Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all 560 articles
Browse latest View live

العلاج التجريبي لـ"إيبولا"إذ يرسم حدوداً جديدة للمسؤولية الإنسانيّة

$
0
0
إذا كان لديك دواء لست متأكّداً من فعاليته، بمعنى أن هناك نسبة ما أنه يشفي، هل تعطيه لمريض في حال حرجة لا مخرج منها سوى الموت؟ إذا لم يكن داؤك فعالاً، فلن يقدم ولا يؤخر، لكن إذا مات المريض، كيف يمكن الخروج من إمكان أن يكون الدواء ساهم في وصوله إلى تلك الخاتمة المأساوية؟ ولم تعطيه الدواء أصلاً، إن لم تكن متأكّداً أنك تفعل الشيء الصواب أصلاً؟
 ليست تلك الأسئلة مجرد تدريب للذهن، بل تقدّم نماذج عن النقاش العلمي الخلافي عن استخدام أدوية وأمصالاً تجريبية في علاج مرضى "إيبولا"، وهي من الخطوات الأساسيّة أيضاً في وقف جائحة المرض.
 
ويقدّم التبدّل في مواقف السلطات العلميّة بشأن العلاجات التجريبية، دليلاً على حدّة الخلاف العلمي وقوة الرهانات المتّصلة به. فقبل أسابيع قليلة، كان رأي "منظمة الصحة العالميّة"و"مراكز ترصد الأمراض"الأميركية، حاسماً في استبعاد ذلك النوع من العلاجات. وسرعان ما تبدّل الحال، تحت تأثير أشياء كثيرة منها التفشي الذريع للفيروس، وعجز النظم الطبيّة في دول غرب الساحل الأفريقي على مواجهة الفيروس، وارتفاع صوت علماء متخصّصين في الفيروسات تأييداً لاستخدام علاجات تجريبية ضد فيروس "إيبولا".
 
العنصرية وأفخاخها
 
زادت حدّة المطالبة العلمية باستخدام علاجات تجريبية لمواجهة "إيبولا"، بعد مصرع الاختصاصي الشيخ عمر خان بالفيروس، وهو كان في قيادة جهود مكافحة "إيبولا"في سيراليون. وأصدر ثلاثة من أبرز خبراء "إيبولا"بياناً مشتركاً في مطلع الشهر الجاري، أعلنوا فيه تأييدهم لاستخدام علاجات تجريبية. ولم يكن المناشدون إلا قامات سامقة علميّاً، وهم: بيتر بيوت (مكتشف فيروس "إيبولا"في العام 1976 ورئيس "كلية لندن للصحة والطب") وديفيد هايمان ("مركز تشاتام هاوس للأمن الصحي العالمي")  وجيرمي فارار ("ذا ويلكوم تراست"). والمفارقة أن بيوت نفسه كان من أشد المناهضين لاستخدام علاجات تجريبية على مرضى "إيبولا"، وفق تصريح أدلى به إلى مجلة "ساينس"العلمية الشهيرة في منتصف الشهر المنصرم. ونقلت وكالة "رويترز"عن بيوت أيضاً، في مطلع الشهر الجاري، رأياً مناهضاً لاستعمال أدوية وأمصال تجريبيّة على مرضى "إيبولا".
وأدى شفاء الطبيب الأميركي كِنت برانتلي ومساعدته نانسي رايتبول إلى حدوث تبدّل في وجه النقاش عن استخدام أدوية تجريبية في علاج مرضى بمرض فيروسي أثناء موجة وباء بذلك الفيروس. فقبل ذلك الشفاء الذي وصفه اختصاصيّون أشرفوا على علاج برانتلي ورايتبول بأنه "معجزة"، كان الرأي الطبي المستقر بعدم استخدام أدوية إلا بعد مرورها في المراحل الثلاثة المعروفة. وتتمثّل تلك المراحل في الاختبار على الأنسجة في أطباق المختبر، ثم التجربة على حيوانات لبونة وأخيراً التطبيق على أشخاص يتقبلون طوعاً أن يجرّب الدواء عليهم. 
كيف حدث أن خبراء "مراكز ترصّد الأمراض"، وهم مازالوا الأشد تحفّظاً على استخدام أدوية تجريبية في علاج "إيبولا"، أعطوا مصلاً يحتوي أجساماً مناعية مضادة للفيروس، لمريضين أميركيين؟
 
حتى لو كان الشفاء غير متوقّعاً فعليّاً، أدت سرعة تحسّن المريضين برانتلي ورايتبول إلى رفع نقطة اخرى في النقاش. هل يمكن إعطاء ذلك الدواء وما يشبهه، عندما يكون المريض في حال حرجة تماماً؟
 
هل جرى تجاوز الحدود الأخلاقية لأن المريضين كانا أميركيين، بمعنى إعطاءهما نوعاً من "التميّز" (وذلك من أشكال العنصرية) على المرضى الأفارقة الذين يقضون بالعشرات يومياً؟ ويلفت أن بيان مكتشف الفيروس بيوت وزميليه، استخدم عبارة تحيل إلى نقاش البُعد العنصري في علاج المريضين الأميركيين، إذ استعمل البيان عبارة "اعطاء الأدوية إلى المرضى الأفارقة"، وهي أشارة صريحة إلى ذلك البُعد. 

 

في المقلب الآخر، يؤدي رفع القيود عن العلاجات التجريبية إلى فتح "أبواب جهنم"في عالم الطب، بمعنى انفلات التعامل مع أجساد البشر وأرواحها، خارج المعرفة العلميّة وخبراتها المتراكمة. من يتحمل مسؤولية إنفلات من ذلك النوع؟

المفهوم الخاطئ يفضى إلى مشروع فاشل آخرته سيئة (2)

$
0
0

أما المشروع الفاشل فهو محاولة نقل المجتمع الشرقي بقيمه وعاداته إلى الغرب.. ويقع سبب فشل هذا المشروع فى حقيقة أن الغرب هو مجتمع أكثر إستقرارا من مجتمع الشرق. فالمعارك الطاحنة والحروب الأهلية والفتن والمجاعات والأوبئة التي إجتاحت المجتمعات الغربية عبر ال 500 عام الماضية قد إنصهرت جميعا لكي تنتج كيانا متشابها من شرق بولندا إلى شاطئ الأطلنطي غربا ومن آيسلند شمالا إلى اليونان جنوبا ثم إنتقلت طبائع هذا الكيان إلى الجانب الآخر من الأطلنطي وأصبحت هي السائدة فى الولايات المتحدة وكندا وتجاوزت تلك المنطقة الجغرافية الواسعة لتغزو أستراليا ونيوزيلاند وبذلك تم تشكيل ما يطلق عليه اليوم "الغرب".. فالغرب لم يعد مصطلحا جغرافيا بل هو مصطلح ثقافي ينهض على حكم القانون وليس على حكم الرجال أو النساء.والقانون كما عرفنا هو فكرة وليس كائنا ماديا، هو حيلة تفترض وجود إتفاق على قواعده وبالتالي يعاقب بكل شدة كل من يخرج علي مقتضاها أو حتي يحاول الخروج.

ووجود هذه الطريقة من ممارسة حكم المجتمع هو ما أدي إلى تفوق تلك المجتمعات فى مجالات العلم والإختراع وتطبيق ذلك التفوق فى منتجات تباع فى كل العالم ولا يستطيع أحد منافستها. فالحرية التي يمنحها النظام المتبع فى الغرب هي التي تبدع، أما الفرد المقيم فى الغرب فهو لا يزيد فى ذكائه المتوسط عن مستوي الفرد فى الشرق.. ولكن تربيته بطريقة تنهض على تلك القيم هي سبب تفوقه فيما بعد فى الدراسة والبحث والإنتاج والثروة.

وتجربة إقامة مجتمعات شرقية فى الغرب هي تجربة محكوم عليها بالفشل الأكيد. والدليل علي ذلك هو نمو ذلك الفكر المتطرف داخل أوروبا وأمريكا..

فالمتطرف هو شخص غير ناجح فى حياته العملية. وهو فى الغالب لم يجد عملا يدر عليه دخلا معقولا. أو أنه طالب لم يكتب له النجاح بسبب تربيته المختلفة فى بيت يسعي لإعلاء القيم الشرقية على قيم المجتمع الغربي، فلا تكون النتيجة إلا عزلة وعدم قدرة على التكامل ولا علي التعامل أو حتي مجرد التفاهم. والسبب كما ذكرت هو أن الغرب أكثر إستقرارا من الشرق.. فلا يوجد مجتمع شرقي واحد يمكن أن يشار إليه بالبنان على أنه نموذج يمكن إتباعه.

والثورات العربية الأخيرة أظهرت الخلل الهائل الكامن فى تركيبة المجتمعات الشرقية. والصفوة فى تلك المجتمعات ليست لديها أمنية أعز على قلبها من تعليم ابنائهم فى الغرب ومحاولة إيجاد وسيلة تجعلهم قادرين على العيش مستقبلا فى الغرب. فهذه الصفوة تعرف الشرق جيدا وتعرف قيمه وتدرك عيوبه، إذ أن هذه الصفوة هي المتسبب الأول فيما وصل إليه الشرق من حال مزري.

والحجة المستمرة التي يدفع بها الشرقيون من تهافت المجتمع الغربي وزيادة نسبة الإنتحار وإرتفاع معدلات مرضي الإكتئاب هي حجة واهية لا تصلح سندا. فهؤلاء المكتئبون والمهددون بالإنتحار لم نسمع أن أحدهم قد حاول عبور البحر بين تلاطم الأمواج وهجير الشتاء فى قارب صغير لكي يبدأ حياة جديدة على الشاطئ الآخر.. وعلى الرغم أن حرية التنقل موجودة بين كل دول الغرب تقريبا إلا أن السجلات لم تشر أبدا إلى إرتفاع فى معدلات الهجرة بين دول أوروبا مثلا أو بين أوروبا وأمريكا أو كندا أو استراليا.

والسبب فى ذلك هو الحرية المتاحة لكل من يعيش فى الغرب على أن يشكل حياته كما يتفق وآراؤه ومعتقداته، فلماذا يهاجر إذن؟ وما هو الشئ الموجود في مخيلته والذي يبحث عنه على الجانب الآخر؟

ثم أن أصحاب هذه الحجة لا يملكون أية إحصاءات عن عدد المكتئبين فى الشرق أو عدد حالات الإنتحار حتي يمكن عقد مقارنة بين هذا المجتمع وذاك.

أما اصحابنا من الشرقيين المقيمين فى الغرب فأغلبهم ممزقون بين نظامين حائرون بين قيمتين وربما تنقضي حياتهم دون التوصل إلي فض هذا التنازع.

ثم أن القدر الكبير من التسامح الذى يجده أصحاب المعتقدات الواردة إلى الغرب ليس له نظير فى الشرق. فإنشاء المساجد أو المعابد البوذية أو الهندوسية لا قيود عليه، كما أن هناك إمكانية متوافرة للحصول على دعم من الدولة لهذه المنشآت الدينية، إما على صورة منح الأراضي أو المساهمة فى تكاليف البناء أو الإعفاءات الضريبية بسبب كونها مرافق عامة أو خليط من كل هذه العناصر مجتمعة. فالغرب ليس ضد الإسلام، بل هو ضد أي فكر يقلل من حرية المجتمع التي حصل عليها بعد حروب وأهوال ومذابح هائلة ودفع فيها ثمنا باهظا ولهذا لا يريد التفريط فيها مهما كان المقابل.

ويقع السبب فى ذلك التسامح فى رغبة المشرعين فى الغرب فى أن يتجنبوا تجربة إنشاء مجتمعات موازية تقف على هامش المجتمع الرئيسي ولا تشارك فى نموه وتقدمه.

وكلمة الجيتو Ghetto  هي من الكلمات المستهجنة بشدة فى الغرب. والجيتو هي كلمة كانت قديما تصف ما نسميه فى الشرق حارة اليهود. إنه المجتمع الموازي الغير متشارك مع الآخرين.. وإتجاه فصل الدولة عن الدين تقوم فكرته على وقوف الدولة علي مسافة واحدة متساوية من كل الأديان لا تؤيد هذا ولا تعارض ذاك. فالدولة للجميع ولا تنحاز لاي طرف، لكونها تقوم على حكم الأفكار وليس على حكم الرجال أو النساء. فقط حكم القانون.

وهذا النهج من الحكم لم لا ولن يتفق مع عقلية إنشاء جيتو شرقي داخل مجتمع غربي. فالتجربة إذن خائبة والمشروع فاشل..

أردوغان يُدخٍل تركيا في أزمة ممتدة

$
0
0

تقف تركيا على أعتاب مرحلة جديدة من استقطابها السياسي، بعد انتخاب رجب طيب أردوغان رئيساً للجمهورية بغالبية أقل من 52 في المئة بقلـيل، وتعيينه وزير الخارجية أحمد داود أوغلو خلفاً له في رئاسة «حزب العدالة والتنمية» الحاكم وفي رئاسة الوزراء التركية. وإذ تشهد الحياة السياسية التركية منذ عشر سنوات استقطاباً حاداً بين «حزب العدالة والتنمية» ذي الجذور الإسلامية من جهة، وباقي التيارات السياسية التركية من جهة أخرى، فإن طموحات أردوغان العارمة بتغيير النظام السياسي التركي من برلماني إلى رئاسي ستطيل من عمر الأزمة التركية. ويزيد من صدقية هذه الفرضية أن نتيجة انتخاب أردوغان رئيساً (51,8 بالمئة) هي الأفضل التي حققها «حزب العدالة والتنمية» في تاريخه، ما يعني أن نصف المجتمع التركي يتواجه مع النصف الأخر في مواجهة لن تنتهي سريعاً أو حتى تحسم خلال السنة الواقعة ما بين انتخاب أردوغان في أغسطس 2014 وحتى موعد الانتخابات البرلمانية القادمة يونيو 2015.

صلاحيات رئيس الجمهورية التركية

تحدد المادة 104 من الدستور التركي صلاحيات رئيس الجمهورية، التي تقل بوضوح عن صلاحيات رئيس الوزراء. وبالرغم من أن آخر رئيس للجمهورية من خارج «حزب العدالة والتنمية» كان أحمد نجدت سيزر، الذي خلفه عبد الله غول العام 2007، فإن سيزر ومن بعده غول اكتفيا بالطابع البروتوكولي للمنصب، في وجود أردوغان كرئيس للوزراء. طبقاً للدستور التركي «يعد رئيس الجمهورية رأس الدولة، وبهذه الصفة فهو يمثل الجمهورية التركية ووحدة الأمة التركية، وتناط به مهمة ضمان تطبيق الدستور وكذلك ضمان أن تعمل أجهزة الدولة في شكل منتظم وفي انسجام وتكامل». وبعد هذا التعريف المطاط نسبياً تحدد المادة واجبات وصلاحيات الرئيس ذات العلاقة بالتشريع، بأنها تتضمن «أن يلقي الكلمة الافتتاحية أمام البرلمان التركي في السنة التشريعية الأولى. وأن يدعو البرلمان للانعقاد عند الضرورة من أجل إعلان القوانين أو إرجاعها له لإعادة النظر فيها. كما يحق له «الاستئناف أمام المحكمة الدستورية العليا لألغاء قوانين بعينها للنظر في دستوريتها واتخاذ القرار بتجديد انتخابات البرلمان التركي». أما واجبات وصلاحيات الرئيس ذات العلاقة بالسلطة التنفيذية فتأتي كما يلي: «تعيين رئيس الوزراء وقبول استقالته، الموافقة على مقترحات رئيس الوزراء بتعيين الوزراء وفصلهم، وترؤس مجلس الوزراء حينما يجد ذلك ضرورياً. فضلاً عن اعتماد السفراء الأتراك بالخارج واستقبال السفراء الأجانب المعتمدين في تركيا، وكذلك التصديق على المعاهدات وتعميمها، ودعوة مجلس الأمن القومي للانعقاد. وتعيين رئيس هيئة أركان القوات المسلحة، واتخاذ قرار بشأن استخدام القوات المسلحة التركية وإعلان حالة الطوارئ في حال الضرورة. وأيضاً تعيين أعضاء المحكمة الدستورية وربع أعضاء مجلس الدولة والمدعي العام لمحكمة الاستئناف العليا».

لا يخفى هنا أن تعيين رئيس الوزراء يتم بتكليف مرشح الحزب ذي الكتلة الأكبر في البرلمان والحائز على تحالف يملك الغالبية البرلمانية بالفعل، وبالتالي فموضوع التعيين وقبول الاستقالة هي موضوع شكلي محض لا صلاحيات فعلية له. ذات الشيء ينطبق على الموافقة على مقترحات رئيس الوزراء أو اعتماد السفراء بالخارج، أما دعوة مجلس الأمن القومي للانعقاد فلا تعني سوى إجراء شكلي، خصوصاً أن الرئيس لا يملك حيثية مخصوصة عند التصويت واتخاذ القرارات في هذا المجلس. هنا تصطدم طموحات أردوغان بوضوح مع نصوص الدستور، التي تفسح صلاحيات أوسع لرئيس الوزراء. ولحل هذه المعضلة يعتمد أردوغان على ركيزتين: الأولى استنطاق صلاحيات أوسع لرئاسة الجمهورية من نصوص الدستور، والثانية تعيين موال له في منصب رئاسة الوزراء للسير في طموحاته بتحويل تركيا إلى نظام رئاسي، حتى مع الافتقار إلى غالبية الثلثين في البرلمان.

داود أوغلو رئيساً للوزراء

لم ينتظر أردوغان كثيراً بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية، حيث أعلن عن موعد الانتخابات الداخلية لحزب العدالة والتنمية الذي ترأسه، كون المادة 101 من الدستور التركي تمنع الرئيس من عضوية الأحزاب السياسية. إلى هنا الأمر اعتيادي، ولكن الإسراع بعقد هذه الانتخابات قبل أيام من انتهاء الفترة الرئاسية لعبد الله غول، يعتبر إقصاءً واضحاً للأخير على الرغم من إعلانه رغبته العودة إلى الحزب. وإذ تداولت دوائر في «الحزب» وقتها أن محمد علي شاهين هو مرشح الحزب لرئاسة الوزراء حتى موعد الانتخابات البرلمانية القادمة، إلا أن تعيين داود أوغلو في منصب رئيس الحزب ورئيس الوزراء نقل الأزمة إلى مستوى أخر.

كان دافع أردوغان في تعيين داود أوغلو أن يتحكم أردوغان في صلاحيات رئاسة الوزراء عن طريق تسمية شخصية لا تعارضه وتدين له بالولاء، وترضى بدور الرجل الثاني في تراتبية السلطة الجديدة التي يهندسها أردوغان. وداود أوغلو عمل مستشاراً للشؤون الخارجية في مكتب رئيس الوزراء عبد الله غول، ثم رجب طيب أردوغان، ابتداء من العام 2003 برتبة سفير، قبل أن يعين العام 2009 في منصب وزير الخارجية، الذي استمر فيه حتى تعيينه مؤخراً رئيساً للوزراء. انضم داود أوغلو إلى «حزب العدالة والتنمية» بعد أن أصبح وزيراً للخارجية، وانتخب عضواً في البرلمان عن محافظة قونية التي ينتمي إليها، بما يعني أن خبرات داود أوغلو الأكاديمية وفي السياسة الخارجية، لا تجعله مؤهلاً بالضرورة أو بارعاً في العمل والتنظيم الحزبيين. ويصطدم تعيين داود أوغلو رئيساً لـ«حزب العدالة والتنمية» بتيار لا يستهان به داخل الحزب، يتزعمه بولنت أرينتش الصقر المخضرم. يتجسد القوام الأساسي لهذا التيار في كتلة يبلغ عددها من خمسين إلى ستين نائباً برلمانياً بصدد إتمام دورتهم البرلمانية الثانية العام القادم، ولا يحق لهم الترشح لمرة ثالثة حسب اللائحة الداخلية لـ«حزب العدالة والتنمية»، ما ينهي عملياً حياتهم السياسية. كما أن هناك تياراً لا يستهان به داخل الحزب، يعتقد بنزاهة وكفاءة الرئيس السابق عبد الله غول، لموازنة أردوغان والسير بالحزب نحو المرحلة الجديدة، ويعتبر أن تعيين داود أوغلو في هذا المنصب الحساس ما هو إلا انعكاس لرغبة أردوغان في أن يطبع الحياة السياسية التركية بطابعه الخاص.

التوقعات

في ضوء التوازن داخل البرلمان التركي، والذي لا يسمح لأردوغان بتغيير الدستور من دون موافقة المعارضة لتحويل تركيا إلى جمهورية رئاسية، سيعمد أردوغان ومحازبوه على اعتماد تفسيرات تناسبهم لصلاحيات الرئيس المنصوص عليها في الدستور التركي، بغرض توسيعها لتصبح على قياس وقيافة الطَموح أردوغان. وبدوره سيؤدي ذلك إلى اعتماد المعارضة على عرض القضايا الخلافية أمام المحكمة الدستورية للفصل في الخلاف مع الرئيس أردوغان، والمتوقع أن تزداد وتيرتها بشكل ملحوظ خلال الأشهر القادمة. تضيق الخيارات على أردوغان على الرغم من انتصاره الانتخابي، إذ لم يجد في النهاية سوى داود أوغلو وزير الخارجية السابق ليجلسه على مقعد رئيس الحزب والوزراء، وخاقان فيدال رئيس الاستخبارات التركية ليفسح له منصب داود أوغلو في الحكومة الجديدة، أي وزارة الخارجية. كلا الرجلان لا تاريخ سياسياً حزبياً له، وكلاهما أصبح في بؤرة اتهامات ـ محقة أو مغرضة - بتهديد مكانة تركيا في المنطقة بسبب أدوارهما في السنوات الثلاث الماضية على رأس وزارة الخارجية وجهاز الاستخبارات التركي. خسر أردوغان عبد الله غول على الأغلب ومعه بولنت أرينتش، ومن المحتمل أن يبرم الرجلان تحالفاً يضمهما مع كتلة أعضاء البرلمان (من خمسين إلى ستين نائباً) الممنوعين من الترشح في الانتخابات البرلمانية القادمة بسبب لوائح الحزب الداخلية، لتكوين حزب سياسي جديد يخوض الانتخابات البرلمانية القادمة، وهو ما من شأنه شق «حزب العدالة والتنمية» والضغط على أرودغان من حيث لم يحتسب.
تبدو أزمة النظام السياسي التركي ممتدة، بحيث ستجرجر نفسها من دون حل لفترات زمنية طويلة نسبياً. ومع ترفيع داود أوغلو وخاقان فيدال كرئيس للوزراء ووزير للخارجية على التوالي، فمن الواضح جداً أن السياسة الإقليمية التركية ستسير في المرحلة القادمة على ذات الأسس التي انتهجتها في السنوات الثلاث الماضية. وهي الأسس التي حولت تركيا من لاعب يحظى باحترام جميع الأطراف قبل «الربيع العربي»، إلى طرف خاسر في صراع إقليمي هشّم صورته وبعثر نفوذه وبدّد مصداقيته.

مداخلة حول "ورقة عمل للسياسة الثقافية لمصر"

$
0
0

طرح الأستاذ "السيد ياسين"ورقة عمل للسياسة الثقافية لمصر ، لتناقشها لجنة بالمجلس الأعلى للثقافة ، وربما يتسع طرحها بعد نشرها فى الأهرام ( 9/8/2014) ليناقشها المجتمع الثقافى .
ورغم اعتماد الورقة مسبقا"كرؤية ثقافية"فانني اخشي من سيطرة الموقف الدولتي المعتاد في صياغة الاستراتيجيات,لكن هاهي المسالة مطروحة للنقاش , مقدرين للاستاذ السيد ياسين جهده التاسيسي بالطبع. 

 

ولأنه تأسيسي بالذات فإنني أشير إلي عمل كبير سابق أشرف عليه الاستاذ ياسين بالمركز القومي للبحوث الاجتماعيه بإسم"المناخ الثقافي في مصر"عام 2000 , وكتب فيه عن خطة السياسة الثقافية وقتها . يراوح الاستاذ ياسين في ذاك البحث بين تعريفين , احدهما كسياسي , ينظر الي السيلسة الثقافية "باعتبارها توجهات الدولة الايديولوجية معبر عنها في مجمل القرارات والتدابير ... الخ بهدف تحقيق غايات تتفق وتوجهات الدولة الايديولوجية ...", والاخر كسوسيولوجي , ينظر اليها باعتبارها "مجمل التوجهات الثقافية ...تعكسها ايديولوجيات القوي السياسية والاجتماعية.."ولان هذا المفهوم الاجتماعي الاخير لا تعكسه الورقة المطروحة بما تتطلبه الاوضاع الراهنة , فاني اتمني علي وزارة الثقافة الالتزام باكتمال تماهيها مع ثلاثية الدولة \الثقافة \المجتمع,لتقوم الجماعة الثقافية بواجبها.

 

ولن نتحدث هنا عن خبرة مثقفى مصر الصعبة فى النقاش العام لأوضاع الثقافة , وما واجهوه من تحديات، بل وأزمتهم مع السلطة بين فترة واخري , وخاصة منذ بدء سياسات "الانفتاح"عند تأسيس اتحاد الكتاب (1975) ، أو عقب اتفاقيات "كامب ديفيد"وحركة مثقفى الثقافة الوطنية 79-1980، بل ومحاولات عقد مؤتمر عام للمثقفين فى أكتوبر 2001 ، وما واجه محاولاتهم من مشكلات مفهوم الهيمنة والدولتية أو التحرر منهما، وحتى ثورة المثقفين فى مايو / يونيو 2013 على وزير الثقافة الإخوانى لمفاهيمه المتردية فى الثقافة ، مما قاد لتحرك المثقفين ضده ضمن بشائر 30 يونيو , وهذه كلها مما لا يجب نسيانه الان خاصة بعد ثورة 25 يناير 2011 وامتدادها فى 30 يونيو 2013.

 

لم يكن المثقفون إذن غائبين كما يتصور البعض، أو كانوا دائما فى انتظار خطط الدولة الثقافية ومقابلة الرئيس وفق أيديولوجية رسمية كما يتصور آخرون ، وإنما قامت الجماعة الثقافية ، مثل الرموز التاريخية التى يكتفى بالتركيز عليها – بواجبهم الثقافى ..وإن بدأ ضعيفا ، فإننا يجب أن ندعم تفعيله ولا نسهم فى تآكله ..والورقة المقدمة لهم للنقاش الآن تنطلق من مفاهيم هامة بعضها لابد من مراجعته، وطبيعى أن يكون الاستاذ ياسين قد اختار بينها بحكم خبرته الطويلة ، لذا نضع هنا بعض هذه المدركات المختلفة لتوضع موضع النقاش الموسع على النحو الذى نرجوه...

ولنبدأ ببعض النقاط التى أرى أن الورقة تثير التحفظ على المفهوم المقدم لها . كما أن ثمة نقاط أخرى أرى أن الرأى بشأنها قد غاب بدرجة أو أخرى عن الورقة .

 

أولا: النقاط الجدلية 

• تنطلق الورقة من ثقة فياضة بأن ثورة يناير استطاعت "أن تغير بشكل جذرى المجتمع السياسى السلطوى الذى كان قائما ...بل "واسقطت النظام بالفعل فى فترة قياسية ...!" . ولا أظن من جانبى أن كثيرين ولا حتى "الثوار"أنفسهم يقولون بذلك ...وبصرف النظر عن مناقشة هذه المسألة هنا ,فاني أرى تأثيرها الاكبر على خطط وضع السياسات الثقافية ، لأن ثمةفرق بين خطة تنطلق من "بنية ثورية ,او بنية تكتمل ثورتها "وهذاغير قائم ، وخطة تقوم على ضرورة "تطهير "الثقافة المصرية القائمة من بنى مترهلة وأوتوقراطية واتسمت لعشرات العقود بل ومئاتها بالجمود والعزلة . 

• تتردد الورقة بوضوح بين حق جماهير يناير فى "الشرعية الثورية "وبين تناولها بشكل يكاد يكون سلبيا تماما لمعنى "سيكلوجية الحشد"التى تؤدى إلى "الاندفاع " ..والتطرف فى رفع الشعارات ، ورفع سقف المطالب ...كما تؤدى "الشرعية الثورية "فى رأي الورقة – إلى زعم بعض شباب الثوار أن ميدان التحرير ومظاهراته هى المعبر عنها ، حتى لو خالفت "الشرعية الديمقراطية ..الخ, وتؤدي هذه الصورة بالمخطط إلى التحفظ على مفهوم الحركة الشعبية و الثقافة الجماهيرية ، أو اتهام التحركات الشعبية "بالعفوية "الدائمة بما لا تلزمه بأى عمل تثقيفى فى اتجاهها ,او التاريخ الصحيح لها .
• و تنتقل الورقة وبنفس الروح إلى ربط مربك بين "المثقف التقليدى"، والناشط السياسى ..فالأول,عنده يقدم طوال القرن رؤية نقدية لأحوال المجتمع ..ويتبنى أيديولوجيات متعددة...أما الثانى ، فليس من الضرورى أن يصدر عن أيديولوجية محددة ..لانه يصدر عن قدرته الفائقة على تحريك الشارع " ...أو انه- فى موقع آخر- من "المحترفين الثوريين"الذين يصوغون التطرف...الخ

المشكلة هنا هى خلط دور "المثقف "بدور"الناشط السياسى"، بينما الجدل كما أتصوره بين المثقف التقليدى الذى سرعان ما يميل للمحافظة ، والمثقف العضوى الذى أصبح دوره مؤكدا فى عملية التغيير الاجتماعى ,والالتزام بالتحرر والتقدم.وهنا مطلبنا تجاه السياسة الثقافية التى ستدعم دور المثقف الجديد أو المجدد ، ودور الشباب ، واتاحة فضاءات الثقافة المختلفة لأفكار التجديد ,لا المحافظة التي تخدم ايديولوجية الدولة او اتهام الناشطين الدائم بالتطرف سواء كانوا شبابا أو شيوخا.
• تضع صياغة الاستاذ ياسين معنى "التراتبية الاجتماعية "ضمن أزمة القيم، وليس ضمن معالجة أزمة الفوارق الطبقية التى تقترب من حالة "الأبارتهايد"فى مجتمعنا!. فبعد أن تسخر الورقة –تقريبا- من حالة التناقض بين "شرعية الميدان"و"شرعية البرلمان"، فإنه يرى فى مجال أزمة القيم ان ما يسميه "نسف التراتبية الاجتماعية - عند المتطرفين - تعنى عدم الاعتراف بالمديرين والرؤساء وشرعية الانقلاب عليهم ...وعدم الاعتراف بالمكانات الادارية ...الخ."، وبهذه الطريقة وحدها تمضي معالجته للأزمة بين الأجيال ،او تصور شعار تسقط دولة العواجيز!

ولا أظن أن "السيد ياسين "بغافل عن أهمية التحليل الاجتماعى الجدلى لربط الثقافة بمفهوم الديمقراطية الاجتماعية ، التي يدعمها التغيير الثقافى المنشود خاصة وانه سبق و تحدث عن الخريطة الاجتماعية ، وثقافة الريف والمدن ,,, ..الخ ونعرف من خبرتنا ان ذلك لن ينطلق فى السياسة الثقافية فى أجواء الأوتوقراطية والبيروقراطية الضاربة.ناهيك عن أى تسلط مستدام للاستبداد الدولتى القديم والعميق!

• طرح الاستاذ"ياسين"حديثا طيبا عن سيكلوجية العلم والتعليم، وضرورة تجسير الفجوة بين التعليم الدينى والتعليم المدنى ...الخ. لينتقل لمطلب"الخطاب الاسلامى الوسطى"، والاشارة لدور الأزهر ، وعدم اعترافه بالكهانة فى الاسلام ، ويتحفظ على ترك عملية التطوير "للمتخصصين فى الدين"فقط، لكنه يقتصر هنا بدوره على القول بأن تجديد الفكر الاسلامى إنما يجب أن يفتح "للمفكرين المؤهلين للتجديد "بما يلائم حاجات العصر ، وخص منهم خريجى الحقوق من مثل شيوخهم القدامى...ويعرف الأستاذ "ياسين"أن عملية تطوير الموقف الثقافى من المسألة الدينية تحتاج إلى تطوير ثقافى وتعليمى شامل ، سيرتبط بالضرورة بالتحولات الاجتماعية ، بل والثورية، بما لا يبقى معه للأزهر من دور إلا كجامعة متخصصة وليس "مؤسسة الدين"فى مصر ، ذات المفسرين المتخصصين , كما هو الحال الان , فتنخرط فى السياسة وقتما تشاء أو يشاء لها الحاكم ...,وهنا لابد أن ندخل الكنيسة دائما فى مثل هذا المطلب الاصلاحى للظاهرة الدينية ,وذلك بسبب مخاطر تسييسها بين حين وآخر.


القضايا الغائبة :

سأطرح هنا عناوين القضايا التى أرى أنها غابت عن النص ,لأهمية انشغال خطة ثقافية بمعالجتها لتأثيرها البعيد فى العمل الثقافى نفسه

- المفهوم الجدلى حول "الهوية الثقافية"، وامتدادها الرأسى التاريخى والأفقى الاجتماعى . تذكرها الورقة متناثرة فى الصياغة ، بينما الجدل واسع الآن بين ثقافة مصرية أم عربية ؟، وعربية أم إسلامية ؟، وأين مكانة الفرعونى والقبطى؟ ,او مكانة النخبوي والشعبي فى العمل الثقافى ..الخ ؟ وهذا ما يتطلب ابرازه إزاء المناهج الجديدة فى تحليل التفاعل الثقافى ، والثقافة الجماهيرية ...الخ

- الثقافة السياسية : وتترك دائما للإعلام بينما مكانها التأسيسى ثقافى بالضرورة , فنحن أمام أوضاع ثقافية راسخة ، تستنكر "العمل فى السياسة " ( بلغة الفنانين..) بينما نحن فى أشد الحاجة لتنشئة ثقافية سياسية تعرف قيمة تنظيم المجتمع السياسى التعددى الديمقراطى ، وبالمثل نحتاج إلى صياغة وضع مصر مع الثقافات الأفريقية والآسيوية ، بل والوعى الفكرى بتحدى ثقافة الجنوب ، لثقافة العولمة ، والتعريف بمثقفى وعلماء القارات الثلاث ، وبقضايا مصر مع العالم ، ورؤية المصرى للعالم من حوله عربيا وأفريقيا ..

- يرتبط بالنقطة السابقة ، ضرورة الحديث عن طبيعة الحوار الحضارى ، أو التفاعل الثقافى العالمى . لقد استحوذ على هذا المجال لفترة طويلة ، الحوار الدينى ( وكان يتوقف للاسف على حوار الإسلام والمسيحية وليس حوار العقائد علي مستوي عالمي...) وفي فترة أخرى ساد الحوار الحضارى ( ليقتصر بدوره على الحوار العربى الأوربى )... فهل هذا هو "مفهوم العالم"أو تفهم حدود آليات العولمة..؟.وماذا عن طبيعة الحوار الديني والثقافي في مجتمعنا نفسه ؟ الا نعاون المثقف أو المواطن المصرى ليقارن بين هيمنة العولمة المتوحشة ، ومطالبة دولته بحضور ثقافي ,اقليمي و عالمى , يحول دون عزلته التى فرضها عليه النظام السابق عن عالم الجنوب .. وحتى عن حوض النيل!

- سأنتهى إلى أخطر ما تجاهلته الورقة عما قلت أن السيد ياسين نفسه قد نبه إليه فى مواقع سابقة، وهو أن "التوجهات الثقافية "تنعكس أيضا فى أيديولوجيات القوى السياسية المختلفة بكل ما تحمل من صراعات وجدل ..الخ . وأنا أتوقع أن يبادر "المسئول"إلى المحاججة بأن"وزارة الثقافة لا تعمل مع الأحزاب...الخ .! وأرى من جانبى أن هذا هو الموقف الدولتى بامتياز ، والذى أشرت إليه سلفا. إن ورقة عن استراتيجية الثقافة لابد أن تصدر عن "تجمعات ثقافية "، ورؤى ثقافية واجتماعية لمختلف القوي الفاعلة، لكي تحتوى هى وزارات التعليم والثقافة , والاعلام ...الخ ولا تحتويها الدولة ...وهنا ستصبح الجملة السابقة ذات مصداقية .

المفهوم الخاطئ يفضي إلي مشروع فاشل آخرته سيئة (الأخيرة)

$
0
0

والآن وبعد كل هذا العرض، ما هي النتيجة المتوقعة لما عرفنا من أمر المهاجرين بالجسم فقط؟

نظرا لأن المشروع محكوم عليه بالفشل فلابد من إفتراض أن هذا الفشل سوف ينعكس فى التلقي المجتمعي الغربي لهؤلاء القائمين عليه. فالمجتمعات الغربية بعد أن قطعت شوطا كبيرا على طريق الحرية السياسية والإجتماعية ليست على إستعداد لأن تتراجع عن هذه المكاسب التي تحققت لها. فقيم مثل تحرير الإرادة السياسية عن طريق الإنتخاب المباشر أو تحرير الفكر العقائدي عن طريق فتح باب العقل أمام جميع أنواع الفكر بما فيها الفكر الرافض للأديان وللسيطرة الكنسية أو تحرير الحياة الإجتماعية بقبول العلاقات الغير قائمة على الزواج أو بمساواة المرأة بالرجل أو غير ذلك من الحريات الأخري كحرية النشر وحرية النقد وحرية التعبير بالرسومات والكلمات فى كل الأمور، جميع هذه القيم هي من القيم المتصادمة بشكل مباشر مع القيم الشرقية التي لا يريد المهاجرون أن يتنازلوا عنها. وهذا هو مربط الفرس.

فالصورة التي تنطبع فى الخلفية الجماعية للمجتمعات الغربية عن الشرقيين سوف تزداد سوءا كلما غالي هؤلاء فى التمسك بهذه القيم التي يفاخر الغرب غيره بأنه قد تعدي مرحلتها. وصورة المسلمين اليوم فى العالم الغربي أسوأ كثيرا جدا عنها منذ ربع قرن مضي.. والسبب لا يقع فقط فى كل تلك الأحداث العامة التي وقعت خلال تلك المدة، سواء الإرهاب أو جرائم الفردية،  ولكنه يقع بنسبة أكبر فى طبيعة التصرفات التي يمارسها الشرقيون فى مجتمعهم الجديد.

فرفض دروس السباحة مثلا لبنات المدارس هو مما لا يستطيع الغربيون تفهمه بسهولة وإن وافقوا عليه تجئ هذه الموافقة على مضض ولأسباب "دينية"إحتراما لعقائد الآخرين.

أما الخطأ الهائل الذى يرتكبه أهل الشرق فى حياتهم فى الغرب فهو المحاولة الدائمة لجذب الغربيين لدخول الدين الإسلامي. وهي محاولة قد يكون الباعث إليها طيبا، ولكن الطريقة التي يتم بها التنفيذ تجئ فى معظم الأحيان سيئة جدا ومعدومة الذكاء. فالأسلوب مبناه أولا الهجوم على القيم الغربية سواء منها الديني أو الدنيوي لكي لا يبقي أمام السامعين إلا التحول إلى الإسلام طريقا للخلاص. وثانيا يأتي هذا الهجوم من متحدث هو نفسه عادة ليس صاحب أي تجربة ناجحة تجعل منه مستحقا للتصديق..  وكثير من هؤلاء الداعين أو الدعاة لا يعملون ولا يكسبون أي مكاسب مادية تجعل منهم ممولين للضرائب، بل على العكس هم فى معظم الأحيان يعيشون على الإعانات الإجتماعية التي تصرفها الدولة من أموال دافعي الضرائب، وهذا عامل هام جدا فى جذب قدر هائل من عدم الإحترام إلي اشخاصهم.

وهكذا ومع مرور الوقت بدأ يتكون فى الغرب إقتناع عام بأن المسلمين هم من الحضارات المتخلفة التي لن تتحسن ولن تغير عاداتها المتخلفة مهما طال بها المقام فى الغرب، وهو ظلم بين يقع على الكل بسبب سوء تصرف البعض.

وما أتوقعه أنا شخصيا هو موجة كبيرة من العداء للمهاجرين لا تفرق بين من تأقلم ومن لم يستطع إليه سبيلا  أو لم يرغب فيه. وقد يأتي يوم يكون فيه على حفيد المهاجر الذى لا يزال يحمل إسم جده أن يخرج من الغرب حيث أن أحدا لا يريد أن يؤجر له سكنا ولا أحد يريد أن يمنحه وظيفة أو يتعامل معه، فقط بسبب إسمه الذى يحمله دون إعتبار لطباعه وصفاته وإمكانياته الشخصية.. وهذا هو الخطر الذى قصدته بالنهاية السيئة للمشروع الفاشل المبني على المفهوم الخاطئ.

اللهم نسألك اللطف..

دمج المسلمين فى المجتمعات الأوربية من خلال رؤيتين

$
0
0

من المعروف أن الوجود الإسلامي في أوروبا قديم وأصيل، فقد تلقى الفاتحون المسلمون منذ القرن الثامن الميلادي الدعوة من الموحدين الإسبان، ثم من الموحدين البوشناق في وسط أوروبا لإنقاذهم من الاضطهاد الروماني بغطاء ديني تثليثي. ولبى المسلمون النداء وفتحوا تلك البلاد بيسر كبير، وأقاموا فيها حضارات تعددية زاهرة، حتى أوشكوا في القرن الثامن أن يصلوا إلى قلب فرنسا وسويسرا. ورغم أنهم ردوا على الأعقاب فقد أنشأوا في شبه الجزيرة الأيبيرية واحةً حضاريةً مثلت أهم الجسور والقنوات التي نقلت الأنوار إلى أوروبا وأخرجتها من ظلماتها.

ولم ييأس المسلمون من الوصول إلى قلب القارة، فلم تمض غير ثلاثة عقود على سقوط غرناطة، بعد أن سقطت الممالك الإسلامية في الجنوب الإيطالي، حيث كانت جسراَ مهماً لنقل الأنوار إلى القارة المظلمة، حتى وقفوا على مشارف روما ثم فيينا مخترقين بلاداً أوروبيةً كثيرةً.

ورغم أن المسلمين ردوا مرة أخرى على أعقابهم فقد حافظوا على واحات حضارية في البلقان مثّلت نماذج حضارية رائعة في التعايش بين الكنائس والمساجد، وكانت سراييفو نموذجاً حضارياً متفوقاً قاوم، ولا يزال، كل بقايا مواريث التعصب العرقي والديني(1).

وعقب سقوط الأندلس لجأ أكثر من 150 ألف عربي ومسلم إلى جنوب فرنسا. وإبان الاحتلال الفرنسي لأفريقيا استقدمت جماعات عمالية للعمل في الصناعة وفي شق الأنفاق والطرقات، وأغلبها من دول المغرب العربي (المغرب- الجزائر- تونس). ثم جاءت موجات متعاقبة من الهجرة بعد الحرب العالمية الثانية، إذ شهدت حقبة إعادة بناء القارة الأوروبية استقدام دولها للعمال المهاجرين من تركيا ودول المغرب العربي وشرق وجنوب أوروبا (إيطاليا وأسبانيا والبرتغال واليونان). كما لعب استقلال المستعمرات الأوروبية في شمال أفريقيا وآسيا وأفريقيا -جنوب الصحراء- دوراً كبيراً في زيادة معدل الهجرة من هذه المستعمرات إلى القارة الأوروبية كما في حالة المهاجرين من دول المغرب العربي ودول أفريقيا الفرانكفونية إلى فرنسا. وفى هذا الإطار، استقر مليون جزائري في فرنسا عقب توقيع اتفاقيات ايفيان 1962، وتكرر النموذج نفسه مع سكان المستعمرات الهولندية في إندونيسيا وسورينام، إضافة إلى الهجرة من موزمبيق وأنجولا إلى البرتغال خلال عقد السبعينيات(2). وشكلت تلك الموجة ما عرف باسم الجيل الأول، الذي اتسم بأنه جيل من العمال النشطين الذين يعملون في أشق المهن وأدناها، ويقبلون، في أحيان كثيرة، أجوراً أقل بكثير من الأوروبيين، ويعيشون في غرف ضيقة، ويرسلون جزءاً مما يكسبون لأهلهم في بلادهم الأصلية.

استقر بعض هؤلاء المهاجرين، وربما كانت نسبتهم كبيرة خاصة مع زواجهم من أجنبيات وإنجابهم وحصولهم على جنسية بلد المهجر الأوروبي، ومن ثَم تكونت جاليات مسلمة في مدن بعينها مثل "آخِن"في ألمانيا، أو "أمستردام"في هولندا، أو "أنتورب"في بلجيكا، وظهر عنصر جديد عند هذه الجاليات هو أن الدين يجمعها وليس الانتماء القومي أو القبلي، مثل جاليات مهاجرة أخرى من دول أوروبا الجنوبية الفقيرة كاليونان ويوغوسلافيا وقبرص في هذا الوقت، أو أفريقيا أو غيرها من مستعمرات دول أوروبا(3).

ويُعد عام 1973 علامةً فارقةً على صعيد الهجرة إلى الدول الأوروبية، فمع ظهور الأزمة الاقتصادية في أوروبا، ولجوء معظم الحكومات الأوروبية إلى فرض القيود على استقدام العمالة المهاجرة من خارج أوروبا، بدأت تلك الحكومات تنتهج سياسة لم الشمل العائلي للمهاجرين المقيمين فيها، مما أدى إلى ظهور ما يسمى بـ الجيل الثاني من المهاجرين الذين قدموا من بلدانهم الأصلية للّحاق بعائلاتهم، حيث شهدت المرحلة الممتدة من النصف الثاني من السبعينيات وحتى نهاية التسعينيات صراعاً بين المسلمين والمجتمعات الأوروبية من أجل الاعتراف بالإسلام كديانة رئيسية من خلال إنشاء المساجد وأماكن العبادة والمقابر والمذابح الشرعية(4). وقد وجد هذا الجيل نفسه منصهراً بصورة أكبر في المجتمع الأوروبي الذي عمل وتعلم فيه، ولا يعرف له أرضاً أو وطناً غيره، ولكنه وجد نفسه أيضاً معزولاً ومُقصى من خلال آليات الرفض الاقتصادي، وظهور ظاهرة الخوف من الأجانب التي أخذت شكل "الإسلاموفوبيا"أو "خوف الإسلام والمسلمين"(5).

أما على الجانب البريطاني فقد كان الوفود إليها كثيفاً من شبه القارة الهندية نتيجةً لطول الاحتلال البريطاني للهند، وللتقسيم الذي حدث بين الهند وباكستان، والذي دفع الكثير من الباكستانيين إلى الهجرة إلى بريطانيا. وفي البلقان ودول الاتحاد السوفياتي سابقاً تجذر الوجود الإسلامي نتيجةً للفتوحات الإسلامية أيضاً، ولوصول التجار العرب والمسلمين إلى تلك الأصقاع.

ويتضح من هذه اللمحة التاريخية السريعة أن الوجود الإسلامي اليوم في أوروبا ليس وجوداً طارئا أو استثنائيا، ولم يعد مجرد جماعات مهاجرة للعمل لا تلبث أن تعود إلى بلدانها، بل أصبح جزءاً من النسيج الاجتماعي لسكان القارة. وثمة أجيال ولدت وعاشت وأضحت جزءاً لا يتجزأ من المجتمعات الأوروبية، التي يتجه معظمها إلى الشيخوخة، في حين أن أغلبية المسلمين هي من جيل الشباب الذين لا بد أن تقع على عاتقهم مستقبلاً مهمات ومسؤوليات كثيرة داخل هذا المجتمع(6). وقد بات الوجود الإسلامي المتنامي داخل هذه المجتمعات ظاهرةً معترفاً بها على نحو غير مسبوق، وأصبح المسلمون يشكلون أقليةً دينيةً تأتي في المرتبة الثانية بعد المسيحية في كثير من الدول الأوروبية.

وزاد الاهتمام بالظاهرة الإسلامية في أوروبا، كما يرى بعض المهتمين بالشأن الإسلامي في الغرب، حدوث تغير نوعي كبير في الوجود الإسلامي في تلك القارة، كان أبرز مظاهره انتقال الهجرة الحديثة المؤقتة للمسلمين إلى هجرة دائمة، وتغير نوعية المهاجرين من العمال البسطاء إلى هجرة العقول والكفاءات، إضافةً إلى مظهر مهم يتمثل في دخول أعداد كبيرة من الأوروبيين الإسلام، وانتشار الإسلام في طبقات مختلفة من المجتمع، وعدم اقتصاره على إسلام بعض أفراد النخبة الأوروبية. ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة عن عدد المسلمين في الدول الأوروبية مجتمعة، ولا عددهم في دولة معينة، فقد كشفت دراسة أجريت في ألمانيا مؤخراً عن أنّ عدد المسلمين في أوروبا مجتمعةً يصل حالياً إلى نحو 53 مليون نسمة، من بينهم نحو 16 مليون مسلم يسكنون في دول الاتحاد الأوروبي(7)، أي ما نسبته 6 % من مجموع سكان أوروبا الذي يبلغ 705 مليون نسمة.

وبانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي سوف يبلغ عدد مسلمي أوروبا نحو 119 مليون نسمة، أي ما يوازي نحو 15.4% من إجمالي عدد سكان القارة الأوروبية.

وقد نتج عن ظاهرة تنامي عدد المسلمين في أوروبا قضية اندماجهم في مجتمعاتها، واحتلال هذه القضية حيزاً كبيراً من اهتمام حكومات الاتحاد الأوروبي والمسلمين على حد سواء. 

تحدّيات الاندماج

تواجه قضية اندماج المسلمين في المجتمعات الأوروبية، وخاصةً بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001 في الولايات المتحدة، وما تلاها من تفجيرات في اسبانيا وبريطانيا تحديات ومعوقات عديدة. وتحقيقاً للموضوعية في الكشف عن هذه التحديات والمعوقات سيعتمد البحث على تقارير أصدرتها مؤسسات أوروبية، وأخرى إسلامية.

يشير تقرير أصدره اتحاد هلسنكي العالمي، سنة 2005، عن المسلمين كضحايا لعدم التسامح والتمييز في الاتحاد الأوروبي منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول إلى أن المسلمين في أوروبا لا يعيشون في جماعات موحدة، وما يميز هذه الجماعات أنها ليست متجانسة، بل لها خلفيات عرقية وثقافية ولغوية وأخرى اجتماعية متباينة، وهي تنتمي إلى مذاهب إسلامية مختلفة. ولكن رغم ذلك ثمة صفات مشتركةً تجمع بين الجاليات الإسلامية في مجتمعات الاتحاد الأوروبي، منها أن متوسط أعمار أفرادها أقل منه لدى الفئات الأخرى من السكان، وأنهم يعيشون في ضواحي المدن أو في مراكز التجمع السكاني الكبرى، وقد يتصاعد عددهم بسبب ارتفاع معدل المواليد بينهم. كما أن دول الاتحاد الأوروبي ليست متجانسة في تعاملها مع مواطنيها المسلمين، أو المقيمين فيها، وتوجد فروق كبيرة فيما يتعلق بالحقوق المدنية، فبينما نجد نصف المسلمين في فرنسا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا يحملون جنسيات تلك البلاد، نجد نسبة من يحملون الجنسية الألمانية والدنماركية منهم يقل عن عشرين بالمائة، وبذلك فإن الاعتراف الرسمي بالإسلام، واكتساب الجنسيات يشكلان أهمية كبرى في علاقة كل من هذه الدول مع المسلمين المقيمين فيها.

ويبين التقرير أن المناخ الاجتماعي الذي يعيش فيه المسلمون في الدول التي جرى عليها البحث قد ساء منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، وأن الأحكام المسبقة وألوان التمييز تجاه المسلمين قد ازدادت أيضاً، بل أصبح "مسموحاً"في بعض دول الاتحاد الأوروبي بـ "مواجهة المسلمين بالعداء واستخدام التعبيرات المعادية ضدهم"، رغم أن المحاكم كانت لها بالفعل يد في الدفاع عن حقوق المسلمين.

وقد شكّل نجاج الأحزاب اليمينية الأوروبية الفاشية الجديدة والمعادية للأجانب بعد أحداث سبتمبر/ أيلول تحدياً كبيراً أمام الأقليات العرقية والدينية وحتى الديمقراطية السياسية الأوروبية. وأكثر مما يعاني منه المسلمون هو أن بلاغة تلك الأحزاب لا تتضمن فقط تخويفا من الأجانب ولكنها معادية لهم أيضاً. كما ساعدت "الحرب ضد الإرهاب"تلك الأحزاب المتطرفة في طرح مضامين تعصبية ومعادية للأجانب في الصحف اليومية، وذلك بتعبيرات معادية للمسلمين وإصدارهم أحكاماً مسبقة ضد الأجانب.

وينتهي تقرير اتحاد هلسنكي العالمي إلى التأكيد على استحالة وجود وصفة سحرية قد تساعد في التغلب على عدم التسامح والعنصرية، وفي الوقت عينه على الصعوبات التي تواجه قضية الاندماج، التي لن يكتب لها النجاح بالمجهود الفردي(8).

وفي عام 2006 اتهم تقرير صادر عن هيئة حقوق الإنسان التابع للمفوضية الأوروبية، الدنمارك ودولا أوروبية عدة بانتهاك حقوق المسلمين، إضافة إلى اللاجئين والمهاجرين الذين يعيشون في تلك الدول. وأورد التقرير أن الدانمارك تمارس كافة الأساليب ضد المواطنين غير الأوروبيين وحتى الدنماركيين من أصول أجنبية، خصوصاً في أماكن عمل المسلمين وفي مساكنهم، فضلاً عن العقبات التي تواجه المسلمين الصوماليين منهم، فهم الأكثر تعرضا لتلك الممارسات العنصرية عند ارتيادهم لبعض الأماكن العامة مثل المطاعم والمحلات التجارية.

ومن أبرز الأساليب العنصرية التي تمارسها السلطات الدنماركية ضد اللاجئين المسلمين، حسب التقرير، عدم الاعتراف بهم بوصفهم ديانة، وعدم السماح لهم بإنشاء مساجد، ومنعهم من ارتياد مطاعم وأماكن عامة وعدم التسامح معهم، وإقرار قوانين مجحفة بحقهم، وآخرها قانون مكافحة الإرهاب، الذي يسقط الجنسية الدنماركية عن كل شخص يحمل جنسيتين ويدان بالإرهاب داخل الدنمارك وخارجها، وفرض قيود على ارتداء الحجاب وأكل اللحوم الحلال، وكذلك منعهم من بناء مقابر خاصة بهم؛ فالمسلم إذا توفي في الأرض الدنماركية فأمامه خياران: إما أن يدفن في موطنه الأصلي، أو يجري دفنه في مقابر يملكها مسيحيون.. والعديد من مظاهر التمييز العنصري الأخرى.

يمارس العديد من الأحزاب، على رأسها حزب الشعب الدانماركي الذي يتمتع بنفوذ متنامٍ في الدانمارك، دوراً مناهضًا للوجود الإسلامي في البلد، ويطالب بترحيلهم من البلاد. ويستخدم الحزب الاشتراكي الليبرالي الخطاب نفسه على الرغم من كونه حزباً يسارياً من المفترض أن يدعم حقوق الأقليات. وظهرت تصريحات عنصرية خطيرة لبعض الزعماء السياسيين تدعو إلى طرد المسلمين من الدنمارك، وتجميعهم في معسكرات وترحيلهم.

وتنسجم الآراء المتطرفة لهؤلاء الزعماء مع إحصاء أكد أن 31 % من المواطنين الدانماركيين يرون أن قدوم أشخاص من أتباع أديان مغايرة يمثل إزعاجاً لحياتهم اليومية، وهي النسبة الأولى من نوعها بين دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك إحصاء يظهر أن 80 % من الشعب الدانماركي لم يتعامل مع مسلمين البتة، وهو ما يضعه على رأس المجتمعات الأوروبية انغلاقًا وجهلاً بمبادئ الدين الإسلامي لدرجة أن ما يتوفر لديهم عن الإسلام ضعيف جداً، ومصدره الوحيد وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية.

ويعد هذا التقرير الثاني من نوعه الذي تصدره المفوضية الأوروبية ضد الدنمارك، إذ سبق أن أصدرت في عام 2001 تقريراً مشابهاً حول انتهاك الدنمارك لحقوق الأقليات(9).

وأكد تقرير أعدته لجنة مسلمي بريطانيا، التي تُعدّ مركزاً فكرياً جرى تأسيسه لمكافحة العنصرية في لندن، تزايد عمليات الاضطهاد لكل ما هو إسلامي في بريطانيا خلال الأعوام التي أعقبت تفجيرات نيويورك ومدريد ولندن، وتزايد ظاهرة الإسلاموفوبيا، محذراً من أن هذه العمليات تؤدي إلى تنامي شريحة من الشباب الساخط بين المسلمين مما قد يجعلهم يشكلون قنبلةً موقوتةً يحتمل أن تنفجر في أعمال عنف عرقية، مؤكداً أن مسلمي بريطانيا يشعرون بأنهم دخلاء على بلادهم ، لكن الوضع يتزايد، وهو ما يتطلب من كل الهيئات العامة القيام بعمل إيجابي في منع التمييز على أسس دينية، مع ضرورة تشكيل لجان لرصد تأثير الدين على الحياة العامة .

وأشار التقرير إلى أن بعض الجاليات المسلمة ترى نفسها منعزلةً في "جيتوهات"، كما أن المسلمين يشعرون بعدم القبول في المجتمع البريطاني، حيث يُنظر إليهم على أنهم عدو الداخل أو طابور خامس، وأنهم واقعون تحت حصار مستمر، وهذا أمر يسيء إلى المجتمع، كما هو للمسلمين أنفسهم. وطالب التقرير بضرورة البحث عن علاج سريع لهذا الوضع، منتقداً منظمات تحسين العلاقات العرقية لتباطؤها في التصدي لهذه المشكلة (10).

وفي تقريره الشامل عن أوضاع المسلمين في أوروبا لعامي 2004-2005 خصص مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية فقرةً عن المؤشرات السلبية أكد فيها على تزايد حدة ما يسمى ظاهرة الإسلاموفوبيا، وتحول شعار الحرب على الإرهاب إلى شعار الحرب على الحجاب، والخلط المتعمَّد للربط بين الإرهاب والإسلام، لاسيما من قبل الأحزاب والجمعيات الأوربية اليمينية، والتي جعلت أحد أبرز أهدافها طرد المسلمين من المجتمعات الأوربية. وقد أسهم ذلك في تزايد مظاهر التضييق على المسلمين الأوربيين، في حياتهم اليومية وفى مناسباتهم الدينية. ففي فرنسا ارتفعت أشكال العنصرية ضد المسلمين، وشملت أغلب المدن الفرنسية، وبرزت بوضوح المشاعر العدوانية في وسائل الإعلام الفرنسية إزاء الجالية الإسلامية، حيث تعمَّدت بعض الصحف والقنوات التليفزيونية تقديم صورة الإسلام بشكل يشوبه مغالطات عديدة وصورة مقلوبة وغير مطابقة لواقع الإسلام. وفى بريطانيا جرى ربط الإسلام بالإرهاب، وبرزت المشاعر المعادية للمسلمين، خاصة من قبل غلاة اليمين، وعملت وسائل الإعلام على زيادة جرعة الكراهية العرقية والدينية والتشوية المستمر الذي يتعرض له الإسلام والمسلمون. وبرز الأمر أكثر وضوحاً، في هولندا، حيث ظهرت فيها موجة أعمال عدائية ضد المسلمين وتشديد الخناق عليهم أو ترحيلهم. وفاقم من حدة ذلك توجهات الحكومة التي يقودها لفيف من الأحزاب اليمينية المتشددة، التي تعمل منذ توليها السلطة عام 2003 على تنفيذ برامج ذات طابع عدائي ضد الأقليات الأجنبية، باتخاذ حزمة إجراءات، أو تبني تشريعات بدعوى منع التحريض على العنف أو الإرهاب. وفى إيطاليا ظهرت مجموعة من المشكلات التي واجهت الجالية المسلمة فيها، خاصةً في ضوء عدم اعتراف السلطات الرسمية بالإسلام كدين رسمى، عكس الحال مع اليهودية والبوذية. ويكمن جوهر المشكلة في الثقافة الأحادية للكنيسة الكاثوليكية التي تعتبر الآخرين خارجين عن العقيدة وغير آدميين، وعدم توسيع مفهوم من هو الإيطالي، والذي يمكن أن يكون مسلماً، عوضاً عن الحياة على هامش المجتمع. يضاف إلى ذلك دور اليمين الإيطالي المتطرف وتظاهراته ودعوته الحكومة لطرد الجالية الإسلامية في البلاد وفرض قيود عليها، وبمنع المسلمين من دخول إيطاليا، وإغلاق جميع المراكز الإسلامية والمساجد في كل أنحاء المدن الإيطالية (11).

وفي الحقيقة كان لوسائل الإعلام الغربية دور سلبيّ للغاية في تعميق الخلاف بين الإسلام والغرب، من خلال التحكم في تقديم صور مشوهة عن الإسلام وأوضاع مسلمي أوروبا في أذهان الكثيرين؛ تلك الصور السلبية التي تهدف إلى خلق حالة خوف من الإسلام لدى الأوروبيين، وخاصةً بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول ، وإعلان شعار الحرب على الإرهاب. وشحنت تلك الصور بحوادث الاعتداءات العنصرية التي تعرض لها المسلمون هناك. وركّز معظم وسائل الإعلام الأوروبية في تناوله للقضايا الإسلامية والمسلمين على ثلاثة محاور رئيسة هي:

- النظر إلى المسلم على أنه معادٍ للغرب.

- إظهار القيم الإسلامية المعادية لقيم الحضارات الغربية.

- إظهار القيم الإسلامية التي تشجّع الرجعية والإرهاب (12).

وفي هذا الصدد يؤكد المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في كتابة (تغطية الإسلام) أن وسائل الإعلام الغربية كانت تبثُّ رسالةً، مفادُها: "أن الإسلام لا ينتمي إلى أوروبا، ولا إلى المجموعة الصناعية، وأنه يمثِّل على الدوام إزعاجاً لها"(13).

ويجب أن لا ننسى دور الإعلام الصهيوني في دعم القوى العنصرية في أوروبا، وتأجيج العداء ضد المسلمين، فغالباً ما يقف اللوبي الصهيوني وراء الإعلام والأفلام والثقافة السائدة التي تصنع المخيلة الأوروبية عن الإسلام، وتصوغ الرؤية التي ترى المسلمين خطراً على أوروبا، وليسوا أهلاً للثقة. ويمكن ضرب مثال واحد على ذلك، من بين عشرات الأمثلة، بكتابات دانيال بايبس، الصحفي في جريدة نيويورك صن، وجيروزاليم بوست، ومؤسس نظرية "الرعب الإسلامي"، الذي ما انفك منذ أكثر من عقد يشن حملةً مسعورةً ضد العرب والمسلمين، ويحذر الأوروبيين والأميركيين من تناميهم في المجتمعات الغربية ويثير كرههم منهم، ويخيفهم من أسلمة أوروبا وأميركا في المستقبل، ويحاول تأليب الرأي العام الأوروبي بتصوير ما حدث في بريطانيا وأسبانيا وفرنسا على أنه "انتفاضة"، باعتبار أن هذه الكلمة التي ترعب الإسرائيليين سيكون لها نفس التأثير أو المفعول في أوروبا عامةً! كما يرسم بايبس صورةً مستقبليةً قاتمةً لهذه القارة زاعماً أن الكاتدرائيات الضخمة ستصبح بقايا أثريةً، فإما أن تُهدم أو تتحول إلى مساجد. وستذبل الثقافات القومية مثل الفرنسية والايطالية والبريطانية، وتذوي لتحل محلّها الهوية الإسلامية!(14).

ولكن رغم دأب هؤلاء المتطرفين والعنصريين الحثيث على عزل الإسلام في أوروبا وتشويهه ومنع نموه الكيفي والكمي، وإذا ما أمكن تهجيره، فإن الذي يقف موضوعياً في وجه هذا المخطط ليس فقط بقايا فكر التنوير المنبثة في الثقافة السياسية السائدة في العصر التي لم تعد تقبل شن حروب إبادة وتطهير عرقي كما حصل في البوسنة، بل العقبة الاقتصادية المتمثلة في الحاجة الثابتة والمتزايدة إلى اليد العاملة المهاجرة بسبب تفاقم العجز السكاني في القارة الشائخة، بما يجعل دول الاتحاد الأوروبي محكوماً عليها، رغم كل الضجيج المثار ضد المهاجرين، باستيراد ملايين العمال سنوياً، فكيف والحال هذه يمكن تصور تهجير ملايين المسلمين معظمهم مواطنون؟

ولذلك فإن ما يجعل الهدف الموضوعي من الحملات ضد الوجود الإسلامي في أوروبا من قبيل المزايدة السياسية الحزبية، إذ أن المهاجرين كبش فداء، يلقي عليهم اليمين-مناكفة لليسار- مسؤولية انتشار البطالة، وحتى الوساخة أحياناً، فضلاً عن الإرهاب. ويرد اليسار مدافعاً عن قاعدته الانتخابية بالتضييق على المهاجرين الموجودين، وتشديد الرقابة على استيراد المزيد منهم. لكن الجميع عندما يحكمون يفتحون الباب لمهاجرين جدد ربما مع الحرص على النوعية (15).

ومن هنا فإن دمج المسلمين في المجتمعات الأوروبية أمر واقعي، إن لم يكن حتمياً، وأحد أهم التحديات أمام الاتحاد الأوروبي، رغم أن مصطلح الاندماج من المصطلحات الملتبسة الذي يخضع لتفسيرات متعددة ومتباينة في بعض الأحيان؛ لأنه يتخذ من الثقافة الذاتية نقطة انطلاق لمحاولة استيعاب الآخر ضمن منظومته الثقافية، كما أنه مصطلح يختلط بمصطلحات أخرى تقترب منه بدرجات متفاوتة، مثل: التماثل، والتجانس، والتأقلم، والتكيّف، والإدراج الثقافي، والإلحاق الحضاري (16). 

الاندماج من وجهة نظر إسلامية

يلمس أحد الباحثين العرب كيفية تغيّر نظرة المسلمين إلى أنفسهم وحاضرهم ومستقبلهم في مجتمعاتهم غير الإسلامية من خلال مقارنة أجراها بين محاولتين فكريتين كانت لهما أهمية وتأثير في تشكيل رؤية المسلمين لأنفسهم في بلاد البلقان، في زمنين مختلفين، أحدهما ينتمي إلى حقبة الستينات وأوائل السبعينات من القرن العشرين، حين دعا الدكتور علي عزت بيجوفيتش، إلى ما اسماه (الإعلان العالمي)، في كتاب له صدر عام 1981م، والثاني ينتمي إلى ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول حين دعا الدكتور مصطفى تسيريتش، رئيس هيئة العلماء في البوسنة والهرسك، إلى إعلان إسلامي آخر، أطلق عليه (إعلان المسلمين الأوروبيين). في الإعلان الأول نظر بيجوفيتش إلى اندماج المسلمين في أوروبا بالعالم الإسلامي، وربط مصيرهم بمصير الأمة الإسلامية، ونهضتهم بنهضة العالم الإسلامي، على قاعدة الاشتراك في الهوية. وفي الإعلان الثاني نظر تسيريتش إلى اندماج المسلمين في أوروبا بمحيطهم الأوروبي، على قاعدة المواطنة والعقد الاجتماعي والسياسي. وقد جاء الإعلان الثاني بمثابة نداء موجه باسم المسلمين الأوروبيين إلى الاتحاد الأوروبي، داعياً إلى عقد اجتماعي يؤسس لعلاقة المواطنة على أساس "أن حماية الهوية ليست بالعزلة لأنها ستؤدي إلى ضمور الهويات وتكلسها".

يؤكد إعلان تسيريتش أن المسلمين الأوروبيين ملتزمون بالكامل وبشكل صريح بحكم القانون العادل، ومبادئ التسامح، وقيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وبالاعتقاد أن كل إنسان له الحق في أن تُصان حقوقه الضرورية الخمسة، وهي: النفس، والدين، والعقل، والمال، والعرض. ومن الواضح أن هذا الإعلان يشجع الأوروبيين على الاعتراف الرسمي بالإسلام والمؤسسات الإسلامية في أوروبا، وحمايتهم من جرائم التطهير العرقي، والإبادة الجماعية.

وتكشف المقارنة بين الإعلانين عن جدلية الهوية والانتماء، وطبيعة التطور التراكمي في تجدد الفهم لهذه الجدلية، التي لها طبيعة الحضور الملح. بمعنى أن وضعيات المسلمين في مجتمعاتهم غير الإسلامية كان لابد لها أن تتطور مع مرور الوقت صوب الالتفات إلى مسألة المواطنة، بوصفها إطاراً لتحسين أحوالهم العامة، ومدخلاً للمطالبة بحقهم في المشاركة السياسية، ومساواتهم مع جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، وتأكيداً لرغبتهم في التفاهم والتعايش، مع مختلف مكونات التعدد والتنوع العرقي والقومي، اللغوي واللساني، الديني والمذهبي في مجتمعاتهم. وعلى خلفية أن الهوية لا تتعارض أو تتصادم مع مفهوم المواطنة، ومن ثم فإنها لا ينبغي أن تتحول إلى عامل يدفع إلى الانغلاق والانكفاء على الذات، أو الممانعة عن التفاعل والمشاركة السياسية، وفي قضايا الشأن العام. كما لا ينبغي أن تتحول الهوية إلى عامل يدفع إلى القطيعة أو الصدام، أو العزلة بكافة صورها الشعورية والحسية، وهجران الآخرين تحت أية ذريعة كانت، إلا في ظل أسباب قاهرة من الصعب التحكم بها، وهي التي يقررها العقلاء(17).

ويبدو لنا أن هذه النظرة هي التي بات يأخذ بها أغلب المؤسسات والمنظمات الإسلامية في أوروبا اليوم، ومنها المجلس الأوروبي للاستفتاء والبحوث، ولذلك لاحظنا أن البيان الختامي للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دورته العادية السابعة عشرة المنعقدة بمدينة سراييفو/ البوسنة والهرسك في أيار/ مايو2007 قد أقرّ بأن مواطنة المسلمين في المجتمع الأوروبي أمر مشروع من حيث المبدأ، تسعه مقاصد الدين الإسلامي، إذ تمثّل هذه المواطنة جسراً بين العالم الأوروبي والعالم الإسلامي مما يعود على العلاقة بين الطرفين بالخير. وهي لا تخالف الولاء الشرعي، إذ لا يلزم من وجود المسلم في غير ديار الإسلام الالتزام بما يخالف دينه من مقتضيات المواطنة، كالدفاع عنها إذا اعتدي عليها، والأصل أن يكون المسلمون في مقدَّمة من يدفع الضرر عن بلده، كما لا يحل له أن يشارك في أي اعتداء تقوم به بلده على أي بلد آخر سواء كان إسلامياً أم لا. ومن واجبات المواطنة التعايش واحترام الآخر، والتزام القيم الأخلاقية كالعدالة والتعاون على الخير، والنصح من خلال القوانين السائدة لإصلاح ما يضر البلاد أو العباد. كما أن اندماج المسلمين الإيجابي في المجتمع الأوروبي لا يتعارض مع مبدأ الولاء والبراء، فإذا ما أعيد إلى معناه الأصلي الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة فإنه لا يكون معارِضاً لمواطنة المسلمين وتفاعلهم مع المجتمع الأوروبي. ويتجلى هذا التفاعل بالمشاركة في التنمية الحضارية أخذاً وعطاءً، التي من شأنها حين تُُصبح ثقافة للمسلمين، أن تيسّر الاندماج الإيجابي والمواطنة الصالحة.

ولكن الاندماج موضوع البحث محفوف بالمزالق، وهو مُعرض إلى أن ينتهي بالذوبان كما حدث في تجارب سابقة للمسلمين؛ لذلك ينبغي أن تُحدَّد له ضوابط وقواعد تسير به في مساره الوسط المُنتج، وتعصمه من الانعزال أو الذوبان، منها:

أ- تحديد معنى الاندماج المطلوب، وتحديد محتواه، بحيث يتميز عما يُراد منه من قبل بعض الجهات حيث تعني به الذوبان. ولذلك ينبغي السعي إلى التحاور مع المؤسسات الأوروبية للاتفاق على مفهوم مشترك للاندماج.

ب- أن يكون مُقيّداً بالمحافظة على خصوصية المسلم الممثلة في العقيدة والشعائر والأخلاق والأحكام الشرعية خصوصاً ما كان منها قطعياً، وأن تكون المرونة فيه في سياق ما هو قابل للاجتهاد من أحكام الدين.

ج- أن يتم من خلال احترام القوانين التي تُنظم المجتمعات الأوروبية.

د- أن يكون مبنياً على أساس من البحث العلمي للواقع الأوروبي.

هـ- أن يقوم على استثمار الفرص والإمكانات الكثيرة المُتاحة في المجتمع الأوروبي.

و- أن يكون قائماً على أساس من الحوار المستمر مع مُكونات المُجتمع الأوروبي الثقافية والسياسية والاجتماعية.

إن أهم آليات الاندماج وأسبابه هي تزكيةَ الفرد والجماعة المسلمة؛ وذلك للارتقاء به وبها إلى مستوى المثالية والقدوة في المجتمع الأوروبي. وتعتمد سبل تحقيقه على الاعتناء بالدور المهم لمؤسسة الأسرة، فهي المحضن الذي يتربى فيه الفرد على هويته الإسلامية، وعلى العلاقة بمجتمعه الذي يعيش فيه بالتفاعل المثمر. كذلك هي المحضن الأول لتمكين صفة المواطنة الصحيحة المقتضية احترام المجتمع والسعي في تحقيق مصلحته، مع بذل الجهد في تأهيل الأسرة المسلمة لتقوم بدورها الفاعل في القيام بدور الاندماج الإيجابي.

وتأتي سائر المحاضن المؤثرة في تكوين شخصية المسلم، كالمدرسة الإسلامية، والمركز، والمسجد، والنادي، جميعها في سياق التأهيل لاندماج إيجابي في المجتمع الأوروبي.

وتؤدي المنظمات الإسلامية في أوروبا دوراً مهماً في الاندماج الإيجابي، وذلك بدءاً بالتوعية بالمفهوم الصحيح للاندماج، والتمكين لثقافة "المؤسسة"في المسلم الأوروبي، إذ أن هذا المجتمع الذي يعيش فيه مجتمع مؤسسي، ولا يمكن الاندماج فيه إلاّ من خلال هذه الثقافة التي تمكِّن المسلم من التعامل مع المجتمع تعامل المشاركة المنتجة التي هي باب مهم من أبواب المجتمع. ولا يُخفى ما للمؤسسات من دور مهم في الانفتاح على المجتمع الأوروبي فيعرَّف من خلالها بالإسلام وقيمه، وتكون جسراً بينه وبين المسلمين في أوروبا، وهذا سبب لتحقيق الاندماج الفاعل.

إن مقتضيات اندماج المسلمين في المجتمعات الأوروبية مسؤولية مشتركة بين المسلمين أفراداً ومؤسسات من جانب، وبقية المجتمع الأوروبي أفراداً ومؤسسات من جانب آخر. وإن من أهم مقتضيات الاندماج التي تُطلب من المسلمين، التي لا حرج فيها عليهم، بل إن الإسلام يحث عليها، ما يأتي:

أ- ضرورة معرفة لغة المجتمع الأوروبي وأعرافه ونظمه، والالتزام تبعاً لذلك بالقوانين العامة.

ب- المشاركة في شؤون المجتمع والحرص على خدمة الصالح العام.

ج- العمل على الخروج من وضع البطالة؛ ليكون المسلم فاعلاً منتجاً يكفي نفسه وينفع غيره.

أما أهم مقتضيات الاندماج التي يفترض أن يحققها المجتمع فهي:

أ- العمل على إقامة العدل وتحقيق المساواة بين جميع المواطنين في سائر الحقوق والواجبات، وبالخصوص حماية حرية التعبير والممارسة الدينية، وكفالة الحقوق الاجتماعية وعلى رأسها حق العمل وضمان تكافؤ الفرص.

ب- مقاومة مظاهر العنصرية والحدّ من العوامل المغذية لمعاداة الإسلام، وخصوصاً في مجال الإعلام.

ج- تشجيع مبادرات التعارف الديني والثقافي بين المسلمين وغيرهم بما يحقق التفاعل بين أبناء المجتمع الواحد.

وفي الواقع أن سياسات "الاندماج"المتبعة في الدول الأوروبية تتراوح، كما يرى البيان، بين اتجاهين: اتجاه يغلّب جانب الانصهار في المجتمع ولو أدّى ذلك إلى التخلي عن الخصوصيات الدينية والثقافية للفئات المندمجة، واتجاه آخر يدعو إلى ضرورة الموازنة بين مقتضيات الاندماج ومقتضيات الحفاظ على الخصوصيات الثقافية والدينية. وأن الاتجاه الثاني هو الذي يعبّر عن الاندماج الإيجابي، الذي يجب أن تحدد مقتضياته بوضوح، ويجري الاتفاق على أنه مسؤولية مشتركة بين المسلمين أفراداً ومؤسسات من جانب، وبقية المجتمع الأوروبي أفراداً ومؤسسات من جانب آخر. ولذلك فقد خرج البيان بجملة توصيات ومقترحات للمسلمين في أوروبا، من أهمها:

1- الالتزام بالقوانين الخاصة بحقوق المواطنة وواجباتها.

2- الالتزام بالقوانين واللوائح الموضوعة من قبل الجهات الرسمية.

3- العمل على تحسين صورة الإسلام والمسلمين عن طريق الالتزام بقيم الإسلام ومبادئه العظيمة وإقامة البرامج التي تعرف بالإسلام وقيمه الحضارية.

4- تجاوز العادات والتقاليد الموروثة المسيئة للإسلام.

5- إقامة دورات وبرامج تعمل على تحقيق الاندماج الإيجابي والتفاعل المثمر.

6- النهوض بالدعاة والعاملين بين المسلمين وتأهيلهم ليكونوا قدوةً حسنةً في تحقيق التفاعل الإيجابي، وإعداد نخبة تتقن لغة الحوار مع الغرب للحديث عن الإسلام وتقديم صورته المشرقة له.

7- إقامة المراكز الإسلامية المتكاملة التي تشمل إلى جوار المسجد: المكتبة والنادي الثقافي والاجتماعي والرياضي والمطعم وغير ذلك من الإمكانات، وقيامها بأنشطة مختلفة، مع التركيز على أنشطة الاندماج.

8- المشاركة الإيجابية والفعالة في مؤسسات المجتمع المدني والأنشطة البيئية والاجتماعية في الحي والمدينة وعلى مستوى الدولة.

9- بناء العمل المؤسسي، والبعد عن التمحور حول العرقية والمذهبية والطائفية والحزبية.

10- تشكيل لجان حقوقية قانونية للدفاع عن حقوق الأقليات ومناهضة التمييز العنصري.

11- السعي إلى الاعتراف الرسمي بالإسلام كدين، وبالمسلمين كأقلية لها حقوقها التي كفلتها الشرائع والدساتير والمواثيق، على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة.

كذلك أوصى المجلس المسلمين المقيمين في أوروبا بما اعتاد أن يوصي به ويؤكد عليه من مراعاة الحقوق كلها، وأن يعطوا الصورة الطيبة والقدوة الحسنة من خلال أقوالهم وتصرفاتهم وسلوكهم. وأن يلتزموا الحوار الهادئ والأساليب السليمة في معالجة قضايا الخلاف، بعيداً عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوه صورة الإسلام، وتسيء أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامة وإلى الأقليات المسلمة خاصة، فيتلقفها خصوم الإسلام والجاهلون به للتشنيع عليه والتخويف منه ومن أهله واستعداء الأمم عليهم.

كما خرج البيان بتوصيات لأصحاب القرار ومؤسسات المجتمع المدني في الدول الأوروبية، تمثلت بـ:

1- السعي إلى القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المسلمين والتي يلمسونها في بعض المعاملات والدوائر الأوروبية.

2- فتح قنوات الاتصال مع الأقليات المسلمة على جميع المستويات.

3- إقامة برامج ودورات لتعريف المسلمين بالقوانين السائدة والحقوق والواجبات.

4- فتح باب العمل والدراسة أمام المسلمين ومعاملتهم كغيرهم من الأقليات دون تحيز.

5- تنبيه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لتبني الموضوعية في تناولها لقضايا الإسلام والمسلمين(18). 

الاندماج من وجهة نظر الاتحاد الأوروبي

رغم تقدم أكثر من مليون ونصف شخص بطلب للهجرة إلى دول الاتحاد الأوروبي سنوياً، فإنها لم تبدأ بالتركيز على قضية الاندماج إلا مؤخراً. وفيما يتعلق بالمسلمين ثمة تمايز وفروقات بين هذه الدول في عمليات دمجهم تبعاً لقوانين كل بلد أوروبي وثقافته على حدة، مع ضرورة إدراك أن النشاط الإسلامي مسموح به في حدود عدم إحداثه تغييرات في بنيات المجتمعات الأوروبية، وفي مستوى لا يسمح ببزوغ منظومة إسلامية واحدة في أوروبا.

يقول فرانكو فراتيني، نائب رئيس المفوضية الأوروبية: إن"الاندماج يعني أن يتفق الناس على نفس المبادئ الرئيسة، أي أن المهاجرين يجب أن يقبلوا القوانين والأسس والقيم الرئيسة المتبعة في أوروبا مثل حقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة وغيرها. ويجب على كل من يرغب في الاندماج في دول الاتحاد الأوروبي أن يحترمها"(19). ولا يخفي فراتيني مطلب الاتحاد الأوروبي بأن يكون الإسلام في دياره "إسلاماً أوروبياً". وتعقيباً على هذا المطلب يقول بعض المسلمين إن الدعوة إلى إسلام أوروبي "ليس أمراً يعني هدم الإسلام نفسه، لأن خطوط الإسلام العامة وأصوله الأساسية ستظل محفوظةً، ولا تنازل عنها. والبعض يسأل: لماذا يستطيع الصيني أو الهندي أو المكسيكي أو غيرهم أن يعيشوا في هذه المهاجر الغربية، من دون أن يفقدوا هوياتهم الأصلية، وهذا ما لم يُطلب من المسلمين أصلاً، وهو سؤال قاس وخشن، ولكن يجب أن نطرحه على أنفسنا قبل أن يطرحه الآخرون، الذين يتحرجون من طرحه حتى لا يُتهموا بالعنصرية"(20). إلاّ أن بعضاً آخر من المسلمين يرى أن الاندماج من وجهة نظر الاتحاد الأوروبي يعني أن يصير المواطن المهاجر أو المسلم أوروبياً أولاً ثم مسلماً ثانياً، أو ما يسمَّى أحياناً بالاعتدال، وهذا في رأيه خلط وتعدٍّ على حق المواطن والفرد في اختيار أولويات انتماءاته، لأنه يؤدي إلى تعنت وقسر، ومن ثَم ضغط واضطهاد. ولكن من جانب آخر يشوب فهم المسلمين للاندماج، أحياناً، الباطل ويؤدي إلى عدم الفهم وعدم التفاهم حينما يعتقدون بأنه حقوق دون واجبات، والتزامات من قِبَل الدولة دون التزامات بالمقابل من جهة الفرد(21). وفي هذا السياق يؤكد كتاب (استراتيجية العمل الثقافي في الغرب) الذي أصدرته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسسكو) "أن مخطط إدماج الأقليات المسلمة في الكيان الثقافي الغربي غالباً ما يلقى معارضة ومقاومة كبيرة من المسلمين؛ بسبب حرص الجاليات المسلمة على التمسك بذاتيتها الثقافية وخصوصيتها الإسلامية"(22). ونجد تعبيراً لهذه المعارضة، تمثيلاً لا حصراً، في إجابة أحد أئمة المساجد في أوروبا على سؤال حول واقع الإسلام في الغرب وسبل دعم اندماج المسلمين في مجتمعاتهم الأوروبية مع الحفاظ على خصوصياتهم الثقافية والدينية، حيث يقول: "أخشى أن يُستعمل مصطلح الاندماج، كما استعمل لفظ الإرهاب، فهي كلمة مطاطة.. فماذا يراد من المسلمين في قضية الاندماج؟ هل المطلوب أن ينسى المسلم هويته وأن ينسى حضارته وثقافته ودينه ولغته، وأن ينسى كل شيء؟ هذا في بعض البلاد للأسف هو المفهوم السائد للاندماج، ليذوب المسلم في المجتمع بحيث لا يبقى له من ثقافته ودينه، بل من اسمه شيء"(23)!

تاريخياً يمثّل اعتراف الإمبراطور النمساوي فرانز جوزيف سنة 1912 بالإسلام ديناً رسمياً، أقدم اعتراف رسمي بهذا الدين في أوروبا، ورغم ذلك فإن أول جمعية إسلامية دينية أنشئت في فيينا سنة 1979، أي بعد ما يقرب من سبعين عاماً، ولم يجرِ تدريس التربية الدينية لأبناء المسلمين إلا عام 1982، إلا أن أعداد المسلمين تضاعفت فيها خلال عشرين عاماً أربعة أضعاف. ولا يمثل ارتداء الحجاب مشكلة كبيرة للمسلمات فى النمسا سواء فى المدارس أو الجامعات أو دوائر العمل، حيث يقر الدستور النمساوي ويحمى حرية ممارسة الشعائر الدينية لأتباع الديانات المعترف بها، ومن ذلك اعتبار المناسبات الدينية الإسلامية أيام عطلات رسمية لأبناء الجالية، والذبح الحلال، والانتهاء من بناء أول مقبرة إسلامية مستقلة فى العاصمة على مساحة 34 ألف متر مربع.

ومثل هذا الاعتراف الرسمي وتنظيم الجالية لصفوفها من خلال الهيئة الدينية الإسلامية الرسمية ساعد مسلمي النمسا في تحقيق اندماج شبه كامل في المجتمع مع الحفاظ على خصوصيتهم وتقاليدهم وهويتهم الإسلامية، في ضوء مناخ يسمح بالتعايش السلمي بين مختلف الأديان. ويُعدّ حال المسلمين في هذه الدولة نموذجياً إلى حد كبير مقارنةً بأحوال نظيراتها في دول أوربية أخرى.

وفي اسبانيا اعترفت الحكومة الاسبانية بالإسلام عبر قانون الحرية الدينية الذي أصدرته عام 1976. وفي إطار مساعي تهدئة التوترات التي أعقبت تفجيرات مدريد، التزمت الحكومة الاشتراكية عدم إصدار أي قانون يحظر ارتداء الحجاب على غرار ما حدث في فرنسا وبعض الولايات الألمانية، رغم مطالبة قوى اليمين بذلك. كما سمحت الحكومة، استناداً إلى القانون العلماني للبلاد، الذي يفرض المساواة بين الأديان، وقانون الإصلاح التربوي الصادر عام 2004، بتدريس الإسلام، الذي كان غائباً باستثناء سبتة ومليلية بشمال المغرب، وذلك لأول مرة في عدد من المدارس الأسبانية، في المدن الكبرى. ومؤخراً خصصت هذه الحكومة مبلغ ملياري يورو لعملية دمج المسلمين في المجتمع الاسباني.

وفى بلجيكا يُعدّ الإسلام ديناً رسمياً معترفاً به منذ عام 1968، وقد صادقت الحكومة البلجيكية عام 1975 على إدخال دروس التربية الإسلامية ضمن البرامج المدرسية لأبناء الجالية، ولم تعترض على ارتداء بعض النساء المسلمات الحجاب، حتى عند أخذ الصور الخاصة ببطاقات تحقيق الشخصية.

وفى ألمانيا، التي شهدت جدلاً كبيراً حول كيفية الوقوف أمام ظاهرة التطرف الإسلامي في المجتمع الألماني، برزت بعض الجهود لتنظيم العلاقة بين الجالية المسلمة وبين السلطات في الولايات الألمانية، حيث قدم حزب الخضر في ولاية شمال الراين مبادرة دعت إلى تنظيم قانوني للعلاقة بين السلطات التنفيذية والتشريعية في الولاية وممثلي منظمات الجالية الإسلامية فيها، تمهيداً لتطبيق بنود قانون حماية الأقليات الساري بالولاية على مسلميها بصورة توفر لهم أعلى مستوى من مستويات الحماية.

وفى السويد أعلنت الحكومة عام 2002 عن اعتزامها توزيع دليل تعليمي عن الإسلام على طلبة المدارس لمواجهة موجة الخوف من الإسلام، وزاد الضغط من قبل النخب السياسية الحاكمة والمثقفة على ضرورة أن يسود مبدأ حوار الحضارات، وتحديداً بين الإسلام والغرب، والتأكيد على ما توفره القوانين السويدية من حرية للمسلمين في أداء شعائرهم وتأكيد هويتهم، وتوفير حماية كاملة لهم، وتقديم كل الدعم والتسهيلات بما في ذلك المادية حتى يؤدي المسلمون مناسكهم وشعائرهم، وعدم سماحها لأي سويدي أو غيره بالمساس بحرمة الإسلام، ومنح ملايين الكرونات للمساجد والجمعيات الإسلامية سنوياً (نصف مليون دولار)، وتسهيل حقها في استدعاء أئمة من بلدان إسلامية، في إطار ما يعرف بمجتمع متعدد الثقافات والمعتقدات(24).

هذه أمثلة على وجود مؤشرات إيجابية من طرف بعض دول الاتحاد الأوروبي على حل مشكلات اندماج مواطنيها من المسلمين في مجتمعاتهم اندماجاً إيجابياً يحترم خصوصيتهم الثقافية والدينية. ويمكن الوقوف على وجهة نظر الاتحاد تجاه مسألة الاندماج من خلال دعوته إلى وضع برامج وخطط عمل محددة للتعامل مع قضايا الهجرة إلى أوروبا واندماج الأجانب فيها، في سياق حاجة الاتحاد إلى المزيد من المهاجرين.

لقد قررت المفوضية الأوروبية هذا العام تخصيص 825 مليون يورو لدعم مشاريع الاندماج في الاتحاد الأوروبي على مدى خمسة أعوام. وتمهيداً لذلك عقد الوزراء المسؤولون عن الاندماج في الاتحاد، إضافة إلى وزراء الدول المرشحة للانضمام إليه، وهي كروآتيا ومقدونيا وتركيا، اجتماعاً خاصاً قبل عدة أشهر في مدينة بوتسدام الألمانية، بحثوا فيه آفاق التعاون بين دول الاتحاد حول كيفية وضع الحلول والآليات المناسبة للتعاطي مع قضايا الاندماج وإشكالاته بطريقة فاعلة. ومن أبرز ما طُرح في هذا الاجتماع، حسب وزير الداخلية الألماني فولفجانج شويبله، أن قضية اندماج ملايين المهاجرين الذين يعيشون في أوروبا مسألة لها أولوية قصوى، وأحد أهم التحديات أمام الاتحاد الأوروبي. ويتوقف نجاح عملية الاندماج على السياسة الداخلية للدولة بشكل كبير، حيث ثمة عدد من الدول التي تعطي اهتماماً خاصاً للاندماج، مثل أسبانيا، إلا أن التعاون على المستوى الأوروبي في غاية الأهمية، لأن الكثير من المشكلات تتشابه، ومن الخطأ إضفاء الطابع المركزي على كل شيء.

ومن بين النماذج الإيجابية لعملية الاندماج في الاتحاد الأوروبي، والتي يمكن أن تكون مثلاً يحتذى في الدول الأخرى، حسب رأي فراتيني، النموذج الألماني الذي عرضه في الاجتماع، مشيراً إلى مبادرة ألمانيا بعقد المؤتمر الإسلامي الأول في برلين، خلال شهر سبتمبر/ أيلول 2006، لدعم آليات اندماج المسلمين في المجتمع الألماني(25).

ويشار إلى أن هذا المؤتمر قد ناقش عدة قضايا مهمة تتعلق بحياة المسلمين في ألمانيا، وشكّل بداية مسيرة ثلاث سنوات من النقاش بين المسلمين والدولة الألمانية، من أجل التوصل إلى اتفاق بين الجانبين فيما يخص القضايا الاجتماعية والقانونية المختلفة. وقد حذّر وزير الداخلية الاتحادي المجتمع الألماني من وضع المسلمين بأكملهم في سلة واحدة واتهامهم بالإرهاب بسبب حالات فردية لمسلمين متطرفين. وأكد على أهمية اندماج المسلمين في المجتمع الألماني لأنهم جزء من المجتمع الألماني ومن تاريخه وحاضره. وطالب الجمعيات الإسلامية المختلفة بتنظيم أنفسها ليصبح لها متحدث واحد يمثلها أمام الحكومة، مشترطاً عليها، إذا أرادت معاملةً مساويةً لمعاملة الدولة مع الكنائس، أن تحقق شروطاً تنظيمية محددة(26).

وإذا ما قارنا بين وجهتي نظر المسلمين وحكومات الاتحاد الأوروبي حول الاندماج، اللتين عرضنا أبرز ملامحهما، نجد أن نقاط التلاقي بينهما أكثر من نقاط التباعد، فكلتاهما تؤكد على مبادئ أساسية هي: الالتزام بالقوانين الخاصة بواجبات المواطنة وحقوقها، والأسس والقيم الرئيسة المتبعة في أوروبا مثل حقوق الإنسان، والديمقراطية، واللوائح الموضوعة من قبل الجهات الرسمية، والمشاركة الإيجابية والفعالة في مؤسسات المجتمع المدني، والأنشطة البيئية والاجتماعية في الحي والمدينة وعلى مستوى الدولة، وبناء العمل المؤسسي، والبعد عن التمحور حول العرقية والمذهبية والطائفية، واعتبار المسلمين جزءاً أساسياً من المجتمعات الأوروبية، ومن تاريخها وحاضرها ومستقبلها.

 

 

 

 

 

المراجع:

(1)- راشد الغنوشي، "مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا"، موقع الراية الالكتروني: www.rayah.info.

(2)- التقرير الاستراتيجي العربي: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية 2004- 2005. www.ahram.org.eg

(3)- الدكتور أسامة القفاش،"الإسلام والمسلمون في أوروبا بعد 11 سبتمبر"، الموقع الالكتروني: www.elnafeas.net، وكذلك "الأقليات المسلمة في الدول الأوروبية أمل وألم 2"موقع مفكرة الإسلام الالكتروني: www.islammemo.cc.

(4)- تقرير مركز الأهرام، المرجع السابق.

(5)- الدكتور أسامة القفاش، المرجع السابق.

(6)- عدنان برجي، "مستقبل المسلمين في أوروبا"، موقع مجلة النبأ الالكتروني: www.annabaa.org، العدد 70 أيار 2004.

(7)- موقع مفكرة الإسلام الالكتروني: www.islammemo.cc .

(8)- د.علاء الحمارنة، "تقرير اتحاد هلسنكي العالمي"، موقع قنطرة الالكتروني: www. qantara.de .

 

(9)- موقع الفرقان الالكتروني: www.al-forqan.net.

(10)- بسيوني الوكيل، "تزايد الاضطهاد ضد مسلمي بريطانيا"موقع الاسلام اليوم الالكتروني: www.islmtoday.net.

(11)- تقرير مركز الأهرام، المرجع السابق.

(12)- د. محمد سعد الكتاتني "الإسلام والغرب.. نقاط الاتفاق والاختلاف"، موقع المركز العالمي للوسطية الالكتروني: www.wasatiaonline.net.

(13)- إدوارد سعيد، تغطية الإسلام/ ترجمة. محمد عناني، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع 2005

(14)- ضياء بخيت، "التحريض الغربي ضد الإسلام (3)"الموقع الالكتروني: www.egypty.com. وكذلك جريدة الزمان "التشدد يحفز المتطرفين علي الكراهية والاعتدال يكرس الحوار"، لندن 2007/09/28.

(15)- راشد الغنوشي، المرجع السابق.

(16)- "مسلمو أوروبا وقضية الاندماج والتأقلم"، الموقع الالكتروني: www.alrahma-moschee.de.

(17)- زكي الميلاد "المسلمون في المجتمعات غير الإسلامية وجدلية الهوية والانتماء"، جريدة عكاظ السعودية، العدد 1998، الأربعاء 06 ديسمبر 2006.

(18)- "المسلمون في أوروبا: المواطنة والاندماج"موقع نبأ الالكتروني: www islamicnews.net.

(19)- "الاتحاد الأوروبي يدعو لوضع آليات محددة المعالم للتعامل مع الاندماج"، الموقع الالكتروني: www.dw-world.de.

(20)- مشاري الذايدي، "الإسلام الأوروبي والإسلام الهندي "! لندن جريدة الشرق الأوسط، 22 أغسطس/ آب 2006.

(21)- الدكتور أسامة القفاش، المرجع السابق.

(22)- "مسلمو أوروبا وقضية الاندماج والتأقلم"، المرجع السابق.

(23)- "الغرب يستخدم الاندماج سلاحاً ضد المسلمين، الشيخ حسين محمد حلاوة، إمام مسجد المركز الإسلامي في ايرلندا"، الموقع الالكتروني لمجلة المجتمع الكويتية www.almujtamaa-mag.com.

(24)- تقرير مركز الأهرام، المرجع السابق.

(25)- "الاتحاد الأوروبي يدعو لوضع آليات محددة لمواجهة مشكلات الاندماج"، المرجع السابق.

(26)- "تحديات كبيرة أمام المؤتمر الإسلامي الأول في برلين"، الموقع الالكتروني: www.dw-world.de.

 

المصدر: موقع مداد القلم

الحوار السعودي - الإيراني: اقتراب تكتيكي

$
0
0

تحوّل الصراع السعودي - الإيراني في العقد الأخير إلى الصراع الإقليمي الرئيس في الشرق الأوسط، منه تتفرع الصراعات المحلية وفيه تصبّ نتائجها السياسية والإقليمية. ينطبق ذلك على لبنان وسوريا والعراق واليمن، وكلها صراعات ذات جذر محلي وفرع إقليمي لا يمكن تجاهله. فصل كاتب السطور في هذه النقطة قبل أربعة شهور ("السفير" - إيران والسعودية: نحو تهدئة ضرورية 28-4-2014)، مسلطاً الضوء على أهمية العامل الإقليمي في ضبط الصراعات المحلية. الآن تهتم هذه السطور بتحليل دوافع الاقتراب السعودي - الإيراني الحالي وخلفياته للطرفين، وبتوقعات لساحاته محل اهتمام الطرفين في هذه المرحلة. في هذا السياق ينبغي ملاحظة أن الحوار ليس وسيلة سحرية لحل المشكلات، بل وسيلة غير صفرية لتقنينها والتفاهم السياسي عليها. بمعنى أن التفاهمات المنبثقة عن الحوار لا تنصّب فائزاً بكل شيء وخاسراً لكل شيء على غرار المباريات الصفرية، بل تترجم النفوذ إلى تفاهمات تعكس موازين القوى الإقليمية الحالية بدقة، لا أكثر ولا أقل. تأسيساً على ذلك، لا يعني الحوار السعودي - الإيراني والتفاهمات الناتجة منه حلاً مستداماً؛ بل تكتيكياً وفق حسابات الطرفين. مثلما لا يعني هذا الحوار اقتساماً متساوياً للنفوذ بين الرياض وطهران، أو حتى الخروج بصيغة "لا غالب ولا مغلوب"اللبنانية الشهيرة التي لم يكن لها يوماً محل من الإعراب أو التحقق الفعلي على الأرض في أية قضية إقليمية أو دولية، بل إدارة الصراع بوسائل أكثر ليونة بحيث يخرج الطرفان ببعض المكاسب وإن كانت غير متساوية بطبيعة الحال وبمنطق الصراع.

عامل التوقيت في الحوار السعودي - الإيراني

تأخر الحوار السعودي - الإيراني لمدة سنة كاملة بعد انتخاب حسن روحاني، وإعلانه المباشر بعد فوزه بالرئاسة عن رغبته في الحوار مع السعودية لتخفيف التوتر الإقليمي. ومرد التأخر كان رغبة الطرفين في اختيار توقيت الحوار، لأن ما تعكسه موازين القوى في وقت الحوار، سينعكس حكماً على التفاهمات المنبثقة عنه. لذلك توخى كل من الطرفين أن يجري الحوار في توقيت يراه مناسباً لمصالحه، أو على الأقل في توقيت غير موات نسبياً لمصلحة الطرف الآخر. لم تكن السعودية مرتاحة لتوقيت عقد الحوار بالتوازي مع الزخم الدولي المترافق مع انتخاب روحاني العام الماضي، ما كان سيعطيه شرعية إقليمية ارتأت الرياض ألا تسلمها لطهران مبكراً. ثم اهتز الوضع السعودي مقابل إيران بسبب المفاوضات النووية بين إيران والدول الست الكبرى (في العمق بين إيران وأميركا)، بسبب أن التقارب بين إيران والضامن الرئيس للأمن القومي السعودي يقوّض مواقع المملكة الإقليمية والتفاوضية. ومع كل لقاء بين إيران ومفاوضيها النوويين كان ترمومتر الحذر السعودي يرتفع خشية وصول المفاوضات إلى اتفاق نووي بين إيران والدول الست الكبرى، وما سيتمخض عنه حكماً من اتفاق إقليمي إيراني - أميركي على حساب السعودية ونفوذها الإقليمي. لذلك فقد استمرت الرياض في تقديرها أن توقيت الحوار مع طهران غير مناسب لها، لأن كل طرف سيحاول منطقياً تجيير علاقاته مع واشنطن أثناء الحوار لانتزاع تنازلات من الطرف الآخر.
ثم تغير الموقف السعودي في شهر أيار الماضي، حيث دعا وزير الخارجية السعودي نظيره الإيراني جواد ظريف لزيارة المملكة لما بدا أن هناك مشاكل تعترض المفاوضات النووية بين إيران والغرب، ما كان سيؤمن وضعية تفاوضية أفضل للسعودية. لذلك السبب فقد تملص ظريف من الدعوة السعودية متعللاً بتضارب المواعيد، كما أن فوز حلفاء إيران بالانتخابات البرلمانية في العراق كان في حاجة إلى تظهيره بحكومة جديدة أولاً، ومن ثم المفاوضة مع الرياض من موقع أقوى. هكذا تبادل الطرفان التمنع عن تلبية دعوة الآخر، بسبب أهمية عامل التوقيت. ولكن الموقف تغير جذرياً مع "الانتصارات العسكرية"لتنظيم "داعش"، بسبب التهديد المشترك الذي يمثله لكل من طهران والرياض.

"داعش"وحسابات طهران

زار نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان السعودية الأسبوع الماضي، والتقى وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل لمناقشة الملفات الإقليمية، في زيارة هي الأولى من نوعها لمسؤول إيراني منذ العام الماضي. ومع التراجع المتتالي للجيش العراقي وسيطرة "داعش"على مناطق واسعة في غرب العراق وشماله، كانت الخسائر الإيرانية واضحة لكاتب السطور وكل ذي عينين ("السفير" - تطورات العراق تقطع الطريق البري بين طهران وبيروت 30-6-2014). صحيح أن قوة "داعش"العسكرية محل شك، وأن "انتصاراتها"السريعة صيف هذا العام ستظل محاطة بعلامات الاستفهام، لكن حل أزمة "داعش"يتطلب تفكيكاً سياسياً لحاضنتها العشائرية قبل ضربها عسكرياً. فمن الواضح أن "داعش"تقتات في صعودها المريب على مظلومية العشائر والعرب السنة في العراق حيال السلطة المركزية في بغداد ـ مهما اختلفنا في تقدير هذه المظلومية - وبالتالي يكمن ألف باء الحل السياسي في إعادة تأهيل المكون السني في بنية السلطة المركزية في بغداد (وليس تغيير جوهر السلطة في بغداد) لتعرية التنظيم التكفيري من حاضنته العشائرية والمناطقية. ولإقناع العشائر السنية بهذا الحل، تحتاج إيران إلى السعودية وعلاقاتها الواسعة مع هذه العشائر. ومثلت تسمية حيدر العبادي بدلا من نوري المالكي رئيساً للوزراء في العراق، ترضية مهمة للسعودية قبل أي طرف آخر، على الرغم من أن التوازن الأعمق في سلطة بغداد المركزية ما زال مائلاً صوب طهران وتحالفاتها الإقليمية.

"داعش"وحسابات الرياض

على الرغم من بعض التحليلات التي ترجع الأصول الفكرية لتنظيم "داعش"إلى السعودية بسبب التشابه في طريقة القصاص بقطع الرؤوس، إلا أن "داعش"تهدد الحدود العراقية - السعودية وتقوّض في الواقع المشروعية السعودية في المنطقة، سواء ضمن التيار السلفي أو الحالتين السنية والإسلامية العامة. لذلك ظهرت مصلحة مشتركة جديدة بين الرياض وطهران، مفادها مواجهة "داعش"التي تهدد الطرفين، مع التسليم بأن الأخطار التي تسببها لإيران أكبر من تلك التي تسببها للسعودية. كانت التطورات في اليمن محفزة للرياض أكثر كي تذهب إلى الحوار مع طهران، حيث استثمر حلفاء طهران الحوثيون الفراغ السلطوي المنبثق عن إطاحة الرئيس السابق علي عبد الله صالح واحتراب الحلفاء التقليديين للسعودية في ما بينهم، فزادوا من حضورهم العسكري والسياسي على المستوى اليمني العام، وليس على مستوى مناطقهم الجغرافية في الشمال فقط. ومع ما هو ظاهر من رغبة الحوثيين في استلهام تجربة حزب الله في الدخول إلى السلطة في لبنان، قرعت أجراس الإنذار بوضوح في الرياض.

لبننة الصراعين العراقي واليمني

لا يحتاج المرء للجلوس الى طاولة المفاوضات بين الطرفين السعودي والإيراني، أو لسماع تسجيلات صوتية للحوارات أو التفرس عن كثب في وجوه المفاوضين وتعبيراتها، ليخرج مع ذلك باستنتاجات واحتمالات متوقعة، على هدي تحليل المتغيرات الإقليمية ودوافع الأطراف المتفاوضة ومغزى التوقيت. تحتاج طهران إلى السعودية لمحاربة "داعش"سياسياً في العراق عبر تفعيل التناقض بين التنظيم التكفيري وحاضنته العشائرية السنية، التي تملك معها السعودية علاقات متشابكة، لأن الضربات العسكرية وحدها لن تكفي لهزيمة "داعش". ومعنى ذلك أن المقابل الذي ستدفعه طهران لقاء ذلك سيكون متمثلاً في إفساح مكان أكبر للعراقيين السنة على طاولة السلطة المركزية في العراق، وما إزاحة نوري المالكي إلا عربون لذلك قبل بدء الحوار السعودي - الإيراني. بالمقابل تحتاج الرياض إلى طهران لمنع انهيارات أمنية أكثر في خاصرتها الجنوبية اليمن، التي تشكل صداعاً مزمناً للسعودية واستعصت على الكسر عسكرياً كما ظهر من الجولات العسكرية السابقة معها خلال الأعوام الماضية. ومعنى ذلك أن المقابل الذي ستدفعه الرياض سيكون متمثلاً في "لبننة"السلطة في صنعاء أيضاً، بحيث يدخل الحوثيون إليها لأول مرة إلى جوار تحالفات السعودية الحاكمة هناك منذ عقود. ولما كانت مواقف الطرفين عصية على التجسير تفاوضياً في سوريا، سيقتصر التفاهم السعودي - الإيراني التكتيكي على العراق واليمن في هذه المرحلة إلى حين تغير التوازن الصراعي في سوريا لمصلحة أي من الطرفين المتحاربين، ساعتها يكون لكل حادث حديث آخر. ولأن ما يجري في سوريا له تأثير مباشر على لبنان لاعتبارات الجغرافيا والتاريخ والطوائف، فلم يتطرق الحوار السعودي - الإيراني لهذا السبب السوري إلى لبنان؛ الذي يبدو أن نموذجه في اقتسام السلطة سيتعمم على ساحات الصراع الإقليمي في العراق واليمن، برعاية مشتركة سعودية - إيرانية!

حكايات هائمة

$
0
0

«هذه حكايات هائمة في الذاكرة، بعضها ربما تكون له أصول في الواقع، إلا أنه يصعب تحديدها، وبعضها تَوهُّم محض، المصادر المذكورة لا أصول لها. ربما فُقدت إلي الأبد، وربما لا توجد إلا في مخيلتي».

رحلة

بعد سفر طويل استغرق شهوراً، اجتاز خلاله طالب العلم اليافع بوادي وهضاباً وممرات صخرية وأنهاراً وعدة بحور، مكث في نُزل شتي، ودور لإقامة الغرباء، وحل ضيفاً علي من لا يعرفهم، بعد أن يعرف القوم وجهته يُفسحون له، يضيفون إليه، يبدون التعاطف مع الذي بدأ من أقصي المغرب قاصداً تلك الجزيرة النائية في أقصي المشرق، لم يخترها الحكيم عبثاً للإقامة النهائية. يؤكد كل من له إلمام بالفلك أن أول شروق للشمس يكون عندها، صخورها أول ما تلامسه الأشعة الوافدة والضوء المسافر عبر ثمانية دقائق بمقياس يُنسب إلي سرعته. ثم يبدأ الانتقال من موضع إلي موضع، ومن بحر إلي بحيرة، من سهل إلي جبل، من برد إلي حر، إلي اعتدال. لم يتوقف عند المشاق المتوقعة، وكلما ضاق به به الحال، استعاد اللقاء المتوقع فيبدأ من داخله استنفار فيستأنف، إلي أن حلت اللحظة التي رسا فيها عند شاطئ تلك الجزيرة التي تتدرج أرضها في الارتفاع المغطي بأشجار كثيفة. ما تعجب له أن كل من التقاه بدا وكأنه متوقع لوصوله، ولم يكن استفساره عن مكان إقامة الحكيم المعمر الذي ذاع صيته يُقابَل إلا بصادق المعونة، والنطق بما يدل لا أكثر.
أخيراً.. مَثُل بين يدي الرجل الذي بدا نحيلاً حتي ليكاد يمكنه الرؤية من خلاله، بدا المكان بسيطاً، يسيراً، لا امتداد له. كوخ أو بيت صغير من جذوع النخيل المنتشر في الجزيرة. غير أن ما لفت نظره أربعة كتب إلي يمين الرجل الذي ذاع صيت علمه وحكمته حتي قيل إنه ينطق بالخلاصة.
بقدر انبهاره بمثوله أخيراً بين يديه، بقدر ما دُهش لقلة ما رآه من مجلدات وتقشف في المكان. فقط أربعة كتب؟ أين الخزانة العامرة التي تخيلها؟ أين الصومعة المدججة بالمخطوط والمطبوع؟. لم يستطع إلا أن ينطق بما لحظه، مع أنه ليس من اللائق إبداء الملاحظة في الحضرة، ولكنه هنا، بعد هذا التنقل الطويل، لا يستطيع إلا النطق بما يجول عنده.
> «لا أري إلا أربعة مجلدات، أين الكتب التي تستمد منها حكمتك وعلمك..؟»
بدا الحكيم هيناً، حنوناً، كثير العطف، عندما قال:
«لماذا تسأل، ولا أري معك إلا ستة كتب أيضا؟».
قال المسافر الذي وصل أخيراً:
«لكنني في رحلة..»
جاوبه الحكيم بهدوء وديع، باسم
***

وليف

مازال القوم في البلد يذكرون الجدة عائشة، ترملت في العشرين، أنجبت ولداً وبنتاً، محمد وبخيتة، أوقفت حياتها عليهما، رفضت رجالاً تقدموا إليها، كانت ماتزال صبية جميلة، فارهة القوام، من يراها علي البعد يعرفها، رغم الملابس السوداء التي لا تبرز أي تفاصيل، الشقة تشبه خيمة تحيط الجسد تخفي ملامحه، غير أن مشيتها مما لا يتشابه مع أخري، فريدة الخطو، سعت إلي الأسواق لاستئناف تجارة رجلها الغارب، باعت واشترت، تناقشت وتجادلت، ولم يستطع أحد أن ينال منها ولا من سيرتها، غير أن سيرتها ذاعت لتآلفها مع الهوام، حدث أن لمحت شقيقة المرحوم ثعباناً يزحف وراء الفرن متجهاً إلي الغرفة الشتوية، سارعت تبحث عن عصا، صارخة، مولولة، لم تكن تدري ما يجب فعله، أمسك بها خوف، في اللحظة التي همت، رفعت العصا ارتفع صوت الجدة محذرة، أمسكت بها، أشارت إلي الثعبان الذي توقف ليرتفع نصفه الأمامي بعد استشعاره الخطر، قالت إن قتله خطأ لأنه سيخلق عداوة لن تنتهي، مهما أخفينا أثره سيجيء وليفه ـ ذكر أو أنثي  وسيحاول إلحاق الضرر، قالت بحزم: «أوعي.. أوعي».
علي مهل اقتربت، انحنت، بدأت تتمتم، صوتها خافت، لا يمكن تمييز ما تقول: بعد لحظات بدأ الوضع يتغير، أصبح الثعبان ملاصقاً للأرض، عاد إلي زحفه الهادئ متبعاً أصبع الجدة التي اتجهت إلي الطابق الثاني حيث صومعة القمح وأخري يحفظ فيها الدوم، وثالثة للبلح، ورابعة أقل حجماً خالية، بعد أيام ثلاثة، تقسم شقيقة المرحوم أن ثعبانين متماثلين طولاً ولوناً، يتبعهما ثلاثة أصغر، ظهروا عند قدمي الجدة، تحركوا في أماكنهم، بالضبط في اتجاهها، تقدم أحد الاثنين، لمسها بلسانه المشقوق، بالضبط عند أصبع قدمها اليمني، لم تتراجع مبتعدة إنما مالت حتي كادت تلامس رأسه وقالت أشياء..
***

حديقة السماء

أمر الخليفة المستوثق بالله وزيره المعضد أن ينشئ له حديقة في السماء، أمهله أربعين يوماً فإذا لم ينجز ليتأهب لعقاب لم يسمع ولم يقرأ مثيلاً له، انصرف المعضد مضطرباً، راح وجاء وقصد الجهات الأصلية والفرعية في وقت واحد، عندما بدأ يتوازن نسبياً بحيث يعرف ما وراءه وأمامه، استدعي المعلمين المتخصصين الملمين المقيمين في الديار من جميع الأجناس، غير أنهم أبدوا عجزاً وأكدوا استحالة، لم يسمعوا شيئاً كهذا مع أن أحدهم وكان فارسي المنشأ، قاهري الإقامة، مدّ حديقة في البحر المالح، غاطسة، عُدت من العجائب، في اليوم التاسع والثلاثين، ركب بغلته وحيداً، صعد إلي المقطم، قصد ديراً صغيراً مطلاً علي الهِو، سمع عن راهب مسن اختلف في أمره، غير أن الموثوق بهم أكدوا ونصحوا، عند لقائه بدا جلداً علي عظم، حدق طويلاً بعد إصغائه إلي الخلاصة، طلب منه أن يقف عند الحافة، أن يتطلع قبل الغروب، أن يحدق طويلاً، يدقق، سيراها أينما اتجه بصره إلي الأعالي، حار أمره، وقف عند الحافة حتي بدأ تعدد الألوان قبل المغيب ما بين حمرة شفق ونتف غمام أبيض ومساحات زرقاء وشمس تميل إلي صفرة، لم يشرب ولم يبتلع لقمة زاد منذ مجيئه، لكن  في لحظة معينة اتسعت حدقتاه غير مصدق لم يخب سعيه. لم يفشل دأبه نزل حاثاً بغلته حتي كادت تتعثر مرتين، قبل انتصاف الليل الذي يبدأ فيه اليوم الأربعين مثل أمام الخليفة المستوثق، باس الأرض وعندما اعتدل قال إن الحديقة جاهزة في السماء لاستقباله والتجول فيها بالنظر للتملي من جميع فرائدها وغرائبها، قال إن للحديقة شرطاً واحداً، إذ لا تفتح أبوابها إلا من العصر إلي المغرب، ويكون البدء في زيارتها من الخلاء، فلا يليق بالخلاء إلا الخلاء، وقف الخليفة ما بعد عصر اليوم التالي، تطلع وبعد لحيظات التفت إلي وزيره غاضباً، هل يسخر منه، غير أن المٌعضد طلب التأني وطول الإصغاء بالبصر وراح يصف ما يبدو شيئاً فشيئاً من زهور الضوء وأشجار الظلال وفروع الصدي، في لحظة بعينها.
بدا المستوثق منفرج الأسارير، طيب الملامح. ركع المعضد في مواجهة الشمس الغاربة مؤكداً، هذه الحديقة لك وحدك يا مولاي، لن يراها غيرك، ولن يتجول بين رياضها سواك. ولن تُذكر منسوبة إلا إليك..
***

الأسم الأعظم

لم يشتهر أمره لأنه يعرف علوم القوم فحسب، إنما لأمرين آخرين ألم بهما كل قاص ودان، الأول أنه الوحيد الذي مازال حياً يسعي يمكنه قراءة قلم الطير، أي تلك الكلمات الغامضة، المستعصية، المستغلقة علي الأفهام والأذهان، أطلق عليها العرب الذين نزلوا صعيد مصر ذلك الاسم لتكرار ظهور الطيور بمختلف أنواعها بين علامات أخري فيها مفردات من الحياة اليومية المستمرة، مثل الثعبان والعين البشرية واليد والعصا والنحلة.


كيف أتقن ذو النون قلم الطير؟

هنا تتعدد الروايات، فمنها القائل بلقاء جري له أثناء عزلته في البرية مع أحد الكهان القدامي الذين اعتزلوا قرب عين ماء نحيلة في الصحراء التالية لأخميم جهة الشرق، حديث توجد مسارب وخيران وأودية مفضية إلي البحر الذي تشرق الشمس من ضفته الأخري، في الديار كما يقول العارفون بحران، الأول شرقي تطلع منه الشمس، والثاني غربي ترحل فيه عند تمام اليوم، يبزغ القرص من الماء وينزل في الماء، مثل كل شيء يدب فيه نفس ويكون منه سعي، أصله الماء.

لولا الماء ما عاش هؤلاء الكهان القدامي الذين توارثوا مكانهم هذا أباً عن جد ومعه العلم القديم، ليس كله، إنما ما يمكن به فهم المدونات، هكذا بقوا جيلاً بعد جيل في الصحراء الغميقة، لا يعرف أحد ولا يلم مخلوق بكيفية تناسلهم واستمرارهم إلي أن انتهي الأمر إليه، ربما يوجد غيره في مكان ما قريب من النهر أو في البرية، لكنه الوحيد المعروف في وقته.

أياً كانت الروايات المتناقلة فمعرفته بهذا القلم الغامض، المحير، الذي غابت مفاتيحه، وتوارت السبل المؤدية إلي فهمه وإتقانه يقين لا شك فيه حتي أن البعض قصده من أماكن شتي للاطلاع علي بعض ما يعرف لكنه لم يفض إلا بقدر وبعد تأكيدات يقينية لا حصر لها، يمكن الإحاطة ببعضها، مما اشتهر عنه وبلغ الأقاصي معرفته بالأسماء، هؤلاء الكهان الذين اتصل بهم وأخذ عنهم أحفاد من سموا الأشياء بأسمائها، لنا أن نتخيل هذا الوجود بلا أسماء، كعالم بلا ألوان، يستوي فيه الشيء بالشيء فلا يكون وجود، ولا تكون صيرورة، كل الأسماء معلنة، متاحة، متداولة، يختلف نطقها من قوم إلي قوم، لكن الجوهر واحد، إنه المميز، المحدد، كل الأسماء معروفة عدا واحد فقط، إنه الاسم الأعظم، اسم الله الأعظم، أسماؤه الشائعة معروفة، جلية، تسعة وتسعون، لكن الاسم الأعظم خفي، متوار، لا يعرفه إلا إنسان واحد في كل زمان بعينه، كثيرة تلك الإشارات التي تجعل البعض علي يقين من إحاطة ذو النون به، عديد أولئك الذين قصدوه من مسافات قصية وقريبة، ينتظرون فراغه من عمله الذي يتقنه ويقتات منه، نسج الحرير طبقاً للأصول العتيقة، هذا حرير ذاع صيته وبلغ الضفاف الأخري من البحار القصية والدانية، كان يتعهده بدءاً من كمونه في أوراق شجر التوت الأبيض والتي يطعمها للديدان المعنية، ثم يتابع الأطوار حتي الحصول علي خيوط الحرير الذي لا مثيل له إلا في أقصي الدنيا من ناحية الشرق، لكن يظل لحرير أخميم خصوصيته وفرادته.

يحفظ ذو النون الأشكال المتوارثة، الخوض في معانيها يقتضي التفصيل الدقيق، والإحاطة بأمور ضاع معظمها وتلاشي، لكن ثمة معان كامنة، فتلك المربعات المتداخلة مع المستطيلات، والمثلثات، المشمولة بالدوائر لها معان، كذلك الألوان، لها دلالات، ومنها تمييز.

كان القوم يجيئون إلي أخميم قاصدين ذو النون لمسائل، لكن بمجرد وقوع أبصارهم عليه أثناء عمله، يداه تمسكان بطرفي الخيوط وقدميه تضغطان دواسات النول المتصلة بطبقات السدي، تتعلق أبصارهم بحركته المنتظمة، الرتيبة، الدقيقة، شيئاً فشيئاً ينتبهون إلي وضعيته، جلسته، انحناءته، نظره المسدد إلي نقطة يخيل للرائين في البداية أنها إلي الخيوط، لكنهم يكتشفون بعد لحيظات أنها داخلة إلي حيث لا يمكن التعيين، يدركهم صمت ويأخذهم ورع ممتزج برهبة، تمضي الساعة في إثر الساعة وهم شاخصون، هو لا يكل ولا يتوقف، بل إنه يبدو لا نهائياً في حركته.

لم يكن أحد أياً كان يجرؤ علي النطق في حضرة انهماكه، دفعه للخيط من حد إلي حد، تحريكه مشط النول ليكبس الخيوط، لتتحول الأنفاس إلي قماش حريري تضاهي رهافته الأفكار العابرة والأحلام التي لا تعمر إلا وقت وقوعها، كثيراً ما ردد: أصداء الأنفاس في المسافات الفاصلة بين السدي واللحمة، سواء كان النسيج من قطن أو حرير أو صوف.

صلته واستغراقه بنسج الخيط بعد الخيط ذاعت وشاعت، وصار له في ذلك مسائل، شأن مسائله في الأبواب الأخري، عندما جاء الأمير قماري ساعياً إليه سيراً علي الأقدام من منطلقه في حاضرة البلاد ومركزها، لزم بابه أربعين يوماً إذ كان مشغولاً بنسج قطعة من حرير وزخرفتها برسوم رآها في المنام، أيقظته ألوانها وتداخل خطوطها، رغم نوء الوسن، لم يفعل كما جري منه قبل ذلك، خاصة أن الليلة شتوية، باردة، والدفء مغر بمواصلة النوم، يحدث هذا كثيراً، أن يستيقظ أثناء الحلم أو بعد الفراغ منه بتأثير منه وبه، يبدو كل شيء واضحاً، ناصعاً، فيظن أن ذلك لن يبيد أبداً، في الصباح يدون ما رأي، يغمض عينيه، لكنه في اللحيظات الأولي من اليقظة يجتهد لتذكر ما مرّ به، ولكن عبثاً، هذا حال عام يعرفه الكثيرون، لكن الأمر اختلف في تلك الليلة، رأي الزخارف التي طال انتظاره لرؤيتها، لرصدها، لتدوين تفاصيلها، لم يكن في حاجة إلي رسم ما رأي، أو تدوين الألوان، الخطوط المتداخلة، المكونة لما رأي، كذلك.

درجات الألوان، أدرك من منامه أن شرط تجسدها في تدفقها من مخيلته إلي الخيوط مباشرة، إلي النسيج، مكونات الصباغة لديه، عند الحاجة يبدأ، المقادير كأن مجهولاً أعدها له، ما عليه إلا التذويب والتقليب، ثم غمر الخيوط وتخفيفها، هكذا ظهرت درجات لم يعرفها من قبل، لم تدون علي جدران ولا في منمنمات أو مداخل مخطوطات، أحمر غير مطروق، وأصفر مجهول، وأزرق وافد، أما الأخضر فلا نهائي، أغرب ما عاينه أن الأبيض يوحي بالأسود، والأسود يُبدي الأبيض.
لم يكن بحاجة إلي أن يفهم، أو يُدرك، فالهاتف الخفي تكفل وأوفي، شرط التمام ألا يتوقف قط، أن يشرع ولا يكف، هكذا أقدم، بدأ، تعاقب عليه الشروق المهيب والمغيب الغامض، الغسق، والليل وما وسق، لكنه لم يهن ولم يكف عن النسيج بلا كلل، بلا ملل، بلا وهن رغم أنه لم يتناول إلا رشفات ماء شحيحة من وعاء لم يملؤه، إنما كان يحتفظ بمستوي معين من الماء لا يزيد ولا ينقص.
قال القوم للأمير المرشح للولاية بعد أبيه إنه لن يخرج من الخلوة قبل إتمام النقوش، لو فارق النسيج مرة واحدة لن يكتمل، يبدو أنهم ملمون بالحال عبر لحظات منقضية، سوابق مولية، أمضي الأمير قماري أربعين يوماً يجاهد الوسن حتي لا يغفو، لم يشترط أحد عليه شيئاً محدداً، لم ينبهه أحد بضرورة يقظة موازية، لكنه الخجل، هل يغفو  وذو النون لا يتوقف عن النسيج، عن العمل، منذ أن بدأ وظهره محن علي النول، قدماه تحركان الدواسات التي تشد السدي، ترفع الخيوط وتحفضها لتفسح الفراغ الكافي، المحقق لتلقيح الِلحمة.

عندما فرغ ذو النون من النسيج بعد أن صف الخطوط المعاكسة، الحافظة، حتي لا تنسل الخيوط من بعضها، تراجع متأملاً نتاج ما فعله، احترم جميع الشاخصين، المحيطين به صمته فلم ينطقوا إلا عندما فارق مكانه من النول، المعقد جزء منه، يتوحد الصانع بالآلة تماماً، عند جلوسه واندماجه، يبدو أنه جزء منها.
إنها اللحظة المناسبة لكي يتقدم منه الأمير قماري، نال الجهاد منه، نحل، لكنه لم يهن، كان قادراً علي النطق بوضوح وسلاسة، قال إنه جاء مشياً مسيرة أحد عشر يوماً، هكذا أخبره شيوخ الوقت، حددوا المدة، إنها عين الفترة التي تستغرقها نقطة الماء في تدفقها المعتاد من أخميم إلي حاضرة البلاد في الشمال.

أصغي إليه ذو النون هادئاً، متقبلاً، مؤمناً، قال الأمير إنه يطلب الخلوة، عندما تطلع ذو النون إلي ملتمس البركة والفرج كان ذلك يعني بالنسبة إليهم الانصراف، ابتعدوا، عندما صار كل منهما إلي الآخر، صرح الأمير بما سعي من أجله، إنه لا يطلب تعلم قلم الطير، ولا إتقان فنون تخليق الألوان وتحديد درجاتها، ولا طرائق النسيج المختلفة، إنه يسعي إلي معرفة الاسم الأعظم، الاسم الأعظم ذاته، إنه مقبل علي تولي المسئولية والإمساك بمقاليد الأمور إلي حد لا يعلمه إلا الله، هكذا شاءت الأقدار، فإذا علم ما لم يعلمه غيره أمكنه السداد ويسر التيسير،

أشار ذو النون إليه بالكف، ربما ليجنبه حرج التبرير والشرح بما لا يتفق مع أبناء الملوك، وربما لرفضه الإطالة بعد فهمه الحال.
«غداً قبل شروق الشمس.. أراك هنا..»
في اللحظة المحددة، قبل بزوغ طرف الدائرة الكونية من الشرق مَثل الأمير قماري بين يديه، قدم إليه طبقاً فوق طبقه.
«ستأخذ هذا، شرط أن تمسكه بيديك طوال الطريق، وأثناء عبورك النهر، هناك في الغرب، عند الدير الأبيض، قف تحت سوره وناد الأب بنيامين، سيخرج إليك، سلمه الطبق المغطي بطبق..»
لم يبد الأمير قماري دهشة، ربما حاشها عن الظهور، لقد طلب ما لم يجرؤ أحد علي النطق به، طلبه ببساطة وتلقائية، لم يشرح ولم يمهد، إذن عليه أن يتقبل كل ما يطلب منه، وأن يؤدي تماماً ما يؤمر به مهما بدت الغرابة أو خرج عن المألوف، فما يسعي إليه أيضاً عين الندرة.
مشي صوب ضفة النيل، خلال تلك المسافة، ما بين بربا أخميم الشهيرة حيث يقيم ذو النون ومرسي المراكب خيل للأمير أن كل من يتطلع إليه يبدي الدهشة وربما السخرية، أهالي الناحية لا يعرفونه، وهو حريص علي ألا يتعرف إليه أحد، مع كل خطوة تنمو داخله حيرة، تتصاعد، ماذا يمكن أن يحويه هذا الطبق؟ ما علاقة الطبق بالاسم الأعظم؟ ولماذا يقصد الأنبا بنيامين القبطي؟ لماذا بدا وكأن الأب بنيامين يعرف بوصوله، بل وبندائه، توقف، تلفت حوله، لم يحذره من كشف الطبق، لو أنه نهاه لما فكر قط، لكن غرابة الطلب تدفعه إلي تلبية فضوله.
عندما أيقن بخلوته، لا أحد يراه توقف، استند إلي جذع نخلة، أمسك زفيره، كشف الطبق لم يصدق ما يراه، هل يسخر منه؟ هل يهزأ به؟ أو أنه قصد تلقينه درساً لتجرؤه، لكنه كان من الممكن أن يلومه بتصرف مغاير لا ينال منه، لم يتم طريقه، إنما انثني، مع كل خطوة يتصاعد غضبه، في نفس المكان، وعلي ذات الهيئة، رأي ذو النون، لم يفارق مكانه، وكأنه يتوقعه، قال غاضباً، حنقاً:
«فأر ميت في طبق أحمله فوقه طبق.. ماذا تعني ولماذا تسخر مني؟»
ظل أبو الفيض متطلعاً عليه. استمر
«هل تريد من الناس تناقل الحكاية.. أهكذا يعامل الحكماء أبناء الملوك؟»
بعد أن أصغي هادئاً، قال:
«يا بني، لم تطق صبراً علي معرفة ما يحويه طبق، فكيف لك أن تصبر علي ما يعنيه الاسم الأعظم؟
***

مصـــــــــــــــارعــــة

عندما علم صاحب وحاكم الأرضين، السفلي والعليا أن ابنه البكر دخل طور الرجولة، سُر وابتهج، وقرر أن يدفع به ليتعلم فنون القتال، بدأ كالعادة بالمصارعة.
نزل إلي الحلبة بصحبته وفي مواجهة كبير المعلمين، بدا جسوراً، فياضاً بالطاقة غير المروضة، العفية، المقبلة، لكنه كان راغباً أن يتعلم لذلك أبدي الطاعة وأصغي، أما المعلم فحرص علي احتواء الاندفاعة الطبيعية وتأطيرها بالحكمة، إن تلقين الابن البكر لسيد الأرضين ليس بالأمر السهل، لكن ما يجعله دانياً، ممكناً القواعد المعمول بها، فمن واجباته ـ وليس من حقه فقط ـ أن يزجر وأن يقوم وأن يُعاقب، إنه ينفذ التلقين الذي تلقاه وأتقنه عندما التحق بالخدمة وارتقي بها وفيها.
قال للأمير إنه سيسلك معه طريقاً جديداً، مؤدياً، سيعلمه ست عشرة حيلة لن يقف أمامه بعدها مقاتل من أي جنس، بإتقانه تلك الست عشرة يتم المرحلة ولا خشية عليه بعد ذلك إنما يُخشي منه.
امتثل الابن تماماً، أبدي طاعة ورغبة وفاضت جرأته في الحلبة، شيئاً فشيئاً انتظم اندفاعه، وتمحورت طاقته حول فنون لم يدخر المعلم جهداً لنقلها إليه، وعندما حانت اللحظة المواتية طلب المعلم اللقاء فاستجاب سيد الأرضين أصغي راضياً، مبتهجاً إلي ما أفضي به كبير المعلمين لفنون المصارعة.
أقيم الحفل الفاصل بين إتمام تعلم المصارعة، وقبل بدء مرحلة تالية يتقن خلالها التدرب علي الأسلحة المختلفة، في هذا الحفل تمثل رموز المملكة كلها، كذلك ممثلو شعوب البر والبحر، ويُهدي إلي كبير المعلمين هبة ثمينة يسلمها إليه الأمير بحضرة والده، كبداية وإشارة إلي بدء ممارسة المهام كلها.

صال وجال في الحلبة التي انتظمت حولها ترتيبات الحفل من مظلات ومقاعد، وستور، ستة عشر مصارعاً من أجناس شتي، لكل منهم أسلوبه وميدانه وحيله، صرعهم واحداً بعد الآخر، بدا متقناً للأمر كله، وعندما انتهي بدا كأنه يستعد لبداية أو كأنه عائد من منتجع التأمل، اتجه راسخ الخطي إلي حيث يجلس والده مرتدياً الرموز كلها والشارات الدالة، طبقاً للترتيب، يجب علي الابن أن ينحني عند وصوله إلي الأب، ثم يتجه لينحني أمام معلمه وعندئذ تصدح الموسيقي، لكن الأمير فاجأ القوم كلهم بما فيهم سيد الأرضين نفسه، إذ أنه اتجه إلي المعلم مفرود القامة، وعندما وصل إليه لم ينحن، إنما أبدي علامة الرغبة في المنازلة، تطلع إليه المعلم حائراً، لم يصله نبأ من أخبار أسلافه عن لحظة تشبه تلك، واقعة غير مسبوقة، غير مدونة في السجلات، لذلك تطلع إلي سيد الأرضين راجياً أن يلقي منه الجواب، لكن لم يلح له شيء، لم تبد بادرة، لذلك لم يكن بوسعه إلا أن يلبي، فمن يقف أمامه الآن ليس التلميذ الذي يُلقن ويصوَّب، إنما الأمير الذي يحل مكان سيد الأرضين بعد غيابه المؤقت أو الأبدي، إنماهذا أمر، اتجها إلي الحلبة، تبع الابن، ولأن الواقعة غير مسبوقة، لم يكن متأكداً إن كان هذا الترتيب مطابقاً أم لا؟، ما من مرجعية أو قياس، من سيسائله، سيقول له مبرراً إن الأمير نفسه سبقه، كان واسع الخطي، متوثباً، واثقاً، مزهواً بما هو كائن وما سيكون، ما بين مكان جلوسه الذي فارقه وما بين تواجد الحلبة حاول أن يتماسك، أن يفرغ لما هو آت بعد لحظات، أما دهشته وحيرته فليؤجلهما إلي ما بعد انقضاء الوقت.

تواجها، لم يكن كبير المعلمين خلواً من الخبرة التي تمكنه من فهم وإدراك ما هو عليه، ما يقف أمامه الآن، بدا الابن مستنفراً إلي أقصي حد، وهنا أدرك المعلم أنه لن يقبل علي مصارعة ينبغي فيها أن يتراجع إرضاء لابن سيد الأرضين، ولكنه مطالب بالذود عن حياته، هذا ما استشفه من الهيئة والحضور الذي يواجهه.
صيحة واحدة أطلقها الجمع، ولم يعرف المحيطون هل صرخ سيد الأرضين أم لا؟، هل شب عن مقعده أم لا؟، ذلك أن جميع العيون كانت متطلعة إلي الحلبة حيث المواجهة الفريدة، غير المسبوقة.
كل الشاخصين لم يستوعبوا ما جري، فيما بعد استعاده كل منهم برواية مختلفة وسرد مغاير صاغته الذاكرة الفردية، أما المؤرخ الرسمي للأرضين فكتب يقول إن الابن الوراثي تطلع من رقدته فوق الأرض إلي كبير المعلمين الذي وقف مشرفاً عليه كأنه لم يمسه أو يقترب منه، بدت السقطة وكأنها عثرة. سأل:
ــ لكنك لم تطلعني علي حيلتك تلك
قال معلمه وهو ينحني ماداً يده إليه ليعينه علي الوقوف:
ــ كان لابد من إخفائها عنك، تحسباً لتلك اللحظة.!
***

مغربي أخميم

يذكر الرحالة الطنجي ابن بطوطة أنه رأي عند نزوله أخميم بربا ضخمة، فيها معابد، وتماثيل، ومبان شاهقة، من يقرأ وصفه لما عاينه سيثق أنها أكبر من بربا الأقصر، لكن من يزور المكان سيصدم، لن يجد أثراً مما عاينه الرحالة ودونه، اختفي هذا كله، في السنوات الأخيرة اكتشفوا تمثال ميريت آمون الذي ظل راقداً علي وجهه تحت التراب حوالي أربعة آلاف عام إلي أن استقام فبهت الذين شاهدوا أروع قوام أنثوي وأجمل أرداف تكاد لتمامها تثير الفتنة حتي يومنا هذا، كما تم اكتشاف قدم لتمثال ضخم لرمسيس الثاني، قُدر وزنه بألف طن، يرقد تحت جبانة المسلمين، استخراجه يحتاج إلي جهد ومال وإخلاص، شغل كثيرون وأنا منهم بما جري للبربا، ترددت كثيراً علي المدينة التي همت بخفائها وما تحويه، حاولت الإصغاء إلي ما يقوله المعمرون والذين توارثوا التفاصيل، توقفت طويلاً عند ما قصه عليّ راهب قديم مقيم في الدير الأبيض، قال إن مغربياً وفد منذ ألف طلعة شمس، أقام في المدينة التي اعتادت مجيء أمثاله عبر الصحراء قاصدين مكة، تماماً مثل ابن بطوطة، تقول المدونات القبطية إنه بعد أيام ثلاثة خرج حاملاً عصا، لا هي بالقصيرة أو الطويلة، راح يشير بها |لي التماثيل والأعمدة والجدران والصروح والبوابات الحقيقية والوهمية، كلما اتجهت العصا صوب موجود ما يختفي، يتقلقل أولاً وينفصل عن الأرض، يصعد حيث يغيب في الفراغ، قبل شروق الشمس الواضح الجلي لم يتبق شيء، البربا كلها عالقة الآن في موضع ما، نقطة ما، هناك في هذا الفضاء، هل تظهر في توقيت بعينه، هل تنتقل إلي مكان ما؟. هل يرتبط الأمر بتعاويذ خفية، بظواهر طبيعية، بفعل بشري لم يفصح عنه المغربي الذي غاب إلي يومنا هذا وأخذ سره معه، قال الراهب: ليس لنا إلا السؤال.
***

بستان

جاء في مخطوط نادر لمؤلف مجهول، أنه في عام ستمائة وثلاثين هجرية، وصل إلي مصر شخص مغربي دخل القاهرة من باب زويلة قبل المغرب، كان له يد طائلة في علم السيمياء، أقنع واحداً من كبار صناع البُلغ المذهبة بشراء بستان يمتد في الصحراء، لا يطاله أحد ولا يقربه إنسان أو حيوان أو هوام، يحوي أشجاراً لا مثيل لها، وفواكه غريبة المذاق لا تنبت إلا فيه، فيه سواقي تدور بغير ثيران أو بغال تأتي بماء زلال فيه شفاء من كل علة، ورجال يكدون أربعة وعشرين ساعة، لرعاية النبات والتنسيق، لا ينطقون ولا يُسمع لأحدهم شكوي، قبل تمام الشروق خرجوا من باب الفتوح قاصدين صحراء الريدانية، المغربي، وصانع البُلغ المعروف بالحاج ظريف وثلاثة من معارفه جاءوا كشهود، بعد حوالي ساعتين اجتازوا خلالها رمالاً ممتدة وكثباناً باقية، أشار المغربي أن يقفوا، وليّ الوجه تجاه الشرق، تبعوه، أطالوا التحديق، شيئاً فشيئاً بدا ظهور الأشجار والنخيل وأغصان النبات، وكلها أحوال لم يعرفها أحد في بر مصر ولا البلدان المجاورة، تجولوا في الممرات  المؤدية، عبروا الجسور الموصلة، وقرب الظهر جلسوا تحت مجموعة من أشجار النارنج، لا يُعرف مثله في الوادي، إذ أنه لا ينبت إلا في جزء صغير من ساحل عُمان، بلدة مرتفعة اسمها صلالة، وفي بلاد ما وراء الشرق، لابد من اجتياز المحيط إليها، أبدي المعلم ظريف الرغبة، وتم الاتفاق، اشتري البستان بألف دينار، أشهد الشهود، وعادوا إلي المدينة لتسجيل البيع والشراء عند القاضي، مضي المغربي إلي حال سبيله.
صباح اليوم التالي خرج الرجل قاصداً البستان، وصل إلي ما خيل إليه أنه المكان، غير أنه لم ير إلا الرمال، صار إلي كل اتجاه، التقي ببعض عربان أكدوا أنهم لم يسمعوا عن وجود بستان، هذا محال، حصل له ماخوليا، لزم الصحراء بحثاً عن البستان، ولم يره أحد في محل تجارته أو إقامته!.
***

اللا اسم

قبل ذلك كان كل شيء مثل أي شيء، دام ذلك قدراً غير معلوم ربما يقدَّر بملايين السنين أو بضعة معدودات، فلم يكن الزمن معروفاً، لا شروق ولا غروب، لا دورة للفلك، تتحرك المخلوقات بالدوافع الأولية، يأكلون ولا يعرفون ما الأكل؟. لم يكن للطعام وجود ولا للمذاقات الفوارق وجود. استمر العماء حتي بدأت الهمهمة وجري تعيين موجودات كبري بتسميتها، سماء، أرض، بحر، حر، برد، هواء، نسيم، ألم، راحة، ميل، كُره.. إلي ما يصعب إحصاؤه الآن، لكن مع تعدد التمييز، وضبط النطق المنطوق وسريان النظام أو لنقل بدقة، بداياته. حلّ وقت يصعب تعيينه. اجتمع بعض من المتأملين الصامتين والذين عُرفوا فيما بعد بالكهنة، اجتمعوا علي بدء تسمية الموجودات، بدأوا بالظاهر، البادي منها، ربما جري ذلك قرب الموضع المعروف الآن بأبيدوس. لماذا؟ ليس بوسعنا إلا التخمين، المؤكد أن المعرفة والتعرف علي كُنه الأشياء وثيق العُري بالمعتقد. بالعقيدة التي تفسِّر ما غَمُضَ وتنسب الأمور إلي أسباب، حتي الآن يرتبط العلم بالدين ومما لاحظته وعاينته أن مقار الدرس والبحث والفحص تقارب عمران المعابد، إن في المعابد العتيقة أو الأزهر والزيتونة والقرويين وحتي الجامعات الأحدث مثل السوربون وأكسفورد وموسكو وبكين، دائماً ثمة قبة، والقبة مجسم للكون، لما يحدده الأفق الدائري، لأسباب ما نجهلها كما يخفي علينا كثير، ارتكزت المعرفة إلي أبيدوس، تدرج المعبد في الظهور، تماماً مثل النهر الذي كان يطل عليه مباشرة، غير أنه ابتعد شرقاً كما هو حاله الآن، عند الحد بين الأخضر والأصفر، بين السعي والسكون، بين الحياة والعدم. اجتمع القوم، كم أمضوا؟، لا أحد يعرف، كم قضوا؟ ما من إنسان يعلم. لم يصلنا تدوين ، لم يصلنا نص يخبر أو ينبئ أو يشير، ما أمكننا استنتاجه أو الوقوف علي حدوده عبر نصوص متأخرة نجدها مبثوثة فيما عُرف بمتون الحماية التي توفر الأمان للراحلين إلي المجهول، نعرف أنهم وضعوا الأسماء للظاهر من الموجودات. ثم المتخيل منها وأخيراً المعاني، وما يزال ذلك مستمراً ما تردد نفس واستمر بحث وسعي. ما نعرفه واضحاً جلياً أن المجتمعين في أبيدوس كلما وضعوا اسماً ظهر متعلقه فإذا قالوا علي سبيل المثال «لبن» بدا من الضروع وفي الأواني. الأسماء أولاً، كلها موجودة، ما جري إظهارها بعد أن كانت مخفاة، بعد أن بلغوا مدي وبذلوا جهدا، لم يتم الأمر بين يوم وليلة أو سنة بعد سنة، بل استغرق آماداً، تسلم خلالها جيل إثر آخر ما أسفر البحث عنه، أودعه كل للآخر في موضع ما، حيز ما لا يعرفه أحد حتي يومنا هذا، لمحات من الوقائع المتناثرة في المتون تقول بمضمونها أن أحدهم طرح استفساراً علي كبير الكهنة: بماذا تُسمي الأسماء بعد ثلاثة أحوال ـ الحول مقياس قديم للوقت لا نعلم علي وجه الدقة مقداره أو قدر قياسه ـ نطق بالجواب: اللااسم.

ما من إيضاح نعرفه ولو بالإشارة وحتي الآن يُقال عند البعض في أقصي الشرق أو المعمور أن اللااسم يعني كافة الأسماء، ويؤمن آخرون بأن من يُسلم به يمكنه التحكم في الأسماء كافة. ما ظهر منها وما استتر وما لم يوجد بعد. ويُعرف عند القوم بالاسم الأعظم.


(1) Metro, Boulot, Dodo

$
0
0

Metro, Boulot, Dodo

 

 

Au déboulé garçon pointe ton numéro

Pour gagner ainsi le salaire

D’un morne jour utilitaire

Métro, boulot, bistro, mégots, dodo, zero

 

أصل هذا الإصطلاح باللغة الفرنسية يعود إلى قصيدة كتبها شاعر فرنسى إسمه بيير بييارن ينتقد رتابة الحياة فى عام 1951 ويخاطب فيها أحد العمال قائلا

هيا إصطف يا ولدى لكى تحصل على رقم

تقبض به أجرك عن يوم حزين يستغلونك فيه

وحياتك أصبحت المترو، العمل، الأكل فى الكشك الصغير، وسيجارة ثم نوم وهى فى النهاية صفر..

 

هذا هو أحد شعارات ثورة الطلبة فى فرنسا عام 1968 والمقصود به هو إظهار التمرد على الحياة التى كان يعيشها الناس قبل وقوع هذه الثورة حيث يركبون المترو (وتنطق الكلمة باللغة الفرنسية بمد الواو فى آخرها ) فى الصباح ثم يقضون اليوم بأكمله فى العمل وهو ما يرمز إليه لفظ  boulot   الذى يعنى صوت الماكينات فى المصانع وبعد ذلك لا يتبقى من اليوم سوى النوم وهو ما يرمز إليه لفظ  dodoالمشتق من فعل dormir  الذى يعنى النوم..

أى أن المقصود بهذا الشعار هو أن الطبقة العاملة لا تعيش إلا لكى تخدم مصلحة الطبقة التى تملك رأس المال من مصانع وبنوك وخلافه ثم عليها أن تنام بعد ذلك لأن دورها قد إنتهى إلى الصباح ليبدأ من جديد..

والواقع أن هذه الثورة لم تقتصر على فرنسا فقط بل كانت قد بدأت قبل ذلك فى عام 1967 فى برلين بمناسبة زيارة شاه إيران للجزء الغربى من المدينة المنقسمة فى تقليد كان كثير من قادة الغرب يحرصون عليه إظهارا للتضامن مع تلك المدينة التى غدت رمزا لصمود العالم الحر فى وجه الشمولية السوفيتية..

ولو نظر المرء إلى كل من ألمانيا وفرنسا وكل دول أوروبا فى ذلك الوقت لأدرك سبب الثورة على الفور.. فالتوزيعة الديموجرافية لتلك الدول كانت تشى بوجود جيل من الشباب الذى لا أمل له فى الوصول إلى المناصب المتوسطة فى الدولة ناهيك عن المناصب العليا، ففرنسا مثلا كان فرانسوا ميتران الذى بلغ فى ذلك الوقت 50 عاما لا يزال يعد من القيادات الشابة !!! وألمانيا كانت لا تزال تحكم بصفة أساسية من جيل ولد معظمه فى القرن التاسع عشر وشهد حربين كبيرتين فكانت قيمة النظام لديهم مبالغا فيها حيث أن المحال كانت تغلق فى السادسة مساءا على ما أظن وبعدها لم يكن هناك ما يمكن عمله.. حتى أننى عندما جئت إلى ألمانيا بعد تلك الأحداث بعشرين عاما كانت المحال تغلق أبوابها فى السادسة والنصف مساءا واستغرق نقاش  البرلمان حوالى 3 سنوات لكى يمدوا الموعد حتى الثامنة!!

أما الإقتصاد فقد كان واقعا بأكمله فى يد الجيل الذى ساعد على صعود هتلر وأيد دكتاتوريته القاهرة ورآه يسقط ومع ذلك ظل ممسكا بتلابيب السلطة غير عابىء بالتغيرات التى كانت تقع فى المجتمع..

والحقيقة أن المرء لا يمكنه إغفال عاملين رئيسيين فى هذا السياق، أولهما وصول الرئيس جون كيندى البالغ من العمر 43 عاما إلى البيت الأبيض فى عام 1960، مما أوجد أملا فى نفوس الشباب، والثانى هو التهديد بوقوع حرب نووية فى أعقاب أزمة صواريخ كوبا عام 1962 والتى كادت أن تعصف بالإنسانية كلها لولا تعقل جون كيندى (الذى كان مستشار ألمانيا آديناور يراه رئيسا ضعيفا متخاذلا) والذى كان يواجه مؤسسة عسكرية وصناعية لم تكن تتورع عن الدخول فى حرب نووية ضد الإتحاد السوفيتى..

ولما اغتيل كيندى فى ظروف غير مفهومة ولا هى واضحة إلى اليوم وجاء جونسون بعقلية الكاوبوى أشعل حربا ضارية فى فيتنام بلا مبرر واضح وبذريعة واهية مصطنعة وتواردت الصور من تلك البقعة البعيدة لتشهد على وحشية ودموية نظام فيتنام الجنوبية فى قمع المعارضة مدعوما بالكامل من العم سام وقواته المتمركزة هناك بدأ الشباب الأوروبى يدرك حقيقة الدعاية الأمريكية عن العالم الحر وقيمه، وكيف أنها لا تفرق فى كثير عن الدعاية النازية التى كان يقوم بها جوبلز فى أثتاء فترة حكم النازى..

أضف إلى ذلك أن برامج التعليم فى ألمانيا كانت قد دأبت فى تلك الفترة ومنذ نهاية الحرب على إستزراع قيم حب السلام ونبذ الحروب واستهجان العنف بكافة صوره، بينما كان نفس الشباب يشاهد كل مساء على الشاشة صورا وأفلاما تسجل عنفا خالصا يمارسه الغرب فى آسيا وفى أفريقيا ضد كل من يعتقد أنه يشكل، أو قد يشكل خطرا شيوعيا.. وجاء هذا التناقض صارخا لدرجة أن الشباب لم يتحمل ذلك البون الشاسع بين النظرية والتطبيق..

وفى تلك الفترة تغير وجه المجتمع بطريقة سريعة وغير متوقعة فقد صدر فى أمريكا إعلان حقوق السود ومساواتهم بالبيض فى كل شىء (فى عهد جونسون وليس فى عهد كيندى) ..وكانت القوى الإستعمارية تتخلى يوميا عن مستعمراتها القديمة بالذات فى أفريقيا وظهرت دعوات إلى حرية اللقاءات الجنسية وحرية العلاقات خارج الزواج وظهر نوع جديد من الموسيقى والأغانى لم يكن له وجود قبل ذلك.. كما أن أزمة المبانى التى أعقبت الحرب جعلت من التوسع الرأسى طريقا لا مهرب منه مما أدى إلى تراكم عدد كبير من السكان على مساحة ضيقة بكل ما يعنيه ذلك من تدافع ومضايقات ومشاحنات..

والواقع أنه من العسير أن يعثر المرء على أحد المتحمسين لهذه الثورة أوالمساهمين فيها ممن ولد قبل عام 1940 وهو نفس العام الذى ولد فيه من دخلوا المدرسة فى أول عام دراسى بعد نهاية الحرب وتغير المناهج الدراسية..

ويمكن القول أن هذا الضغط المجتمعى هو الذى أنهى حرب فيتنام وهو الذى دفع إلى سياسة الوفاق التى بدأها نيكسون بعد ذلك عام 1971 سواء مع الإتحاد السوفيتى أو مع الصين..

وبالطبع لا يمكن إغفال الدور الذى قامت به فى ألمانيا المخابرات الألمانية الشرقية فى التأجيج على هذه الثورة وإشعال الأفكار المتمردة فى رؤوس الشباب فى الجامعات حيث أن القيادة فى موسكو وبرلين الشرقية رأت فى تلك الثورة فرصة ذهبية لتقويض أركان المجتمع الرأسمالى إعمالا لنظرية الثورة الماركسية التى تبدأ دائما بالغضب والتمرد الداخلى بسبب عدم تحقيق العدالة..

صحيح أن الأمر قد خرج فى كثير من الأحيان عن السيطرة ونتج عن تلك الثورة وبسببها جماعات يسارية دموية وصل بها الأمر إلى حد إرهاب وترويع المدنيين بلا مبرر، ولكن النتيجة النهائية لتلك الثورة كانت إيجابية.. فقد تبدل بالفعل وجه المجتمع سواء الأوروبى أو الأمريكى وتغيرت طبيعة العلاقات الإجتماعية وشحب دور الكنيسة التى وقع عليها جزء كبير من اللوم بسبب إنحيازها للفاشية فى الثلاثينات لكى لا تنتصر الشيوعية المعادية للكنيسة أو على الأقل كانت محل لوم على صمتها إن لم يكن على مساهمتها..

 

وهكذا بدأت كل هياكل السلطة القديمة فى الإهتزاز تمهيدا للسقوط أمام غضب الشباب.. ولعل أفضل حادثة تعبر عن ذلك الغضب هو ما وقع فى ذلك العام الفاصل 1968 أثناء المؤتمر العام للحزب المسيحى الديموقراطى الذى كان الشريك الأكبر فى التحالف الكبير الذى ضم الحزب الإشتراكى وكان يحكم ألمانيا منذ عام 1966 بحكومة تحت رئاسة المستشار كورت كيسنجر. فقد صعدت خلال المؤتمر  إلى المنصة شابة لم تتعد الثلاثين من عمرها كانت متزوجة من مواطن فرنسى قضى والده أثناء الحرب على يد قوات الإحتلال الألمانى، صعدت إلى كيسنجر وعنفته بشدة على ماضيه النازى،  حيث أنه كان عضوا فى الحزب اإشتراكى القومى للعمال الألمان (الإسم الرسمى للحزب الذى أنشأه هتلر) ثم خدم أثناء الحرب فى وزارة الخارجية فى قسم الإعلام والدعاية، وهو ما جعله فى إحتكاك مهنى وتنازع الإختصاصات مع وزارة الدعاية التى كان يرأسها الخطيب المفوه يوزف جوبلز الذى كان أكبر أعمدة الدعاية النازية، فقامت السيدة بتوبيخ المستشار الألمانى علانية ثم صفعته على وجهه بطريقة مستفزة عقابا له على مشاركته للمجرمين النازيين فى فعلتهم الشنعاء!!وبالطبع لم يحر المستشار جوابا على هذه الإهانة  بل ظل واقفا بلا حراك!! وقد قبض عليها وقدمت للمحاكمة وحكم عليها بالحبس ولكن الحكم لم ينفذ لتمتعها بالجنسية الفرنسية!!

وكيسنجر رغم ثقافته العالية ومنصبه الأكاديمى المرموق (أستاذ فى الحقوق ودارس للفلسفة) فقد كان  يمثل خضوع الطبقة المثقفة الألمانية أو ألجزء الأكبر منها لديماجوجية الحزب النازى بل والإستفادة من حكم ذلك الحزب.. فقد دخل العمل فى وزارة الخارجية حتى يتجنب التجنيد فى القوات المسلحة وكان دخله محترما بمقاييس تلك الأيام..

أما فى فرنسا فقد تقدم الرئيس ديجول بمشروع إعادة تنظيم البلديات والحكم المحلى كان محلا لكثير من الجدل حتى قرر ديجول طرحه فى إستفتاء شعبى حصل فيه المشروع على موافقة الفرنسيين ولكن بأغلبية ضئيلة للغاية مما جعل ديجول يعتبره صفعة معنوية لرئاسته ورفض شعبى لوجوده فاستقال من منصب الرئاسة بدوره..

كيف السبيل إلى شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم

$
0
0

 

مختصر ( كيف تنال شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم)

أولا: المقدمة: 

فلا شك أن من أعظم الناس قدرا، و جاها، و مكانة؛ هو نبينا محمد صلى الله عليه و سلم، و قد حباه الله بفضائل و خصائص في الدنيا و الآخرة؛ لم تكن، و لن تكون لأحد أبدا. و لما كانت الآخرة خير من الأولى كانت فضائله في الآخرة أعظم و أكمل. و مما أعطى الله نبينا في الآخرة أنواع الشفاعات الثابتة له، و التي بلغت سبع شفاعات. و هذه الشفاعات لما كانت متنوعة، متعددة، متعدية الفضل و الخير، كانت دالة على شرف هذا النبي صلى الله عليه و سلم، و عظيم منزلته عند الله.


بل بعض هذه الشفاعات؛ إنما المقصود منها هو إظهار شرفه، و رفعته، و ما له عنده من المكانة عند الله كالشفاعة العظمى.
ثانيا: أنواع شفاعاته صلى الله عليه و سلم:
يمكن تقسيم شفاعاته صلى الله عليه و سلم إلى قسمين :


أ- قسم خاص: لا يشترك معه أحد فيه:
  • وهو على ثلاثة أنواع:

1- شفاعته صلى الله عليه و سلم الشفاعة العظمى:
و ذلك حين يشفع للناس جميعا عند الله لكي يفصل بين العباد؛ و ذلك حين يتخلى عنها أولو العزم من الرسل :
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُتِيَ بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَشَ مِنْهَا نَهْشَةً ثُمَّ قَال َ أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ، يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ ؛الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمْ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاس َ مِنْ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ فَيَقُولُ النَّاسُ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ عَلَيْكُمْ بِآدَمَ فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ آدَمُ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ قَدْ نَهَانِي عَنْ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوح ٍ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ إِنَّكَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ فَذَكَرَهُنَّ أَبُو حَيَّانَ فِي الْحَدِيث ِ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم َ وَرُوحٌ مِنْهُ وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ عِيسَى إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ.

 
فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ. فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي.
ثُمَّ يُقَال ُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ .
فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِم ْ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ و َبُصْرَى. رواه البخاري .
2- شفاعته صلى الله عليه و سلم في عمه أبي طالب:
* عن الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه
أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ ,قَالَ: نَعَمْ ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ. رواه مسلم
** و عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ.فَقَالَ: لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ. رواه مسلم
فهذه الشفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه و سلم ؛ لان أبا طالب مات على الشرك، و لذا فهي شفاعة تخفيف لا شفاعة خروج من النار.
3- شفاعته صلى الله عليه و سلم في دخول الجنة:
* عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ . فَيَقُولُ الْخَازِنُ مَنْ أَنْتَ؟ ,فَأَقُولُ:مُحَمَّدٌ . فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ ، لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَك َ. رواه مسلم
ب- القسم الثاني: شفاعته العامة؛ وهي التي يشترك معه فيها غيره
· و هي على أنواع:
1- ب - شفاعته صلى الله عليه و سلم في بعض أهل الكبائر الذين يدخلون النار فيخرجهم منها:
وهذا النوع قد تواترت الأحاديث فيه، 
* عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه,
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُوهَا فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أخرجاه في الصحيحين.
و هذه الشفاعة من أعظم ما يخرج الله بها أقواما من أهل الكبائر من النار بعد رحمة أرحم الراحمين، 


و يدل على هذا :
حديث أبي موسى الأشعري ؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكفى أترونها للمتقين؟ لا؛ ولكنها للمذنبين الخطائين المتلوثين .
قال الألباني : (صحيح - دون قوله : "لأنها ... " )- الضعيفة ( 3585 )
بل وتتكرر منه صلى الله عليه و سلم هذه الشفاعة يوم القيامة أربع مرات:
ففي الصحيحين :
عن مَعْبَدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَنَزِيُّ، قَالَ : اجْتَمَعْنَا ونَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، فَذَهَبْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ إِلَيْهِ، يَسْأَلُهُ لَنَا عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَإِذَا هُوَ فِي قَصْرِهِ، فَوَافَقْنَاهُ يُصَلِّي الضُّحَى، فَاسْتَأْذَنَّا، فَأَذِنَ لَنَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقُلْنَا لِثَابِتٍ: لَا تَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ،
فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، هَؤُلَاءِ إِخْوَانُكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، جَاؤُوكَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ،
فَقَالَ: « حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ ،فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى، فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ ,فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، لَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى، فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ , فَيَأْتُونَ عِيسَى ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَيَأْتُونِي ، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي ، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا ، لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا , فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ؛ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَ ,فَأَقُولُ : يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي.
فَيُقَالُ:
1- انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا ، فَيُقَالُ : يَا مُحَمَّدُ ، ارْفَعْ رَأْسَكَ , وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْط ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي.

فَيُقَالُ:
2- انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا.
فَيُقَالُ:
يَا مُحَمَّدُ؛ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ، أُمَّتِي أُمَّتِي،
فَيَقُولُ : 
3- انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ.قَالَ : فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ ، قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَوْ مَرَرْنَا بِالْحَسَنِ، وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ ، فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَأَتَيْنَاهُ ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَنَا، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ ، جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: هِيهْ ؟ فَحَدَّثَاهُ بِالْحَدِيثِ، فَانْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ، فَقَالَ : هِيهْ ؟ فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ لَنَا عَلَى هَذَا ، فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِي وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَلَا أَدْرِي، أَنَسِيَ أَمْ كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا؟ فَقُلْنَا : يَا أَبَا سَعِيدٍ، فَحَدِّثْنَا، فَضَحِكَ وَقَالَ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ! مَا ذَكَرْتُهُ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ ، حَدِيثِي كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ، قَالَ : ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا ، فَيُقَالُ: 
4- يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ، و َسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ، ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَيَقُولُ : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي، لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ».[1]
2-ب- شفاعته صلى الله عليه و سلم في بعض أهل الكبائر ممن استحق دخول النار أن لا يدخلها:
وقد ذكر الشيخ ناصر الجديع في كتابه (الشفاعة عند أهل السنة) أن هذا النوع لم يرد دليل صريح فيه، و ذكر أن ابن كثير قد أثبتها؛ و استدل ابن كثير لها بحديثين ضعيفين. ، و كذلك الإمام النووي و ابن حجر، و توقف ابن القيم فيها.
و الذي يظهر أن عموم أحاديث الشفاعة تدل عليه، بل إذا كان يشفع في إخراج أهل الكبائر من النار، فلأن يشفع في عدم دخولها لبعضهم من باب أولى .و الله أعلم.
3- ب- شفاعته صلى الله عليه و سلم في دخول بعض المؤمنين الجنة بغير حساب:
ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الشفاعة العظمى السابق : (فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ. أُمَّتِي يَا رَبِّ. أُمَّتِي يَا رَبِّ.
فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ).
4-ب- شفاعته صلى الله عليه و سلم في رفع درجات بعض المؤمنين بالجنة :
* عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَقُتِلَ دُرَيْدٌ وَهَزَمَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ قَالَ أَبُو مُوسَى وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ رَمَاهُ جُشَمِيٌّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا عَمِّ مَنْ رَمَاكَ فَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى فَقَال: ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي فَقَصَدْتُ لَهُ فَلَحِقْتُهُ فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى فَاتَّبَعْتُهُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ: لَهُ أَلَا تَسْتَحْيِي أَلَا تَثْبُتُ فَكَفَّ فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْتُهُ ثُمَّ قُلْتُ: لِأَبِي عَامِرٍ قَتَلَ اللَّهُ صَاحِبَكَ قَالَ: فَانْزِعْ هَذَا السَّهْمَ فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَقْرِئْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي. وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ فَمَكُثَ يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ فَرَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مُرْمَلٍ وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِهِ وَجَنْبَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ وَقَالَ: قُلْ لَهُ اسْتَغْفِرْ لِي.
فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنْ النَّاسِ.
فَقُلْتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِرْ . فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا , قَالَ أَبُو بُرْدَةَ إِحْدَاهُمَا لِأَبِي عَامِرٍ وَالْأُخْرَى لِأَبِي مُوسَى . رواه البخاري
**** هـــــــــــذه مجــمـــــل شفــــاعاته صـــــــلى الله عـــليه و ســــــــــــــــــــلم **** .
 
و هناك نوع مختلف فيها بين أهل العلم ؛ وهو شفاعته فيمن تساوت حسناتهم و سيئاتهم، ( وهم أصحاب الأعراف على الراجح )؛ و الصحيح أنه لم يثبت فيها دليل صحيح . بل ظاهر القران يدل على أن الله يدخلهم الجنة برحمته و الله أعلم.

ثالثا: الأسباب التي ننال بها شفاعته صلى الله عليه و سلم:
فإن من أعظم الأسباب التي ينجو بها المؤمن يوم القيامة – بعد رحمة أرحم الراحمين ؛ هو شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم.
يا أخـــي:
ما ظنك إذا شفع فيك؛ أول شافع ( من يُأذن له بالشفاعة ) و أول مشفع (و َالْمُشَفَّع؛ بِفَتحِ الفاء الَّذِي تُقْبَل شَفَاعَته)
* عن أَبُي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ). رواه مسلم .
- ما ظنك إذا شفع فيك؛ صاحب الشفاعة العظمى. حين تفزع إليه الناس جميعا يوم القيامة، بعد ذهابهم للأنبياء، فيقول كل نبي: نفسي نفسي، إلا هو فيقول: أنا لها، أنا لها.
- ما ظنك إذا شفع فيك؛ الذي يقول الله له: يا محمد أرفع رأسك، قل يسمع لك ، سل تعطه، و اشفع تشفع .
- ما ظنك يا أخي إذا شفع لك ؛ من قال الله له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك " . رواه مسلم 
- ما ظنك إذا شفع فيك؛ الوحيد الذي لا تفتح أبواب الجنة إلا له.
- ما ظنك إذا شفع فيك؛ الذي يقدمك على نفسه؛ فكل الناس حتى الأنبياء يقولون : نفسي، نفسي . وهو يقول: يا رب أمتي.
- ما ظنك إذا شفع فيك ؛ الذي خير بين الشفاعة و بين أن يدخل شطر الجنة من أمته، فاختار الشفاعة .
- ما ظنك إذا شفع فيك؛ من كانت له دعوة مستجابة ، فتركها و جعلها شفاعته لأمته يوم القيامة.
- ما ظنك إذا شفع فيك ؛ أعظم الناس قدرا، و جاها ، و مكانة عند الله.
***** فيـــا فــــوز و سعـــادة مـن ينــــــــال شفــــــــاعته ******
أخـــي :
قبل ذكر الأسباب التي بها ننال شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم ، فلابد من ذكر بعض التنبيــــــهات:-
1- هناك من يحرم شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( كما سيذكر في موضعه ) .
2- لاشك أن المؤمن الذي آمن و صدق و عمل صالحا له نصيب من شفاعته ؛ 
و دليل ذلك ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة قال:
*قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا ) رواه مسلم.
و لكن المؤمنين ليسوا على درجة واحدة، بل متفاوتون في نصيبهم من شفاعته.
فشتان بين من يشفع النبي صلى الله عليه و سلم له فيخرجه من النار بعد أن أحرقته، و من يشفع له فلا يدخلها أصلا، بل أين هذين ممن يدخل الجنة بلا حساب و لا عذاب بشفاعته ، بل و أين هؤلاء جميعا ممن يرفع درجتهم في الجنة . و الجنة مئة و عشرون درجة ما بين الدرجة و الدرجة كما بين السماء و الأرض .
نعــــم شتان بين من قال فيه : ( أسعد ) و من قال: ( حلت له شفاعتي ).
** قال الحافظ ابن حجر: (الفتح 2/416 ) ( .....أَنَّ لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَات أُخْرَى: كَإِدْخَالِ الْجَنَّة بِغَيْرِ حِسَاب ، وَكَرَفْعِ الدَّرَجَات فَيُعْطَى كُلُّ أَحَدٍ مَا يُنَاسِبُهُ ).ا.هـ
3- هذا التفاوت هو بسبب ما يحصّله العبد من أسباب نيل شفاعته صلى الله عليه و سلم؛ خاصة السبب الأول.
فكلما زاد العبد تحقيقا لهذه الأسباب زاد نصيبه من شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم. 
و إليكم هذه الأسباب:
السبب الأول: الايمان بالله:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ:
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ) رواه البخاري
قال الحافظ: ( فِي قَوْله "أَسْعَد "إِشَارَةً إِلَى اِخْتِلَاف مَرَاتِبهمْ فِي السَّبَق إِلَى الدُّخُول بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبهمْ فِي الْإِخْلَاص، وَ لِذَلِكَ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ "مِنْ قَلْبه "مَعَ أَنَّ الْإِخْلَاص مَحَلُّهُ الْقَلْب، لَكِنَّ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْجَارِحَة أَبْلَغُ فِي التَّأْكِيد
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَحْمَد وَ صَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان مِنْ طَرِيق أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَة نَحْو هَذَا الْحَدِيث وَ فِيهِ "لَقَدْ ظَنَنْت أَنَّك أَوَّلُ مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِي، وَ شَفَاعَتِي: لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا؛ يُصَدِّقُ قَلْبُهُ لِسَانَهُ وَ لِسَانُهُ قَلْبَهُ ")ا.هـ
فعلى قدر إيمانك يكون نصيبك من شفاعته؛ فكلما زاد إيمانك؛ زاد نصيبك من شفاعته. 
أخـــي:
إن أهل السنة مجمعون على أن الإيمان يزيد و ينقص. - فمتى تفقدت إيمانك ؟ هل زاد أم نقص ! 
و إن من فقه الرجل أن يتعاهد إيمانه؛ و ذلك بالنظر في طاعاته: هل يزداد فيها عددا و هيئة. هل تعمل بطاعات لم تكن تعمل بها من قبل؟
- هل زاد حســــــن عبــــادتك ؟
- هل تخليت عن ذنوب و معاصي كنت تعملها ؟
إننا اليوم نعيش مادية مقيت سيطرة على حياتنا إلا من رحم الله ، فترى الواحد منا يحرص على زيادة راتبه، و مسكنه، و ولده. أما إيمانه فلا يبالي به ؛ و الدليل: 
أسئل نفسك : متى أخرى مرة تفقـــدت إيمــــــــــانك ؟ و الله لو ضاع منا ألف ريال لحزنا أياما و أسابيع، و ينقص إيماننا و لا نحزن عليه . أخـــي:
إن مما يضعف الإيمان، بل و ربما أذهبه تماما: ( الذنوب: و يدخل تحتها الكفر و الشرك و البدع و المعاصي)
فأما الكفر و الشرك : فانظر إلى بلاد المسلمين ستجد مظاهر من الشرك الأكبر: استغاثة بالأموات، دعاء لأصحاب القبور، طواف بها..الخ
و أما البدع : فبلاد المسلمين تعج بالمحدثات.
و أما المعاصي: فأصبحت سهلة لكل أحد.
انظر ماذا فتح من أبواب الشرور؛ قنوات تدعو للتشكك في العقيدة، دعوة إلى الرذيلة، شبكات سهلت الوقوع في ما حرم الله.
فتعاهد إيمانك يا من يريد زيادة نصيبه من شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم. بل كلما زاد إيمانك ؛ فكنت بعيد عن الذنوب كان لك نصيب في أعلى شفاعاته صلى الله عليه و سلم؛ وهو رفعة درجتك بالجنة.
**السبب الثاني: الترديد مع المـؤذن و سـؤال الوسيلة بعد الصلاة و السلام عليه:
* عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه :
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَة ِ) .رواه البخاري
إن الله قادر على أن يعطي الوسيلة للنبي صلى الله عليه و سلم بدون هذا السبب، فلماذا جعل الله حصول الوسيلة له مرتبطا بهذا الدعاء؟
فالجواب من وجهين :
1- ليُعلم الصادق في المحبة للنبي صلى الله عليه و سلم من المدعي لها؛ فإن المحب يحب لحبيبه أعلى المراتب، فالصادق في محبته للنبي صلى الله عليه و سلم لا يمكنه أن يترك هذا الذكر ولو لم يعط عليه شيء. فكيف وقد وعده بحصول الشفاعة !
2- المحب يجازي محبه ، فلما سأل له درجة الوسيلة جازاه بحصول الشفاعة له.
فإذا أردت شفاعته صلى الله عليه و سلم؛ فلابد من ثلاثة أمور:
1- القول مثل ما يقول المؤذن - حتى عند قوله الصلاة خير من النوم فتقول الصلاة خير من النوم، - إلا في قول المؤذن ( حي على الصلاة و حي على الفلاح ) فتقول: لا حول و لا قوة إلا بالله).
2- الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم ؛ و المقصود بالصلاة : الصلاة الإبراهيمية ؛ 
* عن كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ قَالَ:
سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. رواه البخاري
3- سؤال الوسيلة وهو أن تقول: (اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).
و لابد من التنبيه على أمور:
1- الحذر من الزيادات: ومن ذلك :
أ- لفظة (سيدنا ) سواء في الشهادة أو الصلاة أو الدعاء له بالوسيلة. و الله لا نشك لحظة واحدة أنه سيدنا، بل سيد الأولين و الآخرين، و لكن ما هكذا علمنا صلى الله عليه و سلم . وهذه أدعيته و أذكاره التي علمها لأمته ليس فيها شيء من لفظ السيادة.
ب- لفظة ( الدرجة الرفيعة) أو ( يا أرحم الراحمين )فهذه الزيادات لا أصل لها.
ج-( إنك لا تخلف الميعاد)وردت عند البيهقي في السنن ؛ فقال: قوم بصحتها، و قال آخرون : بشذوذها، وهو الأقرب.
د – ( اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة ) وهي عند البيهقي وهي كذلك شاذة.
نبه على هذه الزيادات السابقة الذكر الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.
أخــي:
* إنه كلما زدت من هذا الذكر ؛ كلما زاد نصيبك من شفاعته. لقد كان الصالحون يتوقفون عن قراءة القران، و حلقات العلم إذا سمعوا المؤذن ؛ حتى يقولوا هذا الذكر. و قد حدثت عن دولة في افريقية؛ إذا سمع الناس الذين بالسيارات المؤذن يؤذن؛ أوقفوا سيارتهم بجوار المسجد ليرددوا خلفه حتى يفرغ ، لا يتجاوزون المسجد حتى ينتهي.
ما بالنا اليوم لو قال أحدهم في مجلس: إن هناك شركة ستطرح أسهمها، و الربح فيها مؤكد؛ و الله لرأينا القلوب مصغية، و الأذان منصتة.
أما الداعي للفلاح. الداعي لزيادة أسهمك في شفاعته صلى الله عليه و سلم فقليل من يردد معه. كيف بك إذا جئت يوم القيامة و رأيت النبي صلى الله عليه و سلم قد أذن له بالشفاعة؛ فشفع لفلان لأنه ( 50 ) سنة لم يفته هذا الذكر، و شفع لفلان لأنه ( 40 ) سنة كذلك، فتنظر لنفسك و إذا ليس لديك إلا ( 5 ) أو ( 6 ) سنوات. أي حسرة ستكون في قلبك عندما ترى ذلك المنظر. و الله لن يعوضك لو بكيت بدل الدمع دما. إنك سوف تقول: يا ليتني أُرد إلى الدنيا ؛ و الله لن أترك هذا الذكر أبدا
فها أنت في الدنيا ؛ فعاهد نفسك - يا طالب شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم - أن لا تترك هذا الذكر أبدا. السبب الثالث: سكنى مدينة النبي صلى الله عليه و سلم و الصبر على ما فيها من الشدة حتى الموت، * عن أبي سعيد مولى المهري أنه جاء أبا سعيد الخدري ليالي الحرة فاستشاره في الجلاء من المدينة وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة و لأوائها، فقال له: ويحك لا أمرك بذلك إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
)لا يصبر أحدا على لأوائها فيموت إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة إذا كان مسلما).و في رواية لمسلم (جهدها)
** قال ابن عبد البر في التمهيد : ( قوله: على لأوائها و شدتها؛ يعني المدينة و الشدة ؛ الجوع ، و اللأواء ؛ تعذر المكسب و سوء الحال)
*** و قال النووي: (قال أهل اللغة اللاواء ( بالمد ) : الشدة والجوع ، و أما ( الجهد: فهو المشقة و هو بفتح الجيم و في لغة قليلة بضمها، وأما الجهد بمعنى الطاقة فبضمها على المشهور و حكي فتحها ).
و قد وقع خلاف بين العلماء في سكنى المدينة :
- قال الإمام النووي : ( قال العلماء وفي هذه الأحاديث المذكورة في الباب مع ما سبق وما بعدها دلالات ظاهرة على فضل سكنى المدينة ، والصبر على شدائدها وضيق العيش فيها، وأن هذا الفضل باق مستمر إلى يوم القيامة . - ، وقد اختلف العلماء في المجاورة بمكة و المدينة فقال أبو حنيفة و طائفة : تكره المجاورة بمكة، ، و قال احمد بن حنبل و طائفة : لا تكره المجاورة بمكة بل تستحب. ، و إنما كرهها من كرهها لأمور: منها خوف الملل و قلة الحرمة للأنس و خوف ملابسة الذنوب ، فإن الذنب فيها أقبح منه في غيرها كما أن الحسنة فيها أعظم منها في غيرها. ، واحتج من استحبها بما يحصل فيها من الطاعات التي لا تحصل بغيرها وتضعيف الصلوات والحسنات وغير ذلك . ، والمختار أن المجاورة بهما جميعا مستحبة إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في المحذورات المذكورة و غيرها وقد جاورتهما خلائق لا يحصون من سلف الأمة و خلفها ممن يقتدى به و ينبغي للمجاور الاحتراز من المحذورات وأسبابها. والله أعلم) ا.هـ وهو كلام نفيس في غاية التحرير.
- و يمكن أن يقال كذلك إذا ترتب على سكنى المدينة تفويت واجب كبر الوالدين ، أو كانت هناك مصلحة أعظم من السكنى: كالجهاد في سبيل الله و تعليم العلم..الخ. و قد خرج كثير من الصحابة منها و ماتوا بغيرها لهذا الأمر.

****السبب الرابع: كثرة الصلاة: * عن خادم للنبي صلى الله عليه وسلم رجل أو امرأة : قال كان النبي صلى الله عليه وسلم مما يقول للخادم: ألك حاجة قال حتى كان ذات يوم فقال: يا رسول الله حاجتي؟ قال: وما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة. قال: ومن دلك على هذا. قال: ربي. قال: أما لا فأعني بكثرة السجود). رواه الإمام في المسند، قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح.
** و عن ربيعة بن كعب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلني أعطك. قلت: يا رسول الله أنظرني أنظر في أمري . قال: فانظر في أمرك. قال: فنظرت، فقلت: إن أمر الدنيا ينقطع فلا أرى شيئا خيرا من شيء آخذه لنفسي لآخرتي، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: ما حاجتك؟ فقلت: يا رسول الله؛ اشفع لي إلى ربك عز وجل فليعتقني من النار. فقال: من أمرك بهذا؟ فقلت: لا والله يا رسول الله ما أمرني به أحد، ولكني نظرت في آمري فرأيت أن الدنيا زائلة من أهلها، فأحببت أن آخذ لآخرتي. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود. رواه الإمام في المسند، وقال شعيب الأرنؤوط : حديث حسن بهذا السياق دون قوله : "فأعني على نفسك بكثرة السجود "فصحيح لغيره) و حسنه الألباني في الارواء2/208 
- و أصل الحديث في مسلم و لكن في طلب المرافقة ؛ و يمكن الجمع: أن المرافقة تتضمن العتق من النار و النجاة منها؛ وهي من أنواع شفاعاته صلى الله عليه و سلم .
أخـــي:
أعلم أنه ليس المقصود بكثرة السجود؛ كثرة الركعات بدون تدبر و خشوع. فالكثرة ليست مطلوبة لذاتها؛ إنما هي مطلوبة بعد الخشوع. فوالله لركعتين بخشوع أفضل عند الله من مئات الركعات بدونه . فالمطلوب الكثرة مع الخشوع .
أخـــي:
إنك إذا أكثرت من الصلاة بخشوع ؛ أصبحت الصلاة قرة عين لك ، فعندها يشفع لك من كانت الصلاة قرة عين له صلى الله عليه و سلم. نعم كانت الصلاة قرة عين له ؛ و ليس بعد هذا الوصف وصف.
أخـــي:
إن الصلاة أحب الأعمال إلى الله: * عن معدان بن طلحة اليعمري قال : ( لقيت ثوبان مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة أو قال: قلت: بأحب الأعمال إلى الله. فسكت. ثم سألته. فسكت. ثم سألته الثالثة. فقال: سألت عنه ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال: عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة. قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته، فقال لي مثل ما قال لي ثوبان . رواه مسلم.
و للصلاة من الفضائل ما لا يحصيه إلا الله. 
فيا طالب شفاعة من جعلت الصلاة قرة عين له صلى الله عليه و سلم ؛ اجعل الصلاة قرة لك ؛ تظفــــر بشفاعته .
أخـــي:
إن المثيل يجاور مثيله. فكلما زادت صلاتك؛ كلما زاد نصيبك في شفاعته.
***** السبب الخامس:
كثرة الصلاة و السلام عليه خاصة: عشرة بالصباح و عشرة بالمساء: وهذا السبب مختلف فيه بين أهل العلم وذلك لورود حديث في صحته خلاف بين أهل الحديث: * عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( من صلى على حين يصبح عشرا و حين يمسي عشرا أدركته شفاعتي يوم القيامة ). رواه الطبراني
وقد حسنه السيوطي و الشيخ الألباني في صحيح الجامع ثم عاد فضعفه في الترغيب و الترهيب للمنذري، و قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء ( وفيه انقطاع ) و قد ذكره ابن القيم في جلاء الأفهام و سكت عنه.


رابعا: من يحرم شفاعته:
مر معنا على أن الناس متفاوتون في نيل شفاعته صلى الله عليه و سلم ، و أن ذلك مرده إلى مقدار ما يحصله المؤمن من تلك الأسباب.وعلى هذا فالحرمان من شفاعته يكون على نوعين:
أ- حرمان كلي: و هذا يكون للمسرف جدا على نفسه ؛ فإن كان أتى بمكفر فلا نصيب له حتى في شفاعة أرحم الراحمين ، وإن كان أتى بجزء من الإيمان فستدركه رحمة أرحم الراحمين ، ففي حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه في رؤية الله جل و علا : (فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض ؟ فقالوا يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول: لكم عندي أفضل من هذا فيقولون: يا ربنا أي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا ) فهؤلاء لم تدركهم شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم و لكن أدركتهم شفاعة أرحم الراحمين. و مما يدخل في هذا النوع ما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم في صنفين:
* فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي؛ إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق). قال الألباني في صحيح الترغيب و الترهيب: حسن، رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. فالإمام الظلوم القشوم ( وهو من عم ظلمه الرعية )و كذا الغال في الدين المارق منه. قال الطيبي:المارق لدينه هو التارك له من المروق وهو الخروج ).ا.هـ فإذا كان هذا المروق مستوجب للخروج من الدين ؛ فهذا لا حظ له في أي شفاعة ، و إن كان بقي معه شيء من الإيمان فهو كما سبق تدركه رحمة أرحم الراحمين.
و هذا يدل على خطر الغلو و الغشم للرعية نسأل الله العافية و السلامة.


ب- حرمان جزئي: و هذا يكون لمن أتى ببعض الأسباب دون بعض ؛ فيعطى من شفاعته صلى الله عليه وسلم بحسب ما جاء به من الأسباب. و الله أعلم.
خامسا: أسباب وردت فيها أحاديث لا تصح:
1- ( شفاعتي لأمتي من أحب أهل بيتي ) ( ضعيف ) ضعيف الجامع. 
2-( من صلى على محمد وقال : اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي.؟ ( ضعيف ) الضعيفة
3- كان إذا سمع النداء قال: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة صل على محمد عبدك ورسولك واجعلنا في شفاعته يوم القيامة . قال رسول الله ( : من قال هذا عند النداء جعله الله في شفاعتي يوم القيامة. ( ضعيف ) الضعيفة
4- عن ابن عمر مرفوعا ( من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي وفي رواية ( من زار قبري وجبت له شفاعتي ) منكر السلسلة الضعيفة.
سادسا: أحاديث لم تصح فيمن يحرم من شفاعته:
1- ( من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي ) قال الألباني: وهو موضوع ومعارض لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
2- ( صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي القدرية والمرجئة قلت يا رسول الله ما المرجئة قال قوم يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل قلت ما القدرية قال الذين يقولون المشيئة إلينا) ( موضوع ) الضعيفة.
3- ( من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي فليوال عليا من بعدي وليوال وليه وليقتد بالأئمة من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي رزقوا فهما وعلما وويل للمكذبين بفضلهم من أمتي القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي ). ( موضوع ) الضعيفة.
4- (حلت شفاعتي لأمتي إلا صاحب بدعة ) منكر الضعيفة.
5- ( شفاعتي مباحة إلا لمن سب أصحابي ) ( ضعيف ) ضعيف الجامع.
6- ( شفاعتي يوم القيامة حق فمن لم يؤمن بها لم يكن من أهلها ) ( ضعيف ) ضعيف الجامع.
هذا ما تيسر جمعه، و الحمد لله على توفيقه.
و أسأل الله أن يجعله ذخرا لي يوم لقياه.
و أشكر كل من ساهم معي في تنسيق و ترتيب هذا الموضوع.
و بعد فإن أصبت فمن الله و حده، و إن أخطأت فمني و من الشيطان.
و لا يبخل أحد إذا قرأءه فوجد فيه خللا، أن ينصح برسالة 

[1] ) لا يفهم من هذا الحديث أن كلمة التوحيد تنفع بدون عمل؛ فأهل السنة مجمعون على أن الإيمان قول و عمل، و أنه لابد من العمل.
 
المصدر: 

 

الأزمة المالية والتضخم الزراعي

$
0
0

 

تأليف : محمد السويسي

الأزمة المالية التي انطلقت من أمريكا في العام 2007 لم تكن عشوائية أو مفاجئة كما يعتقد البعض ، بل إنها كانت معدة بدقة وعناية من قبل الرأسمالية الأمريكية ومن وول ستريت بالذات بما تضم من إقتصاديين وصناعيين وماليين ، لما لهذه الأزمة  من مؤثرات عليهم جميعاً تتطلب مشاركتهم وتعاونهم لتحقيق الأهداف المرجوة منها .

ولقد سبق لي ان أوضحت معظم هذه الأهداف بالتفصيل الا أنني حددتها جميعاً بشكل مختصر . ولكني أعود اليها بين فترة وأخرى بمقال جديد وفق مايستجد من مشاكل على غير المتوقع أو المخطط له ، بما يتطلب من ضرورة الإيضاح بالشرح من المتخصصين الملمين ، كما المعالجة من اصحاب المال  في وول ستريت الذين أدخلوا الطبقة الوسطى ومادونها في متاهة لاأفق لها أو نهاية ، وفق المعالجات العقيمة  المطروحة من قبلهم  وكأن الأمر لايعينهم ، أو أنهم بانتظار معجزة ما ، أو انهم  يهملون الأمر بشكل متعمد دون احتساب للسلبيات ، التي لايمكن التكهن بنتائجها وانعكاسها على شريحة من الرأسمالية يمكن ان يطيح بها أو يطيح ببلدان واوطان كاملة .

والموضوع الذي ساورده هو مشكلة التضخم الزراعي الأمريكي الذي جاء كنتيجة غير محسوبة للأزمة المالية . إذ كان من أهداف الأزمة بشكل أولي  وقف النزوح من الريف نحو المدن من أجل العمل في المصانع ، وبالتالي وقف التضخم العمالي  الصناعي الذي زاد عن حاجة المصانع بأضعاف أضعاف ، بما أدى الى تنامي أحياء الفقر  في مختلف المدن الرئيسية ، وبالتالي تزايد الجريمة على انواعها بشكل آلي مع التنامي المضطرد للبطالة .

لذا كان الغرض الأساس من الأزمة هو ترحيل العمال الفائضين من حيث أتوا ، ووقف الضغط على أصحاب المصانع من خلال النقابات في المطالبة الدائمة بزيادة الأجور  بين فترة وأخرى التي زادت من كلفة السلع بما ادى الى انعدام المنافسة أمام البضائع الأجنبية المستوردة من دول العالم الثالث ، كما وقف أزمة السكن المتنامية لارتفاع اسعارها وبدل أجور السكن فيها بما يزيد عن قدرات اصحاب المداخيل المتواضعة من الموظفين لديهم ، نظراً للتوظيف المالي الطارىء وقتذاك في المضاربات العقارية .

كان الأمر معقداً للغاية في وضع حد لهذا السيل من الفائض العمالي او التخلص منه دون سلبيات قد تكون خطيرة ، لذا اتخذت إجراءات قاسية على سبيل التجربة ، إستبقت اربع سنوات من تفجير الأزمة المالية ، وفق خطة اقتضت رفع أسعار النفط الى عشرة أضعاف بهدف رفع اسعار النقل بما يؤدي الى مصاعب كلفة التنقل والإنتقال على سكان الريف في توجههم الدائم نحو المدن بحثاً عن العمل ، إلا أن رد فعل اصحاب المصانع برفع الصوت والتهديد بالإقفال ، خاصة في أوروبا ، للزيادة المضطردة في أسعار المحروقات التي وصلت الى ثمانية أضعاف أدى الى التراجع عن هذه النسبة في الزيادة  المتنامية الغير محتملة وتخفيضها  بحدود خمسة أضعاف بدلاً من العشرة التي كانت مقترحة .

ولما لم تفد هذه الإجراءات القاسية في وقف النزوح او وقف الضغط العمالي على المصانع ، دفع وول ستريت إلى اتخاذ تدابير أخرى مغايرة اشد قساوة وأذى ، وهي برفع اسعار المواد الغذائية والزراعية ، خاصة الحبوب الى عدة أضعاف كعمل ضروري وملح يسبق إنفجار الأزمة ، ساعد في رفعها إرتفاع اجور النقل مع زيادة اسعار المحروقات .

ومع ترتيب هذا الأمر في العام 2007 واتخاذ كافة الإستعدادات تم الإعلان عن إنفجار الأزمة المالية وإفلاس المصانع والمؤسسات المالية والتجارية الضخمة وتوقفها عن العمل وصرف عمالها وموظفيها للحد من طغيان التضخم المالي للطبقة الوسطى وتوسعها ، على حساب النمو الريفي ، الناتج عن الزيادة المستمرة في الأجور وتعويض الخدمات في المدن وارتفاع بدلات السكن من جراء التجارة بالعقارات المتواضعة بشكل محموم  .

إلا أن كل ذلك سبقه توظيف رأسماليي وول ستريت أموالهم في الصناعات الصينية بكلفة رخيصة مع تدني الأجور العمالية لديهم بحدود الدنيا ، بحيث أن أجر العامل الصيني السنوي لايزيد عن  أجر عامل فني أمريكي لأسبوع فقط .

مع إعلان الأزمة المالية أطيح بمعظم أموال الطبقة الوسطى المدخرة في البنوك التي بدأت تبحث عن أعمال بسيطة لاستثمارماتبقى لها من أموال ، إن في التجارة البسيطة  أو الزراعة ، أما الطبقة العمالية الريفية فبدأت تبحث عن أعمال زراعية بسيطة لقاء اي  أجر مع عودتها إلى قراها لتوقف مصانعها عن العمل وبالتالي فقدانها مداخيلها .

لقد نجح الإنتقال الى الزراعة عقب الأزمة ، بسبب العائد المربح  المخطط له بارتفاع أسعارالمنتجات الزراعية  ، و لعدم وجود حد أدنى للأجور وهو الأهم ، بحيث يبقى عقد العمل حراً بين العامل وصاحب الأرض مشافهة دون أي إلزام قانوني ،  كما وان الطبقة الوسطى الريفية التي كانت قد نزحت للمدن عادت للعمل كعائلة واحدة دون أجر محدد سوى ماتقتسمه من أرباح متساوية عند بيع المحصول .

سار الأمر جيداً منذ العام 2008 دون أي عوائق الى حين الموسم الحالي  لمحصول العام 2014 لترتفع شكوى المزارعين الأمريكيين من كساد منتوجاتهم . إذ أن نتيجة هذا الجهد والتركيز على زراعة الحبوب بما فيها من أرباح مغرية ادى الى وفرة زراعية هائلة مع التوسع الكبير فيها بما يزيد عن حاجة السوق ، خاصة مع نمو الزراعة الروسية والصينية بحيث أن الروس الذين اعتادوا استيراد القمح الأمريكي والكندي والإسترالي في وقت سابق ، أصبحوا حالياً مصدرين له بملايين الإطنان لتوفره عقب تفكك الإتحاد السوفياتي .

أما الصينيين فقد اتبعوا  برنامجاً زراعياً دقيقاً ناجحاً بتطوير الريف عقب الأزمة المالية لمنع أبناء القرى  الزراعيين من التوجه نحو  المدن والتكدس في مساكن قذرة  أشبه بالعلب بجوارالمصانع بحثاً عن عمل مع تقديمها الحوافز المغرية لهم في مناطقهم ، الزراعية والخاصة ، التي سبق ان تحدثت عنها بالتفصيل في مقال آخر ، بحيث لم يعد لهم من حاجة للإنتقال الى المدن ، لابل أن كثيراً من عمال المصانع عادوا الى قراهم من حيث أتوا بحثاً عن  حياة افضل فيها عقب هذه التقديمات المغرية .

والمشكلة الملحة الآن لدى المزارعين الأمريكيين انهم يهددون بالتوقف عن زراعة الحبوب مع تكدسها لديهم إذا لم تجد الحكومة حلاً لكسادها بتصريفها أو التعويض عليهم كما كان يجري سابقاً في بعض الأحيان بدعم منتوجات زراعية معينة .

لقد كانت الحكومة الأمريكية  فيما سبق تهب الفائض من زراعة   الحبوب لديها لدول العالم الثالث ، للتعويض عن نهب ثرواتهم من قبلها ومن قبل العالم الغربي . إلا أنها منذ أكثر من ثلاثة عقود امتنعت عن اتباع هذا النهج طمعاً في المزيد من الأرباح ولو ادى الأمر الى أحراق الفائض من المحصول بحجة اضطرارها الى ذلك من أجل إستقرار الأسعار عالمياً ،  بعد تعويضها على المزراعين بشراء الفائض منهم ومن ثم حرقه .

ماأود أن الخصة في النتيجة هو أن الهدف الزراعي من الأزمة  برفع أسعار المزروعات من خضروات وحبوب وفواكه  كان مؤلماً ومرهقاً على كافة شعوب  العالم دون استثناء خاصة مع إجبار دول العالم على توقيع إتفاقية التجارة العالمية التي زادت من الإضرار بهم لصالح المزارع الأمريكي فقط  .

ومع ذلك فهاقد بدأ المزارع الأمريكي يرفع الصوت مع كساد الإنتاج لديه لكثرة المستثمرين في هذا القطاع  مع إنتقالهم من الصناعة  الى الزراعة أو من المدن إلى الريف دون وضع خطة زراعية تحتوي أي أزمة مرتقبة .‏

(2) Metro, Boulot, Dodo

$
0
0

وعلى الجانب الآخر من الأطلنطى لم تكن الأمور أهدأ، فقد بدأ الشباب فى التظاهر ضد قوانين التجنيد الإجبارى التى كانت تدفع بهم إلى أتون المعارك فى أوحال الغابات الفيتنامية وتعريضهم – فى أفضل الحالات - للأسر الفيتنامى القاسى للغاية فنزل الشباب إلى الشوارع فى تظاهرات غير مسبوقة فى التاريخ الأمريكى الذى لم يكن يعرف التظاهر على الطريقة الأوروبية وكان سلاح الحكومة هو تهمة التخريب ومساعدة الشيوعيين.

وفى أمريكا لم يكن الأمر مجرد ثورة شباب بل صراع مصالح بين منتجى السلاح والمستفيدين من إستمرار الحرب فى فيتنام بكل ما تحمله من عقود كبرى لتوريد سلاح للبنتاجون وبين شباب لا يريد الخروج من التعليم لكى ينضم لصفوف الجيش فى فيتنام أو على أفضل الحالات لكى يدفع ضرائب تستفيد من حصيلتها شركات الأسلحة..

وقد أدت هذه الإحتجاجات إلى تنازل الرئيس جونسون عن ترشيح نفسه لفترة رئاسة جديدة فى إنتخابات عام 1968 ونزل بدلا عنه نائبه هيوبرت همفرى عن الحزب الديموقراطى لمواجهة المرشح الجمهورى ريتشارد نيكسون..

أما فى إنجلترا التى يبدأ فيها عادة كل شىء ومن على أرضها تأتى كل الأفكار فقد وقعت صدمة إنشقاق عدد من كوادر المخابرات البريطانية عن الصف وإنضمامهم إلى الإتحاد السوفيتى حيث تم كشف شبكة جاسوسية سوفيتية داخل المخابرات البريطانية كلهم من المتعلمين فى الجامعات الراقية ممن كان يرجى لهم مستقبل مرموق فى خدمة مؤسسة الدولة وهى قضية بيرجس وفيلبى ورفاقهم، مما أضاف إلى أوجاع المؤسسة الرأسمالية المشتبكة فى حرب باردة مكلفة ضد الإتحاد السوفيتى.. وهذه الفضيحة أعقبتها فضيحة وزير الدفاع البريطانى الذى وقع فى جنون هوى إحدى الموامس وكان يباشر عمله وفتح أوراق الدولة فى مخدعها وهي بدورها كانت صديقة وعميلة لمندوب المخابرات السوفيتية فى لندن مما إضطره للإستقالة، إنه الوزير بروفوميو.. وقد هاجرت تلك المرأة بعد ذلك مباشرة إلى إسرائيل حيث توفت فيها منذ عدة أعوام بعد نهاية الحرب الباردة..

وكل تلك الأحداث هى مما يمكن إدراجه تحت بند الفساد، سواء جنسا أو مالا أو إساءة إستعمال النفوذ..

ولتحليل تلك الثورة ينبغى العودة إلى الجذور الأولى للنظم التى خرجت من رحم الأحداث الجسام التى وقعت فى الحرب العالمية الأولى وأنتجت تلك الأنظمة..

الواقع أن أوروبا عقب كوارث الحرب العالمية الأولى قد إنقسمت إلى معسكرين فكريين كبيرين أحدهما رأسمالى والآخر إشتراكى.. صحيح أن الإشتراكية لم تكن قد طبقت بعد فى أى مكان سوى فى الإتحاد السوفيتى الجديد ولكن أمل البشرية العاطفى كان معلقا بها.. وعلى الجانب الآخر كشفت الحرب عن عدم إكتراث الآلة الرأسمالية الصناعية بالحياة الإنسانية على الإطلاق حيث أن وقائع الحرب دلت على حدوث جرائم من جانب القيادات كانت تستوجب محاكمات رادعة لو أن هناك قانون يصلح لهذا الغرض فى ذلك الوقت.. فالقتال كان يدور بطريقة أقل ما يقال عنها هى أنها مذابح جماعية مقصود بها فقط المجد الشخصى للقادة دون أى إعتبار لحياة الجنود.. وقد كانت الأوامر تصدر مثلا على الجبهة الفرنسية الألمانية بالهجوم على جنود الأعداء وهم متخندقون فى مواقع ثابتة مما جعل من المهاجمين المتحركين المكشوفين صيدا سهلا تحصده بنادق المتمركزين فى الخنادق.. وتلك الجريمة كان يرتكبها القادة من الجانبين..

كما كان دور الشرطة العسكرية فى ذلك الزمان هو الوقوف خلف الصفوف لمنع محاولات الهرب من القتال المتلاحم ولم يكن دورها قتاليا.. وقد روى لى صديق إنجليزى عن جده الذى حارب فى تلك الحرب أن الشرطة كانت تهم بقتل من يحاول الفرار من تلك المحرقة.. والحرب العالمية الأولى كانت ربما آخر الحروب التى كان المتحاربون فيها يرون بعضهم بعضا وينظر كل منهم فى عين عدوه قبل أن يهم بقتله.. وهذه الحرب أنتجت من الأمراض النفسية والتشوهات الجسمانية اكثر مما أنتجته الحرب العالمية الثانية.

كما أن الألمان قد إستعملوا فى هذه الحرب الأسلحة الكيماوية وأهمها الغازات السامة.. وهذه جريمة أخرى..

المهم أن هذه الحرب قد نتج عنها جيل من المحاربين يتسم بالقسوة الشديدة واللامبالاة بالمشاعر الإنسانية حيث أن من رأى هولها وعاش فظائعها يهون عليه بعد ذلك كل أمر..

وتبع الحرب ما تبعها من بلاء إقتصادى وخراب سياسى تمثل فى صراعات بين التيارين الرئيسيين، الإشتراكية التى بدأت تظهر والرأسمالية القديمة التى أعادت تأهيل نفسها وأصبح يطلق عليها الحرية الإقتصادية المدعومة بالديموقراطية.. وفى ظل اليأس من إصلاح الرأسمالية التى عرفها الأوروبيون قبل الحرب الأولى ثم ذاقوا حنضلها خلال تلك الحرب الرهيبة،  ظهرت الفاشية التى كان إسمها فى كل من ألمانيا وإيطاليا الحزب الإشتراكى، أو الإجتماعى، على حسب الترجمة.. وبالطبع لاقت هذه الأحزاب رواجا فى تلك الدول حيث أنها كانت تنهض على برامج سياسية وإقتصادية للدولة فيها باع طويل من المزايا المقدمة للمواطنين من إسكان ورعاية صحية وتعليم وخلافه..

 

وهكذا كان المواطن الأوروبى الذى ذاق المر على يد الرأسمالية العتيدة قد أصبح مستعدا لتقبل الشيطان لو أن الشيطان سيخلصه من سطوة الرأسمالية التى  لم ترحم روحا واحدة خلال الحرب.. ولعل هذا الربط بين الرأسمالية وإستغلالها للطبقات الأخرى ووجود بعض عائلات الرأسمالية الغنية بطريقة مبالغ فيها من اليهود هو ما أدى إلى صعود التيار المعادى لليهود فى وسط أوروبا.. مع أن يهود أوروبا لم يكونوا جميعا من الأغنياء بل كان كثير منهم فقراء يعانون من شظف العيش مثلهم مثل باقى السكان فى أوروبا.. بل أن كثيرين من يهود ألمانيا والنمسا كانوا مطمئنين تماما إلى أن شيئا لن يمسهم فقد كان منهم من حصلوا على نياشين الواجب والأداء المتميز فى قتالهم ضد الأعداء فى الحرب الأولى، مما يجعل المساس بهم باسم الأمة هو من غير المتصور.. ولكن الواقع أن اليهود كانوا هم الأضعف فى السلسلة العرقية التى تعيش فى أوروبا حيث أن من السهل جعلهم كبش الفداء لكثير من الأخطاء المتراكمة عبر القرون..

وهكذا إتجه كثيرون فى أوروبا إلى تصديق الدعاية الفاشية التى تنادى بالسمو العرقى والحق الأعلى فى التسيد على باقى الأجناس واكتسبت الدعوة الفاشية قوة دافعة سريعة قفزت بها إلى مصاف السلطة وجاءت هذه الأحزاب لكى تحكم، دون أن تتخلى عن إسم الأحزاب الإشتراكية عنوانا لها..

وهنا تقع مسئولية المثقفين الأوروبيين من أمثال كورت كيسنجر الذين لم يقفوا وقفة قوية فى وجه تيار الديماجوج ولم يحدوا من إنتشار أفكاره الخطرة، بل بالعكس، كان كثير منهم قد إنضم إليه سواء عن سوء نية ورغبة فى الإستفادة أو فى سبيل بحثهم عن الهوية القومية التى قضت عليها إتفاقية فرساى المجحفة بالخاسرين.. وهذا هو بالضبط إتهام السيدة الشابة للمستشار الألمانى وسبب صفعها له علانية بتلك الطريقة المهينة..

فلما وقعت الواقعة وتمت تصفية ما لا يقل عن 50 أو 60 مليون إنسان فى الحرب الثانية بالإضافة إلى تدمير معظم مدن أوروبا على جانبى خط النار بدأ الناس يدركون عظم الخطأ الذى وقعوا فيه باختيارهم لتلك الأحزاب، حتى أن دساتير الدول الأوروبية حظرت فيما بعد الحرب إنشاء تلك الأحزاب وحرصت على النص على ذلك الحظر صراحة..

وهكذا بدأت الحقبة الديموقراطية التعددية فى أوروبا الغربية التى شاء لها الحظ أن تبقى بعيدة عن منال الدب السوفيتى ذى الأنياب الحديدية كما كان يوصف فى الإعلام الغربى أثناء الحرب الباردة، أولا بفضل مشروع مارشال لإعادة تعمير القارة حتى لا تقع فريسة لهذا الدب، وثانيا بفضل الحماية الأمريكية النووية..

وبذلك تكون الديموقراطية الأوروبية التى بدأت بعد الحرب هى الخيار الثالث أو النظرية الثالثة التى تعرفت عليها بلاد أوروبا بعد فشل كل من الرأسمالية العاتية والإشتراكية الزائفة التى كانت فى واقع أمرها عرقية عدائية دموية لا تعترف بغير نفسها فى هذا العالم..

ولذلك فإن تلك الشعوب بعد أن قهرت مرتين، مرة من الرأسمالية ومرة من الفاشية، إعتقدت أن حل المشاكل يكمن فى الديموقراطية الجديدة والتى سوف تجعل من كل إنسان إنسانا بحق وليس مجرد أداة فى يد الحكام أو أصحاب المال كما كان الحال فى التجربتين السابقتين..

ولعل هذا هو أفضل التفسيرات لرد فعل الشباب العنيف على أحداث الستينات حيث أنهم لم يردوا أن يعيشوا ما عاشه آباؤهم من تجارب قاسية تهلك الإنسان وتحطم العمران.. فرد الفعل جاء مساويا لحجم الأمل المعقود على الديموقراطية، هائلا، حتى لا تفشل التجربة وظهر يومها شعار حتى لا نكرر ما كان وشعار نحن لا ننسى وشعار إحرصوا من البدايات وكلها تصب فى نفس هذه العقلية الحريصة على عدم التكرار..

ولم يكن هناك أسهل من العثور على الهدف الذى لابد من ضربه والإجهاز عليه حتى تكتمل التجربة الديموقراطية، إنهم الكبار الذين لم يتعلموا ويريدون الحفاظ على نظم بالية ثبت تسببها فى وقوع كارثة النازية..

ولذلك إحتاجت تلك المجتمعات فترة بين 1945 و1968 لكى ينمو جيل جديد لا يعترف بسلطة الحكم الأبوي patriarchal  الذى كان قائما لمئات السنين قبلها والذى أدى الخضوع له إلى كل تلك الأهوال.

 

أوباما و«الدولة الإسلامية» والصين والسعودية من منظار جيو ـ سياسي

$
0
0

ينشغل سكان مناطق الأزمات المشتعلة بأمنهم الشخصي والخوف على المستقبل ـ وهو أمر طبيعي ومشروع - فيما ينبري المحللون المحليون لمحاولة استنباط مواقف الأطراف المتصارعة أو الإضاءة على خلفياتها الطائفية والعرقية. ولكن الصورة تبدو مختلفة نوعاً ما من زاوية نظر القوى الإقليمية للأزمة ذاتها؛ حيث تهتم تلك القوى أساساً بتأثير الأزمة على مداها الحيوي وتأثيرها الإيجابي والسلبي على تحالفاتها في منطقة الصراع، وأخيراً بانعكاس هذا الصراع أو ذاك على وزنها النسبي في مقابل منافسيها الإقليميين. أما من منظار القوى العظمى، فللأزمات تقدير أوسع ومغاير بالكلية. تنهمك القوى العظمى بتقدير أوزان الصراعات الإقليمية وأولوياتها على الأجندة العالمية، فضلاً عن استجلاء تأثيراتها الكامنة على علاقاتها بالأقطاب المنافسة. بمعنى أنه بعد التنافس مع الأقطاب الدولية ومصالحها يظل حاضراً في ذهن الجالس بالمكتب البيضاوي بالبيت الأبيض وفي مخيلة مستشاريه للأمن القومي، عند التعامل مع الأزمات الإقليمية. لتبسيط ذلك يمكنك تخيل وقت قراءة هذه السطور، «الخليفة» أبو بكر البغدادي جالساً ليرى خريطة تمدد تنظيمه بين الرقة والموصل، ويشاور معاونيه في كيفية استمالة وتحييد أو حتى تصفية معارضيه من عشائر بادية الشام الممتدة تاريخياً من الرقة إلى الموصل، في الوقت ذاته الذي ينظر فيه كل من الرئيس رجب طيب أردوغان والملك عبد الله بن عبد العزيز والمرشد السيد علي خامنئي إلى الصراع مع «داعش» على خلفية الأخطار المحتملة والمكاسب الممكنة للطرفين المنافسين الآخرين. في الوقت عينه سينظر أوباما بوصفه رئيساً للقوة الأعظم في العالم فيه إلى الصراع من منظار أوسع كثيراً بحيث تشتمل نظرته على المنافسة الجيو-اقتصادية مع الصين على كامل خريطة العالم.

أميركا في مواجهة الصين وبينهما «داعش»

حتى لا يذهب ظنك بعيداً، الصين ليست حليفة لتنظيم «داعش» من تحت الطاولة، ولا تتوافر عند كاتب السطور معلومات تفيد ذلك من أي نوع. لكنّ هناك ارتباطا مصلحيا موضوعيا بين «داعش» والصين و«داعش» وروسيا. تتواجه الأخيرة مع حلف «الناتو» في أوكرانيا، وبالتالي يهمها تشتيت الانتباه الأميركي على منطقتين جغرافيتين بعيدتين نسبياً، ما يربك الحسابات الأميركية. و«داعش» لها مصلحة في تفاقم أزمة حلف الناتو وروسيا حول أوكرانيا، لتشتيت انتباه الحلف عنها. أي أن تزامن الأزمتين الأوكرانية و«الداعشية» يخلق مصلحة غير مباشرة بين طرفين لا رابط مباشراً في ما بينهما، إذ إن روسيا تعادي «داعش» وتتخوف من انتقالها إلى حدودها منطقياً. الشيء ذاته ينطبق على علاقة «داعش» والصين، فالأخيرة تعاني من عدم تناغم مواطنيها من قومية الأويغور المسلمة مع الدولة الصينية، ولا ترى أي تعاطف مع تيارات الإسلام السياسي، وخاصة الجهادية التكفيرية منها مثل «داعش». ولكن في حال إخفاق واشنطن في التعامل مع التنظيم التكفيري، وبالتالي الفشل في إعادة ترتيب المشرق العربي وفقاً لمصالحها، سيعد ذلك خبراً ساراً لبكين بالمنطق المجرد. فمن المعلوم بالضرورة أن أميركا مهتمة بمواجهة العملاق الاقتصادي الصيني الصاعد ومنعه من امتلاك الموارد الطبيعية ـ وبضمنها النفط والغاز - اللازمة لاستمرار نسبة نموّه الاقتصادي العالية (حوالي تسعة في المئة سنوياً). من منظار جيو-سياسي، تملك الصين القدرة النظرية على تحدي أميركا اقتصادياً وإنزالها من المرتبة الرقم واحد في الاقتصاد العالمي إذا استمرت في نسبة نموّها الاقتصادي المرتفعة، فيما تحوز روسيا قدرة محدودة للغاية اقتصادياً على ذلك، بينما لديها قدرة فعلية على التمدد في جوارها الجغرافي وحالة أوكرانيا مثالها الأوضح. قواعد اللعب مع روسيا في الأوراسيا معروفة وشكلت الأساس لعلم الجيوبوليتيك الكوني منذ قرن على الأقل. والإجراءات في مواجهة تحدي روسيا النووية أسهل نسبياً من تلك في مواجهة الصين، التي لا تتمدد عسكرياً في جوارها الجغرافي ولا تهدد بالسلاح، بل بما هو أخطر - من المنظار الأميركي - أي بالسيطرة على حصة كبيرة من الموارد الطبيعية الكونية.

الخرائط الجديدة للمنطقة

يعاني الشرق الأوسط، الغني بموارد الطاقة والواقع على مفترق الطرق بين القارات، منذ سنوات من سيولة حدودية وانفجار هوياتي وطفور لكيانات غير دولتية متعددة المشارب، بالتوازي مع إخفاق شامل لدوله الوطنية في القيام بأبسط واجباتها، وبالتالي تصبح مسألة ترسيم الحدود من جديد أمراً مرجحاً بفعل الصراع والمصالح والتدافع بين الأطراف. وكان أوباما قد تحدث عن خرائط الشرق الأوسط القائمة منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى بطريقة مواربة قبل شهر واحد في مقابلته المتلفزة الطويلة مع الصحافي الأميركي الشهير توماس فريدمان. وتأسيساً على النظرة الكونية لصانع القرار في القطب الدولي الأوحد راهناً، تبدو الطبقة الأعمق لما يجري في المشرق العربي من منظار أوباما، متمثلة في ضرورة منع الصين من النفاذ إلى موارد المنطقة، حتى لو تطلب الأمر إشعالا محدودا للمنطقة على خلفية الصراعات المحلية والإقليمية الممتدة وضبطها على قياس الرغبة الأميركية تلك. فإذا كانت العشائر العربية في بادية الشام قد تعرضت لمظالم تاريخية وجغرافية واقتصادية وثقافية وطائفية، بما سهّل ظهور تنظيم تكفيري مسلح يخربط الأوراق ويشكل فتيل الإشعال للانفجار الحاصل مثلما هو الحال الآن، يكون الأوفق أميركياً استخدام هذه الظاهرة لمنع الصين من الحلول محل أميركا في هذه المنطقة وتوجيهها في مسارات تخدم ذلك الهدف، وليس بالضرورة تدمير هذا التنظيم حتى ولو اقترف ما اقترف بحق مواطنين أميركيين. وبالتالي سيسمح الحريق في المنطقة و«التحالف الدولي» في مواجهته، بانتقال مركز الثقل الأميركي في مواجهة الصين إلى عقر دارها في نصف الكرة الأرضية الشرقي، وبمحاولة بناء اصطفاف إقليمي عسكري - اقتصادي هناك في مواجهة الصين قوامه اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان من الشرق، وربما تطعيمه بأستراليا من أقصى الجنوب بالتوازي مع تركيز القوة البحرية الأميركية في المحيط الباسيفيكي، مجال الصين البحري الحيوي.

التحالف الدولي في مواجهة «داعش»

يزداد التقدير السابق وضوحاً مع ملاحظة تصريحات أوباما، في مقابلته المتلفزة في قمة حلف الناتو التي عقدت في ويلز قبل أيام قليلة، فصرح بأن هناك اعترافاً من الدول الأعضاء بضرورة القيام بأعمال ضد التنظيم، معتبراً أن المفتاح لذلك هو التشاور مع اللاعبين الإقليميين في الشرق الأوسط، وخصوصا الدول ذات الغالبية السنية، مضيفاً أن منظمة مثل «داعش» لا يمكن احتواؤها، ولذلك فالهدف يجب أن يكون تفكيكها. وأكد أوباما أنه لا قوات برية أميركية ستتمركز في سوريا، بل شركاء محليون فاعلون مثل التحالف المعتدل الذي يمكن مساعدته في حربه ضد «داعش». بعيداً عن الحرفية في اختيار الألفاظ مثل «تفكيك» لا «تدمير»، لا تبدو أميركا ـ بوضوح - في وارد إرسال قوات برية إلى سوريا أو العراق، ما يعني أن تنظيم «داعش» سيبقى بشكل أو بآخر بعد ضربات جوية محتملة، في إطار همروجة دولية الأرجح أن تستمر خلال الشهور المقبلة.

أيام صعبة في الرياض

لم يخف على أحد أن تصريح أوباما عن «الدول السنية الحليفة» يعني السعودية في المقام الأول، التي سيكون عليها المشاركة ولو رمزياً في التحالف الذي تريد واشنطن خلقه ليتواجه مع «داعش» في حدود الرغبات والمصالح الأميركية. لكن هذه المشاركة ستختلف كثيراً عن مشاركتها العسكرية الرمزية والمالية الفعلية في حرب تحرير الكويت 1991، حيث كان الهدف واضحاً من البداية ومحدداً برقعة جغرافية معلومة هي حدود دولة الكويت، أما الآن فالهدف يبدو ضبابياً وغائماً ومعلقاً في رقبة تعبيرات مطاطة مثل «تفكيك» التنظيم. على مستوى آخر، تعي الرياض ـ على الأرجح - أن «داعش» تمثل بالمعنى الجيو-سياسي الأوسع المادة اللاصقة لتحالف متضارب المصالح والرغبات، والأداة الممتازة لتفجير تناقضات المنطقة بما يسمح في النهاية بإخراج الخرائط الجديدة للمشرق العربي التي ستؤثر عليها حكماً.
ويزداد المأزق السعودي صعوبة عند ملاحظة أن رفض المشاركة في التحالف الدولي سيؤدي إلى إخلاء الطريق كلية أمام منافستيها الإقليميتين إيران وتركيا، لمشاركة الغرب في تقرير مصير الخرائط الجديدة للمشرق العربي. وحتى إذا شاركت السعودية في التحالف الدولي المبتغى أميركياً، فلا تتوافر لها أي ضمانات لحدود أدوارها في العراق وسوريا بعد انتهاء العمليات العسكرية، ولا حتى مؤشرات طمأنة من واشنطن لحدود الأدوار الإيرانية والتركية في هذا التحالف الدولي، ناهيك عن الرقعة الفعلية للعمليات العسكرية المرتقبة. إنها حقاً أيام صعبة في الرياض الآن.

توينبي:"الغرب أكبر مغتصب في العصور الحديثة"

$
0
0

هذا ما يؤكده صراحة أحد فلاسفة علم التاريخ العالميين، الذي  يعتبر واحداً من أكبر وأشهر مفكري القرن العشرين، وهو المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي، A.Toynbee مؤلف الموسوعة التاريخية المشهورة"دراسة في التاريخ" Study of History   في13 مجلدا.  كما أود أن أوجز موقفه إزاء القضية الفلسطينية في كتابه المرموق هذا، حيث يهاجم تصرفات السلطات الصهيونية التي تستخدم نفس الوسائل التي كانت تستعملها السلطات النازية ضد اليهود أنفسهم. قال ذلك قبل قرابة خمسين عام، تـُرى ماذا سيقول عن الأعمال التي ترتكبها إسرائيل اليوم لو كان حياً !؟

ونقـتبس شيئا مما قاله، على رؤوس الملأ،  في أحد أهم المنابر العالمية البارزة في عام 1960، وهو إذاعة الـ    BBC، ثم وضعه في كتاب أسماه "العالم والغرب". قال في هذا الكتاب:"إن العالم هو الذي تحَمّـل طفرات الغرب الرهيـبة، وليس العكس. وأن على الإنسان الغربي أن يحاول الخروج من غربيته، فينظر إلى الصراع بين العالم والغرب نظرة غير الغربيين، الذين يشكلون أكثرية البشرية، الذين يرون، على اختلاف مللهم ونـِحَـلهم، أن الغرب كان أكبر مغتصب في العصور الحديثة. ويضيف:"إن الحكم الذي أصدره العالم على الغرب له ما يبرره بالطبع". ويرى أن على الغرب أن يتحمل اليوم من العالم"ما كان العالم  يتحمله من الغرب منذ القرن السادس عشر".(ص12 الترجمة العربية)

ويقول، في مواضع مختلفة أخرى، أن على البلدان النامية أن تواجه الغرب بنفس أسلحته. ويقصد بها، في المقام الأول، العلم والتكنولوجيا،أي الفكر والإبداع  والمعارف، التي تبني أسس صرح التقدم الحضاري المادي والمعنوي. وهذا مابحثته بتفصيل مُعَمَّق في كتابي الجديد، قيد الطباعة، تحت عنوان"الأمة العربية بين الثورة والانقراض"، ولاسيما في فصله الأول تحت عنوان"الثورة العلمية والتكنولجية؛ نعمة أم نقمة؟"

الحرب العالمية الأولي (1)

$
0
0

الحرب العالمية الأولي

 

يحتفل  العالم هذا العام وبالذات هذا الصيف بالذكرى المئوية الأولي لاندلاع الحرب العالمية الأولي التي غيرت وجه العالم إلى غير رجعة وجاءت بنظم لم يكن العالم يعرفها وأجهزت على نظم كان العالم قد ألفها لمئات السنين من قبل..

ما هي قصة هذه الحرب ولماذا إندلعت بهذه الطريقة المتسارعة بحيث لم يكن فى مقدور أي جهة فى أى من الدول المتحاربة أن توقفها؟

 

انظر الي جيدا، فأنت ربما تشاهد آخر واحد من جيل أبناء المدرسة الأوروبية القديمة في السياسة والحكم.

الإمبراطور فرانس جوزيف إمبراطور النمسا في حديثه لأحد الصحفيين قبل اندلاع الحرب بعدة سنوات.

 

ان ما تفعلونه انتم هنا هو نفس ما أقوم به انا وتحت نفس المعاناة، والفرق فقط هو أنكم في المصانع وانا في القصر!!

من خطاب للقيصر فيلهلم الثاني قيصر ألمانيا في حديثه الي عمال أحد مصانع السلاح في منطقة الرور غرب ألمانيا.

 

هذا هو قدرنا نحن من اختارنا الله لكي نحكم باسمه ونحمل مسئولية التوجيه والتقرير للآخرين ممن لا يحملون صفاتنا المتميزة..

من أقوال القيصر فيلهلم إمبراطور ألمانيا (ويللي) في حديثه مع (نيكي) ابن خالته القيصر نيكولا الثاني قيصر روسيا.

 

هأنذا أبرئكم من إلتزامكم تجاهي كملك شرعي عليكم، ولكن ماذا ستفعلون فى إلتزامكم أمام الله بالدفاع عن أرضنا المقدسة؟ هو إلتزام لا أملك أن أبرئكم منه.!!

من أقوال الملك بيتر الأول ملك صربيا فى خطابه للجنود على الجبهة..

DECADENCE

 

هي كلمة لم أستطع أن أجد لها مقابلا دقيقا في اللغة العربية. فهو ليس بالضبط انحطاط كما يقول القاموس، ولكنه أيضا نوع من الانعزال عن الحقيقة وإنكار الواقع‏ بسبب التعالي والغرور.. وبالتالي فقدان الارتباط بادراك وقع الزمان، أي أنه "من فات زمنه"أو قل من أصابه العفن،  لو صح هذا التعبير..

أنه اللفظ الذي يستعمله اليسار العربي منذ عقود حين يتحدث عن القيادات من التيارات الأخري، حيث يسميها العفنة، وأظن أن هذه هي الترجمة الادق

لقد قامت الحرب العالمية الأولى بسبب تعفن وتعافن الصفوة في كل من ألمانيا وروسيا والنمسا وفرنسا وطبعا إنجلترا والدولة العثمانية..

وتعفن الصفوة هو ظاهرة خطيرة جدا جدا وهي كالوباء المبيد، ان  ظهرت‏ لابد من التطهير الشامل الكامل..لا. بل هو سرطان ويعالج بحقن الكيماوي الذي يهاجم خلايا الجسم نفسه حتي السليم منها..

فعدد ضحايا الحروب من أحاد الناس يفوق بآلاف المرات عدد ضحاياها من أفراد الصفوة العفنة، رغم أن هؤلاء هم  سبب قيام الحرب. 

والمعلومة العامة التي يعرفها الجميع هي أن هذه الحرب العظمي قد بدأت بحادثة إغتيال فى مدينة سراييفو عاصمة إقليم البوسنة والهرسك فى نهاية شهر يونيو عام 1914 وراح ضحيتها الأمير فرانس فرديناند ولي عهد إمبراطورية النمسا وزوجته. ولكن هذا الحادث على هوله لا يبرر هذه الحرب التي ضلعت فيها جميع الدول الأوروبية وانتهت بمأساة إنسانية مروعة قتل فيها ملا لا يقل عن 12 مليون شخص وأجهزت على حياة 4 إمبراطوريات كبيرة وتسببت فى ثورة شيوعية. فالحادث فى سراييفو لم يكن إلا شرارة صغيرة اشعلت برميل كبير من البارود كانت أوروبا تقف على فوهته منذ ما يقرب من 30 عاما قبل وقوعه بحيث أن الأحداث كانت تتصاعد تراكميا حتي لحظة الإغتيال.

 

يتعلق الأمر كما هو الحال دائما بالمصالح الإقتصادية وأنصبة الدول المختلفة من سوق التجارة العالمية. وقد أدي ظهور دولة ألمانية كبيرة فى عام 1871 تضم أكبر تعداد سكاني فى وسط أوروبا وتربط بين ساحل بحر الشمال وجبال الألب، أدي ظهور هذا الكائن الإقتصادي الصناعي العسكري الجديد إلى إختلال الموازين التي إعتاد الأوروبيون على وجودها. فقد كانت المسألة الألمانية دائما أمرا يتم التلاعب عليه بين كل من روسيا وفرنسا وإنجلترا وفى بعض الأحيان النمسا. أما عقب قيام الدولة الألمانية الجديدة فقد أصبحت النمسا دولة صغيرة تتواري خجلا أمام المارد الجديد وأصبحت فرنسا تشعر بوطأة جيرة هذا المارد الذى لم ينشأ كدولة كبري إلا على أنقاض الكرامة العسكرية الفرنسية فى معركة كانت مهينة لفرنسا عام 1870. بل وإمعانا فى إذلال فرنسا إختار المستشار الحديدي بسمارك أن يتم الإعلان الرسمي عن قيام الدولة الألمانية الجديدة من داخل قصر فرساي وأن ينادي بالقيصر فيلهلم الأول قيصرا على ألمانيا من هذا القصر وسط مجاعة تفتك بالشعب الفرنسي خارج القصر..

وكانت إيطاليا أسبق من ألمانيا إلي تحقيق وحدتها السياسية بعقد كامل من الزمان وذلك عقب هزيمة ساحقة مهينة للدولة النمساوية فى معركة سولفرينو عام 1859.

وهذان الإنتصاران القوميان لابد وأنهما كانا ذا أثر عظيم فى إذكاء الروح القومية في عديد من أركان الأرض. والحركة القومية عاشت أزهي عصورها فى القرن التاسع عشر عندما بدأت الشعوب تدرك أن هناك ما يربط بين أفرادها أكثر من المصالح الإقتصادية، اللغة والدين والثقافة المشتركة.

وكانت الحياة السياسية والفكرية فى أوروبا قد تأثرت بشدة قبل ذلك بفعل حرب الإستقلال اليونانية عن تركيا فى عشرينات القرن التاسع عشر وهي الحرب التي كان الأوروبيون يرون في خوضها واجبا مقدسا حتي أن كثيرا من الأدباء والكتاب كانوا متحمسين للغاية لتأييد اليونان ضد الدولة العثمانية التي كانت تستخدم أيضا الجيش المصري الذى أرسله محمد على لمساندة تركيا ولكنه لاقي نفس مصير الجيش التركي وهزم الإثنان وخرجت اليونان منتصرة عسكريا وفازت باستقلالها سياسيا وجاءوا لها بأمير أوروبي من الدنمارك لكي يحكمها كملك. وهذه الحركة الإستقلالية التي كان أساسها قوميا ساهمت بالتأكيد فى رفع الروح القومية بين جميع شعوب أوروبا وخصوصا أن لليونان مركز ممتاز فى الفكر الأوروبي بسبب الحضارة الإغريقية القديمة وتأثيرها الهائل على الحضارة الأوروبية الحديثة.

وقد حارب الشاعر البريطاني اللورد بايرون فى هذه الحرب ضد الأتراك وفقد فيها حياته وهو أمر يظهر أهمية الشعور القومي فى تلك الفترة فى الفكر الأوروبي، بل والسياسي عموما فى كل العالم فلبقرن التاسع عشر يمكن بحق أن يطلق عليه المرء قرن الفكرة القومية.


موزة معدّلة جينيّاً تحدث ثورة غذائية في الدول الفقيرة

$
0
0

 

 

الأرجح أن تحدث ثمرة معدّلة وراثياً، في حال الموافقة على زراعتها على نطاق واسع وكثيف، ثورة في مجال صحة الطفل في معظم  الدول الناميّة. ليست تلك الثمرة سوى نوع من الموز، جرى تعديله وراثيّاً بطريقة تجعله قادراً على دعم صحة الإنسان، خصوصاً الأطفال.

من المزمع إجراء أول اختبار للموز المعدّل وراثياً على البشر في الولايات المتحدة، بعد تزويده بمغذيات دقيقة، في وقت لاحق من العام الجاري. ويهدف الاختبار إلى امتحان قدرة ذلك الموز على محاربة نقص الفيتامين "أ" VITAMIN A. ويعتبر النقص الكبير في فيتامين "أ"سبب رئيسي لوفاة الرُضّع وإصابتهم بالعمى في عدد كبير من الدول الفقيرة والنامية.

"يولّد نقص الفيتامين "أ"عواقب وخيمة، خصوصاً عندما يكون النقص كبيراً. ويتسبب النقص الشديد في فيتامين "أ"بوفاة ما يتراوح بين 650 ألف و700 ألف طفل عالميّاً. ويؤدي النقص المديد في فيتامين "أ"إلى فقدان نظر قرابة 300 ألف طفل سنوياً"، وفق ما أدلى به البروفسور جيمس ديل، وهو أستاذ في "جامعة كوينزلاند للتكنولوجيا"في أستراليا، إلى وسائل إعلام علميّة أخيراً. ويتولى ديل قيادة مشروع تعديل جيني للموز يؤدّي إلى زيادة محتوياته من فيتامين "أ".

من المتوقع أن تظهر نتائج الاختبار، الذي يستغرق ستة أشهر ويلقى دعماً من مؤسسة "بيل وميليندا غيتس"، في مطالع العام المقبل. ومن المُزمع زراعة ذلك النوع من الموز في أوغندا بحلول العام 2020. 

والواقع أنّ الموز الأوغندي التقليدي يغطّي الحاجات الرئيسية في شرق أفريقيا، لكنّه يعاني من نقص واضح في مستويات المغذيّات فيه، خصوصاً الحديد وفيتامين "أ".

وفي ذلك الصدد، أشار ديل إلى أن العلوم المفيدة تستيطع إحداث فارق كبير جداً في بلدان شرق أفريقيا، مع تزويد المحاصيل الأساسية، مثل موز أوغندا، بفيتامين "أ"، ما يوفّر أطعمة مفيدة للسكان الفقراء الذين يعتمدون على زراعة نباتات أساسيّة يتغذّون عليها.   

وزوّد الباحثون بعض نباتات أساسيّة في أوغندا، بمادتي "آلفا كاروتين"و"بيتا كاروتين"، وهما مادّتان يحولّهما الجسم إلى فيتامين "أ". وفي حال التوسّع في زراعة تلك الأنواع، فإنها مرشحة لأن تقدّم حلاً سهلاً لمشكلة تلحق الضرر بالبلاد.

وبديهي القول بأنه من الممكن تطبيق التعديل المذكور على محاصيل آخرى، من بينها الموز. وفي حال الموافقة على زراعة الموز المُعدّل وراثيّاً في أوغندا، فلربما يجري تعديل محاصيل أساسية اخرى في رواندا، وتنزانيا، وكينيا، كي تصبح أكثر ثراءً بالمغذيّات والفيتامينات.

 

وعلّق البروفسور ديل على ذلك الاحتمال مشيراً إلى أن مزارعي غرب إفريقيا يستنبتون موزاً يحمل إسم "بلانتين"، وهو نوع يسهل إدخال تعديل وراثي عليه لزيادة محتوياته من الحديد والفيتامين "أ". 

الأداء الرياضي في ميزان الجنس والـ"تستستيرون"الذكوري

$
0
0

 

 

 

أدرج كثيرون ذلك الأمر ضمن أحوال الهوس وضروب الجنون التي رافقت مجريات كأس العالم لكرة القدم "برازيل- 2014". ففي سياق تلك المنافسة، اندلع نقاش يمزج بين العلم والشهوات عبر سؤال عن علاقة الأداء الرياضي بممارسة الجنس.

 ورفع بعض مدربو فرق كرة القدم شعار عدم المجازفة بالجسد وطاقته، في خضم خوض مسابقة رياضية حاسمة. وفيما سمح مدربون آخرون للاعبين بممارسة الجنس قبل يوم المباراة، بدت الآراء متعارضة في ذلك الخصوص.

 وتنبع أبرز المخاوف المرتبطة بتلك الممارسة من نقطتين: أولهما أن الجُماع ربما يولّد شعوراً بالتعب والضعف لدى اللاعب، وتستند الثانية إلى احتمال حدوث تأثير معنوي لذلك الأمر.
وفي المقابل، تظهر معظم الدراسات العلميّة أن النقطة الأولى مجرد وهم، فيما تفاوتت الآراء حيال النقطة الثانيّة.
                                                                                                          
إذ يعتقد عديد من المدربين والرياضيين بأن الامتناع عن ممارسة الجنس يزيد من حدّة العدوانيّة، وهو اعتقاد يتجذر ربما من الحضارات القديمة كالإغريقيين، الذين كانوا يعتقدون أن الرجال يستمدون قوتهم من حالتهم جنسيّاً.
ويتسع نطاق انتشار هذه النظرية لدرجة أن الملاكم الأسطوري محمد علي كلاي كان يرفض إقامة علاقة جنسية لفترة تسبق موعد الملاكمة بستة أسابيع، خشيةً من يؤثر الأمر على طاقته أثناء المباريات.  
ولكن، ثمة كثير من المعطيات تدفع إلى الاعتقاد بأن العكس هو الصحيح. إذ أظهرت دراسات كثيرة أن مستوى الهرمون الذكوري ("تستستيرون" Testosterone) ترتفع في الدم بعد الجُماع.
 
وفي حديث نشرته مجلة "ناشيونال جيوغرافيك"أخيراً، صرّح البروفسور إيمانويلي أ. جانيني من جامعة "لاكويلا"الإيطالية، وهو اختصاصي في تأثير الجنس على الأداء الرياضي، بأن مرور 3 أشهر خالية من النشاط الجنسي، وهو أمر ليس مستبعداً بالنسبة إلى بعض الرياضيين، يؤدي إلى انحدر مستوى الـ"تستستيرون"بصورة حادة ليبلغ مستويات شبيهة بتلك التي توجد في أجسام الأطفال. وطرح جانيني سؤالاً استنكاريّاً عن مدى فائدة ذلك الانخفاض بالنسبة إلى ملاكم ربما كان بحاجة إلى مستويات مرتفعة من العدوانية كي تحفّز أداءه بدنيّاً ومعنويّاً أثناء المنازلة.
بمعنى آخر، يستطيع الجنس بالفعل تعزيز الأداء عبر ضخّ كميّات كبيرة من الـ"تستستيرون"في الجسم.
 
سؤال عن الجانب النفسي
 
في المقابل، يشدّد جانيني على أن الجنس لا يرهق الرياضيين. إذ لا تحرق تلك الممارسة سوى كمية قليلة من السعرات الحراريّة، تعادل تلك التي ينفقها الإنسان أثناء صعوده طابقين على السلالم. ولا يعتبر ذلك الجهد أمراً مرهقاً بالنسبة إلى رياضي متمكّن. كذلك لفت جانيني إلى أن دراسات حديثة بيّنت مرّة اخرى، أن ممارسة الجنس ليلة خوض مباراة لا ينعكس على قوة اللاعب أو أدائه البدني.     
 
في المقابل، يصعب تأكيد للجماع تأثير نفسي على لاعبي كرة القدم، لكن هناك خبراء يشدّدون على أن تأثيره ربما يكون إيجابياً. وفي العام 2000، صدرت دراسة تضمّنت مراجعة مدقّقة لـ31 دراسة حول الجنس والرياضة. ونشرت الدراسة في "الجريدة السريرية للطب الرياضي"Clinical Journal of Sports Medicine تحت عنوان "هل يؤدّي الجنس  ليلة المباراة إلى تراجع الأداء"؟ ولفتت الدراسة إلى أن الجماع ليلة المباريات تساهم في تخفيف التوتر النفسي للاعبين، وتعطيهم شعوراً بالاسترخاء. ولفتت الدراسة إلى أن بعض الخبراء يؤكدون أن عمليات الفوز التي شهدتها دورات سابقة من كأس العالم تثبت فوائد الجنس.
وفي سياق مشابِه، نقل موقع "سي آن آن"عن خوان كارلوس ميدينا، المنسّق العام لقسم الرياضة في "معهد مونتيري للتكنولوجيا"في المكسيك، أن أداء الفريق الوطني الهولندي في كأس العالم 1978، الذي استضافت فعالياته الأرجنتين، أعطى مثالاً عن التأثير النفسي الإيجابي للجنس. إذ اصطحب بعض أعضاء ذلك الفريق زوجاتهم، وفازوا بالمرتبة الثانية. وأعرب عن اعتقاده بأن الجنس ليلة المباريات لا يمثّل عنصراً حاسماً، لكنه يقدّم بعض الدعم النفسي للاعبين.  
 
وأردف ميدينا قائلاً: "حتى بيليه اعترف أنه لم يعلّق حياته الجنسية قبل المباريات إطلاقاً. ويقصد من ذلك أن ما يُقال حول قدرة الجنس على المساعدة في الاسترخاء حقيقة مثبتة".
                                                                                                          
في نهاية الأمر، يبدو أن تأثر عواطف اللاعبين بممارسة الجنس قبيل المباريات، هو أمر يتفاوت من لاعب إلى آخر. إذ يعتبره البعض راحة، فيما يراه آخرون إلهاءً بل أن بعض هؤلاء قالوا أن ذلك الأمر أبقاهم مستيقظين طوال الليل!

في ذكرى أحداث سبتمبر المأساوية - ذكريات شاهد عيان: مؤلمة ومُلْهِمَة

$
0
0

عندما يقرأ المرء ويتمعن في أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، تعتريه شكوك كثيرة وتساؤلات متعددة. ولا ندري إلى أي حد سنعرف الحقيقة الغائبة. ومن هذه  الادعاءات أو الروايات  نذكر:

-        

في 24 يوليو2001قام رجل أعمال يهودياسمه لاري سيلفرشتاينباستئجار برجي التجارة من مدينة نيويوركلمدة 99 سنة بموجب عقد قيمته 3.2 مليار دولار. وتضمن عقد الإيجار بوليصة تأمينبقيمة 3.5 مليار دولار تدفع له في حالة حصول أي هجمة إرهابية على البرجين. وقد تقدم بطلب المبلغ مضاعفا باعتبار أن هجوم كل طائرةهو هجمة إرهابية منفصلة. وأستمر سيلفرشتاين بدفع الإيجار بعد الهجمات. وضمن بذلك حق تطوير الموقع وعمليات الإنشاءات التي ستتم مكان البرجين القديمين.

-  

في سبتمبر 2000وقبل تسلم إدارة جورج دبليو بوشظهر تقرير أعدته مجموعة فكرية تعمل في مشروع القرن الأمريكي الجديد، كان أبرز المساهمين بها: ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، جيب بوش، باول ولفووتز، وسمي هذا التقرير إعادة بناء دفاعات أمريكا، ورد فيه أن عملية التغيير المطلوبة ستكون بطيئة جدا بغياب أحداث كارثية جوهرية بحجم كارثة بيرل هاربر

-  

لم يظهر أي جزء كبير كذيل أو أجزاء جناح من الطائرةالتي صدمت مبنىالبنتاغون. الرواية الرسمية تقول إن حرارة الاحتراق بخرت الطائرة. وعلى الرغم من تبخر معدن الطائرة، تم التعرف على 184شخص من أصل 189 شخص قتلوا، منهم 64 شخصا كانوا على متن الطائرةالتي تبخرت بسبب الحرارة. مع مراعاة أن محركات الطائرة، التي تبخرت تزن 12 طنا من مادة التيتانيومذات درجة الانصهار المرتفعة.

-        

كان هناك خمسة إسرائيليينيصورون البرجين المحترقين، وهم يتضاحكون، وقد أعتقلوا ولكن أطلق سراحهم بعد72 ساعة. وقد سمعتُ بذلك من بعض الأخبار يوم الحادث أو بعده،  كما أتذكر، ثم أختفى الخبر.

-        

 تحدث الناجون عن انفجارات كانت تحدث داخل الأبراج  إلا أن التحقيق الرسمي تجاهل ذلك.

-        

لم يسقط البرجان الرئيسيان فقط بل سقط برج التجارة رقم 7، والذي يحوي مقر السي أي آيه والخدمات السرية ، بعد عدة ساعات، بدون تفسير منطقي، وإتضح أنه مملوك بالكامل للاري سيلفرشتاينالذي كان قد استأجر باقي الأبراج. وجميع البنايات المحيطة بالبرج السابع لم تتأثر. بل حتى لم يسقط زجاجها.(جميع هذه المعلومات مقتبسة من "ويكيبيديا"التي وثــــّـَـــقت كل معلومة، أي أشارت إلى مصادر هذه المعلومات ). 

الصباح الذي غير وجه العالم

في صباح  ذلك اليوم المشرق الجميل، كنت، أتـناول الإفطار، في حديقة المنزل، المُطلــَّة على نهر الهدسن العريض، مع زوجتي التي استيقظتْ في وقت مبكر، على غير عادتها( قبل الثامنة صباحاً). وفي الضفة الثانية للنهر، تنتصب أمامنا نيويورك، مدينة المال والآمال، والأعمال والجَمال، بكل عظمتها وبهائها: غابة هائلة من ناطحات السحاب الجبّارة، تتحدى العلاء والفضاء، يتوسطها اثنان من أعلى وأهم الصروح في العالم، هما برجا "مركز التجارة العالمي( 110 طوابق) وإمباير ستيت، (102 من الطوابق).

وبينما كنت أحتسي قهوتي المفضلة، وبعد أن قمت بواجبي في إطراء طعام الإفطار اللذيذ الذي قامت زوجتي بإعداده بنفسها، قلت لها، مُداعباً ومعاكِساً نومها الصباحي  الطويل المعتاد :"هل لاحظت ِ، يا حبيبتي، أن الطوابق العليا من  برجي "مركز التجارة العالميّ"،  أولُ من يستقبل طلائع الفجر الرائعة، حين تُتوجها خيوط الأنوار الملونة، بألوان قوس قزح الرائقة، فتشتعلقِمَمِها العالية، متألقة في الصباح الباكر!!؟". فـَهـِمَـتْ زوجتي الدُعابة وأدركتْ النقد الـمـُـبطن، فأجابت، بابتسامة مُـتحدية :"أترك لك مُـتعة مراقبة "نجوم الصباح"ثم "خيوط  أنوار الفجر"، التي تعانق ناطحات سحاب نيويورك، وتـُشعل قممها السامقة، مقابل أن تتركني محتفظة باللقب العربي الجميل، الذي أطلقـْـته عليّ ، بسبب  كسلي الصباحي اللذيذ، وهو "نؤوم الضحى"(قالتها بعربية متكسرة ومُحَبَــبَة)، وهو اللقب الذي قلتَ لي إنه يُطلق على الأميرات العربيات المـُترفات، اللواتي اعتدن النوم المتأخر حتى الضحى"، كما يقول شاعركم الكبير "أمرو الكيس"، تقصد أمرؤ القيس، والله أعلم.

وما كادت تُنهي عبارتها تلك، حتى سمعنا دويا هائلاً  يشبه الرعد البعيد. هبتْ زوجتي من مقعدها مذعورة ، وصرختْ قائلة: "يا إلهي، ماذا أرى!  ها هو برج المركز التجاري العالمي يشتعل  فعلا ً كما يُعجبك أن تراه ". التـفتُّ إلى الجهة  التي أخذت تشير إليها زوجتي، بيدها المرتعدة. رأيت أحد الأبراج يشتعل فعلاً والدخان الأسود الكثيف يتصاعد. وفي هذه اللحظة كانت زوجتي قد انطلقت إلى الداخل وفتحت جهاز التلفزيون.

المذيع يعلن بتوتر عن خبر عاجل:اصطدام طائرة بأحد برجي مركز التجارة العالمي "وسنوافيكم  بالتفصيلات فور ورودها ".  أقفزُ عائدا إلى الحديقة لأراقب البرج المشتعل، وسحابة الدخان الأسود ترتفع وتحجب الطوابق العليا. ثم أعود أدراجي إلى الداخل لأستمع إلى المذيع  يقول :"يبدو إنها طائرة ركاب  كبيرة أصابت الطوابق العليا من البرج الشمالي ".  ( علمنا فيما بعد أنها كانت  طائرة أميركان أيرلاين، الرحلة 11، من مطار بوسطن إلى لوس أنجلس، وكانت محملة بـ 24000 غالون من الوقود السريع الاشتعال، حدث ذلك في تمام الساعة الثامنة و46 دقيقة من صباح ذلك اليوم المشهود والمشؤوم ).

  تعود زوجتي لاهثة ومضطربة، ودموعها  تتساقط بغزارة، وتسلمني منظاري المقرِّب بيد مرتجفة.

 أصبح المشهدُ واضحاً، إذ رأيت الطوابق العليا من مبنى البرج الشمالي تحترق. قـدَّرت أن عدد الضحايا الأبرياء سيكون كبيراً، بمن فيهم ركاب الطائرة وعشرات الموظفين، بكل أسف وحزن.(قــُدِّر عدد ضحايا الصدمة الأولى فيما بعد بـ 1344).

 قلت لزوجتي، بعد أن تركتُ لها  الـمنظار: "إنه حادث غريب، أن تصطدم طائرة ركاب كبيرة في البرج بطريق الخطإ أو الصدفة ، فهناك مسار محدد للطائرات عادة، لاسيما طائرات الركاب، إذ يُحظر عليها الطيران فوق مدينة نيويورك".

 تختفي زوجتي مرة أخرى وتعود مع جهاز راديو محمول. راح المذيع يعلن الخبر نفسه، ويقول بصوت متهدج، إن مندوبهم في طريقه إلى مكان الحادث لينقل الأخبار على الهواء فور وقوعها.  

اصطدام الطائرة الثانية    

 أراقب المشهد  بالمنظار، فألاحظ طائرة كبيرة أخرى تقترب من البرجين. قلت لزوجتي"ربما تكون طائرة استطلاع أو إطفاء أو إنقاذ، ولكنني هتفت فجأة وبانفعال:"يا إلهي!! إن هذا مستحيل، لأن الطائرة العمودية هي المعنية بهذه العمليات عادة، تـُرى أين تقصد هذه الطائرة الأخرى؟". وبينما كنت أمر بهذه الأفكار اللحظية، وما أن انتهيت من هذا السؤال، حتى أجابتني الطائرة فوراً، حين اصطدمت بالبرج الجنوبي السليم.( طائرة يونايتيد إيرلاين، الرحلة 175 من بوسطن  إلى سان فرانسيسكو، محمَّلة بالكمية نفسها من الوقود تقريبا. الساعة التاسعة وثلاث دقائق).  

كـُرة ٌ نار هائلة  تـتـفجر من الثلث الأعلى لهذا الصرح العظيم. نظرتُ إلى ساعتي فكانت تتجاوز التاسعة قليلا. أي بعد ربع ساعة من إصابة البرج الأول تقريبا. زوجتي تهتف وهي تجهش بالبكاء: "يا ربي، هذا فظيع، ثمة شيءٌ  مخيفٌ  يحدثُ!!".   

ذهني مشوشٌ، لحظيّ الحركة العاصفة، يستنتج ربما بعد لحظات، فيقفز فورا إلى الحقيقة الـمُرّة المُفجِعة: أهتف قائلا لزوجتي:"هجوم انتحاري مُبـَيـَّتٌ ودقيق ومُفجِع. تـُرى ماذا يمكن أن نتوقع أكثر من ذلك ربما في أماكن أخرى، تُرى هل  هي بداية هجوم كاسح؟  

  تمثّـَلتُ في هذه اللحظة فقط، مئات الناس الأبرياء، الذين قضوا في هذه المحرقة الكبيرة، والآخرين الذين ينتظرون حتفهم بأمل قليل أو بمحاولات يائسة للنجاة، وهم محاصرون بالنيران المشتعلة، في الطوابق العليا وربما السفلى، وشعرت أن ساقيّ يعجزان عن حملي فتهاويت على المقعد المجاور.

كان الوقت يمر بسرعة والأخبار تتوالى: "إن أمريكا تتعرض لهجوم كاسح"، لاسيما  بعد أن أعلن المذيع عن اصطدام طائرة ثالثة في مبنى وزارة الدفاع الأمريكية ( البنتاغون)، التي تقع في شمال فيرجينيا، وذلك  في الساعة التاسعة و45 دقيقة.(أميركان أيرلاين، الرحلة 77، من مطار دالاس الدولي القريب من مكان الحادث).  

 زوجتي تنتحب مستندة برأسها إلى كـَتفي، أحاول أن أواسيها بلطف، ونحن مازلنا نراقب ونستمع إلى مندوب محطة الإذاعة الذي وصل إلى مكان قريب من المبنى، وهو يقول: إنه يشاهد  بعض المحتجزين في الطوابق العليا يُلَوِّح بقطع قماش طلباً للنجدة، ولا يُظن أن باستطاعة أحد مساعدته، بكل أسف وحزن. لأن عشرات من رجال الإطفاء قد احتجزوا مابين الطوابق ولم يُـعرف مصيرهم. ثم صرخ قائلا: "يا إلهي!! إنني أشاهد عدداً منهم يُلقون بنفسه إلى حتفه من الطوابق العليا، ربما مفضلين ذلك على الموت حرقا"(قُدِّر عددهم فيما بعد بمئتين).

وبينما كنت أرقَب بذهول، زاخر بالغضب والألم، هذه المذبحة الفظيعة، وأضرب أخماساً بأسداس، عن هوية الفاعلين، وأستبعد "القاعدة"، لأنني لم أكن أتصور أنها قادرة على تنظيم مثل هذا الهجوم الدقيق والكاسح ، قفزت إلى  ذهني المشوش والمتحفز، النتائج والتداعيات، بما فيها الحروب وضحاياها ومآسيها المدمرة. وكنت قد فرغت للتوِّ من مطالعة كتاب مهم : "الفوضى"لبرجنسكي، الذي يُـقِدرُ فيه عدد ضحايا حروب القرن العشرين بمئة وسبعين مليون إنسان. ثم تذكرتُ نظرية المفكر الأنكليزي "مالتوس"حول أهمية (أو ضرورة) الكوارث البشرية والطبيعية للتخفيف من عدد السكان على الأرض. كما طرق أبو العتاهية بعنف باب ذاكرتي المُتخمة بالأحدث، قائلاً:    

لدوا للموت  وابنوا  للخرابِ       فَكُلُّكُمُ يصير  إلـــى    تباب ِ

لمن نبني ونحن إلى   تُرابٍ          نصيرُ،كما خُلِقْنا، من تُرابِ

 

   فخاطبت نفسي متسائلا: هل هذا عزاء أم رثاء!!؟؟

أقول بينما كنت أتمزق غارقاً  بكل ذلك، خلال لحظات، تضاعف ذهولي وحزني عندما شاهدت البرج الجنوبي وهو  ينهار. نظرت إلى الساعة: العاشرة وخمس دقائق. تصورت  كتل الحديد  والخرسانة المسلحة المتهشمة وهي تنهال من ذلك العلو الشاهق (أكثر من  1200 قدم على الأقل) تحمل معها آلاف الأشلاء المهشمة والأجساد المتفحمة، لبشر يحملون آلاف الآمال العظيمة، والعلاقات الحميمة، مع مئات من الناس المحيطين بهم (الأسرة والأولاد والأصدقاء). بل يشتركون مع جميع البشر الآخرين في العالم، أينما كانوا، بأثمن وأوثق رابطة: "الإنسانيَّة"، التي تتجاوز وتسمو على جميع الاختلافات والروابط الأخرى، مهما كانت. أقول جميع تلك الطموحات والعلاقات والآمال، تحطمتْ بلحظة، نتيجة هذا العمل الإجرامي الفظيع.  

أستمع إلى المذيع يسعل بشدة ويصرخ قائلا: "يا إلهي!! أكاد أختنق من الدخان والغبار، بل نحن نتعرض لشظايا الانفجار مع أننا بعيدون عن البرجين. الناس يهربون بفزع وانهيار. العويل والبكاء والصراخ  يتعالى في كل مكان، من النساء والرجال والأطفال على السواء، يتراكضون بجنون، كأنه يوم الحشر، وهم يتوجهون نحونا يكللهم رداء  من السُخام الأسود،  وكأنهم كتل من مخلوقات خرافية ، وبعضهم  يتساقط  على  بلاط الشارع  المزدحم بالسيارت المتصادمة أوالمتروكة ، فلا يحفل  به أحد. وأنا سأهرب مع فريقي  إلى مكان آمن ".

وبعد 23 دقيقة من تداعي البرج الجنوبي الأول، شعرتُ بالغثيان، وأنا أراقب تداعي وانهيار شقيقه التوأم، البرج الشمالي( في العاشرة و28 دقيقة )، وهو البرج الذي وقع فيه الاصطدام الأول(في الساعة الثامنة و 46دقيقة)، والذي يضم، مع شقيقه الذي تهاوى قبله، عدداً كبيراً من مقار أهم الشركات الكبرى في العالم، التي تتجاوز ميزانية كل منها ميزانية العديد من الدول. وانهدّتْ معه صارية أحد أهم مراكز الاتصالات السلكية واللاسلكية العالمية، بالإضافة إلى واحدٍ من أشهر مطاعم العالم، الذي كان يقع في  قمته.

      وفي هذه اللحظات المأساوية بالذات، قفز إلى ذاكرتي ذلك "العشاء الأخير"؛ حين دعانا أحد الأصدقاء، من رجال الأعمال الأثرياء، بمناسبة عيد ميلاد زوجته المُدللة. دعانا زوجتي وأنا، مع ثلّة مختارة من الأصدقاء، إلى ذلك المطعم الفخم، المسمى بحق،"نافذة على العالم"، الذي يقع  فوق الطابق المائة من ذلك الصرح، والذي يتهاوى أمامي في هذه اللحظة. تذكّرت كيف كنت أتصور أننا كنـَّا في أحد أجمل وأأمن مكان في العالم، حيث قضينا واحدة من أروع الليالي الحالمة والباذخة، الحافلة بلقاء الجمال والحب غير المقيد إلا بالمشاعر...التي ذكرتني، أثناء ازدحام القاعة بالراقصين والراقصات، بأبيات نِزار: 

للمآزر
حينما تنشالُ بحّة
إن للمِخمَل صيْحَة ..

في الخواصرْ
النساء بحر طيب وجواهر
غرق البهو حرائر  وثراء
..

 

ولئن لاحظتُ أن زوجتي ما تزال تذرف الدموع، رأيتُ أن أواسيها فأذكِّرها بتلك الليلة السعيدة، ولكنني أخطأت المقصد، إذ تضاعف نَحـيـبُها وأجهشتْ بالبكاء. فقررتُ أن أجربَ آخر أسلحتي:

 ترجمتُ لها، بلغة عاطفيَّة متأنية، تحاول بمشقّة أن تحافظ على فهم المفهوم، وبلاغة النصّ، ورِقَّـــة الوصف ودِقّـته،  قول الشاعر:  

فأمطرتْ لؤلؤاً من نرجسٍ وسقتْ ورداً      وعَضَتْ على العِنّاب بالبَردِ

 ويا للمفارقة الهائلة؛ إذْتَفَتَحَتْ، من بين الدموع الغزيرة، أساريرُها عن ابتسامة خفيفة وخجولة...!!!! قائلة بصوت خافت تخنقه العبرات"حقاً لديكم شعراء عظماء ...".

 *          *         *

 

ولئن بلغ عدد ضحايا هذه الكارثة 2997، فإن أعداد ضحايا الحروب التي شنتها أمريكا بعد الكارثة، على أفغانستان ثم على العراق تقدر بالملايين، أغلبهم من المدنيين الأبرياء، بمن فيهم  القتلى والجرحى والمشردون. وقد  أشارت دراسة مسحية اجرتها مجلة "لانسيت"الطبية البريطانية المرموقة إلى أن 655000 عراقي قتلوا منذ بداية الغزو الأمريكي في 19 اذار مارس 2003 وحتى 11 تشرين ثاني أكتوبر 2006. أما عدد القتلى من الجنود الأمركيين فقد تجاوز 6000 قتيل حسب الإحصاءات الرسمية. والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو: هل أدت جميع هذه التضحيات الهائلة إلى قطع دابر الإرهاب وجذوره؟ ألم تظهر مؤخراً حركة "داعش"التي تتفوق على إرهابية "القاعدة"؟ علماً أن قوات الدولة الإسلامية هذه، قد استولت على ربع العراق واستقرت فيها!!!      

الحرب العالمية الأولي (2)

$
0
0

و لم تكن مصر بعيدة عن كل ذلك وما حركة الإصلاح التي قادها محمد على ومن بعده الخديو إسماعيل إلا تنفيذ لهذه الفكرة القومية على الطريقة المصرية، بل أن إبراهيم باشا إبن محمد على كان يباهي مجالسيه بأنه جاء إلى مصر صغيرا ولكن قد "مصّرته شمسها"أي جعلت منه مصريا، وهو قول ينطوي لو أنه صادق على بعث للشعور القومي المصري ولو أنه مخادع لمجالسيه فهو لابد وأن كان له تاثير يبث فيهم الشعور القومي الذي كان مدفونا منذ قرون طويلة.

وأغلب الظن أن محمد علي بعد تجربة هزيمته فى اليونان قد راجع نفسه ورأي أن الفكرة القومية يمكن لها أن تنجح وتنشئ مملكة فقام بعد الهزيمة هو نفسه بإنشاء أسطول جديد وأسرع الخطي فى تقوية جيشه لكي يخرج بعد ذلك عن سلطة السلطان ويشق عصا طاعته ويهدده فى عقر داره فى إستنبول.. وهذه قصة أخرى ليس هنا محلها..

وقد وقع في عام 1885 أن دعا المستشار الحديدي أوتو فون بسمارك إلى مؤتمر دولي عقد فى برلين لمناقشة موضوع الكونجو الذى كان حتي ذلك الحين مطمعا خاصا للملك ليوبولد ملك بلجيكا يريد أن يستنزف ثرواته كما يحلو له ويستولي على عوائدها ملكا خالصا خاصا له وحده.

وفى هذا السبيل لجأ الملك ليوبولد إلى الإستعانة بكل من وجده مستعدا لارتكاب الفظائع فى سبيل الربح أو فى سبيل المال فجمع شذاذ الآفاق من كل أوروبا لكي يشرفوا على مناجم الماس والنحاس من الكونجو وكانت التعليمات واضحة فى شأن الإستنزاف الكامل للموارد.. ولجأ هؤلاء المجرمون إلى تشغيل المواطنين المحليين السود بطريقة أسوأ من تشغيل الحيوانات حيث كانت تقطع أياديهم وأرجلهم ويقتلون لأبسط مخالفة ترتكب فى حق النظام الذي بلغت صرامته حدا لا يتفق مع الإنسانية.

ويقدر المؤرخون أن ضحايا هذه العملية الإستغلالية للكونجو بلغت ما لا يقل عن 10 مليون مواطن أفريقي أسود فقدوا حياتهم على أيدي هذا النظام المبني على المرتزقة والمجرمين من كافة أركان أوروبا.

ومن خلال هذا المؤتمر أصبح السعي إلى الحصول على مستعمرات فى أفريقيا أمرا شرعيا لا غبار عليه حيث أن الدول الأوروبية كانت ترى في القارة السوداء منهبا إقتصاديا يمكن الإعتماد عليه وخصوصا أن الأحوال الإقتصادية فى أوروبا كانت تعاني من الكساد.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فهنا ينبغي أن يحني المرء رأسه أمام شجاعة إحدي السيدات وليس أحد الرجال.

إنها الصحفية المصورة  البريطانية أليس سيلي هاريس. Alice Seeley  Harris .

صحيح أنها لم تكن قد دخلت ساحة العمل بعد عندما إنعقد مؤتمر الكونجو، لكن جهدها وحدها ونشرها لصور فظائع حكم ليوبولد لمستعمرته هو أثار الرأي العام فى أوروبا وهو ما أدي إلى وقف هذه المجازر العنصرية فى حق السود حيث أجبر الملك ليوبولد على التخلي عن مستعمرته الخاصة وسلمها للدولة البلجيكية التي أدارتها بطريقة أقل إجراما من الطريقة السابقة وكان ذلك فى عام 1904. وهذه قصة من قصص ما هو أسوأ من الهولوكوست ولكنها لا تروي ولا يعرف كثيرون عنها شيئا حيث كان الأطفال يقتلون وتقطع أياديهم وارجلهم ويشوهون لإجبارهم على العمل سواء فى مناجم النحاس أو مزارع المطاط.

 

نعود الآن إلى مؤتمر عام 1885..

الإسلام والأحزاب

$
0
0


تأليف : محمد السويسي 

جاء الاسلام لينهي العصبية الفئوية والفردية والعائلية التي كانت سبباً في تخلف العرب وتقهقرهم وتسلط الفرس والروم عليهم  وتشرذمهم . 

فلا فئوية أو عائلية أو عشائرية في الإسلام ، بل عصبية قومية تصهر جميع العرب  تشد أزرهم وتحفظهم في قوم متماسكين وفقاً للنص القرآني الذي لالبس فيه بقوله تعالى :

"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف .. "
وهذا الخيار ليس عبثياً بل لشمائل اختصت بالعرب في حسن تعاملهم مع الآخرين وفيما بينهم على أسس اخلاقية بما فيها من عزة وإباء وشرف افتقدتها الشعوب الأخرى ، خاصة أثناء الحروب ؛ فكانت التوصية باحترام الشيوخ والأطفال والنساء واصحاب الديانات الأخرى واحترام مراكز عباداتهم ورموزهم الدينية وعدم التعدي عليها او استحلالها  ، أمراً دينياً إسلامياً ملزماً،  الذي نراه بإيجاز في التعهد  الذي أعطاه الخليفة عمر بن الخطاب  للمسيحيين عند  فتح بيت المقدس ، بما يعبر عن اخلاقيات المسلمين  ونهجهم في الفتوحات والتعامل مع أعدائهم ، التي لمسها الغرب مجدداً في العصر الوسيط خلال الفتوحات الأيوبية لبيت المقدس زمن الإحتلال الصليبي ، ونصه كالآتي :

"بسم الله الرحمن الرحيم.

هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء  من الأمان.

أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم. سقيمها وبريئها وسائر ملتها. أنَّه لا تُسكَن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم. ولا يُكرَهون على دينهم. ولا يضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم، فهو آمن على نفسه وماله، حتى يبلغوا مأمنهم. ومن أقام منهم آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وعلى صلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان فيها من أهل الأرض، فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن شاء سار مع الروم. ومن رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصدوا حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. كتب وحضر سنة خمسة عشر. شهد على ذلك خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ".

الا أن اليهود الذي ساءهم هذا الفكر الإسلامي المتسامح ونهجه مع هيمنتهم المالية على الأعمال التجارية لشركة الهند الشرقية البريطانية عمدوا مع بدء القرن الثامن عشر إلى اعادة احياء الحزبية الفئوية والفردية والعائلية  الطبقية بين العرب بعيداً عن  القومية التي اجازوها للأوربيين لتوحيدهم وزيادة منعتهم بصهرهم ، وحاربوها بالنسبة للعرب من خلال أحزاب ومفكرين موالين للغرب في العالمين العربي والإسلامي  خوفاً من  عودة النهوض العربي إن التمس المبادىء التي قامت عليها إمبراطوريته الحضارية في وقت سابق عندما كان الغرب يرسخ في ظلام الجهل لتخلفهم الثقافي والعلمي    .
كما عمدوا الى مساندة بعض العائلات المحلية في كل بلد عربي وإسلامي من خلال تجارة احتكارية في التوكلات التجارية لتكون سنداً لهم  في استغلال موارد البلاد بأبخس الأثمان ، فشجعوا  على تكوين مذاهب وأديان جديدة أو إعادة إحيائها ، لشرذمة المجتمع الهندي والباكستاني المسلم ، ومنها الديانة القاديانية ، نسبة الى مؤسسها غلام أحمد القادياني ،التي شجعت على إنشائها نهاية القرن التاسع عشر ، ومن ثم عمدت  إلى إنشاء الحزب الشيوعي في روسيا تحت شعارات براقة جذبت العمال والفلاحين وقطاع كبير من المثقفين لتأييد مخططاتها ، دون دراية منهم ، بما يؤدي إلى تقويض الصناعات الروسية المحتكرة من العائلة الإمبراطورية لإجبار النظام الجديد على الإستيراد من بضائعها الغربية والتعامل معها .

كما شجعت على إرسال  الدعاة الآسيويين ، من الهند وباكستان للإقامة في الدول العربية والدعوة للإسلام خارج المفهوم القومي  العربي الذي اسسه عمر بن الخطاب والخلفاء الراشدين والأموييين ، الذي كان قد ضعف زمن الخلافة العباسية مع غلبة الفكر الشعوبي لاعتمادها على الفرس الأعاجم وأمثالهم في ثورتها لانتزاع السلطة من الأمويين العرب . ليتم نقض توصية عمر بن الخطاب العروبية ،عن سابق تصور وتصميم ، فيوضع الحديث المغلوط عمداً من رجال دين أعاجم  لإضعاف وحدة العرب القومية وبث الفتن بينهم  في التلاعب بالتفسير القرآني والنصوص الفقهية التضليلية من أعاجم لايفقهون اللغة العربية وبالتالي لايعقلون معاني القرأن الكريم   معتمدين على حديث موضوع عن الرسول الكريم لاسند له أو صحة  إلا في كتبهم ،  وفحواه انه " لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود ، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ، الناس من آدم ، وآدم من تراب " .

ولو أخذنا جدلاً بصحة هذا الحديث  الذي لايمكن إثبات صحته مع تقادم الزمن ،  لأن الإسناد المعتمد ليس سوى خداع أعجمي  شعوبي  ، بدليل أن آلآف الأحاديث المشكوك بها موضوعة أيضاً بإسناد التواتر أيضاً وليس اسهل من ذلك ، مع إنه لايصح أي إسناد أو تواتر إلا بالتوافق مع النص القرآني  .  وعليه فإن هذا الحديث لايعني القبول بتولية الأعاجم السلطة على العرب ، بل إن معناه يتعلق بعدالة الله يوم الحساب بأنه لافضل ولاتمييز لعربي على اعجمي او لأعجمي على عربي إلا بتقوى الله في أعماله وممارساته الدنيوية في العبادة والتعامل مع الآخرين. بينما فضل الله العرب على الأعاجم في الدين والسلطة وفقاً للآية التي أوردناها كما تفضيله للأنبياء وفق قوله تعالى :

"ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض "..وفي موقع آخر ""تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض " ..كما والتفضيل بالنسبة  لعامة المسلمين من الصحابة : في قوله تعالى : "والسابقون السابقون أولئك المقربون ".. كما فضل البعض في الرزق وفق قوله تعالى :"وَاللَّهُ فضل بعضكم على بعض في  الرِّزْقِ ".

والقصد من هذا الإيراد هو أن التفضيل حاصل من  الله لعلم عنده  بين البشر كما بين الأنبياء ،  إلا أن الأعاجم ينكرونه لما لهم مصلحة في ذلك للهيمنة على الدول العربية .

ولو تمعنوا قليلاً في خلق الله لوجدوا ان التفضيل حاصل في المشاهدة للبشر في الدمامة والجمال والذكاء والبلادة والصحة والنشاط والضعف ألخ ..لذا فإن أنكار البعض له ليس في محله بل أنه تضليل ومعصية لقول الله واستهانة به .

 

ويؤكد ذلك قوله تعالى : "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله   ".

 

وهذه الآية كافية لتأكيد توجه عمر بن الخطاب ومن بعده عثمان وعلي وخلفاء الدولة الأموية ، لمن اطلع على سيرته ونهجه ، بأن تكون الولاية والحكم بيد العرب ، وكذلك الإدارة والجيش والشرطة من أجل دعم سلامة الدعوة الإسلامية وتنزيهها من الخزعبلات الوثنية من غير العرب ، وهذا يفسر القصد من قوله تعالى : "كنتم خير أمة ...وتؤمنون بالله "اي تؤمنون به إيماناً منزها بوحدانيته دون شراكة وثنية في التوسل إليه بواسطة البشر او الحجر كما تفعل بعض الشعوب الأخرى والشعوبيين المتأثرين بالأعاجم والموالين لهم رغم دخولهم  في الإسلام إلا أن الإيمان لم يعمر قلوبهم ، إذ لازالت تتوسل بالقبور وبالأموات وتقدسها  في التقرب إلى  الله ، رغم تعارضها الشديد مع النص ، لغلبة وثنيتهم على إيمانهم لعدم قدرتهم على فهم معاني القران وإن تعلموا العربية ،  لأعجميتهم  التي تعصى على الفهم والإدراك للفقه الإسلامي واللغة العربية .


ولم يكتف اليهود بذلك بل أنشأوا  الحزب النازي ليعمل تدميراً في اوروبا بأكملها بما فيها روسيا ، للإستيلاء على أموال المساهمين في الشركات والمؤسسات المالية ، وكذلك الاموال المدخرة في البنوك لينقلوها الى امريكا حيث قاعدتهم الإستثمارية الأقوى ، ليعلنوا إفلاس هذه المؤسسات الأوروبية بفعل الحرب العالمية الثانية ، ومن ثم ليعيدوا  بنائها بربح وفير بمواد ومنتوجات من مصانعهم ومؤسساتهم الامريكية الجديدة .
وفي هذا الضياع ، ومن خلال الإحتلال البريطاني للعالم العربي هيأت الصهيونية للإستيلاء على فلسطين بالتشجيع على إنشاء الأحزاب في العالم العربي بما يخالف مبادىء الاسلام بوعد من البريطانيين بايلاء هذه الأحزاب  السلطة في بلدانها مع مساعدات مالية بغطاء إجتماعي وتعليمي يذهب معظمه لجيوبهم  ، بهدف تفتيت مجتمعه وإيمانه على اسس فئوية وحزبية وعائلية ، الى أن ضاعت فلسطين وضاعت الأمة العربية والمسلمين وقد ترسخت في صدورهم مازرعه اليهود في عقولهم منذ صغرهم من عداء للعروبة ، لغة القرآن والمسلمين  .

ومع كثرة الاحزاب وكثرة المؤامرات أضحى الإنفاق المالي كبيراً عليها ومعقداً فلجأ اليهود من خلال بريطانيا وأمريكا الى انشاء نظام مذهبي شعوبي في ايران  ، على عتبة ثمانينات القرن الماضي ، كبديل عن النظام الإمبراطوري الشاهنشاهي بشعارات حماسية كاذبة كما شعارات كل حزب أنشاته في العالم ، من أجل استخدامها في تمويل كل الأحزاب في العالم العربي المرتبطة بالسياسات الغربية لتسهيل وضع يد اليهود على كامل ارض فلسطين باستثناء غزة والإستيلاء على القدس.

ونجح الأمر وسادت الأحزاب لتعيث فساداً في الأمة العربية لقاء مايتلقى اصحابها من مال في هذا السبيل من إيران  مع ضعف الوازع  الديني والعروبي والقومي وتفشي الجهل ، الى حد ان هذه الاحزاب المستحدثة ، بما يتعارض ومبادىء الإسلام ، اعتبرت اي تجمع للعرب يعيد قوميتها  وفقاً لجذورها الإسلامية الأولى كفراً صريحاً ،  وفي ذلك نصر للمخططات اليهودية واهدافها .

لذا فإن كل حزب او تنظيم او جمعية او أشخاص يتلقى أموالاً من إيران أو بريطانيا او المخابرات الأمريكية تحت اي يافطة او عنوان ، فإنه بعلمه أو بدون علمه ليس سوى خائن وعميل وعدو لله وللعرب والاسلام لأنه أداة في المشروع الصهيوني لتفتيت الأمة العربية وضياع فلسطين عن جهل منه وعدم وعي .

 

Viewing all 560 articles
Browse latest View live