلك أنه كان من اللازم إنشاء نظام قضائى حديث كفء ومستقل ؛ وهو ما عملت الحكومات المصرية المتعاقبة على تحقيقه . وفى سبيل ذلك فقد صدر قانون استقلال القضاء سنة 1943 ، وأنشىء مجلس الدولة سنة 1946 ، وأهم ما فيه اختصاص القضاء الإدارى بإلغاء القرارات الإدارية إذا شابها عيب أو انبنت على سوء استعمال للسلطة ، وقد كانت سلطة القضاء من قبل تقتصر على التعويض عن آثار القرار الباطل أو المعيب دون إلغائه .
 
هذه العناصر الثلاثة : حكومية مدنية مسئولة ، ونظام قانونى عصرى ، وقضاء كفء مستقل ، صارت هى المقومات الأساسية للدولة فى المفهوم الدولى المعاصر ، وفى المجال الإنسانى العام ، وهى التى يجب أن تكون واضحة مفهومة للجميع ، وأن يؤكد عليها كل من يريد ويعمل على احترام مجتمعه وإستقلال بلده . حتى لا تنفذ إليها قوى غريبة تفرض لنفسها إمتيازات خاصة ، تغلّفها بأسماء مختلفة وتسترها بعبارات ذات بريق . أما من يحاول العدوان على هذه المنظومة ، وتفكيك عراها ، بصورة أو أخرى ، سواء كان ذلك بتخريب النظام الحكومى بالفساد أو الرشوة أو التعسف أو بالعدوان عليه أو بتوهين قوائمه أو بتدمير قواعده ؛ أو كان ذلك بتقويض النظام القانونى (الصالح السليم) بعصيانه أو عدم إعماله أو ازدرائه أو نشر عدم احترامه ، أو كان ذلك بضرب السلطة القضائية (النزيهة الكفوة) بالإهمال أو الغش أو الجهل أو التحيز أو سحب الضمانات أو استغلال الحصانات .. أو ، أو ، أو ... من يفعل ذلك عامدا أو جاهلا فهو فى الحقيقة يضر وطنه ضررا جسيما ويؤذى مجتمعه إيذاء بالغاً .
 
  من قلم   :  المستشار محمد سعيد العشماوي

عندما تتحدى أبل الجميع

$
0
0

بالأمس كان مؤتمر أبل للمطورين، وكما أشرنا في مقالنا التفصيلي الخاص بالمقال -هذا الرابط- أنه جاء للمطور تحديداً فلم تكشف أبل عن أي أجهزة لكن فقط أنظمة. المؤتمر أصبح حديث الوسط التقني وأيضاً الكثير من المستخدمين بالإضافة إلى الشركات. نعم فنظام أبل لم يستهدف فقط المستخدم والمطور بل أعلنت أبل فيه ضمنياً تحدي كبرى الشركات التقنية في العالم. فهل تستطيع أبل التحدي؟

سعت أبل إلى تقديم خدمات وتطبيقات وأدوات مختلفة، هذه المنتجات تأتي بقوة وجودة عالية تدفعها لتحدي كبرى الشركات التقنية، في الأسطر التالية سوف نستعرض المجالات الجديدة التي تدخلها أبل بخدماتها. وسنكتفي بذكر المزايا بشكل مختصر لكن في المقالات القادمة سوف نشرح كل ميزة بشكل أكثر تفصيلاً

أبل تتحدي دروب بوكس

منذ أن أطلقت أبل خدمات السحابة “آي كلاود” وهى تعرف بأنها ميزة سحابية مختلفة عن المنافسين، تستخدم لمزامنة الصور والأسماء والمواعيد والبريد وحفظ نسخ احتياطية وتوفير حزمة تطبيقات مكتبية iWorks. لكن لا تستطيع تخزين ملفاتك الشخصية بها كما تفعل خدمات شهيرة مثل DropBox. مع صدور النظام الجديد سيكون لديك مجلد في جهازك سواء ويندوز أو ماك وفيه تستطيع وضع أي ملف ليحفظ في السحابة، ويمكنك من جهازك الذكي تصفح هذه الملفات وفتحها على أي تطبيق. قوة خدمة أبل أنها تأتي مدمجة في نظام ماك، وأيضاً ذات أسعار منافسة جداً فمقابل 0.99$ شهر تستطيع الحصول على 20 جيجا، ومقابل 3.99$ تحصل على 200 جيجا في حين تكلفك دروب بوكس 9.99$ شهري لتحصل على 100 جيجا.

تستطيع إنشاء حساب دروب بوكس على حاسبك من هذا الرابطأو تحميله على هاتفك

أبل تتحدى إيفرنوت سكتش

أتى نظام 10.10 بميزة تدعى Markup وهى تمكنك التعديل السريع على أي صورة أم ملف PDF على جهازك فتضع عدسة مكبرة وأسهم وتعليق وغيرها من الأمور. هذه الميزة متوفرة بواسطة تطبيقات حالياً وأشهرهم تطبيق سكتش من شركة إيفرنوت العملاقة. أبل توفر الميزة بشكل أكثر جودة وأسرع وأفضل من سكتش ومعظم التطبيقات الشبيهة.

تستطيع تحميل سكتش على حاسبك من هذا الرابطأو تحميله على جهازك

آبل تتحدي واتس آب

واتس آب هو تطبيق المحادثة الأشهر عالمياً، بالأمس قامت أبل بتحديث تطبيق الرسائل بشكل جذري حيث أضافت إمكانية إنشاء المجموعات وإرسال الرسائل الصوتية بشكل سريع وكذلك التصوير والفيديو وإمكانية الرد عليهم بدون فتح التطبيق وعشرات المزايا الأخرى والتي تضيف إليها إمكانية الإرسال من الحاسب الشخصي ومشاركة الموقع لفترة زمنية وهى أمور غير متوفرة في المنافسين. تبقى فقط أن تطلق أبل تطبيق آي ماسج في الأندرويدوهنا يمكننا القول أنها ستهز عرض الواتس آب

أبل تتحدى خدمات البريد

تضع تطبيقات البريد الإلكتروني بمختلف أنواعها حجم أقصى للإيميل الذي ترسله، فماذا إن كنت تريد إرسال ملفات حجمها مثلاً 250 ميجا أو 1 جيجا بالبريد؟! هذا غير ممكن، لكن أبل قررت توفير بديل واستخدام طريقة موجودة في بعض الخدمات مثل “Hightail” وهى إرسال الرسالة كما هى في بريدك الحالي لكن استخدام السحابة لإرسال المرفقات كما يظهر في الصورة في أعلى، وهذا سيجعل الكثيرون يعتمدون عليها لأنها توفر خدمة مجانية حتى 5 جيجا

أبل تتحدي تطبيقات تعرف الموسيقى

نسعى دائماً لعدم ذكر الأخبار الموسيقية والأغاني لما لها من حرمة شرعية، لكن أبل سعت لتطوير خدماتها في هذا الاتجاه فأضافت دعم خدمة “Shazam” مع سيري لتستطيع التعرف على أي مقطع صوتي يعمل، بهذه الطريقة تدخل أبل منافسة شرسة في هذا المجال مع العديد من الخدمات والتي يحصل بعضها على دعم من منافستها جوجل ليتعرف صوتياً ويظهر نتائج البحث من اليوتيوب. ونضيف إلى هذا شراءها لشركة  Beats بالإضافة لقوة الآي تيونز، نتخيل الآن قوة أبل في هذا المجال.

أبل تتحدى طموحات جوجل المنزلية

عملاق الإنترنت جوجل يضع نصب عينيه منازل المستخدمين، استحوذ على Nest الشهيرة في التعرف على درجات الحرارة والتنباً بالحرائق وغيرها، وحالياً يتحدث الجميع أن جوجل قد اقتربت من الاستحواذ على Dropcam شركة الكاميرات التي يستخدمها الكثيرون لمتابعة منازلهم وأعمالهم، والكثير من الأخبار تأتي أن جوجل تريد إطلاق خدمات الأندرويد للمنازل. لكن أبل قررت أن تسبق وأطلقت حزمة المنزل وأعلنت التعاون مع كبرى الشركات التي تقدم أجهزة ذكية للمنازل ليدعموا نظام iOS وتستطيع التحكم في منزلك من الهاتف بواسطة سيري، تخيل أن تقول سيري أغلق باب المنزل وافتح النور وشغل التلفاز وكم تبلغ حرارة المنزل الآن وغيرها.

أبل تتحدى فيسبوك “Parse”

خدمة لن تهم المستخدم العادي لكنها للمطورين حيث وفرت أبل حزمة تطبيقات وخدمات سحابية للمطور تحتعنوان “CloudKit” وهى تعد منافس للموقع الشهير Parse والذي يعد أشهر خدمة يلجأ إليها المطور العادي والمحترف أيضاً وهى مملوكة لشركة فيسبوك. أبل تريد تحدي شركة أخرى للفيسبوك.

أبل تتحدى ياهوو

ياهوو يمكننا القول أنها صديقة أبل الصدوق، لسنوات اعتمدت أبل عليها في الكثير من الخدمات مثل الأسهم ودرجات الحرارة ومحرك بحث. كما تفخر أبل بوجود بعض تطبيقات ياهوو الحصرية في متجرها ومنحت تطبيق أخبار ياهوو جائزة التصميم في مؤتمرها أمس وأيضاً بالأمس عندما أرادت ضرب مثال على تطبيق بريد فتحت ياهوو، كما رأينا صوراً للقاءات جماعية بين جوني إيف نائب رئيس أبل مع رئيسة ياهوو والعديد من رجال الصناعة، وانتشرت الأخبار أن ياهوو ستضغط على أبل لتجعلها الخدمة الافتراضية في البحث بدلاً من جوجل. كل هذا وتصدر المفاجئة، تطبيق الطقس يأتي بدعم من خدمة “The Weather Channel” الشهيرة وليست ياهوو. أبل أطاحت بطقس ياهوو الذي تعتمد عليه منذ اليوم الأول.

أبل تتحدى أبل

لا يوجد خطأ في العنوان، أبل قررت تحدي تطبيقاتها وخدمات هى تقدمها منذ سنوات، حيث طورت بشكل كبير تطبيق الصور وأضافت إليه ميزة إصلاح الصور بشكل احترافي وهى بذلك تنافس iPhoto و Aperture الذين تقدمها أبل نفسها للتعديل على الصور في الحاسب ويوجد الآي فوتو في نظام iOS. من رقى إلى iOS 8 قال أن تطبيق iPhoto أصبح لا يعمل ويخبر المستخدم أنه نقل كل شيء إلى تطبيق الصور الرسمي.

الخلاصة:

هذه ليست كل الخدمات والصراعات الجديدة التي تدخلها أبل، بالطبع أبل لن تهزم الشركات السابقة بسهولة فهذه ليست بالشركات الهينة، لكن أبل هى الأخرى ليست بالشركة الصغيرة. واتس آب لن يهزم بسهولة، دروب بوكس كان وسيظل ربما لسنوات الخدمة السحابية الأولى، فيسبوك، إيفرنوت، ياهوو، جوجل وغيرهم شركات عملاق وستظل كذلك، لكنهم الآن وجدوا منافس قوي مثل أبل.

منازل المستقبل: عودة إلى 1984

$
0
0
منازل المستقبلفي مدينة "سياتل"على الساحل الغربي للولايات المتحدة، ثمة ضاحية يعرفها الأهلون جيداً. إنها ضاحية "ريدموند"التي تستضيف المقر الأساسي لشركة "مايكروسوفت"العملاقة. لا يدخل المُجمّع الضخم لتلك الشركة إلا العاملون فيه، أو من يملكون إذناً للزيارة. وتنطوي جنباته على الأسرار التكنولوجية المعقّدة التي صَنَعَتْ (ولا تزال) قصة نجاح مذهل. تروي القصة ظهور نظام "ويندوز"على يد طالب يعمل في الكاراج الخلفي لمنزل أسرته، ثم هيمنته على ما يزيد على تسعين بالمئة من كومبيوترات العالم.
 
وتُنظّم الشركة زيارات صحافيّة إلى ذلك المقر، في مناسبات تكاد لا تنقطع. وهناك، يُنظر إلى قسم "البحوث والتطوير" Research & Development في الشركة باعتباره تجمعاً لأصحاب الأدمغة "المشتعلة"التي لا تطيق أن تفكر بالطرق التقليدية. وفي ذلك القسم، يغدو الحديث عن التكنولوجيا الرقميّة غرائبياً. وفي جنباته، تضحي حتى أشد الأفكار غرائبية شيئاً "مبتذلاً"وعادياً وشائعاً. ولعل كثيرون من غير المعتادين على النيران المتّقدة في عقول المُبدعين، ربما ظنّوا "قسم البحوث والتطوير"في "مايكروسوفت"، موئلاً لمن انفلت خيالهم ولم يعودوا بقادرين على السيطرة عليه. لنقل أن أحداً خرج بفكرة "ضخمة"تقول أنه يمكن للكومبيوتر المحمول باليد أن يتطور إلى درجة يصبح فيها قادراً على صنع المؤثرات البصرية والصوتية المتطورة للأفلام، مثل تحويل صورة لمنزل ريفي إلى شريط عن الحياة اليومية في الشتاء، مع المطر المتهاطل والتماع البرق ودوي الرعد وتدفق الجداول. بعد هنيهة، تبدو تلك الفكرة مبتذلة لأن مختبر "مايكروسوفت"في العاصمة الصينية بكين، الذي يرتبط بالانترنت مع هذا القسم، أنجزها منذ بضع سنوات!
 
سيارة الشرطة "تقرأ"المنزل!
 
يحتوي قسم "البحوث والتطوير"في مجمع "ريدموند"على جناح لا يكف عن التبدّل ويقصده الكثير من الزوار: "البيت الذكي". وثمة منزل يشبهه على الطرف الآخر من الكرة الأرضية، في "سيول" (عاصمة كوريا الجنوبية) تُشرف عليه شركة "سامسونغ"للالكترونيات. وهناك ما يشبه تلك الأشياء في قسم متخصّص بما يشار إليه باسم "الحوسبة الشاملة  في "معهد ماساشوستس للتقنية"في الولايات المتحدة. وعبر تلك النماذج وغيرها، يقدم خبراء التكنولوجيا الرقمية ما يفترض أن يكون صورة لما ستصير إليه منازلنا مستقبلاً، وغالباً من منظور شركات الكومبيوتر والانترنت. وتشترك تلك "المنازل الذكية"في أشياء كثيرة. على الرغم من الحرص على أن يبدو أثاثها مألوفاً، وأحياناً مع لمسة كلاسيكية، إلا أن لا شيء فيه تنطبق عليه صفة المألوف. ومثلاً، فإن أجهزة المطبخ تدار بالكومبيوتر، الأصح القول أن كل منها يحتوي على كومبيوتر صغير "مدفون"في ثناياه. فعلى باب البرّاد (الثلاجة)، هناك شاشة للحاسوب الذي يديرها، كما أنه موصول إلى الانترنت. ويلتقط ذلك  الكومبيوتر معلومات عن محتويات البرّاد، بفضل أشرطة الكترونية مُشفّرة مثبتة في أشيائها. تسمى تلك الأشرطة بـ"لوح الشيفرة" ("بار كود" Bar Code)، التي هي علامات إلكترونية تبث أشعة راديو شديدة الضآلة. هل قابلت يوماً لوح "بار كود"؟ أنت تراه يومياً في أسفل السلع التي نشتريها من "السوبر ماركت" (وبعض المكتبات ومحال بيع الملابس) والتي تعطي السعر عن تقريبها من أداة تقرأها، غالباً من خلال مرور ضوء أحمر عليها.
 
لنعد إلى "المنزل الذكي". في ذلك المكان، تتميّز "ألواح الشيفرة"في البرّاد بأنها متقدّمة عن تلك التي نراها راهناً. إذ تحتوي على معلومات تفصيلية مثل السعر وتاريخ انتهاء الصلاحية ومكان الصُنع وغيرها. وثمة أنواع منها "تقيس"الكمية التي تنقص من المحتويات كزجاجة المشروبات الغازية وأو قطعة اللحم أو الخضر والفواكه. إذا شارفت على الانتهاء، يرسل "لوح الشيفرة"رسالة قصيرة إلى كومبيوتر البرّاد، وهو متصل بالانترنت، ما يتيح لصاحب الدار الاتصال بالسوبرماركت لتجديد محتويات البرّاد.
 
ويمكن برمجة ذلك الكومبيوتر عينه، بحيث يتصل بالسوبرماركت مباشرة (بعبارة أدق، يتصل بكومبيوتر آخر في السوبر ماركت) ويُعدّ طلبية بالمشتريات المطلوبة. هناك أنواع متطورة من تلك الألواح، بحيث يمكن الكتابة عليها أيضاً. فمثلاً، إذا اشتريت مقعداً "ذكياً"، يُرسل إليه جهاز متخصص معلومات عنك تتضمن اسمك وعنوانك ورقم هاتفك، لتُضاف إلى المعلومات التي يحتويها "اللوح الذكي"أصلاً مثل السعر ونوعية الخشب والمصنع والمصدر والمستورد وغيرها.
 
أشباح قاتمة
 
على رغم مظهرها البريء، فإن كل محتويات "المنزل الذكي"تضم أنواعاً متنوعة من تلك الأشرطة الالكترونية المُشفّرة. وتنام تلك الألواح التي يرى فيها البعض تحدّ ضخمم لخصوصية الأفراد ولحقهم في الحفاظ على الحرية الشخصية، في خزانة الملابس والثياب والبرادي والتلفزيون والراديو وجهاز "هاي فاي"والكراسي والأسرة والمقاعد وغيرها. ومثلاً، تفتح خزانة الملابس، وتقرأ على الشاشة ما تحتويه من ثياب لكي تختار منها ما يناسبك. وعندما تُخرج قميصاً لتلبسه، تنتقل المعلومات عنه في كومبيوتر الخزانة من ملف "الموجودات"إلى ملف "قيد الاستخدام". وإذا وضعت القميص عينه في السلة المخصصة للملابس التي يجب إرسالها للكوي، تنقل المعلومات عنه إلى ملف آخر؛ وكذلك الأمر إذا وضعته في سلة الغسيل وهكذا دواليك. وينطبق الأمر على الساعة وزجاجة العطر والعقد والاسوارة والحلق والبروش وغيرها.
 
 وثمة أنواع من الحواسيب متخصّصة في الالتقاط موجات الراديو الواهية التي تصدر من تلك الألواح، وبالتالي قراءة ما تحمله من معلومات وتفاصيل. لنفترض أن لصّاً دخل المنزل، فسيرشده ذلك النوع من الكومبيوتر إلى "ما خفّ حمله وغلا ثمنه".
 
وكذلك يستطيع ضابط الشرطة أن يتعرف إلى محتويات المنزل كلها، مع تفاصيل تامة عنها تتضمن عمليات بيعها وشرائها ونقلها من مشتر إلى آخر، بمجرد دخوله إلى المنزل، ومن دون الحاجة إلى إذن صاحب المنزل! وأكثر من ذلك، تستطيع سيارة الشرطة، في زمن لم يعد بعيداً، التعرّف إلى محتويات المنازل بمجرد مرورها في الشارع. ويعني ذلك أن الدولة ترى أفرادها وتفاصيل حياتهم ودواخل بيوتهم، ومن دون إذن منهم، وعلى مدار الساعة. وبديهي القول أن ذلك يعطي أجهزة الدولة سلطات وسطوات أكثر هولاً مما تحوزه راهناً، ما يعني تضاؤلاً مستمراً للحريات الشخصية والفردية والعامة. إنها صورة أشد هولاً (بما لا يُقاس) مما تخيّله الروائي الانكليزي الراحل جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984"، حيث "الأخ الأكبر" (وهو كنية الحاكم المطلق المستبد في تلك الرواية) يُطل على الناس عبر شاشات مثبته في منازلهم ولا يجرؤن على إطفائها. إنه "الأخ الأكبر"وقد بات قادراً على مشاهدة ما يدور في دواخل البيوت وخلف الجدران وفي خبايا الخزانات وأسرة النوم وحتى الملابس والمأكولات والأثاث. هل تثق بالدولة إلى هذا الحدّ، حتى بعد فضيحة سنودن، وانكشافات "فايسبوك"و"واتس آب"، واختراقات الهاكرز، والحروب المعلوماتية بين الدول وغيرها؟ يحتاج الأمر إلى نقاشات أكثر اتساعاً.

الوطن يابني رقم واحد ... وبعد مية يجي العالم ... الوطن ناموس للي يخجل

$
0
0
فهم مغزى السياسة ومواقف الدول, يتطلب منا التنقيب عن ترابط الحوادث والأحداث. فالسياسة علم وليست تكهنات أو تخرصات, أو شعوذة وسحر, أو قراءة بالفنجان. فمواقف الدول تحكمها المصالح لا العواطف أو الشفقة على متسول يقرع عليهم الأبواب. لا أريد رسم صورة جاهزة للقراء الكرام. ولكنني سأشاركهم جولة أفق بعض الأحداث. فربما نخرج بتصور واضح عن حقيقة بعض المواقف المعلنة أو تلك التي تحاك بعيداً عن أعين الناس. 

اجتاح ما يطلق عليه الربيع العربي تونس. فسارعت واشنطن وإعلامها ودول أوروبية وعربية بتأييد ودعم نظام زين العابدين بن علي. وعلا ضجيج مسؤوليهم بإشادتهم بزين العابدين وبنظامه. رغم تصنيف جماعات حقوق الإنسان الدولية وصحيفة الإيكو نومست نظامه بالاستبدادي وغير الديمقراطي, وانتقاد منظمة العفو الدولية وبيت الحرية والحماية الدولية المسؤولين التونسيين بعدم مراعاة المعايير الدولية للحقوق السياسية, وتدخلهم السافر في عمل المنظمات المحلية لحقوق الإنسان. 

والإكونومست صنفت تونس لسنة 2010م في الترتيب 144 من بين 167 بلدا شملتها الدراسة. ومن حيث حرية الصحافة فإنها صنفت تونس في المرتبة 143 من أصل 173 سنة 2008م. وكل ما فعله زين العابدين بن علي طيلة حكمه يتلخص : بالحفاظ على علمانية الدولة. وحظر حركة النهضة وحزب العمال الشيوعي التونسي نظراً لشعبيتهما العالية لدى الأوساط الدينية وخاصة العمالية. ومنعه صحيفة الموقع التي يديرها الحزب التقدمي والمعارض أحمد نجيب الشابي من الصدور مرات عدة. 

وطمسه قضية اغتيال شاب تونسي اخترق الشبكة المعلوماتية لقصر قرطاج واكتشف أسماء عملاء للموساد يعملون للتجسس على قادة منظمة التحرير الفلسطينية بتونس في الثمانينات, وادعت السلطات التونسية أنه قتل في حادث سيارة. وزين العابدين كان اكثر الرؤساء انفتاحاً على الغرب، وجعل تونس من أكثر الدول العربية المنفتحة على أوروبا. ومنع الحجاب الذي وصفه بالزي الطائفي. وأعاد الصوفية إلى البلاد، وسمح للكنائس بممارسة طقوسها. وفتح الباب للفساد ليستشري بكل شيء. 

حيث تحكم في الاقتصاد 3 عائلات "الطرابلسي"وبن عياد"وبشكل ضئيل "بن يدر"وجميعها متصاهرة, ولديها ميليشيات خاصة تتجسس من خلالها على المواطنين من المقاهي ومكتبات الجامعات إلى الاحياء ومؤسسات الدولة. وأصهار زين العابدين وأقارب زوجته يملكون شركات الاتصالات والإنترنت والسياحة ومساحات زراعية شاسعة وذلك لحكم البلاد اقتصادياً بقبضة من حديد. واغلق مكتب قناة الجزيرة, وحجب موقعي YouTube وdaily motion. وبدا تردد زين العابدين بن علي في بداية الربيع العربي واضحاً للعيان, ولكنه بعد ان حسم أمره أقال عدد من الوزراء بينهم وزير الداخلية. 

وزار البوعزيزي في المستشفى, ووعد بمعالجة المشاكل التي خرجت لأجلها المظاهرات. وأعلن عدم ترشحه لانتخابات الرئاسة عام 2014م. فتحول تأييد الدول والانظمة له بلمح البصر إلى تأييد مطالب المتظاهرين بإزاحته وتحميله المسؤولية. وفجأة نقلت وسائط الاعلام خبر هروبه وهبوط طائرته في جدة. وحال مصر كحال تونس. فحينما أجتاح الربيع العربي مصر, صلب مبارك موقفه في البداية. 

ودعم محور قطر تركيا الربيع العربي في مصر كما دعمه في تونس من قبل. وسارعت واشنطن والدول الغربية ودول مجلس التعاون الخليج عدا قطر لدعم وتأييد نظام الرئيس مبارك رغم الانتقادات الموجهة إليه: بإصراره على التمسك بالحكم, وتوريثه الحكم لنجله من بعده. وكذلك عدم تحقيق ما وعد به من تحقيق الاستقرار الاقتصادي, وحماية محدودي الدخل. ومعاناة الاقتصاد من مشاكل كبيرة رغم تبنيه عمليات الخصخصة التي ثبت عدم جدوها وإهدارها للمال العام. وفشله بكبح نسبة البطالة والتي ارتفعت معدلاتها بنسبة كبيرة. إضافة إلى تغاضيه عن تحكم عدد قليل من أصحاب رؤوس الأموال في مقدورات مصر. 

مما أدى إلى استشراء الفساد. كما أن عصره شهد تزايد الإضرابات العمالية, وانتشار ظاهرة التعذيب في مراكز الشرطة. واستفحال ظاهرة العنف ضد المرأة. وازدياد عدد المعتقلين في السجون، إذ وصل عدد المعتقلين السياسيين إلى ما يقرب من ثمانية عشر ألف معتقل إداري. وتحكم المخابرات بالحكم حيث وصل عدد العاملين في أجهزة الأمن المصرية 1.7 مليون ضابط وجندي ومخبر. وهو ما يعني أن هناك عسكريا لكل 47 مواطناً مصرياً. وفي عصره تزايد عدد الفقراء. حيث أشار تقرير نشر في شباط 2008م أن 11 مليون مواطن يعيشون في 961 منطقة عشوائية.

وتفاقمت الأزمة الاقتصادية على إثر بعض السياسات الاقتصادية بسبب تحكم 2% من المصريين في 40% من جملة الدخل القومي. وارتفعت معدلات التضخم بصورة ضخمة, وتضاعفت الأسعار بسبب تحرير سعر الدولار. وجعل قوانين الطوارئ سارية طيلة فترة حكمه. وعارض مشروع بناء جسر بري يربط مصر والسعودية عبر جزيرة تيران في خليج العقبة بين رأس حميد في تبوك شمال السعودية، ومنتجع شرم الشيخ المصري لتسيير حركة تنقل الحجاج ونقل البضائع بين البلدين حتي لا يؤثر علي المنتجعات السياحية في مدينة شرم الشيخ. وصنفته مجلة باردي الأمريكية بالديكتاتور رقم 20 الأسوأ على مستوى العالم لعام 2009م, وصنفته بالديكتاتور رقم 17لعام 2008معلى مستوى العالم. 
وصنفته مجلة فورين بوليسي الأمريكية في المركز الخامس عشر في قائمة أسوء السيئين لعام 2010م, حيث تعتبره فورين بوليسي حاكم مطلق مستبد يعاني داء العظمة وشغله الشاغل الوحيد أن يستمر في منصبه. وحين فشلت اجهزة الأمن بقمع المتظاهرين, ورفض الجيش أوامره بقمع المتظاهرين, عين نائباً له هو اللواء عمر سليمان. وأصدر مجموعة قرارات وصفها بإصلاحات. وأعلن عن عدم ترشحه لفترة رئاسية جديدة. وبعد مماطلة لثمانية عشر يوماً تنحى وسلم الحكم للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية. حينها وعلى حين غرة تحول الدعم والتأييد من واشنطن وحلفائها لمبارك ونظامه, إلى دعم وتأييد للمتظاهرين, ومطالبتهم برحيل مبارك.

والأسئلة التي ستبقى بلا جواب لعقود, لعلاقتها بالأمن القومي الاميركي, تتلخص بما يلي :
هل زين العابدين هرب كما جاء في الأخبار, أو رُحل رغماً عنه بأمر من واشنطن وباريس, أو أن بعض المسؤولين في نظامه هم من انقلبوا عليه وأخرجوه عنوة؟
ولماذا سحبت واشنطن ودول غربية وعربية تأييدهم لكل من زين العابدين ومبارك فور اعلان كل منهما عدم ترشيح نفسه لولاية جديدة, وقطعه وعود بالإصلاح؟ 
وهل ركوب واشنطن موجة الثورة إنما كان هدفه التفتيش عن حاكم جديد يتابع مسيرة تأمين اهدافهم ومصالحهم السرية والمعلنة, ومتابعة محاربة التيارات الاسلامية؟ 

وهل حجم أعداد المتظاهرين في المدن والقرى هو من أقنعهم بأن تعويم كل من زين العابدين ومحمد حسني مبارك بات مستحيل, فقرروا التضحية بهما لكسب ود المتظاهرين. وترك زمام قيادة الوضع التونسي لمحور تركيا وقطر الداعم للربيع العربي, وتوجيه هذا المحور من بعيد, فتركيا عضو في حلف الناتو وقطر قاعدة عسكرية امريكية في الخليج. وترك زمام القضاء على جماعة الإخوان المسلمين لمحور الرياض؟

وما هو سر ازدواجية كل من محور الرياض ومحور قطر وتركيا. حيث يتصارعان في مصر وليبيا, ويحتدم الخلاف بينهما في أكثر من مكان. ومختلفان حول الوضع الفلسطيني حيث تدعم قطر حركة حماس بينما تدعم الرياض الرئيس الفلسطيني محمود عباس. ومتفقان في البحرين وسوريا ولبنان, ومتفقان في التصدي لأهداف إيران الصفوية, وفي نفس الوقت يتسابق زعماء المحورين لزيارة إيران والتودد إليها؟

وهل أرادت صحيفة الحياة اللندنية تشويه صورة الربيع العربي وتجريم جماعة الإخوان المسلمين و قطر وأروغان واتهامها بالعمالة لواشنطن من خلال نشرها حواراً أجرته مع رجل مبارك والمرشح الخاسر في الانتخابات المصرية أحمد شفيق, ونشرته بوابة الشروق؟. وأهم ما جاء في هذا الحوار, قول احمد شفيق: الرئيس السابق محمد حسني مبارك، كان يعتقد أنه يستطيع الاقامة في شرم الشيخ، ومن دون التخلي تماماً عن الحكم. إلا أنه عندما قالت أميركا، أن عليه التخلي عن الحكم الآن ، فإن موقفها أدى إلى الإسراع في تنفيذ رغبات المصريين برحيله. وأن الربيع العربي خطة إخوانية مغذاة من الخارج. وقطر كانت اليد الرئيسية، وليس مؤكداً أن تكون تركيا، وقد نجح الإخوان في أن يخدعوا بعض الدول وبينها واشنطن. وقطر دعمت الإخوان وليس الثورة، ومازالت تدعمهم لتتحكم في مصر، والتي هي عقدة قطر. وقد يكون رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي، ممن ساهموا في التخطيط للربيع العربي؛ لأنه صاحب مصلحة فيما حدث. وجماعة الإخوان المسلمين، تلقت فيضان أموال من الخارج، خصوصًا من قطر، وهي العمود الفقري للإخوان ماليًا. وحصلوا أيضاً على أموال من غيرها, لكنها تنفق عليهم منذ أعلنوا خوض الانتخابات في مصر. وهناك مبلغ نريد أن نعرف قصته، وهو 50 مليوناً من الحكومة الأمريكية.

ولماذا تدعم واشنطن كل من محور الرياض ومحور تركيا وقطر, رغم أن محور قطر تركيا يدعم جماعة الإخوان المسلمين بينما يحاربهم ويتهمهم محور الرياض بالإرهاب؟

ولماذا هذه الحرب الاعلامية المستعرة والضروس بين وسائط إعلام كل من المحورين وخاصة بين فضائية العربية بوق محور الرياض وفضائية الجزيرة بوق محور تركيا قطر؟

وهل سيتكرر سيناريوا ما حصل في مصر على يد الفريق السيسي في ليبيا وتونس؟

ولماذا لا تجرأ قطر وتركيا على انتقاد دعم الرياض وواشنطن للنظام الجديد في مصر وللأعمال العسكرية التي يقودها اللواء حفتر لإجهاض ثورة الربيع العربي في ليبيا, بينما يكتفيان بالتهجم على النظام الجديد في مصر ومناصبة الفريق السيسي العداء؟ 
ولماذا تكافئ قطر واشنطن على موقفها المنحاز لمحور الرياض بجهودها الحثيثة لمفاوضة وإقناع حركة طالبان على إطلاق سراح المعتقلين لديها الجنود الأميركيين والأوروبيين؟

وهل الهدف من تمزيق كل معارضة من المعارضات العربية والاسلامية إلى معتدلة و متشددة وأصولية وأجانب تسهيل مهمة القضاء على التنظيمات الاسلامية؟

ولماذا لم يتفاقم الصراع الدموي في اليمن بعد انتصار الربيع العربي في اليمن بعد موافقة الرئيس علي صالح بالمبادرة الخليجية وتنازله عن الحكم لنائبه؟

من يدقق المعطيات السابقة أعلاه يستنتج: بأن حرية وحقوق الانسان, وترسيخ قيم الحرية والديمقراطية في المجتمعات والدول العربية والاسلامية ليست هدف واشنطن وحلفائها وعشاقها ومحبيها على الاطلاق. فالصراعات تزداد حدة في كل من مصر والسودان وليبيا وتونس واليمن وسوريا والعراق ولبنان والصومال. وكل ما يهمهم: ضمان بقاء وأمن ومصالح إسرائيل في الدرجة الأولى. وحماية مصالح واشنطن وحلفائها وحلف الناتو ثانياً. ومحاربة العروبة والاسلام بذريعة محاربة الإرهاب بأنظمة وقوى وإمكانيات عربية وإسلامية ثالثاً. وضمان المحافظة على أنظمة وحكومات وحكام وعروش رابعاً. ومن بعدهم فليكن الطوفان. والمحزن تهافت البعض لكسب ود حكام واشنطن وحلفائها والذين هم سبب ما نشكو منه.

الإسلام بين جهل أبناؤه وعجز علماؤه-٢

$
0
0

 

بقلم : عبدالقادر عوده رحمه الله
 
التي كان المؤلفون يسيرون عليها من ألف عام وليست مبوبة تبويبًا يسهل الانتفاع بها، وليس من السهل على من يحب الاطلاع على مسألة بعينها أن يعثر على حكمها في الحال، بل عليه أن يقرأ بابًا وأبوابًا حتى يعثر على ما يريد. وقد ييأس الباحث من العثور على ما يريد ثم يوفقه الله فيعثر عليه مصادفة في مكان لم يتوقع أن يجده فيه، وقد يقرأ الباحث في الكتب الشرعية. فلا يصل إلى المعنى الحقيقي لجهله بالاصطلاحات الشرعية والمبادئ الأصولية التي تقوم عليها المذاهب الفقهية. وإني لأعرف كثيرين حاولوا جادين أن يدرسوا الشريعة فعجزوا عن فهمها وتشتت ذهنهم، وضاع عزمهم بين المتون والشروح والحواشي، ولو أن هؤلاء وجدوا كتبًا في الشريعة مكتوبة على الطريقة الحديثة، لاستطاعوا أن يدرسوا الشريعة الإسلامية ولأفادوا واستفادوا.


ولطائفة المثقفين ثقافة أوروبية ادعاءات غريبة عن الشريعة، بل هي ادعاءات مضحكة. فبعضهم يدعون أن الإسلام لا علاقة له بالحكم والدولة، وبعضهم يرى الإسلام دينًا ودولة. ولكنهم يَدَّعُونَ أن الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر فيما يتعلق بأحكام الدنيا، وبعضهم يرى أن الشريعة تصلح للعصر الحاضر، ولكنهم يدعون أن بعض أحكامها مؤقت فلا يطبق اليوم وبعضهم يرى أن الشريعة تصلح للعصر الحاضر، وأن أحكامها دائمة ولكنهم. 
يدعون أن بعض أحكامها لا يستطيع تطبيقه، خشية إغضاب الدول الأجنبية، وبعضهم يَدَّعِي أن الفقه الإسلامي يرجع إلى آراء الفقهاء أكثر مما يرجع إلى القرآن والسنة.


هذه هي ادعاءاتهم الشائعة، وهي ادعاءات لا قيمة لها لأنها صادرة من أناس يجهلون الشريعة، ومن جهل شيئًا لا يصلح للحكم عليه، فإذا حكم فحكمه ادعاء لا يقين، ودعوى مجردة من الدليل 


والواقع أن هذه الادعاءات جميعًا ترجع إلى عاملين.
أولهما: الجهل بالشريعة.
وثانيهما: تأثرهم بالثقافة الأوروبية، ومحاولتهم تطبيق معلوماتهم عن القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية، ولا أدل على سقوط هذه الادعاءات من تناقض أصحابها. فما يدعيه البعض ينقضه البعض الآخر، وما يقيمه بعضهم يهدمه البعض الآخر، وسنتناول فيما يلي هذه الادعاءات واحدًا بعد واحد، ونبين بطلانها بعون الله.


أَوَّلاً - الادِّعَاءُ بِأَنَّ الإِسْلاَمَ لاَ عَلاَقَةَ لَهُ بِالحُكْمِ:
يدعي بعض المثقفين ثقافة أوروبية أن الإسلام دين، وأن الدين علاقة بين الإنسان وربه، ولا صلة له بالحكم والدولة، ولكنك إذا سألتهم: إن كان هذا الرأي في القرآن والسنة، أخذوا وبهتوا وعجزوا عن الإجابة، ذلك أنهم ليس لهم سند يستندون إليه في هذا الادعاء، إلا ما درسوه في ثقافتهم الأوروبية، وما تعلموه  من أن الأنظمة الأوروبية تقوم على الفصل بين الكنيسة والدولة وقد تأثروا بهذه الدراسة حتى ليحسبون أن ما تعلموه ينطبق على كل بلد. ويسري على كل نظام. ولو عقلوا لعلموا أن الأنظمة الوضعية والثقافة الأوروبية لا تصلح حجة في هذه المسألة، وإنما الحجة التي لا تدحض هي النظام الإسلامي نفسه. فإذا كان هذا النظام يفرق بين الدين والدنيا ويمزج بين العبادة والقيادة، ويحتضن المسجد والدولة، فادعاؤهم باطل، أو افتراء واختلاق.


...


جمعني مجلس منذ سنوات مع بعض الشبان الذين أتموا دراستهم القانونية في مصر، وتناول الحديث الإسلام والشريعة والإسلام والحكم فوجدتهم يعتقدون أن الإسلام لا علاقة له بشؤون الحكم والدولة فأخذت أبين لهم وجه الخطأ في هذا الاعتقاد. وأخذت عليهم أنهم وهم رجال قانون يحكمون على الإسلام بأنه لا يجمع بين الدين والدولة بغير دليل من الإسلام، ولكن أحدهم قاطعني وقال: «ائتنا أنت بنص من القرآن، ومن القرآن وحده. يدل على أن الإسلام يجمع بين الدين والدولة». وفهمت ما يريد فقلت: «أما يرضيك نص من السُنَّةِ؟»، قال: «لا، إن القرآن هو دستور الإسلام». ونظرت زملاءه فرأيتهم مقرين. فعجبت لهؤلاء الفتيان الذين يؤمنون أشد الإيمان بالقرآن، وهم أجهل الناس بالقرآن، وحزنت على هؤلاء المسلمين الذين دفعهم جهلهم بالقرآن. إلى إنكار حكمين من أظهر أحكام القرآن (أولهما): أن الإسلام يمزج الدين والدولة، (وثانيهما): أن السُنَّةَ المطهرة حجة على كل مسلم ومسلمة كما أن القرآن حجة على كل مسلم ومسلمة.


إن هؤلاء الشبان المسلمين المؤمنين بالقرآن يجهلون أن القرآن نص على عقاب القاتل والمحارب والسارق والزاني والقاذف وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (١) وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (٢) الآية. وقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} (٣)، وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (٤)، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (٥)، وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ. ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (١).


وهناك نصوص كثيرة تحرم طائفة كبيرة من الجرائم وتعاقب عليها، أما بعقوبات محددة كعقوبة الردة، وإما بعقوبات تعزير أي غير محددة كعقوبة السب وخيانة الأمانة.


فهذه جرائم حرمها القرآن وتلك عقوبات أوجبها، وتحريم الجرائم وفرض العقوبات، مسألة من مسائل الحكم، لا من مسائل الدين كما يظنون. فلو أن الإسلام لا يمزج بين الدين والدولة لما جاء بهذه النصوص وتنفيذها فقد أوجب عليهم أن يقيموا حكومة ودولة تسهر على تنفيذ هذه النصوص وتعتبر إقامتها بغض ما يجب عليها.


وقد أوجب القرآن أن يكون الحكم شورى فقال - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (٢)، وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (٣).


وإقامة حكم الشورى يقتضي إقامة حكومة إسلامية ودولة إسلامية ولو كان الإسلام يفصل بين الدين والدولة لما تعرض لشكل الحكومة وبين نوعها ز


والقرآن يوجب أن يكون الحكم بين الناس بالعدل. وطبقًا لما أنزل الله فيقول - جَلَّ شَأْنُهُ -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا. .  الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (١)، ويقول: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (٢)، ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (٣). والحكم بين الناس من أهم ما تختص به الدولة ولكن القرآن مزج بين الحكم والدين، وأمر أن تحكم الدولة على أساس ما جاء به الإسلام.


والقرآن يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (٤). والمعروف هو كل ما أمرت به الشريعة، والمنكر هو كل ما حرمته، فإذا وجب أن يكون بين المسلمين أفراد وجماعات يدعون إلى إقامة ما أمر الإسلام بإقامته، ويمنعون ما حرمه الإسلام. فقد وجب أن تكون الدولة إسلامية، لأنها لم تكن كذلك تعطلت نصوص القرآن، وهكذا مزج القرآن بين شؤون الدين، وشؤون الدنيا.


والقرآن يمزج بين الدين والدنيا في النصوص المتفرقة، وفي النص الواحد، فالباحث يرى النص الواحد يجمع بين شؤون الدين والأخلاق وشؤون الدنيا، ويمزج بعضها ببعض، ومن. الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (١).


فهذا نص واحد يحرم الشرك. وعقوق الوالدين والقتل فاحشة ظاهرة وباطنة وليس بعد هذا مزج بين الدين والدنيا.


والقرآن يوجب على الدولة أن تقيم أمر الدين والدنيا على أساس من القرآن. وذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (٢).


فهذا النص قاطع في أن الدولة المثالية هي التي تأخذ رعاياها بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهي التي تقيم ما أمر الله بإقامته وتمنع ما نهى عنه، وموجب هذا النص أن تكون الدولة دينية إسلامية، وأن تعالج شؤون الحكم والسياسة على أساس الإسلام.


ولقد جاء القرآن بنصوص كثيرة، يضيق عن ذكرها المقام.   .وهي خاصة بالفتن الداخلية، والمنازعات الدولية، والسلم والحرب والمعاهدات والمعاملات والأحوال الشخصية، وأوجب القرآن في أموال الأغنياء حقًا للفقراء: وفي بيت المال حقوقًا لليتامى والمساكين وابن السبيل. ولم يدع القرآن شيئًا من شؤون الدنيا إلا أتى بحكمه ولا شأنًا من شؤون العبادات والاعتقادات إلا أتى لحكمه. وأقام شؤون الدنيا على أساس من الدين والأخلاق. واتخذ من الدين والأخلاق وسيلة لضبط شؤون الدولة وتوجيه المحكومين والحكام وليس بعد هذا مزج بين الدين والدولة. حتى لقد أصبحت الدولة في الإسلام هي الدين وأصبح الدين هو الدولة.


وهؤلاء الشبان المسلمون المؤمنون بالقرآن يجهلون أن القرآن جعل الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله تشريعًا ملزمًا للمسلمين. إذا كان المقصود منها التشريع وأوجب عليهم طاعته والعمل بما يأمرهم به. ولو لم يكن ورد به نص في القرآن لأن الرسول لا ينطق عن الهوى، ولا يقول إلا بما يوحى به إليه من ربه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (١).


والنصوص الواردة في طاعة الرسول، والاستجابة كثيرة منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (٢).
.وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (١)، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (٢)، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (٣)، وقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (٤)، وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (٥).
 
ثَانِيًا - الاِدِّعَاءُ بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لاَ تَصْلُحُ لِلْعَصْرِ الحَاضِرِ:
وبعض المثقفين ثقافة أوروبية يَدَّعُونَ أن الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر، ولكنهم لا يعللون هذا الادعاء بعلة ما ولو أنهم قالوا: إن مبدأ معينًا أو مبادئ بذاتها لا تصلح للعصر الحاضر وَبَيَّنُوا السبب في عدم صلاحيتها، لكان لاِدِّعَائِهِمْ قيمة ولأمكن من الوجهة المنطقية مناقشة أقوالهم وتزييفها أما أَنْ يَدَّعُوا أن الشريعة كلها لا تصلح للعصر، ولا يقدمون على قولهم حجة واحدة، فذلك شيء غريب على ذوي العقول المفكرة،
.وإذا عرفنا أنهم يدعون هذا الادعاء، وهم أجهل الناس بالشريعة جاز لنا أن نقول: إن ادعاءهم هذا قائم على الجهل والافتراء.
 
إن صلاحية الشرائع تقرر أن أساس صلاحية مبادئها.
وليس في الشريعة مبدأ واحد يمكن أن يوصم بعدم الصلاحية، وإذا استطعنا أن نستعرض طائفة من أهم المبادئ التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية علمنا إلى أي حد بلغ الجهل، والادعاء ببعض المسلمين.
 
فالشريعة الإسلامية تقرر مبدأ «المساوة» بين الناس دون قيد ولا شرط وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (١)، ويقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المُشْطِ الوَاحِدِ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلاَّ بِالتَّقْوَى»، وقد جاءت الشريعة بهذا المبدأ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، بينما القوانين الوضعية التي يفخر بها الجهلاء لم تعرف هذا المبدأ إلا في أواخر القرن الثامن عشر، ولا تزال معظم الدول الأوروبية، والولايات الأمريكية تطبق هذا المبدأ تطبيقًا مقيدا
.وقد قررت الشريعة من يوم نزولها مبدأ «الحرية» في أروع مظاهرها، فقررت حرية الفكر، وحرية الاعتقاد، وحرية القول، والنصوص في ذلك كثيرة نجتزئ منها قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (١)، وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (٢)، وقوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (٣)، وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (٤). ومبدأ الحرية بِشُعَبِهِ الثلاث لم تعرفه القوانين الوضعية إلا بعد الثورة الفرنسية. ولكن الجهلاء يسلبون الشريعة فضائلها ويدعونها للقوانين الوضعية.
 
ومن المبادئ التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية مبدأ «العدالة» المطلقة وذلك قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا} (٥)، وقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا} (٦)، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ.  وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (١). وهذا المبدأ الذي جاءت به الشريعة من يوم نزولها لم تعرفه القوانين الوضعية إلا ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر.
 
هذه هي المبادئ الثلاثة التي تقوم على أساسها القوانين الوضعية الحديثة، عرفتها الشريعة قبل القوانين بأكثر من أحد عشر قرنًا. فكيف تصلح القوانين للعصر الحاضر. ولا تصلح الشريعة وهي تقوم على نفس المبادئ!؟
 
الشريعة الإسلامية جاءت بمبدأ «الشورى» من يوم نزولها وذلك قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (٢)، وقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (٣). ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية بأحد عشر قرنًا في تقرير هذا المبدأ، عدا القانون الإنجليزي الذي أخذ بالمبدأ بعد الشريعة بعشرة قرون. فالقوانين الوضعية حين قررت مبدأ الشورى لم تأت بجديد وإنما انتهت إلى ما بدأت به الشريعة الإسلامية.
 
والشريعة الإسلامية جاءت من يوم نزولها بتقييد سلطة الحاكم. وباعتبارها نائبًا عن الأمة، وبمسؤوليته عن عدوانه وأخطائه. فالشريعة تسري على الحاكم وغير الحاكم بمنزلة سواء والحاكم مقيد في تصرفاته بكل ما جاءت به الشريعة ولا ميزة له
على المحكومين، وكل ذلك تطبيق لنظرية المساواة.


ولقد جاءت الشريعة بهذه المبادئ التي تقوم عليها الحكومات العصرية، قبل أن تعرف القوانين الوضعية هذه المبادئ بأكثر من أحد عشر قرنًا، فكيف يقال: إن الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر!!.


والشريعة الإسلامية نزلت بتحريم الخمر وإباحة الطلاق، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (١)، وقوله: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (٢)، ولم تعرف القوانين الوضعية تحريم الخمر، وإباحة الطلاق إلا في هذا القرن، وبعض القوانين يحرم الخمر تحريمًا مطلقًا، وبعضها يحرمها تحريمًا جزئيًا، وبعضها يبيح الطلاق دون قيد، وبعضها يقيده، فكيف تصلح القوانين التي اتخذت عن الشريعة، ولا تصلح الشريعة؟!.


والشريعة الإسلامية أول شريعة جاءت بنظرية التعاون الاجتماعي، ونظرية التضامن الاجتماعي، وذلك قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ.  وَالْعُدْوَانِ} (١)، وقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (٢)، وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (٣)، وقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (٤)، وقوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (٥).


وقد عرفت الشريعة هاتين النظريتين منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، ولم يعرفها العالم غير الإسلامي إلا في هذا القرن وهو يطبقها إلى حد محدود.


والشريعة تحرم الاحتكار، وتحرم استغلال النفوذ، والرشوة، فيقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ». ويقول الله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا.  مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (١). وهذه المبادئ لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيرًا.


والشريعة تقوم على تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وتحريم الإثم والبغي بغير الحق. وذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (٢). وتقوم الشريعة على الدعوة للخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (٣). وهذه المبادئ التي تقوم عليها الشريعة هي المثل العليا التي يتطلع إليها البشر، وتحلم بها الإنسانية، فكيف لا تصلح الشريعة لعصر يرى مبادئها مثله العليا!؟.


ولو تتبعنا المبادئ الإنسانية، والاجتماعية، والقانونية التي يعرفها هذا العصر ويفخر بها أبناؤه لوجدنا كلها واحدًا واحدًا في الشريعة الإسلامية على أحسن الصور وأفضل الوجوه، ولولا الإطالة لأتيت بطائفة أخرى من المبادئ والنصوص المقررة لها.


وهكذا يتبين أن الادعاء بعدم صلاحية الشريعة ادعاء أساسه الجهل بالشريعة، ولا سند له من الواقع المحسوس، ولعل العذر الوحديث الذي يمكن أن يعتذر به لأصحاب هذا الادعاء ذلك أنهم  تعلموا أن القوانين الوضعية القديمة كانت تقوم على مبادئ بالية ينكرها العصر الحاضر، فحفظوا هذا القول على أنه قاعدة عامة وطبقوه على الشريعة، لانطباق صفة القدم عليها دون أن يفكروا فيما بين الشريعة والقوانين من فروق بيناها فيما سبق.


ثالثا - الادعاء بأن بعض أحكام الشريعة مؤقت:
وبعض المثقفين ثقافة أوروبية يرون أن الشريعة تصلح للعصر الحاضر، إلا أن بعض أحكامها جاء مؤقتا، وهم يقصدون بعض الأحكام الجنائية، وبصفة خاصة العقوبات التي لا مثيل لها في القوانين الوضعية، كالرجم والقطع وتسألهم الحجة على ادعائهم فلا تجد لهم حجة، وإنما هو الظن الذي لا يغني من الحق شيئا.


إنهم لا يرون مقابلا لبعض العقوبات في القوانين الوضعية، فيحاولون التخلص منها بهذا الادعاء، ولو أخذت القوانين غدا بهذه العقوبات لعدلوا عن ظنهم!! وقالوا: إنها أحكام دائمة!!.


ولو كان هؤلاء المسلمون يفهمون الإسلام على وجهه لما قالوا مثل هذا القول، لأن أحكام الإسلام دائمة لا مؤقتة، ولأن ما لم ينسخ منها قبل موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا نسخ له إلى يوم النشور، وقد صرح القرآن قبيل موت الرسول بأن صرح الدين قد تم بناؤه، ولم يعد قابلا للزيادة أو النسخ، وذلك قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم. .نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (١).


ألا يعرف هؤلاء المسلمون أنه لو جاز القبول بالتوقيت في بعض الأحكام لجاز في بعضها الآخر، وأنه لو ترك لكل إنسان أن تحكم هواه لذهب الإسلام.


رابعا - الادعاء بأن بعض الأحكام لا يستطاع تطبيقها:
وأصحاب هذا الرأي يناقضون من سبقوهم، ويرون أن كل أحكام الشريعة دائمة وواجبة التطبيق ولكنهم يرون أن بعض عقوبات الشريعة، وهي القطع والرجم لا يمكن تطبيقها اليوم، لضعف الدول الإسلامية، ووجود عدد من الأجانب في بلادها لا يقبلون أن تطبق عليهم هذه العقوبات، أو ترضى دولهم بأن تطبق عليهم. فأصحاب هذا الرأي لا يرون تطبيق الشريعة؟ خشية إغضاب الدول الأجنبية.


وهذا الرأي لا يتفق مع الإسلام، فالله - جل شأنه - يقول: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (٢).


ولمثل أصحاب هذا الرأي نقول: إن كثيرا من الفقهاء لا يرون الرجم ولا القطع على الأجنبي إذا زنا أو سرق، وليس ثمة ما يمنع من الأخذ بهذا الرأي.


ونحن ننبه بهذه المناسبة إلى أن عقوبة الرجم تكاد تكون. عقوبة رمزية، إذا من الصعب أن يثبت الزنا بشهادة الشهادة وكل الجرائم التي رجم فيها على عهد الرسول والخلفاء الراشدين تثبت بالاعتراف لا بالشهادة، الزنا التام لا يثبت إلا بأخذ هذين الطريقين، ويشترط في الشهادة أن تكون من أربعة رجال عدول، يشهدون حالة الوطء، ومن النادر أن يحدث هذا، كما أنه لا يوجد اليوم من يدفعه إيمانه للاعتراف بالزنا والإصرار عليه.


خامسا - الادعاء بأن الفقه الإسلامي يرجع إلى آراء الفقهاء:
يعتقد بعض المثقفين ثقافة أوروبية أن الفقه الإسلامي من ابتكار الفقهاء في أغلب الأحوال، وإذا عرض عليهم إنسان نظرية فقهية إسلامية من النظريات التي لم يعرفها علماء القانون الوضعي إلا أخيرا أدهشهم أن يصل الفقهاء الإسلاميون في القرن السابع والثامن الميلادي إلى ما لم يصل إليه علماء القانون إلا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. ولقد قال لي: بعضهم ذات مرة إنه يعتقد أن أئمة المذاهب الفقهية كانوا فوق مستوى البشر لأنهم استطاعوا بتفكيرهم أن يسبقوا الفكر البشري بثلاثة عشر قرنا.


ولا شك في خطأ من يظن أن الفقه الإسلامي من ابتكار الفقهاء الإسلاميين، ومن يظن أنهم سبقوا بتفكيرهم الفكر البشري، والصحيح أن رجال الفقه الإسلامي على اتساع أفقهم وجودة تفكيرهم لم يأتوا بشيء من عندهم، ولم يكونوا فوق مستوى البشر، وكل ما في الأمر، أنهم وجدوا أمامهم شريعة. غنية بالنظريات والمبادئ، فشرحوا هذه المبادئ، وعرضوا تلك النظريات، ولم يفعلوا شيئا أكثر مما يفعله كل فقيه ومجتهد، يحاول أن يجمع تحت كل نظرية ما تمتد إليه، وتحت كل مبدأ ما ينطبق عليه وإذا كان هناك ابتكار، أو سبق في التفكير، فهو ابتكار لشريعة سبقت تفكير البشر، وجاءت بأسمى النظريات، لتوجيه البشر نحو السمو والكمال، ورفعهم إلى مستوى الشريعة الرفيع.


فالفقهاء لم يبتكروا نظرية المساواة المطلقة، ولا نظرية الحرية الواسعة، ولا نظرية العدالة الشاملة، وإنما عرفها الفقهاء من نصوص القرآن والسنة التي جاءت بها ن وقد عرضنا هذه النصوص فلا داعي للعودة إليها.


والفقهاء لم يخلقوا نظرية الشورى، ولا نظرية تقيد سلطة الحاكم واعتباره نائبا عن الأمة، ولا نظرية مسؤولية الحاكم عن أخطائه وعدوانه، ولا نظرية الخمر، ولا نظرية الطلاق، وإنما عرف الفقهاء هذه النظريات من نصوص القرآن والسنة، وقد بسطنا هذه النصوص فيما سبق.


والفقهاء ليسوا هم الذين اشترطوا الكتابة في الالتزامات المدنية، وجاوزوا الإثبات بشهادة الشهود في المواد التجارية وإنما هو نص القرآن: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ... - إلى قوله تعالى - ولا تسأموا   أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ... - إلى قوله تعالى - إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها ... } (١).


والفقهاء لم ينشئوا نظرية بطلان عقود الإذعان ونظرية حق الملتزم في إملاء شروط العقد، وإنما القرآن هو الذي جاء بهذا كله في قوله تعالى: {وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل} (٢).


والفقهاء لم يبتكروا ما يسمونه بنظرية الطوارئ، وما نسميه نحن بعرفنا القانوني بنظرية تغير الظروف، وإنما أخذ الفقهاء النظرية من نصوص القرآن من قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (٣)، وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (٤)، وقوله: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} (٥).  والفقهاء لم يضعوا نظرية إعفاء المكره والمضطر. وإنما جاءت الشريعة بالنظرية في قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (١)، وقوله: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} (٢)، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».


والفقهاء لم يأتوا بنظرية إعفاء الصغير والمجنون والنائم من العقاب. وإنما قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «رفع القلم عن ثلاث , عن الصبي حتى يحتلم , وعن النائم حتى يصحو , وعن المجنون حتى يفيق».


والفقهاء لم يجيئوا بنظرية تقرير العقاب، وإنما جاء القرآن في قوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}» (٣).


وقال بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: « ... ولا [يؤخذ] الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه» وحيث يقول لأبي رمثة وولده: «إنه لا يجني [عليك]، ولا تجني عليه».


والفقهاء ليسوا هم الذين فرقوا بين أحكام العمد وأحكام. .الخطأ. ولكنه القرآن في قوله: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} (١) ... الخ، الآية، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (٢)، وقوله: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} (٣).


وهكذا لا نجد نظرية ولا مبدأ عاما إلا جاء فيه نص من القرآن أو السنة، وما فعل الفقهاء شيئا إلا أنهم شرحوا النظرية أو المبدأ، وبينوا شروط تطبيق كل نظرية أو مبدأ، وما يدخل تحتهما مقيدين أنفسهم في ذلك بنصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية.


على أن الفقهاء بالرغم من هذا قد بذلوا مجهودا عظيما في رد الفروع والجزئيات إلى أصولها، وبيان ما ينطبق عليها من الأحكام لأن الشريعة كما ذكرنا من قبل لم تأت بنصوص تفصيلية تحكم الفروع والجزئيات في كل الأحوال.


هذا هو حكم الواقع والحق في الادعاء بأن الفقه الإسلامي من ابتكار الفقهاء. ولعل أصحاب الادعاء وقعوا في الخطأ.
.
لأنهم يقيسون فقه الشريعة على فقه القانون فكل أحكام القانون يبتكرها علماء القانون قبل أن تكون أحكاما ملزمة، وتشريعا ساريا.
 
وبودي لو أن هؤلاء السادة قرأوا شيئا من مذهب الظاهريين فإن هؤلاء الفقهاء لا يعتبرون مصدرا للشريعة إلا القرآن والسنة والإجماع، ولا يعترفون بالقياس وغيره من المصادر كمذهب الصحابي، وبالرغم من أن الظاهريين لا يقبلون الأحاديث المرسلة، فقد استطاعوا أن يجدوا لكل حكم، ولكل مبدأ، ولكل نظرية نصا صريحا في القرآن أو السنة الصحيحة، وظن أن في هذا وحده ما يكفي لأن يقتنع هؤلاء السادة بخطأ عقيدتم في الفقه الإسلامي.
 
٣ - طائفة المثقفين ثقافة إسلامية:
تضم هذه الطائفة المثقفين ثقافة إسلامية عالية وما دونها وعددهم ليس قليلا. وإن كانوا أقلية بالنسبة للمثقفين ثقافة أوروبية.
 
ولهذه الطائفة نفوذها العظيم على الشعوب الإسلامية فيما تعلم لهذه الشعوب أنه متصل بالإسلام، ولكن ليس لهذه أي حظ من سلطان الحكم فرجالها لا يكادون يتولون إلا وظائف الوعظ والإمامة والتدريس، وقد يتولون القضاء، فلا يسمع لهم بالقضاء إلا في مسائل الأحوال الشخصية.
 
وقبل دخول القوانين الأوروبية في البلاد الإسلامية كان. .لهذه الطائفة كل السلطان، ولكنهم بعد دخول القوانين حصرتهم الأوضاع الجديدة في دائرة ضيقة، وأخذ سلطانهم يزول شيئا فشيئا حتى زال عنهم كل سلطان. وطالت بهم هذه الحال حتى ألفوها وسكت عليها أكثرهم لا قبولا وانقيادا، ولكن عجزا ومصابرة.
 
وهذه الطائفة تعتبر نفسها ويعتبرها المسلمون مسؤولة عن الإسلام، لأنها أعرف المسلمين بأحكام الإسلام، ورجالها أقدر الناس على الدفاع عنه، وإن كان هنالك من يرى أن الحوادث قد أثبتت أن هذه الطائفة عجزت أكثر من مرة عن الدفاع عن الإسلام، وإن عجزها ترتب عليه دخول القوانين الأوروبية، واستقرارها في بلاد الإسلام، وتعطيل الشريعة الإسلامية، حتى ذهب جيل وجاء جيل يجهل كل شيء عن الشريعة، إلا ما تعلق بالعبادات، والأحوال الشخصية، وحتى حسب الجهال أن القوانين التي تطبق هي أحكام الإسلام، أو مما لا ينكره الإسلام، وحسب المثقفون ثقافة أوروبية أن الإسلام دين لا دولة، أو أنه ليس فيه ما يصلح لحكم الناس، ولم يبق على علم بالشريعة إلا علماء الإسلام.
 
وليس يعيب علماء المسلمين أن يعجزوا عن الدفاع عن الإسلام مرة ومرات، وأن يؤدي هذا العجز إلى نتائجه الطبيعية والمنطقية، وإنما يعيبهم أن لا يبذلوا ما استطاعوا من جهد ووقت في الدفاع. عن الإسلام، ولا شك أنهم استفرغوا كل جهودهم ووقتهم في هذا السبيل، لكن الظروف لم تكن مواتية، ولا شك أيضا في أنهم لا يزالون يستفرغون كل جهد ووقت في كفاحهم المستمر؛ وهم يرجون أن يكتب لهم النصر والغلبة.
 
وفي البلاد الإسلامية اليوم جيل مثقف ثقافة إسلامية عالية حريص على أن يعيد للإسلام ما فقده، لا تأخذه في الحق لومة لائم ولا عيب فيهم إلا أنهم متأثرون بأسلافهم إلى حد كبير في بعض الاتجاهات، حيث يصرفون أكثر جهدهمه في العبادات والمواعظ، ولو أنهم صرفوا أكثر جهدهم في تذكير المسلمين بشريعتهم المعطلة، وقوانينهم المخالفة للشريعة، وحكم الإسلام فيها لكان خيرا لهم وللإسلام، ولوفروا على أنفسهم مشقة الجهاد وطول الكفاح، فالدول الحاكمة على بعض المسلمين دول ديمقراطية ويكفي أن يعتنق أكثر أفراد الشعب فكرة معينة، لتكون هذه الفكرة بعد قليل حقيقة قابلة للتنفيذ.
 
ويسلك هذا الجيل الجديد في دعوته للإسلام وإقامة شرائعه وشعائره طرقا قد تجدي في إقناع الأميين وتعليمهم، ولكنها لا تجدي في إقناع المثقفين ثقافة أوروبية، وهم المسيطرون على الحياة العامة، وبيدهم الحكم والسلطان في بلاد الإسلام، وكان من الأولى أن يبذل علماء الإسلام جهدا في إقناع هذا الفريق وتعليمه ما يجهل من أحكام الإسلام. فلو عرف هؤلاء الإسلام على حقيقته لكانوا خير السفراء والدعاء للإسلام. أحب من علماء الإسلام أن يبينوا للمثقفين ثقافة أوروبية في كل ظرف وفي كل يوم مدى مخالفة القوانين الأوروبية للإسلام وحكم الإسلام فيمن يطبق هذه القوانين وينفذها، فما المثقفون ثقافة أوروبية إلا مسلمون يجهلون حقائق الإسلام، ولكنهم مع ذلك على استعداد حسن لتعلم ما يجهلون من الإسلام.
 
وأحب من علماء الإسلام أن يمكنوا للمثقفين ثقافة أوروبية من دراسة الشريعة، والاطلاع على مبادئها ونظرياتها ومدى تفوقها على القوانين الوضعية، ويستطيع علماء الإسلام أن يصلوا لهذا إما بتأليف لجان من رجال المذاهب المختلفة، فتقوم كل لجنة بجم الكتب المهمة في كل مذهب، وتضع منها جميعا كتابا واحدا في لغة عصرية، وفي تنظيم وفهرسة عصية، وإما بتأليف كتب في لغة ونظام عصري، تعرض مواد التشريع الإسلامي عرضا شائقا، مع مقارنة مختلف المذاهب الإسلامية، فكتاب في البيع، وآخر في الإيجار، وثالث في الشركات، ورابع في الإفلاس، وهكذا.
 
وأحب من علماء الإسلام أن يبينوا للحكام، ورجال الهيئة التشريعية حكم الإسلام في القوانين المخالفة للإسلام، وفيمن يضعها وينفذها، وكل هؤلاء مسلمون يكرهون أن يحيدوا قيد شعرة عن الإسلام، ولكنهم يجهلون أحكام الإسلام.
 
وأحب من علماء الإسلام أن يعملوا على أن لا يصدر أي قانون جديد إلا تحت رقابتهم، وبعد استشارتهم، حتى لا يصدر
 أي قانون جديد على خلاف الإسلام.
 
يا علماء الإسلام، إن العيب الوحيد في كل بلاد الإسلام، هو جهل المسيطرين عليها بأحكام الإسلام، وجهل جمهور المسلمين أحكام الإسلام، والوسيلة الوحيدة لإصلاح هذه الحال هي تعليمهم الإسلام، كل بالطريقة التي درج عليها وألفها، ولن يستنكف مسلم أن يتعلم ما يجهله من أحكام دينه.
 
وأخيرا، فإني إذ أرمي المثقفين ثقافة أوروبية بجهل الإسلام لا أقصد انتقاص أقدارهم، وإنما إقرار الواقع وما أنا إلا أحدهم، كنت قبل دراستي للشريعة في مثل حالهم جهلا بالشريعة، وتجاهلا لها، حتى أراد الله لي الخير، فعرفت إلى أي حد يذهب الجهل بصاحبه، ولست أحب أن يبقى إخواني وزملائي على حال كنت فيها، ولا أزال أستغفر منها.
 
وإني إذا ألفت نظر علماء الإسلام إلى اتخاذ وسائل معينة، لا أنسب إليهم تقصيرا، وإنما هي النصيحة التي أمر بها الإسلام فإن تجربتي واختلاطي بالمثقفين ثقافة أوروبية، ومعرفتي باتجاهات غيرهم، كل ذلك دعاني إلى الاعتقاد بأن خير ما ينفع الإسلام.
هو تعريف الجميع بالإسلام في صراحة وشجاعة، ولحضرات العلماء أن يأخذوا برأيي، أو أن يهملوه.
 
أسأل الله أن يوفقنا جميعا إلى ما فيه خير المسلمين والإسلام.
 
الفصل الثالث: من المسؤول عما نحن فيه؟:
 
إن المسلمين جميعا مسؤولين عما نحن فيه وعما انتهى إليه أمر الإسلام، وقد تختلف مسؤولية بعضهم عن مسؤولية بعض فتخف مسؤولية فريق وتشتد مسؤولية فريق، ولكنهم جميعا مسؤولون عما هم في من جهل وفسق وكفر، وعما هم فيه من تفرق وضعف وذلة، وعما يعانون من فقر واستغلال، وعما يحملون من نير الاستعمار وبلاء الاحتلال.


مسؤولية الجماهير: إن جماهير المسلمين مسؤولية عما انتهى إليه أمر الإسلام، فما وصل الإسلام إلى هذا الذي هو فيه إلا بجهل هذه الجماهير للإسلام، بانحرافها شيئا فشيئا عن الإسلام حتى كادت تنسلخ عنه دون أن تدري أنها انسلخت عن الإسلام.


إن جماهير المسلمين قد ألفت الفسق والكفر والإلحاد حتى أصبحت ترى كل ذلك فتظنه أوضاعا لا تخالف الإسلام، أو تظن أن الإسلام لا يعنى بمحاربة الفسق والكفر والإلحاد. ولا يعنيه من أمر ذلك كله شيء.


إن الإسلام يوجب على المسلمين أن يتعلموا الإسلام وأن يتفقها فيه أن يعلم بعضهم بعضا {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} (١). ولقد طالما نفرت طوائف من المسلمين فأنذروا قومهم وحاولوا تفقيههم في الدين. ولكن الحكومات الإسلامية أخذت على نفسها أن تحارب هذه الطوائف، وأن تحول بينها وبين ما يوجبه الإسلام إرضاء للاستعمار، وإطاعة للطواغيت وموالاة لأعداء الإسلام، ورضيت الجماهير هذا الوضع من الحكومات وما كان لها أن ترضاه، فشارك الجمهور الحكومات في خنق الإسلام وهدم الجماعات العاملة للإسلام.


إن جماهير المسلمين قد فقدوا القوة والعزة والكرامة فهم يعيشون عبيدا للأقوياء، وعبيدا للاستعمار، وعبيدا للحكام، يسلبونم أقواتهم، ويستنزفون قواهم، ويدوسون كرامتهم، ويهدرون حريتهم، وما أتى المسلمون إلا من تركهم دينهم دين القوة والعزة والكرامة، ولو عادوا لعادت لهم القوة التي فقدوها والعزة التي حرموها، والكرامة التي يتطلعون إليها.


إن جماهير المسلمين في غفلة قاتلة، إنهم في غفلة عن دينهم، وفي غفلة عن دنياهم، وفي غفلة عن أنفسهم، ويوم تتفتح أعينهم على الحقائق سيعلومن أنهم خسروا دنياهم وآخرتهم بما فرطوا في جنب الله، وما انحرفوا عن كتاب الله.


مسؤولية الحكومات الإسلامية:
والحكومات الإسلامية مسؤولة إلى أكبر حد عما أصاب الإسلام من الهوان، وعما أصاب المسلمين من الذل والخبال.


إن الحكومات الإسلامية قد أبعدت الإسلام عن شؤون الحياة، واختارت المسلمين ما حرمه عليهم الله، وحكمت فيهم بغير حكم الله
 
إن الحكومات الإسلامية تدفع المسلمين إلى الضلالة الأوروبية وتدفعهم عن الهداية الربانية، فتحكم فيهم بحكم القوانين الوضعية، ولا تحكم فيهم بحكم الشريعة الإسلامية.


إن الحكومات الإسلامية خرجت عن الإسلام في الحكم والسياسة والإدارة، وخرجت على مبادئ الإسلام فلا حرية ولا مساواة ولا عدالة، ونبذت ما يوجبه الإسلام فلا تعاون بين المسلمين ولا تضامن ولا تراحم، وشجعت ما يحرمه الإسلام من الظلم والمحاباة ومن الاستغلال والإقطاع، وأقامت المجتمع الإسلامي على الفساد والإفساد، وعلى الفسوق والعصيان، وعلى الأثرة والطغيان.


إن الحكومات الإسلامية تحول دون المسلمين أن يتعلموا دينهم ويعرفوا ربهم، ويؤدوا واجبهم.


إن الحكومات الإسلامية توالي أعداء الإسلام وقد حرم عليها الإسلام أن توالي أعداءه، وتطيع في المسلمين أعداء الله وما لهم عليها من طاعة.


إن الحكومات الإسلامية هي التي أورثت المسلمين الضعف والذل وجلبت عليهم الاستغلال والفقر وأشاعت فيهم الفساد والبغي.


مسؤولية رؤساء الدول:
ورؤساء الدول الإسلامية هو أكثر الناس مسؤولية عن الإسلام، وعما أصاب الإسلام، وإذا أعفتهم القوانين الوضعية من المسؤولية فما يعفيهم الإسلام أن يسألوا عن صغير الأمور وكبيرها. وما يمنع إنسانا أن يواجههم بالواقع، ويفتح عيونهم على الحقائق.
 
إن في يدكم معشر الرؤساء الحكم والسلطان، ولكم القوة وفيكم القدرة على أن تعودوا بالإسلام إلى ما كان عليه، ولكنكم ورثتم أوضاعا مخالفة للإسلام عن أسلافكم فأنتم تعيشون فيها، وتقيمون سلطانكم عليها، على علم أو جهل بمخالفتها للإسلام، وهذه الأوضاع الموروثة هي أول ما يضعف الإسلام ويؤخر أهله عن النهوض، وكل ضعف للإسلام عائد عليكم، وكل قوة له إنما هي قوتكم، وإنه لخير لكم أن تكونوا أفرادا من الأفراد في دولة قوية من أن تكونوا ملوكا وأمراء ورؤساء في دولة ضعيفة مستعبدة يتسلط عليها موظف صغير من موظفي الدولة المستعمرة، يأمر وينهى، فيسقط الحكومات ويقيمها، ويهز أمره العروش، ويزلزل أقدام الرؤساء والأمراء.


إنكم معشر الرؤساء متفرقون؛ ومن الخير لكم وللإسلام أن تتجمع قواكم، وإنكم متنابذون أو متباعدون، ومن الخير لكم وللإسلام أن تتعاونوا أو تتحدوا، وإنه أن يخضع بعضكم لبعض ويتولى بعضكم بعضا خير لكم وأهدى من أن تخضعوا جميعا للاستعمار ويتولاكم المستعمرون.


إنكم معشر الرؤساء مسلمون قبل كل شيء، فضعوا الإسلام فوق كل شيء، وحكموه في أنفسكم، واجعلوه أساس حكمكم، وأقيموا عليه الدولة الإسلامية، ولا تجعلوا أشخاصكم حجر عثرة في سبيل قيام هذه الدولة، فأشخاصكم فانية وليس بعد الموت إلا الجنة أو النار، ولن ينفع أحدكم ملكه أو ماله أو أهله، وإنما. ينفعه العمل الصالح والقيام على أمر الله، وإنه لخير لكم أن يذكر لكم التاريخ أنكم عاونتم على إعادة الدولة الإسلامية والحكم الإسلامي وأنكم لم تؤخروا قيام هذه الدولة بتشبثكم بمناصبكم وأوضاعكم التي لا يرضاها الإسلام للمسلمين.


وإن الأمر كله لن يحتاج إلا قوة عزائمكم، والتغلب على أنفسكم، فإن تتغلبوا على أنفسكم فقد تغلبتم على كل شيء، وإن تضعوا أمام منافعكم وأمام مغريات الحكم والسلطان فسيظل المسلمون جميعا في فرقة وتخاذل وضعف وذلة، ويتسلط عليكم وعليهم الأقوياء، ويخيفكم ويخيفهم المستعمرون، ويحرككم ويحركهم الدول ذات المطامع والنفوذ، ويستغلكم ويستغلهم أولئك الذين عرفوا حق المعرفة أن القوة في الاتحاد، وأن الغلبة لأصحاب القوة.


أيها الرؤساء لا تحرصوا على الإمارة والسلطان، ولا تتشبثوا بالألقاب والتيجان فإن هذا الحرص هو الذي أذل المسلمين وأضعف فيهم روح الإسلام، ومزقهم ممالك ضعيفة، ودويلات صغيرة وإمارات لا تدفع عن نفسها عدوا ولا تحمي لنفسها حقا، حتى أصبح المسلمون على كثرة عددهم، واتساع أقطارهم، وتوفر المواد الخام والأيدي العاملة في بلادهم، وتهيؤ أسباب السيادة والعزة لهم ... أصبح المسلمون مع كل هذا أضعف أهل الأرض وأذلهم وأهونهم على الدول شأنا.


فإذا غلبكم الحرص على منافعكم وعلى مناصبكم وعلى ألقابكم.  وسلطانكم، فاحرصوا على أن تتجمعوا في شكل من الأشكال وأن تتحدوا وتوحدوا قوة بلادكم، ليكون المسلمون جميعا قوة واحدة ويدا واحدة.


يا رؤساء الدول الإسلامية، إن مناصبكم وألقابكم لن تغني عنكم من الله شيئا، وإن الله سائلكم وأسلافكم عن الإسلام والمسلمين، وسيسألكم عن الإسلام الذي أصبح غريبا في بلادكم، مهملا في حكمكم، وسيسألكم عن المسلمين الذي فرقتم وحدتهم وضيعتم قوتهم، ومزقتم دولتهم، وجعلتموهم أنتم وأسلافكم مثلا على الفرقة المصطنعة، والقوة الضعيفة، والكرامة المهدرة، والأطماع التي تذل الرجال الكرام، وتوطئ ظهور الأبطال، وتضع أنوف السادة في الرغام.


يا رؤساء الدول الإسلامية لا تحرصوا على الإمارة والسلطان فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة».


واعلموا أن الإمارة أمانة، فمن أخذها بحقها، وأدى ما يجب عليه فيها سلم يوم القيامة، فأدوا الأمانات إلى أهلها فإن الله سائلكم عنها، واذكروا قول الرسول الكريم لأبي ذر لما سأله أن يستعمله: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها».


مسؤولية علماء الإسلام: وعلماء الإسلام يحملون وزر ما نحن فيه وإثم ما أصيب به الإسلام ... يحملون أوزار المستعمرين
الغافلة عن الإسلام والخارجة عليه.


وعلماء الإسلام أهل لأن ينسب لهم هذا، لأنهم يظاهرون الاستعمار أو يسكتون عليه، ولأنهم يظاهرون الحكومات الإسلامية حينا ويسكتون عليها حينا، ولأنهم تركوا جماهير المسلمين جاهلة بأهم أحكام الإسلام، غافلة عما يراد بالإسلام.


وعلماء الإسلام بهذا حالوا بين المسلمين والإسلام لأنهم لم يبينوا لجماهير المسلمين حكم الإسلام في الاستعمار والمستعمرين، وحكم الإسلام في الحكومات التي تظاهر الاستعمار وتوالي المستعمرين، فسكنت الجماهير إلى الاستعمار، وأطاعت الحكومات التي تخدم الاستعمار، وضاع الإسلام بسكوت السادة العلماء، ورضيت الجماهير بضياع الإسلام وساعدت عليه، لأنها تعتقد أن علماء الإسلام لا يسكتون إلا على ما يتفق مع الإسلام ويرضي رب الأنام.


إن علماء الإسلام أغمضوا أعينهم وأطبقوا أفواههم ووضعوا أصابعهم في آذانهم وناموا عن الإسلام ولما يستيقظوا من عدة قرون فنام وراءهم المسلمون، وهم يعتقدون أن الإسلام في أمان وإلا ما نام عنه علماؤه الأعلام.


إن علماء الإسلام ناموا عن الإسلام [زمنا طويلا] فما هاجموا وضعا من الأوضاع المخالفة للإسلام، ولا حاولوا إيقاف أمر أو حكم مخالف لأحكام الإسلام. وما اجتمعوا مرة يطالبون بالرجوع. إلى أحكام الإسلام.


لقد ارتكب الحكام المظالم، واستحلوا المحارم، وأراقوا الدماء، ونتهكوا الأعراض، وأفسدوا في الأرض، وتعدوا حدود الله، فما تحرك العلماء للمظالم، ولا غضبوا من استحلال حدود الله، فما تحرك العلماء للمظالم، ولا غضبوا من استحلال المحارم. كأن الإسلام لا يطلب إليهم شيئا، ولا يفرض عليهم فرضا ولا يوجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يلزمهم نصيحة الحكام والمطالبة بالرجوع لأحكام الإسلام.


واحتلت البلاد الإسلامية فما غضب علماؤها على الاحتلال ولا بينوا للناس حكم القرآن والسنة في جهاد المحتلين ومقاومة الاحتلال وفي مسألة المحتلين ومولاة الاحتلال.


وكان من المفروض في علماء الإسلام أن يقاطعوا المحتلين الكفار ولكنهم مع الأسف والوا أعداء الإسلام واتخذوا من دار عميد الدولة المحتلة له مقرا لإحياء بعض مواسم الإسلام.


ونقذت القوانين الوضعية في بلاد الإسلام، وهي تخالف أحكام الإسلام، وأدى تنفيذها إلى تعطيل الإسلام وإباحة ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، فما انزعج العلماء لتحطيم الإسلام، ولا غضبوا لمستقبلهم وهم يطمعون ويلبسون ويعيشون على حساب الإسلام ولا اجتمعوا وتشاوروا فيما يحفظ مستقبلهم ومستقبل الإسلام.


وانتشر الفجور والإباحة، وأنشأت الحانات والمراقص، ورخصت الحكومات الإسلامية للمسلمات بالدعارة، وجهر    الناس بما يخالف الإسلام، فانكمش العلماء واكتفوا بهز الرؤوس ومصمصة الشفاه.


وأنشئت المدارس المدنية وهي لا تعترف بتعليم الدين، فكان علماء الدين أول من أقبل عليها وأدخل أولاده فيها، وأنشئت المدارس التبشيرية التي تبشر بالمسيحية وتفتن أبناء المسلمين عن الإسلام. فأدخل العلماء المسلمين بناتهم فيها ليوطن بلغة أجنبية وليتعلمن الرقص والديانة المسيحية.


وكلما حزب الأمر إحدى الحكومات لجأت إلى علماء الإسلام فأسرعوا يردون المسلمين إلى طاعة الحكومات التي تبيح الخمر والزنا والكفر والفسق، وتستبدل بحكم الإسلام أهواء الناس ونزوات الحكام والأحزاب.


وطال هذا الأمر بالمسلمين حتى ظن جمهرة المسلمين أن ما نحن فيه من فسوق وعصيان هو الإسلام الصحيح، ففشا الفسق والفجور وعم الفساد وعز الإصلاح، وكل ذلك بفضل علماء الإسلام وتهاونهم في إقامة أحكام الإسلام.


إن العلماء هو ورثة الأنبياء، وما يليق بالعلماء أن يقفوا هذا الموقف من ميراث الأنبياء، ولقد فرض الإسلام على العلماء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن يقوم بهذا الواجب إذا أهمله السادة العلماء؟.


ولكن الله - جل شأنه - قد فتح على علماء مصر فتكلموا أخيرا وانطلقوا على غير عادتهم يتجمعون ويخطبون، ويدعون إلى
الإضراب والاعتصاب، أفترى ذلك كان من أجل الإسلام وإقامة أحكام الإسلام؟ لا والله، ولكنهم ثاروا واستثاروا لأجل الرتبات والعلاوات وللدرجات المالية، والكرامات الشخصية، وأصدروا في سبيل ذلك البيانات، وعقدوا الاجتماعات وتشدقوا بالخطب وزينوها بالأحاديث والآيات.


إنهم فعلوا ذلك من أجل أنفسهم ولحفظ كراماتهم، ولم يفعلوه من أجل الإسلام كأن الإسلام أهون عليهم من أنفسهم وكأن كرامتهم أدنى من كرامتهم. ومن المؤلفم أن بعضهم أراد في هذه الاجتماعات أن يذكرهم بالإسلام، وأن يوجه هذه الغضبة للإسلام، فأسكتوه وأنكروا ما أتاه، كأن العمل للإسلام منكر في نظر علماء الإسلام.


يا علماء الإسلام اتقوا الله في أنفسكم وفي الإسلام.


يا علماء الإسلام إنكم لم تهونوا على الدول والحكام إلا بعد أن هان عليكم الإسلام.


يا علماء الإسلام إن عزتكم من عزة الإسلام، وقوتكم من قوة الإسلام، فإن شئتم أن تشعروا بالعزة والقوة فاعملوا لعزة الإسلام ولقوة الإسلام.


يا علماء الإسلام ليس من الإسلام في شيء أن تمسكوا ألسنتكم عن بيان حكم الله، وتغضوا أبصاركم عن أعداء الله حتى ينتهكوا حرمات الله.


يا علماء الإسلام ليس من الإسلام في شيء أن تقوموا في. . المعاهد لتعلموا طلبتها أحكام الإسلام في حين أن الحكومات لا تقيم هذه الأحكام.


يا علماء الإسلام ليس من الإسلام أن تقفوا على المنابر لتعلموا الناس محاسن الأخلاق وأداء العبادات، وتتركوها جهالا بما يوجه الإسلام في الحكم والحكام والتشريع، والقضاء، وفي الاجتماع والاقتصاد، في معاملة الأعداء والاصدقاء.


لماذا لا تبينون للناس ووظيفتكم البيان؟
لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في الاحتلال، ومن يوالونه ويوادونه، ويحاربونه ويمقتونه؟


لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في الحكام الذين يلزمون المسلمين ما يخالف الإسلام وهل يوجب الإسلام طاعتهم واتباع أهوائهم، أم يوجب عصيانهم والخروج عليهم؟


لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في القوانين الوضعية، وما يوجبه على المسلمين من طاعتها أو عصيانها؟


لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في المال وفي الاستغلال والاحتكار، مع تطبيق هذا الحكم على أوضاعنا المالية وأحوالنا الاقتصادية؟


لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في فيمن يحارب دعاة الإسلام، ويعين على حرث العاملين للإسلام.


لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام فيما يخالفه من أوضاع،. وهل يوجب السكوت عليها أم يوجب محاربتها وهدمها؟


لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في النصيحة والبيان، وهل لا يجب أحدهما إلا مرة واحدة طول الحياة، أم التكرار واجب كلما استمر ما يستوجب النصيحة والبيان ليذكر الناس حكم الإسلا في كل وقت وآن؟


لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في المسلم الذي يطالب باحترام شخصه، ويرفض أن يطالب باحترام الإسلام؟


أيها العلماء إني لا أنكر عليكم أن فيكم فئة قليلة كريمة عملت بكتاب الله، واستقامت على أمره وإن منكم من بذلوا من علمهم وقوتهم وحياتهم في سبيل إقامة حكم القرآن، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولكنها والله قلة يسوؤها أن تحسب عليكم وأن تنتسب إليكم، وما يغير عمل هذه الفئة القليلة الخيرة من سوء عملكم، ولا يهون من أوزاركم، ولا يرفع عنكم وصمة التفريط والإهمال.


أيها العلماء تشبثوا بهذه الفئة الصالحة، وسيروا على أثرها واعملوا للإسلام فقد طال ما سكتم عن الإسلام، وإن هذا والله لهو الخير لكم وللإسلام.  
 
{واعتصموا بحبل الله جميعا} [آل عمران: ١٠٣]


الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الإسلامية: IIFSO


International Islamic Federation of Student Organizations
SALIMIAH -KUWAIT

مقتطفات من كتاب من روائع حضارتنا-1

$
0
0

مقتطفات من كتاب من روائع حضارتنا

للكاتب مصطفى حسني السباعي

مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على باني أنبل حضارة عرفها التاريخ سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الذين بنوا أصرح تلك الحضارة الشامخة بدمائهم وجهودهم فكان لهم الفضل على كل من نعم بخيراتها إلى يوم الدين.

 وبعد فموضوع هذا الكتاب هو أحاديث أذعتها من محطة إذاعة دمشق في الفترة الواقعة بين ٢٠ من المحرم ١٣٧٥هالموافق ٨ من أيلول (سبتمبر) ١٩٥٥م عرضت فيها نماذج من الجوانب الرائعة في حضارتنا، وهي جوانب لا تزال تأخذ بألباب كل باحث منصف، ولم أتقص كل مظاهر الروعة في حضارتنا ولا قصدت تحليلها علميا، لأنني كنت أتحدث إلى جماهير المستمعين ممن يتفاوتون في المستوى الفكري والثقافي، وكان يهمني أن يصغى إليها أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، من صفوة شبابنا ورجال الفكر المؤمن بكرامتنا على الله وعلى التاريخ، ولم يتسع لي الوقت لمتابعة هذه الأحاديث، إذ كنت أستعد للسفر في رحلة علمية إلى ديار الغرب تمت عام ١٩٥٦م، وقد كنت أود أن أتحدث عن روائع كثيرة، منها تلك النماذج الإنسانية للروحانية الإيجابية في تاريخ حضارتنا، ممن كانوا على قدر كبير من الإيمان بالله، والاتباع للحق، والسمو في النفس، والإشراق في الروح، والجمال في الخلق، والرحمة للناس، والعدل في الحكم، هذا مع مساهمتهم في صميم الحضارة ووجودهم في صميم الحياة، سواء كانوا ملوكا أم علماء، أو زهادا، أم فلاسفة، أم قوادا، أم حكاما، أم تجارا، رجالا ونساء، شيوخا وشبابا، أغنياء وفقراء، إنها نماذج للكمال الإنساني الذي لم يكن يعيش في خيال الفلاسفة والحكماء، بل كان يعيش على ظهر الأرض مع أهل الأرض.

 
هذه الروحانية الإيجابية بأمثلتها الرائعة هي مما تفردت به حضارتنا عن سائر الحضارات قديمها وحديثها، فلقد عرف التاريخ رجالا روحانيين في الأمم المختلفة وخاصة في أمم الشرق الأقصى، ويعيش اليوم أناس تغلب عليهم النزعة الروحية الصافية، ولكن هؤلاء وأولئك كانوا سلبيين مع الحضارة، مترفعين عن المساهمة فيها، يعيشون في الأديرة ورؤوس الجبال، أو في المغاور والصحارى، أما نماذجنا الروحية في تاريخ حضارتنا فقد كانوا يخوضون معركة بناء الحياة بكل ما تتطلبه المعركة من عمل وجهد وتضحية وفداء، وهذا هو سر الروعة في هذه النماذج الروحية العجيبة في تاريخ الحضارات.
 
والقصد اليوم من نشر هذه الأحاديث أن نلفت الأنظار إلى هذه الروائع كدليل على استطاعتنا بناء حضارة أكمل وأسمى من هذه الحضارة، وأن نذكر الجيل الجديد من أبناء أمتنا بواجبهم في بناء حضارة إنسانية كريمة كما بنى آباؤهم أمثالها، وهذا أنسب الأوقات لمثل هذا التذكير، فأمتنا تدخل الآن باب التاريخ من جديد دخولا كريما فيه كل تحفز وانطلاق لبناء مستقبل أفضل وأكمل، وفي أمتنا بقايا من سجايا الآباء والأجداد فإذا سمعت حديث أمجادهم وآثارهم وحضارتهم هزها ذلك هزا عنيفا ودفعها إلى العمل دفعا حثيثا.
فلا تسمعوه ما أقول فإنه شجاع متى يذكر له الطعن يشتق
ولسنا نقصد من عرض هذه الروائع الادعاء بأن كل ما في حضارتنا جميل ومشرق، فليس في التاريخ حضارة ليست لها هفوات، وإنما القصد أيضا أن نثبت أن الجوانب الإنسانية الخالدة في حضارتنا أقوى وأجمل، وأن نرد بذلك على افتراء الذين يزعمون لحضارتنا كل عيب ونقيصه، ويتعمدون أن يحذفوها من قائمة الحضارات الأصلية، وأن نحبط بذلك كيد الذين يعملون على أن يصرفوا أنظار جيلنا الحديث عن روائع آثارنا الحضارية، ليجذبوهم إلى حضارة تكشفت مقاتلها للناس، وإلى تاريخ أمم إن كانت لها صفحة واحدة من الفضائل، فإن لها آلاف الصفحات من النقائص والرذائل، وهذا هو هدف الاستعمار الذي يسعى إليه جاهدا، وذلك هو صنيع أذنابه ودعاته الذين ما برحوا على تمجيد حضارته عاكفين.
 
وإذا كنت قد عرضت في هذا الكتاب (نماذج) من روائع حضارتنا فإني لأرجو أن يتم الدارسون لتاريخ حضارتنا ما بدأته من عرض هذه الروائع، بشكل أتم وبحث أوفى وبيان أبلغ وأنصع، لإعطاء جيلنا الحاضر صورة حقيقية كاملة الروعة عن هذه الحضارة التي كانت تشع النور وتبعث الحياة في القرون الوسطى، فلا حاضر لأمة تجهل ماضيها، ولا مستقبل لأمة تنكر خصائصها وفضائلها، وهي مما تتصل بالحضارة بأوفى سبب وأقوى نسب، وإذا كان الوقوف على الماضي للبكاء عليه والنحيب، هو شغل الكسالى العاطلين، فإن تجاهله وازدراءه مع ما يفيض به من خير واسع ونور رحيب، هو شأن الحاقدين أو الجاهلين. ومن الخير أن نستفيد من كنوزنا في بناء نهضتنا العتيدة، لتكون النهضة مأمونة العواقب، غنية بما يمد لها من أسباب النجاح والبقاء، واضحة الملامح فيما تهدف إليه من كرامة وهناء، متصلة أمجادها بأمجاد الماضي، لتتصل أمجاد المستقبل بأمجادها، فيستمر الموكب، وتنسجم الحلقة ويكتمل البناء.
والله من وراء القصد وهو ولي التوفيق
 
مصطفى حسني السباعي
 

 

خصائص حضارتنا
يعرف الحضارة بعض الكاتبين في تاريخها بأنها (نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي) وتتألف الحضارة من العناصر الأربعة الرئيسية: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون. ولإطراد الحضارة وتقدمها عوامل متعددة من جغرافية وإقتصادية ونفسية كالدين واللغة والتربية، ولانهيارها عوامل هي عكس تلك العوامل التي تؤدي إلي قيامها وتطورها، ومن أهمها الإنحلال الخلقي والفكري، واضطراب القوانين والأنظمة، وشيوع الظلم والفقر، وانتشار التشاؤم واللامبالاة، وفقدان الموجهين الأكفاء والزعماء المخلصين .. وقصة الحضارة تبدأ مند عرف الإنسان، وهي حلقة متصلة تسلمها الأمة المتحضرة إلي من.بعدها، ولا تختص بأرض ولا عرق، وإنما تنشأ من العوامل السابقة التي ذكرناها. ولا تكاد أمة تخلو من تسجيل بعض الصفحات في تاريخ الحضارة، غير أن ما تمتاز به حضارة عن حضارة إنما هو قوة الأسس التي تقوم عليها، والتأثير الكبير الذي يكون لها، والخير العميم الذي يصيب الإنسانية من قيامها، وكلما كانت الحضارة عالمية في رسالتها، إنسانية في نزعتها، خلقية في اتجاهاتها، واقعية في مبادئها، كانت أخلد في التاريخ، وأبقي علي الزمن، وأجدر بالتكريم.
 
وحضارتنا حلقة من سلسلة الحضارات الإنسانية، سبقتها حضارات وستتبعها حضارات. وقد كان لقيام حضارتنا عوامل، ولانهيارها أسباب، ليست هي ما تعنيه هذه السلسلة من أحاديثنا، وإنما نريد قبل أن نبدأ الحديث عن روائع هذه الحضارة، أن نتحدث عن دورها الخطير في تاريخ التقدم الإنساني، ومدي ما قدمته في ميدان العقيدة والعلم والخلق والحكم والفن والأدب من أياد خالدة علي الإنسانية في مختلف شعوبها وأقطارها.
 
إن أبرز ما يلفت نظر الدارس لحضارتنا أنها تميزت بالخصائص التالية:
 
١ - أنها قامت علي أساس الوحدانية المطلقة في.    العقيدة، فهي أول حضارة تنادي بالإله الواحد الذي لا شريك له في حكمه وملكه، وهو وحده الذي يعبد، وهو وحده الذي يقصد {إياك نعبد وإياك نستعين} وهو الذي يعز ويذل ويعطي ويمنح، وما من شيء في السموات والأرض إلا وهو تحت قدرته وفي متناول قبضته.
هذا السمو في فهم الوحدانية كان له أثر كبير في رفع مستوي الإنسان وتحرير الجماهير من طغيان الملوك والأشراف والأقوياء ورجال الدين، وتصحيح العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتوجيه الأنظار إلي الله وحده وهو خالق الخلق ورب العالمين .. كما كان لهذه العقيدة أثر كبير في الحضارة الإسلامية تكاد تتميز به عن كل الحضارات السابقة واللاحقة، وهي خلوها من كل مظاهر الوثنية وآدابها وفلسفتها في العقيدة والحكم والفن والشعر والأدب، وهذا هو سر إعراض الحضارة الإسلامية عن ترجمة الإلياذة وروائع الأدب اليوناني الوثني، وهو سر تقصير الحضارة الإسلامية في فنون النحت والتصوير مع تبريزها في فنون النقش والحفر وزخرفة البناء. إن الإسلام الذي أعلن الحرب العوان علي الوثنية ومظاهرها لم يسمح لحضارته أن تقوم فيها مظاهر الوثنية وبقاياها المستمرة من أقدم عصور التاريخ،.  كتماثيل العظماء والصالحين والأنبياء والفاتحين. وقد كانت التماثيل من أبرز مظاهر الحضارات القديمة والحضارة الحديثة، لأن واحدة منها لم تذهب في عقيدة الوحدانية إلي المدى الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية.
وهذه الوحدة في العقيدة تطبع كل الأسس والنظم التي جاءت بها حضارتنا، فهنالك الوحدة في الرسالة، والوحدة في التشريع، والوحدة في الأهداف العامة، والوحدة في الكيان الإنساني العام، والوحدة في وسائل المعيشة وطراز التفكير، حتى أن الباحثين في الفنون الإسلامية قد لحظوا وحدة الأسلوب والذوق في أنواعها المختلفة، فقطعة من العاج الأندلسي، وأخري من النسيج المصري، وثالثة من الخزف الشامي، ورابعة من المعادن الإيرانية، تبدو رغم تنوع أشكالها وزخرفتها ذات أسلوب واحد وطابع واحد.
٢ - وثاني خصائص حضارتنا أنها إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الذي أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه، في قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (١). إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية علي صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية، ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد وأمة واحدة، إلا الحضارة الإسلامية فإنها تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا صرحها من جميع الأمم والشعوب، فأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والخليل وسيبويه والكندي والغزالي، والفارابي، وابن رشد وأمثالهم ممن اختلفت أصولهم وتباينت أوطانهم، ليسوا إلا عباقرة قدمت فيهم الحضارة الإسلامية إلي الإنسانية أروع نتاج الفكر الإنساني السليم.
٣ - وثالث خصائص حضارتنا أنها جعلت للمبادئ الأخلاقية المحل الأول في كل نظمها ومختلف ميادين نشاطها، وهي لم تتخل عن هذه المبادئ قط، ولم تجعلها وسيلة لمنفعة دولة أو جماعة، أو أفراد .. في الحكم، وفي العلم وفي التشريع، وفي الحرب، وفي السلم، وفي الاقتصاد، وفي الأسرة .. روعيت.  المبادئ الأخلاقية تشريعا وتطبيقا، وبلغت في ذلك شأوا ساميا بعيدا لم تبلغه حضارة في القديم والحديث. ولقد تركت الحضارة الإسلامية في ذلك آثارا تستحق الإعجاب وتجعلها وحدها من بين الحضارات التي كفلت سعادة الإنسانية سعادة خالصة لا يشوبها شقاء ..
٤ - ورابع هذه الخصائص أنها تؤمن بالعلم في أصدق أصوله، وترتكز علي العقيدة في أصفي مبادئها، فهي خاطبت العقل والقلب معا، وأثارت العاطفة والفكر في وقت واحد. وهي ميزة لم تشاركها فيها حضارة في التاريخ. وسر العجب في هذه الخاصة من خصائص حضارتنا أنها استطاعت أن تنشئ نظاما للدولة قائما علي مبادئ الحق والعدالة، مرتكزا إلي الدين والعقيدة دون أن يقيم الدين عائقا من دون رقي الدولة واطراد الحضارة، بل كان الدين من أكبر عوامل الرقي فيها، فمن بين جدران المساجد في بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة انطلقت أشعة العلم إلي أنحاء الدنيا قاطبة. إن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة التي لم يُفصل فيها الدين عن الدولة مع نجاتها من كل مآسي المزج بينهما كما عرفته أوروبا في القرون الوسطى. لقد كان رئيس الدولة خليفة وأميرا للمؤمنين، لكن الحكم عنده للحق، والتشريع للمختصين فيه، ولكل فئة من.   العلماء اختصاصهم والجميع يتساوون أمام القانون، والتفاضل بالتقوى والخدمة العامة للناس (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) (١) (الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله) (٢) هذا هو الدين الذي قامت عليه حضارتنا، ليس فيه امتياز لرئيس، ولا لرجل دين، ولا لشريف ولا لغني .. {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (٣).
٥ - وآخر ما نذكر من خصائص حضارتنا هذا التسامح الديني العجيب الذي لم تعرفه حضارة مثلها قامت علي الدين. إن الذي لا يؤمن بدين ولا بإله، لا يبدو عجيبا إذا نظر إلي الأديان كلها علي حد سواء، وإذا عامل أتباعها بالقسطاس المستقيم، ولكن صاحب الدين الذي يؤمن بأن دينه حق وأن عقيدته أقوم العقائد وأصحها، ثم يتاح له أن يحمل السيف، ويفتح المدن، ويستولي علي الحكم، ويجلس علي منصة القضاء، ثم لا يحمله إيمانه بدينه، واعتزازه بعقيدته، علي أن يجور في الحكم، أو أن ينحرف عن سنن العدالة، أو يحمل الناس على اتباع دينه .. إن رجلا مثل هذا لعجيب أن.  .يكون في التاريخ، فكيف إذا وجد في التاريخ حضارة قامت علي الدين وشادت قواعدها علي مبادئه، ثم هي من أشد ما عرف التاريخ تسامحا وعدالة ورحمة وإنسانية! .. هذا ما صنعته حضارتنا وسنجد له عشرات الأمثلة فيما نذكره في أحاديثنا المقبلة. وحسبنا أن نعرف أن حضارتنا تنفرد في التاريخ بأن الذي أقامها دين واحد، ولكنها كانت للأديان جميعا.  وبعد فأعتقد أني بلغت ما أريد من لفت الأنظار إلى دراسة حضارتنا وإن لم أبلغ ما أريد من توفية هذا البحث حقه، وحسبي أن أعرض في الأحاديث التالية نماذج من روائع حضارتنا نستدل بها على خلود الحضارة التي شادتها الأمة التي وصفها أعدل حاكم وأصدق قائل بأنها: (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١) 
 
.آثار حضارتنا في التاريخ
تكلمنا في الحديث الماضي عن الخصائص البارزة لحضارتنا، وقلنا إن الحضارات إنما تخلد بمقدار ما تقدمه في تاريخ الإنسانية من آثار خالدة في مختلف النواحي الفكرية والخلقية، والمادية، وأن حضارتنا لعبت دوراً خطيراً في تاريخ التقدم الإنساني، وتركت في ميادين العقيدة والعلم والحكم والفلسفة والفن والأدب وغيرها آثاراً بعيدة المدى قوية التأثير فيما وصلت إليه الحضارة الحديثة، فما هي الآثار؟ وما هي أهميتها؟
 
نستطيع أن نجمل الآثار الخالدة لحضارتنا في ميادين خمسة رئيسية:
 
أولاً- في ميدان العقيدة والدين: فقد كان.   لمبادئ الحضارة الإسلامية أثر كبير في حركات الإصلاح الدينية التي قامت في أوروبا منذ القرن السابع حتى عصر النهضة الحديثة، فالإسلام الذي أعلن وحدة الله وانفراده بالسلطان وتنزيهه عن التجسيم والظلم والنقص، كما أعلن استقلال الإنسان في عبادته وصلته مع الله وفهمه لشرائعه دون وساطة رجال الدين، كان عاملاً كبيراً في تفتح أذهان الشعوب إلى هذه المبادئ القوية الرائعة، وقد كانت الشعوب يومئذ ترسف في أغلال من الخصام المذهبي العنيف والخضوع لسلطان رجال الدين على أفكارهم وآرائهم وأموالهم وأبدانهم! فمن الطبيعي وقد وصلت فتوحاته في الشرق والغرب إلى ما وصلت إليه، أن تتأثر الأمم المجاورة له بمبادئه في العقيدة قبل كل شيء.
وهذا ما حدث فعلاً، إذ قام في القرن السابع الميلادي في الغربيين من ينكر عبادة الصور، ثم قام بعدهم من ينكر الوساطة بين الله وعباده، ويدعو إلى الاستقلال في فهم الكتب المقدسة بعيداً عن سلطان رجال الدين ومراقبتهم. ويؤكد كثير من الباحثين أن (لوثر) في حركته الإصلاحية كان متأثراً بما قرأه للفلاسفة العرب والعلماء المسلمين من آراء في الدين والعقيدة والوحي، وقد كانت الجامعات الأوروبية في عصره لا تزال.  تعتمد على كتب الفلاسفة المسلمين التي ترجمت منذ عهد بعيد إلى اللاتينية، ونستطيع أن نؤكد بأن حركة الفصل بين الدين والدولة التي أُعلنت في الثورة الفرنسية كانت وليد الحركات الفكرية العنيفة التي سادت أوروبا ثلاثة قرون أو أكثر، وكان لحضارتنا فضل في إيقاد جذوتها عن طريق الحروب الصليبية والأندلس.
 
ثانيا- في ميدان الفلسفة والعلوم: من طب ورياضيات وكيمياء وجغرافيا وفلك. أفاقت أوروبا على صوت علمائنا وفلاسفتنا يدرّسون هذه العلوم في مساجد إشبيلية وقرطبة وغرناطة وغيرها، وكان رواد الغربيين الأُول إلى مدارسنا شديدي الإعجاب والشغف بكل ما يستمعون إليه من هذه العلوم في جو من الحرية لا يعرفون له مثيلاً في بلادهم. ففي الوقت الذي كان فيه علماؤنا يتحدثون في حلقاتهم العلمية ومؤلفاتهم عن دوران الأرض وكرويتها، وحركات الأفلاك والأجرام السماوية، كانت عقول الأوروبيين تمتلئ بالخرافات والأوهام عن هذه الحقائق كلها! ومن ثم ابتدأت عند الغربيين حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية وغدت كتب علمائنا تُدرّس في الجامعات الغربية. فقد تُرجم كتاب (القانون) في الطب لابن سينا في القرن الثاني عشر، كما تُرجم كتاب (الحاوي) للرازي وهو. أوسع من القانون وأضخم، في نهاية القرن الثالث عشر، وظل هذان الكتابان عمدة لتدريس الطب في الجامعات الأوروبية حتى القرن السادس عشر، أما كتب الفلسفة فقد استمرت أكثر من ذلك، ولم يعرف الغرب فلسفة اليونان إلا عن طريق مؤلفاتنا وترجماتنا.



ومن هنا يعترف كثير من الغربيين المنصفين بأننا كنا في القرون الوسطى أساتذة أوروبا مدةً لا تقل عن ستمائة سنة.  
يقول العلامة المستشرق سيديو: (كان العرب وحدهم حاملين لواء الحضارة الوسطى فدحروا بربرية أوروبا التي زلزلتها غارات قبائل الشمال، وسار العرب إلى (منابع فلسفة اليونان الخالدة) فلم يقفوا عند حد ما اكتسبوه من كنوز المعرفة بل وسعوه وفتحوا أبواباً جديدة لدرس الطبيعة)، ويقول أيضاً: (والعرب حين زاولوا علم الهيأة عنوا عناية خاصة بالعلوم الرياضية كلها فكان لهم فيها القدح المعلّي، فكانوا أساتذة لنا في هذا المضمار بالحقيقة).
وإذا كان روجر الأول قد شجع على تحصيل علوم العرب في صقلية ولاسيما كتب الإدريسي، فإن الإمبراطور فردريك الثاني لم يبدو أقل حضاً على دراسة علوم العرب وآدابهم، وكان أبناء ابن رشد يقيمون ببلاط هذا الإمبراطور فيعلمونه تاريخ النباتات والحيوانات الطبيعي.



ويقول هومبلدفي كتابه عن الكون: والعرب هم الذين أوجدوا الصيدلية الكيماوية، ومن العرب أتت الوصايا المحكمة الأولى التي انتحلتها مدرسة (ساليرم) فانتشرت في جنوب أوروبا بعد زمن، وأدّت الصيدلة ومادة الطب اللتان يقوم عليهما فن الشفاء إلى دراسة علم النبات والكيمياء في وقت واحد، ومن طريقين مختلفين، وبالعرب فتح عهد جديد لذلك العلم.
ويقول سيديو عن الرازي وابن سينا بأنهما: سيطرا بكتبهما على مدارس الغرب زمناً طويلاً. وعُرف ابن سينا في أوروبا طبيباً فكان له على مدارسها سلطان مطلق مدة ستة قرون تقريباً، فتُرجم كتابه (القانون) المشتمل على خمسة أجزاء. 
فطُبع عدة مرات، لعدّه أساساً للدراسات في جامعات فرنسا وإيطاليا.
 
ثالثاً- في ميدان اللغة والأدب: فقد تأثر الغربيون وخاصة شعراء الأسبان بالأدب العربي تأثراً كبيراً، فقد دخل أدب الفروسية والحماسة والمجاز والتخيلات الراقية البديعة إلى الآداب الغربية عن طريق الأدب العربي في الأندلس على الخصوص. يقول الكاتب الإسباني المشهور أبانيز: (إن أوروبة لم تكن تعرف الفروسية ولا تدين بآدابها المرعية ولا نخوتها الحماسية قبل وفود العرب إلى الأندلس وانتشار فرسانهم وأبطالهم في أقطار الجنوب).  ومن عباقرة الأدب في أوروبا في القرن الرابع عشر وما بعده من لا شك أبداً في تأثير الآداب العربية على قصصهم وآدابهم، ففي سنة ١٣٤٩هكتب بوكاشيو حكاياته المسماة (بالصباحات العشرة) وهي تحذو حذو ألف ليلة وليلة، ومنها اقتبس شكسبير موضوع مسرحيته.  (العبرة بالخواتيم) كما اقتبس لسنغ الألماني مسرحيته (ناتان الحكيم).
 
وكان شوسر إمام الشعر الحديث في اللغة الإنكليزية أكبر المقتبسين من بوكاشيو في زمانه، فقد لقيه في إيطاليا ونظم بعد ذلك قصصه المشهورة باسم (حكايات كانتربري).
أما (دانتي) فيؤكد كثير من النقاد أنه كان في (القصة الإلهية) التي يصف فيها رحلته إلى العالم الآخر متأثراً برسالة الغفران للمعري ووصف الجنة لابن عربي.
وقد تأثرت القصة الأوروبية في نشأتها بما كان عند.  العرب من فنون القصص في القرون الوسطى، وهي المقامات وأخبار الفروسية ومغامرات الفرسان في سبيل المجد والعشق، وكان لألف ليلة وليلة بعد ترجمتها إلى اللغات الأوروبية في القرن الثاني عشر أثر كبير جداً في هذا المجال حتى أنها طُبعت منذ ذلك الحين حتى الآن أكثر من ثلاثمائة طبعة في جميع لغات أوروبا، حتى ليرى عدد من النقاد الأوروبيين أن رحلات (جليفر) التي ألفها (سويفت) ورحلة (روبنسون كروزو) التي ألفها (ديفوه) مدينة لألف ليلة وليلة، ولرسالة حي بن يقظان للفيلسوف العربي ابن طفيل.
 
ولا حاجة بنا إلى أن نذكر ما دخل اللغات الأوروبية على اختلافها من كلمات عربية في مختلف نواحي الحياة حتى أنها لتكاد تكون كما هي في اللغة العربية، كالقطن، والحرير الدمشقي، والمسك، والشراب، والجرة، والليمون، والصِّفر، وغيرها مما لا يُحصى.   رابعاً- في ميدان التشريع: فقد كان لاتصال الطلاب الغربيين بالمدارس الإسلامية في الأندلس وغيرها أثر كبير في نقل مجموعة من الأحكام الفقهية والتشريعية إلى لغاتهم، ولم تكن أوروبا في ذلك الحين علي نظام متقن ولا قوانين عادلة.
حتى إذا كان عهد نابليون في مصر ترجم أشهر كتب الفقه المالكي إلى اللغة الفرنسية. ومن أوائل هذه الكتب (كتاب خليل) الذي كان نواة القانون المدني الفرنسي، وقد جاء متشابها إلى حد كبير مع أحكام الفقه المالكي، يقول العلامة سيديو: (والمذهب المالكي هو الذي يستوقف نظرنا على الخصوص لما لنا من الصلات بعرب إفريقية، وعهدت الحكومة الفرنسية إلى الدكتور بيرون في أن يترجم إلى الفرنسية كتاب المختصر في الفقه للخليل بن اسحاق بن يعقوب المتوفى سنة ١٤٢٢م)
 
رابعا-فى مجال الشريعة:
فقد كان لاتِّصال الطُّلاب الغَربيِّين بالمدارس الإسلامية في الأندلس وغيرها - أثرٌ كبيرٌ في نقل مجموعة من الأحكام الفقهيَّة والتشريعيَّة إلى لُغاتِهم، ولم تكن أوربا في ذلك الحين على نظام مُتقن ولا قوانين عادلة؛ حتَّى إذا كان عهد نابليون في مصر ترجمَ أشهر كُتُب الفقه المالكي إلى اللُّغة الفرنسيَّة، ومن أوائل هذه الكتب "كتاب خليل"، الذي كان نواة القانون المدني الفَرَنسي، وقد جاء مُتشابهًا إلى حدٍّ كبير مع أحكام الفقه المالكي، يقول العلامة "سيديو": "والمذهب المالكي هو الذي يستوقفُ نظرنا على الخُصُوص؛ لما لنا من الصِّلات بعرب إفريقيَّة، وعهدت الحُكُومة الفرنسيَّة إلى الدكتور بيرون في أن يُترجم إلى الفرنسيَّة كتاب "المختصر في الفقه"، للخليل بن إسحاق بن يعقوب المتوفى سنة 1422م".
 
خامساً- في مفهوم الدولة وعلاقة الشعب بالحكومة: فقد كان العالم القديم والوسيط ينكر على الشعب حقه في الإشراف على أعمال حكامه، كما. يجعلون الصلة بينه وبين الحاكم صلة بين العبد وسيده، فالحاكم هو السيد المطلق يتصرف بالشعب كما يشاء وكانت المملكة تعتبر ملكا خاصا للملك تورث عنه كما تورث بقية أمواله، ويستبيحون من أجل ذلك أن تقوم الحرب بين دولة وأخرى من أجل المطالبة بحصة أميرة في العرش، أو للخلاف على ميراث الأصهار!
أما العلاقة بين الأمم المتحاربة فهي استباحة الغالب لكل ما في يد المغلوب وما في وطنه من مال وعرض وحرية وكرامة، وظل الأمر كذلك حتى قامت الحضارة الإسلامية تعلن فيما تعلن من مبادئها أن الشعب هو صاحب الحق في الإشراف على حكامه، وأن هؤلاء ليسوا إلا أجراء يسهرون على مصالح الشعب وكرامته بأمانة ونزاهة، وفى هذا يقع لأول مرة في التاريخ أن يحاسب فرد من أفراد الشعب حاكمه عما يلبس، من أين جاء به، فلا يحكم عليه بالإعدام، ولا يقاد إلى السجن، ولا ينفى من الأرض، ولكن يقدم له الحاكم حسابه حتى يقتنع ويقتنع الناس! ولأول مرة في التاريخ يقول أحد أفراد الرعية لحاكمه الأكبر: السلام عليك أيها الأجير! فيعترف الحاكم بأنه أجير الشعب، عليه ما على الأجير من حق الخدمة بإخلاص، والنصح بأمانة. أعلنت الحضارة الإسلامية هذا فيما أعلنته وطبقته.  بعد ذلك، فما هي إلا نسمة الحرية والوعي تهب في الشعوب المجاورة للمجتمع الإسلامي فتتململ ثم تتحرك، ثم تثور، ثم تتحرر.
وكان مما أعلنته حضارتنا في حروبها احترام العهود، وصيانة العقائد، وترك المعابد لأهلها، وضمان حريات الناس وكرامتهم، فأثارت في الشعوب المغلوبة لحكمها روح العزة والكرامة، ونبهت فيهم معاني الإنسانية الكريمة العزيزة.
 
وكان في التاريخ لأول مرة أن يشكو والد مغلوب، الحاكم الغالب إلى رئيس الدولة الأعلى من أن ولد. الحاكم قد ضرب ولده الصغير خفقتين بالسوط على رأسه من غير حق .. ويغضب رئيس الدولة الأعلى ويحاسب ولد الحاكم ويقتص منه، ويقرع الحاكم ويؤنبه ويقول له: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟! إن هذه روح جديدة تبعثها حضارتنا في الأفراد والشعوب.  وبعد، فهذه هي بعض الآثار الخالدة لحضارتنا في خمسة ميادين رئيسية هي أبرز مظاهر الحياة في الأمم والحضارات .. ومن أجل ذلك كان لنا نحن أبناء هذه الحضارة دَين على الشعوب التي حررتها حضارتنا، يجب أن نسترده لا بالتفاخر الكاذب، ولا بالأماني والأباطيل، بل بمعرفتنا، لقدر أنفسنا، وقيمة حضارتنا وسمو تراثنا، واستحقاقنا لأن نكون الأمة الوسط التي تشهد على الناس، وتقودهم إلى الخير والحق والكرامة ولعلنا فاعلون إن شاء الله. 
 
 النزعة الإنسانية
لا يسع الباحث في حضارتنا الخالدة وآثارها إلا أن يعني بالنزعة الإنسانية التي تميزت بها حضارتنا عن كل الحضارات، فنقلت الإنسانية من أجواء الحقد والكراهية والتفرقة والعصبية إلى أجواء الحب والتسامح والتعاون والتساوي أمام الله، ولدى القانون، وفى كيان المجتمع تساويا لا أثر فيه لاستعلاء عرق على عرق، أو فئة على فئة، أو أمة على أمة .. وإن هذه النزعة لتتجلى في مبادئ حضارتنا وتشريعها وواقعها.
أما النزعة الإنسانية في مبادئها فذلك حين يعلن الإسلام أن الناس جميعا خلقوا من نفس واحدة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا.    وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} (١). فالأصل البشري لأبناء البشرية قاطبة هو أصل واحد. ومهما تفرق الناس بعد ذلك إلى أمم وقبائل وبلدان وأجناس، فإنما هو كتفرق البيت الواحد والأخوة من أب واحد وأم واحدة. وما كان كذلك فسبيل هذا الاختلاف في أجناسهم وبلدانهم أن يؤدي إلى تعاونهم وتعارفهم وتلاقيهم على الخير، ومن ذلك انبثق المبدأ الإنساني الخالد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (٢) والكل سواء، سواء عند الله في آدميتهم وإنسانيتهم لا تمايز بينهم إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (٣)، وهم سواء أمام القانون في الخضوع له، لا تمايز بينهم إلا بالحق {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (٤)، وهم سواء في كيان المجتمع، يتأثر قويهم بضعيفهم، ومجموعهم لعلم أفراد منهم (مثل المؤمنين في توادَهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر) (٥).  
 
وأما النزعة الإنسانية في تشريعنا الحضاري، فإنك لتلمس ذلك واضحا في كل باب من أبواب التشريع، في.  الصلاة يقف الناس جميعا بين يدي الله لا يخصص مكانا لملك أو عظيم أو عالم. وفي الصوم يجوع الناس جوعا واحدا لا يفرد من بينهم أمير، أو غني، أو شريف. وفي الحجّ يلبس الناس لباسًا واحدًا، ويقفون موقفاً واحداً، ويؤدون منسكاً واحداً، لا تمييز بين قاص ودان، وقوي وضعيف، وأشراف وعامة. فإذا انتقلت من ذلك إلى أحكام القانون المدني وجدت الحق هو الشرعة السائدة في العلاقة بين الناس، والعدل هو الغرض المقصود من التشريع، ودفع الظلم هو اللواء الذي يحمله القانون ليفئ إليه مضطهد ومظلوم. فإذا انتقلت من ذلك إلي القانون الجزائي وجدت العقوبة واحدة لكل من يرتكبها من الناس، فمن قتل قُتل، ومن سرق عوقب، ومن اعتدى أُدب، لا فرق بين أن يكون القاتل عالما أو جاهلا، والمقتول أميرا أو فلاحا، ولا فرق بين أن يكون المعتدي أمير المؤمنين، أو صانع النسيج، والمعتدي عليه أعجمياً أو عربياً، شرقياً أو غربياً، فالكل سواء في نظر القانون {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} (١).
ويسمو التشريع إلى أرفع من هذا حين يثبت الكرامة الإنسانية للناس جميعا بقطع النظر عن أديانهم. وأعراقهم وألوانهم فيقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} (١) هذه الكرامة هي التي تضمن للناس جميعاً حقهم في الحياة والعقيدة والعلم والعيش، هي للناس جميعا، ومن واجب الدولة أن تكفلها لهم على قدم المساواة بلا استثناء. ويسمو التشريع فوق هذا إلى ذروة عالية من السمو الإنساني حين يجعل أساس المثوبة والعقاب للناس لا على ظواهر أفعالهم بل على نواياهم (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم) (٢)، فالنية هي محل المؤاخذة أو الإثابة: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) (٣)، والنية المقبولة عند الله هي نية الخير والنفع للناس وابتغاء وجه الله ومرضاته دون غرض مادي، أو نفع تجاري {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (٤)، ويبلغ التشريع أعلى.  .ذروة من النزعة الإنسانية حين يقرر وحدة العوالم كلها من إنسان وحيوان ونبات وجماد وأرض وأفلاك في سلك العبودية لله والخضوع لنواميس الكون، وما أروع ما يطلبه القرآن من المسلم أن يذكره في كل ركعة من ركعات صلاته {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (١)، إنه لواجب أن يذكر المسلم أنه جزء من الكون مخلوق لإلّه واحد متصف بالرحمة البالغة الشاملة، فليكن المسلم في هذا العالم الذي يعيش فيه وهو محتاج إليه مثالا للرحمة التي يتصف بها الله، وهو غني عن العالمين.
 
هذه هي مظاهر النزعة الإنسانية في مبادئ حضارتنا وتشريعها حين أُعلنت للناس، فكيف كان واقعها حين حكمت وانتصرت؟ هل ظلت تلك المبادئ ميثاقاً كميثاق حقوق الإنسان في شرعة الأمم تحتفل الدول بذكرى إعلانه يوماً في كل عام، بينما تمتهنه الدول الكبرى في كل ساعة وفي كل يوم وفي كل شهر من شهور السنة؟ .. هل ظلت تلك المبادئ حبيسة في البلد الذي أُعلنت فيه كما احتبست مبادئ الثورة الفرنسية في فرنسا وحرِّمت علي.   مستعمراتها والبلدان الواقعة تحت حكمها أو انتدابها؟ هل نصبت تماثيل جديدة كما نصب تمثال الحرية في نيويورك أول ما يراه القادم إلى تلك الديار، بينما تنطق أعمال أمريكا في خارجها نطقا يلعن الحرية ويهزأ بها ويضطهد عشاقها الأحرار؟ .. لنستمع إلى التاريخ فهو أصدق شاهد، لنستمع إلى روائع النزعة الإنسانية في حضارتنا وكيف أعلنتها حقائق ناطقة في تصرفات أفرادها وحكامها:
تغاضب أبا ذر، وهو عربي من غفار، مع بلال الأسود الحبشي مولى أبي بكر رضي الله عنه وتطور النزاع بينهما إلى أن أخذت أبو ذر الحدة فقال لبلال: يا ابن السوداء! فشكاه بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأبي ذر: (أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)! فقال أبو ذر وقد ظن الجاهلية هي الانحراف الأخلاقي الشهواني الذي لا يأتيه إلا الشباب: على ساعتي هذه من كبر السن؟ .. قال: نعم، (هم إخوانكم) (١). فندم أبو ذر وتاب حتى أنه أمر بلالا أن يطأه على وجهه مبالغة في التوبة والندم.  وسرقت امرأة من بني مخزوم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجيء بها إليه لتعاقب، فأهم ذلك قريشا وقالوا: من يشفع لنا عند رسول الله في إسقاط الحد عنها؟ ثم ذكروا أن أسامة بن زيد حبيب إلى قلب الرسول فكلموه في أن يشفع لها عنده، فكلمه بذلك فغضب عليه الصلاة والسلام غضبا شديدا وقال لأسامة: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام في الناس خطيبا فقال: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) 
ولما كان عهد أبي بكر كان مثال الرئيس المتواضع الذي تملأ الإنسانية قلبه ونفسه، فإذا هو وهو خليفة، يأتي لبنات الحي ممن فقدن آباءهن في الحروب فيحلب لهن غنمهن ويقول: أرجو أن لا تغيرني الخلافة عن خُلق كنت أعتاده من قبل.
وكان عمر مثال الخليفة الغيور على الشعب البار بالضعفاء، الشديد في الحق، الناس عنده سواء، بل يحرم نفسه ليعطي الناس، ويجوع ليشبعوا، وكان يتفقد.  الناس في بيوتهم ومنازلهم وقصصه في ذلك مشهورة ومعروفة:
 
رأى مرة في السوق شيخاً كبيراً يسأل الصدقة فقال له: ما أنت يا شيخ؟ قال: أنا شيخ كبير أسأل الجزية والنفقة، وكان يهودياً من سكان المدينة. فإذا بعمر الإنساني العظيم يقول له: ما أنصفناك يا شيخ. أخذنا منك الجزية شاباً ثم ضيعناك شيخاً. وأخذ بيده إلى بيته ففرض له ما كان من طعامه. ثم أرسل إلى خازن بيت المال يقول: إفرض لهذا وأمثاله ما يغنيه ويغني عياله! .. ووضع الجزية عن فقراء أهل الذمة.   ولنستمع إلى ما هو أروع من هذا في تاريخ حضارتنا .. حدث أسلم خادم عمر قال: خرجت مع عمر ليلة وبعدنا عن المدينة ونحن نتفقد أهل المنازل النائية، فبصرنا بنار من بعيد فقال عمر: إني أرى هاهنا ركباناً قصّر بهم الليل والبرد، انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم فإذا بامرأة معها صبيان وقدر منصوبة على نار، وصبيانها يتضاعون (أي يتصايحون ويبكون) فسلّم عمر ثم سأل المرأة ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: وأي شيء في القدر؟ ماء أسكتهم به حتى يناموا .. والله بيننا وبين عمر! (تشكو عمر وتدعو عليه) فقال: أي رحمك الله وما يُدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا؟. فأقبل عليَّ فقال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق، وكبة من شحم، وقال: احمله عليّ، قلت: أنا أحمله عنك: قال: أنت تحمل وزري يوم القيامة لا أم لك؟! فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحرُّ لك، وجعل ينفخ تحت القدر وكانت لحيته عظيمة، فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته حتى طبخ لهم، ثم أنزلها وقال: أبغني شيئاً، فأتته بصفحة فأفرغها فيها، فجعل يقول لها أطعميهم وأنا أسطح لهم (أبسطه حتى يبرد)، فلم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، كنت بهذا الأمر أولى من أمير المؤمنين! فيقول: قولي خيراً، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله! ثم تنحى ناحية عنها، ثم استقبلها فربض مربضاً، فقلت له: لك شأن غير هذا؟ فلا يكلمني، حتى رأيت الصبية يصطرعون، ثم ناموا وهدأوا. فقام يحمد الله، ثم أقبل علي فقال: يا أسلم، إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيتَ.     ويأتي عمر يوما شابٌ مصري قبطي يحمل شكوى من ابن حاكم مصر، العربي الشريف عمرو بن العاص .. وقد سابق ابنه محمد يوماً، فسبقه القبطي .. فضربه ابن عمرو بن العاص وهو يقول: (أتسبقني وأنا ابن الأكرمين) .. فيستدعي عمر الحاكم وابنه .. ويناول القبطي الدرة ويقول له: (اضرب ابن الأكرمين) .. فيقتص القبطي من ابن حاكم بلده .. ثم يقول عمر: (أدرها على صلعة عمرو .. فما ضربك إلا بسلطان أبيه) .. ثم يلتفت إلى عمرو بن العاص وابنه ويعلنها مدوية خالدة .. (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)؟!
وبعد فليس عمر وحده هو الذي صنعته حضارتنا رجلاً يمثل الإنسانية الكاملة الرحيمة، ففي أبي بكر وفي عثمان وفي علي وفي عمر بن عبد العزيز وفي صلاح الدين وفي غيرهم من علماء حضارتنا وعظمائها وقادتها وعبّادها وفلاسفتها، في كل واحد من هؤلاء مثلٌ خالد على سمو النزعة الإنسانية في حضارتنا الخالدة.   المساواة العنصرية
وهذا جانب آخر من جوانب النزعة الإنسانية في حضارتنا الخالدة، ذلك هو تقرير المساواة حقا بين الناس من غير نظر إلى ألوانهم. فبعد أن أعلن القرآن مبدأ المساواة في قوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (١) وقف الرسول في حجة الوداع ليعلن في خطابه الخالد: (الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى) (٢) ولم تكن هذه المساواة لتقف عند حدود المبادئ التي تعلن في مناسبات متعددة- كما يقع من زعماء الحضارة الحديثة اليوم- بل كانت مساواة مطبقة تنفذ كأمر عادي.   .لا يلفت نظراً، ولا يحتاج إلى تصنع أو عناء، فقد نفذت في المساجد حيث كان يلتقي فيها الأبيض والأسود علي صعيد واحد من العبودية لله عز وجل والخشوع بين يديه. ولم يكن الأبيض ليجد غضاضة أو حرجا في وقوف الأسود بجانبه. ونفذت في الحج حيث تلتقي عناصر البشرية كلها من بيضاء وملونة على صعيد واحد وبثياب واحدة من غير تميز بين أبيض وأسود أو استعلاء من البيض على السود. بل إننا لنجد ما هو أسمى من هذا، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً الحبشي يوم فتح مكة أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن من فوقها ويعلن كلمة الحق، والكعبة هي الحرم المقدس عند العرب في الجاهلية، وهي القبلة المعظمة في الإسلام، فكيف يصعد عليها عبد ملوّن كبلال؟ .. كيف يطؤها بقدميه؟ إن مثل هذا أو قريبا منه لا يتصور في الحضارة الحديثة في أمريكا مثلا، ولكن حضارتنا فعلته قبل أربعة عشر قرنا، فما كان صعود بلال على سطح الكعبة إلا إعلانا لكرامة الإنسان على كل شيء وأن الإنسان يستحق هذه الكرامة لعلمه وعقله وأخلاقه وإيمانه لا لبشرته وبياضه، فما يقدم الإنسان بياضه إذا أخره عمله، ولا يؤخره سواده إذا قدمه ذكاؤه واجتهاده.  التسامح الديني
وهذا جانب جديد من جوانب النزعة الإنسانية في حضارتنا الخالدة، جديد في تاريخ العقائد والأديان، وجديد في تاريخ الحضارات القديمة التي ينشئها دين معين أو أمة معينة.
لقد أنشأ الإسلام حضارتنا فلم يضق ذرعاً بالأديان السابقة، ولم يتعصب دون الآراء والمذاهب المتعددة، بل شعاره {فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (١) ومن أجل ذلك كان من مبادئ حضارتنا في التسامح الديني:
١ - أن الأديان السماوية كلها تستقي من معين واحد: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا  .الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (١).
٢ - وأن الأنبياء إخوة لا تفاضل بينهم من حيث الرسالة، وأن على المسلمين أن يؤمنوا بهم جميعاً: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (٢).
٣ - وأن العقيدة لا يمكن الإكراه عليها، بل لابد فيها من الإقناع والرضا {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (٣). {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (٤).
٤ - وأن أماكن العبادة للديانات الإلهية محترمة يجب الدفاع عنها وحمايتها كحماية مساجد المسلمين {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (٥).
٥ - وأن الناس لا ينبغي أن يؤدي اختلافهم في.  .أديانهم إلى أن يقتل بعضهم بعضاً، أو يتعدى بعضهم على بعض، بل يجب أن يتعاونوا على فعل الخير ومكافحة الشر {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (١). أما الفصل بينهم فيما يختلفون فيه فلله وحده هو الذي يحكم بينهم يوم القيامة {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (٢).
٦ - وأن التفاضل بين الناس في الحياة وعند الله بمقدار ما يقدم أحدهم لنفسه وللناس من خير وبر (الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله) (٣). {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (٤).
٧ - وأن الاختلاف في الأديان لا يحول دون البر والصلة والضيافة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ.    وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (١).
٨ - وإن اختلف الناس في أديانهم فلهم أن يجادل بعضهم بعضاً فيها بالحسنى، وفي حدود الأدب والحجة والإقناع: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (٢) ولا تجوز البذاءة مع المخالفين، ولا سب عقائدهم ولو كانوا وثنيين: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (٣).
٩ - فإذا اعتُدي على الأمة في عقيدتها، وجب رد العدوان لحماية العقيدة ودرء الفتنة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (٤). {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} (٥).
١٠ - فإذا انتصرت الأمة على من اعتدى عليها في الدين، أو أراد سلبها حريتها، فلا يجوز الانتقام منهم بإجبارهم على ترك دينهم، أو اضطهادهم في عقائدهم، وحسبهم أن يعترفوا بسلطان الدولة ويقيموا  .على الإخلاص لها حتى يكون (لهم ما لنا وعليهم ما علينا).
وعلى هذه الأسس قامت حضارتنا، وبها رأت الدنيا لأول مرة ديناً ينشئ حضارة فلا يتعصب على غيره من الأديان، ولا يطرد غير المؤمنين به من مجال العمل الاجتماعي والمنزلة الاجتماعية. وظل هذا التسامح شرعة الحضارة الإسلامية منذ وضع أساسها محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أخذت في الانهيار، فضاعت المبادئ، ونسيت الأوامر، وجهل الناس دينهم،. فابتعدوا عن هذا التسامح الديني الكريم.
الواقع العملي يؤيد مبادئ التسامح الديني:
لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفيها من اليهود عدد كبير، كان من أول ما عمله من شؤون الدولة أن أقام بينه وبينهم ميثاقاً تحترم فيه عقائدهم وتلتزم فيه الدولة بدفع الأذى عنهم، ويكونون مع المسلمين يداً واحدة على من يقصد المدينة بسوء. فطبق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ التسامح الديني في البذور الأولى للحضارة الإسلامية.
وكان للرسول جيران من أهل الكتاب، فكان يتعاهدهم ببره ويهديهم الهدايا ويتقبل منهم هداياهم. ولما جاء وفد نصارى الحبشة أنزلهم رسول الله في المسجد، وقام بنفسه على ضيافتهم وخدمتهم، وكان مما قاله يومئذ: إنهم كانوا لأصحابنا مكرِمين فأحب أن أكرمهم بنفسي.
وجاء مرة وفد نصارى نجران فأنزلهم في المسجد وسمح لهم بإقامة صلاتهم فيه، فكانوا يصلون في جانب منه، ورسول الله والمسلمون يصلون في جانب.  آخر. ولما أرادوا أن يناقشوا الرسول في الدفاع عن دينهم، استمع إليهم وجادلهم، كل ذلك برفق وأدب وسماحة خلق.
وعلى هدي الرسول الكريم في تسامحه الديني ذي النزعة الإنسانية الرفيعة سار خلفاؤه من بعده. فإذا بنا نجد عمر بن الخطاب حين يدخل بيت المقدس فاتحاً يجيب سكانها المسيحيين إلى ما اشترطوه: من أن لا يساكنهم فيها يهودي، وتحين صلاة العصر وهو في داخل كنيسة القدس الكبرى، فيأبى أن يصلي فيها كيلا يتخذها المسلمون من بعدُ ذريعة للمطالبة بها واتخاذها مسجداً! ونجده وقد شكت إليه امرأة مسيحية من سكان مصر أن عمرو بن العاص قد أدخل دارها في المسجد كرهاً عنها، فيسأل عمراً عن ذلك فيخبره أن المسلمين كثروا وأصبح المسجد يضيق بهم وفي جواره دار هذه المرأة وقد عرض عليها عمرو ثمن دارها وبالغ في الثمن فلم ترض، مما اضطر عمرو إلى هدم دارها وإدخاله في المسجد، ووضع قيمة الدار في بيت المال.  تأخذه متى شاءت، ومع أن هذا مما تبيحه قوانيننا الحاضرة وهي حالة يعذر فيها عمرو على ما صنع، فإن عمر لم يرض ذلك، وأمر عمراً أن يهدم البناء الجديد من المسجد ويعيد إلى المرأة المسيحية دارها كما كانت!
هذه هي الروح المتسامحة التي سادت المجتمع الذي أظلته حضارتنا بمبادئها فإذا بنا نشهد من ضروب التسامح الديني ما لا نجد له مثيلاً في تاريخ العصور حتى في العصر الحديث!
فمن مظاهر التسامح الديني أن المساجد كانت تجاور الكنائس في ظل حضارتنا الخالدة، وكان رجال الدين في الكنائس يعطون السلطة التامة على رعاياهم في كل شؤونهم الدينية والكنسية، ولا تتدخل الدولة في ذلك، بل إن الدولة كانت تتدخل في حل المشاكل الخلافية بين مذاهبهم وتنصف بعضهم من بعض.   أما حرية رجال الدين في طقوسهم، وإبقاء سلطتهم على رعاياهم دون تدخل الدولة في ذلك، فقد شعر المسيحيون من سكان البلاد بالحرية في ذلك ما لم يشعروا ببعضه في حكم الروم. ولعل أحداً منا لا ينسى موقف السلطان محمد الفاتح حين استولى على القسطنطينية مقر البطريركية الأرثوذكسية في الشرق كله، فقد أعلن يومئذ تأمين سكانها - وكلهم نصارى - على أموالهم وأرواحهم وعقائدهم وصلبانهم وأعفاهم من الجندية، ومنح رؤساءهم سلطة التشريع والفصل في الخصومات التي تقع بين رعاياهم، دون أن تتدخل الدولة فيها! فرأى في ذلك سكان القسطنطينية فرقاً كبيراً بين ما كانوا يعاملون به في عهد البيزنطيين وبين معاملة السلطان محمد الفاتح لهم، إذ كان البيزنطيون يتدخلون في الخلافات المذهبية ويفضلون أتباع كنيستهم على أتباع الكنائس الأخرى.  ومن مظاهر التسامح الديني أن كانت الوظائف تعطى للمستحق الكفء، بقطع النظر عن عقيدته ومذهبه، وبذلك كان الأطباء المسيحيون في العهدين الأموي والعباسي محل الرعاية لدى الخلفاء، وكان لهم.  الإشراف على مدارس الطب في بغداد ودمشق زمنا طويلا. كان ابن أثال الطبيب النصراني طبيب معاوية الخاص، وكان (سرجون) كتابه. وقد عين مروان (اتناسيوس) مع آخر اسمه إسحاق في بعض مناصب الحكومة في مصر، ثم بلغ مرتبة الرئاسة في دواوين الدولة.
ومن أشهر الأطباء الذين كانت لهم الحظوة عن الخلفاء جرجيس بن بختيشوع، وكان مقرباً من الخليفة المنصور واسع الحظوة عنده.   وكان سلمويه بن بنان النصراني طبيب المعتصم، ولما مات جزع عليه المعتصم جزعاً شديداً، وأمر بأن يدفن بالبخور والشموع على طريقة ديانته!
وكان بختيشوع بن جبرائيل طبيب المتوكل وصاحب الحظوة لديه، حتى أنه كان يضاهي الخليفة في اللباس وحسن الحال، وكثرة المال وكمال المروءة.
 
وكذلك كانت الحظوة للشعراء والأدباء لدى الخلفاء والأمراء، بقطع النظر عن أديانهم ومذاهبهم. وكلنا يعلم مكانة الأخطل في العهد الأموي.  وكان الأفراد كالخلفاء يصادقون من تروق لهم مصادقتهم بقطع النظر عن دينهم. كان إبراهيم بن هلال (الصابي) أي من الصائبة - وهم قوم المجوس لهم ديانة خاصة بهم - قد بلغ أرفع مناصب الدولة، وتقلد الأعمال الجليلة في تقدمه الشعراء، وكانت بينه وبين زعماء الأدب والعلم من المسلمين صلات حسنة، وصداقات وشيجة، حتى أنه لما مات رثاه الشريف الرضي شيخ الهاشميين العلويين ونقيبهم بقصائد خالدة.   وكانت الحلقات العلمية في حضرة الخلفاء تجمع بين مختلف العلماء على اختلاف أديانهم ومذاهبهم. كانت للمأمون حلقة علمية يجتمع فيها علماء الديانات والمذاهب كلها، وكان يقول لهم: ابحثوا ما شئتم من العلم من غير أن يستدل كل واحد منكم بكتابه الديني، كيلا تثور بذلك مشاكل طائفية.
ومثل ذلك كانت الحلقات العلمية الشعبية. قال خلف بن المثنى: لقد شهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يُعرف مثلهم في الدنيا علماً ونباهة، وهم الخليل بن أحمد صاحب النحو (وهو سني)، والحميري الشاعر (وهو شيعي)، وصالح بن عبد القدوس (وهو زنديق ثنوي)، وسفيان بن مجامع (وهو خارجي صفري)، وبشّار بن بُرد (وهو شعوبي خليع ماجن)، وحمّاد عجرد (وهو زنديق شعوبي)، وابن رأس الجالوت الشاعر (وهو يهودي)، وابن نظير المتكلم (وهو نصراني)، وعمر بن المؤيد (وهو مجوسي)، وابن سنان الحرّاني الشاعر (وهو صابئي)، كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار، ويتحدثون في جو من الود لا تكاد تعرف منهم أن بينهم هذا الاختلاف الشديد في ديانتهم ومذاهبهم!
 
ومن مظاهر التسامح الديني في حضارتنا الاشتراك بالأعياد الدينية بمباهجها وزينتها. فمنذ العهد الأموي كانت للنصارى إحتفالاتهم العامة في الشوارع تتقدمها الصُلبان ورجال الدين بألبستهم الكهنوتية. وقد دخلالبطريرك ميخائيل مدينة الإسكندرية في احتفال رائع وبين يديه الشموع والصُلبان والأناجيل، والكهنة يصيحون: قد أرسل الرب إلينا الراعي المأمون الذي هو مرقس الجديد. وكان ذلك في عهد هشام بن عبد الملك.
وجرت العادة أيام الرشيد بأن يخرج النصارى في موكب كبير وبين أيديهم الصليب وكان ذلك في يوم عيد الفصح.
 
ومن الغريب أن مثل هذه المظاهر من الود ظلت حتى في الحروب الصليبية حيث كان الغرب يشن أقسى الحملات التاريخية على بلاد الإسلام باسم الصليب، وهذا هو الرحالة ابن جُبير يقول لنا في رحلته: ومن أعجب ما يحدث أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان منهم ويقع المصاف بينهم، ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض. واختلاف القوافل عن مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم، وهي من الأمنة على غاية، وتجار النصارى يؤدون في بلاد المسلمين ضريبة على سلعهم، والاتفاق بينهم الاعتدال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية والدنيا لمن غلب.
وبعد، التسامح الديني في حضارتنا مما لا يعهد له مثيل في تاريخ العصور الماضية، وقد أجمع.  .  المؤرخون الغربيون ممن يحترمون الحق على هذا التسامح وأشادوا به.
يقول المستر (درابر) الأمريكي المشهور: إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود على مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيراً من الأعمال الجسام ورقوهم إلى مناصب الدولة، حتى أن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة حنا بن ماسويه، ولم يكن ينظر إلى البلد الذي عاش فيه العالم، ولا إلى الدين الذي ولد فيه، بل لم يكن ينظر إلا إلى مكانته من العلم والمعرفة.
ويقول المؤرخ الشهير المعاصر (ولز) في صدر بحثه عن تعاليم الإسلام: (إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة، ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي عما في أية جماعة أخرى سبقتها .. ) إلى أن يقول عن الإسلام: (إنه مليء بروح الرفق والسماحة والأخوة).  ويقول (رينو) في تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط: (إن المسلمين في مدن الأندلس كانوا يعاملون النصارى بالحسنى، كما أن النصارى كانوا يراعون شعور المسلمين فيختنون أولادهم ولا يأكلون لحم الخنزير).    وإذا كنا قد توسعنا في التدليل على التسامح الديني في حضارتنا، فإنما نريد أن نرد فرية هؤلاء الغربيين المتعصبين على تاريخنا، بأننا كنا قساة أكرهنا الناس على الدخول في ديننا وعاملنا غير المسلمين بكل مذلة واضطهاد. وكان من الخير لهم أن لا يفتحوا على أنفسهم هذا الباب، فإن مخازيهم في التعصب الديني ضد المسلمين في الحروب الصليبية وفي إسبانيا وفي العصر الحاضر مما يطأطؤون منه رؤوسهم حياء وخجلاً، بل إن مخازيهم في اضطهاد بعضهم لبعض مما لا ينكره كل دارس للتاريخ.    
ألست ترى معي أن قول غوستاف لوبون: (إن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم) هو إنصاف للحق قبل أن يكون إنصافاً للمسلمين؟!.  
 
أخلاقنا الحربية
 
وإليكم جانباً جديداً من جوانب النزعة الإنسانية في حضارتنا، وهو جانب تنفرد به حضارتنا أيضاً. إن حسن الخلق، ولين الجانب، والرحمة بالضعيف، والتسامح مع الجار والقريب، تفعله كل أمة في أوقات السلم مهما أوغلت في الهمجية. ولكن حسن المعاملة في الحرب، ولين الجانب مع الأعداء، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين، لا تستطيع كل أمة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتصف به. إن رؤية الدم تثير الدم، والعداء يؤجج نيران الحقد والغضب، ونشوة النصر تسكر الفاتحين فتوقعهم في أبشع أنواع التشفي والانتقام، ذلك هو تاريخ الدول قديمها وحديثها، بل هو تاريخ الإنسان منذ سفك قابيل دم أخيه هابيل: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ.    يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (١). وهنا يضع التاريخ إكليل الخلود على قادة حضارتنا عسكريين ومدنيين، فاتحين وحاكمين، إذ انفردوا من بين عظماء الحضارات كلها بالإنسانية الرحيمة العادلة في أشد المعارك احتداماً، وفي أوقات الحالات التي تحمل على الانتقام والثأر وسفك الدماء. وأقسم لولا أن التاريخ يتحدث عن هذه المعجزة الفريدة في تاريخ الأخلاق الحربية بصدق لا مجال للشك فيه، لقلت إنها خرافة من الخرافات، وأسطورة لا ظل لها على الأرض!.
جاءت حضارتنا والعالم كله يسير على سنة الغاب. القوى يقتل الضعيف، والمسلّح يسترق الأعزل، والحرب شرعة معترف بها بين جميع الشرائع والديانات والأمم والشعوب، من غير قيدٍ ولا حدّ، ومن غير تفريق بين حرب جائزة وحرب ظالمة، فكل من استطاع أن يغلب أمة على أرضها ويكرهها على عقيدتها، ويسترق رجالها ونساءها، فعل من غير تحرج ولا تأثم. فلم ترضّ حضارتنا أن تقر هذه الشرعة الظالمة التي تردت فيها الإنسانية إلى مستوى الحيوانية الشرسة، بل أعلنت أن الأصل في العلائق بين الأمم التعارف

.والتعاون: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (١) وبذلك كان السلم هو العلاقة الطبيعية بين الشعوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (٢) فإذا أبت أمة إلا الحرب والعدوان على أمة أخرى، كان على هذه الأمة أن تستعد لمجابهة العدوان، فإن ترك الاستعداد يغري بالعدوان ويسرع به: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (٣). فإذا عدلت تلك الأمة عن نية العدوان ورهبت السلم المسلح، كان على الأخرى أن تركن إلى السلم وتحرص عليه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (٤). وإن أبت إلا الحرب، فالقوة تدفع القوة، والعدوان يدفع بمثله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (٥). وهنا تعلن مبادئ حضارتنا تحريم الحروب للغزو ونهب الأموال، وإذلال كرامة الشعوب، إنما الحرب المشروعة ما كانت إلا لغايتين اثنتين:١ - دفاع عن عقيدة الأمة وأخلاقها.

٢ - ودفاع عن حرية الشعب واستقلاله وسلامه، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (١). وليست حرية العقيدة هي المطلوبة للأمة التي تعلن الحرب فحسب، بل عليها أن تضمن حرية العقائد كلها، وتحمي أماكن العبادة لكل الديانات: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (٢). وأروع ما نادت به حضارتنا أن الدفاع عن الضعفاء المستذلين في الشعوب الأخرى واجب علينا كما يجب الدفاع عن حريتنا وكرامتنا: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (٣).
وإذا كانت هذه الغاية من حروب حضارتنا، لم يجز لها حين تعلن الحرب في سبيل الحق والخير أن تنقلب إلى أداة تصنع الباطل والشر. ومن أجل ذلك كان من مبادئ حضارتنا في الحرب أن لا تقاتل إلا من يقاتلها ويعتدي عليها: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}   .     فإذا قامت الحرب كان علينا أن لا ننسى مبادئنا فنقسو ونفسد ونظلم وننشر الخراب والدمار .. كلا .. فالحرب الإنسانية الخالصة لله يجب أن تظل إنسانية في وسائلها وعند اشتداد وطيسها. ومن هنا جاءت الوصايا التي لم يسبق لها في التاريخ: (لا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولاشيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له) (١).
أريت كيف تكون الحرب الإنسانية التي تشرع في سبيل الله لا للشر والعدوان؟ .. وتستمر هذه الحرب متقيدة بهذه المبادئ الإنسانية الرحيمة حتى تنتهي بأحد أمرين: إما الصلح، وإما النصر. أما الصلح فالعهود فيه محترمة، والوفاء بما تضمنته واجب: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ.  .اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} (١). وأما النصر، فهو انتصار الجماعة التي غضبت للحق واستشهدت في سبيله. فلن تفعل حين انتصارها إلا ما يوطد أركان الحق في الأرض، ويمنع البغي والفساد بين الناس: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (٢). وهذا كما ترون تحديد لأعمال الدولة المنتصرة ورسالتها بعد النصر: سمو بالروح، وعدالة في المجتمع وتعاون على الخير ونفع الناس، ومكافحة للشر والفساد في الأرض.
هذه هي مبادئ الحرب في حضارتنا، وتلك هي أخلاقنا الحربية: عدل ورحمة ووفاء.
وليس يكفي هذا في رأينا للإشارة بروح حضارتنا المسالمة في الحرب، فالمبادئ وحدها ليست دليلاً على سمو أمة وإنسانيتها. ولطالما رأينا أمما تحمل للناس أرفع المبادئ وهي تعيش معهم في أقساها وأخسها وأبعدها عن الإنسانية والرحمة!
 
ولنبدأ قبل كل شيء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو رائد حضارتنا وواضع أساسها وشريعتها، وهو التعبير الصادق عن أخلاقها وأهدافها ورسالتها، ولسنا نعلم أحداً من الأنبياء والمرسلين والمصلحين عُذب واضطهد وأوذي في سبيل دعوته كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاثة عشر عاماً في مكة .. كلها كيد وأذى وسب وتعذيب له ولجماعته، ومؤامرات على حياته وحياة أصحابه. وعشر سنوات في المدينة .. هي كفاح ومعارك متواصلة، لم يخلع فيها لباس الحرب إلا حين خضعت له جزيرة العرب قبيل وفاته! ومن خاض الحروب وحمل السيف، وقاتل وقوتل، وعودي واضطهد، كان من أشد الناس شوقاً إلى الدماء وظمأ إلى الانتقام. فكيف كان خلق رسول الله في حروبه؟ كيف طبق صاحب الحضارة مبادئها التي أعلنها للناس؟ ..
 
في معركة أُحد قُتل أسد الله حمزة، عم النبي وأشهر أبطال العرب، قتله رجل يقال له وحشي، بتحريض من هند زوج أبي سفيان. ولما خر البطل، أخذت هند تفتش عن قلب حمزة حتى احتزته، ثم مضغته مبالغة في التشفي والانتقام! ثم أسلمت هند وأسلم وحشي. فماذا كان من رسول الله؟ لم يزد على أن استغفر لهند، وقبل إسلام وحشي وقال له: إن استطعت أن تعيش بعيداً عنا فافعل. هذا كل ما كان من رسول الله مع قاتل عمه حمزة ومع ماضغة قلبه!
ورأى في بعض حروبه امرأة من الأعداء مقتولة، فغضب وأنكر وقال: ألم أنهكم عن قتل النساء؟ ما كانت هذه لتقاتل. هذا هو رسول الله المحارب يطبق مبادئه الإنسانية وهو يخوض الغمار ويقود الكتائب. ولما فتح مكة ودخلها الرسول ظافراً على رأس عشرة آلاف من أبطاله وجنوده، واستسلمت قريش، ووقفت تحت قدميه على باب الكعبة، تنتظر حكم الرسول عليها بعد أن قاومته إحدى وعشرين سنة .. ما زاد صلى الله عليه وسلم على أن قال: يا معشر قريش: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟
قالوا خيراً: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اليوم أقول لكم ما قال أخي يوسف من قبل: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. إذهبوا فأنتم الطلقاء .. إنه أيها الناس محمد الرسول معلم الإنسانية الخير، لا القائد السفاح الذي يسعى لمجده وسلطانه فتسكره نشوة النصر.
وسيرة أصحابه وخلفائه من بعده في حروبهم وفتوحاتهم كانت قبساً من هذا النور، وسيراً في هذا الطريق، وتنفيذاً لتلك المبادئ، لم يفقدوا أعصابهم في أشد الأوقات حرجاً، ولم ينسوا مبادئهم في أعظم الفتوحات انتصاراً.
ثار بعض سكان لبنان على عاملها علي بن عبد الله بن عباس، فحاربهم وانتصر عليهم، ورأى من الحكمة أن يفرقهم ويجلي فريقاً منهم عن ديارهم إلى أماكن.   

"أسطورة الفقراء"قربانا لمونديال الأموال والموز

$
0
0

الفقراء ومونديال الأموال والموزإنه الموز. لم يجد الروائي غابرييل غارسيا ماركيز أفضل من سحر مذاقه وفتنة رائحته سبباً لاجتياح رجال الأعمال الغربيين ب "ماكوندو"السحرية. وفي روايته ذائعة الصيت "مئة عام من العزلة"، بدت "ماكوندو"وحقول موزها، أقرب إلى أيقونة أسطورية لأميركا الجنوبية وجمهوريات الموز المسيطر عليها أميركياً.

 

إنه الموز أيضاً. يذهب اللاعبون إلى مونديال البرازيل في ظل تناقضات مثقلة بدلالات التاريخ. إذ بات بعيداً زمن الاستعمار الكولونيالي الأوروبي الذي أباد حضارات شعوب قارة أميركا الجنوبيّة كـ"المايا"والـ"آزتيك". المفارقة أن أوروبا تستورد لاعبي تلك القارة، بل تدفع لهم بسخاء، وتعتبرهم الرموز المتألقة في دورياتها. هل إنهم بديل الثروات المجلوبة من بلدان القارة التي افتتحها كريستوفر كولومبوس؟ هل أنهم يشكّلون "موزاً"معاصراً؟


في مباراة بين ناديي "برشلونة"و"فياريال"، ألقى مشجع إسباني موزة على اللاعب البرازيلي دانيال آلفيش (من برشلونة). كانت الدلالة واضحة: لستم سوى قردة من أميركا اللاتينية. تحدّى آلفيش عنصرية المشجّع فوراً. إذ التقط الموزة وأكلها أمام الجمهور فوراً. ثارت ضجة كبرى عن عنصرية أوروبيّة واضحة تجاه اللاعبين الأميركيين الجنوبيين، بل تجاه كل لاعبي العالم الثالث ومن يملكون سحنة سود العالم الثالث، حتى لو كانوا أوروبيي الجنسية، كما يحدث مع اللاعب الإيطالي الأسمر فرانكو بالوتيلي.



في المقابل، اندفعت ثقافة أوروبية عقلانية لتقاوم العنصرية. ولم يتردّد رئيس وزراء إيطاليا عن الظهور أمام الكاميرات مع مدرّب المنتخب الوطني وهما يأكلان الموز، رفضاً لتلك العنصرية.


موت "أسطورة الفقراء"

إنه المونديال الأول لزمن "اللعب المالي النظيف". إذ اندفع ذلك الشعار خلال السنتين الأخيرتين، احتجاجاً على اجتياح الأموال لتلك اللعبة. بمعانٍ كثيرة، حافظت كرة القدم على أسطورة اللاعب القادم من أحياء الفقر في العالم الثالث (أميركا الجنوبية، أفريقيا...)، ليصير أسطورة تقتحم العالم الغني، وترتفع بنفسها ومواطنها. في ذلك النسيج، صنعت أساطير لاعبي البرازيل. جاء بيليه من الفقر. جاء غارينشا ليركض إلى الكأس الذهبية في المجر برجلين مقوّستين من الفقر إلى الحليب في الطفولة. جاء ديديه دروغبا من بيوت قبائل ساحل العاج المعجونة بالفقر والحروب.


لكن الكرة باتت مثقلة بالأموال. تشهد الالتباسات المتّصلة باستضافة بلدين غنيين بالنفط والغاز، هما روسيا وقطر، على كثافة حضور الأموال في الكرة. إنه المونديال الأول الذي يأتي تحت ظلال فضائح المال في استضافة المونديال. ويعرف الجمهور على امتداد العالم أن الأموال صارت تسيطر على تلك اللعبة.


من المستطاع إعطاء ما لا نهاية له من الأمثلة، لكن القارئ ربما يعرف أكثر مما يقال له. مثلاً، تقدّر شركة "ماستر كارد"أن "مونديال البرازيل"يضيف إلى اقتصاديات الدول الـ32 المشاركة فيه، قرابة 213 مليون دولار خلال أيام المنافسة!


وتقدّر القيمة المالية الكلية للاعب الأرجنتيني في برشلونة ليونيل ميسي، بما فيها مردودات الإعلانات والمناسبات الاحتفالية، بقرابة 400 مليون يورو. ونقلت صحيفة "سبورت"الإسبانية عن رئيس نادي "برشلونة"ساندرو روزيل، أن ميسي يكلّف أي نادٍ يسعى لشرائه قرابة 580 مليون يورو. ولم تنكشف حتى الآن الأبعاد الكاملة للفضائح المالية التي رافقت انتقال اللاعب البرازيلي نيمار دا سيلفا إلى برشلونة. وساهمت ملايين الدولارات من الضرائب التي امتنع ميسي عن دفعها، في النيل من صورة ذلك اللاعب.


وليس مبلغ 102 مليون يورو الذي ناله غاريث بايل لقاء انتقاله إلى "ريال مدريد"سوى جزء من إجمالي الصفقة. فيما بلغت قيمة انتقال كريستيانو رونالدو من "مانشستر"إلى "ريال مدريد"في 2009 قرابة 132 مليون دولاراً. يقدّر أن 9 نوادٍ فقط تستطيع شراء رونالدو هي: برشلونة (اسبانيا)، آنزي ماكهاشكالا (داغستان- روسيا)، زينيت بطرسبرغ (روسيا)، تشيلسي ومانشستر سيتي ومانشستر يونايتد (انكلترا)، شنغهاي شينوا (الصين)، باريس سان جيرمان (فرنسا).


الأرجُل المهاجرة تساهم في العولمة

في سياق رصد نخبة "الأرجل"المهاجرة، يلاحظ "مركز بيو"للبحوث المتّصلة بالحياة اليومية، وجود 736 لاعباً من منتخبات وطنية تتنافس في "مونديال البرازيل"، يلعبون في منافسات الدوري في 53 دولة. ومع الأهمية التي تمثّلها الدوريات الأوروبية، وهي باتت معولمة في جمهورها البصري المتلفز، تجتذب "القارة العجوز"معظم تلك النخبة المهاجرة، وهي من دلالات العولمة في كرة القدم، وتلعب دوراً في الطابع المعولم للدوريات الأوروبية. وتضمّ أندية دوريات الدرجة الأولى في أوروبا، 515 لاعباً مهاجراً من البرازيل، و269 فرنسياً يلعبون خارج بلاد الغال، و205 لاعباً من صربيا، و188 لاعباً من البرازيل، و117 لاعباً من نيجيريا. 


ويظهر البُعد المعولم للكرة الأوروبية في صورة أخرى تجسّدها أعداد اللاعبين في أندية أوروبية كما يشاركون في منتخبات بلادهم. إذ يضمّ منتخب البرازيل 19 لاعباً يلعبون في أوروبا، والأرجنتين 20 لاعباً، والتشيلي 18 لاعباً، والولايات المتحدة 14 لاعباً، وبلجيكا 20 لاعباً، وفرنسا 15 لاعباً، البرتغال 15 لاعباً، والجزائر... 21 لاعباً! ثمة تفرّد جزائري في أن المنتخب لا يضمّ سوى اثنين من اللاعبين المحليين. والأرجح أن ذلك البعد المعولم للكرة الجزائرية ساهم في وصولها الى المونديال، بل إنها الممثل الوحيد للدول العربية فيه.


في وجه آخر من الصورة عينها، يعيش فقراء أميركا الجنوبيّة أحلاماً تعويضية شتى، أبرزها الهجرة إلى بلاد الحلم الأميركي، وليس أقل منها التألق في أندية أوروبا للخروج من الفقر.


الأرجح أن اللاعب دييغو كوستا، وهو مهاجم نادي "أتلتيكو مدريد"يمثّل تلك المفارقة الكثيفة. ويعيش اللاعب البرازيلي الحلم الأوروبي. وعندما حاول الاستمرار في الانسجام مع الحلم، بمعنى المصالحة بين هويته البرازيلية وحياته اليومية في أوروبا، استيقظ بقسوة على واقع أن البرازيل ترفضه. ولم يجد صعوبة في الانتقال الى الهوية البديلة، فصار لاعباً في المنتخب الإسباني! بالنسبة لمن يصرّون على الخوض في كثافة صراعات الهوية، يبدو بؤساً أن يلحق المرء هزيمة ببلده لمصلحة الاستعمار الدموي القديم. لكن نقاشاً من هذا النوع لا مكان له في المجتمعات المعاصرة، على الأقل ليس في أوروبا ولا أميركا اللاتينية أيضاً. والأرجح أن البرازيل الصاعدة اقتصادياً تفكر بأوروبا بطريقة أكثر تحرّراً من ذلك النقاش المضني عن إمساك من في قبور التاريخ بتلابيب من يركضون في ملاعب الحاضر، في اقتباس معدّل عن قول شهير لكارل ماركس.


بتخفف من ذلك النقاش، يركض دييغو كوستا لابساً قميص المنتخب الإسباني، في "بلاده": البرازيل.


 



استطراداً، في منحى تلك الخفة في صراع الهويات والدول، على رغم استمرار حضورها، تظهر كلمات أغنية محمد عسّاف "قوي قلبك شوط"كأنها باقية في ذاكرة قديمة. "خلي علمك يعلى أكتر/ وبلادك باسمك بتكبر/ شعبك جنبك، عايش لعبك/ هيدي حربك.. خلي الملعب، متل بلادك". بطريقة مباشرة، تصف الصراع الرمزي بين الدول في ملاعب كرة القدم، بل أن عسّاف يؤدي حركة مستوحاة من الرقص الذكوري بالسيف، لكنه يحمل خليوياً في يده، فالعولمة مقتحمة لذلك المشهد.


يصحّ القول إن أغنية عسّاف، هي الأولى التي تكرّس للمونديال في الغناء العربي، مع ملاحظة أن لصباح أغنية خفيفة "بين الأهلي والزمالك محتارة والله"عن الكرة، لكنها لم تكن للمونديال، كما لم تصنع لتغنّى فيه، كحال أغنية عسّاف.


في المقابل، تنسى كلمات أغنية عسّاف أن العولمة والتفاعل بين الشعوب سكب كثيراً من الماء في كأس مرارات الصراع بين الهويّات، التي تندلق تكراراً في كل مونديال. 
وللحديث بقية. 

الكاميرا المعولمة: الاستيلاء البصري على الكرة

$
0
0

الكاميرا المعولمة: الاستيلاء البصري على الكرةتطوّق الملعب الأخضر لكرة القدم بصريّاً أكثر من خمسين كاميرا للبث المرئي- المسموع المتلفز. تتطلّع مئات ملايين الأعين إلى شاشات يصلها ذلك البث في سيول تأتيها من
الأقمار الاصطناعيّة التي تزنّر الكرة الأرضية، في زمن العولمة. لا مفرّ من ذلك الحصار البصري للكرة الحديثة، بل هو قدرها، سواء بمعنى القدر كما في التراجيديا الاغريقية القديمة أو في مسرحيات شكسبير أو حتى في فلسفة جان بول سارتر الوجودية. قدر كرة القدم الحديثة تصنعه العيون التي تتلقى، ببلادة فائضة أحياناً، سيولاً لا تنقطع من الترفيه الكروي البصري.

ربما يحضر إلى الملعب الألوف أو عشرات الألوف. حضر نهائي الدوري الإسباني 2014 قرابة تسعين ألف متفرّج. وصل إلى ستاد "النور"في لشبونة ما يزيد على 65 ألف متفرج. هل عقدت تلك الألوف كرنفالاً كرويّاً؟ ربما. تبدو جماهير الملاعب كأنها منخرطة في كرنفال مضمر (ربما مُعلن؟) بأزيائها وأوشامها والألوان المستلبة للهوية الفردية على الوجوه والخدود، وبالزينة المبهرجة بصرياً وبهتافاتها وموجاتها التشجيعية وحتى الالتماعات التي لا تكاد تتوقف لخليوياتها وكاميراتها الرقمية وغيرها. لكن، ليس الكرنفال سوى جزء من مشهدية مستباحة تلتهمها عشرات الكاميرات التلفزيونية المعولمة المدى.
مع تركيز العدسات على اللاعبين والكرة والملعب والمدربين، يصبح كرنفال الجمهور جزءًا من المتعة البصرية التي يفترض أن تبعث بلذة متعددة المشارب إلى مئات ملايين الأجساد الماثلة أمام الشاشات الفضية. لم يعد الجمهور كرنفالاً، صار كومبارساً متمماً لترفيه بصري، ترعاه شركات ومصالح وأموال، ويقتات من الأساطير التي تملأ المخيّلات عن اللاعبين والأندية واللعبة والمسابقات والبطولات والكؤوس.

ما عادوا أساطير
لم يعد اللاعبون أبطالاً للعبة رياضية. مضت بهم الأمور حتى إلى أبعد من استيلاء السياسة والإيديولوجيا عليهم، كوصف النازية لأبطال الجنس الآري في الرياضة بأنهم "آلهة الستاد"، في سياق "أولمبياد برلين 1936". لم يعد لاعبو كرة القدم أساطير معشوقة لشخصيات إنسانيّة مكرّسة للفن الكروي والمهارات والذكاء الإنساني في التعامل مع الكرة وقوانين اللعبة. ذلك زمنه كان دي ستيفانو وغارينشيا وهيدجوكوتي وفافا وزاغالو، وربما كان آخره بيليه. في معانٍ كثيرة، يبدو بيليه مستمرئا للتحوّل الحاصل في كرة القدم، من رياضة الى استعراض متلفز. انخرط بيليه بقوة في رسم هالات أخّاذة حول نيمار دا سيلفا، تماماً كما يحدث مع اكتشاف نجم في السينما أو التلفزيون.
على شاشة "بي إن سبورت"، يظهر بيليه مع كريستيانو رونالدو، الوجه الأبرز في تحوّل لاعبي كرة القدم إلى الاستعراض البصري المتلفز، في إعلان ترعاه شركة "خطوط طيران الإمارات"، التي يظهر اسمها على القمصان البيض للنادي الملكي الإسباني. يظهر البطل- المأسوي ليونيل ميسي في كثير من الإعلانات التي ترعاها شركة "خطوط الطيران التركية"، مع ملاحظة أن علامة "فلاي قطر"مطبوعة على قمصان النادي الكاتالاني. يؤدي ميسي أيضاً دور البطولة في معظم إعلانات "بيبسي"، لكن إعلان "العالم ملعبنا"الذي تصنعه تلك الشركة، يركّز على أن كرة القدم تنظّم إيقاع الحياة اليومية للشبيبة، فيظهر ميسي أقرب إلى صورة "ضيف الشرف"، إضافة إلى لاعبين كالمدافع البرازيلي الأغلى ثمناً عالمياً ديفيد لويز، وسيرجيو راموس صاحب هدف التعادل "القاتل"في المباراة النهائية لمسابقة "تشامبيونز ليغ".
ماذا عن كريستيانو رونالدو؟ لا يضحّي بأن تهتز تسريحة شعره مهما كانت قسوة المباريات، بل أن الـ"جيل"الذي يثبّتها موضع أحاديث وسخريات شتى. يغيّر تسريحة شعره كليّاً أحياناً، لكنه دوماً يتصرف بتعابير وجهه في الملعب بوعي ممثل يعرف أن "الكاميرا"تحدّق فيه دوماً، خصوصاً في اللحظات المتوترة التي تحمل ظلالاً من التماهي والتشابك بين الجمهور التلفزيوني وبطله المرمي أرضاً أو المسجل هدفاً أو المستعد لركلة يعرف أنها تسدّد عبر مئات ملايين الشاشات المعولمة. يظهر في إعلانات الشامبو لـ"هيد أند شولدرز"وسيارات "تويوتا"بثقة ممثل متمرّس. أما ظهوره في مجلة "فوغ"واصراره على عري جسده في ختام "تشامبيونز ليغ"، فحديث آخر.

 * * *

الترفيه البصري الكروي والقوة الناعمة للدول

عندما كانت الناصرية في عزّها مشروعاً لمصر بنفوذ استراتيجي واسع، حازت مصر "قوة ناعمة"شديدة القوة، لا تزال حاضرة في الذاكرة نموذجاً عما تكونه "القوة الناعمة"لدولة عربية وعالمثالثية لها. في الذاكرة، توصف تلك التجربة بمصطلح شديد الشيوع هو "الزمن الجميل". في ذلك الزمن، كان لمصر حضور قوي في الثقافة والفن، إلى حدّ كبير يمكن القول إنه قوة النموذج. كان الموسيقي عبد الوهاب نموذج التجديد الحداثي في الموسيقى العربية، وتشييد العمارة التي صارت كلاسيكية ومرجعية للغناء العربي. على غراره، كانت أم كلثوم نموذجاً في الصوت، وكذلك عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وشادية ونجاة الصغيرة. في السينما، كان الحضور الذي لا يضارع للفيلم المصري، الذي راج بوصفه الفيلم العربي بامتياز. وكذلك الحال بالنسبة إلى المشهدية البصرية المتلفزة بالأبيض والأسود.
في الثقافة، كان خيال نموذج مصر يحضر في رموز تجديد الثقافة العربية وهي تشمل طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعباس العقاد وصلاح جاهين وصلاح عبد الصبور وغالي شكري وعبد الرحمن بدوي، إضافة الى الظل المتمدد لصحافة مصر وإذاعتها وغيرها.

حداثة صوت كابتن لطيف
عدا الزمان عن تلك الأيام. فقدت مصر قوة النموذج الذي حملته قوّتها الناعمة في عوالم العرب. ربما يطول النقاش عن سبب التحوّل، لكن حصوله أبرز من أن تتجاهله الأعين. أين مصر الآن؟ ألا تزال البؤرة التي يتفاعل العرب معها سلباً وإيجاباً ونقداً وتأييداً، لكن دوماً حول مصر؟ لو كانت الرياضة مؤشّراً، فلا أقل من القول إن "الزمن الجميل"دفن وانتهى أمره إلى الذاكرة ومراراتها.
في زمن جميل، كان الصراع بين "الأهلي"و"الزمالك"يتردد صداه في شوارع عربية كثيرة. غنّته صباح في أغنية "بين الأهلي والزمالك محتارة والله"، فتردد في أجهزة الراديو على امتداد دول العرب. وفي زمن زاهٍ عَبَر، كان صوت المعلق الرياضي الكابتن محمد عبد اللطيف نموذجاً للتعليق على المباريات، عبر الراديو الذي حمل أيضاً صوت عبد الناصر ونموذجه في السياسة والزعامة والخطابة الكاريزمية أيضاً. ونقل صوت الكابتن لطيف ومباريات الكرة عبر تلفزيون الأبيض والأسود، كما بُثّت زعامة ناصرية عبرها، إلى أمدية عربية واسعة.
عَدَت شموس وليالٍ عن ذلك النموذج. في زمن التلفزة الفضائية، خصوصاً الترفيه البصري الكروي بالأقمار الاصطناعية فضائياً، تبدو قطر أوسع حضوراً من تلفزة مصر، بما لا يقاس. ربما يمتد خيال البعض للقول إن الدول الأصغر في العالم العربي أثبتت أنها تستطيع أن تكون نموذجاً، على الأقل أن تنافس. أيام الناصرية، لعب لبنان دور النموذج- المنافس في مدارج كثيرة، كالقول بأن المدرسة الرحبانية كانت المنافس الأبرز لموسيقى عبد الوهاب. في عصر البصريات الفضائية، يبدو لبنان أقرب إلى كونه نموذجاً في الفيديو كليب، وهو فن بالمرئي- المسموع رافق انتشار الوسيط التلفزيوني الفضائي. في الترفيه المتلفز فضائياً للفيديو كليب، يبدو لبنان أسهل وصولاً إلى الأعين من القاهرة.
لعل شيئاً ما من ذلك، حضر في الزيارة الشهيرة التي أداها الرئيس المخلوع حسني مبارك إلى قناة "الجزيرة"في قطر، عندما أطلق عبارته الشهيرة "كل الصرصعة دي من علبة الكبريت دي"؟
في مصر، ربما تثير الكلمات عن زوال "الزمن الجميل"كثيراً من المرارة. من كان يتخيّل أن تصبح مصر ساحة تنافس وصراع بين دولتين عربيتين خليجيتين، بعدما كانت هي صانعة الحدث على امتداد عقود في الخليج العربي، أسوة بالمدى العربي لمصر بأكمله؟
حاضراً، الأرجح أن معظم الجمهور العربي لم يعد يعنيه "دربي القاهرة"بين "الأهلي"و"الزمالك"، فيما تستغرق أجيال شابة في الدوريات الأوروبية ورموزها وأنديتها ولاعبيها. وحضر "كلاسيكو"ريال مدريد- برشلونة، في الحياة اليومية للعرب. ويلعب صغار ومراهقون كرة القدم في مدن العرب وقراهم وبلداتهم، مرتدين فانيلات ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو وتشافي هرنانديز وتشافي ألونزو وغيرها، فيما لم تعد صبية الشوارع الكروية تصيح بلقب المايسترو صالح سليم، اللاعب الأسطوري لنادي "الأهلي"في خمسينات القرن العشرين وستيناته المبكرة.

تلفزة في زمن "سانتياغو برنابيو"
في الترفيه البصري المتلفز فضائياً للكرة، بل الرياضة عموماً، تبدو مصر كأنها متجمّدة في الزمن. وتقتصر مساهمتها على أداء متواضع. إذ يظهر في "ستوديو النيل"معلّق رياضي يستضيف لاعب كرة سابقا أو أكثر، كلاعب الترسانة الشهير محمود الشاذلي وفاروق جعفر (زمالك) وعصام شعبان وفتحي مبروك (أهلي)، فيما "يتمترس"صوت المعلق على المباراة في أرض المعلب. يتكرّر هذا الأداء المتواضع حتى في قناة فضائية متخصّصة في الرياضة كقناة "الأهلي"التي يتمدد فيها حضور لاعب "الأهلي"الشهير الشيخ طه اسماعيل، وهو من لاعبي "الزمن الجميل"أيضاً. ماذا تكون نتيجة المقارنة بين المدى العربي لمشاهدة الأولمبيادات على شاشات "الجزيرة"، مع نظيراتها في "ماسبيرو"القاهرة؟ في هذا المعنى، تكون أقنية beIN sport، المملوكة لقناة "الجزيرة"، صارت على هيئة قريبة من النموذج في التلفزة الرياضية الفضائية، وهي من المساحات الأساسية في الفن المرئي- المسموع المتلفز فضائياً في عصر العولمة المعاصرة.
انطلقت التغطية التلفزيونية على أقنية "بي إن سبورت"التابعة لقناة "الجزيرة"، للمباراة الختامية في مسابقة أبطال الدوري الأوروبي "شامبيونز ليغ"قبل بداية المباراة بقرابة ساعتين، وهو تفرّد ليس بهيّن. لنلاحظ أن أبواب ستاد "النور"في لشبونة، فتحت أمام الجمهور قبل المباراة بثلاث ساعات، فيما القاعدة قضت بأن تفتح دوماً قبل المباراة بساعة.
في فرادة مهمّة، صنعت "بي إن"ستوديواً في الدوحة، قاده المقدم اللبناني باسل طبّال مع لاعب "ريال مدريد"السابق أنطونيو ماتيدا (ستوديو الدوري الاسباني في مدريد)، وهو محلّل في أقنية "بي إن". وقاد ستوديو التحليل في لشبونة المقدّم التلفزيوني الجزائري لخضر بلريش، مع التونسي نبيل معلول (لاعب سابق) والسعودي نوّاف التمياط (لاعب سابق). هناك تجمّع لهويات عربية يثير أفكارا متنوّعة. كان مراسلو ستوديو لشبونة في الملعب: الجزائري الدكتور جمال الجبالي، آلان شيرر اللاعب الانكليزي، المصري حسن سالم من خارج الستاد. المفارقة أن سالم لم يعثر على أحد من العرب في الجمهور الكرنفالي الذي ملأ 65 ألف مقعد في ذلك الستاد. وتابع المراسل أشرف بن عياد المبارة عينها في ملعب "سانتياغو برنابيو"بـ3 شاشات عملاقة على هيئة مكعب.
لم تكن هذه التغطية سوى استمرار لحضور بصري مديد لـ"الجزيرة"عبر أقنيتها الرياضية، التي نجحت في مواكبة متميّزة لأولمبيادي بكين ولندن. سجّلت تلك الأقنية ريادة عربية واضحة، في الترفيه البصري المتلفز عبر استخدام تقنية "هاي ديفنيشن" High Definition. وكذلك سيطرت تلك الأقنية على كثير من أعين الجمهور الرياضي عبر تغطية حصرية لمجموعة من الدوريات الأوروبية (إسبانيا، انكلترا، إيطاليا...)، بل وصل مداها الى تغطية الدوريات في أميركا الجنوبية: مصنع أساطير لعبة كرة القدم.
يصعب عدم الإشارة إلى أن "بي إن سبورت"التي انطلقت في مختتم 2012، تملك أقنية للبث في الشرق الأوسط والولايات المتحدة وفرنسا واندونيسيا وهونغ كونغ وتايلاند. وتبث تلك الأقنية بلغات هي العربية والفرنسية والانكليزية والاسبانية والاندونيسية والكانتونيّة. لماذا هذا التمدّد البصري في البث الفضائي؟ يحتاج الأمر إلى نقاش آخر.

* * *

الكرة وتسونامي الأموال

عندما وقف ليونيل ميسي ونيمار دا سيلفا يتشاوران قبل تنفيذ ضربة حرّة مباشرة لنادي "برشلونة"بالقرب من منطقة جزاء فريق "أتليتيكو مدريد"في ختام الدوري الإسباني، كان الجميع يعلم أن "ثمن"نيمار وميسي يفوق أثمان لاعبي الفريق المنافس، بل موازنة نادي "أتليتيكو مدريد"بأكمله. نُفّذت الضربة لكنها لم تصب المرمى.
فاز النادي الأقل أموالاً والأقل توقّعاً بالفوز على فريق "البرشا"المدوي الشهرة. تلك كانت المباراة الختامية للدوري الإسباني. وصل الفريقان إلى هذا الختام بطريقة استعراضية، بل بدت استدراجاً متعمّداً. لماذا الحديث عن التعمّد؟ لأن المباريات التي سبقتها مباشرة، شهدت كلها نتائج غير متوقعة. كان الدوري بيد "أتليتيكو"بوضوح، مع منافسة من "ريال مدريد"وتأخّر واضح من "برشلونة". جاءت سلسلة من خسارات وتعادلات للفرق الثلاثة، كتعادلي برشلونة أمام "إتشي"و"اتليتيكو"أمام "مالاقا"، كلاهما أمام فريق أقل مستوى منه بكثير!

دماء الملاعب
"إنّهم يريدون عودة البرشا إلى المنافسة بأي ثمن، لذا جعلوها تفوز في الكلاسيكو". بهذه الكلمات، عبّر لاعب نادي "ريال مدريد"كريستيانو رونالدو عن رأيه في "كلاسيكو الربيع". انتهت الموقعة الكرويّة إلى هزيمة مدويّة للنادي الملكي على الكاتالانيين المتمردين تاريخياً على العاصمة الاسبانيّة وسلطاتها. لعل ما قصده رونالدو الـ"ميرنغي" (معناها الكعكة الفخمة، في إشارة الى الأبهة الملكيّة المحيطة بالنادي)، ان "سلطة ما"أرادت إعادة التوازن الى الصراع، فقوّت الأضعف كي ينتصر على الأقوى، بحسب ما كان رائجاً قبل تلك الموقعة. وعندما يفوز فريق بالضد من التوقّعات، تنتقل أموال ضخمة بين أيدي شركات المراهنات، وكذلك الحال بالنسبة للشركات الرعاية والإعلان. كذلك تستدعي صرخة رونالدو أشباحا كثيرة تتقافز في المسابقات العالمية التي تديرها الـ"فيفا". تأتي الأشباح محمولة على صهوة الذكريات. يتذكر البعض أشباحاً مثل غارينشيا وفافا وزاغالو ودي ستيفانو في سياق استعادة الزمن الذهبي للكرة. ثمة أشباح أكثر قرباً زمنياً، مثل أندرياس إسكوبار، المدافع في منتخب كولومبيا، الذي قتل في الثاني من تموز 1994، قبل أن يُسدل الستار على المونديال الذي شارك فيه. راج أن مقتله له علاقة بالهدف الذي أدخله خطأً في مرمى منتخب بلاده في كأس الـ"فيفا"لكرة القدم في 1994، التي استضافتها الولايات المتحدة.
إذاً، تحوّل لاعب في فريقه وُصِف بأنه ذهبي، الى شبح مقيم عند التقاطع بين أموال الكوكايين ومراهنات كرة القدم، وهذه أموال متقاطعة بشدّة في أميركا الجنوبية، معقل نجوم كرة القدم!
ماذا عن الأموال "الأخرى"في كرة القدم، تلك التي تأتي من الفساد وترتيب المباريات وشركات الصناعة الرياضية وإعلاناتها ورعايتها وغيرها؟

تجارة ودول و"فيفا"
جرت المباراة الختامية للـ"تشامبيونز ليغ"على مستطيل أخضر مزنّر بإعلانات الشركات الراعية. على لوحات رقميّة تتحرّك باستمرار وتفصل بين الجمهور واللعبة المعبودة، ظهرت أسماء الشركات العملاقة التي توصف بأنها راعية للكرة. ثمة تطوّر بصري في أن الأسماء باتت تظهر متحرّكة على اللوحات كلها في وقت واحد، وتستمر لدقيقة، قبل أن يحلّ اسم آخر. قبل سنوات، كان اسم كل شركة يظهر على لوحة مستقلة، وأحياناً لوحتين.
تضمّنت أسماء الرعاة في تلك المباراة، شركات "ماستر كارد"و"أديداس"و"بيرة هاينكن"و"بلاي ستايشن"و"غاز بروم"و"فورد"و"يونيكارد"و"برايسلس. كوم"و"تويتر" (هاشتاغ #4players)، فيما ظهرت ماركة "نايكه"على أحذية اللاعبين. لنقرأ ثانية: الملعب الأخضر تطوّقه شركات الأموال والمشروبات والسياحة والألعاب الإلكترونية ممثلة عصر المعلوماتية والاتصالات، والغاز وهو يقفز فوق الصراع السياسي والسيارات والسياحة وشبكات التواصل الاجتماعي. ببساطة، أنه تكثيف الحياة المعاصرة في بؤرة كرة القدم.
عندما فازت قطر باستضافة المونديال 2022، جرى حديث علني عن الأموال الهائلة التي تضمّنها ملفها: 22 بليون دولار للمنشآت التي تستضيف المونديال المنتظر. ليس ذلك سوى جزء من أحاديث الفساد عن ممثلي دول النفط في الـ"فيفا"، على غرار الفضيحة التي فجّرها جوزف بلاتر رئيس "الاتحاد الدولي لكرة القدم" ("فيفا")، في وجه القطري حمد بن همام العبد الله، الرئيس السابق للاتحاد الآسيوي لكرة القدم.
في الذاكرة أيضاً أن "مونديال ألمانيا 2006"جرى في ظل فضيحة ضخمة تمثّلت في انكشاف أن نادي "جوفنتوس"اعتاد على الفوز بالدوري عبر مباريات مرتبة النتائج! زاد في الفضيحة ان معظم لاعبي المنتخب الإيطالي، الذي فاز بالكأس الذهب لذلك المونديال، جاؤوا من "جوفنتوس"الذي جُرّد من لقبه كبطل للدوري لخمس سنوات سابقة، لأنها بطولات جاءت من الأموال.
قبل مبارة "تشامبيونز ليغ" 2014، كان "جوفنتوس"يعود مجدداً إلى تصدر الدوري الإيطالي. في المناسبة، فوز "ريال مدريد"هو أيضاً فوز لمدرّب إيطالي هو "الدون"انطونيو انجيلوتي الذي درّب فرقاً إيطالية لم تغب تهم الفساد عنها. وانتصر أنجيلوتي على دييغو سيميوني المدرّب الأرجنتيني الآتي من أميركا الجنوبية التي تتصل أموال الكرة ومراهناتها بحياة اللاعبين، على غرار إسكوبار.
استطراداً، اشترى "ريال"اللاعب الويلزي غاريث بيل في صفقة فاقت أربعين مليون أورو، وهو الأغلى في العالم. لو أنه لم يسجّل هدفاً حاسماً في "كلاسيكو"الذهاب، ضد برشلونة، وكذلك هدف التقدّم للـ"ميرنغي"ضد "أتلتيكو"، ماذا كان ليحدث في صفوف النادي الملكي؟
تتركّز معظم الأموال المباشرة لكرة القدم في أوروبا، خصوصاً دورياتها الخمسة الكبرى (إنكلترا، ألمانيا، إسبانيا، إيطاليا، وفرنسا)، التي تفوق عائداتها حاضراً 20 بليون دولار.
المعلوم ان النوادي الأوروبية الكبرى هي بورصة فعلياً للاعبين الذين بلغت أسعارهم أرقاماً مذهلة، لا تكفّ عن التصاعد. بلغ أمر الفساد في تلك الأموال أن سمسرات صفقة شراء برشلونة للاعب نيمار دا سيلفا (هي صفقة لم تعرف أرقامها بدقة، لكنها راوحت 40 مليون دولار)، صدّعت صفوف الفريق وساهمت في انهياره المأسوي المتمثل في فشله في الحصول على أي بطولة محلية أو قاريّة أو عالميّة، للمرة الأولى منذ سنوات طويلة.
لا أقل من ملاحظة ان "تشامبيونز ليغ"يكاد أن يكون تسونامي أموال وأرباح للشركات المختلفة.

Viewing all 560 articles
Browse latest View live